فهرس تفسير الطبري للسور

6 - تفسير الطبري سورة الأنعام

التالي السابق

تفسير سورة الأنعام

القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

رَبِّ يسِّرْ

 

القول في تأويل قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : « الحمد لله » ، الحمدُ الكامل لله وحده لا شريك له دون جميع الأندادِ والآلهة, ودون ما سواه مما تعبده كَفَرةُ خلْقه من الأوثان والأصنام .

وهذا كلام مخرجه مَخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر. يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خَلَقَكم، أيها الناس، وخلق السماوات والأرض, ولا تشركوا معه في ذلك أحدًا أو شيئًا, فإنه المستوجب عليكم الحمدَ بأياديه عندكم ونعمة عليكم, لا من تعبدونه من دونه، وتجعلونه له شريكًا من خَلْقه .

وقد بينا الفصل بين معنى « الحمد والشكر » بشواهده فيما مضى قبل .

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم الليلَ ، وأنارَ النَّهار، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وجعل الظلمات والنور » ، قال: الظلمات ظلمة الليل, والنور نورُ النهار .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أمّا قوله: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور » ، فإنه خلق السَّماوات قبل الأرض, والظلمةَ قبل النور, والجنّة قَبل النار .

فإن قال قائل: فما معنى قوله إذًا: « جعل » .

قيل: إن العرب تجعلها ظرفًا للخبرِ والفِعْل فتقول: « جعلت أفعل كذا » , و « جعلت أقوم وأقعد » , تدل بقولها « جعلت » على اتصال الفعل, كما تقول « علقت أفعل كذا » لا أنها في نفسها فِعْلٌ. يدلُّ على ذلك قول القائل: « جعلت أقوم » , وأنه لا جَعْلَ هناك سوى القيام, وإنما دَلَّ بقوله: « جعلت » على اتّصال الفعل ودوامه،

ومن ذلك قول الشاعر:

وَزَعَمْـتَ أنَّـكَ سَـوْفَ تَسْـلُكُ فَارِدًا وَالمَــوْتُ مُكْــتَنِعٌ طَـرِيقَيْ قَـادِرِ

فَــاجْعَلْ تَحَـلَّلْ مِـنْ يَمِينِـكَ إنَّمَـا حِـنْثٌ اليَمِيـنِ عَـلَى الأثِيـمِ الفَـاجِرِ

يقول: « فاجعل تحلّل » ، بمعنى: تحلل شيئًا بعد شيء لا أن هناك جَعْلا من غير التحليل . فكذلك كل « جَعْلٍ » في الكلام، إنما هو دليل على فعلٍ له اتصال, لا أن له حظًّا في معنى الفعْل.

فقوله: « وجعل الظلمات والنور » ، إنما هو: أظلم ليلَهما، وأنارَ نَهارَهُما.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 1 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معجِّبًا خلقَه المؤمنين من كفَرة عباده، ومحتجًّا على الكافرين: إنّ الإله الذي يجبُ عليكم، أيها الناس، حمدُه، هو الذي خلَق السماوات والأرض, الذي جعل منهما معايشَكم وأقواتكم، وأقواتَ أنعامكم التي بها حياتكم. فمن السماوات ينـزل عليكم الغيثُ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتِقابٍ واختلاف لمصالحكم. ومن الأرض ينبُتُ الحب الذي به غذاؤكم، والثمارُ التي فيها ملاذُّكم, مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم، أيها الناس « بربهم » ، الذي فعل ذلك وأحدثه « يعدلون » ، يجعلون له شريكًا في عبادتهم إياه, فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثانَ, وليس منها شيء شرِكه في خلق شيءٍ من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم, بل هو المنفرد بذلك كله, وهم يشركون في عبادتهم إيّاه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة، وأوجزها من عظة, لمن فكَّر فيها بعقل، وتدبرها بفهم !

ولقد قيل: إنها فاتحة التوراة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة « الأنعام » : « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجَعَل الظلمات والنور ثم الذين كَفَروا بربِّهم يعدلون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن جعفر بن سليمان, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب, مثله وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة « هود » .

يقالُ من مساواة الشيء بالشيء: « عدلتُ هذا بهذا » , إذا ساويته به، « عَدْلا » . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه, فإنك تقول: « عَدَلت فيه أعدلُ عَدْلا » .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « يعدلون » ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن محمد عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يعدلون » ، قال: يشركون .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بذلك:

فقال بعضهم: عُني به أهل الكتاب .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن ابن أبزى قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربِّهم يعدِلون » ، قال له: أليس الذين كفروا بربِّهم يعدلون؟ قال: بلى ! قال: وانصرف عنه الرجل, فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى, إن هذا قد أراد تفسيرَ هذه غير هذا! إنه رجلٌ من الخوارج ! فقال: ردّوه عليّ . فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نـزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نـزلت في أهل الكتاب, اذهبْ، ولا تضعها على غير حدِّها .

وقال آخرون: بل عُنى بها المشركون من عبدةِ الأوثان .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: [ هؤلاء: أهل صراحيه ] .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: هم المشركون .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: الآلهة التي عبَدوها، عدلوها بالله . قال: وليس لله عِدْلٌ ولا نِدٌ, وليس معه آلهة, ولا اتخذ صاحبةً ولا ولدًا .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّ الذين كفروا بربهم يعدلون, فعمّ بذلك جميع الكفّار, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم, ونصاراهم, ومجوسهم, وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .

 

القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « هو الذي خلقكم من طين » ، أن الله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم ليلهما وأنَار نهارهما, ثم كفر به مع إنعامه عليهم الكافرون, وعدلوا به من لا ينفعهم ولا يضرُّهم . هو الذي خلقكم، أيها الناس، من طين. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره: أنَّ الناس وَلدُ مَنْ خلقه من طين, فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم, إذ كانوا وَلَده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « هو الذي خلقكم من طين » ، بدءُ الخلق، خلقَ الله آدم من طين .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « هو الذي خلقكم من طين » ، قال: هو آدم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « خلقكم من طين » ، فآدم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم قال: خلق آدم من طين, وخلق الناس من سُلالةٍ من ماءٍ مَهين .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « خلقكم من طين » ، قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم حين أخذَنا من ظهره .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى قوله: « ثم قضى أجلا » ، ثم قضى لكم، أيها الناس، « أجلا » . وذلك ما بين أن يُخْلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » ، وذلك ما بين أن يموت إلى أن يبعث .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع وهناد بن السري قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن في قوله: « قضى أجلا » ، قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » ، قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عِنده » ، كان يقول: أجل حياتك إلى أن تموت، وأجل موتك إلى أن تُبْعث. فأنت بين أجَلين من الله تعالى ذكره .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم: « قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: قضى أجل الموت, وكل نفسٍ أجلها الموت . قال: ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها « وأجل مسمى عنده » ، يعني: أجل الساعة، ذهاب الدنيا، والإفضاءُ إلى الله .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم قضى الدنيا، وعنده الآخرة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: « أجلا » ، قال: الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، الآخرة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم, عن زكريا بن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قضى أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمى » ، الدنيا .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمًّى » ، قال: الدنيا .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمى » ، قال: الدنيا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والحسن: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قالا قضى أجل الدنيا، من حين خلقك إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: قَضَى أجل الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، قال: هو أجل البعث .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « ثم قضى أجلا » ، قال: الموت « وأجل مسمى عنده » ، الآخرة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة والحسن في قوله: « قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قالا قضى أجل الدنيا، منذ يوم خلقت إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة .

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: « قضى أجلا » ، قال: أجل الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، قال: البعث .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عنده » ، يعني: أجل الموت « والأجل المسمى » ، أجلُ الساعة والوقوفِ عند الله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قضى أجلا » ، قال: أمّا « قضى أجلا » ، فأجل الموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: أمّا قوله: « قضى أجلا » ، فهو النومُ، تُقْبض فيه الروح، ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة « وأجل مسمى عنده » ، هو أجل موت الإنسان .

وقال آخرون بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب في قوله: « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون » ، قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم, أخذنا من ظهره, ثم أخذ الأجل والمِيثاق في أجلٍ واحد مسمًّى في هذه الحياة الدنيا .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم قضى أجلَ الحياة الدنيا « وأجلٌ مسمى عنده » ، وهو أجل البَعْث عنده .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأنه تعالى ذكره نبَّه خلقَه على موضع حُجَّته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس, إن الذي يعدِلُ به كفارُكم الآلهةَ والأندادَ ، هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين, فجعلكم صورًا أجساًما أحياءً، بعد إذ كنتم طينًا جمادًا, ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم, ليعيدكم ترابًا وطينًا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم وأجل مسمى عندَه لإعادتكم أحياءً وأجسامًا كالذي كنتم قبل مماتكم . وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، [ سورة البقرة: 28 ] .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ( 2 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تَشكُّون في قدرة من قَدَر على خلق السماوات والأرض, وإظلام الليل وإنارة النهار, وخلقكم من طين حتى صيَّركم بالهيئة التي أنتم بها على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم, وإيجاده إيّاكم بعد عدمكم .

و « المرية » في كلام العرب، هي الشك. وقد بيّنت ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته.

وقد:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « ثم أنتم تمترون » ، قال: الشك . قال: وقرأ قول الله: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [ سورة هود: 17 ] ، قال: في شكٍّ منه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم أنتم تمترون » ، بمثله .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( 3 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهةُ التي لا تنبغي لغيره، المستحقَّ عليكم إخلاصَ الحمد له بآلائه عندكم، أيها الناس، الذي يعدل به كفاركم مَن سواه, هو الله الذي هو في السماوات وفي الأرض يعلم سِرَّكم وجَهْركم، فلا يخفى عليه شيء. يقول: فربكم الذي يستحقُّ عليكم الحمدَ، ويجب عليكم إخلاصُ العبادة له, هو هذا الذي صفته لا من لا يقدر لكم على ضرّ ولا نفع، ولا يعمل شيئًا، ولا يدفع عن نفسه سُوءًا أريد بها .

وأما قوله: « ويعلم ما تكسبون » ، يقول: ويعلم ما تَعمَلون وتجرَحُون, فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 4 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدِلون أوثانَهم وآلهتهم « آية من آيات ربهم » ، يقول: حجّة وعلامة ودلالة من حُجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته، وحقيقة نبوتك، يا محمد، وصدق ما أتيتهم به من عندي « إلا كانوا عنها معرضين » ، يقول: إلا أعرضوا عنها, يعني عن الآية, فصدّوا عن قَبُولها والإقرار بما شهدت على حقيقته ودلّت على صحته, جهلا منهم بالله، واغترارًا بحلمه عنهم .

 

القول في تأويل قوله : فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 5 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلون بالله، الحقَّ لما جاءهم, وذلك « الحق » ، هو محمد صلى الله عليه وسلم كذّبوا به, وجحدوا نبوَّته لما جاءهم. قال الله لهم متوعّدًا على تكذيبهم إياه وجحودِهم نبوَّته: سوف يأتي المكذّبين بك، يا محمد، من قومِك وغيرهم « أنْباء ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: سوف يأتيهم أخبارُ استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من آياتي وأدلَّتي التي آتيتهم . ثم وفى لهم بوعيده لمّا تمادَوا في غيِّهم، وعَتْوا على ربهم, فقتلتهم يوم بدرٍ بالسَّيف .

 

القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( 6 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك, كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون وهم الأمم الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم, وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم؟ كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » ، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم .

قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الأشجارُ ثمارها, وأعطتهم الأرض رَيْع نَباتها, وجابوا صخورَ جبالها, ودرَّت عليهم السماء بأمطارها, وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني, فغمَطُوا نعمة ربهم، وعصوا رسولَ خالقهم، وخالفوا أمرَ بارئهم, وبغَوْا حتى حقَّ عليهم قَوْلي, فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم، وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم, وأهلكت بعضهم بالرَّجفة، وبعضهم بالصيحة، وغير ذلك من أنواع العذاب .

ومعنى قوله: « وأرسلنا السماء عليهم مدرارًا » ، المطرَ. ويعني بقوله: « مدرارًا » ، غزيرة دائمةً « وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » ، يقول: وأحدثنا من بعد الذين أهلكناهم قرنًا آخرين، فابتدأنَا سِواهم .

فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » ؟ ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غَيَبٍ بقوله: « ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن » ؟

قيل: إن المخاطب بقوله: « ما لم نمكن لكم » ، هو المخبر عنهم بقوله: « ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن » ، ولكن في الخبر معنى القول ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم.

والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ ، وأدخلت فيه « قولا » ، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب, وأحيانًا إلى الخطاب, فتقول: « قلت لعبد الله: ما أكرمه » , و « قلت لعبد الله: ما أكرمك » , وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب. وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقد كان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطبه معهم. وقال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] ، فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب, لأنه المخاطَب .

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 )

قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثانَ والآلهة والأصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقهون الآيات, أم كيف يستدِلُّون على بُطْلان ما هم عليه مُقِيمون من الكفر بالله وجحودِ نبوتك، بحجج الله وآياته وأدلته, وهم لعنادهم الحقَّ وبعدِهم من الرشد, لو أنـزلت عليك، يا محمد، الوحيَ الذي أنـزلته عليك مع رسولي، في قِرْطاس يعاينونه ويمسُّونه بأيديهم، وينظرون إليه ويقرءونه منه، معلَّقًا بين السماء والأرض، بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما تأتيهم به من توحيدي وتنـزيلي, لقال الذين يعدلُون بي غيري فيشركون في توحيدِي سواي: « إنْ هذا إلا سحرٌ مبينٌ » ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرتَ به أعيننا, ليست له حقيقة ولا صحة « مبين » ، يقول: مبين لمن تدبّره وتأمَّله أنه سحر لا حقيقة له.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، قال: فمسوه ونظروا إليه، لم يصدِّقوا به .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، يقول: فعاينوه معاينة « لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحرٌ مبين » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، يقول: لو نـزلنا من السماء صُحُفًا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم, لزادهم ذلك تكذيبًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس » ، الصحف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « في قرطاس » ، يقول: في صحيفة « فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنْ هذا إلا سحرٌ مبين » .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ( 8 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المكذبون بآياتي، العادلون بي الأندادَ والآلهةَ، يا محمد، لك لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي, وإذا أتيتهم من الآيات والعبر بما أتيتهم به، واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعتَ به عذرَهم: هَلا نـزل عليك ملك من السماء في صورته، يصدّقكَ على ما جئتنا به, ويشهد لك بحقيقة ما تدَّعي من أنَّ الله أرسلك إلينا! كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن المشركين في قِيلهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [ سورة الفرقان: 7 ] ، « ولو أنـزلنا مَلَكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: ولو أنـزلنا ملكًا على ما سألوا، ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي, لجاءهم العذابُ عاجلا غيرَ آجل, ولم يُنْظروا فيؤخَّروا بالعقوبة مراجعةَ التوبة, كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الآيات، ثم كفرت بعد مجيئها، من تعجيل النقمة، وترك الإنظار، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: لجاءهم العذاب.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: ولو أنهم أنـزلنا إليهم ملكًا، ثم لم يؤمنوا، لم يُنْظَروا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « لولا أنـزل عليه ملك » في صورته « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر » ، لقامت الساعة.

حدثنا ابن وكيع, عن أبيه قال، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان الثوري, عن عكرمة: « لقضي الأمر » ، قال: لقامت الساعة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر » ، قال يقول: لو أنـزل الله ملكًا ثم لم يؤمنوا, لعجل لهم العذاب.

وقال آخرون في ذلك بما :-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، أخبرنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس قوله: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، قالا لو آتاهم ملك في صورته لماتوا, ثم لم يؤخَّرُوا طرفةَ عينٍ .

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلِين بي, القائلين: لولا أنـزل على محمّدٍ ملك بتصديقه- ملكًا ينـزل عليهم من السماء, يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه « لجعلناه رجلا » ، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر, لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته . يقول: وإذا كان ذلك كذلك, فسواء أنـزلت عليهم بذلك ملكًا أو بشرًا, إذ كنت إذا أنـزلت عليهم ملكًا إنما أنـزله بصورة إنسيّ, وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابتة: بأنك صادق، وأنّ ما جئتهم به حق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: ما آتاهم إلا في صورة رجل, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، في صورة رجل، في خَلْق رجل.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: لو بعثنا إليهم ملكًا لجعلناه في صورة آدم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: في صورة آدمي.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل, لم نرسله في صورة الملائكة .

 

القول في تأويل قوله : وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وللبسنا عليهم » : ولو أنـزلنا ملكًا من السماء مصدِّقًا لك، يا محمد, شاهدًا لك عند هؤلاء العادلين بي، الجاحدين آياتِك على حقيقة نبوّتك, فجعلناه في صورة رجل من بني آدم، إذ كانوا لا يُطيقون رؤية الملك بصورته التي خلقتُه بها التبس عليهم أمرُه، فلم يدروا أملك هو أمْ إنسيّ! فلم يوقنوا به أنَّه ملك، ولم يصدّقوا به, وقالوا: « ليس هذا ملكًا » ! وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقة أمرك، وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك.

يقال منه: « لَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه لَبْسًا » ، إذا خلطته عليهم « ولبست الثوبَ ألبَسُه لُبْسًا » . و « اللَّبوس » ، اسم الثياب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: لشبَّهنا عليهم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: ما لبَّس قوم على أنفسهم إلا لَبَّس الله عليهم. واللَّبْس إنما هو من الناس.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: شبَّهنا عليهم ما يشبِّهون على أنفسهم .

وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول آخر, وهو ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، فهم أهل الكتاب، فارقوا دينهم، وكذَّبوا رسلهم, وهو تحريفُ الكلام عن مواضعه .

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يعني: التحريفَ، هم أهل الكتاب, فرقوا كتبهم ودينَهم، وكذَّبوا رسلهم, فلبَّس الله عليهم ما لبَّسوا على أنفسهم .

وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الآيات من أوّل السورة، بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان، أشبهُ منها بأمرِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى, بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، مسليًّا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبةَ ما يلقى منهم من أذىَ الاستهزاء به، والاستخفاف في ذات الله: هَوِّنْ عليك، يا محمد، ما أنت لاقٍ من هؤلاء المستهزئين بك، المستخفِّين بحقك فيّ وفي طاعتي, وامضِ لما أمرتك به من الدُّعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم، وأصَرُّوا على المقام على كفرهم, نسلك بهم سبيلَ أسلافهم من سائر الأمم من غيرهم، من تعجيل النقمة لهم، وحلول المَثُلاثِ بهم. فقد استهزأت أمم من قبلك برسلٍ أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك, وفعلوا مثل ما فعل قومُك بك « فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون » ، يعني بقوله: « فحاق » ، فنـزل وأحاط بالذين هزئوا من رسلهم « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: العذابُ الذي كانوا يهزءون به، وينكرون أن يكون واقعًا بهم على ما أنذرتهم رسلهم .

يقال منه: « حاق بهم هذا الأمر يَحِيقُ بهم حَيْقًا وحُيُوقًا وحَيَقَانًا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فحاق بالذين سخروا منهم » ، من الرسل « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 11 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد لهؤلاء العادلين بيَ الأوثانَ والأندادَ، المكذِّبين بك، الجاحدين حقيقة ما جئتهم به من عندي « سيروا في الأرض » ، يقول: جولوا في بلاد المكذِّبين رسلَهم، الجاحدين آياتي مِنْ قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس « ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، يقول: ثم انظروا كيف أعقَبَهم تكذيبهم ذلك، الهلاكَ والعطبَ وخزيَ الدنيا وعارَها, وما حَلَّ بهم من سَخَط الله عليهم، من البوار وخراب الديار وعفوِّ الآثار. فاعتبروا به, إن لم تنهكم حُلُومكم, ولم تزجركم حُجج الله عليكم, عمَّا أنتم [ عليه ] مقيمون من التكذيب, فاحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحلّ بكم مثلُ الذي حلّ بهم.

وكان قتادة يقول في ذلك بما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، دمَّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيَّرهم إلى النار.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم « لمن ما في السماوات والأرض » ، يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبدَ كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضُرًّا.

وقوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى أنَّه بعباده رحيم, لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.

وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة.

يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي، الجاحدين نبوّتك، يا محمد, إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم, وإني قد قضيت في خَلْقي أنّ رحمتي وسعت كل شيء، كالذي:-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما فرغ الله من الخلق، كتب كتابًا: » إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي « . »

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض, خلق مئة رحمةٍ, كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً, وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك، قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن أبي عثمان, عن سلمان، نحوه إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه: « وبها تشرب الوحش والطير الماء » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات والأرض, ثم خلق مئة رحمة أو: جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق. ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون, وبها يتباذلون, وبها يتعاطفون, وبها يتزاورون, وبها تحنُّ الناقة, وبها تثُوجُ البقرة, وبها تيعر الشاة, وبها تتَّابع الطير, وبها تتَّابع الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، الآية قال: إنا نجد في التوراة عَطْفتين ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: « وبها تَتَابع الطير, وبها تَتَابع الحيتان في البحر » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: إن الله تعالى ذكره لما خلق الخلق, لم يعطف شيء على شيء, حتى خلق مئة رحمة, فوضع بينهم رحمة واحدة, فعطف بعضُ الخلق على بعض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، بمثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، وأخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجلّ من القضاء بين خلقه, أخرج كتابًا من تحت العرش فيه: « إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين » ، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال: « مِثلا أهل الجنة » , ولا أعلمه إلا قال: « مثلا » , وأما « مثل » فلا أشك مكتوبًا ها هنا, وأشار الحكم إلى نحره, « عتقاء الله » ، فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله, فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [ سورة المائدة: 37 ] ؟ قال: ويلك ! أولئك أهلها الذين هم أهلها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتابًا من تحت العرش ثم ذكر نحوه, غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله, أرأيت قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: » إنّ رحمتي سبقت غضبي « . »

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة, فأهبط رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجن والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودوابّ الأرض وهوامّها. وما بين الهواء. واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة, حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمةَ التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا, فحواها إلى ما عنده, فجعلها في قلوب أهل الجنة، وعلى أهل الجنة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمرو: إن لله مئة رحمة, أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة، يتراحم بها الجنّ والإنس، والطير والبهائم وهوامُّ الأرض.

حدثنا محمد بن عوف قال، أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج قال، حدثنا صفوان بن عمرو قال، حدثني أبو المخارق زهير بن سالم قال، قال عمر لكعب: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد, ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت « أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي » .

 

القول في تأويل قوله : لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ

قال أبو جعفر: وهذه « اللام » التي في قوله: « ليجمعنكم » ، لام قسم .

ثم اختلف أهل العربية في جالبها, فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت « الرحمة » غاية كلام، ثم استأنفت بعدها: « ليجمعنكم » . قال: وإن شئت جعلتَه في موضع نصب يعني: كتب ليجمعنكم كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [ سورة الأنعام: 54 ] ، يريد: كتب أنه من عمل منكم قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جوابُ كلام الأيمان ب « أن » المفتوحة وب « اللام » , فيقولون: « أرسلت إليه أن يقوم » , « وأرسلت إليه ليقومن » . قال: وكذلك قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ، [ سورة يوسف: 35 ] . قال: وهو في القرآن كثير. ألا ترى أنك لو قلت: « بدا لهم أن يسجنوه » , لكان صوابًا؟ وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصبت « لام » « ليجمعنكم » ، لأن معنى: « كتب » [ : فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم ] ، كأنه قال: والله ليجمعنكم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يكون قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، غايةً, وأن يكون قوله: « ليجمعنكم » ، خبرًا مبتدأ ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله، أيها العادلون بالله، ليوم القيامة الذي لا ريب فيه، لينتقم منكم بكفركم به.

وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال « كتب » في « ليجمعنكم » ، لأن قوله: « كتب » قد عمل في الرحمة, فغير جائز، وقد عمل في « الرحمة » ، أن يعمل في « ليجمعنكم » ، لأنه لا يتعدَّى إلى اثنين.

فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ ، [ سورة الأنعام: 54 ] بفتح « أنّ » ؟

قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك, فإن « أنّ » بيانٌ عن « الرحمة » ، وترجمة عنها. لأن معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم [ من تاب ] من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ويعفو، و « الرحمة » ، يترجم عنها ويبيَّن معناها بصفتها. وليس من صفة الرحمة « ليجمعنكم إلى يوم القيامة » ، فيكون مبينًا به عنها. فإذ كان ذلك كذلك, فلم يبق إلا أن تنصب بنية تكرير « كتب » مرة أخرى معه, ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك، فيوجَّه إلى ما ليس بموجود في ظاهره.

وأما تأويل قوله: « لا ريب فيه » ، فإنه لا شك فيه, يقول: في أنّ الله يجمعكم إلى يوم القيامة، فيحشركم إليه جميعًا, ثم يؤتى كلَّ عامل منكم أجرَ ما عمل من حسن أو سيئ .

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 12 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، العادلين به الأوثانَ والأصنامَ. يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله « الذين خسروا أنفسهم » , يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندَّ والعَدِيل, فأوبقوها باستيجابهم سَخَط الله وأليم عقابه في المعاد.

وأصل « الخسار » ، الغُبْنُ. يقال منه « : خسر الرجل في البيع » ، إذا غبن, كما قال الأعشى:

لا يَــأخُذُ الرِّشْــوَةَ فِــي حُكْمِـهِ وَلا يُبَـــالِي خَسَـــرَ الخَاسِــر

وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته.

وموضوع « الذين » في قوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، نصبٌ على الرد على « الكاف والميم » في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ ، على وجه البيان عنها. وذلك أنّ الذين خسروا أنفسهم, هم الذين خوطبوا بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ .

وقوله: « فهم لا يؤمنون » ، يقول: « فهم » ، لإهلاكهم أنفسهم وغَبْنهم إياه حظَّها « لا يؤمنون » , أي لا يوحِّدون الله، ولا يصدِّقون بوعده ووعيده، ولا يقرُّون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله : وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 13 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الأوثانَ, فيخلصوا له التوحيد، ويُفْرِدوا له الطاعة، ويقرّوا بالألوهية، جهلا « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: وله ملك كل شيء, لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكنٌ في الليل والنهار. فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا « وهو السميع » ، يقول: وهو السميع ما يقول هؤلاء المشركون فيه، من ادّعائهم له شريكًا, وما يقول غيرهم من خلقه « العليم » ، بما يضمرونه في أنفسهم، وما يظهرونه بجوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك, فهو يحصيه عليهم, ليوفّي كل إنسان ثوابَ ما اكتسبَ، وجزاء ما عمل .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « سكن » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: ما استقرَّ في الليل والنهار.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ, والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك, الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئًا غيرَ الله تعالى ذكره: « أتخذ وليًّا » ، أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أغير الله أتخذ وليًّا » ، قال: أما « الولي » ، فالذي يتولَّونه ويقرّون له بالربوبية .

« فاطر السماوات والأرض » ، يقول: أشيئًا غير الله فاطر السماوات والأرض أتخذ وليًّا؟ ف « فاطر السماوات » ، من نعت « الله » وصفته، ولذلك خُفِض.

ويعني بقوله: « فاطر السماوات والأرض » ، مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما، كالذي:-

حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما « فاطر السماوات والأرض » , حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: « أنا فَطَرتها » , يقول: أنا ابتدأتها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض.

يقال من ذلك: « فطرها الله يَفطُرُها وَيفطِرها فَطرًا وفطورًا » ومنه قوله: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [ سورة الملك: 3 ] ، يعني: شقوقًا وصدوعًا. يقال: « سيف فُطارٌ » ، إذا كثر فيه التشقق, وهو عيب فيه، ومنه قول عنترة:

وَسَــيْفِي كَالْعَقِيقَــةِ فَهْـوَ كِـمْعِي, سِـــلاحِي, لا أَفَــلَّ وَلا فُطَــارَا

ومنه يقال: « فَطَر ناب الجمل » ، إذا تشقق اللحم فخرج، ومنه قوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [ سورة الشورى: 5 ] ، أي: يتشققن، ويتصدعن.

وأما قوله: « وهو يطعم ولا يطعم » ، فإنه يعني : وهو يرزق خلقه ولا يرزق، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو يطعم ولا يطعم » ، قال: يَرْزق, ولا يُرزق.

وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ ) ، أي: أنه يُطعم خلقه, ولا يأكل هو ولا معنى لذلك، لقلة القراءة به.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 14 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله، ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السماوات والأرض, وهو يرزقني وغيري ولا يرزقه أحد, أتخذ وليًّا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضًا: إني أمرني ربي: « أن أكون أول من أسلم » يقول: أوّل من خضع له بالعبودية، وتذلّل لأمره ونهيه، وانقاد له من أهل دهرِي وزماني « ولا تكوننَّ من المشركين » ، يقول: وقل: وقيل لي: لا تكونن من المشركين بالله، الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء.

وجعل قوله: « أمرت » بدلا من: « قيل لي » , لأن قوله « أمرت » معناه: « قيل لي » . فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم, ولا تكونن من المشركين فاجتزئ بذكر « الأمر » من ذكر « القول » , إذ كان « الأمر » ، معلومًا أنه « قول » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله، الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إنّ ربي نهاني عن عبادة شيء سواه « وإني أخاف إن عصيت ربي » , فعبدتها « عذاب يوم عظيم » , يعني: عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى ب « العظم » لعظم هَوْله، وفظاعة شأنه .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 16 )

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، بضم « الياء » وفتح « الراء » , بمعنى: من يُصرف عنه العذاب يومئذ .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئذ.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي, قراءة من قرأه: ( يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , لدلالة قوله: « فقد رحمه » على صحة ذلك, وأنّ القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله: « من يصرف » ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله, كان الوجه في قوله: « فقد رحمه » أن يقال : « فقد رُحِم » غير مسمى فاعله. وفي تسمية الفاعل في قوله: « فقد رحمه » ، دليل بيِّن على أن ذلك كذلك في قوله: « من يَصرف عنه » .

وإذا كان ذلك هو الوجه الأولَى بالقراءة, فتأويل الكلام: منْ يصرف عنه من خلقه يومئذ عذابه فقد رحمه « وذلك هو الفوز المبين » ، ويعني بقوله: « وذلك » ، وصرفُ الله عنه العذاب يوم القيامة, ورحمته إياه « الفوز » ، أي: النجاة من الهلكة، والظفر بالطلبة « المبين » ، يعني الذي بيَّن لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطَّلِبة.

وبنحو الذي قلنا في قوله: « من يصرف عنه يومئذ » قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله « من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه » ، قال: من يصرف عنه العذاب .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, إن يصبك الله « بضر » , يقول: بشدة في دنياك، وشظَف في عيشك وضيق فيه, فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه, وأذعن له من أهل زمانك, دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام، ودون كل شيء سواها من خلقه « وإن يمسسك بخير » ، يقول: وإن يصبك بخير، أي: برخاء في عيش، وسعة في الرزق، وكثرة في المال، فتقرّ أنه أصابك بذلك « فهو على كل شيء قدير » ، يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك، فهو على كل شيء قدير هو القادر على نفعك وضرِّك, وهو على كل شيء يريده قادر, لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه, ليس كالآلهة الذليلة المَهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها، ولا دفع ضر عنها ولا غيرها. يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا، أم كيف لا تخلص العبادة, وتقرُّ لمن كان بيده الضر والنفع، والثواب والعقاب، وله القدرة الكاملة، والعزة الظاهرة؟

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 18 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وهو » ، نفسَه، يقول: والله الظاهر فوق عباده ويعني بقوله: « القاهر » ، المذلِّل المستعبد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال: « فوق عباده » , لأنه وصف نفسه تعالى ذكره بقهره إياهم. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه .

فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عبادَه, المذلِّلهم, العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم, فهو فوقهم بقهره إياهم, وهم دونه « وهو الحكيم » ، يقول: والله الحكيم في علِّوه على عباده، وقهره إياهم بقدرته، وفي سائر تدبيره « الخبير » ، بمصالح الأشياء ومضارِّها, الذي لا يخفي عليه عواقب الأمور وبواديها, ولا يقع في تدبيره خلل , ولا يدخل حكمه دَخَل.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يكذّبون ويجحدون نبوَّتك من قومك: أيُّ شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة: « الله » ، الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في [ شهادة ] غيره من خلقه من السهو والخطأ، والغلط والكذب. ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة، شهيدٌ بيني وبينكم, بالمحقِّ منا من المبطل، والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه, وقد رضينا به حكمًا بيننا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أيّ شيء أكبر شهادة » ، قال: أمر محمد أن يسأل قريشًا, ثم أمر أن يخبرهم فيقول: « الله شهيد بيني وبينكم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .

 

القول في تأويل قوله : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » عقابَه, وأُنذر به من بَلَغه من سائر الناس غيركم إن لم ينته إلى العمل بما فيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والإيمان بجميعه نـزولَ نقمة الله به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ » ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا أيها الناس، بلِّغوا ولو آية من كتاب الله, فإنه من بَلَغه آيةٌ من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله, أخذه أو تركه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لأنذركم به ومن بلغ » ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلِّغوا عن الله, فمن بلغه آيه من كتاب الله, فقد بلغه أمر الله.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي: « لأنذركم به ومن بلغ » ، قال: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: « ومن بلغ أئنكم لتشهدون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن , عن حسن بن صالح قال: سألت ليثًا: هل بقي أحدٌ لم تبلغه الدعوة ؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآنُ فهو داعٍ، وهو نذير. ثم قرأ: « لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ومن بلغ » ، من أسلم من العجم وغيرهم .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن يزيد قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب في قوله: « لأنذركم به ومن بلغ » ، قال: من بلغه القرآن, فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » ، يعني أهل مكة « ومن بلغ » ، يعني: ومن بلغه هذا القرآن، فهو له نذير.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت سفيان الثوري يحدّث, لا أعلمه إلا عن مجاهد: أنه قال في قوله: « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » ، العرب « ومن بلغ » ، العجم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لأنذركم به ومن بلغ » ، أما « من بلغ » ، فمن بلغه القرآن فهو له نذير.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ » ، قال يقول: من بلغه القرآن فأنا نذيره. وقرأ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ سورة الأعراف: 158 ] . قال: فمن بلغه القرآن, فرسول الله صلى الله عليه وسلم نذيره .

قال أبو جعفر: فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن، أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم.

ف « من » في موضع نصب بوقوع « أنذر » عليه, « وبلغ » في صلته, وأسقطت « الهاء » العائدة على « من » في قوله: « بلغ » ، لاستعمال العرب ذلك في صلات « مَن » و « ما » و « الذي » .

 

القول في تأويل قوله : أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 19 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين، الجاحدين نبوَّتك, العادلين بالله، ربًّا غيره: « أئنكم » ، أيها المشركون « لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى » , يقول: تشهدون أنّ معه معبودات غيره من الأوثانَ والأصنام.

وقال: « أُخْرَى » ، ولم يقل « أخَر » ، و « الآلهة » جمع, لأن الجموع يلحقها، التأنيث, كما قال تعالى : فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [ سورة طه: 51 ] ، ولم يقل: « الأوَل » ولا « الأوَّلين » .

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد « لا أشهد » ، بما تشهدون: أن مع الله آلهة أخرى, بل أجحد ذلك وأنكره « قل إنما هو إله واحد » ، يقول: إنما هو معبود واحد, لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة « وإنني بريء مما تشركون » ، يقول: قل: وإنني بريء من كلّ شريك تدعونه لله، وتضيفونه إلى شركته، وتعبدونه معه, لا أعبد سوى الله شيئًا، ولا أدعو غيره إلهًا.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من اليهود بأعيانهم، من وجه لم تثبت صحته، وذلك ما:-

حدثنا به هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال، جاء النحَّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحريّ بن عمير فقالوا: يا محمد، ما تعلم مع الله إلهًا غيرَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، بذلك بعثت, وإلى ذلك أدعو! فأنـزل الله تعالى فيهم وفي قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: لا يُؤْمِنُونَ .

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 20 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين « آتيناهم الكتاب » ، التوراة والإنجيل يعرفون أنما هو إله واحد ، لا جماعة الآلهة, وأن محمدًا نبيُّ مبعوث « كما يعرفون أبناءهم » .

وقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، من نعت « الذين » الأولى.

ويعنى بقوله: « خسروا أنفسهم » ، أهلكوها وألقوها في نار جهنم، بإنكارهم محمدًا أنه لله رسول مرسل, وهم بحقيقة ذلك عارفون « فهم لا يؤمنون » ، يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون.

وقد قيل: إنّ معنى « خسارتهم أنفسهم » ، أن كل عبد له منـزل في الجنة ومنـزل في النار. فإذا كان يوم القيامة، جعل الله لأهل الجنة منازلَ أهل النار في الجنة, وجعل لأهل النار منازلَ أهل الجنة في النار, فذلك خسران الخاسرين منهم، لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار, بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله، وظلمهم أنفسهم, وذلك معنى قول الله تعالى ذكره: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، [ سورة المؤمنون: 11 ] .

وبنحو ما قلنا في معنى قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله : « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعرفون أنّ الإسلام دين الله, وأن محمدًا رسول الله, يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، النصارى واليهود , يعرفون رسول الله في كتابهم, كما يعرفون أبناءهم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، [ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: « كما يعرفون أبناءهم » ، لأن نَعْته معهم في التوراة ] .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . قال: زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم, أنهم قالوا: والله لنحن أعرف به من أبنائنا، من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب، وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدثَ النساء !

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 21 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أشدُّ اعتداءً، وأخطأ فعلا وأخطأ قولا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله قيلَ باطل, واخترق من نفسه عليه كذبًا, فزعم أن له شريكًا من خلقه، وإلهًا يعبد من دونه - كما قاله المشركون من عبدة الأوثان - أو ادعى له ولدًا أو صاحبةً، كما قالته النصارى « أو كذب بآياته » ، يقول: أو كذب بحججه وأعلامه وأدلته التي أعطاها رسله على حقيقة نبوتهم، كذّبت بها اليهود « إنه لا يفلح الظالمون » ، يقول: إنه لا يفلح القائلون على الله الباطل, ولا يدركون البقاءَ في الجنان, والمفترون عليه الكذب، والجاحدون بنبوة أنبيائه.

 

القول في تأويل قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 22 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المفترين على الله كذبًا، والمكذبين بآياته, لا يفلحون اليومَ في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعًا- يعني: ولا في الآخرة.

ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظَهر عما حذف.

وتأويل الكلام: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا، « ويوم نحشرهم جميعًا » ، فقوله: « ويوم نحشرهم » , مردود على المراد في الكلام. لأنه وإن كان محذوفًا منه، فكأنه فيه، لمعرفة السامعين بمعناه « ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم » ، يقول: ثم نقول، إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب، بادِّعائهم له في سلطانه شريكًا، والمكذِّبين بآياته ورسله, فجمعنا جميعهم يوم القيامة « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ، أنهم لكم آلهة من دون الله, افتراء وكذبًا, وتدعونهم من دونه أربابًا؟ فأتوا بهم إن كنتم صادقين !

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( 23 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ؟ إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك، إذ فتناهم فاختبرناهم, « إلا أن قالوا والله ربّنا ما كنا مشركين » ، كذبًا منهم في أيمانهم على قِيلهم ذلك.

ثم اختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته جماعة من قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ ) بالتاء، بالنصب, بمعنى: لم يكن اختبارَناهم لهم إلا قيلُهم « والله ربنا ما كنا مشركين » غير أنهم يقرءون « تكن » بالتاء على التأنيث. وإن كانت للقول لا للفتنة، لمجاورته الفتنة، وهي خبر. وذلك عند أهل العربية شاذٌ غير فصيح في الكلام. وقد روي بيتٌ للبيد بنحو ذلك, وهو قوله:

فَمَضَــى وَقَدَّمَهَـا , وكـانت عـادةً مِنْــهُ إذا هــيَ عَــرَّدَتْ إقْدَامُهَـا

فقال: « وكانت » بتأنيث « الإقدام » ، لمجاورته قوله: « عادة » .

وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين: ( ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ) بالياء، ( فِتْنَتَهُمْ ) بالنصب، ( إلا أَنْ قَالُوا ) ، بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم.

غير أنهم ذكَّروا « يكون » لتذكير « أن » .

قال أبو جعفر: وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب, لأن « أنْ » أثبت في المعرفة من « الفتنة » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » .

فقال بعضهم : معناه: ثم لم يكن قولهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة في قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: مقالتهم قال معمر: وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: قولهم .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبى, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا » ، الآية, فهو كلامهم « قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » .

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك: « ثم لم تكن فتنتهم » ، يعني: كلامهم .

وقال آخرون: معنى ذلك: معذرتهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: معذرتهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم، اعتذارًا مما سلف منهم من الشرك بالله « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، فوضعت « الفتنة » موضع « القول » ، لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما « الفتنة » ، الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غيرَ واقع هنالك إلا عند الاختبار, وضعت « الفتنة » التي هي الاختبار، موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم .

واختلفت القرأة أيضًا في قراءة قوله: « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: وَاللَّهِ رَبِّنَا ، خفضًا، على أن « الرب » نعت لله .

وقرأ ذلك جماعة من التابعين: ( وَاللهِ رَبَّنَا ) ، بالنصب، بمعنى: والله يا ربنا. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: ( وَاللهِ رَبَّنَا ) ، بنصب « الرب » , بمعنى: يا ربَّنا. وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم: « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ؟ وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا. يقول الله تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ .

ويعني بقوله : « ما كنا مشركين » ، ما كنا ندعو لك شريكًا، ولا ندعو سواك.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، فاعلم، كيف كذَب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثانَ والأصنامَ، في الآخرة عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم: « والله يا ربنا ما كنا مشركين » , واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها يتخلّقون في الدنيا، من الكذب والفرية .

ومعنى « النظر » في هذا الموضع، النظر بالقلب، لا النظر بالبصر. وإنما معناه: تبين فاعلم كيف كذبوا في الآخرة .

وقال: « كذبوا » , ومعناه: يكذبون, لأنه لما كان الخبر قد مضى في الآية قبلها، صار كالشيء الذي قد كانَ ووُجد .

« وضل عنهم ما كانوا يفترون » ، يقول: وفارقهم الأنداد والأصنام، وتبرءوا منها, فسلكوا غير سبيلها، لأنها هلكت, [ وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتراء ] , ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله، وعبادتهم إياها، وإشراكهم إياها في سلطان الله, فضلت عنهم, وعوقب عابدُوها بفريتهم.

وقد بينا فيما مضى أن معنى « الضلال » ، الأخذ على غير الهدى.

وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سَعةَ رحمة الله يومئذ.

ذكر الرواية بذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو, عن مطرّف, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير قال: أتى رجلٌ ابنَ عباس فقال: سمعت الله يقول: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ , وقال في آية أخرى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، [ سورة النساء: 42 ] ؟ قال ابن عباس: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام: قالوا: « تعالوا نجحد » ، فقالوا: « وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ » ، فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم، « وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، قال: قول أهل الشرك، حين رأوا الذنوب تغفر, ولا يغفر الله لمشرك « انظر كيف كذبوا على أنفسهم » ، بتكذيب الله إياهم .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، ثم قال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، [ سورة النساء: 42 ] ، بجوارحهم .

حدثنا ابن وكيع, قال ، حدثنا أبي, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، قال : حلفوا واعتذروا, قالوا: « والله ربنا » .

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن سعيد بن جبير قال، أقسموا واعتذروا: « والله ربنا » .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير، بنحوه .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن سفيان بن زياد العُصْفري, عن سعيد بن جبير في قوله: « والله ربنا ما كنا مشركين » والله : لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد, قال من فيها من المشركين: « تعالوا نقول: لا إله إلا الله, لعلنا نخرج مع هؤلاء » . قال: فلم يصدَّقوا . قال: فحلفوا: « والله ربنا ما كنا مشركين » . قال: فقال الله: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي: يشركون.

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المنهال بن عمرو, عن سعيد عن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، قال: لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم, قالوا: تعالوا إذا سئلنا قلنا: « والله ربنا ما كنا مشركين » . فسئلوا, فقالوا ذلك, فختم الله على أفواههم، وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم, فودَّ الذين كفروا حين رأوا ذلك: « لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا » .

حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا مسلم بن خلف, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: يأتي على الناس يوم القيامة ساعة، لما رأوا أهلُ الشرك أهلَ التوحيد يغفر لهم فيقولون: « والله ربنا ما كنا مشركين » ، قال: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, قال حدثنا سفيان عن رجل, عن سعيد بن جبير: أنه كان يقول: « والله ربِّنا ما كنا مشركين » ، يخفضها. قال : أقسموا واعتذروا قال الحارث قال، عبد العزيز, قال سفيان مرة أخرى: حدثني هشام, عن سعيد بن جبير .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ من قومك، يا محمد « من يستمع إليك » , يقول: من يستمع القرآن منك, ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك، وأمره ونهيه, ولا يفقه ما تقول ولا يُوعِيه قلبَه, ولا يتدبره، ولا يصغي له سمعه، ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنـزيله الذي أنـزله عليك, إنما يسمع صوتك وقراءَتك وكلامك, ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه « أكنّة » .

وهي جمع « كنان » ، وهو الغطاء، مثل: « سِنان » ، « وأسنة » . يقال منه: « أكننت الشيءَ في نفسي » ، بالألف, « وكننت الشيء » ، إذا غطيته, ومن ذلك: بَيْضٌ مَكْنُونٌ ، [ سورة الصافات: 49 ] ، وهو الغطاء, ومنه قول الشاعر:

تَحْــــتَ عَيْــــنٍ, كِنَانُنَـــا ظِــــلُّ بُــــرْدٍ مُرَحَّــــلُ

يعني: غطاؤُهم الذي يكنُهم.

« وفي آذانهم وقرًا » ، يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثِقلا وصممًا عن فهم ما تتلو عليهم، والإصغاء لما تدعوهم إليه.

والعرب تفتح « الواو » من « الوَقْر » في الأذن، وهو الثقل فيها وتكسرها في الحمل فتقول: « هو وِقْرُ الدابة » . ويقال من الحمل: « أوقرْتُ الدَّابة فهي مُوقَرة » ومن السمع: « وَقَرْتُ سمعه فهو موقور » , ومنه قول الشاعر:

وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَّر الضَّرْبُ سَمْعَهَا

وقد ذكر سماعًا منهم: « وُقِرَتْ أذنه » ، إذا ثقلت « فهي موقورة » « وأوقرتِ النخلةُ، فهي مُوقِر » كما قيل: « امرأة طامث، وحائض » , لأنه لا حظّ فيه للمذكر. فإذا أريد أن الله أوقرها، قيل « مُوقَرةٌ » .

وقال تعالى ذكره: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه » ، بمعنى: أن لا يفقهوه, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا, لأن « الكنّ » إنما جعل على القلب، لئلا يفقهه، لا ليفقهه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا » ، قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئًا, كمثل البهيمة التي تسمع النداء، ولا تدري ما يُقَال لها.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا » ، أما « أكنة » ، فالغطاءُ أكنّ قلوبهم، لا يفقهون الحق « وفي آذانهم وقرًا » ، قال: صمم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « ومنهم من يستمع إليك » ، قال: قريش .

حدثني المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 25 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام, الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك « كل آية » ، يقول: كل حجة وعلامة تدلُّ أهل الحجَا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبوتك « لا يؤمنوا بها » ، يقول: لا يصدّقون بها، ولا يقرّون بأنها دالّة على ما هي عليه دالة « حتى إذا جاءوك يجادلونك » ، يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به « يجادلونك » , يقول: يخاصمونك « يقول الذين كفروا » ، يعنى بذلك: الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها, يقولون لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا حجج الله التي احتجَّ بها عليهم، وبيانَه الذي بيَّنه لهم « إن هذا إلا أساطير الأوّلين » ، أي: ما هذا إلا أساطير الأوّلين.

و « الأساطير » جمع « إسْطارة » و « أُسطُورة » مثل « أفكوهة » و « أضحوكة » وجائز أن يكون الواحد « أسطارًا » مثل « أبيات » ، و « أبابيت » ، و « أقوال وأقاويل » , من قول الله تعالى ذكره: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ، [ سورة الطور: 2 ] . من: « سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرا » .

فإذ كان من هذا: فإن تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الأوَّلون.

وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل, ويقولون: معناه: إنْ هذا إلا أحاديث الأوّلين .

حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, أمّا « أساطير الأوّلين » ، فأسَاجيع الأولين.

وكان بعض أهل العلم وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى بكلام العرب يقول: « الإسطارةُ » لغةٌ، ومجازُها مجازُ الترهات.

وكان الأخفش يقول: قال بعضهم : واحده « أسطورة » . وقال بعضهم: « إسطارة » . قال: ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد, نحو « العباديد » و « المَذَاكير » ، و « الأبابيل » . قال : وقال بعضهم: واحد « الأبابيل » ، « إبِّيل » ، وقال بعضهم: « إبَّوْل » مثل « عِجَّوْل » , ولم أجد العرب تعرف له واحدًا, وإنما هو مثل « عباديد » لا واحد لها. وأما « الشَّماطيط » ، فإنهم يزعمون أن واحده « شمطاط » . قال: وكل هذه لها واحد, إلا أنه لم يستعمل ولم يتكلم به, لأن هذا المثال لا يكون إلا جميعًا. قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول: « أرسل خيله أبابيل » , تريد جماعات, فلا تتكلم بها بواحدة. وكانت مجادلتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في هذه الآية، فيما ذُكِر, ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « حتى إذا جاءوك يجادلونك » الآية، قال: هم المشركون، يجادلون المسلمين في الذَّبيحة, يقولون: « أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون! وأنتم تتَّبعون أمرَ الله تعالى ذكره » !

 

القول في تأويل قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 26 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » .

فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله, ينهونَ الناس عن اتباع محمّد صلى الله عليه وسلم والقبول منه « وينأَوْن عنه » ، يتباعدون عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وهانئ بن سعيد، عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه, وينهون الناس عنه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، يعني : ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به « وينأون عنه » ، يعني : يتباعدون عنه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، أن يُتَّبع محمد، ويتباعدون هم منه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، يقول: لا يلقونَه, ولا يَدَعُون أحدًا يأتيه.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول في قوله: « وهم ينهون عنه » ، يقول: عن محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، جمَعُوا النهي والنأي. و « النأي » ، التباعد. وقال بعضهم: بل معناه: « وهم ينهون عنه » عن القرآن، أن يسمع له ويُعمَل بما فيه.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وهم ينهون عنه » ، قال: ينهون عن القرآن, وعن النبي صلى الله عليه وسلم « وينأون عنه » ، ويتباعدون عنه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « وهم ينهون عنه » ، قال: قريش، عن الذكر « وينأون عنه » ، يقول: يتباعدون .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قريش، عن الذكر. « ينأون عنه » ، يتباعدون.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم, ويتباعدون عنه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ينأون عنه » ، قال: « وينأون عنه » ، يباعدونه.

وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم « وينأون عنه » ، يتباعدون عن دينه واتّباعه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وقبيصة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس يقول: نـزلت في أبي طالب, كان ينهى عن محمد أن يُؤذَى، وينأى عما جاء به أن يؤمن به .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب، ينهى عنه أن يؤذى، وينأى عما جاء به.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذُوا محمدًا, وينأى عمّا جاء به.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة قال: كان أبو طالب ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصدِّقه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ومحمد بن بشر, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب قال ابن وكيع، قال ابن بشر: كان أبو طالب ينهي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذَى ولا يصدّق به.

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير, عن أبي محمد الأسدي, عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى ذكره: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، نـزلت في أبي طالب، كان ينهى عن أذى محمد, وينأى عما جاء به أن يتّبعه.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن عبد العزيز بن سياه, عن حبيب قال: ذاك أبو طالب, في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سعيد بن أبي أيوب قال، قال عطاء بن دينار في قول الله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، أنها نـزلت في أبي طالب, أنه كان ينهى الناسَ عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى عما جاء به من الهدى.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية, قولُ من قال: تأويلُه: « وهم ينهون عنه » ، عن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ سواهم من الناس, وينأون عن اتباعه.

وذلك أن الآيات قبلَها جرت بذكر جماعة المشركين العادِلين به, والخبرِ عن تكذيبهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عما جاءهم به من تنـزيل الله ووحيه, فالواجب أن يكون قوله: « وهم ينهون عنه » ، خبرًا عنهم, إذ لم يأتنا ما يدُلُّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدلّ على صحة ما قلنا، من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرًا عن خاصٍّ منهم .

وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: وإن يرَ هؤلاء المشركون، يا محمد، كلَّ آية لا يؤمنوا بها, حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقولون: « إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوَّلين وأخبارهم » ! وهم ينهون عن استماع التنـزيل، وينأون عنك فيبعدون منك ومن اتباعك « وإن يهلكون إلا أنفسهم » ، يقول: وما يهلكونَ بصدّهم عن سبيل الله، وإعراضهم عن تنـزيله، وكفرهم بربهم - إلا أنفسهم لا غيرها, وذلك أنهم يكسِبُونها بفعلهم ذلك، سخط الله وأليم عقابه، وما لا قِبَل لها به « وما يشعرون » ، يقول: وما يدرون ما هُمْ مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم.

والعرب تقول لكل من بعد عن شيء: « قد نأى عنه, فهو ينأى نَأْيًا » . ومسموع منهم: « نأيتُكَ » ، بمعنى: « نأيت عنك » . وأما إذا أرادوا: أبعدتُك عني, قالوا: « أنأيتك » . ومن « نأيتك » بمعنى: نأيتُ عنك، قول الحطيئة:

نَــــأَتْكَ أُمَامَـــةُ إلا سُـــؤَالا وَأَبْصَــرْتَ مِنْهَــا بِطَيْـفٍ خَيَـالا

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 27 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: « ولو ترى » ، يا محمد، هؤلاء العادلين بربهم الأصنامَ والأوثانَ، الجاحدين نبوّتك، الذين وصفت لك صفتهم « إذ وُقفوا » ، يقول: إذ حُبِسوا « على النار » ، يعني: في النار- فوضعت « على » موضع « في » كما قال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ سورة البقرة: 102 ] ، بمعنى في ملك سليمان.

وقيل: « ولو ترى إذ وقفوا » ، ومعناه: إذا وقفوا لما وصفنا قبلُ فيما مضى: أن العرب قد تضع « إذ » مكان « إذا » , و « إذا » مكان « إذ » , وإن كان حظّ « إذ » أن تصاحب من الأخبار ما قد وُجد فقضي, وحظ « إذا » أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد, ولكن ذلك كما قال الراجز، وهو أبو النجم:

مَــدَّ لَنَــا فِـي عُمْـرِهِ رَبُّ طَهَـا ثُــمَّ جَــزَاهُ اللـهُ عَنَّـا إذْ جَـزَى

جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلَى

فقال: « ثم جزاه الله عنا إذ جزى » فوضع، « إذ » مكان « إذا » .

وقيل: « وقفوا » ، ولم يُقَل: « أُوقِفوا » , لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب. يقال: « وقَفتُ الدابة وغيرها » ، بغير ألف، إذا حبستها. وكذلك: « وقفت الأرضَ » ، إذا جعلتها صدقةً حَبيسًا, بغير ألف، وقد:-

حدثني الحارث, عن أبي عبيد قال: أخبرني اليزيديّ والأصمعي، كلاهما, عن أبي عمرو قال: ما سمعت أحدًا من العرب يقول: « أوقفت الشيء » بالألف. قال: إلا أني لو رأيت رجلا بمكانٍ فقلت: « ما أوقفك ها هنا؟ » ، بالألف، لرأيته حسنًا.

« فقالوا يا ليتنا نردّ » ، يقول: فقال هؤلاء المشركون بربهم، إذ حُبسوا في النار: « يا ليتنا نردّ » ، إلى الدنيا حتى نتوب ونراجعَ طاعة الله « ولا نكذب بآيات ربنا » ، يقول: ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها « ونكون من المؤمنين » ، يقول: ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله, متَّبعي أمره ونهيه.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والعراقيين: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، بمعنى: يا ليتنا نردُّ, ولسنا نكذب بآيات ربنا، ولكنّا نكون من المؤمنين.

وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفة : يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بمعنى: يا ليتنا نرد, وأن لا نكذب بآيات ربنا، ونكونَ من المؤمنين. وتأوَّلوا في ذلك شيئًا:-

حدثنيه أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال: في حرف ابن مسعود: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ ) بالفاء .

وذكر عن بعض قرأة أهل الشام، أنه قرأ ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ ) بالرفع ( وَنَكُونَ ) بالنصب، كأنه وجَّه تأويله إلى أنهم تمنوا الردَّ، وأن يكونوا من المؤمنين, وأخبروا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إن رُدُّوا إلى الدنيا .

واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبًا ومرفوعًا.

فقال بعض نحويي البصرة: « ولا نكذِّبَ بآيات ربِّنا ونكونَ من المؤمنين » ، نصبٌ، لأنه جواب للتمني, وما بعد « الواو » كما بعد « الفاء » . قال: وإن شئت رفعتَ وجعلته على غير التمني, كأنهم قالوا: ولا نكذِّبُ والله بآيات ربنا, ونكونُ والله من المؤمنين. هذا، إذا كان على ذا الوجه، كان منقطعًا من الأوّل. قال: والرفع وجهُ الكلام , لأنه إذا نصب جعلها « واوَ » عطف. فإذا جعلها « واو » عطف, فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذِّبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا، والله أعلم، لا يكون, لأنهم لم يتمنوا هذا, إنما تمنوا الردّ , وأخبروا أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين.

وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب « نكذب » و « نكون » على الجواب بالواو، لكان صوابًا. قال: والعرب تجيب ب « الواو » ، و « ثم » , كما تجيب بالفاء. يقولون: « ليت لي مالا فأعطيَك » , « وليت لي مالا وأُعْطيَك » ، « وثم أعطيَك » . قال: وقد تكون نصبًا على الصَّرف, كقولك: « لا يَسَعُنِي شيء ويعجِزَ عَنك. »

وقال آخر منهم: لا أحبُّ النصب في هذا, لأنه ليس بتمنٍّ منهم, إنما هو خبرٌ، أخبروا به عن أنفسهم. ألا ترى أن الله تعالى ذكره قد كذَّبهم فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ؟ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمنِّي.

وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب « بالواو » , وبحرف غير « الفاء » . وكان يقول: إنما « الواو » موضع حال, لا يسعني شيء ويضيقَ عنك « ، أي: وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصَّرف في جميع العربية. قال: وأما « الفاء » فجواب جزاء: » ما قمت فنأتيَك « ، أي: لو قمت لأتينَاك. قال: فهذا حكم الصرف و « الفاء » . قال: وأمّا قوله: » ولا نكذب « ، و » نكون « فإنما جاز, لأنهم قالوا: » يا ليتنا نرد « ، في غير الحال التي وقفنا فيها على النار. فكان وقفهم في تلك, فتمنَّوا أن لا يكونوا وُقِفُوا في تلك الحال. »

قال أبو جعفر: وكأنّ معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وقفوا على النار, فقالوا: قد وقفنا عليها مكذِّبين بآيات ربِّنا كفارًا, فيا ليتنا نردّ إليها فنُوقَف عليها غير مكذبين بآيات ربِّنا ولا كفارًا.

وهذا تأويلٌ يدفعه ظاهر التنـزيل, وذلك قول الله تعالى ذكره: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة, والتكذيب لا يقع في التمني. ولكن صاحب هذه المقالة أظنُّ به أنَّه لم يتدبر التأويل، ولَزِم سَنَن العربيّة.

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بالرفع في كليهما, بمعنى: يا ليتنا نردّ, ولسنا نكذب بآيات ربِّنا إن رددنا, ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردُّوا إلى الدنيا, لا على التمنّي منهم أن لا يكذِّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه, وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني، لاستحال تكذيبهم فيه, لأن التمني لا يكذَّب, وإنما يكون التصديقُ والتكذيبُ في الأخبار.

وأما النصب في ذلك, فإني أظنّ بقارئه أنه توخَّى تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه, وذلك قراءته ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرئ بالفاء كذلك، لا شك في صحة إعرابه. ومعناه في ذلك: أن تأويله إذا قرئ كذلك: لو أنّا رددنا إلى الدنيا ما كذَّبنا بآيات ربِّنا, ولكُنَّا من المؤمنين. فإن يكن الذي حَكَى من حكى عن العرب من السماع منهم الجوابَ بالواو، و « ثم » كهيئة الجواب بالفاء، صحيحًا, فلا شك في صحّة قراءة من قرأ ذلك: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ نصبًا على جواب التمني بالواو, على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء. وإلا فإن القراءة بذلك بعيدةُ المعنى من تأويل التنـزيل. ولستُ أعلم سماعَ ذلك من العرب صحيحًا, بل المعروف من كلامها: الجوابُ بالفاء، والصرفُ بالواو.

 

القول في تأويل قوله : بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 28 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء العادلين بربهم، الجاحدين نبوتك، يا محمد، في قيلهم إذا وقفوا على النار: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأسَى والندمُ على ترك الإيمان بالله والتصديق بك، لكن بهم الإشفاق مما هو نازلٌ بهم من عقاب الله وأليم عذابه، على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم, فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رؤوس الأشهاد, ففضحهم بها، ثم جازاهم بها جزاءَهم .

يقول: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها « من قبل ذلك في الدنيا, فظهرت » وَلَوْ رُدُّوا « ، يقول: ولو ردّوا إلى الدنيا فأمْهلوا » لعادوا لما نهوا عنه « ، يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم » وإنهم لكاذبون « ، في قيلهم: » لو رددنا لم نكذب بآيات ربّنا وكنا من المؤمنين « , لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله. »

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » ، يقول: بدت لهم أعمالهم في الآخرة، التي أخفوها في الدنيا .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » ، قال: من أعمالهم .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو ردُّوا لعادُوا لما نهوا عنه » ، يقول: ولو وصل الله لهم دُنيا كدنياهم, لعادوا إلى أعمالهم أعمالِ السوء.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( 29 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين، العادلين به الأوثان والأصنام، الذين ابتدأ هذه السورة بالخبرعنهم.

يقول تعالى ذكره: « وقالوا إنْ هي إلا حياتنا الدنيا » ، يخبر عنهم أنهم ينكرون أنّ الله يُحيي خلقه بعد أن يُميتهم, ويقولون: « لا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور بعد الفناء » . فهم بجحودهم ذلك، وإنكارهم ثوابَ الله وعقابَه في الدار الآخرة, لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية، لأنهم لا يرجون ثوابًا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعملٍ صالح بعد موت, ولا يخافون عقابًا على كفرهم بالله ورسوله وسيّئٍ من عمل يعملونه.

وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الكفرة الذين وقفوا على النار: أنهم لو ردُّوا إلى الدنيا لقالوا: « ما هي إلا حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين » .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، وقالوا حين يردون: « إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين » .

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 30 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « لو ترى » ، يا محمد، هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين « إذ وقفوا » ، يوم القيامة، أي: حبسوا, « على ربهم » ، يعني على حكم الله وقضائه فيهم « قال أليس هذا بالحق » ، يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعثُ والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونَه في الدنيا، حقًّا ؟ فأجابوا، فقالوا: « بَلَى » والله إنه لحقّ « قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ » ، يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون « بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » ، يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا .

 

القول في تأويل قوله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » ، قد هلك ووُكس، في بيعهم الإيمان بالكفر « الذين كذبوا بلقاء الله » , يعني: الذين أنكروا البعثَ بعد الممات، والثواب والعقابَ، والجنةَ والنارَ, من مشركي قريش ومَنْ سلك سبيلهم في ذلك « حتى إذا جاءَتهم الساعة » ، يقول: حتى إذا جاءتهم السَّاعة التي يَبْعث الله فيها الموتى من قبورهم.

وإنما أدخلت « الألف واللام » في « الساعة » , لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها, وأنها مقصود بها قصدُ الساعة التي وصفت.

ويعني بقوله: « بغتة » ، فجأةً، من غير علم من تفجؤه بوقت مفاجأتها إيّاه.

يقال منه: « بغتُّه أبغته بَغْتةً » ، إذا أخذته كذلك:

« قالوا يا حَسْرتَنا على ما فرّطنا فيها » ، يقول تعالى ذكره: وُكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار, فإذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا، وتبيَّنوا خسارة صفقة بَيْعهم التي سلفت منهم في الدنيا، تندُّمًا وتلهُّفًا على عظيم الغَبْن الذي غبنوه أنفسهم، وجليلِ الخسران الذي لا خسرانَ أجلَّ منه « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » ، يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها، يعني: صفقتهم تلك.

و « الهاء والألف » في قوله: « فيها » ، من ذكر « الصفقة » , ولكن اكتفى بدلالة قوله: « قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله » عليها من ذكرها, إذ كان معلومًا أن « الخسران » لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت.

وإنما معنى الكلام: قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله, ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانَه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سَخَطه وعقوبته, ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك، حتى تقوم الساعة, فإذا جاءتهم الساعة بغتةً فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ، تندمًا: « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » ، أمّا « يا حسرتنا » ، فندامتنا « على ما فرطنا فيها » ، فضيعنا من عمل الجنة .

حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا يزيد بن مهران قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « يا حسرتنا » ، قال: « يرى أهلُ النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا » .

 

القول في تأويل قوله : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( 31 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين كذَّبوا بلقاء الله، « يحملون أوزارهم على ظهورهم » . وقوله: « وهم » من ذكرهم « يحملون أوزارهم » ، يقول: آثامهم وذنوبهم.

واحدها « وِزْر » , يقال منه: « وَزَر الرجل يزِر » ، إذا أثم, قال الله: « ألا ساء ما يزرون » . فإن أريد أنهم أُثِّموا، قيل: « قد وُزِر القوم فهم يُوزَرُون، وهم موزورون » .

قد زعم بعضهم أن « الوِزْر » الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد، ولا من رواية ثِقة عن العرب.

وقال تعالى ذكره: « على ظهورهم » ، لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكِب وغير ذلك, فبيَّن موضع حملهم ما يحملون منْ ذلك.

وذكر أنّ حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم، نحو الذي:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلْمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبُه ريحًا, فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن صورتك ! فيقول: كذلك كنت في الدنيا, أنا عملك الصالح, طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم! وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ، [ سورة مريم: 85 ] . وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنُه ريحًا, فيقول، هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قَبّح صورتك وأنتن ريحك ! فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا, أنا عملك السيئ، طالما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك وتلا « وهم يحملون أوزارهم على ظُهورهم ألا ساء ما يزرون » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم » ، فإنه ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاء رجل قبيح الوجه، أسودُ اللون، مُنتن الريح، عليه ثياب دَنِسة, حتى يدخل معه قبره, فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا! قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا! قال: ما أدْنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسًا. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك! قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذَّات والشهوات, فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخلَه النار، فذلك قوله: « يحملون أوزارهم على ظهورهم » .

وأما قوله تعالى ذكره: « ألا ساء ما يزرون » ، فإنه يعني: ألا ساء الوزر الذي يزرون - أي: الإثم الذي يأثمونه بربهم، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ألا ساء ما يزرون » ، قال: ساء ما يعملون .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 32 )

قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله تعالى ذكره هؤلاء الكفارَ المنكرين البعثَ بعد الممات في قولهم: إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ , [ سورة الأنعام : 29 ] .

يقول تعالى ذكره، مكذبًا لهم في قبلهم ذلك: « ما الحياة الدنيا » ، أيها الناس « إلا لعب ولهو » ، يقول : ما باغي لذاتِ الحياة التي أدْنيت لكم وقرّبت منكم في داركم هذه، ونعيمَها وسرورَها، فيها، والمتلذذُ بها، والمنافسُ عليها, إلا في لعب ولهو، لأنها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذذِ فيها بملاذّها, أو تأتيه الأيام بفجائعها وصروفها، فَتُمِرُّ عليه وتكدُر، كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه, ثم يعقبه منه ندمًا، ويُورثه منه تَرحًا. يقول: لا تغتروا، أيها الناس، بها, فإن المغتر بها عمّا قليل يندم « وللدار الآخرة خير للذين يتقون » ، يقول: وللعمل بطاعته، والاستعدادُ للدار الآخرة بالصالح من الأعمال التي تَبقى منافعها لأهلها، ويدوم سرورُ أهلها فيها, خيرٌ من الدار التي تفنى وشيكًا، فلا يبقى لعمالها فيها سرور، ولا يدوم لهم فيها نعيم « للذين يتقون » ، يقول: للذين يخشون الله فيتقونه بطاعته واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى رضاه « أفلا تعقلون » ، يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذّبون بالبعث حقيقةَ ما نخبرهم به، من أن الحياة الدنيا لعب ولهوٌ, وهم يرون من يُخْتَرم منهم، ومن يهلك فيموت، ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبُه المصائب وتفجعه الفجائع. ففي ذلك لمن عقل مدَّكر ومزدجر عن الركون إليها، واستعباد النفس لها ودليلٌ واضح على أن لها مدبِّرًا ومصرفًا يلزم الخلقَ إخلاصُ العبادة له، بغير إشراك شيءٍ سواه معه .

 

القول في تأويل قوله : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 33 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قد نعلم » ، يا محمد، إنه ليحزنك الذي يقول المشركون, وذلك قولهم له: إنه كذّاب « فإنهم لا يكذبونك » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك

[ فقرأته جماعة من أهل الكوفة: ( فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ ) بالتخفيف ] ، بمعنى: إنهم لا يُكْذِبونك فيما أتيتهم به من وحي الله, ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحًا، بل يعلمون صحته, ولكنهم يجحَدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون: « أكذبت الرجل » ، إذا أخبرت أنه جاءَ بالكذب ورواه. قال: ويقولون: « كذَّبْتُه » ، إذا أخبرت أنه كاذبٌ.

وقرأته جماعة من قرأة المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بمعنى: أنهم لا يكذّبونك علمًا, بل يعلمون أنك صادق ولكنهم يكذبونك قولا عنادًا وحسدًا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة, ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم.

وذلك أن المشركين لا شكَّ أنه كان منهم قوم يكذبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويدفعونه عما كان الله تعالى ذكره خصه به من النبوّة، فكان بعضهم يقول: « هو شاعر » , وبعضهم يقول: « هو كاهن » , وبعضهم يقول: « هو مجنون » ، وينفي جميعُهم أن يكون الذي أتَاهم به من وحي السماء، ومن تنـزيل رب العالمين، قولا. وكان بعضهم قد تبين أمرَه وعلم صحة نبوّته, وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدًا له وبغيًا.

فالقارئ: ( فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ ) بمعنى أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول, يجحدونَ أن يكون ما تتلوه عليهم من تنـزيل الله ومن عند الله، قولا - وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علمًا صحيحًا مصيبٌ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته.

وفي قول الله تعالى في هذه السورة: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ [ سورة الأنعام : 20 ] ، أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم, مع علمٍ منهم به وبصحة نبوّته.

وكذلك القارئ: ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) بمعنى: أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادًا، لا جهلا بنبوّته وصدق لَهْجته مصيب، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَنْ هذه صفته.

وقد ذَهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل .

* ذكر من قال: معنى ذلك: فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيٌّ لله صادق .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك » ، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينٌ, فقال له: ما يُحزنك؟ فقال: كذَّبني هؤلاء! قال فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، هم يعلمون أنك صادق, « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين, فقال له: ما يحزنك؟ . فقال: كذَّبني هؤلاء! فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك, إنهم ليعلمون أنك صادق, « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط: عن السدي في قوله: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة, إن محمدًا ابن أختكم, فأنتم أحقُّ مَنْ كَفَّ عنه، فإنه إن كان نبيًّا لم تقاتلوهُ اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته! قفوا ههنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غُلب محمدٌ [ صلى الله عليه وسلم ] رجعتم سالمين, وإن غَلَب محمدٌ فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئًا فيومئذ سمّي « الأخنس » , وكان اسمه « أبيّ » فالتقى الأخنس وأبو جهل, فخلا الأخنس بأبي جهل, فقال: يا أبا الحكم, أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا! فقال أبو جهل: وَيْحك, والله إن محمدًا لصادق, وما كذب محمّد قط, ولكن إذا ذهب بنو قُصَيِّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوة, فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: « فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، « فآيات الله » ، محمدٌ صلى الله عليه وسلم .

حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: « فإنهم لا يكذبونك » ، قال: ليس يكذّبون محمدًا, ولكنهم بآيات الله يجحدون .

* ذكر من قال: ذلك بمعنى: فإنهم لا يكذّبونك، ولكنهم يكذِّبون ما جئت به.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك, ولكن نتَّهم الذي جئت به! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب: أنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّا لا نكذبك, ولكن نكذب الذي جئت به! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » .

وقال آخرون: معنى ذلك، فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب: « فإنهم لا يكذبونك » ، قال: لا يبطلون ما في يديك .

وأما قوله: « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، فإنه يقول: ولكن المشركين بالله، بحجج الله وآي كتابه ورسولِه يجحدون, فينكرون صحَّة ذلك كله.

وكان السدي يقول: « الآيات » في هذا الموضع، معنيٌّ بها محمّد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبلُ.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( 34 )

قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وتعزيةٌ له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إيّاه على ما جاءهم به من الحق من عند الله .

يقول تعالى ذكره: إن يكذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك, فيجحدوا نبوّتك, وينكروا آيات الله أنّها من عنده, فلا يحزنك ذلك, واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله, حتى يأتي نصر الله, فقد كُذبت رسلٌ من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه, فصبروا على تكذيب قومهم إياهم، ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه, حتى حكم الله بينهم وبينهم « ولا مبدّل لكلمات الله » ، يقول: ولا مغيِّر لكلمات الله و « كلماته » تعالى ذكره: ما أنـزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من وعده إياه النصر على من خَالفه وضادّه, والظفرَ على من تولّى عنه وأدبر « ولقد جاءك من نبإ المرسلين » ، يقول: ولقد جاءك يا محمد، من خبر من كان قبلك من الرسل، وخبر أممهم, وما صنعتُ بهم حين جحدوا آياتي وتمادَوا في غيهم وضلالهم أنباء وترك ذكر « أنباء » ، لدلالة « مِنْ » عليها.

يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضًا من النصرة والظفر مثل الذي كان منِّي فيمن كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم, واقتد بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم.

وبنحو ذلك تأوَّل من تأوَّل هذه الآية من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا » ، يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون, ويخبره أن الرسل قد كُذّبت قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: « ولقد كذبت رسل من قبلك » ، قال: يعزّي نبيَّه صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « ولقد كذبت رسل من قبلك » ، الآية، قال: يعزِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك، يا محمد، إعراض هؤلاء المشركين عنك، وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي بعثتُك به, فشقَّ ذلك عليك، ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم « فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض » ، يقول: فإن استطعت أن تتَّخذ سَرَبا في الأرض مثلَ نَافِقاء اليَرْبُوع, وهي أحد جِحَرِته فتذهب فيه « أو سُلمًا في السماء » ، يقول: أو مصعدًا تصعد فيه، كالدَّرَج وما أشبهها, كما قال الشاعر:

لا تُحْـرِزُ الْمَـرْءُ أَحْجَـاءُ البِلادِ, وَلا يُبْنَـى لَـهُ فِـي السَّـمَاوَاتِ السَّـلالِيم

« فتأتيهم بآية » ، منها يعني بعلامةٍ وبرهان على صحة قولك، غير الذي أتيتك فافعل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء » ، و « النفق » السَّرب, فتذهب فيه « فتأتيهم بآية » , أو تجعل لك سلَّمًا في السماء, فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض » ، قال: سَرَبًا « أو سلمًا في السماء » ، قال: يعني الدَّرَج .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء » ، أما « النفق » فالسرب, وأما « السلم » فالمصعد.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: « نفقًا في الأرض » ، قال: سربًا .

وتُرِك جواب الجزاء فلم يذكر، لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه. وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطبين به, فيقول الرجل منهم للرجل: « إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا، إن قدرت على مَعُونتنا » , ويحذف الجواب, وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل. فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب، لم يحذفوه. لا يقال: « إن تقم » , فتسكت وتحذف الجواب، لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره, حتى يقال: « إن تقم تصب خيرًا » , أو: « إن تقم فحسن » , وما أشبه ذلك. ونظيرُ ما في الآية مما حذف جَوَابه وهو مراد، لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر:

فَبِحَـــظٍّ مِمَّـــا نَعِيشُ, وَلا تَــذْ هَـبْ بِـكِ التُّرَّهَـاتُ فِـي الأهْـوَالِ

والمعنى: فبحظٍّ مما نعيش فعيشي.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 35 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك, لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة, لجمعتهم على ذلك, ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي, ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم « فلا تكونن » ، يا محمد، « من الجاهلين » ، يقول: فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه, وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا, فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنى معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين.

قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، الدلالةُ الواضحة على خطإ ما قال أهل التَّفْويض من القدريّة، المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاءَ توفيقه من خلقه, يلطفُ بها له حتى يهتدِيَ للحقّ, فينقاد له، وينيبَ إلى الرشاد فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله. وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاءَ الهداية لجميع من كفر به، حتى يجتمعوا على الهدى، فعلَ. ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم، كانوا مهتدين لا ضلالا. وهم لو كانوا مهتدين، كان لا شك أنّ كونهم مهتدين كان خيرًا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى، تركٌ منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خيرٌ لهم فيه، مما هو قادر على فعله بهم، وقد ترك فعله بهم. وفي تركه فعل ذلك بهم، أوضحُ الدليل أنه لم يعطهم كل الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية، ويتسبّبون بها إلى الإيمان.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 36 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يكبُرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك، وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربّهم والإقرار بنبوّتك, فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك، إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحق، وسهَّل لهم اتباع الرُّشد, دون من ختم الله على سمعه، فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رُعاتها, فهم كما وصفهم به الله تعالى ذكره: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة البقرة: 171 ] « والموتى يبعثهم الله » ، يقول: والكفارُ يبعثهم الله مع الموتى, فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتًا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا إذ كانوا لا يتدبرون حُجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون فينـزجرون عما هم عليه من تكذيب رُسل الله وخلافهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، المؤمنون، للذكر « والموتى » ، الكفار, حين يبعثهم الله مع الموتى.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، قال: هذا مَثَل المؤمن، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله. والذين كذَّبوا بآياتنا صم وبكم, وهذا مثل الكافر أصم أبكم, لا يبصر هدًى ولا ينتفع به.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان الثوري, عن محمد بن جحادة, عن الحسن: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، المؤمنون « والموتى » ، قال: الكفار.

حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن جحادة قال: سمعت الحسن يقول في قوله: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » ، قال: الكفار.

وأما قوله: « ثم إليه يرجعون » ، فإنه يقول تعالى ذكره: ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول, والكفارُ الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئًا, فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب, ويعاقب هذا الكافرَ بما أوعدَ أهل الكفر به من العقاب, لا يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 37 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم، المعرضون عن آياته: « لولا نزل عليه آية من ربه » ، يقول: قالوا: هلا نـزل على محمد آية من ربه؟ كما قال الشاعر:

تَعُـدُّونَ عَقْـرَ النِّيـبِ أَفْضَـل مَجْدِكُمْ بَنِـي ضَوْطَـرَي, لَـولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

بمعنى: هلا الكميَّ.

و « الآية » ، العلامة.

وذلك أنهم قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [ سورة الفرقان : 7،8 ] . قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لقائلي هذه المقالة لك: « إنّ الله قادر على أن ينزل آية » , يعني: حجة على ما يريدون ويسألون « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ، يقول: ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية, لا يعلمون ما عليهم في الآية إن نـزلها من البلاء, ولا يدرون ما وجه ترك إنـزال ذلك عليك, ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنـزلها عليك، لم يقولوا ذلك، ولم يسألوكه, ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( 38 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم, لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون, أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة, تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون, ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها, ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب, ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء, أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها, إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا, إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا, وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « أمم أمثالكم » ، أصناف مصنفة تُعرَف بأسمائها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، يقول: الطير أمة, والإنس أمة, والجن أمة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « إلا أمم أمثالكم » ، يقول: إلا خلق أمثالكم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج, عن ابن جريج في قوله: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، قال: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب .

وأما قوله: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، فإن معناه: ما ضيعنا إثبات شيء منه، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، قال : لم نُغفِل الكتاب, ما من شيء إلا وهو في الكتاب.

وحدثني به يونس مرة أخرى, قال في قوله: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، قال: كلهم مكتوبٌ في أم الكتاب .

وأما قوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى « حشرهم » ، الذي عناه الله تعالى ذكره في هذا الموضع.

فقال بعضهم: « حشرها » ، موتها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن سعيد, عن مسروق, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، قال ابن عباس: موت البهائم حشرها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، قال: يعني بالحشر، الموت .

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله : « ثم إلى ربهم يحشرون » ، يعني بالحشر: الموت.

وقال آخرون: « الحشر » في هذا الموضع، يعني به الجمعُ لبعث الساعة وقيام القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة في قوله: « إلا أمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون » ، قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة, البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذَ للجمَّاء من القَرْناء, ثم يقول: « كوني ترابًا » , فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [ سورة النبأ: 40 ] .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش, عمن ذكره، عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنـزان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون فيما انتطحتا؟ قالوا: لا ندري! قال: « لكن الله يدري, وسيقضي بينهما. »

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليم قال، حدثنا فطر بن خليفة, عن منذر الثوري, عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أبا ذَرّ، أتدري فيم انتطحتا « ؟ قلت: لا! قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما! قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلِّب طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. »

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ كل دابة وطائر محشورٌ إليه. وجائز أن يكون معنيًّا بذلك حشر القيامة وجائز أن يكون معنيًّا به حشر الموت وجائز أن يكون معنيًّا به الحشران جميعًا ، ولا دلالة في ظاهر التنـزيل، ولا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ ذلك المراد بقوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، إذ كان « الحشر » ، في كلام العرب الجمع, ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ سورة ص: 19 ] ، يعني: مجموعة. فإذ كان الجمع هو « الحشر » ، وكان الله تعالى ذكره جامعًا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت, كان أصوبُ القول في ذلك أن يُعَمَّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشورٌ إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة, إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، ولم يخصص به حشرًا دون حشر.

فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: « ولا طائر يطير بجناحيه » ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟

قيل : قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنـزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: « كلمت فلانًا بفمي » , و « مشيت إليه برجلي » , و « ضربته بيدي » ، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم, ومن ذلك قوله تعالى ذكره : ( إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَي ) [ سورة ص: 23 ] .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 39 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته « صمٌّ » ، عن سماع الحق « بكم » ، عن القيل به « في الظلمات » ، يعني: في ظلمة الكفر حائرًا فيها, يقول: هو مرتطم في ظلمات الكفر, لا يبصر آيات الله فيعتبر بها, ويعلم أن الذي خلقه وأنشأه فدبَّره وأحكم تدبيره، وقدَّره أحسن تقدير، وأعطاه القوة، وصحح له آلة جسمه لم يخلقه عبثًا، ولم يتركه سدًى, ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلا لاستعمالها في طاعته وما يرضيه، دون معصيته وما يسخطه. فهو لحيرته في ظلمات الكفر، وتردّده في غمراتها, غافلٌ عمَّا الله قد أثبت له في أمّ الكتاب، وما هو به فاعلٌ يوم يحشر إليه مع سائر الأمم. ثم أخبر تعالى ذكره أنه المضِلّ من يشاء إضلالَه من خلقه عن الإيمان إلى الكفر، والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحبَّ هدايته، فموفّقه بفضله وطَوْله للإيمان به، وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه, وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أمّ الكتاب السعادة, ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء, وأنّ بيده الخير كلُّه, وإليه الفضل كله, له الخلق والأمر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « صم وبكم » ، هذا مثل الكافر، أصم أبكم, لا يبصر هدًى، ولا ينتفع به, صَمَّ عن الحق في الظلمات، لا يستطيع منها خروجًا، متسكِّع فيها.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 40 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في معنى قوله: « أرأيتكم » .

فقال بعض نحويي البصرة: « الكاف » التي بعد « التاء » من قوله: « أرأيتكم » إنما جاءت للمخاطبة, وتركت « التاء » مفتوحة كما كانت للواحد. قال: وهي مثل « كاف » « رويدك زيدًا » , إذا قلت: أرود زيدًا هذه « الكاف » ليس لها موضع مسمى بحرف، لا رفع ولا نصب, وإنما هي في المخاطبة مثل كاف « ذاك » . ومثل ذلك قول العرب: « أبصرَك زيدًا » , يدخلون « الكاف » للمخاطبة.

وقال آخرون منهم: معنى: « أرأيتكم إن أتاكم » ، أرأيتم. قال: وهذه « الكاف » تدخل للمخاطبة مع التوكيد, و « التاء » وحدها هي الاسم, كما أدخلت « الكاف » التي تفرق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة، كقولهم: « هذا, وذاك, وتلك, وأولئك » ، فتدخل « الكاف » للمخاطبة، وليست باسم, و « التاء » هو الاسم للواحد والجميع, تركت على حال واحدة, ومثل ذلك قولهم: « ليسك ثَمَّ إلا زيد » , يراد: ليس و « لا سِيَّك زيد » , فيراد: ولا سيما زيد و « بلاك » فيراد، « بلى » في معنى: « نعم » و « لبئسك رجلا ولنعمك رجلا » . وقالوا : « انظرك زيدًا ما أصنع به » و « أبصرك ما أصنع به » ، بمعنى: أبصره. وحكى بعضهم: « أبصركُم ما أصنع به » , يراد: أبصروا و « انظركم زيدًا » ، أي انظروا. وحكي عن بعض بني كلاب: « أتعلمك كان أحد أشعرَ من ذي الرمة؟ » فأدخل « الكاف » .

وقال بعض نحويي الكوفة: « أرأيتك عمرًا » أكثر الكلام فيه ترك الهمز. قال: و « الكاف » من « أرأيتك » في موضع نصب, كأن الأصل: أرأيت نفسك على غير هذه الحال؟ قال: فهذا يثني ويجمع ويؤنث, فيقال: « أرأيتما كما » و « أرأيتموكم » . و « وَأَرَأَيْتُنَّكُنَّ » ، أوقع فعله على نفسه, وسأله عنها, ثم كثر به الكلام حتى تركوا « التاء » موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع, فقالوا: « أرأيتكم زيدًا ما صنع » , و « أرأيتكنّ ما صنع » , فوحدوا التاء وثنوا الكاف وجمعوها، فجعلوها بدلا من « التاء » ، كما قال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [ سورة الحاقة: 19 ] ، و « هاء يا رجل » , و « هاؤما » , ثم قالوا: « هاكم » , اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع. فكأن « الكاف » في موضع رفع، إذ كانت بدلا من « التاء » . وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث, وهي كقول القائل: « عليك زيدًا » , « الكاف » في موضع خفض, والتأويل رفع. فأما ما يُجْلب فأكثر ما يقع على الأسماء, ثم تأتي بالاستفهام فيقال: « أرأيتك زيدًا هل قام » , لأنها صارت بمعنى: أخبرني عن زيد, ثم بيَّن عما يستخبر. فهذا أكثر الكلام. ولم يأت الاستفهام يليها. لم يقل: « أرأيتك هل قمت » , لأنهم أرادوا أن يبيِّنوا عمن يسأل, ثم تُبيّن الحالة التي يسأل عنها. وربما جاء بالجزاء ولم يأت بالاسم, فقالوا: « أرأيت إن أتيت زيدًا هل يأتينا » و « أرأيتك » أيضًا و « أرأيتُ زيدًا إن أتيته هل يأتينا » ، إذا كانت بمعنى: « أخبرني » , فيقال باللغات الثلاث.

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ: أخبروني، إن جاءكم، أيها القوم، عذاب الله, كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة, وبعضهم بالصاعقة أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم، وتبعثون لموقف القيامة, أغير الله هناك تدعون لكشف ما نـزل بكم من البلاء، أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نـزل بكم من عظيم البلاء؟ « إن كنتم صادقين » ، يقول: إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أنّ آلهتكم التي تدعونها من دون الله تنفع أو تضر.

 

القول في تأويل قوله : بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( 41 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مكذِّبًا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم، أيها المشركون بالله الآلهةَ والأندادَ، إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة، بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم, بل تدعون هناك ربّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره « فيكشف ما تدعون إليه » ، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه، عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرج ذلك عنكم, لأنه القادر على كل شيء، ومالك كل شيء، دون ما تدعونه إلهًا من الأوثان والأصنام « وتنسون ما تشركون » ، يقول: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها، ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه, فتجعلونه له ندًّا من وثن وَصنم, وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلهًا.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( 42 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: متوعدًا لهؤلاء العادلين به الأصنامَ ومحذِّرَهم أن يسلك بهم إن هم تمادَوا في ضلالهم سبيلَ من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا ومخبرًا نبيَّه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل : « لقد أرسلنا » ، يا محمد، « إلى أمم » ، يعني: إلى جماعات وقرون « من قبلك فأخذناهم بالبأساء » ، يقول: فأمرناهم ونهيناهم, فكذبوا رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا, فامتحناهم بالابتلاء « بالبأساء » , وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة « والضراء » ، وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام.

وقد بينا ذلك بشواهده ووجوه إعرابه في « سورة البقرة » ، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع.

وقوله: « لعلهم يتضرعون » يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إليّ, ويخلصوا لي العبادة, ويُفْردوا رغبتهم إليَّ دون غيري، بالتذلل منهم لي بالطاعة، والاستكانة منهم إليّ بالإنابة.

وفي الكلام محذوفٌ قد استغني بما دلّ عليه الظاهرمن إظهاره دون قوله: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم » ، وإنما كان سبب أخذه إياهم، تكذيبهم الرسل وخلافهم أمرَه لا إرسال الرسل إليهم. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن معنى الكلام: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك » رسلا فكذبوهم, « فأخذناهم بالبأساء » .

و « التضرع » : هو « التفعل » من « الضراعة » , وهي الذلة والاستكانة.

 

القول في تأويل قوله : فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 43 )

قال أبو جعفر: وهذا أيضًا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما تُرك. وذلك أنه تعالى ذكره أخبرَ عن الأمم التي كذّبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا له, ثم قال: « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » , ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأساء والضراء. ومعنى الكلام: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فلم يتضرعوا, « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » .

ومعنى: « فلولا » ، في هذا الموضع، فهلا. والعرب إذ أوْلَتْ « لولا » اسمًا مرفوعًا، جعلت ما بعدها خبرًا، وتلقتها بالأمر, فقالت: « فلولا أخوك لزرتك » و « لولا أبوك لضربتك » , وإذا أوْلتها فعلا أو لم تُولها اسمًا, جعلوها استفهامًا فقالوا: « لولا جئتنا فنكرمك » , و « لولا زرت أخاك فنـزورك » , بمعنى: « هلا » ، كما قال تعالى ذكره: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [ سورة المنافقون: 10 ] . وكذلك تفعل ب « لوما » مثل فعلها ب « لولا » .

فتأويل الكلام إذًا: فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذبة رسلَها، الذين لم يتضرعوا عند أخذِناهم بالبأساء والضراء « تضرعوا » ، فاستكانوا لربهم، وخضعوا لطاعته, فيصرف ربهم عنهم بأسه، وهو عذابه.

وقد بينا معنى « البأس » في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

« ولكن قست قلوبهم » ، يقول: ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم, وأصرُّوا على ذلك، واستكبروا عن أمر ربهم, استهانةً بعقاب الله، واستخفافًا بعذابه، وقساوةَ قلب منهم. « وزين لهم الشيطانُ ما كانوا يعملون » ، يقول: وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم.

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( 44 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » ، فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا، كالذي:-

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » ، يعني: تركوا ما ذكروا به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « نسوا ما ذكروا به » ، قال: ما دعاهم الله إليه ورسله, أبوْه وردُّوه عليهم.

« فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء » ، يقول: بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام، استدراجًا منَّا لهم، كالذي:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، قال: رخاء الدنيا ويُسْرها، على القرون الأولى.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، قال: يعني الرخاء وسعة الرزق .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط . عن السدي قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، يقول: من الرزق.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء » ، وقد علمت أن بابَ الرحمة وباب التوبة [ لم يفتحا لهم ] , لم تفتح لهم أبواب أخر غيرهما كثيرة؟

قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ من معناه, وإنما معنى ذلك: فتحنا عليهم، استدراجًا منا لهم، أبوابَ كل ما كنا سددنا عليهم بابه، عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا, إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله تعالى ذكره، لأنّ آخر هذا الكلام مردودٌ على أوله. وذلك كما قال تعالى ذكره في موضع آخر من كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، [ سورة الأعراف: 94- 95 ] ، ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية [ أنهم نسوا ما ] ذكرهم، بقوله: « فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، هو تبديله لهم مكانَ السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم، من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة, ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية, وهو « فتح أبواب كل شيء » كان أغلق بابه عليهم، مما جرى ذكره قبل قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، فردّ قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، عليه.

ويعني تعالى بقوله: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » ، يقول: حتى إذا فرح هؤلاء المكذّبون رسلهم بفتحنا عليهم أبوابَ السَّعة في المعيشة، والصحة في الأجسام، كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » ، من الرزق .

حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدّث، عن حماد بن زيد قال: كان رجل يقول: رَحم الله رجلا تلا هذه الآية، ثم فكر فيها ماذا أريد بها: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » .

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا ابن أبي رجاء رجل من أهل الشعر, عن عبد الله بن المبارك, عن محمد بن النضر الحارثي في قوله : « أخذناهم بغتة » ، قال: أُمهلوا عشرين سنة.

ويعني تعالى ذكره بقوله: « أخذناهم بغتة » ، أتيناهم بالعذاب فجأة، وهم غارُّون لا يشعرون أن ذلك كائن، ولا هو بهم حالٌّ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » ، قال: أعجبَ ما كانت إليهم، وأغَرَّها لهم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي « أخذناهم بغتة » ، يقول: أخذهم العذابُ بغتةً .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أخذناهم بغتة » ، قال: فجأة آمنين.

وأما قوله: « فإذا هم مبلسون » ، فإنهم هالكون, منقطعة حججهم, نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلَهم، كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط, عن السدي: « فإذا هم مبلسون » ، قال: فإذا هم مهلكون، متغيِّر حالهم.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ, عن مجاهد: « فإذا هم مبلسون » ، قال: الاكتئاب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فإذا هم مبلسون » ، قال: « المبلس » الذي قد نـزل به الشرّ الذي لا يدفعه. والمبلس أشد من المستكين, وقرأ: فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ، [ سورة المؤمنون: 76 ] . وكان أول مرة فيه معاتبة وبقيّة. وقرأ قول الله: « أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون » فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ، حتى بلغ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، ثم جاء أمرٌ ليس فيه بقية. وقرأ: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون » ، فجاء أمر ليس فيه بقية. وكان الأوّل، لو أنهم تضرعوا كُشف عنهم .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد, عن أبي شريح ضبارة بن مالك, عن أبي الصلت, عن حرملة أبي عبد الرحمن, عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الله يعطي عبدَه في دنياه, إنما هو استدراج. ثم تلا هذه الآية: « فلما نسوا ما ذكِّروا به » إلى قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

وحدثت بهذا الحديث عن محمد بن حرب, عن ابن لهيعة, عن عقبة بن مسلم, عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا رأيت الله تعالى ذكره يعطي العبادَ ما يسألون على معاصيهم إياه, فإنما ذلك استدراج منه لهم! ثم تلا « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » الآية.

وأصل « الإبلاس » في كلام العرب، عند بعضهم: الحزن على الشيء والندم عليه وعند بعضهم: انقطاع الحجة، والسكوت عند انقطاع الحجة وعند بعضهم: الخشوع وقالوا: هو المخذول المتروك, ومنه قول العجاج:

يَـا صَـاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ? قَــالَ: نَعَــمْ! أَعْرِفُــه! وَأَبْلَسَـا

فتأويل قوله: « وأبلسا » ، عند الذين زعموا أن « الإبلاس » ، انقطاع الحجة والسكوت عنده, بمعنى: أنه لم يُحِرْ جوابًا.

وتأوَّله الآخرون بمعنى الخشوع, وترك أهله إياه مقيمًا بمكانه.

والآخرون بمعنى الحزن والندم.

يقال منه: « أبلس الرجل إبلاسًا » , ومنه قيل: لإبليس « إبليس » .

 

القول في تأويل قوله : فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 45 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، فاستؤصل القوم الذين عَتَوا على ربهم، وكذّبوا رسله، وخالفوا أمره، عن آخرهم, فلم يترك منهم أحد إلا أهلك بغتةً إذ جاءهم عذاب الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، يقول: قُطع أصل الذين ظلموا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، قال: استؤصلوا.

و « دابر القوم » ، الذي يدبرُهم, وهو الذي يكون في أدبارهم وآخرهم. يقال في الكلام: « قد دَبَر القومَ فلانٌ يدبُرُهم دَبْرًا ودبورًا » ، إذا كان آخرهم, ومنه قول أمية:

فَــاُهْلِكُوا بِعَــذَابٍ حَـصَّ دَابِـرَهُمْ فَمَـا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلا انْتَصَرُوا

« والحمد لله رب العالمين » ، يقول: والثناء الكامل والشكر التام « لله رب العالمين » ، على إنعامه على رسله وأهل طاعته, بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر, وتحقيق عِدَاتِهم ما وَعدوهم على كفرهم بالله وتكذيبهم رسله من نقم الله وعاجل عذابه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( 46 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بي الأوثانَ والأصنامَ، المكذبين بك: أرأيتم، أيها المشركون بالله غيرَه، إن أصمَّكم الله فذهب بأسماعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم, وختم على قلوبكم فطبع عليها، حتى لا تفقهوا قولا ولا تبصروا حجة، ولا تفهموا مفهومًا, أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد « يأتيكم به » ، يقول: يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام، فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم، وعلى ردّه عليكم إذا شاء ؟

وهذا من الله تعالى ذكره، تعليم نبيَّه الحجة على المشركين به, يقول له: قل لهم: إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا, وإنما يستحق العبادةَ عليكم من كان بيده الضر والنفع، والقبض والبسط, القادرُ على كل ما أراد، لا العاجز الذي لا يقدر على شيء.

ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « انظر كيف نصرف الآيات » ، يقول : انظر كيف نتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال والعبر، ليعتبروا ويذكروا فينيبوا، « ثم هم يصدفون » ، يقول: ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج، وتنبيهنا إياهم بالعبر، عن الادّكار والاعتبار يُعْرضون.

يقال منه: « صدف فلانٌ عني بوجهه، فهو يصدِفُ صُدوفًا وصَدفًا » ، أي: عدل وأعرض, ومنه قول ابن الرقاع:

إِذَا ذَكَــرْنَ حَدِيثًــا قُلْـنَ أَحْسَـنَهُ, وَهُـنَّ عَـنْ كُـلِّ سُـوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ

وقال لبيد:

يُـرْوِي قَـوامِحَ قَبْـلَ اللَّيْـلِ صَادِفَـةً أَشْــبَاهَ جِـنّ, عَلَيْهَـا الـرَّيْطُ وَالأزُرُ

فإن قال قائل: وكيف قيل: « من إله غير الله يأتيكم به » ، فوحّد « الهاء » , وقد مضى الذكر قبلُ بالجمع فقال: « أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم » ؟

قيل: جائز أن تكون « الهاء » عائدة على « السمع » , فتكون موحّدة لتوحيد « السمع » وجائز أن تكون معنيًّا بها: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة, فتكون موحده لتوحيد « ما » . والعرب تفعل ذلك، إذا كنتْ عن الأفعال وحّدت الكناية، وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل, كقولهم: « إقبالك وإدبارك يعجبني » .

وقد قيل: إن « الهاء » التي في « به » كناية عن « الهدى » .

وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: « يصدفون » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « يصدفون » ، قال: يعرضون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يصدفون » ، قال: يعدلون.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « نصرف الآيات ثم هم يصدفون » ، قال: يعرضون عنها.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم هم يصدفون » ، قال: يصدُّون .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( 47 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ، المكذبين بأنك لي رسول إليهم: أخبروني « إن أتاكم عذاب الله » ، وعقابه على ما تشركون به من الأوثان والأنداد, وتكذيبكم إيايَ بعد الذي قد عاينتم من البرهان على حقيقة قولي « بغتة » ، يقول: فجأة على غرة لا تشعرون « أو جهرة » ، يقول: أو أتاكم عذاب الله وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه « هل يهلك إلا القوم الظالمون » ، يقول: هل يهلك الله منا ومنكم إلا من كان يعبد غير من يستحق علينا العبادة، وترك عبادة من يستحق علينا العبادة ؟

وقد بينا معنى « الجهرة » في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته، وأنها من « الإجهار » , وهو إظهار الشيء للعين، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « جهرة » ، قال: وهم ينظرون .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة » ، فجأة آمنين « أو جهرة » ، وهم ينظرون .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 48 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نرسل رسلنا إلا ببشارة أهل الطاعة لنا بالجنة والفوز المبين يوم القيامة, جزاءً منَّا لهم على طاعتنا وبإنذار من عصَانا وخالف أمرنا, عقوبتنا إياه على معصيتنا يوم القيامة, جزاءً منا على معصيتنا, لنعذر إليه فيهلك إن هلك عن بينة « فمن آمن وأصلح » ، يقول: فمن صدَّق من أرسلنا إليه من رسلنا إنذارهم إياه, وقبل منهم ما جاؤوه به من عند الله، وعمل صالحًا في الدنيا « فلا خوف عليهم » ، عند قدومهم على ربهم، من عقابه وعذابه الذي أعدَّه الله لأعدائه وأهل معاصيه « ولا هم يحزنون » ، عند ذلك على ما خلَّفوا وراءَهم في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 49 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين كذَّبوا بمن أرسلنا إليه من رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا، ودافعوا حجتنا, فإنهم يباشرهم عذابُنا وعقابنا، على تكذيبهم ما كذبوا به من حججنا « بما كانوا يفسقون » ، يقول: بما كانوا يكذّبون.

وكان ابن زيد يقول: كل « فسق » في القرآن, فمعناه الكذب.

حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ( 50 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المنكرين نبوّتك: لستُ أقول لكم إنّي الرب الذي له خزائنُ السماوات والأرض، وأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء, فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون ربًّا إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية, وذلك هو الله الذي لا إله غيره « ولا أقول لكم إني ملك » ، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرًا بصورته لأبصار البشر في الدنيا, فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك « إن أتبع إلا ما يوحى إليّ » ، يقول: قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ، وتنـزيله الذي ينـزله عليّ, فأمضي لوحيه وأئتمر لأمره, وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك, وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه، بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة, فما وجه إنكاركم ذلك؟

وذلك تنبيه من الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على موضع حُجته على منكري نبوّته من مشركي قومه.

« قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهم: هل يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به « والأعمى » ، هو الكافر الذي قد عَمى عن حجج الله فلا يتبيَّنها فيتبعها « والبصير » ، المؤمن الذي قد أبصرَ آيات الله وحججه، فاقتدى بها واستضاء بضيائها « أفلا تتفكرون » ، يقول لهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتجّ عليكم به، أيها القوم، من هذه الحجج, فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه، من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الأوثان والأنداد بالله ربّكم، وتكذيبكم إياي مع ظهور حجج صدقي لأعينكم, فتدعوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون، إلى ما أدعوكم إليه من الإيمان الذي به تفوزون؟

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، قال: الضال والمهتدي.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، الآية، قال: « الأعمى » ، الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه و « البصير » ، العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا, فوحّد الله وحده, وعمل بطاعة ربه, وانتفع بما آتاه الله.

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 51 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر، يا محمد، بالقرآن الذي أنـزلناه إليك، القومَ الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، علمًا منهم بأن ذلك كائن، فهم مصدقون بوعد الله ووعيده, عاملون بما يرضي الله, دائبون في السعي، فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله

« ليس لهم من دونه وليّ » ، أي ليس لهم من عذاب الله إن عذبهم ، « وليّ » ، ينصرهم فيستنقذهم منه، « ولا شفيع » ، يشفع لهم عند الله تعالى ذكره فيخلصهم من عقابه « لعلهم يتقون » ، يقول: أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم, فيطيعوا ربهم، ويعملوا لمعادهم, ويحذروا سَخطه باجتناب معاصيه.

وقيل: « وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا » ، ومعناه: يعلمون أنهم يحشرون, فوضعت « المخافة » موضع « العلم » ، لأنّ خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك.

وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه ما أنـزل الله إليه من وحيه، وتذكيرهم، والإقبال عليهم بالإنذار وصدَّ عنه المشركون به، بعد الإعذار إليهم، وبعد إقامة الحجة عليهم, حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( 52 )

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين، قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك!

* ذكر الرواية بذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو زبيد, عن أشعث, عن كردوس الثعلبي, عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وعمار وبلال وخبّاب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك! فنـزلت هذه الآية : « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ، إلى آخر الآية.

.........حدثنا جرير, عن أشعث, عن كردوس الثعلبي, عن عبد الله قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن كردوس, عن ابن عباس قال: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ من قريش, ثم ذكر نحوه.

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي سعد الأزدي وكان قارئ الأزد ، عن أبي الكنود, عن خبّاب, في قول الله تعالى ذكره: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » إلى قوله: « فتكون من الظالمين » ، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ, فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب, في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حوله حَقَروهم , فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا العرب به فضلَنا, فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد, فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا, فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابًا. قال: فدعا بالصحيفة, ودعا عليًّا ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية, إذ نـزل جبريل بهذه الآية: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين » , ثم قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ , ثم قال: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفةَ من يده, ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ! فكنا نقعد معه, فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا, فأنـزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، [ سورة الكهف: 28 ] . قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد, فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي سعيد الأزدي, عن أبي الكنود, عن خباب بن الأرت بنحو حديث الحسين بن عمرو، إلا أنه قال في حديثه: فلما رأوهم حوله نفّروهم, فأتوه فخلَوا به. وقال أيضًا: « فتكون من الظالمين » , ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية. وقال أيضًا: فدعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، فدنونا منه يومئذ حتى وَضعنا ركبنا على ركبتيه وسائر الحديث نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والكلبي: أنّ ناسًا من كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرَّك أن نتبعك، فاطرد عنا فلانًا وفلانًا، ناسًا من ضعفاء المسلمين! فقال الله تعالى ذكره: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ » إلى قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية، قال: وقد قال قائلون من الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانًا وفلانًا لأناس كانوا دونهم في الدنيا، ازدراهم المشركون، فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية إلى آخرها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، بلال وابن أم عبد، كانا يجالسان محمدًا صلى الله عليه وسلم, فقالت قريش محقِّرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه! فنُهي عن طردهم, حتى قوله : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ، قال: « قل سلام عليكم » ، فيما بين ذلك، في هذا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان, عن المقدام بن شريح, عن أبيه قال، قال سعد: نـزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, منهم ابن مسعود، قال: كنا نسبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وندنو منه ونسمع منه, فقالت قريش: يدني هؤلاء دوننا! فنـزلت: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عديّ، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءَنا, فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا, كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له! قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به, فقال عمر بن الخطاب: لو فعلتَ ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم؟ فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ، قال: وكانوا: بلال، وعمارُ بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد ومن الحلفاء: ابن مسعود, والمقداد بن عمرو, ومسعود بن القاريّ, وواقد بن عبد الله الحنظلي, وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين, ومرثد بن أبي مرثد وأبو مرثد، من غنيّ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب وأشباههم من الحلفاء. ونـزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الآية. فلما نـزلت، أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مَقالته, فأنـزل الله تعالى ذكره: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، الآية.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحيي من الله أن يرَاني مع سلمان وبلال وذَوِيهم, فاطردهم عنك، وجالس فلانًا وفلانًا! قال فنـزل القرآن: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » فقرأ، حتى بلغ: « فتكون من الظالمين » ، ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلا أن تطردهم . ثم قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ . ثم قال: وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم، فأبلغهم منّي السلام، وبشرهم وأخبرهم أني قد غفرت لهم! وقرأ: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، فقرأ حتى بلغ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ، قال: لتعرفها.

واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرَّهط، الذين نهى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، يدعون ربّهم به.

فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ » ، يعني: يعبدون ربّهم « بالغداة والعشيّ » , يعني: الصلوات المكتوبة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أبي حمزة, عن إبراهيم في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، قال: هي الصلوات الخمس الفرائض. ولو كان ما يقول القُصَّاص، هلك من لم يجلس إليهم.

حدثنا هناد بن السري وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل, عن الأعمش, عن إبراهيم: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، قال: هي الصلاة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، الصلاة المفروضة، الصبح والعصر.

حدثني محمد بن موسى بن عبد الرحمن الكندي قال، حدثنا حسين الجعفي قال، أخبرني حمزة بن المغيرة, عن حمزة بن عيسى قال: دخلت على الحسن فسألته فقلت: يا أبا سعيد, أرأيت قول الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، أهم هؤلاء القُصّاص؟ قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ورقاء جميعًا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: الصلاة المكتوبة .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: يعبدون ربّهم « بالغداة والعشي » ، يعني الصلاة المفروضة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، هما الصلاتان: صلاة الصبح وصلاة العصر .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، حدثنا محمد بن عجلان , عن نافع, عن عبد الله بن عمر في هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية, أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد وإبراهيم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، قالا الصلوات الخمس.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: المصلين المؤمنين، بلال وابن أم عبد قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب, فلما سلّم الإمام ابتدر الناس القاصَّ, فقال سعيد: ما أسرعَ بهم إلى هذا المجلس! قال مجاهد: فقلت يتأولون ما قال الله تعالى ذكره. قال: وما قال؟ قلت: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: وفي هذا ذَا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن, إنما ذاك في الصلاة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع, عن أبيه, عن منصور, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: الصلاة المكتوبة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: هي الصلاة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن أبيه, عن إسرائيل, عن عامر قال: هي الصلاة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، يقول: صلاة الصبح وصلاة العصر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال: صلى عبد الرحمن بن أبي عمرة في مسجد الرسول, فلما صلى قامَ فاستند إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم, فانثال الناس عليه, فقال: يا أيها الناس، إليكم! فقيل: يرحمك الله, إنما جاؤوا يريدون هذه الآية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] . فقال: وهذا عُنِي بهذا! إنما هو في الصلاة.

وقال آخرون: هي الصلاة، ولكن القوم لم يسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طردَ هؤلاء الضعفاء عن مجلسه، ولا تأخيرهم عن مجلسه, وإنما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأول، حتى يكونوا وراءهم في الصفّ .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية, فهم أناس كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقراء, فقال أناس من أشراف الناس: نؤمن لك, وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك فليصلُّوا خلفنا!

وقال آخرون: بل معنى « دعائهم » كان، ذكرُهم الله تعالى ذكره .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: أهل الذكر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: هم أهل الذكر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: لا تطردهم عن الذكر.

وقال آخرون: بل كان ذلك، تعلمهم القرآن وقراءته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، قال: كان يقرئهم القرآن، من الذي يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم؟!

وقال آخرون: بل عنى بدعائهم ربّهم، عبادتهم إياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: يعني: يعبدون, ألا ترى أنه قال: لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ سورة غافر: 43 ] ، يعني: تعبدون.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يطرُد قومًا كانوا يدعون ربّهم بالغداة والعشي، و « الدعاء لله » ، يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلامًا وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمالَ التي كان عليهم فرضُها، وغيرُها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابدَه بما هو عامل له. وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها, فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي, لأن الله قد سمى « العبادة » ، « دعاء » , فقال تعالى ذكره: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ، [ سورة غافر: 60 ] . وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء.

ولا قول أولى بذلك بالصحة، من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، فيعمُّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم، ولا يخصُّون منها بشيء دون شيء.

فتأويل الكلام إذًا: يا محمد، أنذر القرآن الذي أنـزلته إليك, الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير, في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنـزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك، استكبارًا على الله ولا تطردهم ولا تُقْصِهم, فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه, وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناؤه، فإن الذين نهيتُك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألونه عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوّعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي, يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنوّ من رضاه « ما عليك من حسابهم من شيء » ، يقول: ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء « فتطردهم » ، حذارَ محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق.

وقوله: « فتطردهم » ، جواب لقوله: « ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء » .

وقوله: « فتكون من الظالمين » جواب لقوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم » .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( 53 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، وكذلك اختبرنا وابتلينا، كالذي:-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يقول: ابتلينا بعضهم ببعض.

وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى « الفتنة » , وأنها الاختبار والابتلاء, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما فتنة الله تعالى ذكره بعضَ خلقه ببعضٍ, مخالفتُه بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضًا غنيًّا وبعضًا فقيرًا، وبعضًا قويًّا، وبعضًا ضعيفًا, فأحوج بعضهم إلى بعض, اختبارًا منه لهم بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء, فقال الأغنياء للفقراء: « أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسُخريًّا.

وأما قوله: « ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يقول تعالى: اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعزّ والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال, كي يقول من أضلّه الله وأعماه عن سبيل الحق، للذين هداهم الله ووفقهم: « أهؤلاء منّ الله عليهم » ، بالهدى والرشد، وهم فقراء ضعفاء أذلاء « من بيننا » ، ونحن أغنياء أقوياء؟ استهزاءً بهم, ومعاداةً للإسلام وأهله.

يقول تعالى ذكره: « أليس الله بأعلم بالشاكرين » ، وهذا منه تعالى ذكره إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق, وخذلهم عنه وهم أغنياء وتقريرٌ لهم: أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرًا نعمتي، ممن هو لها كافر. فمنِّي على من مَنَنْتُ عليه منهم بالهداية، جزاء شكره إياي على نعمتي, وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحدٌ إلا جزاءً على عمله الذي اكتسبه، لا على غناه وفقره, لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 54 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية.

فقال بعضهم: عنى بها الذين نهى الله نبيَّه عن طردهم. وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه.

وقال آخرون: عنَى بها قومًا استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظامٍ, فلم يؤيسهم الله من التوبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان, عن مجمع قال، سمعت ماهان قال: جاء قوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبًا عظامًا. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئًا. قال: فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » الآية.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن مجمع, عن ماهان: أنّ قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا! فما إخاله ردّ عليهم شيئًا, فانصرفوا فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » . قال: فدعاهم فقرأها عليهم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن مجمّع التميمي قال، سمعت ماهان يقول: فذكر نحوه.

وقال آخرون: بل عُني بها قومٌ من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم , فكان ذلك منهم خطيئة, فغفرها الله لهم وعفا عنهم, وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد, وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية, قولُ من قال: المعنيُّون بقوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » ، غيرُ الذين نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم. لأن قوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا » ، خبر مستأنَفٌ بعد تقضِّي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم. ولو كانوا هم، لقيل: « وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم » . وفي ابتداء الله الخبرَ عن قصة هؤلاء، وتركه وصلَ الكلام بالخبر عن الأولين، ما ينبئ عن أنهم غيرُهم.

فتأويل الكلام إذًا إذ كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك، يا محمد، القومُ الذين يصدِّقون بتنـزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرّون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم, هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها, وقل لهم: « سلام عليكم » ، أَمَنَةُ الله لكم من ذنوبكم، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تابَ من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك:

فقرأته عامة قرأة المدنيين: ( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا ) ، فيجعلون « أنّ » منصوبةً على الترجمة بها عن « الرحمة » ( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، على ائتناف « إنه » بعد « الفاء » فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها, بمعنى: فهو له غفور رحيم أو: فله المغفرة والرحمة.

وقرأهما بعض الكوفيين بفتح « الألف » منهما جميعًا, بمعنى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ثم ترجم بقوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ، عن الرحمة، ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، فيعطف ب « أنه » الثانية على « أنه » الأولى, ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت.

وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة: بكسر « الألف » من « إنه » و « إنه » على الابتداء, وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما.

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأهما بالكسر: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ ) ، على ابتداء الكلام, وأن الخبر قد انتهى عند قوله: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعلٌ تعالى ذكره بمن عمل سوءًا بجهالة ثم تاب وأصلح منه.

ومعنى قوله: « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، أنه من اقترف منكم ذنبًا, فجهل باقترافه إياه ثم تاب وأصلح « فأنه غفورٌ » ، لذنبه إذا تاب وأناب، وراجع العمل بطاعة الله، وترك العود إلى مثله، مع الندم على ما فرط منه « رحيم » ، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عثمان, عن مجاهد: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: من جهل: أنه لا يعلم حلالا من حرام, ومن جهالته ركب الأمر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: « يعملون السوء بجهالة » ، قال: من عمل بمعصية الله, فذاك منه جهل حتى يرجع .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا بكر بن خنيس, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( 55 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نفصل الآيات » ، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد، إلى هذا الموضع، حجتَنا على المشركين من عبدة الأوثان، وأدلتَنا, وميَّزناها لك وبيَّناها, كذلك نفصِّل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم, فنبينها لك، حتى تبين حقه من باطله، وصحيحهُ من سقيمه.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ولتستبين سبيل المجرمين » .

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلَ الْمُجِرمِينَ ) بنصب « السبيل » , على أن « تستبين » ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيل المجرمين.

وكان ابن زيد يتأول ذلك: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيلَ المجرمين الذين سألوك طردَ النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن ريد : « ولتستبين سبيلَ المجرمين » ، قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء .

وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصرين: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » ، على أن القصد للسبيل, ولكنه يؤنثها وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصل الآيات، ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين.

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( وَلِيَسْتَبِينَ ) بالياء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » على أن الفعل للسبيل، ولكنهم يذكرونه ومعنى هؤلاء في هذا الكلام, ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: « ولتستبين » ورفع « السبيل » ، واحدٌ, وإنما الاختلاف بينهم في تذكير « السبيل » وتأنيثها.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندي في « السبيل » الرفع, لأن الله تعالى ذكره فصَّل آياته في كتابه وتنـزيله, ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ من خوطب بها, لا بعضٌ دون بعض.

ومن قرأ « السبيل » بالنصب, فإنما جعل تبيين ذلك محصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما القراءة في قوله: « ولتستبين » ، فسواء قرئت بالتاء أو بالياء, لأن من العرب من يذكر « السبيل » وهم تميم وأهل نجد ومنهم من يؤنث « السبيل » وهم أهل الحجاز. وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب, وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلافٌ لقراءته بالأخرى، ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع « السبيل » للعلة التي ذكرنا.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « نفصل الآيات » قال أهل التأويل.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وكذلك نفصل الآيات » ، نبين الآيات .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في : « نفصل الآيات » ، نبين.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 56 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين بربّهم من قومِك, العادلين به الأوثان والأنداد, الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إنّ الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه, فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك، ولا أوافقكم عليه, ولا أعطيكم محبّتكم وهواكم فيه. وإن فعلت ذلك، فقد تركت محجَّة الحق، وسلكت على غير الهدى, فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة.

وللعرب في « ضللت » لغتان: فتح « اللام » وكسرها, واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها, وبها قرأ عامة قرأة الأمصار, وبها نقرأ لشهرتها في العرب. وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها، والقراأة بها قليلون. فمن قال « ضَلَلتُ » قال: « أَضِلُّ » , ومن قال « ضَلِلتُ » قال في المستقبل « أَضَلُّ » . وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا بفتح اللام [ سورة السجدة: 10 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( 57 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم, الداعين لك إلى الإشراك بربك « إني على بيّنة من ربي » ، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي « من ربي » ، يقول: من توحيدي, وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته من غير إشراك شيء به.

وكذلك تقول العرب: « فلان على بينة من هذا الأمر » ، إذا كان على بيان منه, ومن ذلك قول الشاعر:

أَبَيِّنَــةً تَبْغُــونَ بَعْــدَ اعْتِرَافِــهِ وقَــوْلِ سُـوَيْدٍ قَـدْ كَفَيْتُكُـمُ بِشْـرَا

« وكذبتم به » يقول: وكذبتم أنتم بربكم و « الهاء » في قوله « به » من ذكر الرب جلّ وعز « ما عندي ما تستعجلون به » ، يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي, ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده, فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [ سورة الأنبياء: 3 ] . وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام . وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأولون فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك, وإنما أنت رسول, وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به, وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل « وهو خير الفاصلين » ، أي: وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم, لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة, ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور, فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين.

وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: ( وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أنه قال: في قراءة عبد الله: ( يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يقصُّ الحق » .

فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة: « إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ » ، بالصاد، بمعنى « القصص » ، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [ سورة يوسف: 3 ] . وذكر ذلك عن ابن عباس.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال، « يقص الحق » , وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة: ( إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ ) بالضاد، من « القضاء » ، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، واعتبروا صحة ذلك بقوله: « وهو خير الفاصلين » ، وأن « الفصل » بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص.

وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة.

فمعنى الكلام إذًا: ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم, إلا الله الذي لا يجور في حكمه, وبيده الخلق والأمر, يقضي الحق بيني وبينكم, وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( 58 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأوثان، المكذبيك فيما جئتهم به, السائليك أن تأتيهم بآية استعجالا منهم بالعذاب: لو أنّ بيدي ما تستعجلون به من العذاب « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، ففصل ذلك أسرع الفصل، بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه, ولكن ذلك بيد الله، الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين، الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلا لله في غير موضعها، فيعبدون من دونه الآلهة والأصنام, وهو أعلم بوقت الانتقام منهم، وحالِ القضاء بيني وبينهم.

وقد قيل: معنى قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، بذبح الموت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن ابن جريج قال، بلغني في قوله: « لقضي الأمر » ، قال : ذبح الموت .

وأحسب أن قائل هذا القول، نـزع لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [ سورة مريم: 39 ] ، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدل على معنى ما قاله هذا القائل في « قضاء الأمر » , وليس قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » من ذلك في شيء, وإنما هذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصلَ القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي، لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك, ولكنه بيد من هو أعلم بما يُصلح خلقه، منّي ومن جميع خلقه .

 

القول في تأويل قوله : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

قال أبو جعفر: يقول: وعند الله مفاتح الغيب.

و « المفاتح » : جمع « مِفْتَح » , يقال فيه: « مِفْتح » و « مِفْتَاح » . فمن قال: « مِفْتَح » ، جمعه « مفاتح » , ومن قال: « مفتاح » ، جمعه « مفاتيح » .

ويعني بقوله: « وعنده مفاتح الغيب » ، خزائن الغيب, كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال، يقول: خزائن الغيب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن مسعر, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن سلمة, عن ابن مسعود قال: أعطي نبيُّكم كل شيءٍ إلا مفاتح الغيب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال: هن خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَـزِّلُ الْغَيْثَ إلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ سورة لقمان: 34 ] .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم بالظالمين من خلقه، وما هم مستحقُّوه وما هو بهم صانع, فإنّ عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه، ولن يعلموه ولن يدركوه « ويعلم ما في البر والبحر » ، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم, لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد. فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غابَ عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثرَ بعلمه نفسَه, ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعُكم, لا يخفى عليه شيء, لأنه لا شيءَ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد, وذلك هو الغيب.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 59 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها « ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » ، يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو ممّا سيوجد ولم يوجد بعد, إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ, مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عددُه ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحالُ التي يفنى فيها.

ويعني بقوله: « مبين » ، أنه يبين عن صحة ما هو فيه، بوجود ما رُسم فيه على ما رُسم.

فإن قال قائل: وما وجهُ إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين، ما لا يخفى عليه, وهو بجميعه عالم لا يُخَاف نسيانَه؟

قيل له : لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانًا منه لحفَظَته، واختبارًا للمتوكلين بكتابة أعمالهم, فإنهم فيما ذُكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ, حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم. وقيل إن ذلك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سورة الجاثية: 29 ] . وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به, إمّا بحجة يحتج بها على بعض ملائكته، وأما على بني آدم وغير ذلك، وقد:-

حدثني زياد بن يحيى الحسّاني أبو الخطاب قال، حدثنا مالك بن سعير قال، حدثنا الأعمش, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرِز إبرة, إلا عليها ملك موكّل بها يأتي الله بعلمها: يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رَطبت.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وقل لهم، يا محمد, والله أعلم بالظالمين، والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم « ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، يقول: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار.

ومعنى « التوفي » ، في كلام العرب استيفاء العدد, كما قال الشاعر:

إِنَّ بَنِــي الأدْرَم لَيْسُــوا مِـنْ أَحَـدْ وَلا تَوَفَّــاهُمْ قُــرَيْشٌ فِـي العَـدَدْ

بمعنى: لم تدخلهم قريش في العدد.

وأما « الاجتراح » عند العرب، فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه, وهي « الجوارح » عندهم، جوارح البدن فيما ذكر عنهم. ثم يقال لكل مكتسب عملا « جارح » , لاستعمال العرب ذلك في هذه « الجوارح » , ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكل مكتسب كسبًا، بأيّ أعضاء جسمه اكتسب: « مجترِح » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، أما « يتوفاكم بالليل » ففي النوم وأما « يعلم ما جرحتم بالنهار » ، فيقول: ما اكتسبتم من الإثم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، يعني: ما اكتسبتم من الإثم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ما جرحتم بالنهار » ، قال: ما عملتم بالنهار .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله : « وهو الذي يتوفاكم بالليل » ، يعني بذلك نومهم « ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، أي: ما عملتم من ذنب فهو يعلمه, لا يخفى عليه شيء من ذلك.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، قال: أمّا وفاته إياهم بالليل، فمنامهم وأما « ما جرحتم بالنهار » ، فيقول: ما اكتسبتم بالنهار.

قال أبو جعفر: وهذا الكلام وإن كان خبرًا من الله تعالى عن قدرته وعلمه, فإنّ فيه احتجاجًا على المشركين به، الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم. فقال تعالى ذكره محتجًا عليهم: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ) ، يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار, لتبلغوا أجلا مسمى، وأنتم ترون ذلك وتعلمون صحّته, غير منكرٍ له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم، ثم ردِّها إلى أجسادكم، وإنشائكم بعد مماتكم, فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون, وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك، القدرةُ على ما لم تعاينوه. وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك، شبيه ما رأيتم وعاينتم.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 60 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « ثم يبعثكم » , يثيركم ويوقظكم من منامكم « فيه » يعني في النهار، و « الهاء » التي في « فيه » راجعة على « النهار » « ليقضى أجلٌ مسمى » ، يقول: ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم, وذلك الموت, فيبلغ مدته ونهايته « ثم إليه مرجعكم » ، يقول: ثم إلى الله معادكم ومصيركم « ثم ينبئكم بما كنتم تعملون » ، يقول: ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا, ثم يجازيكم بذلك, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: في النهار.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ثم يبعثكم فيه » ، في النهار, و « البعث » ، اليقظة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: بالنهار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: يبعثكم في المنام.

« ليقضى أجل مسمى » ، وذلك الموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليقضى أجل مسمى » ، وهو الموت .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ليقضى أجل مسمى » ، قال: هو أجل الحياة إلى الموت .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « ليقضى أجل مسمى » ، قال: مدّتهم .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ( 61 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وهو القاهر » ، والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته, لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم، المذلَّل المعْلُوّ عليه لذلته « ويرسل عليكم حفظة » ، وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارًا, يحفظون أعمالكم ويحصونها, ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يُضيعون.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « ويرسل عليكم حفظة » ، قال: هي المعقبات من الملائكة, يحفظونه ويحفظون عمله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، يقول: حفظة، يا ابن آدم، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك، إذا توفَّيت ذلك قبضت إلى ربك « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم برسل يعقِّب بينها، يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم، إلى أن يحضركم الموت، وينـزل بكم أمر الله, فإذا جاء ذلك أحدكم، توفاه أملاكنا الموكَّلون بقبض الأرواح، ورسلنا المرسلون به « وهم لا يفرطون » ، في ذلك فيضيعونه.

فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت, فكيف قيل: « توفته رسلنا » ، « والرسل » جملة وهو واحد ؟ أو ليس قد قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [ سورة السجدة: 11 ] ؟

قيل: جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده, فيتولون ذلك بأمر ملك الموت, فيكون « التوفي » مضافًا وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتلُ من قتل أعوانُ السلطان وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان، إلى السلطان, وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده.

وقد تأول ذلك كذلك جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم في قوله: « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: كان ابن عباس يقول: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله في قوله: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: سئل ابن عباس عنها فقال: إن لملك الموت أعوانًا من الملائكة .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم في قوله: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: أعوان ملك الموت.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: الرسل توفَّى الأنفس, ويذهب بها ملك الموت.

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن ابن عباس: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، أعوان ملك الموت من الملائكة.

[ حدثنا هناد قال، حدثنا حفص, عن الحسن بن عبيد الله, عن ابن عباس : « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » . قال: أعوان ملك الموت من الملائكة ] .

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « توفته رسلنا » ، قال: هم الملائكة أعوان ملك الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « توفته رسلنا » ، قال: إن ملك الموت له رسل، فيرسل ويرفع ذلك إليه وقال الكلبي: إن ملك الموت هو يلي ذلك, فيدفعه، إن كان مؤمنًا، إلى ملائكة الرحمة, وإن كان كافرًا إلى ملائكة العذاب .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « توفته رسلنا » ، قال: يلي قبضَها الرسل, ثم يدفعونها إلى ملك الموت .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور عن إبراهيم في قوله: « توفته رسلنا » ، قال: تتوفاه الرسل, ثم يقبض منهم ملك الموت الأنفس قال الثوري: وأخبرني الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم قال: هم أعوان لملك الموت قال الثوري: وأخبرني رجل، عن مجاهد قال: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء, وجعلت له أعوان يتوفَّون الأنفس ثم يقبضها منهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن ابن عباس في قوله: « توفته رسلنا » ، قال : أعوان ملك الموت من الملائكة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم قال: الملائكة أعوان ملك الموت .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « توفته رسلنا » ، قال: يتوفونه, ثم يدفعونه إلى ملك الموت .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه قال : سألت الربيع بن أنس عن ملك الموت, أهو وحده الذي يقبض الأرواح ، قال: هو الذي يلي أمرَ الأرواح, وله أعوان على ذلك, ألا تسمع إلى قول الله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ؟ [ سورة الأعراف: 37 ] . وقال: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، غير أن ملك الموت هو الذي يسير كل خطوة منه من المشرق إلى المغرب. قلت: أين تكون أرواح المؤمنين؟ قال: عند السدرة في الجنة .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا محمد بن مسلم, عن إبراهيم بن ميسرة, عن مجاهد قال: ما من أهل بيت شَعَرٍ ولا مَدَرٍ إلا وملك الموت يُطيف بهم كل يوم مرتين .

وقد بينا أن معنى « التفريط » ، التضييع, فيما مضى قبل. وكذلك تأوله المتأوّلون في هذا الموضع .

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وهم لا يفرطون » ، يقول: لا يضيعون.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم لا يفرطون » ، قال: لا يضيعون .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( 62 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم ردت الملائكة الذين توفَّوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم، إلى الله سيدهم الحق، « ألا له الحكم » ، يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه « وهو أسرعُ الحاسبين » ، يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم، أيها الناس, وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها, لأنه لا يحسب بعقد يد, ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية, و لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ سورة سبأ: 3 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 63 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم « من ظلمات البر » ، إذا ضللتم فيه فتحيَّرتم، فأظلم عليكم الهدى والمحجة ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه، فأخطأتم فيه المحجة، فأظلم عليكم فيه السبيل، فلا تهتدون له غير الله الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء « تضرعًا » ، منكم إليه واستكانة جهرًا « وخفية » ، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا, وإعلانًا وإظهارًا تقولون: لئن أنجيتنا من هذه يا رب أي من هذه الظلمات التي نحن فيها « لنكونن من الشاكرين » ، يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة، دون من كنا نشركه معك في عبادتك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعيد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية » ، يقول: إذا أضل الرجل الطريق، دعا الله: « لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر » ، يقول: من كرْب البر والبحر.

 

القول في تأويل قوله : قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 64 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة، إذا أنت استفهمتهم عمن به يستعينون عند نـزول الكرب بهم في البر والبحر: الله القادرُ على فَرَجكم عند حلول الكرب بكم, ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من همّ الضلال وخوف الهلاك، ومن كرب كل سوى ذلك وهمّ لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته, ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه, التي لا تقدر لكم على نفع ولا ضرّ, ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب، ودفع الحالِّ بكم من جسيم الهم، تعدلون به آلهتكم وأصنامكم، فتشركونها في عبادتكم إياه. وذلك منكم جهل بواجب حقه عليكم، وكفر لأياديه عندكم، وتعرضٌ منكم لإنـزال عقوبته عاجلا بكم.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الأصنام والأوثان، يا محمد: إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كل كرب، ثم تعودون للإشراك به, هو القادر على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم, لشرككم به، وادّعائكم معه إلهًا آخر غيره، وكفرانكم نعمه، مع إسباغه عليكم آلاءه ومِنَنه.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى « العذاب » الذي توعد الله به هؤلاء القوم أن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم.

فقال بعضهم: أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم، فالرجم. وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم، فالخسف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: عذابًا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، قال: الخسف.

حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن الأشجعي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك وسعيد بن جبير, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سلمة, عن شبل, عن ابن نجيح, عن مجاهد: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » ، قال الخسف .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، فعذاب السماء « أو من تحت أرجلكم » ، فيخسف بكم الأرض .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » قال: كان ابن مسعود يصيح وهو في المجلس أو على المنبر: ألا أيها الناس، إنه نـزل بكم. إن الله يقول: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد « أو من تحت أرجلكم » ، لو خسف بكم الأرض أهلككم، لم يبق منكم أحد أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، ألا إنه نـزل بكم أسوأ الثلاث.

وقال آخرون: عنى بالعذاب من فوقكم، أئمةَ السوء « أو من تحت أرجلكم » ، الخدم وسِفلة الناس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت خلادًا يقول: سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول: إن ابن عباس كان يقول في هذه: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » ، فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء وأما العذاب من تحت أرجلكم، فخدم السوء.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، يعني من أمرائكم « أو من تحت أرجلكم » ، يعني: سفلتكم .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: عنى بالعذاب من فوقهم، الرجمَ أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينـزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم، الخسفَ وما أشبهه. وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى « فوق » و « تحت » الأرجل, هو ذلك، دون غيره. وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح, غير أن الكلام إذا تُنُوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو يخلطكم « شيعًا » ، فرقًا, واحدتها « شِيعة » .

وأما قوله: « يلبسكم » فهو من قولك: « لبَسْت عليه الأمر » , إذا خلطت, « فأنا ألبِسه » . وإنما قلت إن ذلك كذلك, لأنه لا خلاف بين القرأة في ذلك بكسر « الباء » , ففي ذلك دليل بَيِّنٌ على أنه من: « لبَس يلبِس » , وذلك هو معنى الخلط. وإنما عنى بذلك: أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابًا مفترقة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يلبسكم شيعًا » ، الأهواء المفترقة.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: يفرق بينكم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: ما كان منكم من الفتن والاختلاف.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف، والأهواء، وسفك دماء بعضهم بعضًا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال : حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: الأهواء والاختلاف.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أو يلبسكم شيعًا » ، يعني بالشيع، الأهواء المختلفة .

وأما قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، فإنه يعني: بقتل بعضكم بيد بعض.

والعرب تقول للرجل ينال الرجل بسلام فيقتله به: « قد أذاق فلان فلانًا الموت » ، و « أذاقه بأسه » ، وأصل ذلك من: « ذوق الطعام » وهو يطعمه, ثم استعمل ذلك في كل ما وصل إلى الرجل من لذة وحلاوة، أو مرارة ومكروه وألم.

وقد بينت معنى « البأس » في كلام العرب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، بالسيوف .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد, عن أبي هارون العبدي, عن عوف البكالي أنه قال في قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هي والله الرجال في أيديهم الحراب، يطعُنون في خواصركم .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب.

حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: عذاب هذه الأمة أهل الإقرار، بالسيف « أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض » وعذاب أهل التكذيب، الصيحة والزلزلة.

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.

فقال بعضهم: عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وفيهم نـزلت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ الآية ، قال: فهن أربع، وكلهن عذاب, فجاء مستقرّ اثنتين، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة, فألبسوا شيعًا، وأذيق بعضهم بأس بعض, وبقيت اثنتان, فهما لا بدّ واقعتان يعني: الخسف والمسخ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأعفاكم منه « أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا » ، قال: ما كان فيكم من الفتن والاختلاف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ، الآية. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلى ذات يوم الصبح فأطالها, فقال له بعض أهله: يا نبي الله، لقد صلّيت صلاة ما كنت تصَليها ؟ قال: إنها صلاةُ رَغبة ورَهبة, وإني سألت ربّي فيها ثلاثًا، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم، فيهلكهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يسلط على أمتي السنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ولا يذيق بعضهم بأس بعض, فمنعنيها. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله.

حدثنا أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو, سمع جابرًا يقول: لما أنـزل الله تعالى ذكره على النبي صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قال: أعوذ بوجهك « أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هاتان أيسر أو: أهون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن جابر, قال: لما نـزلت: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قال: نعوذ بك, نعوذ بك « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هو أهون.

حدثني زياد بن عبيد الله المزني قال، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال، حدثنا أبو مالك قال، حدثني نافع بن خالد الخزاعي, عن أبيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال: قد كانت صلاة رغبة ورهبة, فسألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين, وبقي واحداة. سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به مَن قبلكم، فأعطانيها. وسألت الله أن لا يسلِّط عليكم عدوًّا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض, فمنعنيها قال أبو مالك: فقلت له: أبوك سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور عن معمر، عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث, عن أبي أسماء الرحبي, عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إن الله زَوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربَها, وإنّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها, وإني أعطيت الكنـزين الأحمرَ والأبيض, وإني سألت ربّي أن لا يهلك قومي بسَنَةٍ عامة، وأن لا يلبسهم شيعًا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض, فقال: يا محمد, إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يردّ, وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلِّط عليهم عدوًّا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، وبعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يسبي بعضًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين, فإذا وضع السيف في أمتي، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث, عن أبي أسماء الرحبي, عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه إلا أنه قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن الزهري قال: راقب خباب بن الأرتّ, وكان بدريًّا, النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي, حتى إذا فرغ، وكان في الصبح، قال له: يا رسول الله, لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها ؟ قال: أجل, إنها صلاة رَغَبٍ ورَهَبٍ, سألت ربي ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم، فأعطاني. وسألته أن لا يسلط علينا عدوًّا، فأعطاني. وسألته أن لا يلبسنا شيعًا، فمنعني.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: راقب خبابُ بن الأرت, وكان بدريًّا, رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه إلا أنه قال: ثلاث خصلات.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هذه أهون.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربّي أربعًا، فأعطيت ثلاثًا ومنعت واحداة: سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتهم, ولا يسلط عليهم جوعًا, ولا يجمعهم على ضلالة، فأعطيتهن وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض, فمنعتُ.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سألت ربي خصالا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة: سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة، فأعطانيها. وسألته لا يُظهر عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم من قبلهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعنيها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن الحسن قال: لما نـزلت هذه الآية, قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال الحسن: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يُشهده عليهم: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ, فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولا يلبس أمته شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل, فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إنك سألت ربك أربعًا, فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين: لن يأتيهم عذاب من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها وردِّ كتاب ربها، ولكنهم يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض, وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتاب والتصديق بالأنبياء, ولكن يعذبون بذنوبهم، وأوحي إليه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، يقول: من أمتك أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ من العذاب وأنت حي فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [ سورة الزخرف: 41،42 ] . فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فراجع ربه, فقال : أيّ مصيبة أشدّ من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضًا! وأوحي إليه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، [ سورة العنكبوت: 1،3 ] ، فأعلمه أن أمته لم تخصّ دون الأمم بالفتن, وأنها ستبلى كما ابتليت الأمم. ثم أنـزل عليه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ سورة المؤمنون: 93،94 ] ، فتعوّذ نبي الله, فأعاذه الله, لم يرَ من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة. ثم أنـزل عليه آية حذّر فيها أصحابه الفتنة, فأخبره أنه إنما يُخَصّ بها ناسٌ منهم دون ناس, فقال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، [ سورة الأنفال: 25 ] ، فخصّ بها أقوامًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وعصم بها أقوامًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قال: لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما يكون في أمته من الفرقة والاختلاف, فشق ذلك عليه, ثم دعا فقال: اللهم أظهر عليهم أفضلهم بقية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود قال، أخبرنا ابن لهيعة, عن خالد بن يزيد, عن أبي الزبير قال: لما نـزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك ! قال: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال: أعوذ بالله من ذلك قال: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هذه أيسر ! ولو استعاذه لأعاذه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا المؤمل البصري قال، أخبرنا يعقوب بن إسماعيل بن يسار المديني قال، حدثنا زيد بن أسلم قال: لما نـزلت: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض بالسيوف! فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! قال: نعم! فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدًا! فأنـزل الله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .

وقال آخرون: عنى ببعضها أهل الشرك، وببعضها أهل الإسلام .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن هارون بن موسى, عن حفص بن سليمان, عن الحسن في قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال: هذا للمشركين « أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هذا للمسلمين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره توعَّد بهذه الآية أهلَ الشرك به من عبدة الأوثان، وإياهم خاطبَ بها, لأنها بين إخبار عنهم وخطاب لهم, وذلك أنها تتلو قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، ويتلوها قوله: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ . وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذبين ، فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك, وكانت هذه الآية بين هاتين الآيتين, كان بيّنًا أن ذلك وعيدٌ لمن تقدّم وصف الله إياه بالشرك، وتأخر الخبر عنه بالتكذيب لا لمن لم يجر له ذكر. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فإنه قد عم وعيدُه بذلك كلَّ من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله، والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها.

وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سألت ربي ثلاثًا, فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة » ، فجائز أن هذه الآية نـزلت في ذلك الوقت وعيدًا لمن ذكرتُ من المشركين، ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم, فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الأمم الذين استوجبوا من الله تعالى ذكره بمعصيتهم إياه هذه العقوبات، فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه، من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الأربع من العقوبات أغلظها، ولم يُعذهم من ذلك ما يستحقون به اثنتين منها.

وأما الذين تأوّلوا أنه عني بجميع ما في هذه الآية هذه الأمة, فإني أراهم تأوّلوا أن في هذه الأمة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يُسخط الله، نحو الذي ركب مَن قبلهم من الأمم السالفة، من خلافه والكفر به, فيحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من المثلات والنقمات، وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله: « جاء منهن اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وبقيت اثنتان، الخسف والمسخ » ، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف » ، وأن قومًا من أمته سيبيتون على لهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير. وذلك إذا كان, فلا شك أنه نظير الذي في الأمم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته. وقد روي نحو الذي روي عن أبي العالية, عن أبيّ.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال، أخبرنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ) ، قال: أربع خِلال, وكلهن عذاب, وكلهن واقعٌ قبل يوم القيامة, فمضت اثنتان بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعًا, وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف والرجم.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( 65 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذبين بربّهم الجاحدين نعمه، وتصريفناها فيهم « لعلهم يفقهون » ، يقول: ليفقهوا ذلك ويعتبروه, فيذّكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم، من عبادة الأوثان والأصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 66 ) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 67 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكذب، يا محمد، قومك بما تقول وتخبر وتوعد من الوعيد « وهو الحق » ، يقول: والوعيدُ الذي أوعدناهم على مقامهم على شركهم: من بعث العذاب من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، أو لبسهم شيعًا, وإذاقة بعضهم بأس بعض « الحق » الذي لا شك فيه أنه واقع إن هم لم يتوبوا وينيبوا مما هم عليه مقيمون من معصية الله والشرك به، إلى طاعة الله والإيمان به « قل لست عليكم بوكيل » ، يقول: قل لهم، يا محمد، لست عليكم بحفيظ ولا رقيب, وإنما رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم « لكل نبإ مستقر » ، يقول: لكل خبر مستقر, يعني قرار يستقرّ عنده، ونهاية ينتهي إليه, فيتبين حقه وصدقه، من كذبه وباطله « وسوف تعلمون » ، يقول: وسوف تعلمون، أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم، أيها المشركون، حقيقته عند حلول عذابه بكم، فرأوا ذلك وعاينوه، فقتلهم يومئذ بأيدي أوليائه من المؤمنين.

وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفصل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وكذب به قومك وهو الحق » ، يقول: كذبت قريش بالقرآن, وهو الحق وأما « الوكيل » ، فالحفيظ ، وأما « لكل نبإ مستقر » ، فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يَعِدهم من العذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لكل نبإ مستقر » ، لكل نبأ حقيقة, إما في الدنيا وإما في الآخرة « وسوف تعلمون » ، ما كان في الدنيا فسوف ترونه, وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « لكل نبإ مستقر » ، يقول: حقيقة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون » ، يقول: فعل وحقيقة, ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة.

وكان الحسن يتأوّل في ذلك أنه الفتنة التي كانت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جعفر بن حيان, عن الحسن أنه قرأ: « لكل نبإ مستقر » ، قال: حبست عقوبتها، حتى [ إذا ] عمل ذنبها أرسلت عقوبتها.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 68 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت، يا محمد، المشركين الذين يخوضون في آياتنا التي أنـزلناها إليك, ووحينا الذي أوحيناه إليك, و « خوضهم فيها » ، كان استهزاءَهم بها، وسبَّهم من أنـزلها وتكلم بها، وتكذيبهم بها « فأعرض عنهم » ، يقول: فصد عنهم بوجهك, وقم عنهم، ولا تجلس معهم « حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يقول: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم « وإما ينسينك الشيطان » ، يقوله: وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا، ثم ذكرت ذلك, فقهم عنهم، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوضُ فيه بما خاضوا به فيه. وذلك هو معنى « ظلمهم » في هذا الموضع.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكر مع القوم الظالمين.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، أخبرنا معمر, عن قتادة بنحوه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله : « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: الذين يكذبون بآياتنا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » ، قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزءوا به, فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وأما قوله: « وإما ينسينك الشيطان » ، يقول: نَهْيَنَا فتقعد معهم, فإذا ذكرت فقم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يخوضون في آياتنا » ، قال: يكذبون بآياتنا .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن ليث, عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات, فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا » , وقوله: الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [ سورة الأنعام: 159 ] ؛ وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ سورة آل عمران: 105 ] ؛ وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: يستهزئون بها. قال: نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم. فذلك قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا، فنـزلت: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم » ، الآية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: يكذبون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يعني المشركين « وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » ، إن نسيت فذكرتَ فلا تجلس معهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه، فأطاعه فيما أمره به، واجتنب ما نهاه عنه, فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله، شيء من تبعة فيما بينه وبين الله, إذا لم يكن تركه الإعراضَ عنهم رضًا بما هم فيه، وكان لله بحقوقه متقيًا, ولا عليه من إثمهم بذلك حرج, ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله « لعلهم يتقون » ، يقول: ليتقوا.

ومعنى « الذكرى » ، الذكرُ. و « الذكر » و « الذكرى » بمعنًى.

وقد يجوز أن يكون « ذكرى » في موضع نصب ورفع:

فأما النصب، فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى.

وأما الرفع، فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض, ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون.

وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله, لأن قيامه عنهم كان مما يكرهونه, فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم، ليتقوا الخوضَ فيها ويتركوا ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا, فنـزلت: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، الآية، قال: فجعل إذا استهزءوا قام، فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم! فذلك قوله: « لعلهم يتقون » ، أن يخوضوا فيقوم، ونـزل: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا معهم, ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ، [ سورة النساء: 140 ] , فنسخ قولَه: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، الآية.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، يقول: من حساب الكفار من شيء « ولكن ذكرى » ، يقول: إذا ذكرت فقم « لعلهم يتقون » مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد, فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدًا، قال: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا ، الآية .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا, ولكن لا تقعد .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى » ، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك.

 

القول في تأويل قوله : وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا, فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم, فأعرض عنهم, فإني لهم بالمرصاد, وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، قال: كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، [ سورة المدثر: 11 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [ سورة التوبة:5 ] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل في « سورة براءة » , فأمر بقتالهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل الله تعالى ذكره « براءة » , وأمر بقتالهم فقال: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] .

وأما قوله: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه « أن تبسل نفس » ، بمعنى: أن لا تبسل, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق, فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت « لا » ، لدلالة الكلام عليها.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أن تبسل نفس » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة قوله: « أن تبسل نفس بما كسبت » ، قال: تُسلم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: « أن تبسل نفس » ، قال: أن تُسلم .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن, مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أن تبسل » ، قال: تسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أن تبسل نفس » ، قال: تسلم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا ، أسلموا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « أن تبسل نفس » ، قال: تؤخذ فتحبس .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أن تبسل نفس بما كسبت » ، أن تؤخذ نفس بما كسبت.

وقال آخرون: معناه: تُفضَح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، يقول: تفضح.

وقال آخرون: معناه: أن تجزَى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي: « أن تبسل » ، أن تجزَى.

وأصل « الإبسال » التحريم, يقال منه: « أبسلت المكان » ، إذا حرّمته فلم يقرب، ومنه قوله الشاعر:

بَكَـرَتْ تَلُـومُكَ بَعْـدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى, بَسْــلٌ عَلَيْــكِ مَلامَتِـي وَعِتَـابِي

أي: حرام [ عليك ملامتي وعتابي ] . ومنه قولهم: « أسد باسل » , ويراد به: لا يقربه شيء, فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال: « أعط الراقي بُسْلَتَه » , يراد بذلك: أجرته, « وشراب بَسِيل » ، بمعنى متروك. وكذلك « المبسَلُ بالجريرة » , وهو المرتهن بها, قيل له: « مُبْسَل » ، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:

وَإبْسَــالِي بَنِــيَّ بِغَــيْرِ جُــرْمٍ بَعَوْنَــــاهُ وَلا بِـــدَمٍ مُـــرَاقِ

وقال الشنفرى:

هُنَــالِكَ لا أَرْجُــو حَيَـاةً تَسُـرُّنِي سَــمِيرَ اللَّيَــالِي مُبْسَـلا بِـالْجَرَائِرِ

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين, كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها, وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله « ليس لها من دون الله » ، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها « ولا شفيع » ، يشفع لها, لوسيلة له عنده.

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت, يعني: « وإن تعدل كل عدل » ، يعني: كل فداء.

يقال منه: « عَدَل يعدِل » ، إذا فدى, « عَدْلا » ، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، [ سورة المائدة: 95 ] ، وهو ما عادله من غير نوعه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: « وإن تعدل » ، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها « لا يؤخذ منه » ، عدلا عن نفسه, لا يقبل منه.

وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة.

وليس لما قال من ذلك معنى, وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم, هم « الذين أبسلوا بما كسبوا » ، يقول: أسلموا لعذاب الله, فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، « لهم شرابٌ من حميم » .

و « الحميم » هو الحارّ، في كلام العرب, وإنما هو « محموم » صرف إلى « فعيل » ، ومنه قيل للحمّام، « حمام » لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش:

فِــي كُــلِّ مُمْسًـى لَهَـا مِقْطَـرَةٌ فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ

يعني بذلك ماء حارًّا، ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس:

تَــأبَى بِدِرَّتِهَـا إذَا مَـا اسْـتُضْغِبَتْ إلا الْحَـــمِيمَ فَإنّـــهُ يَتَبَضَّـــعُ

يعني بالحميم: عرق الفرس.

وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم, لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم, ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش « وعذاب أليم » ، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم « بما كانوا يكفرون » ، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال يقال: أسلموا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أولئك الذين أبسلوا » ، قال: فُضحوا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال: أخذوا بما كسبوا.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا

قال أبو جعفر: وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا, فنخصه بالعبادة دون الله, وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت, إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره!

« ونرد على أعقابنا » ، يقول: ونرد إلى أدبارنا، فنرجع القهقري خلفنا، لم نظفر بحاجتنا.

وقد بينا معنى: « الرد على العقب » , وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها: « رد على عقبيه » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر « بعد إذ هدانا الله، فوفقنا له, فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان، يهوي في الأرض حيران. »

وقوله: « استهوته » ، « استفعلته » , من قول القائل: « هوى فلان إلى كذا يهوي إليه » , ومن قول الله تعالى ذكره: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، [ سورة إبراهيم: 37 ] ، بمعنى: تنـزع إليهم وتريدهم.

وأما « حيران » ، فإنه « فعلان » من قول القائل: « قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة » , وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجَّة.

« له أصحاب يدعونه إلى الهدى » , يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل, يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه, يقولون له : ائتنا.

وترك إجراء « حيران » , لأنه « فعلان » , وكل اسم كان على « فعلان » مما أنثاه « فعلى » فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة.

قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون, وهو له مفارق وعنه زائل, يقولون له: « ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى » ! وهو يأبى ذلك, ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل, وخالف في ذلك جماعة.

ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا » ، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا, واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى ذكره: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، هذه الآلهة « ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله » , فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق, فضلّ الطريق, فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض, وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم, يقولون: « ائتنا، فإنا على الطريق » , فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد, ومحمد الذي يدعو إلى الطريق, والطريق هو الإسلام.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا » ، قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعونَ إلى الله, كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالا إذ ناداه مناد: « يا فلان بن فلان، هلمّ إلى الطريق » ، وله أصحاب يدعونه: « يا فلان، هلم إلى الطريق » ! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة, وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله, فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض » ، وهم « الغيلان » يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده, فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلّة من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « استهوته الشياطين في الأرض » ، قال: أضلته في الأرض حيران.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، قال: الأوثان .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « استهوته الشياطين في الأرض حيران » ، قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق, فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، حدثنا رجل, عن مجاهد قال، « حيران » ، هذا مثل ضربه الله للكافر, يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، حتى بلغ لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهلَ الضلالة.

وقال آخرون في تأويل ذلك، بما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى » ، فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله, وهو رجل أطاعَ الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحار عن الحقّ وضل عنه, وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدًى. يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله, والضلالة ما تدعو إليه الجنّ.

فكأنّ ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنّ ذلك هدى, وأنّ الله أكذبهم بقوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ، لا ما يدعوه إليه أصحابه.

وهذا تأويل له وجه، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيرانَ إليه أصحابه « هدى » , وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه: أنهم هم الذين سموه, ولكن الله سماه « هدى » , وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله « الضلال » هدى، لأن ذلك كذب, وغير جائز وصف الله بالكذب، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب، لو كان ذلك خبرًا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له: « تعال إلى الهدى » ، فأما وهو قائل: « يدعونه إلى الهدى » , فغير جائز أن يكون ذلك، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال.

وأما قوله: « ائتنا » ، فإن معناه: يقولون: ائتنا، هلم إلينا فحذف « القول » ، لدلالة الكلام عليه.

وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) .

حدثنا بذلك ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن شعبة, عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: في قراءة ابن مسعود: ( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) ، قال: « الهدى » الطريق, أنه بين.

وإذا قرئ ذلك كذلك, كان « البين » من صفة « الهدى » , ويكون نصب « البين » على القطع من « الهدى » , كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين, ثم نصب « البين » لما حذفت « الألف واللام » , وصار نكرة من صفة المعرفة.

وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال: « الهدى » في هذا الموضع، هو الهدى على الحقيقة.

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، القائلين لأصحابك: « اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنا على هدى » : ليس الأمر كما زعمتم « إن هدى الله هو الهدى » ، يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه، وسبيلنا الذي أمرنا بلزومه، ودينه الذي شرعه لنا فبينه, هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها, لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع, فلا نترك الحق ونتبع الباطل « وأمرنا لنسلم لرب العالمين » ، يقول: وأمرَنا ربنا وربّ كل شيء تعالى وجهه, لنسلم له، لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية, فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة.

وقد بينا معنى « الإسلام » بشواهده فيما مضى من كتابنا، بما أغنى عن إعادته.

وقيل: « وأمرنا لنسلم » ، بمعنى: وأمرنا كي نسلم, وأن نسلم لرب العالمين لأن العرب تضع « كي » و « اللام » التي بمعنى « كي » ، مكان « أن » و « أن » مكانها .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 72 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمرنا أنْ أقيموا الصلاة.

وإنما قيل: « وأن أقيموا الصلاة » ، فعطف ب « أن » على « اللام » من لِنُسْلِمَ ، لأن قوله: لِنُسْلِمَ معناه: أن نسلم, فردّ قوله: « وأن أقيموا » على معنى: لِنُسْلِمَ , إذ كانت « اللام » التي في قوله: لِنُسْلِمَ , لامًا لا تصحب إلا المستقبل من الأفعال, وكانت « أن » من الحروف التي تدل على الاستقبال دلالة « اللام » التي في لِنُسْلِمَ , فعطف بها عليها، لاتفاق معنيهما فيما ذكرت.

ف « أن » في موضع نصب بالردّ على اللام.

وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: إما أن يكون ذلك، « أمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة » , يقول: أمرنا كي نسلم, كما قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة يونس: 104 ] ، أي: إنما أمرت بذلك. ثم قال: « وأن أقيموا الصلاة واتقوه » ، أي: أمرنا أن أقيموا الصلاة أو يكون أوصل الفعل باللام, والمعنى: أمرت أن أكون, كما أوصل الفعل باللام في قوله: هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ، [ سورة الأعراف: 154 ] .

فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصلاة, وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا « واتقوه » ، يقول: واتقوا رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له, فخافوه واحذروا سَخطه، بأداء الصلاة المفروضة عليكم، والإذعان له بالطاعة، وإخلاص العبادة له « وهو الذي إليه تحشرون » ، يقول: وربكم رب العالمين، هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة, فيجازي كلَّ عامل منكم بعمله, وتوفي كل نفس ما كسبت.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 73 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد, الداعيك إلى عبادة الأوثان: « أمرنا لنسلم لرب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق, لا من لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « بالحق » .

فقال بعضهم: معنى ذلك، وهو الذي خلق السماوات والأرض حقًّا وصوابًا, لا باطلا وخطأ, كما قال تعالى ذكره: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا [ سورة ص: 27 ] . قالوا: وأدخلت فيه « الباء » و « الألف واللام » , كما تفعل العرب في نظائر ذلك فتقول: « فلان يقول بالحق » , بمعنى: أنه يقول الحق. قالوا: ولا شيء في « قوله بالحق » غير إصابته الصواب فيه لا أنّ « الحق » معنى غير « القول » , وإنما هو صفةٌ للقول، إذا كان بها القول، كان القائل موصوفًا بالقول بالحق، وبقول الحق. قالوا: فكذلك خلق السماوات والأرض، حكمة من حكم الله, فالله موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه لا أنّ ذلك حقٌّ سوى خَلْقِهما خَلَقَهما به.

وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ، [ سورة فصلت: 11 ] . قالوا: فالحق، في هذا الموضع معنيّ به: كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: « ويوم يقول كن فيكون قوله الحق » ، « الحق » هو قوله وكلامه. قالوا: والله خلق الأشياء بكلامه وقيله، فما خلق به الأشياء فغير الأشياء المخلوقة. قالوا: فإذْ كان ذلك كذلك, وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غيرَ مخلوق.

وأما قوله: « ويوم يقول كن فيكون » ، فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في « يوم يقول » ، وفي معنى ذلك.

فقال بعض نحويي البصرة: « اليوم » مضاف إلى « يقول كن فيكون » . قال: وهو نصب، وليس له خبر ظاهر, والله أعلم, وهو على ما فسرت لك كأنه يعني بذلك أن نصبه على: واذكر يوم يقول كن فيكون. قال: وكذلك: « يوم ينفخ في الصور » ، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة.

وقال بعضهم: « يقول كن فيكون » للصور خاصة فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون، قوله الحق يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة فيكون « القول » حينئذ مرفوعًا ب « الحق » و « الحق » ب « القول » ، وقوله: « يوم يقول كن فيكون » ، و « يوم ينفخ في الصور » ، صلة « الحق » .

وقال آخرون: بل قوله: « كن فيكون » ، معنيٌّ به كل ما كان الله مُعِيده في الآخرة بعد إفنائه، ومنشئه بعد إعدامه فالكلام على مذهب هؤلاء، متناهٍ عند قوله: « كن فيكون » ، وقوله: « قوله الحق » ، خبر مبتدأ وتأويله: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يقول للأشياء كن فيكون خلقهما بالحق بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقَه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حق فقال: قوله هذا، الحقّ الذي لا شك فيه. وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور ف يوم ينفخ في الصور « ، يكون على هذا التأويل من صلة » الملك « . »

وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » من صلة « الحق » .

وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: « كن » ، فيكون قوله الحق, فجعل « القول » مرفوعًا بقوله « ويوم يقول كن فيكون » ، وجعل قوله: « كن فيكون » ، للقول محلا وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الحق » كأنه وجه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل « يوم ينفخ في الصور » بيانًا عن اليوم الأول, كان وجهًا صحيحًا. ولو جعل قوله: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، محلا وقوله: « ويوم يقول كن فيكون » من صلته، كان جائزًا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض دون كل ما سواه, معرِّفًا من أشرك به من خلقه جهلَه في عبادة الأوثان والأصنام، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه، ولا دفع ضر عنها ومحتجًّا عليهم في إنكارهم البعثَ بعد الممات والثوابَ والعقاب، بقدرته على ابتداع ذلك ابتداءً, وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه, فقال: « وهو الذي خلق » ، أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء « السماوات والأرض بالحق » , حجة على خلقه, ليعرفوا بها صانعها، وليستدلُّوا بها على عظيم قدرته وسلطانه, فيخلصوا له العبادة « ويوم يقول كن فيكون » ، يقول: ويوم يقول حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات كذلك: « كن فيكون » , كما شاء تعالى ذكره, فتكون الأرض غير الأرض ويكون [ الكلام ] عند قوله: « كن فيكون » متناهيًا.

وإذا كان كذلك معناه، وجب أن يكون في الكلام محذوفٌ يدلّ عليه الظاهر, ويكون معنى الكلام: ويوم يقول كذلك: « كن فيكون » تبدل [ السماوات والأرض ] غير السماوات والأرض. ويدلّ على ذلك قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » ، ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال: « قوله الحق » ، بمعنى وعدُه هذا الذي وَعدَ تعالى ذكره، من تبديله السماوات والأرض غير الأرض والسماوات, الحقُّ الذي لا شك فيه « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فيكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الملك » ويكون معنى الكلام: ولله الملك يومئذ، لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السماوات والأرض غيرهما.

وجائز أن يكون « القول » أعنى: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « ويوم يقول كن فيكون » , ويكون قوله: « كن فيكون » محلا للقول مرافعًا، فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يبدلها غير السماوات والأرض، فيقول لذلك: « كن فيكون » ، « قوله الحق » .

وأما قوله: « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فإنه خُصّ بالخبر عن ملكه يومئذ, وإن كان الملك له خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة، لأنه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدّعي له, وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة، فأذعن جميعهم يومئذ له به, وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل.

واختلف في معنى « الصور » في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيًّا على الأرض, والثانية لنشر كل مَيْتٍ. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر : 68 ] ، وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذ سئل عن الصور: هو قرن يُنفخ فيه.

وقال آخرون: « الصور » في هذا الموضع جمع « صورة » ، ينفخ فيها روحها فتحيا, كقولهم: « سور » لسور المدينة, وهو جمع « سورة » , كما قال جرير:

سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعَ

والعرب تقول: « نفخ في الصور » و « نفخ الصور » ، ومن قولهم: « نفخ الصور »

قول الشاعر:

لَـوْلا ابْـنُ جَـعْدَةَ لَـمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ وَلا خُرَاسَـانَ حَـتَّى يُنْفَـخَ الصُّـورُ

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: « إن إسرافيلَ قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ » ، وأنه قال: « الصور قرن ينفخ فيه » .

وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أن عالم الغيب والشهادة، هو الذي ينفخ في الصور.

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أنّ عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور .

فكأن ابن عباس تأوّل في ذلك أن قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، اسم الفاعل الذي لم يسمَّ في قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور، عالم الغيب والشهادة. كما تقول العرب: « أُكلَ طعامك، عبدُ الله » , فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله. وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع, فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، مرفوعًا على أنه نعت ل « الذي » ، في قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » .

وروي عنه أيضًا أنه كان يقول: « الصور » في هذا الموضع، النفخة الأولى.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني بالصور: النفخة الأولى, ألم تسمع أنه يقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى يعني الثانية فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر: 68 ] .

ويعني بقوله: « عالم الغيب والشهادة » ، عالم ما تعاينون: أيها الناس, فتشاهدونه, وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه « وهو الحكيم » ، في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم, ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود, ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب « الخبير » ، بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيئ, حافظ ذلك عليهم ليحازيهم على كل ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا، أيها العادلون بربكم، عقابَه, فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون, وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك، وخصومتك إياهم في آلهتهم، وما تراجعهم فيها, مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون، وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين، وحقيقة ما أنت عليهم به محتج حِجَاج إبراهيم خليلي قومَه, ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان, وانقطاعه إلى الله والرضا به وليًّا وناصرًا دون الأصنام، فاتخذه إمامًا واقتد به, واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا إذ قال لأبيه مفارقًا لدينه، وعائبًا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر .

ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ ب « آزر » , وما هو، اسم هو أم صفة؟ وإن كان اسمًا, فمن المسمى به؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه « آزر » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: « آزر » ، أبو إبراهيم. وكان، فيما ذكر لنا والله أعلم، رجلا من أهل كُوثَى, من قرية بالسواد, سواد الكوفة .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر قال: هو « آزر » , وهو « تارح » , مثل « إسرائيل » و « يعقوب » .

وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: ليس « آزر » ، أبا إبراهيم.

حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا الثوري قال، أخبرني رجل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: « آزر » لم يكن بأبيه، إنما هو صنم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « آزر » اسم، صنم.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه، ويقال: لا بل اسمه « تارح » , واسم الصنم « آزر » . يقول: أتتخذ آزرَ أصنامًا آلهة.

وقال آخرون: هو سبٌّ وعيب بكلامهم, ومعناه: معوَجٌّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزَيْغه واعوجاجه عن الحق.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) بفتح « آزر » على اتباعه « الأب » في الخفض, ولكنه لما كان اسمًا أعجميًّا فتحوه، إذ لم يجروه، وإن كان في موضع خفض.

وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: ( آزَرُ ) بالرفع على النداء, بمعنى: يا آزر.

فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن « آزر » اسم صنم, وإنما نصبَه بمعنى: أتتخذ آزر أصنامًا آلهة فقولٌ من الصواب من جهة العربية بعيدٌ. وذلك أن العرب لا تنصب اسمًا بفعلٍ بعد حرف الاستفهام, لا تقول: « أخاك أكلمت » ؟ وهي تريد: أكلمت أخاك.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي, قراءةُ من قرأ بفتح « الراء » من ( آزَرَ ) ، على اتباعه إعراب « الأب » , وأنه في موضع خفض ففتح، إذ لم يكن جاريًا، لأنه اسم عجمي. وإنما اخترتُ قراءة ذلك كذلك، لإجماع الحجة من القرأة عليه.

وإذْ كان ذلك هو الصواب من القراءة، وكان غير جائز أن يكون منصوبًا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام, صحَّ لك فتحه من أحد وجهين:

إما أن يكون اسمًا لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله, فيكون في موضع خفض ردًّا على « الأب » , ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لمّا كان اسمًا أعجميًّا ترك إجراؤه ففتح، كما تفعل العرب في أسماء العجم.

أو يكون نعتًا له, فيكون أيضًا خفضًا بمعنى تكرير اللام عليه, ولكنه لما خرج مخرج « أحمر » و « أسود » ترك إجراؤه، وفعل به كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه الزائغ: أتتخذ أصنامًا آلهة.

وإذ لم يكن له وِجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين, فأولى القولين بالصواب منهما عندي قولُ من قال: « هو اسم أبيه » ، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائلُه أنه نعتٌ.

فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى « تارح » , فكيف يكون « آزر » اسمًا له، والمعروف به من الاسم « تارح » ؟

قيل له: غير محال أن يكون له اسمان, كما لكثير من الناس في دهرنا هذا, وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبًا يلقّب به.

 

القول في تأويل قوله : أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 74 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال: « أتتخذ أصنامًا آلهة » ، تعبدها وتتخذها ربًّا دون الله الذي خلقك فسوَّاك ورزقك ؟

و « الأصنام » : جمع « صنم » , و « الصنم » التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان, وهو « الوثن » . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط وغيره: « صنم » و « وثن » .

« إني أراك وقومَك في ضلال مبين » ، يقول: « إني أراك » ، يا آزر، « وقومَك » الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة « في ضلال » ، يقول: في زوال عن محجّة الحق, وعدول عن سبيل الصواب « مبين » ، يقول: يتبين لمن أبصَره أنه جوْرٌ عن قصد السبيل، وزوالٌ عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته، الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم, دون غيره من الآلهة والأوثان.

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك » ، وكما أريناه البصيرة في دينه، والحقّ في خلافه ما كانوا عليه من الضلال, نريه ملكوت السماوات والأرض يعني ملكه.

وزيدت فيه « التاء » كما زيدت في « الجبروت » من « الجبر » وكما قيل: « رَهَبوتٌ خيرٌ من رَحَمُوت » , بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعًا: « له مَلَكوت اليمنِ والعراق » ، بمعنى: له ملك ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلقَ السماوات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض « وليكون من الموقنين » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس : « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني ب « ملكوت السماوات والأرض » ، خلق السماوات والأرض.

وقال آخرون: معنى « الملكوت » الملك، بنحو التأويل الذي تأوّلناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمر بن أبي زائدة قال: سمعت عكرمة, وسأله رجل عن قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: هو الملك, غير أنه بكلام النبط: « ملكوتَا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي زائدة, عن عكرمة قال: هي بالنبطية: « ملكوتَا » .

وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السماوات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات السماوات والأرض.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: تفرجت لإبراهيم السماوات السبعُ حتى العرش, فنظر فيهنّ ، وتفرَّجت له الأرضون السبع, فنظر فيهنّ.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » ، قال: أقيم على صخرة وفتحت له السماوات, فنظر إلى ملك الله فيها، حتى نظر إلى مكانه في الجنة. وفتحت له الأرضون حتى نظَر إلى أسفل الأرض, فذلك قوله: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [ سورة العنكبوت : 27 ] ، يقول: آتيناه مكانه في الجنّة، ويقال: أَجْرَهُ الثناء الحسن.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهنّ، حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهنّ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: كشف له عن أدِيم السماواتِ والأرض، حتى نظر إليهن على صخرة, والصخرةُ، على حوت, والحوت على خاتم ربّ العِزّة لا إله إلا الله.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض, رأى عبدًا على فاحشة, فدعا عليه، فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. فقال: أنـزلوا عبدِي لا يُهْلِك عبادِي !

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السماوات, أشرفَ فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رُفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه, فنودي: على رِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجابٌ لك، وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه, وإما أن أخرج منه ذرية طيبة, وإما أن يتمادى فيما هو فيه, فأنا من ورائه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب, عن عوف, عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرّحمن حدَّث نفسه أنه أرحمُ الخلق, وأن الله رفعه حتى أشرفَ على أهل الأرض, فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم! فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك, اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويُراجِعوا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك، ما أخبر تعالى أنه أراه من النُّجوم والقمر والشمس.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر والنجوم .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني به: الشمس والقمر والنجوم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: خُبِّئ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من جبار من الجبابرة, فجُعِل له رزقه في أصابعه, فإذا مصّ أصبعًا من أصابعه وَجَد فيها رزقًا. فلما خرج، أراه الله ملكوت السماوات والأرض. فكان ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم, وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار.

حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فُرَّ به من جبَّار مُتْرَف, فجعل في سَرَبٍ, وجعل رزقه في أطرافه, فجعل لا يمصُّ إصبعًا من أصابعه إلا وجد فيها رزقًا. فلما خرج من ذلك السَّرَب، أراه الله ملكوت السماوات, فأراه شمسًا وقمرًا ونجومًا وسحابًا وخلقًا عظيمًا، وأراه ملكوت الأرض, فأراه جبالا وبحورًا وأنهارًا وشجرًا ومن كلّ الدواب وخلقًا عظيمًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أنه أراه ملك السماوات والأرض, وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما, وجلَّى له بواطنَ الأمور وظواهرَها، لما ذكرنا قبل من معنى « الملكوت » ، في كلام العرب، فيما مضى قبل.

وأما قوله: « وليكون من الموقنين » ، فإنه يعني أنه أراه ملكوت السماوات والأرض، ليكون ممن يقرّ بتوحيد الله, ويعلم حقيقة ما هداه له وبصّره إياه، من معرفة وحدانيته، وما عليه قومه من الضلالة، من عبادتهم الأصنام، واتخاذهم إياها آلهة دون الله تعالى.

وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك, ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وليكون من الموقنين » ، أنه جلَّى له الأمر سرَّه وعلانيتَه, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق. فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله: إنك لا تستطيع هذا! فردَّه الله كما كان قبل ذلك.

فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السماوات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسًّا لا خبرًا.

حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا ابن جابر قال، وحدثنا الأوزاعيُّ أيضًا قال: حدثني خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ, فقال له قائل: ما رأيتك أسفرَ وجهًا منك الغداة! قال: ومالي، وقد تبدّى لي ربّي في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت: أنت أعلم [ يا رب ] ! فوضع يده بين كتفي فوجدت بردَها بين ثدييّ، فعلمت ما في السماوات والأرض. ثم تلا هذه الآية: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » .

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( 76 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وغيّبه.

يقال منه: « جنَّ عليه الليل » , و « جنَّه الليل » , و « أجنه » , و « أجنّ عليه » . وإذا ألقيت « على » ، كان الكلام بالألف أفصح منه بغير « الألف » , « أجنه الليل » ، أفصح من « أجن عليه » و « جنّ عليه الليل » ، أفصح من « جنَّه » , وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. « جنّه الليل » ، في أسد « وأجنه وجنه » في تميم. والمصدر من: « جن عليه » ، « جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا » , ومن « أجنّ » « إجنانًا » . ويقال: « أتى فلان في جِنّ الليل » . و « الجن » من ذلك لأنهم استجنُّوا عن أعين بني آدم فلا يرون. وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه: « قد جَنّ » ، ومنه قول الهذلي:

وَمَـــاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْـــلَ الكَــرَى وَقَــدْ جَنَّــهُ السَّــدَفُ الأَدْهَــمْ

وقال عبيد:

وَخَـرْقٍ تَصِيـحُ البُومُ فِيهِ مَعَ الصَّدَى مَخُـوفٍ إذَا مَـا جَنَّـهُ اللَّيْـلُ مَرْهُوبِ

ومنه: « أجننت الميت » ، إذا واريته في اللحد, و « جننته » ، وهو نظير « جنون الليل » ، في معنى غطيته. ومنه قيل للترس « مِجَنّ » لأنه يُجنّ من استجنَّ به فيغطّيه ويواريه .

وقوله: « رأى كوكبًا » ، يقول: أبصر كوكبًا حين طلع « قال هذا ربي » ، فروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، يعني به الشمس والقمر والنجوم « فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي » ، فعبده حتى غاب, فلما غاب قال: لا أحب الآفلين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ » ، علم أن ربّه دائم لا يزول. فقرأ حتى بلغ: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ، رأى خلقًا هو أكبرَ من الخلقين الأوّلين وأنور.

وكان سبب قيل إبراهيم ذلك, ما:-

حدثني به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق فيما ذكر لنا، والله أعلم أن آزر كان رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسوادِ، سواد الكوفة, وكان إذ ذاك ملك المشرق النمرود، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم [ عليه السلام، خليل الرحمن، حجة على قومه ] ، ورسولا إلى عباده, ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد, أتى أصحابُ النجوم نمرودَ فقالوا له: تَعَلَّمْ، أنّا نجد في عِلْمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له « إبراهيم » , يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحابُ النجوم لنمرود, بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده إلا ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر, فإنه لم يعلم بحبَلها, وذلك أنها كانت امرأة حَدَثة، فيما يذكر، لم تعرف الحبَل في بطنها، ولِمَا أرادَ الله أن يبلغ بولدها، يريدُ أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذرًا على ملكه. فجعلَ لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطَّلقَ خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبًا منها, فولدت فيها إبراهيم, وأصلحت من شأنه ما يُصْنع بالمولود, ثم سَدّت عليه المغارة, ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل, فتجده حيًّا يمصّ إبهامه, يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصّه. وكان آزر، فيما يزعمون, سأل أمّ إبراهيم عن حمْلها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات! فصدّقها, فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون، على إبراهيم في الشَّباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر! فأخرجته عِشاء فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض, وقال: « إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربّي, ما لي إله غيره » ! ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا، قال: « هذا ربي » ، ثم اتّبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: « لا أحب الآفلين » ، ثم طلع القمر فرآه بازغًا، قال: هَذَا رَبِّي ، ثم اتّبعه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس, أعظَمَ الشمسَ, ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك, فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ! فلما أفلت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربَّه، وبرئ من دين قومه, إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه, وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه, وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه, فسرَّ بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا. وكان آزر يصنع أصنام قومِه التي يعبدونها, ثم يعطيها إبراهيم يبيعها, فيذهب بها إبراهيم، فيما يذكرون, فيقول : « من يشتري ما يضرُّه ولا ينفعه » ، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه, ذهب بها إلى نهر فصوَّبَ فيه رؤوسها, وقال: « اشربي » ، استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبُه إياها واستهزاؤُه بها في قومه وأهل قريته, من غير أن يكون ذلك بلغ نمرودَ الملك.

قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: « هذا ربي » ، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيٌّ ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقتٌ من الأوقات وهو بالغٌ إلا وهو لله موحدٌ، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة, لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله, وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه, فأثابه لاستحقاقه الثوابَ بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبرَ الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: « هذا ربي » , لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه, وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام, إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام, ولم تكن مع ذلك معبودة, وكانت آفلةً زائلة غير دائمة, والأصنام التي [ هي ] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم, أحقُّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم، معارضةً, كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضًا له في قولٍ باطلٍ قال به بباطل من القول، على وجه مطالبته إياه بالفُرْقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحِّح خصمه أحدَهما ويدعي فسادَ الآخر.

وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه. وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان.

وقال آخرون منهم: إنما معنى الكلام: أهذا ربي ؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي: ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك, فتحذف « الألف » التي تدلّ على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر:

رَفَـوْنِي وَقَـالُوا: يَـا خُوَيْلِدُ, لا تُرَعْ ! فَقُلْـتُ, وأَنْكَـرْتُ الوُجُـوهَ: هُـمُ هُمُ?

يعني: أهم هم؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس:

لَعَمْـرُكَ مَـا أَدْرِي, وَإنْ كُـنْتُ دَارِيًا, شُـعَيْثَ بـنَ سَـهْمٍ أم شُعَيْثَ بْنَ مِنْقَرِ

بمعنى: أشعيث بن سهم؟ فحذف « الألف » ، ونظائر ذلك. وأما تذكير « هذا » في قوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ، فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربِّي.

قال أبو جعفر: وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، الدليلُ على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصوابَ من القول في ذلك، الإقرارُ بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه.

وأما قوله: « فلما أفل » ، فإن معناه: فلما غاب وذهب، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، قال ابن إسحاق: « الأفول » ، الذهاب.

يقال منه: « أفل النجم يأفُلُ ويأفِلُ أفولا وأفْلا » ، إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة:

مَصَــابِيحُ لَيْسَـتْ بِـالَّلوَاتِي تَقُودُهَـا نُجُــومٌ, وَلا بــالآفِلاتِ الــدَّوَالِكِ

ويقال : « أين أفلت عنا » بمعنى: أين غبت عنا ؟

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعًا، وهو « بُزُوغه » .

يقال منه: « بزغت الشمس تَبْزُغُ بزُوغًا » ، إذا طلعت, وكذلك القمر.

« قال هذا ربي فلما أفل » ، يقول: فلما غاب « قال » ، إبراهيم، « لئن لم يهدني ربي » ، ويوفقني لإصابة الحق في توحيده « لأكونن من القوم الضالين » ، أيْ: من القوم الذين أخطؤوا الحق في ذلك, فلم يصيبوا الهدى, وعبدوا غير الله.

وقد بينا معنى « الضلال » ، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله « فلما رأى الشمس بازغة » ، فلما رأى إبراهيم الشمس طالعةً, قال: هذا الطالعُ ربّي « هذا أكبر » ، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه « فلما أفلت » ، يقول: فلما غابت, قال إبراهيم لقومه « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » ، أي: من عبادة الآلهة والأصنام ودعائه إلهًا مع الله تعالى ذكره.

 

القول في تأويل قوله : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه لما تبيّن له الحق وعرَفه, شهد شهادةَ الحقّ, وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم, ولم يستوحش من قِيل الحقِّ والثبات عليه, مع خلاف جميع قومه لقوله، وإنكارهم إياه عليه, وقال لهم: « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم, إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض, الدائم الذي يبقى ولا يفنى، ويُحْيي ويميت لا إلى الذي يفنى ولا يبقى، ويزول ولا يدوم، ولا يضر ولا ينفع.

ثم أخبرهم تعالى ذكره: أن توجيهه وجهه لعبادته، بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يحبُّ من التوحيد, لا على الوجه الذي يوجَّه له وَجْهه من ليس بحنيف, ولكنه به مشرك, إذ كان توجيه الوجه على غير التحنُّف غير نافع موجِّهه، بل ضارّه ومهلكه « وما أنا من المشركين » ، ولست منكم ، أي : لست ممن يدين دينكم، ويتّبع ملّتكم أيُّها المشركون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:

13465م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: « إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض » ، فقالوا: ما جئت بشيء! ونحن نعبده ونتوجّهه! فقال : لا حنيفًا!! قال: مخلصًا, لا أشركه كما تُشْركون.

 

القول في تأويل قوله : وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 80 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: « أتحاجوني في الله » ، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة « وقد هداني » ، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته, وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه « ولا أخاف ما تشركون به » ، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئًا ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. وذلك أنهم قالوا له: « إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل, لذكرك إياها بسوء » ! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالَنِي بضر ولا مكروه, لأنها لا تنفع ولا تضر « إلا أن يشاء ربي شيئًا » ، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض, فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به, لأنه القادر على ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: دعا قومُه مع الله آلهةً, وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبَه منها خَبَل, فقال إبراهيم: « أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: قد عرفت ربّي, لا أخاف ما تشركون به.

« وسع ربي كل شيء علمًا » ، يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء, لأنه خالق كل شيء, وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئًا, وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة « أفلا تتذكرون » ، يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورةً مصوّرة وخشبة منحوتة, لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله وترككم عبادةَ من خلقكم وخلق كلّ شيء, وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم لكل شيء .

 

القول في تأويل قوله : وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر: وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه, فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع ؟ ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن أنفسها كسرِى إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادتكم إياه « ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا » ، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة, ولم يضع لكم عليه برهانًا, ولم يجعل لكم به عذرًا « فأي الفريقين أحقّ بالأمن » ، يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربّي مخلصًا له العبادة، حنيفًا له ديني، بريئًا من عبادة الأوثان والأصنام, أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصنامًا لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانًا ولا حجة « إن كنتم تعلمون » ، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم, فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك, كان محمد بن إسحاق يقول فيما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق في قوله: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله » ، يقول : كيف أخاف وثَنًا تعبدون من دون الله لا يضرُّ ولا ينفع, ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع, وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع ؟ « فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أي: بالأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، الذي يَعْبد الذي بيده الضرّ والنفع، أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال, ويصرِّف لهم العبر, ليعلموا أنَّ الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبُدون من دونه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: أفلج الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاصمهم, فقال: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ؟ ثم قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول إبراهيم حين سألهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ، هي حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره، قال إبراهيم حين سألهم: « فأي الفريقين أحق بالأمن » ؟ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمَنْ يعبد ربًّا واحدًا, أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: الذين آمنوا برب واحد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمن خاف غير الله ولم يخفه، أم من خاف الله ولم يخف غيره؟ فقال الله تعالى ذكره: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ، الآية.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول أعني: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، الآية.

فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله, إذ قال لهم إبراهيم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلا بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة, ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم يعني: بشرك ولم يشركوا في عبادته شيئًا, ثم جعلوا عبادتهم لله خالصًا، أحقّ بالأمن من عقابه مكروهَ عبادته ربَّه، من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ, فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وجِلون من حلول سخَط الله بهم, وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذابِ الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، يقول الله تعالى ذكره: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة. يقول الله تعالى ذكره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، قال فقال الله وقضى بينهم: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. قال: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فأما الذنوبُ فليس يبري منها أحدٌ.

وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، أمن يعبد ربًّا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، بعبادة الأوثان, وهي حجة إبراهيم « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: هذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن أولى الفريقين بالأمن, وفصل قضاءٍ منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه. وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله, لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد, ولكنه كما ذكرت من تأويله بَدِيًّا.

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » .

فقال بعضهم: بشرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترونَ إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان : 13 ] ؟

قال أبو كريب قال « ابن إدريس، حدثنيه أوّلا أبي » ، عن أبان بن تغلب, عن الأعمش, ثم سمعتُه قيل له: مِنَ الأعمش؟ قال: نعم!

حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثني عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله، ما منّا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس بذلك, ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ »

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنُّون, وإنما هو ما قال لقمان لابنه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسُوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على الناس, فقالوا: يا رسول الله, وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال: « إنه ليس كما تعنون, ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو الشرك » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل, عن منصور, عن إبراهيم في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك, ألم تسمعوا قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن إدريس, عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن يونس بن أبي إسحاق, عن أبي إسحاق، عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سعيد بن عبيد الطائي, عن أبي الأشعر العبدي, عن أبيه: أن زيد بن صوحان سأل سلمان فقال: يا أبا عبد الله، آيةٌ من كتاب الله قد بلغت منِّي كل مبلغ: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ! فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد: ما يسرُّني بها أنّي لم أسمعها منك، وأنّ لي مثل كل شيء أمسيتُ أملكه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سعيد بن عبيد, عن أبي الأشعر, عن أبيه, عن سلمان قال: بشرك.

حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا نسير بن ذعلوق, عن كردوس, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن رجل, عن عيسى, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عارم أبو النعمان قال، حدثنا حماد بن زيد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وغيره: أن ابن عباس كان يقول: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: بكفر.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه , عن ابن عباس: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: لم يلبسوا إيمانهم بالشرك. وقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . [ سورة لقمان: 13 ]

حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم, عن علي بن زيد, عن المسيّب: أن عمر بن الخطاب قرأ : « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فلما قرأها فزع, فأتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر، قرأتُ آية من كتاب الله، مَنْ يَسْلم؟ فقال: ما هي؟ فقرأها عليه فأيُّنا لا يظلِمُ نفسه؟ فقال: غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس: أن عمر دخل منـزله فقرأ في المصحف، فمرّ بهذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فأتى أبيًّا فأحبره, فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو الشرك.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران، عن [ ابن مهران ] : أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه, فدخل ذات يوم فقرأ, فأتى على هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فانفتَل وأخذ رداءه, ثم أتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » وقد ترى أنا نظلِم، ونفعل ونفعل! فقال: يا أمير المؤمنين, إن هذا ليس بذاك, يقول الله تعالى ذكره: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، إنما ذلك الشرك.

حدثنا هناد قال، حدثنا بن فضيل, عن مطرف, عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فقال عمر: قد أفلح من لم يلبس إيمانه بظلم! فقال أبيّ: يا أمير المؤمنين، ذاك الشرك!

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط, عن محمد بن مطرف, عن ابن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب، فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن علي, عن زائدة, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد, عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بعبادة الأوثان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأعمش: أن ابن مسعود قال: لما نـزلت: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، كبُر ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله, ما منا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: عبادة الأوثان.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن مسعر, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن، قال: بشرك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق : « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم، وذلك: فعلُ ما نهى الله عن فعله، أو ترك ما أمر الله بفعله، وقالوا: الآية على العموم , لأن الله لم يخصَّ به معنى من معاني الظلم.

قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمْن في الآخرة، إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة , وإلا لمن لقى الله ولا ذنبَ له؟

قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصًّا من خلقه دون الجميع منهم، والذي عنى بها وأراده بها، خليلَه إبراهيم صلى الله عليه وسلم, فأما غيره، فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئًا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرًا, فإن شاء لم يؤمنه من عذابه, وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه.

قالوا: وذلك قول جماعة من السلف، وإن كانوا مختلفين في المعنيِّ بالآية.

فقال بعضهم: عُني بها إبراهيم.

وقال بعضهم: عني بها المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال: عنى بهذه الآية إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن زياد بن علاقة, عن زياد بن حرملة, عن علي قال: هذه الآية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خاصة, ليس لهذه الأمة منها شيء.

* ذكر من قال: عني بها المهاجرون خاصة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن سماك, عن عكرمة: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: هي لمن هاجر إلى المدينة.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصحة في ذلك, ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الخبر الذي رواه ابن مسعود عنه أنه قال: الظلم الذي ذكره الله تعالى ذكره في هذا الموضع، هو الشرك.

وأما قوله: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك « لهم الأمن » يوم القيامة من عذاب الله « وهم مهتدون » ، يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد، والسالكون طريق النجاة.

 

القول في تأويل قوله : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتلك حجتنا » ، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: « أي الفريقين أحق بالأمن » , أمن يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: « بل من يعبد ربًّا واحدًا أحق بالأمن » ، وقضاؤهم له على أنفسهم, فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه، كالذي:-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن رجل, عن مجاهد: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، قال: هي « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد قال : قال إبراهيم حين سأل: « أي الفريقين أحق بالأمن » ، قال: هي حجة إبراهيم وقوله: « آتيناها إبراهيم على قومه » ، يقول: لقناها إبراهيم وبَصَّرناه إياها وعرفّناه « على قومه نرفع درجات من نشاء » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة: « نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ » ، بإضافة « الدرجات » إلى « من » , بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بتنوين « الدرجات » , بمعنى: نرفع من نشاء درجات.

و « الدرجات » جمع « درجة » ، وهي المرتبة. وأصل ذلك مراقي السلم ودرَجه, ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، متقارب معناهما. وذلك أن من رفعت درجته، فقد رفع في الدرج ومن رفع في الدرج، فقد رفعت درجته. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.

فمعنى الكلام إذًا: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، فرفعنا بها درجته عليهم، وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة. فأما في الدنيا، فآتيناه فيها أجره وأما في الآخرة، فهو من الصالحين « نرفع درجات من نشاء » ، أي بما فعل من ذلك وغيره.

وأما قوله: « إن ربك حكيم عليم » ، فإنه يعني: إن ربك، يا محمد، « حكيم » ، في سياسته خلقَه، وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم، الجاحدة توحيد ربهم, وفي غير ذلك من تدبيره « عليم » ، بما يؤول إليه أمر رسله والمرسل إليهم، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم، وهلاكهم على ذلك، أوإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى ذكره وتصديق رسله، والرجوع إلى طاعته.

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فأتَسِ، يا محمد، في نفسك وقومك المكذبيك، والمشركين، بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم, واصبر على ما ينوبك منهم صبرَه, فإني بالذي يؤول إليه أمرك وأمرهم عالم، وبالتدبير فيك وفيهم حكيم.

 

القول في تأويل قوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا، وإخلاصه توحيد ربه, ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين, وآتيناه أجره في الدنيا، ووهبنا له أولادًا خصصناهم بالنبوّة, وذرية شرفناهم منا بالكرامة، وفضلناهم على العالمين, منهم: ابنه إسحاق, وابن ابنه يعقوب « كلا هدينا » ، يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد, فوفقناهم للحق والصواب من الأديان « ونوحًا هدينا من قبل » ، يقول: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحق والصواب، فوفقناه له نوحًا، من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

« ومن ذريته داود » ، و « الهاء » التي في قوله: « ومن ذريته » ، من ذكر نوح. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطًا فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . ومعلوم أن لوطًا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليهم أجمعين. فإذا كان ذلك كذلك, وكان معطوفًا على أسماء من سمَّينا من ذريته, كان لا شك أنه لو أريد بالذرية ذرية إبراهيم، لما دخل يونس ولوط فيهم. ولا شك أن لوطًا ليس من ذرّية إبراهيم، ولكنه من ذرية نوح, فلذلك وجب أن تكون « الهاء » في « الذرية » من ذكر نوح.

فتأويل الكلام: ونوحًا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب, وهدينا أيضًا من ذرّية نوح، داود وسليمان.

و « داود » ، هو داود بن إيشا و « سليمان » هو ابنه: سليمان بن داود و « أيوب » ، هو أيوب بن موص بن رزاح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم و « يوسف » ، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و « موسى » ، هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب و « هارون » ، أخو موسى.

« وكذلك نجزي المحسنين » ، يقول تعالى ذكره: جزينا نوحًا بصبره على ما امتحن به فينا، بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحق الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه, وهدينا من ذريته من بعده من ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا, كذلك نجزي بالإحسان كل محسن.

 

القول في تأويل قوله : وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا لمثل الذي هدينا له نوحًا من الهدى والرشاد من ذريته: زكريا بن إدُّو بن برخيَّا، ويحيى بن زكريا, وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا, وإلياس .

واختلفوا في « إلياس » .

فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

وكان غيره يقول: هو إدريس. وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيدة بن ربيعة, عن عبد الله بن مسعود قال: « إدريس » ، هو « إلياس » , و « إسرائيل » ، هو « يعقوب » .

وأما أهل الأنساب فإنهم يقولون: « إدريس » ، جدّ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و « أخنوخ » هو « إدريس بن يرد بن مهلائيل » . وكذلك روي عن وهب بن منبه.

والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب. وذلك أنّ الله تعالى ذكره نسب « إلياس » في هذه الآية إلى « نوح » ، وجعله من ذريته، و « نوح » ابن إدريس عند أهل العلم, فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبًا إلى أنه من ذريته.

وقوله: « كل من الصالحين » ، يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا « من الصالحين » , يعني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس صلى الله عليهم.

 

القول في تأويل قوله : وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من ذرية نوح « إسماعيل » وهو: إسماعيل بن إبراهيم « واليسع » ، هو اليسع بن أخْطُوب بن العجوز.

واختلفت القرأة في قراءة اسمه.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( وَالْيَسَعَ ) بلام واحدة مخففة.

وقد زعم قوم أنه « يفعل » , من قول القائل: « وسِعَ يسع » . ولا تكاد العرب تدخل « الألف واللام » على اسم يكون على هذه الصورة أعني على « يفعل » لا يقولون: « رأيت اليزيد » ولا « أتاني اليَحْيَى » ولا « مررت باليشكر » , إلا في ضرورة شعر , وذلك أيضًا إذا تُحُرِّي به المدح, كما قال بعضهم:

وَجَدْنَـا الْوَليـدَ بْـنَ الْـيَزِيدَ مُبَارَكًـا شَــدِيدًا بِأَحْنَــاءِ الْخِلافَـةِ كَاهِلُـهْ

فأدخل في « اليزيد » الألف واللام, وذلك لإدخاله إياهما في « الوليد » , فأتبعه « اليزيد » بمثل لفظه.

وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفيين: ( وَاللَّيْسَعَ ) بلامين، وبالتشديد, وقالوا: إذا قرئ كذلك، كان أشبه بأسماء العجم، وأنكروا التخفيف. وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسمًا على « يفعل » فيه ألف ولام.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه بلام واحدة مخففة, لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه، دون التشديد, مع أنه اسم أعجمي، فينطق به على ما هو به. وإنما يُعْلَم دخول « الألف واللام » فيما جاء من أسماء العرب على « يفعل » . وأما الاسم الذي يكون أعجميًّا، فإنما ينطق به على ما سَمَّوا به. فإن غُيِّرَ منه شيء إذا تكلمت العرب به، فإنما يغيّر بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان. و « الليسع » إذا شدد، لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى، أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه « ليسع » . فيكون مشددًا عند دخول « الألف واللام » اللتين تدخلان للتعريف.

و « يونس » هو: يونس بن متى « ولوطًا وكلا فضلنا » ، من ذرية نوح ونوحًا, لهم بينا الحق ووفقناهم له، وفضلنا جميعهم « على العالمين » ، يعني: على عالم أزمانهم.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 87 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره « ومن ذرياتهم وإخوانهم » ، آخرين سواهم، لم يسمهم، للحق والدين الخالص الذي لا شرك فيه, فوفقناهم له « واجتبيناهم » ، يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه, كالذي اخترنا ممن سمَّينا.

يقال منه: « اجتبى فلان لنفسه كذا » ، إذا اختاره واصطفاه، « يجتبيه اجتباء » .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « واجتبيناهم » ، قال: أخلصناهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله .

« وهديناهم إلى صراط مستقيم » ، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ, وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه, وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه, وأمر به عباده.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 88 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك هدى الله » ، هذا الهدي الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل، فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم، وشرفَ الدنيا، وكرامة الآخرة, هو « هدى الله » , يقول: هو توفيق الله ولطفه, الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه, حتى ينيب إلى طاعة الله، وإخلاص العمل له، وإقراره بالتوحيد، ورفضِ الأوثان والأصنام « ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون » ، يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره, فعبدوا معه غيره « لحبط عنهم » ، يقول: لبطل فذهبَ عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملون, لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا .

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله، نوحًا وذريته الذين هداهم لدين الإسلام، واختارهم لرسالته إلى خلقه, هم « الذين آتيناهم الكتاب » ، يعني بذلك: صحفَ إبراهيم وموسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين « والحكم » ، يعني: الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبان قال، حدثنا مالك بن شداد, عن مجاهد: « والحكم والنبوة » ، قال: « الحكم » ، هو اللبُّ.

وعنى بذلك مجاهد، إن شاء الله، ما قلت، لأن « اللب » هو « العقل » , فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب, وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به.

وقد بينا معنى « النبوة » و « الحكم » ، فيما مضى بشواهدهما, فأغنى ذلك عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن يكفر: يا محمد، بآيات كتابي الذي أنـزلته إليك فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم, كالذي:-

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن يكفروا بالقرآن.

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب « هؤلاء » .

فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش وعنى بقوله: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، الأنصار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال, عن قتادة في قول الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن جويبر, عن الضحاك، « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال : الأنصار.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: إن يكفر بها أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة الأنصار « ليسوا بها بكافرين » .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن تكفر بها قريش « فقد وكلنا بها » ، الأنصار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، أهلَ المدينة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: كان أهل المدينة قد تبوءوا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنـزل الله عليهم الآيات، جحد بها أهل مكة. فقال الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » . قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس, ولكن سمعته من غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني أهلَ المدينة والأنصار.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة, فقد وكلنا بها الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن أبي رجاء: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: هم الملائكة .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي وعبد الوهاب, عن عوف, عن أبي رجاء, مثله .

وقال آخرون: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني قريشًا وبقوله: « فقد وكلنا بها قومًا » ، الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبلَ هذه الآية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: يعني قوم محمد. ثم قال: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم. ثم قال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، كفار قريش « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر, فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم.

فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا, وكذبوا وجحدوا حقيقتها, فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها, ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها.

وقد قال بعضهم: معنى قوله: « فقد وكّلنا بها قومًا » ، رزقناها قومًا.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « أولئك » ، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الذين هداهم الله لدينه الحق, وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه, فوفقهم جل ثناؤه لذلك « فبهداهم اقتده » ، يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم « اقتده » ، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه, فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى.

وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك.

وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة أو: أنهم هم الملائكة فإنهم جعلوا قوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، اعتراضًا بين الكلامين, ثم ردّوا قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، على قوله: « أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إلى قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، يا محمد .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين هدى الله » ، يا محمد, « فبهداهم اقتده » ، ولا تقتد بهؤلاء.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » .

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: « فبهداهم اقتده » .

ومعنى: « الاقتداء » في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال: « فلان يقدو فلانًا » ، إذا نحا نحوه، واتبع أثره, « قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة » .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد: « لا أسألكم » ، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به, عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم, وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينـزل بكم على شرككم به وكفركم وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد, لتذكروا وتنـزجروا.

 

لقول في تأويل قوله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وما قدروا الله حق قدره » ، وما أجلُّوا الله حق إجلاله, ولا عظموه حق تعظيمه « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يقول: حين قالوا: لم ينـزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، وفي تأويل ذلك.

فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود.

ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل.

فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف.

وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص.

واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك.

* ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى, أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا, فغضب فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فأنـزل الله: « وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى » ، الآية .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: نـزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، الآية .

* ذكر من قال: نـزلت في فنحاص اليهوديّ.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنـزل الله على محمد من شيء!

وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، الآية [ سورة النساء : 153 ] . فجثا رجل من يهود فقال: ما أنـزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنـزل الله: « وما قدروا الله حق قدره » . قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله « إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا » ، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته, وجعل يقول: « ولا على أحَدٍ » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ، هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به،

ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به, فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت, فماذا عملت فيما علمت ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنـزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنـزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنـزل الله: « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، إلى قوله : وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: الله أنـزله .

وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: « ما أنـزل الله على بشر من شيء » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: ( قُلْ مَنْ أَنـزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: هذه للمسلمين.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما قدروا الله حق قدره » ، يقول: مشركو قريش .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله « وما قدروا الله حق قدره » ، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.

ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود, وجدوا قوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنـزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم .

والأصوب من القراءة في قوله: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا, ويكون الخطاب بقوله : قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قل: « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا » ، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة « وهدى للناس » ، يقول: بيانًا للناس, يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم « تجعلونه قراطيس تبدونها » .

فمن قرأ ذلك: ( تَجْعَلُونَهُ ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك.

ومن قرأه بالياء: ( يَجْعَلُونَهُ ) ، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في « يبدونها » بذكر « القراطيس » , والمراد منه المكتوب في القراطيس, يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس.

ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، اليهود.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: « قل » يا محمد « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها » ، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة « ويخفون كثيرًا » ، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل عليه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول: « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا.

 

القول في تأويل قوله : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( 91 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنـزله إليكم، ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة « ولا آباؤكم » ، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: « وعلمتم » ، معشرَ العرب « ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله: « وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، قال: هذه للمسلمين .

وأما قوله: « قل الله » ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، بقيل الله، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، [ سورة الأنعام : 63 ] . فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، عمن أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [ سورة الأنعام : 64 ] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنـزله على موسى، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، قال: الله أنـزله.

ولو قيل: معناه: « قل: هو الله » ، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: « قل الله » ، جوابًا لهم عن مسألتهم, وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزًا، من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا.

وأما قوله: « ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، بعد احتجاجك عليهم في قيلهم: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، بقولك: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، وإجابتك ذلك بأن الذي أنـزله: الله الذي أنـزل عليك كتابه « في خوضهم » ، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته « يلعبون » ، يقول: يستهزئون ويسخرون.

وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي.

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد « كتاب » .

وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب, فوضع « الكتاب » مكان « المكتوب » .

« أنـزلناه » ، يقول: أوحيناه إليك « مبارك » ، وهو « مفاعل » من « البركة » « مصدّق الذي بين يديه » ، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها [ دلالة ومعنى ] نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ , يقول: هو الذي أنـزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدم [ من ] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [ له ] مواصل, فقال: « وهذا كتاب أنـزلناه إليك مبارك » , ومعناه: وكذلك أنـزلت إليك كتابي هذا مباركًا, كالذي أنـزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا.

وأما قوله: « ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها » ، فإنه يقول: أنـزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب, ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة « ومن حولها » ، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد, والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، يعنى ب « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، من القرى إلى المشرق والمغرب.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، و « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، الأرض كلها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ولتنذر أم القرى » ، قال: هي مكة وبه عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، أما « أم القرى » فهي مكة، وإنما سميت « أم القرى » , لأنها أول بيت وضع بها.

وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة « أم القرى » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 92 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنـزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا » ، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله كذبًا, فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا, وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب.

وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح, أخي بني عامر بن لؤي, كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وكان فيما يملي « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » , فيكتب « غَفُورٌ رَحِيمٌ » , فيغيره, ثم يقرأ عليه « كذا وكذا » ، لما حوَّل, فيقول: « نعم، سواءٌ » . فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينـزل عليه « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت, فيقول: « نعم سواء » ! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة, إذ نـزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ.

وقال بعضهم: بل نـزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء » إلى قوله: تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ . قال: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم, وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, فكان إذا أملى عليه: « سميعًا عليمًا » , كتب هو: « عليمًا حكيمًا » ، وإذا قال: « عليمًا حكيمًا » كتب: « سميعًا عليمًا » ، فشكّ وكفر, وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ, وإن كان الله ينـزله فقد أنـزلت مثل ما أنـزل الله ! قال محمد: « سميعًا عليمًا » فقلت أنا: « عليمًا حكيمًا » ! فلحق بالمشركين, ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر, فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه, فأنـزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [ سورة النحل :106 ] ، فالذي أكره: عمار وأصحابه والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح.

وقال آخرون: بل القائل: « أوحي إلي ولم يوح إليه شيء » ، مسيلمة الكذاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب, فكبرا عليّ وأهمّاني, فأوحى إليّ: أن انفخهما, فنفختهما فطارا, فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة, وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له: « الأسود » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب, فكبر ذلك عليّ, فأوحي إلي أن انفخهما, فنفخهما فطارا, فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. »

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: « إني قد قلت مثل ما قال محمد » , وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين, وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك, فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: « أوحى الله إلي » , وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنـزيل، فإنه جائز أن يكون نـزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نـزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون, ولنبوّته جاحدون, ولآيات كتاب الله وتنـزيله دافعون, فقال لهم جل ثناؤه: « ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا » ، وقال: « أوحي إلي » ، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، فينقض قولَه بقوله, ويكذب بالذي تحققه, وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر .

فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل: « سأنـزل مثل ما أنـزل الله » , إلي: سأنـزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد, والقائلين: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء, والقائلين: سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت, ونـزل بهم أمر الله, وحان فناء آجالهم, والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم, كما قال جل ثناؤه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [ سورة محمد : 27 ، 28 ] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.

و « الغمرات » جمع « غمرة » , و « غمرة كل شيء » ، كثرته ومعظمه, وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها, ومنه قول الشاعر:

وَهَــلْ يُنْجِــي مِـنَ الْغَمَـرَاتِ إلا بُرَاكَـــاءُ القِتَـــالِ أوِ الفِــرَارُ

وروي عن ابن عباس في ذلك, ما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » ، قال: سكرات الموت.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « في غمرات الموت » ، يعني سكرات الموت.

وأما « بسط الملائكة أيديها » ، فإنه مدُّها.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك.

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، قال: هذا عند الموت، « والبسط » ، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، يقول: « الملائكة باسطو أيديهم » ، يضربون وجوههم وأدبارهم والظالمون في غمرات الموت, وملك الموت يتوفّاهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والملائكة باسطو أيديهم » ، يضربونهم .

وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « والملائكة باسطو أيديهم » ، قال : بالعذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: « والملائكة باسطو أيديهم » ، بالعذاب.

وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم.

فإن قال قائل: ما وجه قوله: « أخرجوا أنفسكم » ، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار, وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم!

قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [ إليه ] ذهبت وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم, بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها.

 

القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( 93 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها, يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، إلى سخط الله ولعنته, فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله, وقيلكم عليه الباطل, وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا, وإنكاركم أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا, واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته « عذابَ الهون » ، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم, حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « عذاب الهون » ، فالذي يهينهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « اليوم تجزون عذاب الهون » ، قال: عذاب الهون، في الآخرة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

والعرب إذا أرادت ب « الْهُونِ » معنى « الهوان » ، ضمت « الهاء » , وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت « الهاء » , فقالوا: هو « قليل هَوْن المؤونة » ، ومنه قول الله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [ سورة الفرقان : 63 ] ، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ:

وَنَقْــضَ أَيْــامٍ نَقَضْــنَ أَسْــرَهُ هَوْنًــا وَأَلْقَــى كُـلُّ شَـيْخٍ فَخـرَهُ

ومنه قول الآخر:

هَوْنَكُمَــا لا يَـرُدُّ الدَّهْـرُ مـا فَاتَـا لا تَهْلِكَـا أَسَـفًا فِـي إِثْـرِ مَـنْ مَاتَا

يريد: أرْوِدا. وقد حكي فتح « الهاء » في ذلك بمعنى « الهوان » ، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين:

يُهِيـنُ النفُــوسَ, وَهَــوْنُ النُّفُــو سِ عِنْـدَ الكَرِيهَـــةِ أَغْلَى لَهَــا

والمعروف من كلامهم، ضمُّ « الهاء » منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل, كما قال ذو الإصبع العدواني:

اذْهَــبْ إلَيْـكَ فَمَـا أُمِّـي بِرَاعِيَـةٍ تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ

يعني: على الهوان وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها.

 

القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد, يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: « لقد جئتمونا فرادى » .

ويعني بقوله: « فرادى » ، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا « كما خلقناكم أوّل مرة » ، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم, وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا.

و « فرادى » ، جمع, يقال لواحدها: « فَرِد » , كما قال نابغة بني ذبيان:

مِـنْ وَحْـشِ وَجْـرَةَ مَوْشـيٍّ أَكَارِعُهُ طَـاوِي المَصِـيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ

و « فَرَدٌ » و « فريد » , كما يقال: « وَحَد » و « وَحِد » و « وحيد » في واحد « الأوحاد » . وقد يجمع « الفَرَد » « الفُرَاد » كما يجمع « الوَحَد » ، « الوُحَاد » , ومنه قول الشاعر:

تَـرَى النَّعَـرَاتِ الـزُّرْقَ فَـوْقَ لَبَانِه فُـرَادَى وَمَثْنًـى أَصْعَقَتْهَـا صَوَاهِلُـهْ

وكان يونس الجرْميّ، فيما ذكر عنه، يقول: « فُراد » جمع « فَرْد » , كما قيل: « تُؤْم » و « تُؤَام » للجميع. ومنه: « الفُرَادى » ، و « الرُّدَافى » و « القُرَانى » . يقال: « رجل فرد » و « امرأة فرد » , إذا لم يكن لها أخٌ. « وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا » , يراد به تفرَّد, « فهو فارد » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [ قال ابن زيد قال ] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » ، فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ , لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال, شغل بعضهم عن بعض.

وأما قوله: « وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم » ، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم.

وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم.

وكل ما ملكته غيرك وأعطيته: « فقد خوّلته » , يقال منه: « خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال » بكسر الخاء « وهو خائل » , ومنه قول أبي النجم:

أَعْطَــى فَلَــمْ يَبْخَـلْ وَلَـمْ يُبَخَّـلِ كَـومَ الـذُّرَى مِـنْ خَـوَلِ المُخَــوِّلِ

وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير:

هُنَـالِكَ إِنْ يُسْـتَخْوَلُوا الْمَـالَ يُخـوِلُوا وَإن يُسْـأَلُوا يُعطُـوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وتركتم ما خوّلناكم » ، من المال والخدم « وراء ظهوركم » ، في الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة.

وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: « وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء » ، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: « سوف تشفع لي اللات والعزَّى » ! فنـزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، إلى قوله: « شركاء » .

 

القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 94 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: « لقد تقطع بينكم » ، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة, فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، « البين » ، تواصلهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، قال: تواصلهم في الدنيا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « لقد تقطع بينكم » ، قال: وصلكم.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لقد تقطع بينكم » ، قال: ما كان بينكم من الوصل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس: « لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون » ، يعني الأرحام والمنازل.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لقد تقطع بينكم » ، يقول: تقطع ما بينكم.

حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش: « لقد تقطع بينكم » ، التواصل في الدنيا.

واختلفت القرأة في [ قراءة ] قوله: « بينكم » .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم.

وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ ) ، رفعًا, بمعنى: لقد تقطع وصلُكم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.

وذلك أن العرب قد تنصب « بين » في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها: « أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك » , نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في « بين » ، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل:

كَــأَنَّ رِمــاحَهُم أَشْــطَانُ بِــئْرٍ بَعِيـــدٍ بَيْــنُ جَالَيْهَــا جَــرُورِ

برفع « بين » ، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا.

وأما قوله: « وضل عنكم ما كنتم تزعمون » ، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى

قال أبو جعفر: وهذا تنبيهٌ من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجّته عليهم, وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة، أيها الناس، دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان, هو الله الذي فَلق الحبَّ يعني: شق الحبَّ من كل ما ينبت من النبات, فأخرج منه الزرع « والنوى » ، من كل ما يغرس مما له نَواة, فأخرج منه الشجر.

و « الحبّ » جمع « الحبة » , و « النوى » جمع « النواة » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الله فالق الحب والنوى » ، أما « فالق الحب والنوى » : ففالق الحب عن السنبلة, وفالق النواة عن النخلة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فالق الحب والنوى » ، قال: يفلق الحب والنوى عن النبات.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الله فالق ذلك, فلقه فأنبت منه ما أنبت. فلق النواة فأخرج منها نَبَات نخلة, وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق.

وقال آخرون: معنى « فالق » ، خالق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, مثله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه فلق الشقّ الذي في الحبّة والنواة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد, عن حصين, عن أبي مالك في قول الله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الحب والنوى » ، يقول: خالق الحب والنوى, يعني كلّ حبة .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، ما قدّمنا القول به. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي, فكان معلومًا بذلك أنه إنَّما عنى بإخباره عن نفسه أنّه فالق الحب عن النبات، والنوى عن الغُرُوس والأشجار, كما هو مخرج الحي من الميت، والميّت من الحي.

وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى « فالق » ، أنه خالق, فقولٌ إن لم يكن أراد به أنّه خالق منه النبات والغُروس بفلقه إياه لا أعرف له وجهًا, لأنه لا يعرف في كلام العرب: « فلق الله الشيء » ، بمعنى: خلق .

 

القول في تأويل قوله : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 95 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت, ومخرج الحبِّ الميت من السنبل الحيّ, والشجرِ الحيّ من النوى الميت, والنوى الميِّت من الشجر الحيّ.

والشجر ما دام قائمًا على أصوله لم يجفّ، والنبات على ساقه لم ييبَس, فإن العرب تسميه « حَيًّا » , فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله، سمّوه « ميتًا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « يخرج الحي من الميت » ، فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة, ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية, ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة, ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة, والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) ، قال: يخرج النطفة الميتة من الحي, ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًّا.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك, لأنه عَقِيب قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، على أن قوله: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، وإن كان خبرًا من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحب, فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك. وكل ميّت أخرجه الله من جسمٍ حَيٍّ, وكل حيّ أخرجه الله من جسمٍ ميتٍ.

وأما قوله: « ذلكم الله » ، فإنه يقول: فاعل ذلك كلِّه اللهُ جل جلاله « فأنى تؤفكون » ، يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ، أيها الجاهلون، تصدّون عن الصواب وتصرفون, أفلا تتدبرون فتعلمون أنّه لا ينبغي أن يُجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى, فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا وحُروثًا وثمارًا تتغذون ببعضه وتفكّهون ببعضه, شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟

 

القول في تأويل قوله : فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « فالق الإصباح » ، شاقٌّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده.

و « الإصباح » مصدر من قول القائل: « أصبحنا إصباحًا » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الصبح.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي, نجيح, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الفجر.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصُّبح.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فالق الإصباح » ، يعني بالإصباح، ضوءَ الشمس بالنهار, وضوءَ القمر بالليل.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصبح.

حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الإسناد, عن مجاهد فقال في قوله: « فالق الإصباح » ، قال إضاءة الصبح.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فلق الإصباح عن الليل.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الإصباح » ، يقول: خالق النور, نور النهار.

وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: ( فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ) ، يقول: خلق الليل والنهار.

وذكر عن الحسن البصري أنّه كان يقرأ: ( فَالِقُ الأصْبَاحِ ) ، بفتح الألف، كأنه تأول ذلك بمعنى جمع « صبح » , كأنه أراد صبح كل يوم, فجعله « أصباحًا » , ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز تعدِّيها، بكسر الألف: ( فالِقُ الإصْبَاح ) ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفضِ خلافه.

وأما قوله: « وجاعِلُ الليل سكنًا » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته.

فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض البصريين: ( وَجَاعِلُ اللَّيْلِ ) بالألف على لفظ الاسم، ورفعه عطفًا على « فالق » , وخفض « الليل » بإضافة « جاعل » إليه, ونصب « الشمس والقمر » ، عطفًا على موضع « الليل » ، لأن « الليل » وان كان مخفوضًا في اللفظ، فإنه في موضع النصب, لأنه مفعول « جاعل » . وحسن عطف ذلك على معنى « الليل » لا على لفظه, لدخول قوله: « سكنًا » بينه وبين « الليل » ، قال الشاعر:

قُعُـوداً لَـدَى الأبْـوَابِ طُـلابَ حاجَةٍ عَـوَانٍ مِـنَ الْحَاجَـاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرًا

فنصب « الحاجة » الثانية، عطفًا بها على معنى « الحاجة » الأولى, لا على لفظها، لأن معناها النصب، وإن كانت في اللفظ خفضًا. وقد يجيء مثل هذا أيضًا معطوفًا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه, وإن لم يكن بينهما حائل, كما قال بعضهم:

بَيْنَـــا نَحْـــنُ نَنْظُــرْهُ أَتَانَــا مُعلِّـــقَ شِـــكْوَةٍ وَزِنــادَ رَاعِ

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ ) ، على « فَعَلَ » ، بمعنى الفعل الماضي، ونصب « الليل » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى، غير مختلفتيه, فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الإعراب والمعنى.

وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنًا, لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه, فيستقر في مسكنه ومأواه.

 

القول في تأويل قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك:

فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يجريان إلى أجلٍ جُعل لهما.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يقول: بحساب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: الشمس والقمر في حساب, فإذا خَلَتْ أيامهما فذاك آخرُ الدهر، وأول الفزع الأكبر « ذلك تقدير العزيز العليم » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يدوران في حساب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال هو مثل قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ سورة الأنبياء: 33 ] ، ومثل قوله: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ سورة الرحمن: 5 ] .

وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والشمس والقمر حسبانًا » ، أي ضياء.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب، تأويل من تأوَّله: وجعل الشمس والقمرَ يجريان بحساب وعددٍ لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما, ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره ذكَر قبلَه أياديه عند خلقه، وعظم سلطانه, بفلقه الإصباح لهم، وإخراج النبات والغِراس من الحب والنوى, وعقّب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر. فكان وصفه إجراءه الشمس والقمرَ لمنافعهم، أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما، لأنه قد وصف ذلك قبلُ بقوله: « فالق الإصباح » ، فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى.

و « الحسبان » في كلام العرب جمع « حِساب » , كما « الشُّهبان » جمع شهاب. وقد قيل إن « الحسبان » ، في هذا الموضع مصدر من قول القائل: « حَسَبْتُ الحساب أحسُبُه حِسابًا وحُسْبانًا » . وحكي عن العرب: « على الله حُسْبان فلان وحِسْبته » ، أي: حسابه.

وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء, ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [ سورة الكهف: 40 ] . قال: نارًا, فوجه تأويل قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء.

وأما « الحِسبان » بكسر « الحاء » ، فإنه جمع « الحِسبانة » ، وهي الوسادة الصغيرة, وليست من الأوَّليين أيضًا في شيء. يقال: « حَسَّبته » ، أجلستُه عليها.

ونصب قوله: « حسبانًا » بقوله: « وجعل » .

وكان بعض البصريين يقول: معناه: « والشمس والقمرَ حسبانًا » ، أي: بحساب, فحذف « الباء » ، كما حذفها من قوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [ سورة الأنعام: 117 ] ، أي: أعلم بمن يضل عن سبيله.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 96 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله, وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا, تقدير الذي عزّ سلطانه, فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام، من الامتناع منه « العليم » ، بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقديرُ الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع, وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها. يقول جل ثناؤه: وأخلصوا، أيها الجهلة، عبادتَكم لفاعل هذه الأشياء, ولا تشركوا في عبادته شيئًا غيره.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 97 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم، أيها الناس، النجوم أدلةً في البر والبحر إذا ضللتم الطريق, أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلّون بها على المحجَّة, فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة، فتسلكونه وتنجون بها من ظلمات ذلك, كما قال جل ثناؤه: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ سورة النحل: 16 ] ، أي: من ضلال الطريق في البرّ والبحر وعنى بالظلمات، ظلمة الليل, وظلمة الخطأ والضلال, وظلمة الأرض أو الماء.

وقوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون » ، يقول: قد ميَّزنا الأدلة، وفرَّقنا الحجج فيكم وبيّناها، أيها الناس، ليتدبّرها أولو العلم بالله منكم، ويفهمها أولو الحجا منكم, فينيبوا من جهلهم الذي هم مقيمون عليه, وينـزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون, ولا يتمادوا عنادًا لله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غَيِّهم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر » ، قال: يضلّ الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( 98 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإلهكم، أيها العادلون بالله غيره « الذي أنشأكم » ، يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء، فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا « من نفس واحدة » ، يعني: من آدم كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « من نفس واحدة » ، قال: آدم عليه السلام.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة » ، من آدم عليه السلام.

وأما قوله: « فمستقر ومستودع » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.

فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة, فمنكم مستقِرٌّ في الرحم، ومنكم مستودع في القبر حتى يبعثه الله لنَشْر القيامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, عن عبد الله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود: 6 ] . قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن إسماعيل, عن إبراهيم, عن عبد الله أنه قال: « المستودع » حيث تموت, و « المستقر » ، ما في الرحم .

حدثت عن عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله بن مسعود قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، المكان الذي تموت فيه.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا محمد بن فضيل وعلي بن هاشم, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الأرض، حيث تموت فيها.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مقسم قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الصلب حيث تأويل إليه وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت.

وقال آخرون: « المستودع » ، ما كان في أصلاب الآباء و « المستقر » ، ما كان في بطون النساء، وبطون الأرض، أو على ظهورها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستودعون، ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها, فقد استقرّوا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن علية, عن كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير: « فمستقر ومستودع » ، قال: المستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض، فقد استقروا.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود : 6 ] . قال: « المستودع » في الصلب و « المستقر » ، ما كان على وجه الأرض أو في الأرض.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقر في الأرض على ظهورها، ومستودع عند الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن المغيرة, عن أبي الجبر بن تميم بن حذلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « المستقر » الأرض, « والمستودع » ، عند الرحمن.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الأرض, و « المستودع » ، عند ربك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم قال، قال عبد الله: مُسْتَقَرَّهَا ، في الدنيا, وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الآخرة يعني « فمستقر ومستودع » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال: « المستودع » ، في الصلب, و « المستقر » ، في الآخرة وعلى وجه الأرض.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقر في الرحم، ومستودع في الصلب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص, عن أبي الحارث, عن عكرمة, عن ابن عباس في قول الله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستقر في الرحم, ومستودع في صلب، لم يخلق سَيُخلق.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يحيى الجابر, عن عكرمة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الذي قد استقر في الرحم, و « المستودع » ، الذي قد استودع في الصلب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر تميم, عن سعيد بن جبير, قال ابن عباس: سل! فقلت: « فمستقرّ ومستودع » ؟ قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » الرحم, و « المستودع » ، ما كان عند رب العالمين مما هو خالقه ولم يخلق.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [ سورة هود: 6 ] ، قال: « المستقر » ، ما كان في الرحم مما هو حيٌّ، ومما قد مات و « المستودع » ، ما في الصلب.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس, وذلك قبل أن يَخْرُج وجهي أتزوّجت يا ابن جبير؟ قال: قلت لا وما أريد ذاك يومي هذا! قال فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودَعين.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس: تزوجت؟ قلت: لا ! قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودَع في ظهرك سيخرج.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الأرحام, و « المستودع » ، في الصلب، لم يخلق وهو خالقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال والدوابّ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقرّ في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر بن تميم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, بنحوه.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد, عن عمار الدهني, عن رجل, عن كريب قال: دعاني ابن عباس فقال: اكتب: « بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عباس، إلى فلان حَبْر تَيْماء، سلامٌ عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, أما بعد قال، فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك؟ فقال: إن الله هو السلام ثم قال: اكتب » سلامٌ عليك, أما بعد، فحدثني عن: « مستقر ومستودع » . قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي, فأعطيته إياه. فلما نظر إليه قال: مرحبًا بكتاب خليلي من المسلمين ! فذهب بي إلى بيته, ففتح أسفاطًا له كبيرة, فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال قلت: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود! حتى أخرج سفر موسى عليه السلام، قال: فنظر إليه مرتين فقال: « المستقر » ، الرحم، قال: ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [ سورة الحج: 5 ] ، وقرأ: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ، [ سورة البقرة :36 ] ، [ سورة الأعراف:24 ] . قال: مستقرُّه فوق الأرض, ومستقرُّه في الرحم, ومستقره تحت الأرض حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، ما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في أصلاب الرجال.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة, عن ابن جريج, عن عطاء وعن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في الأصلاب.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثناعيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمستقر » ، ما استقر في أرحام النساء « ومستودع » ، ما كان في أصلاب الرجال .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقر في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, « والمستودع » ، الصلب .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاذ بن معاذ, عن ابن عون قال: أتينا إبراهيم عند المساء فأخبرونا أنه قد مات، فقلنا: هل سأله أحدٌ عن شيء؟ قالوا: عبد الرحمن بن الأسود، عن « المستقر » و « المستودع » ، فقال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: أتينا إبراهيم وقد مات، قال: فحدثني بعضهم: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن « المستقر » و « المستودع » , فقال: « المستقر » ، في الرحم, « والمستودع » ، في الصلب.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أتينا منـزل إبراهيم, فسألنا عنه فقالوا: قد توفي. وسأله عبد الرحمن بن الأسود, فذكر نحوه.

حدثني به يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أنه بلغه: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم عن ذلك, فذكر نحوه.

حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن العلاء بن هارون قال: انتهيت إلى منـزل إبراهيم حين قبض, فقلت لهم: هل سأله أحد عن شيء؟ قالوا: سأله عبد الرحمن بن الأسود عن « مستقر ومستودع » , فقال: أما « المستقر » ، فما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما في أصلاب الرجال.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، الصلب.

حدثني يونس قال، حدثني سفيان, عن رجل حدَّثه، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ألا تنكح؟ ثم قال: أما إني أقول لك هذا، وإني لأعلم أن الله مخرجٌ من صلبك ما كان فيه مستودَع.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك: « فمستقر ومستودع » ، أما « مستقر » ، فما استقر في الرحم وأما « مستودع » ، فما استودع في الصلب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الأرحام, « ومستودع » ، في الأصلاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وأبي حمزة, عن إبراهيم قالا « مستقر ومستودع » , « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب.

وقال آخرون: « المستقر » ، في القبر, « والمستودع » ، في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: « مستقر » ، في القبر, « ومستودع » في الدنيا، وأوشك أن يلحق بصاحبه.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: « فمستقر ومستودع » ، كلَّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، مستقرًّا ومستودعًا, ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أنّ من بني آدم مستقرًّا في الرحم، ومستودعًا في الصلب, ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال, ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلٌّ « مستقر » أو « مستودع » بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله: « فمستقر ومستودع » ومراد به، إلا أن يأتي خبرٌ يجب التسليم له بأنه معنيٌّ به معنى دون معنى، وخاص دون عام.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « فمستقر ومستودع » .

فقرأت ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) ، بمعنى: فمنهم من استقرّه الله في مقرِّه، فهو مستقَرٌّ ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه، فهو مستودَع فيه.

وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( فَمُسْتَقِرٌّ ) ، بكسر « القاف » بمعنى: فمنهم من استقرّ في مقرّه، فهو مستقِرّ به.

وأولى القراءتين بالصواب عندي، وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: ( فَمُسْتَقَرٌّ ) ، بمعنى: استقرّه الله في مستقَرِّه, ليأتلف المعنى فيه وفي « المستودَع » ، في أن كل واحد منهما لم يسمَّ فاعله, وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقِرُّ هذا، والمستودِع هذا. وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله: « ومستودَع » بفتح « الدال » على وجه ما لم يسمَّ فاعله, فإجراء الأوّل أعني قوله: « فمستقر » عليه، أشبه من عُدُوله عنه.

وأما قوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول تعالى: قد بيّنا الحجج، وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها « لقوم يفقهون » ، مواقعَ الحجج ومواضع العبر، ويفهمون الآيات والذكر, فإنهم إذا اعتبروا بما نبّهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر، وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور, علموا أنّ ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول: قد بينا الآيات لقوم يفقهون.

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شريك فيها لشيء سواه, هو الإله الذي أنـزل من السماء ماء « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا بالماء الذي أنـزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم، ما يتغذون به ويأكلونه فينبتُون عليه وينمون. وإنما معنى قوله: « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا به ما ينبت به كل شيء وينمو عليه ويصلحُ.

ولو قيل: معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات، فيكون « كل شيء » ، هو أصناف النبات كان مذهبًا، وإن كان الوجه الصحيح هو القولَ الأول.

وقوله: « فأخرجنا منه خضرًا » ، يقول: « فأخرجنا منه » ، يعني: من الماء الذي أنـزلناه من السماء « خَضِرًا » ، رطبًا من الزرع.

« والخضر » ، هو « الأخضر » , كقول العرب: « أرِنيهَا نَمِرة، أُرِكْها مَطِرَة » . يقال: « خَضِرَت الأرض خَضَرًا. وخَضَارة » . و « الخضر » رطب البقول, ويقال: « نخلة خضيرة » ، إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج. و « قد اختُضِر الرجل » و « اغْتُضِر » ، إذا مات شابًّا مُصَحَّحًا. ويقال: « هو لك خَضِرًا مَضِرًا » ، أي هنيئًا مريئًا.

قوله: « نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، يقول: نخرج من الخضر حبًّا يعني: ما في السنبل, سنبل الحنطة والشعير والأرز, وما أشبه ذلك من السنابل التي حبُّها يركب بعضه بعضًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، فهذا السنبل.

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوانه دانية، ولذلك رفعت « القِنوان » .

و « القنوان » جمع « قِنْو » , كما « الصنوان » جمع « صِنْو » , وهو العِذْق, يقال للواحد هو « قِنْو » ، و « قُنْو » و « قَنَا » ، يثنى « قِنوانِ » , ويجمع « قنوانٌ » و « قُنوانٌ » . قالوا في جمع قليله: « ثلاثة أقْناء » . و « القِنوان » من لغة الحجاز, و « القُنْوان » ، من لغة قيس، وقال امرؤ القيس:

فَـــأَثَّتْ أَعَالِيــهِ, وَآدَتْ أُصُولُــهُ وَمَـالَ بِقِنْـوانٍ مِـنَ البُسْـرِ أَحْـمَرَا

و « قِنْيان » ، جميعًا، وقال آخر:

لَهَـا ذَنَـبٌ كَـالْقِنْوِ قَـدْ مَـذِلَتْ بِـهِ وَأَسْــحَمَ لِلتَّخْطَــارِ بَعْـدَ التَّشَـذُّرِ

وتميم تقول: « قُنْيان » بالياء.

ويعني بقوله: « دانية » ، قريبة متهدّلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قنوان دانية » ، يعني ب « القنوان الدانية » ، قصار النخل، لاصقة عُذُوقها بالأرض.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « من طلعها قنوان دانية » ، قال: عذوق متهدلة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « قنوان دانية » ، يقول: متهدلة.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: « قنوان دانية » ، قال: قريبة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب: « قنوان دانية » ، قال: قريبة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، قال: الدانية، لتهدُّل العُذوق من الطلع.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، يعني النخل القصارَ الملتزقة بالأرض, و « القنوان » طلعه.

 

القول في تأويل قوله : وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضًا جنات من أعناب يعني: بساتينَ من أعناب.

واختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه عامة القرأة: ( وَجَنَّاتٍ ) نصبًا, غير أن « التاء » كسرت، لأنها « تاء » جمع المؤنث, وهي تخفض في موضع النصب.

وقد:-

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام, عن الكسائي قال، أخبرنا حمزة, عن الأعمش أنه قرأ: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ ) .

بالرفع، فرفع « جنات » على إتباعها « القنوان » في الإعراب, وإن لم تكن من جنسها، كما قال الشاعر:

وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن يقرأ ذلك إلا بها، النصبُ: ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ) ، لإجماع الحجة من القرأة على تصويبها والقراءة بها، ورفضهم ما عداها, وبُعْدِ معنى ذلك من الصواب إذ قرئ رفعًا.

وقوله: « والزيتون والرمان » ، عطف ب « الزيتون » على « الجنات » ، بمعنى: وأخرجنا الزيتونَ والرمان مشتبهًا وغير متشابه.

وكان قتادة يقول في معنى « مشتبهًا وغير متشابه » ، ما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه » ، قال: مشتبهًا ورقه, مختلفًا ثمرُه .

وجائز أن يكون مرادًا به: مشتبهًا في الخلق، مختلفًا في الطعم.

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان, فاكتفى من ذكر « الشجر » بذكر ثمره, كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، فاكتفى بذكر « القرية » من ذكر « أهلها » , لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه.

 

القول في تأويل قوله : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( انْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ ) ، بفتح « الثاء » و « الميم » .

وقرأه بعض قرأة أهل مكة وعامة قرأة الكوفيين: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، بضم « الثاء » و « الميم » .

فكأنّ من فتح « الثاء » و « الميم » من ذلك، وجَّه معنى الكلام: انطروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمرَ وأن « الثمر » جمع « ثمرة » , كما « القصب » ، جمع « قصبة » , و « الخشب » جمع « خشبة » .

وكأنّ من ضم « الثاء » و « الميم » , وجَّه ذلك إلى أنه جمع « ثِمَار » , كما « الحُمُر » جمع « حمار » , و « الجُرُب » جمع « جراب » ، وقد:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, عن ابن إدريس, عن الأعمش, عن يحيى بن وثاب: أنه كان يقرأ: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، يقول: هو أصناف المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا محمد بن عبيد الله, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: « الثُّمُر » ، هو المال و « الثمر » ، ثَمَر النخل.

وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأ: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) بضم « الثاء » و « الميم » , لأن الله جل ثناؤه وصفَ أصنافًا من المال كما قال يحيى بن وثاب، وكذلك حبّ الزرع المتراكب, وقنوان النخل الدانية, والجنات من الأعناب والزيتون والرمان, فكان ذلك أنواعًا من الثمر, فجمعت « الثمرة » « ثمرًا » ، ثم جمع « الثمر » « ثمارًا » , ثم جمع ذلك فقيل: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) , فكان ذلك جمع « الثمار » و « الثمار » جمع « الثمر » و « إثماره » ، عقدُ الثمر.

وأما قوله: « وَينْعه » ، فإنه نُضجه وبلوغُه حين يبلغ.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في « يَنْعه » إذا فتحت ياؤه، هو جمع « يانع » , كما « التَّجْر » جمع « تاجر » , و « الصحب » جمع « صاحب » .

وكان بعض أهل الكوفة ينكر ذلك، ويرى أنه مصدر من قولهم: « ينع الثمر فهو يَيْنع يَنْعًا » ، ويحكى في مصدره عن العرب لغات ثلاثًا: « يَنْع » , و « يُنْع » , و « يَنَع » , وكذلك في « النَّضْج » « النُّضج » و « النَّضَج » .

وأما في قراءة من قرأ ذلك: ( وَيَانِعِهِ ) ، فإنه يعني به: وناضجه، وبالغه.

وقد يجوز في مصدره « يُنُوعًا » , ومسموع من العرب: « أينعت الثمرة تُونِع إيناعًا » ، ومن لغة الذين قالوا: « ينع » , قول الشاعر:

فِـــي قِبَــابٍ عِنْــدَ دَسْــكَرَةٍ حَوْلَهَـــا الزَّيْتُــونُ قَــدْ يَنَعَــا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وينعه » ، يعني: إذا نضج.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، قال: « ينعه » ، نضجه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، أي نضجه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وينعه » ، قال: نضجه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وينعه » ، يقول: ونضجه.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وينعه » ، قال: يعني نضجه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « وينعه » ، قال: نضجه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره إن في إنـزال الله من السماء الماءَ الذي أخرج به نباتَ كل شيء, والخضِرَ الذي أخرج منه الحبَّ المتراكب, وسائر ما عدَّد في هذه الآية من صنوف خلقه « لآيات » ، يقول: في ذلكم، أيها الناس، إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره, وعند ينعه وانتهائه, فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموّه, علمتم أن له مدبِّرًا ليس كمثله شيء, ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد, وكان فيه حجج وبرهان وبيان « لقوم يؤمنون » ، يقول: لقوم يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء.

وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون, لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها, دون من قد طَبعَ الله على قلبه، فلا يعرف حقًّا من باطل، ولا يتبين هدًى من ضلالة.

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهةَ والأندادَ لله شركاء، الجن، كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [ سورة الصافات: 158 ] .

وفي الجن وجهان من النصب.

أحدهما: أن يكون تفسيرًا للشركاء. .

والآخر: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجن شركاء، وهو خالقهم .

واختلفوا في قراءة قوله: « وخلقهم » .

فقرأته قراء الأمصار: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، على معنى أن الله خلقهم، منفردًا بخلقه إياهم . .

وذكر عن يحيى بن يعمر ما:-

حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن واصل مولى أبي عيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر: أنه قال: « شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ » .

بجزم « اللام » بمعنى أنهم قالوا: إنّ الجنّ شركاء لله في خلقه إيّانا .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليها .

وأما قوله: ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) ، فإنه يعني بقوله: ( خرقوا ) اختلقوا.

يقال: « اختلق فلان على فلان كذبًا » و « اخترقه » ، إذا افتعله وافتراه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم « وخرقوا له بنين وبنات » ، يعني أنهم تخرَّصوا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: جعلوا له بنين وبنات بغير علم .

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: كذبوا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » كذبوا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، عما يكذبون . أما العرب فجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون من الغلمان وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرُون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » قال: خرصوا له بنين وبنات .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، يقول: قطعوا له بنين وبنات. قالت العرب: الملائكة بنات الله وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: « خرقوا » ، كذبوا، لم يكن لله بنون ولا بنات قالت النصارى: المسيح ابن الله وقال المشركون: الملائكة بنات الله فكلٌّ خرقوا الكذب، « وخرقوا » ، اخترقوا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » ، قال: قول: الزنادقة « وخرقوا له » ، قال ابن جريج، قال مجاهد: « خرقوا » ، كذبوا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: وصفوا له .

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن أبي عمرو: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: تفسيرها: وكذبوا .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه, وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير « وخرقوا له بنين وبنات » ، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا, فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون, ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة, ولا أن يشركه في خلقه شريك .

 

القول في تأويل قوله : سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( 100 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: تنـزه الله، وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه، في ادّعائهم له شركاء من الجن، واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد, والذين تضطرّهم لضعفهم الشهواتُ إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات, وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيء إلى شيء, و لا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة .

وقوله: « تعالى » ، « تفاعل » من « العلوّ » ، والارتفاع .

وروي عن قتادة في تأويل قوله: « عما يصفون » ، أنه: يكذبون .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « سبحانه وتعالى عما يصفون » ، عما يكذبون .

وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك, أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه به، من ادعائهم له بنين وبنات لا أنه وجه تأويل « الوصف » إلى الكذب .

 

القول في تأويل قوله : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنَّ شركاءَ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم « بديع السماوات والأرض » ، يعني: مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « بديع السماوات والأرض » ، قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله .

« أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة » ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى, ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء . يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه, فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد ؟

 

القول في تأويل قوله : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 101 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شيء، ولا خالق سواه. وكلُّ ما تدَّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه، خلقُه وعبيده, مِلكًا، كان الذي تدعونه ربًّا وتزعمون أنه له ولد، أو جنيًّا أو إنسيًّا « وهو بكل شيء عليم » ، يقول: والله الذي خلق كل شيء, لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه, ولا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء, عالم بعددكم وأعمالكم، وأعمال من دعوتموه ربًّا أو لله ولدًا, وهو محصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي كلا بعمله .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 102 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم, هو الله ربكم، أيها العادلون بالله الآلهة والأوثان, والجاعلون له الجن شركاء, وآلهتكم التي لا تملك نفعًا ولا ضرًا، ولا تفعل خيرًا ولا شرًا « لا إله إلا هو » .

وهذا تكذيبٌ من الله جل ثناؤه للذين زعموا أن الجن شركاء الله. يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون، إنه لا شيء له الألوهية والعبادة، إلا الذي خلق كل شيء, وهو بكل شيء عليم, فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادةُ جميع من في السماوات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها, فإنه خالق كل شيء وبارئه وصانعه, وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة « فاعبدوه » ، يقول: فذلُّوا له بالطاعة والعبادة والخدمة, واخضعوا له بذلك .

« وهو على كل شيء وكيل » ، يقول: والله على كل ما خلق من شيء رقيبٌ وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 103 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » .

فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، يقول: لا يحيط بصر أحدٍ بالملك .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، وهو أعظم من أن تدركه الأبصار .

حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عرفجة, عن عطية العوفي في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ سورة القيامة: 22- 23 ] ، قال: هم ينظرون إلى الله, لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم, فذلك قوله: « لا تدركه الأبصار » ، الآية .

قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله قال: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ ، [ يونس: 90 ] قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون, ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه, ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئًا . قالوا: فمعنى قوله: « لا تدركه الأبصار » بمعنى: لا تراه، بعيد. لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه, كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم لموسى حين قرُب منهم أصحاب فرعون: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، [ سورة الشعراء: 61 ] ، لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُدْرَكون، لقوله: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ، [ 61، طه: 77 ] .

قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه، ويدركه ولا يراه, فكان معلومًا بذلك أن قوله: « لا تدركه الأبصار » ، من معنى: لا تراه الأبصار، بمعزل وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار، لأن الإحاطة به غير جائزة .

قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم، ولا تدركه أبصارهم, بمعنى: أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئًا يحيط به .

قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يُرَى ولا يُدْرَك، جوازُ وصفه بأنه يعلم ولا يحاط بعلمه, وكما قال جل ثناؤه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ [ سورة البقرة: 255 ] . قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . قالوا: ومعنى « العلم » في هذا الموضع، المعلوم. قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء، نَفْيٌ عن أن يعلموه . قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علمًا نَفْيٌ للعلم به, كان كذلك، لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر، نفيُ رؤيته له . قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياءَ ولا يحيطون بها علمًا, كذلك جائزٌ أن يروا ربَّهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم, إذ كان معنى « الرؤية » غير معنى « الإدراك » , ومعنى « الإدراك » غير معنى « الرؤية » , وأن معنى « الإدراك » ، إنما هو الإحاطة, كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل .

قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: « لا تدركه الأبصار » ، لا تراه الأبصار؟

قلنا له: أنكرنا ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهًا في القيامة إليه ناظرة, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة، كما يُرَى القمر ليلة البدر، وكما ترونَ الشمس ليسَ دونها سحاب . قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر، وحققتْ أخبارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم: إن تأويل قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ سورة القيامة: 22- 23 ] ، أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله, وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضًا, وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحدُ هذين الخبرين ناسخًا للآخر, إذ كان غير جائز في الأخبار لما قد بينا في كتابنا: « كتاب لطيف البيان، عن أصول الأحكام » ، وغيره علم، أن معنى قوله: « لا تدركه الأبصار » ، غير معنى قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله، ولا يدركونه بها, تصديقًا لله في كلا الخبرين، وتسليمًا لما جاء به تنـزيله على ما جاء به في السورتين .

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال, حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط , عن السدي: « لا تدركه الأبصار » ، لا يراه شيء, وهو يرى الخلائق .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق, عن عائشة قالت: من حدَّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد كذب! « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، [ سورة الشورى: 51 ] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله, لقد قَفَّ شعري مما قلت ! ثم قرأت: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وابن علية, عن داود, عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة بنحوه .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن أحدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! قال الله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » .

فقال قائلو هذه المقالة: معنى « الإدراك » في هذا الموضع، الرؤية وأنكروا أن يكون الله يُرَى بالأبصار في الدنيا والآخرة وتأوّلوا قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابَه .

قال أبو جعفر: وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربَّهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها, ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وردُّوا القول فيه إلى عقولهم, فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضرُوب من التمويهات, وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات .

وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها, فإنها لا ترى ما لاصقها . قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته, فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً . قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم, فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا . قالوا: ومن وصفه بذلك, فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان .

قالوا: وأخرى, أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات, ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف . قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف, فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان . قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون, صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ .

وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا, وأما في الآخرة فإنها تدركه . وقال أهل هذه المقالة: « الإدراك » ، في هذا الموضع، الرؤية .

واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: « الإدراك » ، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية, فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية . قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم يره . قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهًا يوم القيامة إليه ناظرة. قالوا، فمحالٌ أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤيةً . قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضادٌّ وتعارض, وجب وصحّ أن قوله: « لا تدركه الأبصار » ، على الخصوص لا على العموم, وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة, إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ .

وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص, إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصارُ الظالمين في الدنيا والآخرة, وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله . قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة، وأما بالرؤية فَبَلَى . قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه في الآخرة وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصارُ من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصارَ خلقه فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه, هو الذي أثبته لنفسه, إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قوَّاها جل ثناؤه على النفوذ فيه, وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء . قالوا: ولا شك في خصوص قوله: « لا تدركه الأبصار » ، وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم, غير أنا لا ندري أيَّ معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية . واعتلُّوا لتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة، بنحو علل الذين ذكرنا قبل .

وقال آخرون: الآية على العموم, ولن يدرك الله بصرُ أحد في الدنيا والآخرة; ولكن الله يُحدث لأوليائه يوم القيامة حاسّة سادسة سوى حواسِّهم الخمس، فيرونه بها .

واعتلوا لقولهم هذا بأنّ الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه، من غير أن يدلّ فيها أو بآية غيرها على خصوصها . قالوا: وكذلك أخبرَ في آية أخرى أن وجوهًا إليه يوم القيامة ناظرة . قالوا: فأخبار الله لا تتنافى ولا تتعارض, وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنـزيل . واعتلُّوا أيضًا من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزًا أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه و إن زيد في قواها، وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت, لأن كل حاسة خلقت لإدراك معنًى من المعاني، فهي وإن ضعفت كل الضعف، فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه، ما لم تُعْدم . قالوا: فلو كان في البصر أن يُدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه, وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها و إن ضعف إدراكه إياه . قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا, كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا في أنها لا تدرك إلا ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا . قالوا: فلما كان ذلك كذلك, وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أنّ وجوهًا في الآخرة تراه, علم أنها تراه بغير حاسة البصر, إذ كان غير جائز أن يكون خبرُه إلا حقًّا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » « وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب » ، فالمؤمنون يرونه, والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ سورة المطففين: 15 ] .

فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار, لما كانت لا ترى إلا ما باينها, وكان بينها وبينه فضاءٌ وفرجة, وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك، لأن في ذلك إثبات حدٍّ له ونهايةٍ, فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه فإنه يقال لهم: هل علمتم موصوفًا بالتدبير سوى صانعكم، إلا مماسًّا لكم أو مباينًا؟

فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك، كُلِّفوا تبيينه, ولا سبيل إلى ذلك .

وإن قالوا: لا نعلم ذلك.

قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسًّا لكم ولا مباينًا, وهو موصوف بالتدبير والفعل, ولم يجب عندكم إذْ كنتم لم تعلموا موصوفًا بالتدبير والفعل غيره إلا مماسًّا لكم أو مباينًا، أن يكون مستحيلا العلم به، وهو موصوف بالتدبير والفعل, لا مماس ولا مباين؟

فإن قالوا: ذلك كذلك.

قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها وكانت بينه وبينها فرجة، قد تراه وهو غير مباين لها ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء, كما لا تعلم القلوب موصوفًا بالتدبير إلا مماسًّا لها أو مباينًا، وقد علمتْه عندكم لا كذلك؟ وهل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفًا بالتدبير والفعل معلومًا، لا مماسًّا للعالم به أو مباينًا وأجاز أن يكون موصوفًا برؤية الأبصار، لا مماسًّا لها ولا مباينًا، فرق؟

ثم يسألون الفرقَ بين ذلك, فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله .

وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان, كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات, ومن شأن المتنسِّم درَك الأعراف, فمن الوجه الذي فسد أن يُقضى للسمع بغير درك الأصوات، فسد أن يُقضى للأبصار لغير درك الألوان .

فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفًا بالتدبير والفعل إلا ذا لونٍ, وقد علمتموه موصوفًا بالتدبير لا ذا لونٍ؟

فإن قالوا: « نعم » لا يجدون من الإقرار بذلك بدًّا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفًا بالتدبير والفعل غير ذي لون, فيكلفون بيان ذلك, ولا سبيل إليه.

فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان, كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفًا بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفًا بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك, فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله .

ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها, إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصدَ الكشف عن تمويهاتهم, بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان . ولكنا ذكرنا القدرَ الذي ذكرنا, ليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيانُ عن فساده, وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنـزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة, فهم في الظلمات يخبطون, وفي العمياء يتردّدون, نعوذ بالله من الحيرة والضلالة.

وأما قوله: « وهو اللطيف الخبير » ، فإنه يقول: والله تعالى ذكره المتيسر له من إدراك الأبصار, والمتأتِّي له من الإحاطة بها رؤيةُ ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها « الخبير » ، يقول: العليم بخلقه وأبصارهم، والسبب الذي له تعذر عليها إدراكه، فلطف بقدرته فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه, وخبرَ بعلمه كيف تدبيرها وشؤونها وما هو أصلح بخلقه، كالذي:

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله: « اللطيف الخبير » ، قال: « اللطيف » باستخراجها « الخبير » ، بمكانها .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 104 )

قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين نبَّههم بهذه الآيات من قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى إلى قوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ على حججه عليهم, وعلى سائر خلقه معهم, العادلين به الأوثان والأنداد, والمكذبين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم من عند الله قل لهم يا محمد: « قد جاءكم » ، أيها العادلون بالله، والمكذبون رسوله « بصائر من ربكم » ، أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر .

وهي جمع « بصيرة » , ومنه قول الشاعر:

حَــمَلُوا بَصَـائِرَهُمْ عَـلَى أَكْتَـافِهِمْ وَبَصِــيرَتِي يَعْـدُو بِهَـا عَتَـدٌ وَأَى

يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « قد جاءكم بصائر من ربكم » قال: « البصائر » الهدى، بصائر في قلوبهم لدينهم, وليست ببصائر الرؤوس . وقرأ: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ سورة الحج: 46 ] وقال: إنما الدين بصره وسمعه في هذا القلب .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد جاءكم بصائر من ربكم » ، أي بينة .

وقوله: « فمن أبصر فلنفسه » يقول: فمن تبين حجج الله وعرَفها وأقرَّ بها، وآمن بما دلّته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به, فإنما أصاب حظ نفسه، ولنفسه عمل, وإياها بَغَى الخير « ومن عمي فعليها » ، يقول: ومن لم يستدلّ بها، ولم يصدق بما دلَّته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنـزيله, ولكنه عمي عن دلالتها التي تدل عليها, يقول: فنفسَه ضر، وإليها أساء لا إلى غيرها .

وأما قوله: « وما أنا عليكم بحفيظ » ، يقول: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم, وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم, والله الحفيظ عليكم، الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 105 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما صرفت لكم، أيها الناس، الآيات والحجج في هذه السورة، وبينتها, فعرفتكموها، في توحيدي وتصديق رسولي وكتابي ووقَّفتكم عليها, فكذلك أبيِّن لكم آياتي وحججي في كل ما جهلتموه فلم تعرفوه من أمري ونهيي ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وكذلك نصرف الآيات » ، لهؤلاء العادلين بربهم, كما صرفتها في هذه السورة, ولئلا يقولوا: درسْتَ .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قَرَأة أهل المدينة والكوفة: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، يعني: قرأت، أنت، يا محمد، بغير « ألف » .

وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين، منهم ابن عباس، على اختلاف عنه فيه, وغيرُه وجماعة من التابعين, وهو قراءة بعض قَرَأة أهل البصرة: « وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ » ، بألف, بمعنى: قارأت وتعلمت من أهل الكتاب .

وروى عن قتادة: أنه كان يقرؤه: « دُرِسَتْ » ، بمعنى: قرئت وتليت .

وعن الحسن أنه كان يقرؤه: « دَرَسَتْ » ، بمعنى: انمحت .

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، بتأويل: قرأتَ وتعلمت; لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ سورة النحل: 103 ] . فهذا خبرٌ من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره . فإذ كان ذلك كذلك, فقراءة: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، يا محمد, بمعنى: تعلمت من أهل الكتاب, أشبهُ بالحق، وأولى بالصواب من قراءة من قرأه: « دارسْتَ » ، بمعنى: قارأتهم وخاصمتهم, وغير ذلك من القراءات .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، على قدر اختلاف القرأة في قراءته .

* ذكر من قرأ ذلك: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، من المتقدمين, وتأويله بمعنى: تعلمت وقرأت .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح قال، حدثنا علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وليقولوا درست ) ، قالوا: قرأت وتعلمت. تقول ذلك قريش .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد: ( وليقولوا درست ) قال: قرأت وتعلمت .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وافقه, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: ( وليقولوا درست ) ، قال: قرأت وتعلمت .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وليقولوا درست ) ، يقول: قرأت الكتب .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنى عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( درست ) ، يقول: تعلمت وقرأت .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله: ( درست ) ؟ قال: قرأت وتعلمت .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس, مثله .

* ذكر من قرأ ذلك ( دَارَسْتَ ) ، وتأوله بمعنى: جادلت، من المتقدمين .

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن حميد, عن مجاهد, عن ابن عباس: « دارست » ، يقول: قارأت .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أنه كان يقرؤها: « وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ » ، أحسبه قال: قارأت أهل الكتاب .

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت وتعلمت .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال، سمعت التميمي يقول: سألت ابن عباس عن قوله: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت وتعلَّمت .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية, عن أبي المعلى, عن سعيد بن جبير قال، كان ابن عباس يقرؤها: « دَارَسْتَ » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو المعلى قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: كان ابن عباس يقرأ: « دَارَسْتَ » ، بالألف, بجزم السين، ونصب التاء .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار قال، أخبرني عمرو بن كيسان: أن ابن عباس كان يقرأ: « دَارَسْتَ » ، تلوت, خاصمت, جادلت .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن كيسان, قال ابن عباس في: « دارست » ، قال: تلوت, خاصمت, جادلت .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « دَارَسْتَ » ، بالألف أيضًا، منتصبة التاء, وقال: قارأت .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « دَارَسْتَ » ، أي: ناسخت .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « دارست » ، قال: فاقهت، قرأت على يهود، وقرءوا عليك .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت, قرأت على يهود، وقرءوا عليك .

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « دارست » ، يعني، أهلَ الكتاب .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « دارست » ، قال: قرأت على يهود, وقرءوا عليك .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « وليقولوا دارست » ، قال: قالوا دارستَ أهل الكتاب, وقرأت الكتب وتعلَّمتها .

* ذكر من قرأ ذلك: « دُرِسَتْ » بمعنى: تُليت، وقُرِئت, على وجه ما لم يسمَّ فاعله.

حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا الحسين المعلم وسعيد, عن قتادة: « وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دُرِسَتْ » ، أي: قرئت وتعلمت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال قتادة: « دُرِست » ، قرئت وفي حرف ابن مسعود: « دَرَسَ » .

ذكر من قال ذلك: « دَرَسَتْ » بمعنى: انمحت وتقادمت، أي هذا الذي تتلوه علينا قد مرَّ بنا قديمًا، وتطاولت مدته.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقرأ: « وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ » ، أي: انمحت .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: في قراءة ابن مسعود: « دَرَسَتْ » ، بغير ألف, بنصب السين، ووقف التاء .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار قال، سمعت ابن الزبير يقول: إن صبيانًا ههنا يقرؤون: « دَارَسْتَ » وإنما هي « دَرَسَتْ » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمرقال: قال الحسن: « وليقولوا دَرَسَتْ » : يقول: تقادمت وانمحت .

وقرأ ذلك آخرون: « دَرَسَ » , من « درس الشيء » ، تلاه .

حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي قال، حدثنا أبو عبيدة قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال: هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود: « وَلِيَقُولُوا دَرَسَ » ، قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قرَأ .

وإنما جاز أن يقال مرة: « دَرَسْتَ » , ومرة « دَرَسَ » , فيخاطب مرة، ويخبر مرة, من أجل القول .

قال أبو جعفر: وقد بينا أولى هذه القراءات في ذلك الصواب عندنا, والدلالة على صحة ما اخترنا منها .

وأما تأويل قوله: « ولنبينه لقوم يعلمون » ، يقول تعالى ذكره: كما صرفنا الآيات والعبر والحجج في هذه السورة لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأنداد, كذلك نصرف لهم الآيات في غيرها, كيلا يقولوا لرسولنا الذي أرسلناه إليهم: « إنما تعلمت ما تأتينا به تتلوه علينا من أهل الكتاب » , فينـزجروا عن تكذيبهم إياه، وتقوُّلهم عليه الإفك والزور, ولنبين بتصريفنا الآيات الحقَّ، لقوم يعلمون الحق إذا تبيَّن لهم فيتبعوه ويقبلوه, وليسوا كمن إذا بُيِّن لهم عَمُوا عنه فلم يعقلوه، وازدادوا من الفهم به بعدًا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 106 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اتبع، يا محمد، ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك, فاعمل به, وانـزجر عما زجرك عنه فيه, ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام, فإنه لا إله إلا هو. يقول: لا معبود يستحق عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح، وجاعلُ الليل سكنًا، والشمسَ والقمر حسبانًا ( وأعرض عن المشركين ) , يقول: ودع عنك جدالهم وخصومتهم . ثم نسخ ذلك جل ثناؤه بقوله في براءة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، الآية [ سورة التوبة: 5 ] . كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أما قوله: ( وأعرض عن المشركين ) ونحوه، مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين, فإنه نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 107 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أعرض عن هؤلاء المشركين بالله, ودع عنك جدالهم وخصومتهم ومسابَّتهم ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ، يقول: لو أراد ربُّك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم، للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئًا، ولآمنوا بك فاتبعوك وصدَّقوا ما جئتهم به من الحق من عند ربك ( وما جعلناك عليهم حفيظًا ) ، يقولُ جل ثناؤه: وإنما بعثتك إليهم رسولا مبلِّغًا, ولم نبعثك حافظًا عليهم ما هم عاملوه، تحصي ذلك عليهم, فإن ذلك إلينا دونك ( وما أنت عليهم بوكيل ) ، يقول: ولست عليهم بقيِّم تقوم بأرزاقهم وأقواتهم ولا بحفظهم، فما لم يُجْعل إليك حفظه من أمرهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ، يقول سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد, فيسبَّ المشركون اللهَ جهلا منهم بربهم، واعتداءً بغير علم ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك ! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، كان المسلمون يسبون أوثان الكفار, فيردّون ذلك عليهم, فنهاهم الله أن يستسِبُّوا لربهم, فإنهم قومٌ جهلة لا علم لهم بالله .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، قال: لما حضر أبا طالب الموتُ, قالت قريش: انطلقوا بنا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه, فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: « كان يمنعه فلما مات قتلوه » ! فانطلق أبو سفيان, وأبو جهل, والنضر بن الحارث, وأمية وأبيّ ابنا خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعمرو بن العاص, والأسود بن البختري, وبعثوا رجلا منهم يقال له: « المطلب » , قالوا: استأذن على أبي طالب ! فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخولَ عليك ! فأذن لهم, فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب, أنت كبيرنا وسيدنا, وإنّ محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا, فنحبّ أن تدعوه فتنهاهُ عن ذكر آلهتنا, ولندَعْه وإلهه ! فدعاه, فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك ! قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك, فاقبل منهم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب, ودانت لكم بها العجم، وأدَّت لكم الخراج؟ » قال أبو جهل: نعم وأبيك، لنعطينكها وعشرَ أمثالها, فما هي؟ قال: قولوا: « لا إله إلا الله » ! فأبوا واشمأزُّوا . قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها, فإن قومك قد فزعوا منها ! قال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يديّ, ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يديّ ما قلت غيرها! إرادةَ أن يُؤْيسهم ، فغضبوا وقالوا: لتكفّنَّ عن شتمك آلهتنا, أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك . فذلك قوله ( فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوًا بغير علم, فأنـزل الله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) قال: إذا سببت إلهه سبَّ إلهك, فلا تسبوا آلهتهم .

قال أبو جعفر: وأجمعت الحجة من قرأة الأمصار على قراءة ذلك: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، بفتح العين، وتسكين الدال, وتخفيف الواو من قوله: ( عدوًا ) ، على أنه مصدر من قول القائل: « عدا فلان على فلان » ، إذا ظلمه واعتدى عليه, « يعدو عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا » . و « الاعتداء » ، إنما هو: « افتعال » ، من ذلك .

روى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « عُدُوًّا » مشددة الواو .

حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن عثمان بن سعد: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا ) ، مضمومة العين، مثقّلة .

وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك: « فَيَسُبُّوا الَله عَدُوًّا » ، يوجِّه تأويله إلى أنهم جماعة, كما قال جل ثناؤه: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، [ سورة الشعراء: 77 ] , وكما قال: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ، [ سورة الممتحنة: 1 ] ويجعل نصب « العدوّ » حينئذ على الحال من ذكر « المشركين » في قوله: ( فيسبوا ) ، فيكون تأويل الكلام: ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله, فيسب المشركون الله، أعداءَ الله، بغير علم . وإذا كان التأويل هكذا، كان « العدوّ » ، من صفة « المشركين » ونعتهم, كأنه قيل: فيسب المشركون أعداء الله، بغير علم ولكن « العدوّ » لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة، نصب على الحال .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو، لإجماع الحجة من القرأة على قراءة ذلك كذلك, وغير جائز خلافُها فيما جاءت به مجمعة عليه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 108 )

يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن, كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون, ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم « فينبئهم بما كانوا يعملون » . يقول: فيُوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا, ثم يجازيهم بها، إن كان خيرًا فخيرًا، وإن كان شرًّا فشرًّا, أو يعفو بفضله، ما لم يكن شركًا أو كفرًا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ( 109 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحلف بالله هؤلاء العادلون بالله جَهْد حَلِفهم, وذلك أوكدُ ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبُها وأشدُّها ( لئن جاءتهم آية ) ، يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدِّق ما تقول، يا محمد، مثلُ الذي جاء مَنْ قبلنا من الأمم ( ليؤمنن بها ) ، يقول: قالوا: لنصدقن بمجيئها بك, وأنك لله رسولٌ مرسل, وأنّ ما جئتنا به حقُّ من عند الله .

وقيل: « ليؤمنن بها » , فأخرج الخبر عن « الآية » ، والمعنى لمجيء الآية .

يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل إنما الآيات عند الله ) ، وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه ( وما يشعركم ) ، يقول: وما يدريكم ( أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) ؟

وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه، هم الذين آيس الله نبيَّه من إيمانهم من مشركي قومه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ، إلى قوله: يَجْهَلُونَ ، سألت قريش محمدًا أن يأتيهم بآية, واستحلفهم: ليؤمننّ بها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح: ( لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ، ثم ذكر مثله .

حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي قال: كلّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا, فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا, وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثَمُود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيَّ شيء تحبُّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعَلُ لنا الصَّفَا ذهبًا. فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: لك ما شئت، إن شئتَ أصبح ذهبًا, ولئن أرسل آيةً فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم, وإن شئت فأنْدِحْهُم حتى يتوب تائبهم . فقال: بل يتوب تائبهم . فأنـزل الله تعالى: ( وأقسموا بالله ) إلى قوله: يَجْهَلُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) .

فقال بعضهم: خوطب بقوله: ( وما يشعركم ) المشركون المقسمون بالله، لئن جاءتهم آية ليؤمنن وانتهى الخبر عند قوله: ( وما يشعركم ) ، ثم استُؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأ .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وما يشعركم ) ، قال: ما يدريكم . قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما يشعركم ) ، وما يدريكم « أنها إذا جاءت » ، قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون .

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، سمعت عبد الله بن زيد يقول: إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ , ثم يستأنف فيقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ » ، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون .

وعلى هذا التأويل قراءةُ من قرأ ذلك بكسر ألف: « إنَّها » ، على أن قوله: « إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لا يُؤْمِنُون » ، خبر مبتدأ منقطعٌ عن الأول.

وممن قرأ ذلك كذلك، بعضُ قرأة المكيين والبصريين .

وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قالوا: وذلك أنّ الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيةٍ, المؤمنون به . قالوا: وإنما كان سببَ مسألتهم إيّاه ذلك، أن المشركين حَلَفوا أنّ الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك ! فسأل, فأنـزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: « قُلْ » للمؤمنين بك يا محمد « إنما الآيات عند الله وما يشعركم » ، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله، أنهم لا يؤمنون به ففتحوا « الألف » من « أنّ » .

ومن قرأ ذلك كذلك، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة, وقالوا: أدخلت « لا » في قوله: ( لا يؤمنون ) صلة, كما أدخلت في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ، [ سورة الأعراف: 12 ] ، وفي قوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، [ سورة الأنبياء: 95 ] ، وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا وما منعك أن تسجُد .

وقد تأوَّل قوم قرؤوا، ذلك بفتح « الألف » من ( أنها ) بمعنى: لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعب .

وقد ذكر عن العرب سماعًا منها: « اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا » , بمعنى: لعلك تشتري.

وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العِبَاديّ:

أَعَــاذِلَ, مَــا يُـدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِـي إلَـى سَاعَةٍ فِي الْيَومِ أَوْ فِي ضُحَى الغَدِ

بمعنى: لعل منيَّتي; وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة:

ذَرِينِـي أُطَـوِّفْ فِـي البِـلادِ لأَنَّنِـي أَرَى مَــا تَـرَيْنَ أَوْ بَخِـيلا مُخَـلَّدَا

بمعنى: لعلني . والذي أنشدني أصحابُنا عن الفراء: « لعلَّني أَرَى ما ترَيْن » . وقد أنشد أيضًا بيتُ توبة بن الحميِّر:

لَعَلَّـك يَـا تَيْسًـا نـزا فـيِ مَرِيـرَةٍ مُعَــذِّبُ لَيْـلَى أَنْ تَـرَانِي أَزُورُهَـا

« لهَنَّك يا تيسًا » , بمعنى: « لأنّك » التي في معنى « لعلك » ، وأنشد بيت أبي النجم العجليّ:

قُلْــتُ لِشَــيْبَانَ ادْنُ مِــنْ لِقَائِـهِ أَنَّــا نُغَــدِّي القَـوْمَ مِـنْ شِـوَائِهِ

بمعنى: لعلنا نغدِّي القوم .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية, قولُ من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله أعنى قوله: ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) وأن قوله: « أنها » ، بمعنى: لعلَّها .

وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله: ( لا يؤمنون ) .

ولو كان قوله: ( وما يشعركم ) خطابًا للمشركين, لكانت القراءة في قوله: ( لا يؤمنون ) ، بالتاء, وذلك، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك, فقراءةٌ خارجة عما عليه قرأة الأمصار, وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها .

وإنما معنى الكلام: وما يدريكم، أيها المؤمنون، لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك، ولا يؤخَّروا به .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنَّا جئناهم بآية كما سألوا، ما آمنوا، كما لم يؤمنوا بما قبلَها أول مرة, لأن الله حال بينهم وبين ذلك :

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) الآية, قال: لما جحد المشركون ما أنـزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، ورُدَّتْ عن كل أمر .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ، قال: نمنعهم من ذلك، كما فعلنا بهم أول مرة . وقرأ: ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ، قال: نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة .

وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو رُدُّوا من الآخرة إلى الدنيا فلا يؤمنون، كما فعلنا بهم ذلك, فلم يؤمنوا في الدنيا . قالوا: وذلك نظير قوله وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، [ سورة الأنعام: 28 ] .

* ذكر من قال قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه ما العبادُ قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه. قال: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، [ سورة الزمر: 56- 58 ] ، يقول: من المهتدين . فأخبر الله سبحانه أنهم لو رُدُّوا [ إلى الدنيا، لما استقاموا ] على الهدى، و [ قال ] : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ , وقال: « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة » ، قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهدَ أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها: أنَّه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرِّفها كيف شاء, وأنّ ذلك بيده يقيمه إذا شاء، ويزيغه إذا أراد وأنّ قوله: ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) ، دليل على محذوف من الكلام وأنّ قوله: « كما » تشبيه ما بعده بشيء قبله .

وإذْ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتَهم، فنـزيغها عن الإيمان, وأبصارَهم عن رؤية الحق ومعرفة موضع الحجة, وإن جاءتهم الآية التي سألوها، فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبلَ مجيئها مرَّة قبل ذلك .

وإذا كان ذلك تأويله، كانت « الهاء » من قوله: ( كما لم يؤمنوا به ) ، كناية ذكر « التقليب » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 110 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها عند مجيئها في تمرُّدهم على الله واعتدائهم في حدوده, يتردَّدون، لا يهتدون لحق، ولا يبصرون صوابًا, قد غلب عليهم الخِذْلان، واستحوذ عليهم الشيطانُ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( 111 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام ، القائلين لك: « لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك » , فإننا لو نـزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حُجَّةً لك، ودلالة على نبوّتك, وأخبروهم أنك محقٌّ فيما تقول, وأن ما جئتهم به حقٌّ من عند الله, وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهُم لك قبلا ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتبعوك إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم ( ولكن أكثرهم يجهلون ) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك, يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفرَ بأيديهم, متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا . وليس ذلك كذلك, ذلك بيدي, لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته, ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته .

وقيل: إن ذلك نـزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, من مشركي قريش .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم الآية, فقال: قُلْ ، يا محمد، إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ، ونـزل فيهم: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) .

وقال آخرون: إنما قيل: ( ما كانوا ليؤمنوا ) ، يراد به أهل الشقاء, وقيل: ( إلا أن يشاء الله ) ، فاستثنى ذلك من قوله: ( ليؤمنوا ) ، يراد به أهل الإيمان والسعادة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن عباس قوله: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ) ، وهم أهل الشقاء ثم قال: ( إلا أن يشاء الله ) ، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس, لأن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله: ( ما كانوا ليؤمنوا ) ، القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا .

وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج إنهم عُنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التنـزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك . والخبر من الله خارجٌ مخرجَ العموم, فالقول بأنَّ ذلك عنى به أهل الشقاء منهم أولى، لما وصفنا .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) .

فقرأته قرأة أهل المدينة: « قِبَلا » ، بكسر « القاف » وفتح « الباء » , بمعنى: معاينةً من قول القائل: « لقيته قِبَلا » ، أي معاينة ومُجاهرةً .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) ، بضم « القاف » ، « والباء » .

وإذا قرئ كذلك، كان له من التأويل ثلاثة أوجه:

أحدها أن يكون « القبل » جمع « قبيل » ، كالرُّغُف التي هي جمع « رغيف » , و « القُضُب » التي هي جمع « قضيب » , ويكون « القبل » ، الضمناء والكفلاء وإذا كان ذلك معناه, كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كل شيء كُفَلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدهم على إيمانهم بالله إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم, ما آمنوا إلا أن يشاء الله .

والوجه الآخر: أن يكون « القبل » بمعنى المقابلة والمواجهة, من قول القائل: « أتيتُك قُبُلا لا دُبُرًا » , إذا أتاه من قبل وجهه .

والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلةً قبيلةً, صنفًا صنفًا, وجماعة جماعةً ، فيكون « القبل » حينئذ جمع « قبيل » ، الذي هو ج مع « قبيلة » , فيكون « القبل » جمع الجمع .

وبكل ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل .

* ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةً .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، يقول: معاينة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، حتى يعاينوا ذلك معاينة ( ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) .

* ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة، صنفًا صنفًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: ( قُبُلا ) ، معناه: قبيلا قبيلا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( قُبُلا ) ، أفواجًا, قبيلا قبيلا .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن يونس, عن أبي خيثمة قال، حدثنا أبان بن تغلب قال، حدثني طلحة أن مجاهدًا قرأ في « الأنعام » : ( كل شيء قُبُلا ) ، قال: قبائل, قبيلا وقبيلا وقبيلا .

* ذكر من قال: معناه: مقابلةً .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، يقول: لو استقبلهم ذلك كله, لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، قال: حشروا إليهم جميعًا, فقابلوهم وواجهوهم .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: ( قُبُلا ) ومعناه: عيانًا .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا, قراءةُ من قرأ: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) ، بضم « القاف » و « الباء » ، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني, وأن معنى « القِبَل » داخلٌ فيه, وغير داخل في القبل معاني « القِبَل » .

وأما قوله: ( وحشرنا عليهم ) ، فإن معناه: وجمعنا عليهم, وسقنا إليهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله, وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا ) ، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل, بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات. يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك, بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم, فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم. يقول: فاصبر أنتَ كما صبر أولو العزم من الرسل .

وأما « شياطين الإنس والجن » ، فإنهم مَرَدتهم ، وقد بينا الفعل الذي منه بُنِي هذا الاسم، بما أغنى عن إعادته .

ونصب « العدو » و « الشياطين » بقوله: ( جعلنا ) .

وأما قوله: ( يُوحِي بعضُهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ) ، فإنه يعني أنّه يلقي الملقي منهم القولَ، الذي زيّنه وحسَّنه بالباطل إلى صاحبه, ليغترّ به من سمعه، فيضلّ عن سبيل الله .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( شياطين الإنس والجن ) .

فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس, وشياطين الجن التي مع الجنّ، وليس للإنس شياطين .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه ) ، أما « شياطين الإنس » ، فالشياطين التي تضلّ الإنس « وشياطين الجن » ، الذين يضلون الجنّ، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما: « إني أضللت صاحبي بكذا وكذا, وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا » , فيعلم بعضُهم بعضًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة: ( شياطين الإنس والجن ) ، قال: ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس, وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن السدي في قوله: ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ) ، قال: للإنسان شيطان, وللجنّي شيطان, فيلقَى شيطان الإنس شيطان الجن, فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا .

قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسدي في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما، عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا ) ، أولادَ إبليس، دون أولاد آدم، ودون الجن وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورًا, ولدَ إبليس, وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى مَنْ مع الجن من ولده زخرفَ القول غرورًا .

وليس لهذا التأويل وجه مفهوم, لأن الله جعل إبليس وولده أعداءَ ابن آدم, فكل ولده لكل ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الآية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداءً. فلو كان معنيًّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السدي, الذين هم ولد إبليس, لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبرِ عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً، وجهٌ . وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه، مثل الذي جعل لهم. ولكن ذلك كالذي قلنا، من أنه معنيٌّ به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدوًّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن حميد بن هلال قال، حدثني رجل من أهل دمشق, عن عوف بن مالك, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر, هل تعوَّذت بالله من شر شياطين الإنس والجنّ؟ قال: قلت: يا رسول الله, هل للإنس من شياطين؟ قال: نعم!

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة, عن ابن عائذ, عن أبي ذر, أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس, قال فقال: يا أبا ذر, هل صلَّيت؟ قال قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلستُ إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم, شرٌّ من شياطين الجن!

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن أبا ذر قام يومًا يُصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر، من شياطين الإنس والجن. فقال: يا رسول الله، أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: نعم!

وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا: من أن ذلك إخبارٌ من الله أنّ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( شياطين الإنس والجن ) ، قال: من الجن شياطين, ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض قال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يومًا يصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن. فقال: يا نبي الله, أوَ إن من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم!

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن ) ، الآية, ذكر لنا أنّ أبا ذر قام ذات يوم يصلي, فقال له نبي الله: تعوّذ بالله من شياطين الجن والإنس. فقال: يا نبي الله، أوَ للإنس شياطين كشياطين الجن؟ قال: « نعم, أوَ كذَبْتُ عليه؟ »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّا شياطين الإنس والجن ) ، فقال: كفار الجنّ شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفارِ الإنس، زخرفَ القول غرورًا .

وأما قوله: ( زُخرف القول غرورًا ) ، فإنه المزيَّن بالباطل، كما وصفت قبل. يقال منه: « زخرف كلامه وشهادته » ، إذا حسَّن ذلك بالباطل ووشّاه ، كما:-

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة قوله: ( زخرف القول غرورًا ) قال: تزيين الباطل بالألسنة .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « الزخرف » , فزخرفوه، زيَّنوه .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( زخرف القول غرورًا ) ، قال: تزيين الباطل بالألسنة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( زخرف القول غرورًا ) ، يقول: حسَّن بعضهم لبعضٍ القول ليتّبعوهم في فتنتهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( زخرف القول غرورًا ) قال: « الزخرف » ، المزيَّن, حيث زيَّن لهم هذا الغرور, كما زيَّن إبليس لآدم ما جاءه به وقاسمه إنه له لمن الناصحين . وقرأ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ، [ سورة فصلت: 25 ] . قال: ذلك الزخرف .

وأما « الغرور » ، فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصدَّه عن الصواب إلى الخطأ وعن الحق إلى الباطل وهو مصدر من قول القائل: « غررت فلانًا بكذا وكذا, فأنا أغرُّه غرورًا وغرًّا . كالذي:- »

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( غرورًا ) قال: يغرّون به الناسَ والجنّ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئت، يا محمد، أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداءً من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم, فعلتُ ذلك، ولكني لم أشأ ذلك، لأبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كل فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق ( فذرهم ) ، يقول: فدعهم يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن ( وما يفترون ) ، يعني: وما يختلقون من إفك وزور.

يقول له صلى الله عليه وسلم: اصبر عليهم، فإني من وراء عقابهم على افترائهم على الله، واختلاقهم عليه الكذبَ والزور .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ( ولتصغى إليه ) ، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .

وهو من « صغَوْت تَصْغَى وتصغُو » والتنـزيل جاء بـ « تصغَى » « صَغْوًا، وصُغُوًّا » ، وبعض العرب يقول: « صغيت » ، بالياء، حكي عن بعض بني أسد: « صَغيت إلى حديثه, فأنا أصغَى صُغِيًّا » بالياء, وذلك إذا ملت. يقال: « صَغْوِي معك » ، إذا كان هواك معه وميلك, مثل قولهم: « ضِلَعِي معك » . ويقال: « أصغيت الإناء » إذا أملته ليجتمع ما فيه، ومنه قول الشاعر:

تَـرَى السَّـفِيهَ بِـهِ عَـنْ كُـلِّ مُحْكَمَةٍ زَيْـغٌ, وفيـهِ إلَـى التَّشْـبِيهِ إصْغَـاءُ

ويقال للقمر إذا مال للغيوب: « صغا » و « أصغى » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن على بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( ولتصغى إليه أفئدة ) ، يقول: تزيغ إليه أفئدة .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، قال: لتميل .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: تميل إليه قلوبُ الكفار، ويحبونه، ويرضون به .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، قال: « ولتصغى » ، وليهووا ذلك وليرضوه. قال: يقول الرجل للمرأة: « صَغَيْت إليها » ، هويتها .

 

القول في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ( 113 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون .

حكي عن العرب سماعًا منها: « خرج يقترف لأهله » , بمعنى يكسب لهم. ومنه قيل: « قارف فلان هذا الأمر » ، إذا واقعه وعمله .

وكان بعضهم يقول: هو التهمة والادعاء. يقال للرجل: « أنت قَرَفْتَنِي » ، أي اتهمتني. ويقال: « بئسما اقترفتَ لنفسك » ، وقال رؤبة:

أَعْيَــا اقْـتِرَافُ الكَـذِبِ المَقْـرُوفِ تَقْــوَى التَّقِــي وعِفَّــةَ العَفِيـفِ

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وليقترفوا ) ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، وليكتسبوا ما هم مكتسبون .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون .

 

القول في تأويل قوله : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام, القائلين لك: « كفَّ عن آلهتنا، ونكف عن إلهك » : إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدًّا عن عبادتها ( أفغير الله أبتغي حكمًا ) ، أي: قل: فليس لي أن أتعدَّى حكمه وأتجاوزه, لأنه لا حَكَم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه ( وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب مفصلا ) يعني القرآن « مفصَّلا » , يعني: مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم .

وقد بينا معنى: « التفصيل » ، فيما مضى قبل .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 114 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله, وأشركوا معه الأندادَ, وجحدوا ما أنـزلته إليك, وأنكروا أن يكون حقًا وكذَّبوا به فالذين آتيناهم الكتاب ، وهو التوراة والإنجيل ، من بني إسرائيل ( يعلمون أنه منـزل من ربّك ) ، يعني: القرآن وما فيه ( بالحق ) يقول: فصلا بين أهل الحق والباطل, يدلُّ على صدق الصادق في علم الله, وكذبِ الكاذب المفتري عليه ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: فلا تكونن، يا محمد، من الشاكين في حقيقة الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب، وغيرِ ذلك مما تضمنه، لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منـزل من ربك بالحق .

وقد بيَّنا فيما مضى ما وجه قوله: ( فلا تكونن من الممترين ) ، بما أغنى عن إعادته، مع الرواية المروية فيه ، وقد:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: لا تكونن في شك مما قصَصنا عليك .

 

القول في تأويل قوله : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 115 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكملت « كلمة ربك » , يعني القرآن .

سماه « كلمة » ، كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: « هذه كلمة فلان » . .

( صدقًا وعدلا ) ، يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل.

و « الصدق » و « العدل » نصبا على التفسير للكلمة, كما يقال: « عندي عشرون درهما » .

( لا مبدِّل لكلماته ) ، يقول: لا مغيِّر لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه ، وذلك نظير قوله جل ثناؤه يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ، [ سورة الفتح:15 ] . فكانت إرادتهم تبديل كلام الله، مسألتهم نبيَّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه, وقولهم له ولمن معه من المؤمنين: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا الآية، [ سورة التوبة: 83 ] , فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبي الله في غَزاةٍ, ولن يقاتلوا معه عدوًّا بقولهم لهم: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « يريدون أن يبدلوا » بمسألتهم إياهم ذلك كلامَ الله وخبره: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ . فكذلك معنى قوله: ( لا مبدِّل لكلماته ) ، إنما هو: لا مغيِّر لما أخبرَ عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيئه وكونه ووُقُوعه على ما أخبرَ جل ثناؤه، لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها. وذلك أن اليهود والنصارى لا شك أنهم أهلُ كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه, وقد أخبر جل ثناؤه أنهم يحرِّفون غيرَ الذي أخبر أنَّه لا مبدِّل له .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا لا مبدل لكلماته ) ، يقول: صدقًا وعدلا فيما حكَم .

وأما قوله: ( وهو السميع العليم ) ، فإن معناه: والله « السميع » ، لما يقول هؤلاء العادلون بالله, المقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها, وغير ذلك من كلام خلقه « العليم » ، بما تؤول إليه أيمانهم من برٍّ وصدق وكذب وحِنْثٍ، وغير ذلك من أمور عباده .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 116 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تطع هؤلاء العادلين بالله الأنداد، يا محمد، فيما دعوك إليه من أكل ما ذبحوا لآلهتهم, وأهلُّوا به لغير ربهم، وأشكالَهم من أهل الزيغ والضلال, فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن دين الله، ومحجة الحق والصواب، فيصدُّوك عن ذلك .

وإنما قال الله لنبيه: ( وإن تطع أكثر من في الأرض ) ، من بني آدم, لأنهم كانوا حينئذ كفارًا ضلالا فقال له جل ثناؤه: لا تطعهم فيما دعوك إليه, فإنك إن تطعهم ضللت ضلالهم، وكنتَ مثلهم، لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد أخطئوه . ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الذين نَهَى نبيه عن طاعتهم فيما دعوه إليه في أنفسهم, فقال: ( إن يتبعون إلا الظن ) ، فأخبر جل ثناؤه أنهم من أمرهم على ظن عند أنفسهم, وحسبان على صحة عزمٍ عليه، وإن كان خطأ في الحقيقة ( وإن هم إلا يخرصون ) ، يقول: ما هم إلا متخرِّصون، يظنون ويوقعون حَزْرًا، لا يقينَ علمٍ.

يقال منه: « خرَصَ يخرُصُ خَرْصًا وخروصًا » ،

أي كذب، و « تخرّص بظن » ، و « تخرّص بكذب » , و « خرصتُ النخل أخرُصه » , و « خَرِصَتْ إبلك » ، أصابها البردُ والجوع .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 117 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ, لئلا يُضِلوك عن سبيله, هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيُّ خلقه يَضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحِي الشياطين بعضُهم إلى بعض, فيصدُّوا عن طاعته واتباع ما أمر به ( وهو أعلم بالمهتدين ) ، يقول: وهو أعلم أيضًا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسدادٍ, لا يخفى عليه منهم أحد . يقول: واتبع، يا محمد، ما أمرتك به, وانته عما نهيتك عنه من طاعة مَنْ نهيتك عن طاعته, فإني أعلم بالهادي والمضلِّ من خلقي، منك .

واختلف أهل العربية في موضع: « مَن » في قوله: ( إن ربك هو أعلم من يضل ) .

فقال بعض نحويي البصرة: موضعه خفض بنيّة « الباء » . قال: ومعنى الكلام: إن ربك هو أعلم بمن يضِلُّ .

وقال بعض نحويي الكوفة: موضعه رفع, لأنه بمعنى « أيّ » ، والرافع له « يضلّ » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنه رفع بـ « يضل » ، وهو في معنى « أيّ » . وغير معلوم في كلام العرب اسم مخفوض بغير خافض، فيكون هذا له نظيرا.

وقد زعم بعضهم أن قوله: ( أعلم ) ، في هذا الموضع بمعنى « يعلم » , واستشهد لقيله ببيت حاتم الطائي:

فَحَــالَفَتْ طَيّـئٌ مِـنْ دُونِنَـا حِلِفًـا وَاللــهُ أَعْلَـمُ مـا كُنَّـا لَهُـمْ خُـذْلا

وبقول الخنساء:

القَــــوْمُ أَعْلَـــمُ أَنَّ جَفْنَتَـــهُ تَعْــدُو غَــدَاةَ الــرِّيحِ أَوْ تَسـري

وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل، وإن كان جائزًا في كلام العرب, فليس قولُ الله تعالى ذكره: ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ) ، منه. وذلك أنه عطف عليه بقوله: ( وهو أعلم بالمهتدين ) ، فأبان بدخول « الباء » في « المهتدين » أن « أعلم » ليس بمعنى « يعلم » , لأن ذلك إذ كان بمعنى « يفعل » ، لم يوصل بالباء, كما لا يقال: « هو يعلم بزيد » , بمعنى: يعلم زيدًا .

 

القول في تأويل قوله : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( 118 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته: « فكلوا » ، أيها المؤمنون، مما ذكّيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم, وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحق, أو ذبحه مَنْ دان بتوحيدي من أهل الكتاب, دون ما ذبحه أهل الأوثان ومَنْ لا كتاب له من المجوس ( إن كنتم بآياته مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وأعلامه، بإحلال ما أحللت لكم، وتحريم ما حرمت عليكم من المطاعم والمآكل، مصدّقين, ودَعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم، وتلبيس دينكم عليكم غرورًا .

وكان عطاء يقول في ذلك ما:-

حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) ، قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. وكل شيء يدلّ على ذكره يأمر به .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: ( وما لكم أن لا تأكلوا ) .

فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال: وذلك نظير قوله: وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ ، [ سورة البقرة: 246 ] . يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت « لا » ، زائدة لا يقع الفعل. ولو كانت في معنى: « وما لنا وكذا » , لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل .

وقال غيره: إنما دخلت « لا » للمنع, لأن تأويل « ما لك » , و « ما منعك » واحد. « ما منعك لا تفعل ذلك » , و « ما لك لا تفعل » ، واحد. فلذلك دخلت « لا » . قال: وهذا الموضع تكون فيه « لا » ، وتكون فيه « أنْ » ، مثل قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء: 176 ] ، و « أن لا تضلوا » ، يمنعكم من الضلال بالبيان .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: معنى قوله: ( وما لكم ) ، في هذا الموضع: وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية, وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون, وبينته لكم بقولي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ، [ سورة المائدة: 3 ] ، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه .

فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك: « وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا » ، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه . فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا .

وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله: « فصَّل » , و « فَصَّلْنَا » و « فُصِّل » بيَّن, أو بُيِّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع كما:-

حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) ، يقول: قد بين لكم ما حرم عليكم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله .

واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) .

فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من « فَصَّلَ » و « حَرَّم » ، أي: فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبيَّنه لكم .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَقَدْ فَصَّلَ ) بفتح فاء « فصل » وتشديد صاده, « مَا حُرِّمَ » ، بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى: وقد فصل الله لكم المحرَّم عليكم من مطاعمكم .

وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: « وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ » ، بضم فائه وتشديد صاده، « مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ » ، بضم حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما .

وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك: « وَقَدْ فَصَلَ » ، بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حَرَّم عليكم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية، قراءات معروفات مستفيضةٌ القراءةُ بها في قرأة الأمصار, وهن متّفقات المعاني غير مختلفات, فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ .

وأما قوله: ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما أضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيَّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين, حتى تزول الضرورة . كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، من الميتة .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن كثيرًا من الناس [ الذين ] يجادلونكم في أكل ما حرم الله عليكم، أيها المؤمنون بالله، من الميتة، ليُضلون أتباعهم بأهوائهم من غير علم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبًا منهم لأهوائهم, واتباعًا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافًا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين ( إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) ، يقول: إن ربك، يا محمد، الذي أحلَّ لك ما أحلَّ وحرَّم عليك ما حرم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( ليضلون ) .

فقرأته عامة أهل الكوفة: ( لَيُضِلُّونَ ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم .

وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين: « لَيَضِلُّونَ » ، بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحق فيجورون عنه .

قال أبو جعفر: وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءةُ من قرأ: ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم: وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

 

القول في تأويل قوله : وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودعوا، أيها الناس، علانية الإثم، وذلك ظاهره وسرّه، وذلك باطنه، . كذلك:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، أي: قليله وكثيره، وسرّه وعلانيته .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: سره وعلانيته .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، يقول: سره وعلانيته وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [ سورة الأعراف: 33 ] ، قال: سره وعلانيته .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه، أن يعمل به سرًّا أو علانية, وذلك ظاهره وباطنه .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، معصية الله في السر والعلانية .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: هو ما ينوي مما هو عامل .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالظاهر من الإثم والباطن منه، في هذا الموضع.

فقال بعضهم: « الظاهر منه » ، ما حرم جل ثناؤه بقوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، [ سورة النساء: 22 ] ، وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ الآية, و « الباطن منه » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: الظاهر منه: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ والأمهات والبنات والأخوات « والباطن » . الزنى .

وقال آخرون: « الظاهر » ، أولات الرايات من الزواني ، والباطن: ذوات الأخدان .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) أما « ظاهره » ، فالزواني في الحوانيت ، وأما « باطنه » ، فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرًّا .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [ سورة الأنعام: 151 ] . كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا, فحرّم الله السر منه والعلانية « ما ظهر منها » ، يعني العلانية « وما بطن » ، يعني: السر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي مكين وأبيه, عن خصيف, عن مجاهد: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: « ما ظهر منها » ، الجمع بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى .

وقال آخرون: « الظاهر » ، التعرّي والتجرد من الثياب، وما يستر العورة في الطواف « والباطن » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: ظاهره العُرْيَة التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت ، وباطنه: الزنى .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه، وذلك سره وعلانيته. و « الإثم » كل ما عُصِي الله به من محارمه, وقد يدخل في ذلك سرُّ الزنى وعلانيته, ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهن, ونكاحُ حلائل الآباء والأمهات والبنات, والطواف بالبيت عريانًا, وكل معصية لله ظهرت أو بطنت . وإذ كان ذلك كذلك, وكان جميعُ ذلك « إثمًا » , وكان الله عمّ بقوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئًا دون شيء، إلا بحجة للعذر قاطعة .

غير أنه لو جاز أن يوجَّه ذلك إلى الخصوص بغير برهان, كان توجيهه إلى أنه عنى بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع، ما حرم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم, وما بيَّن الله تحريمه في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى آخر الآية, أولى, إذ كان ابتداء الآيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى، وهذه في سياقها. ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك, وأدخل فيها الأمر باجتناب كل ما جانسه من معاصي الله, فخرج الأمر عامًا بالنهي عن كل ما ظهر أو بطن من الإثم .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( 120 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نَهاهم الله عنه، ويركبون معاصيَ الله ويأتون ما حرَّم الله ( سيجزون ) ، يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منـزل، فإنه حرام عليكم ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم, فإن أكل ذلك « فسق » , يعني: معصية كفر .

فكنى بقوله: « وإنه » ، عن « الأكل » , وإنما ذكر الفعل, كما قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ، [ سورة آل عمران: 173 ] يراد به، فزاد قولُهم ذلك إيمانًا, فكنى عن « القول » , وإنما جرى ذكره بفعلٍ .

( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس ( إلى أوليائهم ) ، من مردة مشركي قريش, يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري قال، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباريّ قال، حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة: لما نـزلت هذه الآية، بتحريم الميتة، قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريشٍ أنْ خاصموا محمدًا وكانت أولياءهم في الجاهلية وقولوا له: أوَ ما ذبحتَ فهو حلال, وما ذَبح الله قال ابن عباس: بِشمْشَارٍ من ذهب فهو حرام ! ! فأنـزل الله هذه الآية: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، قال: الشياطين: فارس, وأولياؤهم قريش .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار, عن عكرمة: « إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس, وكتبت فارسُ إلى مشركي قريش إن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه للميتة وأمّا ما ذبحوا هم يأكلون » ! وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه السلام, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فنـزلت: ( وإنه لفسقٌ وإن الشياطين ليوحون ) الآية, ونـزلت: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا . [ سورة الأنعام: 112 ]

وقال آخرون: إنما عنى بالشياطين الذين يغرُون بني آدم: أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قَتَل, وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوِي الحديث حتى بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم, فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس: « يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم » قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء ! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم ( وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ) ، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون, وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال !

حدثنا محمد بن عمار الرازي قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربّكم فلا تأكلون, وما قتلتم أنتم تأكلونه ! فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال: جادل المشركون المسلمين فقالوا: ما بال ما قتلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه! وأنتم تتبعون أمر الله ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، إلى آخر الآية .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت، من قَتَلها؟ فقال: اللهُ قتلها . قالوا: فتزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلالٌ, وما قتله الله حرام! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرمي: أن ناسًا من المشركين قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه !

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ، قال: قالوا: يا محمد, أمّا ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه, وأمّا ما قتل ربُّكم فتحرِّمونه ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه, إنكم إذًا لمشركون .

حدثنا المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه, وما قتل ربكم لا تأكلونه ! فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، قول المشركين: أما ما ذبح الله للميتة فلا تأكلون منه, وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال !

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، قال: جادلهم المشركون في الذبيحة فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه ! يعنون « الميتة » ، فكانت هذه مجادلتهم إياهم .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) الآية, يعني عدوّ الله إبليس, أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا: « أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمرَ الله » ! فأنـزل الله على نبيه: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلهًا آخر, أو يسجد لغير الله, أو يسمي الذبائح لغير الله .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, وما ذبح الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: لئن أطعتموهم فأكلتم الميتة، إنكم لمشركون .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، قال: كانوا يقولون: ما ذكر الله عليه وما ذبحتم فكلوا ! فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) إلى قوله: ( ليجادلوكم ) ، قال يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون مما قتل الله! فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه, وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، هذا في شأن الذبيحة. قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرم عليكم الميتة, وأحل لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم, وحرم عليكم ما ذبح هو لكم ؟ وكيف هذا وأنتم تعبدونه! فأنـزل الله هذه الآية: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، إلى قوله: ( لمشركون ) .

وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قومًا من اليهود .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع قالا حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك, كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ، [ سورة الأنعام: 112 ] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي, لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس, كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة, ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم .

واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه.

فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء: فما قوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش .

وقال آخرون: هي الميتة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، قال: الميتة .

وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن, سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى, فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كله ! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن أيوب وهشام, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين, ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبد الله بن يزيد قال: كنت أجلس إليه في حلقة, فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم, فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال: فجاءه رجل فسأله, فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، حتى فرغ منها .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة, وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته .

وأما من قال: « عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله » , فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله, وكفى بذلك شاهدًا على فساده . وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى: « لطيف القول في أحكام شرائع الدين » ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله « ( وإنه لفسق ) ، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق » .

واختلف أهل التأويل في معنى: « الفسق » ، في هذا الموضع.

فقال بعضهم: معناه: المعصية .

فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإنه لفسق ) ، قال: « الفسق » ، المعصية .

وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر .

وأما قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم ) ، فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: ( وإن الشياطين ليوحون ) ، والصوابَ من القول فيه وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم, فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول, وإما برسالة, وإما بكتاب .

وقد بينا معنى: « الوحي » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقد:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة, عن أبي زُمَيل قال: كنت قاعدًا عند ابن عباس, فجاءه رجل من أصحابه, فقال: يا ابن عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة! يعني المختار بن أبي عبيد فقال ابن عباس: صدق ! فنفرت فقلت: يقول ابن عباس « صدق » ! فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله, ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد, ووحي الشياطين إلى أوليائهم . ثم قرأ: ( وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) .

وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء، في هذا الموضع .

ويعني بقوله: ( ليجادلوكم ) ، ليخاصموكم, بالمعنى الذي قد ذكرت قبل .

وأما قوله: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم; كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن أطعتموهم ) ، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن أطعتموهم ) ، فأكلتم الميتة .

وأما قوله: ( إنكم لمشركون ) ، يعني: إنكم إذًا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين .

قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم .

وروي عن الحسن البصري وعكرمة, ما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ سورة المائدة: 5 ] .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن هذه الآية محكمة فيما أنـزلت، لم ينسخ منها شيء, وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة . وذلك مما حرم الله على المؤمنين أكله بقوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أهلّ به للطواغيت, وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سمُّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها, يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه, سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه, إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل, أو بعبادة شيء سوى الله, فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسم .

 

القول في تأويل قوله : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا

قال أبو جعفر: وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به, وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا, فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا, يقول: من كان كافرًا ؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته, بمنـزلة « الميت » الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة ( فأحييناه ) ، يقول: فهديناه للإسلام, فأنعشناه, فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها, ويعمل في خلاصها من سَخَط الله وعقابه في معاده. فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عَمَاه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشدًا ولا يعرف حقًّا, يعني في ظلمات الكفر . يقول: أفَطَاعة هذا الذي هديناه للحق وبصَّرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد، لا يعرف المخرج منها، في دعاء هذا إلى تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل، وتحليل هذا ما حرم الله، وتحريمه ما أحلّ؟

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجلين بأعيانهما معروفين: أحدهما مؤمن, والآخر كافر .

ثم اختلف أهل التأويل فيهما.

فقال بعضهم: أما الذي كان مَيْتًا فأحياه الله، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا سليمان بن أبي هوذة, عن شعيب السراج, عن أبي سنان عن الضحاك في قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( كمن مثله في الظلمات ) ، قال: أبو جهل بن هشام .

وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله، عمار بن ياسر رحمة الله عليه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن تيم, عن رجل, عن عكرمة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: نـزلت في عمار بن ياسر .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن بشر, عن تيم, عن عكرمة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، عمار بن ياسر ( كمن مثلة في الظلمات ) ، أبو جهل بن هشام .

وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) قال: ضالا فهديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) قال: هدى ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، قال: في الضلالة أبدًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، هديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ) في الضلالة أبدًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، قال: ضالا فهديناه .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، يعني: من كان كافرًا فهديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يعني بالنور، القرآنَ، من صدَّق به وعمل به ( كمن مثله في الظلمات ) ، يعني: بالظلمات، الكفرَ والضلالة .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يقول: الهدى « يمشي به في الناس » , يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام. يقول: كان مشركًا فهديناه ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي, كتابَ الله ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع, لا يجد مخرجًا ولا منفذًا .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يقول: من كان كافرًا فجعلناه مسلمًا، وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس، وهو الإسلام, يقول: هذا كمن هو في الظلمات, يعني: الشرك .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: الإسلام الذي هداه الله إليه ( كمن مثله في الظلمات ) ، ليس من أهل الإسلام . وقرأ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، [ سورة البقرة: 257 ] . قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره, وكذلك الذي آتاه الله هذا النور، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره، كما يستضيء صاحب هذا السراج . قال: ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه .

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 122 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله، في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحق, فزينت له سوءَ عمله فرآه حسنًا، ليستحق به ما أعددت له من أليم العقاب, كذلك زيَّنت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته، ما كانوا يعملون من معاصي الله, ليستوجبوا بذلك من فعلهم، ما لهم عند ربهم من النَّكال .

قال أبو جعفر: وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوَّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم, وأنه قد سوَّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية. لأن ذلك لو كان كما قالوا, لكان قد زَيَّن لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر، نظيرَ ما زيَّن من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به ، وزيّن لأهل الكفر به من الإيمان به، نظيرَ الذي زيّن منه لأنبيائه وأوليائه . وفي إخباره جل ثناؤه أنه زين لكل عامل منهم عمله، ما ينبئ عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان, وخصّ أعداءه وأهل الكفر، بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان, وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها يعني أهل الشرك بالله والمعصية له ( ليمكروا فيها ) ، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه ( وما يمكرون ) : أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلا بأنفسهم , لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله « وهم لا يشعرون » , يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أكابر مجرميها ) ، قال: عظماءها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أكابر مجرميها ) ، قال: عظماءها .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نـزلت في المستهزئين قال ابن جريج، عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: ( أكابر مجرميها ) ، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .

والأكابر: جمع « أكبر » , كما « الأفاضل » جمع « أفضل » . ولو قيل: هو جمع « كبير » , فجمع « أكابر » , لأنه قد يقال: « أكبر » , كما قيل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، [ سورة الكهف: 103 ] ، واحدهم « الخاسر » ، لكان صوابًا . وحكي عن العرب سماعًا « الأكابرة » و « الأصاغرة » , و « الأكابر » ، و « الأصاغر » ، بغير الهاء، على نية النعت, كما يقال: « هو أفضل منك » . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على « أفعل » ، إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم « الأحمر » و « الأسود » ، « الأحامر » و « الأحامرة » , و « الأساود » و « الأساودة » ، ومنه قول الشاعر:

إنَّ الأحَـــامِرَة الثَّلاثَــةَ أَهْلَكَــتْ مَــالِي, وكُـنْتُ بِهِـنّ قِدْمًـا مُولَعًـا

الخَــمْرُ واللَّحْــمُ السِّــمِينُ إدَامُـهُ والزَّعْفَــرَانُ, فَلَــنْ أرُوحَ مُبَقَّعَــا

وأما « المكر » ، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم، ليصدّوا عن سبيل الله ( آية ) ، يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد من عند الله وحقيقته قالوا لنبي الله وأصحابه: ( لن نؤمن ) ، يقول: يقولون: لن نصدق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به, وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنّ الله حرّمه علينا ( حتى نؤتى ) ، يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر, وعيسى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص . يقول تعالى ذكره: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل, وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها . يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل, فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم, لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه, والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته .

 

القول في تأويل قوله : سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( 124 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمردين عليه: « سيصيب » ، يا محمد، الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره ( صغار ) ، يعني: ذلة وهوان ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله ) ، قال: « الصغار » ، الذلة .

وهو مصدر من قول القائل: « صَغِرَ يصغَرُ صَغارًا وصَغَرًا » , وهو أشدّ الذلّ .

وأما قوله: ( صغار عند الله ) ، فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله, كقول القائل: « سيأتيني رزقي عند الله » , بمعنى: من عند الله, يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله . وغير جائز لمن قال: « سيصيبهم صغار عند الله » ، أن يقول: « جئت عند عبد الله » ، بمعنى: جئت من عند عبد الله, لأن معنى « سيصيبهم صغارٌ عند الله » ، سيصيبهم الذي عند الله من الذل، بتكذيبهم رسوله. فليس ذلك بنظير: « جئت من عند عبد الله » . .

وقوله: ( وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) ، يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصغار عذابٌ شديد، بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ

قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره: فمن يرد الله أن يهديه للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه، فيوفقه له ( يشرح صدره للإسلام ) ، يقول: فسح صدره لذلك وهوَّنه عليه، وسهَّله له، بلطفه ومعونته, حتى يستنير الإسلام في قلبه, فيضيء له، ويتسع له صدره بالقبول ، كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:-

حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي يحدث, عن عبد الله بن مرة, عن أبي جعفر قال: لما نـزلت هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نـزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح . قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الفوت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا, وأحسنهم لما بعده استعدادًا . قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: كيف يشرح صدره، يا رسول الله؟ قال: نور يُقذف فيه، فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: « الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت » .

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عمرو بن مرة, عن رجل يكنى « أبا جعفر » ، كان يسكن المدائن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قال: نور يقذف في القلب فينشرح وينفسخ . قالوا: يا رسول الله, هل له من أمارة يعرف بها؟ ثم ذكر باقي الحديث مثله .

حدثني هلال بن العلاء قال، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح . قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود, والتنحِّي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت.

حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن خالد بن أبي كريمة, عن عبد الله بن المسور قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور القلبَ انفسح وانشرح. قالوا: يا رسول الله, وهل لذلك من علامة تعرف؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نـزول الموت.

حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: يا رسول الله, وكيف يُشرح صدره؟ قال: يدخل فيه النور فينفسح . قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور, والإنالة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، أما « يشرح صدره للإسلام » ، فيوسع صدره للإسلام .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، بـ « لا إله إلا الله » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، بـ « لا إله إلا الله » يجعل لها في صدره متَّسعًا .

 

القول في تأويل قوله : وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى، يَشغله بكفره وصدِّه عن سبيله, ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه ، حرجًا .

و « الحرج » ، أشد الضيق, وهو الذي لا ينفذه، من شدة ضيقه, وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان، لريْن الشرك عليه . وأصله من « الحرج » , و « الحرج » جمع « حَرَجة » ، وهي الشجرة الملتف بها الأشجار, لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الله بن عمار رجل من أهل اليمن عن أبي الصلت الثقفي: أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) بنصب الراء . قال: وقرأ بعض مَنْ عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ضَيِّقًا حَرِجًا » . قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيًا, وليكن مُدْلجيًّا. قال: فأتوه به. فقال له عمر: يا فتى، ما الحرجة؟ قال: « الحرجة » فينا، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيَّة ولا شيء . قال: فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصل إليه شيء من الخير .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، [ سورة الحج:78 ] ، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال: بعضهم معناه: شاكًّا .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حميد, عن مجاهد: ( ضيقًا حرجًا ) قال: شاكًّا .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ضيقًا حرجًا ) أما « حرجًا » ، فشاكًّا .

وقال آخرون: معناه: ملتبسًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، قال: ضيقًا ملتبسًا .

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن الحسن, عن قتادة أنه كان يقرأ: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) ، يقول: ملتبسًا .

وقال آخرون: معناه: أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن حبيب بن أبي عمرة, عن سعيد بن جبير: ( يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، قال: لا يجد مسلكًا إلا صُعُدًا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ( ضيقًا حرجًا ) ، قال: ليس للخير فيه منفَذٌ .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني، مثله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: ( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، بلا إله إلا الله، لا يجد لها في صدره مَسَاغًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً في قوله: ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا ) ، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه بعضهم: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) بفتح الحاء والراء من ( حرجًا ) , وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين, بمعنى جمع « حرجة » ، على ما وصفت .

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: « ضَيِّقًا حَرِجًا » ، بفتح الحاء وكسر الراء .

ثم اختلف الذين قرأوا ذلك في معناه.

فقال بعضهم: هو بمعنى: « الحَرَج » . وقالوا: « الحرَج » بفتح الحاء والراء, و « الحرِج » بفتح الحاء وكسر الراء، بمعنى واحد, وهما لغتان مشهورتان, مثل: « الدَّنَف » و « الدَّنِف » , و « الوَحَد » و « الوَحِد » , و « الفَرَد » و « الفَرِد » .

وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم، من قولهم: « فلان آثِمٌ حَرِجٌ » ، وذكر عن العرب سماعًا منها: « حَرِجٌ عليك ظُلمي » , بمعنى: ضِيقٌ وإثْم.

قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد, وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ، لاتفاق معنييهما. وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في « الوحَد » و « الفَرَد » بفتح الحاء من « الوحد » والراء من « الفرد » ، وكسرهما، بمعنى واحدٍ .

وأما « الضيِّق » , فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه, خلا بعض المكيين فإنه قرأه: « ضَيْقًا » ، بفتح الضاد وتسكين الياء، وتخفيفه .

وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان:

أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد, كما قيل: « هَيْنٌ لَيْنٌ » , بمعنى: هيِّنٌ ليِّنٌ .

والآخر: أن يكون سكنه بنية المصدر، من قولهم: « ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقًا » , كما قال رؤبة:

قَــدْ عَلِمْنَــا عِنْــدَ كُـلِّ مَـأْزِقِ ضَيْــقٍ بِوَجْــهِ الأمْـرِ أَوْ مُضَيِّـقِ

ومنه قول الله: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، [ سورة النحل: 127 ] . وقال رؤبة أيضًا * وَشَفَّها اللَّوحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ *

بمعنى: ضيّق . وحكي عن الكسائي أنه كان يقول: « الضيِّقُ » ، بالكسر: في المعاش والموضع, وفي الأمر « الضَّيْق » .

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية أبينُ البيان لمن وُفّق لفهمهما، عن أن السبب الذي به يُوصل إلى الإيمان والطاعة، غير السبب الذي به يُوصل إلى الكفر والمعصية, وأن كلا السببين من عند الله. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدرَ من أراد هدايته للإسلام, ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيِّقًا عن الإسلام حَرَجًا كأنَّما يصعد في السماء . ومعلومٌ أن شرح الصدر للإيمان خِلافُ تضييقه له, وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق, ولكان من ضُيِّق صدره عن الإيمان، قد شُرِح صدره له، ومن شرح صدره له، فقد ضُيِّق عنه, إذ كان مَوْصولا بكل واحد منهما أعني من التضييق والشرح إلى ما يُوصَل به إلى الآخر . ولو كان ذلك كذلك, وجب أن يكون الله قد كان شرح صدرَ أبي جهل للإيمان به، وضيَّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وهذا القول من أعظم الكفر بالله . وفي فساد ذلك أن يكون كذلك، الدليلُ الواضح على أن السَّبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله، وأطاعه المطيعون, غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون, وأن كِلا السببين من عند الله وبيده, لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو الذي يشرح صدرَ هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته, ويضيِّق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلالَه .

 

القول في تأويل قوله : كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ

قال أبو جعفر: وهذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه, مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وسعه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ( كأنما يصعد في السماء ) ، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني, مثله .

وبه قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً: « يجعل صدره ضيقًا حرجًا » ، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله, « كأنما يصعد في السماء » ، من شدّة ذلك عليه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, مثله .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كأنما يصعد في السماء ) ، من ضيق صدره .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ) ، بمعنى: « يتصعَّد » , فأدغموا التاء في الصاد, فلذلك شدَّدوا الصاد .

وقرأ ذلك بعض الكوفيين: « يَصَّاعَدُ » ، بمعنى: « يتصاعد » , فأدغم التاء في الصاد، وجعلها صادًا مشدَّدة .

وقرأ ذلك بعض قرأة المكيين: « كَأَنَّمَا يَصْعَدُ » ، من « صَعِد يصعَد » .

وكل هذه القراءات متقاربات المعانى، وبأيِّها قرأ القارئ فهو مصيب, غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ) ، بتشديد الصاد بغير ألف, بمعنى: « يتصعد » , لكثرة القرأة بها, ولقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « مَا تَصَعَّدَني شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النّكاح » .

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 125 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر مَنْ أراد إضلاله ضيقًا حرجًا, كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان فيجزيه بذلك, كذلك يسلّط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبَى الإيمان بالله ورسوله, فيغويه ويصدّه عن سبيل الحق .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى « الرجس » .

فقال بعضهم: هو كل ما لا خير فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الرجس » ، ما لا خير فيه .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: ( يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ، قال: ما لا خير فيه .

وقال آخرون: « الرجس » ، العذاب .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ، قال: الرجس عذابُ الله .

وقال آخرون: « الرجس » ، الشيطان .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( الرجس ) ، قال: الشيطان .

وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول: « الرِّجْس » ، « والنِّجْس » لغتان . ويحكى عن العرب أنها تقول: « ما كان رِجْسًا, ولقد رَجُس رَجَاسة » و « نَجُس نَجَاسة » .

وكان بعض نحويي البصريين يقول: « الرجس » و « الرِّجز » ، سواء, وهما العذاب .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس, ومَنْ قال إن « الرجس » و « النجس » واحد, للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخَلاء: « اللهُمّ إنّي أعوذ بك من الرجْس النِّجْس الخبيث المُخْبِثِ الشيطان الرَّجيم » .

حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختري الطائي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن وقتادة, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد بيَّن هذا الخبر أن « الرِّجْس » هو « النِّجْس » ، القذر الذي لا خير فيه, وأنه من صفة الشيطان .

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 126 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيّنا لك، يا محمد، في هذه السورة وغيرها من سور القرآن هو صراطُ ربك, يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه. فاثبُتْ عليه، وحرِّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك, فقد بيّنا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته « لقوم يذكرون » , يقول: لمن يتذكر ما احتجَّ الله به عليه من الآيات والعبر فيعتبر بها . وخص بها « الذين يتذكرون » , لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجى والفضل وقيل: « يذَّكرون » ......................

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وهذا صراط ربك مستقيمًا ) ، يعني به الإسلام .

 

القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 127 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « لهم » ، للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها، ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك, فيصدِّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذاك .

وأما « دار السلام » , فهي دار الله التي أعدَّها لأوليائه في الآخرة، جزاءً لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله، وهي جنته . و « السلام » ، اسم من أسماء الله تعالى, كما قال السدي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لهم دار السلام عند ربهم ) ، الله هو السلام, والدار الجنة .

وأما قوله: ( وهو وليُّهم ) ، فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله ( بما كانوا يعملون ) ، يعني: جزاءً بما كانوا يعملون من طاعة الله, ويتبعون رضوانه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ويوم يحشرهم جميعًا ) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين, فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة يقول للجن: ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، وحذف « يقول للجن » من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه .

وعنى بقوله: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، يعني: أضللتم منهم كثيرًا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، قال: كثُر من أغويتم .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون: « ربنا استمتع بعضنا ببعض » في الدنيا . فأما استمتاع الإنس بالجن, فكان كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( ربنا استمتع بعضنا ببعض ) ، قال: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض فيقول: « أعوذ بكبير هذا الوادي » ، فذلك استمتاعهم, فاعتذروا يوم القيامة .

وأما استمتاع الجن بالإنس, فإنه كان، فيما ذكر, ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم, فيقولون: « قد سدنا الجِنّ والحِنّ »

 

القول في تأويل قوله : وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا . وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا . كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا ) ، فالموت .

 

القول في تأويل قوله : قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 128 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن, فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه, فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: ( النار مثواكم ) ، يعني نار جهنم « مثواكم » ، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه .

و « المثوى » هو « المَفْعَل » من قولهم: « ثَوَى فلان بمكان كذا » , إذا أقام فيه .

( خالدين فيها ) ، يقول: لابثين فيها ( إلا ما شاء الله ) ، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم, فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار ( إن ربك حكيم ) ، في تدبيره في خلقه, وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله ( عليم ) ، بعواقب تدبيره إياهم, وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر .

وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينـزلهم جنَّةً ولا نارًا .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 129 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ( نُوَلّي ) .

فقال بعضهم: معناه: نحمل بعضهم لبعض وليًّا، على الكفر بالله .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يونس قال، حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون ) ، وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم ، فالمؤمن وليُّ المؤمن أين كان وحيث كان, والكافر وليُّ الكافر أينما كان وحيثما كان . ليس الإيمان بالتَمنِّي ولا بالتحَلِّي .

وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضًا في النار من « الموالاة » , وهو المتابعة بين الشيء والشيء, من قول القائل: « واليت بين كذا وكذا » ، إذا تابعت بينهما .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا ) ، في النار، يتبع بعضهم بعضًا .

وقال آخرون: معنى ذلك، نسلط بعض الظلمة على بعض .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا ) ، قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس . وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، [ سورة الزخرف: 36 ] . قال: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعضٍ أولياء . لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين, فقال جل ثناؤه: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ , وأخبر جل ثناؤه: أنّ بعضهم أولياء بعض, ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضًا بتوليته إياهم, فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض, كذلك نجعل بعضَهم أولياء بعض في كل الأمور « بما كانوا يكسبون » ، من معاصي الله ويعملونه .

 

القول في تأويل قوله : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن, يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ) ، يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلّتي على توحيدي, وتصديق أنبيائي, والعمل بأمري، والانتهاء إلى حدودي ( وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ، يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إيّاي, فتنتهوا عن معاصيَّ .

وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي. ومعناه: قد أتاكم رسلٌ منكم ينبِّهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيدَ الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين, فلم تقبلوا ذلك، ولم تتذكروا ولم تعتبروا .

واختلف أهل التأويل في « الجن » , هل أرسل منهم إليهم، أم لا؟

فقال بعضهم: قد أرسل إليهم رسل، كما أرسل إلى الإنس منهم رسلٌ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سئل الضحاك عن الجن، هل كان فيهم نبيّ قبل أن يُبْعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي ) ، يعني بذلك: رسلا من الإنس ورسلا من الجن؟ فقالوا: بلَى!

وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسولٌ, ولم يكن له من الجنّ قطٌّ رسول مرسل, وإنما الرسل من الإنس خاصَّة ، فأما من الجن فالنُّذُر . قالوا: وإنما قال الله: ( ألم يأتكم رسل منكم ) ، والرسل من أحد الفريقين, كما قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، [ سورة الرحمن: 19 ] ، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ، [ سورة الرحمن: 22 ] ، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العذب منهما، وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما، أو من أحدهما . قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤُرٍ: « إن في هذه الدُّور لشرًّا » , وإن كان الشر في واحدة منهن, فيخرج الخبر عن جميعهن، والمراد به الخبر عن بعضهن, وكما يقال: « أكلت خبزًا ولبنًا » ، إذا اختلطا، ولو قيل: « أكلت لبنًا » , كان الكلام خطأً, لأن اللبن يشرب ولا يؤكل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) ، قال: جمعهم كما جمع قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ، [ سورة فاطر: 12 ] ، ولا يخرج من الأنهار حلية قال ابن جريج ، قال ابن عباس: هم الجن لقُوا قومهم, وهم رسل إلى قومهم .

فعلى قول ابن عباس هذا, أنّ من الجنّ رسلا للإنس إلى قومهم فتأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم، أيها الجن والإنس، رسل منكم، فأما رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُل الله من بني آدم, وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ وَلّوا إلى قومهم منذرين .

وأما الذين قالوا بقول الضحاك, فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ من الجن رسلا أرسلوا إليهم, كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس, جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ . قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله, لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .

 

القول في تأويل قوله : قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 130 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قول مشركي الجن والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، أنهم يقولونه ................ ( شهدنا على أنفسنا ) ، بأن رسلك قد أتتنا بآياتك, وأنذرتنا لقاء يومنا هذا, فكذبناها وجحدنا رسالتها, ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها .

قال الله خبرًا مبتدأ: وغَرَّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، وأولياءَهم من الجن ( الحياة الدنيا ) ، يعني: زينة الحياة الدنيا، وطلبُ الرياسة فيها والمنافسة عليها, أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله, فاستكبروا وكانوا قومًا عالين . فاكتفى بذكر « الحياة الدنيا » من ذكر المعاني التي غرَّتهم وخدَعتهم فيها, إذ كان في ذكرها مكتفًى عن ذكر غيرها، لدلالة الكلام على ما تُرك ذكره يقول الله تعالى ذكره: ( وشهدوا على أنفسهم ) ، يعني: هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله, لتتم حجَّة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليمَ عذابه .

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( 131 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه, وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ, من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم .

وقد يتَّجه من التأويل في قوله: « بظلم » ، وجهان:

أحدهما: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، أي: بشرك مَنْ أشرك, وكفر مَنْ كفر من أهلها, كما قال لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان: 13 ] ( وأهلها غافلون ) ، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم, وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه, ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ .

والآخر: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر, فيظلمهم بذلك, والله غير ظلامٍ لعبيده .

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، عقيب قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه .

وأما قوله: ( ذلك ) ، فإنه يجوز أن يكون نصبًا, بمعنى: فعلنا ذلك ويجوز أن يكون رفعًا، بمعنى الابتداء, كأنه قال: ذلك كذلك .

وأما « أنْ » ، فإنها في موضع نصب، بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أنْ لم يكن ربك مهلك القرى فإذا حذف ما كان يخفضها، تعلق بها الفعل فنصب .

 

القول في تأويل قوله : وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 132 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها, ويثيبه بها, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا ( وما ربك بغافل عما يعملون ) ، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .

 

القول في تأويل قوله : وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( 133 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « وربك » ، يا محمد، الذي أمر عباده بما أمرهم به، ونهاهم عما نهاهم عنه، وأثابهم على الطاعة، وعاقبهم على المعصية « الغني » ، عن عباده الذين أمرهم بما أمر، ونهاهم عما نهى, وعن أعمالهم وعبادتهم إياه, وهم المحتاجون إليه, لأنه بيده حياتهم ومماتهم، وأرزاقهم وأقواتهم، ونفعهم وضرهم. يقول عز ذكره: فلم أخلقهم، يا محمد، ولم آمرهم بما أمرتهم به، وأنههم عما نهيتهم عنه, لحاجةٍ لي إليهم، ولا إلى أعمالهم, ولكن لأتفضَّل عليهم برحمتي، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا, فإني ذو الرَّأفة والرحمة .

وأما قوله: ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، فإنه يقول: إن يشأ ربُّك، يا محمد، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه ( يذهبكم ) ، يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، يقول: ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم، يخلفونكم في الأرض « من بعدكم » , يعني: من بعد فنائكم وهلاككم ( كما أنشأكم من ذريَّة قوم آخرين ) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلَكم .

ومعنى « مِنْ » في هذا الموضع التعقيب, كما يقال في الكلام: « أعطيتك من دينارك ثوبًا » , بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا, لا أن الثوب من الدينار بعضٌ, كذلك الذين خوطبوا بقوله: ( كما أنشأكم ) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين, ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم .

و « الذرية » « الفُعْليّة » ، من قول القائل: « ذرأ الله الخلق » , بمعنى خلقهم، « فهو يذرؤهم » , ثم ترك الهمزة فقيل: « ذرا الله » , ثم أخرج « الفُعْليّة » بغير همز، على مثال « العُبِّيَّة » .

وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ: « مِنْ ذُرِّيئَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ » على مثال « فُعِّيلة » .

وعن آخر أنه كان يقرأ: « وَمِنْ ذِرِّيَّةِ » ، على مثال « عِلِّيَّة » .

قال أبو جعفر: والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار: ( ذُرِّيَّةِ ) ، بضم الذال، وتشديد الياء، على مثال « عُبِّية » .

وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا .

وأصل « الإنشاء » ، الإحداث. يقال: « قد أنشأ فلان يحدِّث القوم » , بمعنى ابتدأ وأخذ فيه .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 134 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثانَ والأصنامَ, إن الذي يُوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم، واقعٌ بكم ( وما أنتم بمعجزين ) , يقول: لن تعجزوا ربّكم هربًا منه في الأرض فتفوتوه, لأنكم حيث كنتم في قبضته, وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إيّاه قادر. يقول: فاحذرُوه وأنيبوا إلى طاعته، قبل نـزول البلاء بكم .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لقومك من قريش الذين يجعلون مع الله إلها آخر: ( اعملوا على مكانتكم ) ، يقول: اعملوا على حِيالكم وناحيتكم . كما:-

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، يعني: على ناحيتكم .

يقال منه: « هو يعمل على مكانته، ومَكِينته » .

وقرأ ذلك بعض الكوفيين: « عَلَى مَكَانَاتِكُمْ » ، على جمع « المكانة » .

قال أبو جعفر: والذي عليه قرأة الأمصار: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) ، على التوحيد .

( إني عامل ) ، يقول جل ثناؤه، لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون, فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي ( فسوف تعلمون ) ، يقول: فسوف تعلمون عند نـزول نقمة الله بكم, أيُّنا كان المحقّ في عمله، والمصيب سبيلَ الرشاد, أنا أم أنتم.

وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك: ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، أمرٌ منه له بوعيدهم وتهدّدهم, لا إطلاقٌ لهم في عمل ما أرادُوا من معاصي الله .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 135 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( من تكون له عاقبة الدار ) ، فسوف تعلمون، أيها الكفرة بالله، عند معاينتكم العذابَ, مَن الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم. يقول: من الذي تُعْقبه دنياه ما هو خير له منها أو شر منها، بما قدَّم فيها من صالح أعماله أو سَيّئها .

ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه فقال: ( إنه لا يفلح الظالمون ) ، يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله مَنْ عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا وذلك معنى: « ظلم الظالم » ، في هذا الموضع .

وفي « من » التي في قوله: ( من تكون ) ، له وجهان من الإعراب:

الرفع على الابتداء.

والنصبُ بقوله: ( تعلمون ) ، ولإعمال « العلم » فيه.

والرفع فيه أجود, لأن معناه: فسوف تعلمون أيُّنا له عاقبة الدار؟ فالابتداء في « من » ، أصحُّ وأفصح من إعمال « العلم » فيه .

 

القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 136 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ والأصنام لربهم ( مما ذرأ ) خالقهم, يعني: مما خلق من الحرث والأنعام.

يقال منه: « ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْءًا، وذَرْوًا » ، إذا خَلَقهم .

« نصيبًا » ، يعني قسمًا وجزءًا .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان.

فقال بعضهم: كان ذلك جزءًا من حُروثهم وأنعامهم يُفْرِزُونه لهذا، وجزءًا آخر لهذا .

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة عن ابن عباس ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ) ، الآية, قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَمًا، جعلوا منها لله سَهْمًا، وسهمًا لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردُّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقرُّوه ولم يردُّوه. فذلك قوله: ( سَاءَ ما يحكمون ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) ، قال: جعلوا لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا، وللشيطان والأوثان نصيبًا. فإن سقط من ثمرة ما جَعَلوا لله في نصيب الشيطان تركوه ، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقَطُوه وحفظُوه وردُّوه إلى نصيب الشيطان ، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدُّوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسِقْي الماء . وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ، [ سورة المائدة: 103 ] .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم ) ، الآية, وذلك أن أعداءَ الله كانوا إذا احترثُوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة, جعلوا لله منها جزءًا وللوَثَن جزءًا, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. فإن سقط منه شيء فيما سُمِّي لله ردُّوه إلى ما جعلوا للوثن. وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئًا جعلوه لله. جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله. فاختلط بالذي جعلوا للوثن, قالوا: « هذا فقير » ! ولم يردوه إلى ما جعلوا لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سُمِّي للوثن، تركوه للوثن . وكانوا يحرِّمون من أنعامهم البَحيرة والسائبة والوصيلةَ والحام, فيجعلونه للأوثان, ويزعمون أنهم يحرّمونه لله. فقال الله في ذلك: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، الآية .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، قال: يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا ، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه, وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردُّوه، وقالوا: « الله عن هذا غنيّ » ! و « الأنعام » السائبة والبحيرة التي سمُّوا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، الآية, عمَدَ ناس من أهل الضلالة فجزَّءوا من حروثهم ومواشيهم جزءًا لله وجزءًا لشركائهم . وكانوا إذا خالط شيء مما جزّءوا لله فيما جزءوا لشركائهم خلَّوه. فإذا خالط شيء مما جزءوا لشركائهم فيما جزءوا لله ردّوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السَّنةُ استعانوا بما جزءوا لله، وأقرُّوا ما جزءوا لشركائهم ، قال الله: ( ساء ما يحكمون ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئًا, فيقولون: « هذا لله, وهذا للأصنام » ، التي يعبدون . فإذا ذهب بعيرٌ مما جعلوا لشركائهم، فخالط ما جعلوا لله ردُّوه. وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه . وإن أصابتهم سنة, أكلوا ما جعلوا لله، وتركوا ما جعلوا لشركائهم, فقال الله: ( ساء ما يحكمون ) .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) إلى ( يحكمون ) ، قال: كانوا يقسمون من أموالهم قِسْمًا فيجعلونه لله, ويزرعون زَرْعًا فيجعلونه لله, ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها, وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله قالوا: « ليس بُدٌّ لآلهتنا من نفقة » ، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم, قالوا: « لو شاء أزكى الذي له » ! فلا يردُّون عليه شيئًا مما للآلهة . قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا، لبئس إذًا ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني . فذلك حين يقول: ( ساء ما يحكمون ) .

وقال آخرون: « النصيب » الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم: أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة, وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) حتى بلغ: ( وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) ، قال: كل شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه، لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسمَ الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ: ( ساء ما يحكمون ) .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية ما قال ابن عباس ومَنْ قال بمثل قوله في ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسمًا مقدرُا, فقالوا: « هذا لله » وجعلوا مثله لشركائهم, وهم أوثانهم، بإجماع من أهل التأويل عليه, فقالوا: « هذا لشركائنا » وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله, بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله, وما كان لله وصَل إلى نصيب شركائهم . فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية, كان أعيان ما أخبر الله عنه أنه لم يصل، جائزًا أن تكون قد وصلت, وما أخبر عنه أنه قد وصل، لم يصل. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام، لأن الذبيحتين تُذبح إحداهما لله، والأخرى للآلهة, جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت، وخلطوها إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحًا للآلهة، دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض .

وأما قوله : ( ساء ما يحكمون ) ، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه: وقد أساؤوا في حكمهم، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبرَ عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم, حتى فضّلوه في أقسامهم عند أنفسهم بالقَسْم عليه .

 

القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 137 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما زيَّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينوا لهم, من تصييرهم لربهم من أموالهم قَسْما بزعمهم, وتركهم ما وَصل من القَسْم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم في قسمهم, وردِّهم ما وَصَل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله، إلى قسم شركائهم ( كذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ) ، من الشياطين, فحسنوا لهم وأد البنات ( ليردوهم ) ، يقول: ليهلكوهم ( وليلبسوا عليهم دينهم ) ، فعلوا ذلك بهم، ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا، بفعلهم ما حرم الله عليهم ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه, بأن كان يهديهم للحق، ويوفقهم للسداد, فكانوا لا يقتلونهم, ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم، وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم .

يقول الله لنبيه، متوعدًا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسِمونها: « هذا لله وهذا لشركائنا » ، وفي قتلهم أولادهم « ذرهم » ، يا محمد، « وما يفترون » ، وما يتقوّلون عليَّ من الكذب والزور, فإني لهم بالمرصاد, ومن ورائهم العذاب والعقاب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ) ، زينوا لهم, من قَتْل أولادهم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قتل أولادهم شركاؤهم ) ، شياطينهم، يأمرونهم أن يَئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم ) الآية, قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك ( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ) ، قال: شياطينهم التي عبدوها, زينوا لهم قتلَ أولادهم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ) ، أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات . وأمَّا ( ليردوهم ) ، فيهلكوهم . وأما ( ليلبسوا عليهم دينهم ) ، فيخلطوا عليهم دينهم .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته قرأة الحجاز والعراق: ( وَكَذَلِكَ زَيَّن ) ، بفتح الزاي من « زين » ، ( لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ ) ، بنصب « القتل » , ( شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بالرفع بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين، الذين زينوا لهم قتلَ أولادهم فيرفعون « الشركاء » بفعلهم, وينصبون « القتل » ، لأنه مفعول به .

وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الشام: « وَكَذَلِكَ زُيِّنَ » بضم الزاي « لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ » بالرفع « أَوْلادَهُمْ » بالنصب « شُرَكَائِهِمْ » بالخفض بمعنى: وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم ، ففرّقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم. وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح . وقد روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيِّد قراءة من قرأ بما ذكرت من قرأة أهل الشام, رأيتُ رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه, وذلك قول قائلهم:

فَزَجَجْتُــــــهُ مُتَمَكِّنًــــــا زَجَّ القَلُـــوصَ أَبـــي مَــزَادَهْ

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بفتح الزاي من « زين » ، ونصب « القتل » بوقوع « زين » عليه، وخفض « أولادهم » بإضافة « القتل » إليهم, ورفع « الشركاء » بفعلهم، لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتلَ أولادهم، على ما ذكرتُ من التأويل .

وإنما قلت: « لا أستجيز القراءة بغيرها » ، لإجماع الحجة من القرأة عليه, وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد, ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة .

ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد، ثم قرأ قارئ: « وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ » ، بضم الزاي من « زين » ، ورفع « القتل » ، وخفض « الأولاد » و « الشركاء » , على أن « الشركاء » مخفوضون بالردّ على « الأولاد » ، بأنّ « الأولاد » شركاء آبائهم في النسب والميراث كان جائزًا .

ولو قرأه كذلك قارئ, غير أنه رفع « الشركاء » وخفض « الأولاد » ، كما يقال: « ضُرِبَ عبدُ الله أخوك » , فيظهر الفاعل، بعد أن جرى الخبر بما لم يسمَّ فاعله كان ذلك صحيحًا في العربية جائزًا .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الجهلة من المشركين أنهم كانوا يحرمون ويحللون من قِبَل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك .

يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم من المشركين، جهلا منهم, لأنعام لهم وحرث: هذه أنعامٌ وهذا حرث حجر يعني بـ « الأنعام » و « الحرث » ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم، التي قد مضى ذكرها في الآية قبل هذه .

وقيل: إن « الأنعام » ، السائبة والوصيلة والبحيرة التي سمَّوا .

حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الأنعام » ، السائبة والبحيرة التي سمُّوا .

و « الحِجْر » في كلام العرب، الحرام. يقال: « حَجَرت على فلان كذا » ، أي حرَّمت عليه, ومنه قول الله: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ، [ سورة الفرقان: 22 ] ، ومنه قول المتلمس:

حَـنَّتْ إلَـى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: حِجْــرٌ حَــرَامٌ, أَلا ثَـمَّ الدَّهَـارِيسُ

وقول رؤبة، [ العجاج ] :

* وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ *

يعني المحرّمَ ، ومنه قول الآخر:

فَبِــتُّ مُرْتَفِقًــا, والعَيْـنُ سَـاهِرَةٌ كَـأَنَّ نَـوْمِي عَـلَيَّ اللَّيْـلَ مَحْجُـورُ

أي حرام. يقال : « حِجْر » و « حُجْر » , بكسر الحاء وضمها .

وبضمها كان يقرأ، فيما ذُكر، الحسنُ وقتادة .

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي [ قال، حدثني عمي ] قال، حدثني أبي, عن الحسين, عن قتادة أنه: كان يقرؤها: « وَحَرْثٌ حُجْرٌ » ، يقول: حرام, مضمومة الحاء .

وأما القرأة من الحجاز والعراق والشام، فعلى كسرها. وهي القراءة التي لا أستجيز خلافها، لإجماع الحجة من القرأة عليها, وأنها اللغة الجُودَى من لغات العرب .

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « وَحَرْثٌ حِرْجٌ » ، بالراء قبل الجيم .

حدثني بذلك الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها كذلك .

وهي لغة ثالثة، معناها ومعنى « الحجر » واحد. وهذا كما قالوا: « جذب » و « جبذ » , و « ناء » و « نأى » .

ففي « الحجر » ، إذًا، لغات ثلاث: « حجر » بكسر الحاء، والجيم قبل الراء « وحُجر » بضم الحاء، والجيم قبل الراء و « حِرْج » ، بكسر الحاء، والراء قبل الجيم .

وبنحو الذي قلنا في تأويل الحجر قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث, عن حميد, عن مجاهد وأبي عمرو: ( وحرث حجر ) ، يقول: حرام .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وحرث حجر ) ، فالحجر . ما حرّموا من الوصيلة, وتحريم ما حرموا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وحرث حجر ) ، قال: حرام .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هذه أنعام وحرث حجر ) الآية, تحريمٌ كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد. وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ) ، فيقولون: حرام، أن نطعم إلا من شئنا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( هذه أنعام وحرث حجر ) ، نحتجرها على مَنْ نريد وعمن نريد, لا يطعمها إلا مَنْ نشاء، بزعمهم. قال: إنما احتجروا ذلك لآلهتهم, وقالوا: لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ) ، قالوا: نحتجرها عن النساء, ونجعلها للرجال .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أنعام وحرث حجر ) ، أما « حجر » , يقول: محرَّم . وذلك أنهم كانوا يصنعون في الجاهلية أشياء لم يأمر الله بها, كانوا يحرّمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها, ويعزلون من حرثهم شيئًا معلومًا لآلهتهم, ويقولون: لا يحل لنا ما سمّينا لآلهتنا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( أنعام وحرث حجر ) ، ما جعلوه لله ولشركائهم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 138 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّم هؤلاء الجهلة من المشركين ظهورَ بعض أنعامهم, فلا يركبون ظهورها, وهم ينتفعون برِسْلِها ونِتَاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب . وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر، فلا يحجُّون عليها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحالٍ، ولا إن حلبوها، ولا إن حمَلوا عليها .

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم قال: قال لي أبو وائل : أتدري ما « أنعام لا يذكرون اسم الله عليها » ؟ قال: قلت: لا! قال: أنعام لا يحجون عليها .

حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، حدثنا شاذان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما قوله: ( حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ؟ قال: قلت: لا! قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها .

حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا محمد بن سعيد الشهيد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم, عن أبي وائل: ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، قال: لا يحجون عليها .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي أما: ( أنعام حرمت ظهورها ) ، فهي البحيرة والسائبة والحام وأما « الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها » , قال: إذا أولدوها, ولا إن نحروها .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، قال: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوها, ولا إن حلبوا, ولا إن حملوا, ولا إن منحوا, ولا إن عملوا شيئًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأنعام حرمت ظهورها ) ، قال: لا يركبها أحد ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) .

وأما قوله: ( افتراء على الله ) , فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا, وقالوا ما قالوا من ذلك, كذبًا على الله, وتخرّصًا الباطلَ عليه; لأنهم أضافوا ما كانوا يحرّمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أنّ الله هو الذي حرّمه, فنفى الله ذلك عن نفسه, وأكذبهم, وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدّعون .

ثم قال عز ذكره: ( سيجزيهم ) ، يقول: سيثيبهم ربُّهم بما كانوا يفترونَ على الله الكذبَ ثوابَهم, ويجزيهم بذلك جزاءهم .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: ( ما في بطون هذه الأنعام ) .

فقال بعضهم: عنى بذلك اللَّبن .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن أبي الهذيل, عن ابن عباس: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) ، قال: اللبن .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن ابن أبي الهذيل, عن ابن عباس، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء, وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، قال: ما في بطون البحائر، يعني ألبانها, كانوا يجعلونه للرجال، دون النساء .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن زكريا, عن عامر قال: « البحيرة » لا يأكل من لبنها إلا الرجال, وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,قوله: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) الآية, فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركب لم تذبح. وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك .

وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، فهذه الأنعام، ما ولد منها من حيّ فهو خالص للرجال دون النساء. وأما ما ولد من ميت، فيأكله الرجال والنساء .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) ، السائبة والبحيرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها: « ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا » ، واللبن ما في بطونها, وكذلك أجنتها. ولم يخصُص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا: بعضُ ذلك حرام عليهن دون بعض .

وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يقال إنهم قالوا: ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حِلٌّ لذكورهم خالصة دون إناثهم, وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم, إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتًا، فيشترك حينئذ في أكله الرجال والنساء .

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت « الخالصة » .

فقال بعض نحويي البصرة وبعض الكوفيين: أنثت لتحقيق « الخلوص » , كأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة, فجرى مجرى « راوية » و « نسابة » .

وقال بعض نحويي الكوفة: أنثت لتأنيث « الأنعام » , لأن « ما في بطونها » ، مثلها, فأنثت لتأنيثها . ومن ذكّره فلتذكير « ما » . قال: وهي في قراءة عبد الله: « خَالِصٌ » . قال: وقد تكون الخالصة في تأنيثها مصدرًا, كما تقول: « العافية » و « العاقبة » , وهو مثل قوله: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ سورة ص: 46 ] .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرَّموا ما في بطونها على أزواجهم, لذكورهم دون إناثهم, كما فعل ذلك « بالراوية » و « النسابة » و « العلامة » , إذا أريد بها المبالغة في وصف من كان ذلك من صفته, كما يقال: « فلان خالصة فلان، وخُلصانه » .

وأما قوله: ( ومحرم على أزواجنا ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ بـ « الأزواج » .

فقال بعضهم: عنى بها النساء .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومحرم على أزواجنا ) ، قال: النساء .

وقال آخرون: بل عنى بالأزواج البنات .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ومحرم على أزواجنا ) ، قال: « الأزواج » ، البنات . وقالوا: ليس للبنات منه شيء .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام يعني أنعامهم : « هذا محرم على أزواجنا » ، و « الأزواج » ، إنما هي نساؤهم في كلامهم, وهن لا شك بنات من هن أولاده, وحلائل من هن أزواجه .

وفي قول الله عز وجل: ( ومحرم على أزواجنا ) ، الدليلُ الواضح على أن تأنيث « الخالصة » ، كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور, لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: و « محرمة على أزواجنا » , ولكن لما كان التأنيث في « الخالصة » لما ذكرت, ثم لم يقصد في « المحرم » ما قصد في « الخالصة » من المبالغة, رجع فيها إلى تذكير « ما » , واستعمال ما هو أولى به من صفته .

وأما قوله: ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه يزيد بن القعقاع، وطلحة بن مصرِّف، في آخرين: « وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ » بالتاء في « تكن » ، ورفع « ميتة » , غير أن يزيد كان يشدّد الياء من « مَيِّتَةٌ » ويخففها طلحة .

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى, عن طلحة بن مصرف .

وحدثنا أحمد بن يوسف, عن القاسم, وإسماعيل بن جعفر, عن يزيد .

وقرأ ذلك بعض قَرَأة المدينة والكوفة والبصرة: ( وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ) ، بالياء، و « ميتة » ، بالنصب، وتخفيف الياء .

وكأنّ من قرأ: ( وإن يكن ) ، بالياء ( ميتة ) بالنصب, أراد: وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام فذكر « يكن » لتذكير « ما » ونصب « الميتة » ، لأنه خبر « يكن » .

وأما من قرأه : « وإن تكن ميتة » ، فإنه إن شاء الله أراد: وإن تكن ما في بطونها ميتة, فأنث « تكن » لتأنيث « ميتة » .

وقوله: ( فهم فيه شركاء ) ، فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله، لا يحرمونه على أحد منهم, كما ذكرنا عمن ذكرنا ذلك عنه قبل من أهل التأويل .

وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، قال: تأكل النساء مع الرجال, إن كان الذي يخرج من بطونها ميتة، فهم فيه شركاء, وقالوا: إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبًا، وإن شئنا لم نجعل .

قال أبو جعفر: وظاهر التلاوة بخلاف ما تأوَّله ابن زيد, لأن ظاهرها يدل على أنهم قالوا: « إن يكن ما في بطونها ميتة, فنحن فيه شركاء » بغير شرط مشيئة . وقد زعم ابن زيد أنهم جعلوا ذلك إلى مشيئتهم .

 

القول في تأويل قوله : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 139 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « سيجزي » ، أي: سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله, وتحليلهم ما لم يحلله الله, وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله وقوله: ( وصفهم ) ، يعني بـ « وصفهم » ، الكذبَ على الله, وذلك كما قال جلَّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ، [ سورة النحل: 62 ] .

و « الوصف » و « الصفة » في كلام العرب واحد, وهما مصدران مثل « الوزن » و « الزنة » .

وبنحو الذي قلنا في معنى « الوصف » قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( سيجزيهم وصفهم ) ، قال: قولهم الكذب في ذلك .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( سيجزيهم وصفهم ) قال: كذبهم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( سيجزيهم وصفهم ) ، أي كذبهم .

وأما قوله: ( إنه حكيم عليم ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه « حكيم » ، في سائر تدبيره في خلقه « عليم » ، بما يصلحهم، وبغير ذلك من أمورهم .

 

القول في تأويل قوله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 140 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذبَ, العادلون به الأوثانَ والأصنام, الذين زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم, وتحريم [ ما أنعمت به ] عليهم من أموالهم, فقتلوا طاعة لها أولادهم, وحرّموا ما أحل الله لهم وجعله لهم رزقًا من أنعامهم « سفها » ، منهم. يقول: فعلوا ما فعلوا من ذلكَ جهالة منهم بما لهم وعليهم, ونقصَ عقول, وضعفَ أحلام منهم, وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه، من عظيم عقاب الله عليه لهم ( افتراء على الله ) ، يقول: تكذّبًا على الله وتخرصًا عليه الباطل ( قد ضلوا ) ، يقول: قد تركوا محجة الحق في فعلهم ذلك, وزالوا عن سواء السبيل ( وما كانوا مهتدين ) ، يقول: ولم يكن فاعلو ذلك على هدًى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك, ولا كانوا مهتدين للصواب فيها، ولا موفقين له .

ونـزلت هذه الآية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الآيات من قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا الذين كانوا يبحرون البحائر, ويسيِّبون السوائب, ويئدون البنات ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عكرمة، قوله: ( الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، قال: نـزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومُضَر, كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي تَئِد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: « أنت علي كظهر أمِّي إن رجعت إليك ولم تئديها » ، فتخُدُّ لها في الأرض خدًّا, وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها, ثم يتداولنها, حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها, ثم سوّت عليها التراب .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله ) .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، فقال: هذا صنيع أهل الجاهلية. كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السِّباء والفاقة، ويغذو كلبه وقوله: ( وحرموا ما رزقهم الله ) ، الآية, وهم أهل الجاهلية. جعلوا بحيرةً وسائبة ووصيلةً وحاميًا, تحكمًا من الشياطين في أموالهم .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، إذا سرَّك أن تعلم جهل العرب, فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، الآية .

وكان أبو رزين يتأوّل قوله: ( قد ضلوا ) ، أنه معنيٌّ به: قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال من قتل الأولاد، وتحريم الرزق الذي رزقهم الله بأمور غير ذلك .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبى رزين في قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم ) ، إلى قوله: ( قد ضلوا ) ، قال: قد ضلوا قبل ذلك .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ

قال أبو جعفر: وهذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله, وتنبيهٌ منه لهم على موضع إحسانه, وتعريفٌ منه لهم ما أحلَّ وحرَّم وقسم في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقًّا .

يقول تعالى ذكره: وربكم، أيها الناس ( أنشأ ) ، أي أحدث وابتدع خلقًا, لا الآلهة والأصنام ( جنات ) ، يعني: بساتين ( معروشات ) ، وهي ما عَرَش الناس من الكروم ( وغير معروشات ) ، غير مرفوعات مبنيَّات, لا ينبته الناس ولا يرفعونه, ولكن الله يرفعه وينبته وينمِّيه ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( معروشات ) ، يقول: مسموكات .

وبه عن ابن عباس: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ) ، فـ « المعروشات » ، ما عرش الناس « وغير معروشات » ، ما خرج في البر والجبال من الثمرات .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « جنات » ، فالبساتين وأما « المعروشات » ، فما عرش كهيئة الكَرْم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ) ، قال: ما يُعرَش من الكروم ( وغير معروشات ) ، قال: ما لا يعرش من الكرم .

 

القول في تأويل قوله : وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله يعني بـ « الأكل » ، الثمر. يقول: وخلق النخل والزرع مختلفًا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب « والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه » ، في الطعم, منه الحلو، والحامض، والمزّ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( متشابهًا وغير متشابه ) ، قال: « متشابهًا » ، في المنظر « وغير متشابه » ، في الطعم .

وأما قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبًا ثمره ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، قال: من رطبه وعنبه .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، قال: من رطبه وعنبه .

 

القول في تأويل قوله : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبِّ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس, عن الحسن, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا يزيد بن درهم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة المفروضة .

حدثنا عمرو قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا الحجاج بن أرطاة, عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد, عن حجاج, عن محمد بن عبيد الله, عن عبد الله بن شداد, عن ابن عباس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر .

حدثنا عمرو بن علي وابن وكيع وابن بشار قالوا، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إبراهيم بن نافع المكي, عن ابن عباس, عن أبيه, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو هلال, عن حيان الأعرج, عن جابر بن زيد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يونس, عن الحسن في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي الصدقة قال: ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: هي الصدقة من الحبّ والثمار .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله, عن عمرو بن سليمان وغيره, عن سعيد بن المسيب أنه قال: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الصدقة المفروضة .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي الصدقة من الحب والثمار .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يعني بحقه، زكاته المفروضة, يوم يُكال أو يُعلم كيله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده, وهو أن يعلم ما كيله وحقّه, فيخرج من كل عشرة واحدًا, وما يَلْقُط الناس من سنبله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، و « حقه يوم حصاده » ، الصدقة المفروضة ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ فيما سقت السماء أو العين السائحة, أو سقاه الطل و « الطل » ، الندى أو كان بَعْلا العشرَ كاملا. وإن سقي برشاء: نصفَ العشر قال قتادة: وهذا فيما يكال من الثمرة. وكان هذا إذا بلغت الثمرة خمسةُ أوسقٍ, وذلك ثلثمئة صاع, فقد حق فيها الزكاة. وكانوا يستحبون أن يعطوا مما لا يكال من الثمرة على قدر ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة وطاوس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا هو الزكاة .

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن الحجاج, عن سالم المكي, عن محمد بن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله, يعطي العشر أو نصف العشر .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم المكي, عن محمد ابن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر, ونصف العشر .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, وعن قتادة: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا الزكاة .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير, عن الحجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شريك, عن الحكم بن عتيبة, عن ابن عباس, مثله .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال،سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يعني: يوم كيله، ما كان من برّ أو تمر أو زبيب . و « حقه » ، زكاته .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كُلْ منه, وإذا حصدته فآت حقه ، و « حقه » ، عشوره .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن يونس بن عبيد, عن الحسن أنه قال في هذه الآية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة إذا كِلْتَه .

حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة .

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سألت ابن زيد بن أسلم عن قول الله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فقلت له: هو العشور؟ قال: نعم! فقلت له: عن أبيك؟ قال: عن أبي وغيره .

وقال آخرون: بل ذلك حقٌّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال, غيرُ الصدقة المفروضة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن أبيه: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: شيئًا سوى الحق الواجب قال: وكان في كتابه: « عن علي بن الحسين » .

حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: القبضة من الطعام .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, عن عطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: من النخل والعنب والحب كله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت ما حصدتُ من الفواكه؟ قال: ومنها أيضًا تؤتي . وقال: من كل شيء حصدتَ تؤتي منه حقه يوم حصاده, من نخل أو عنب أو حب أو فواكه أو خضر أو قصب, من كل شيء من ذلك . قلت لعطاء: أواجب على الناس ذلك كله؟ قال: نعم! ثم تلا ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . قال: قلت لعطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ،هل في ذلك شيء مُؤَقّت معلوم؟ قال: لا .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يعطي من حُضورِ يومئذ ما تيسر, وليس بالزكاة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن عبد الملك, عن عطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: ليس بالزكاة, ولكن يطعم من حضره ساعتئذٍ حَصِيده .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن العلاء بن المسيب, عن حماد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كانوا يعطون رُطبًا .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه, وإذا أنقيته وأخذت في كيله حَثَوْت لهم منه. وإذا علمتَ كيله عزلتَ زكاته. وإذا أخذت في جَدَاد النخل طَرَحت لهم من الثفاريق. وإذا أخذت في كيله حثَوْت لهم منه. وإذا علمت كيله عزلت زكاته .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: سوى الفريضة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يلقي إلى السؤَّال عند الحصاد من السنبل, فإذا طِينَ أو طُيِّن، الشك من أبي جعفر ألقى إليهم . فإذا حمله فأراد أن يجعله كُدْسًا ألقى إليهم. وإذا داس أطعمَ منه, وإذا فرغ وعلم كم كيله، عزل زكاته . وقال: في النخل عند الجَدَاد يطعم من الثمرة والشماريخ. فإذا كان عند كيله أطعم من التمر. فإذا فرغ عزل زكاته .

حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حصد الزرع ألقى من السنبل, وإذا جَدَّ النخل ألقى من الشماريخ. فإذا كاله زكّاه .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: عند الحصاد, وعند الدِّياس, وعند الصِّرام، يقبض لهم منه, فإذا كاله عزل زكاته .

وبه، عن سفيان, عن مجاهد مثله إلا أنه قال: سوى الزكاة .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: شيء سوى الزكاة، في الحصاد والجَدَاد, إذا حَصَدوا وإذا حَزَرُوا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, في قول الله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: واجب، حين يصرم .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حصد أطعم, وإذا أدخله البَيْدَر, وإذا داسه أطعم منه .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن أشعث, عن ابن عمر, قال: يطعم المعترَّ، سوى ما يعطي من العشر ونصف العشر .

وبه، عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال: قبضة عند الحصاد, وقبضة عند الجَدَاد .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن أشعث, عن ابن سيرين, قال: كانوا يعطون مَنْ اعترَّ بهم الشيءَ .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: الضِّغث .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: يعطي مثل الضِّغث .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حماد, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: مثل هذا من الضغث ووضع يحيى إصبعه الإبهام على المفصل الثاني من السَّبّابة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: نحو الضِّغث .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر وعن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قالا يعطي ضغثًا .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم قال، كان النخل إذا صُرِم يجيء الرجل بالعِذْق من نخله، فيعلِّقه في جانب المسجد, فيجيء المسكين فيضربُه بعصاه, فإذا تناثر أكلَ منه . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حَسن أو حسين, فتناول تمرةً, فانتزعها من فيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصَّدقة, ولا أهلُ بيته . فذلك قوله: ( وآتوا حقَّه يوم حصاده ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان, عن جعفر بن برقان, عن ميمون بن مهران, ويزيد بن الأصم قالا كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعِذْق فيضعونه في المسجد, ثم يجيء السائل فيضربه بعصاه, فيسقط منه, وهو قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن جعفر, عن يزيد وميمون، في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا كان الرجل إذا جدَّ النخلَ يجيء بالعِذْق فيعلقه في جانب المسجد, فيأتيه المسكين فيضربه بعصاه, فيأكل ما يتناثر منه .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: لَقَطُ السُّنبل .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن مجاهد قال: كانوا يعلقون العذق في المسجد عند الصِّرام, فيأكل منه الضعيف .

وبه، عن معمر قال, قال مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يطعم الشيءَ عند صِرَامه .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الضغث، وما يقع من السنبل .

وبه، عن سالم, عن سعيد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العلَف .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شريك, عن سالم, عن سعيد في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كان هذا قبل الزكاة، للمساكين, القبضةُ والضِّغث لعلف دابته .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا محمد بن رفاعة, عن محمد بن كعب في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: ما قلّ منه أو كثر .

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: عند الزرع يعطي القبضَ, وعند الصِّرام يعطي القبض, ويتركهم فيتتبعون آثار الصِّرام .

وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة. ثم نسخته الصدقة المعلومة, فلا فرض في مال كائنًا ما كان زرعًا كان أو غرسًا, إلا الصدقة التي فرضها الله فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن الحجاج, عن الحكم, عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر .

وبه، عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية قال: نسخها العُشْر, ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هذا قبل الزكاة, فلما نـزلت الزكاة نسختها, فكانوا يعطون الضِّغْث .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كانوا يفعلون ذلك، حتى سُنَّ العُشر ونصف العشر. فلما سُنّ العشر ونصف العشر، تُرك .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي منسوخة, نسختها العُشر ونصف العشر .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن المغيرة, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: نسختها العشر ونصف العشر .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر .

وبه، عن سفيان, عن يونس, عن الحسن قال: نسختها الزكاة .

وبه، عن سفيان, عن السدى قال: نسختها الزكاة: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هذه السورة مكية، نسختها العشر ونصف العشر. قلت: عمّن؟ قال: عن العلماء .

وبه، عن سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فكانوا إذا مرّ بهم أحدٌ يوم الحصاد أو الجدَادِ، أطعموه منه, فنسخها الله عنهم بالزكاة, وكان فيما أنبتتِ الأرضُ، العشرُ ونصف العشر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن يونس, عن الحسن قال: كانوا يَرْضَخون لقرَابتهم من المشركين .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: نسخه العشر ونصف العشر. كانوا يعطون إذا حصَدوا وإذا ذَرَّوا, فنسختها العشر ونصف العشر.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: كان ذلك فرضًا فرضه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخْرجها زروعهم وغرُوسهم, ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة, والوظيفة المعلومةِ من العشر ونصف العشر. وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم: أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية, وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الإجزاز.

فإذا كان ذلك كذلك, وكان قوله جل ثناؤه: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، ينبئ عن أنه أمرٌ من الله جل ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده, وكان يوم حصاده هو يوم جَدِّه وقطعه، والحبُّ لا شك أنه في ذلك اليوم في سنبله, والتَّمر وإن كان ثمر نخل أو كَرْم غيرُ مستحكم جُفوفه ويبسه, وكانت الصدقة من الحبِّ إنما تؤخذ بعد دِياسه وتذريته وتنقيته كيلا والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام يبسه وجفوفه كَيْلا علم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حَصْده، غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حَصاده .

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابًا من الله في المال حقًّا سوى الصدقة المفروضة؟

قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضًا واجبًا، أو نَفْلا.

فإن يكن فرضًا واجبًا، فقد وجب أن يكون سبيلُه سبيلَ الصدقات المفروضات التي من فرَّط في أدائها إلى أهلها كان بربِّه آثمًا، ولأمره مخالفًا. وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجبُ وجوبَ الزكاة سوى ما يجبُ من النفقة لمن يلزم المرءَ نفقته، ما ينبئ عن أنّ ذلك ليس كذلك .

أو يكون ذلك نَفْلا. فإن يكن ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الخيارُ في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر. وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك، ما ينبئ عن أن ذلك ليسَ كذلك .

وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادًا بها الندب, وكان غير جائز أن يكون لها مخرجٌ في وجوب الفرض بها في هذا الوقت, علم أنها منسوخة .

ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلا على صحته, أنه جل ثناؤه أتبع قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، ومعلوم أنّ من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدرِ, أنّ القائم بأخذ ذلك ساستهم ورُعاتهم . وإذا كان ذلك كذلك, فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك, والآخذ مُجْبِرٌ, وإنما يأخذ الحق الذي فرض لله فيه؟

فإن ظن ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القيِّمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدِّي في مال رب المال، والتجاوز إلى أخذ ما لم يُبَحْ له أخذه, فإن آخر الآية وهو قوله: وَلا تُسْرِفُوا ، معطوف على أوله، وهو قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . فإن كان المنهيَّ عن الإسراف القيِّمُ بقبض ذلك, فقد يجب أن يكون المأمورُ بإيتائه، المنهيَّ عن الإسراف فيه, وهو السلطان .

وذلك قول إن قاله قائل, كان خارجًا من قول جميع أهل التأويل، ومخالفًا المعهود من الخطاب, وكفى بذلك شاهدًا على خطئه .

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معنى قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وآتوا حقه يوم كيله, لا يوم قصله وقطعه, ولا يوم جداده وقطافه؟ فقد علمتَ مَنْ قال ذلك من أهل التأويل؟ وذلك ما:-

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله .

وحدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن الحجاج, عن سالم المكي, عن محمد بن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر ونصف العشر .

مع آخرين قد ذكرت الرواية فيما مضى عنهم بذلك؟

قيل: لأن يوم كيله غير يوم حصاده . ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكونوا وجّهوا معنى « الحصاد » ، إلى معنى « الكيل » , فذلك ما لا يعقل في كلام العرب، لأن « الحصاد » و « الحصد » في كلامهم: الجدّ والقطع, لا الكيل أو يكونوا وجّهوا تأويل قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، إلى: وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كلتموه ، فذلك خلاف ظاهر التنـزيل. وذلك أن الأمر في ظاهر التنـزيل بإيتاء الحقّ منه يوم حصاده، لا بعد يوم حصاده . ولا فرقَ بين قائلٍ: إنما عنى الله بقوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، بعد يوم حصاده وآخرَ قال: عنى بذلك قبل يوم حصاده, لأنهما جميعًا قائلان قولا دليلُ ظاهر التنـزيل بخلافه .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 141 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الإسراف » ، الذي نهى الله عنه بهذه الآية, ومن المنهيّ عنه .

فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر و « السرف » الذي نهى الله عنه في هذه الآية, مجاوزة القدر في العطِيّة إلى ما يجحف برب المال .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا عاصم, عن أبي العالية في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ) ، الآية, قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة, ثم تسارفوا, فأنـزل الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا سوى الزكاة, ثم تبارَوْا فيه، أسرفوا, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا, ثم تسارفوا, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس, جَدَّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحدٌ إلا أطعمته ! فأطعم، حتى أمسى وليست له ثمرة, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ( ولا تسرفوا ) ، يقول: لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد, أم في كل شيء؟ قال: بلى ! في كل شيء، ينهى عن السرف . قال: ثم عاودته بعد حين, فقلت: ما قوله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ؟ قال: ينهى عن السرف في كل شيء . ثم تلا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، [ سورة الفرقان: 67 ] .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين, عن أبي بشر قال: أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة, فسألوه: ما السَّرَف؟ فقال: ما دون أمرِ الله فهو سَرَف .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تسرفوا ) ، لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء .

وقال آخرون: « الإسراف » الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربَّ المال بإيتائه أهلَه بقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله, عن عمرو بن سليم وغيره, عن سعيد بن المسيب في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، والسرف، أن لا يعطي في حق .

وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان. نُهِى أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله .

ذكر من قال ذلك .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، قال: قال للسلطان: « لا تسرفوا » , لا تأخذوا بغير حق ، فكانت هذه الآية بين السلطان وبين الناس يعني قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ، الآية .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: ( ولا تسرفوا ) ، عن جميع معاني « الإسراف » , ولم يخصص منها معنًى دون معنى .

وإذ كان ذلك كذلك, وكان « الإسراف » في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية, إما بتجاوز حدّه في الزيادة، وإما بتقصير عن حدّه الواجب كان معلومًا أن المفرِّق مالَه مباراةً، والباذلَهُ للناس حتى أجحفت به عطيته, مسرفٌ بتجاوزه حدَّ الله إلى ما [ ليس له ] . وكذلك المقصِّر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه, وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهلَ سُهْمَان الصدقة إذا وجبت فيه, أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها. وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه . كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون, داخلون في معنى مَنْ أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: ( ولا تسرفوا ) ، في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذ كان ما قبله من الكلام أمرًا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإنّ الآية قد كانت تنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاصّ من الأمور، والحكم بها على العامّ, بل عامّة آي القرآن كذلك. فكذلك قوله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .

ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى « الإسراف » أنه على ما قلنا، قول الشاعر:

أَعْطَــوا هُنَيْــدَةَ يَحْدُوهَـا ثَمَانِيَـةٌ مَـا فِـي عَطَـائِهِمُ مَـنٌّ وَلا سَـرَفُ

يعني بـ « السرف » : الخطأ في العطيّة .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا, مع ما أنشأ من الجنات المعروشات وغير المعروشات .

و « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل وغيرها.

و « الفرش » ، صغار الإبل التي لم تدرك أن يُحْمَل عليها .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: « الحمولة » ، ما حمل عليه من كبار الإبل ومسانّها و « الفرش » ، صغارها التي لا يحمل عليها لصغرها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، الكبار من الإبل « وفرشًا » ، الصغار من الإبل .

. . . . وقال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « الحمولة » ، هي الكبار, و « الفرش » ، الصغار من الإبل .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد قال: « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، ما لم يحمل .

وبه عن إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، ما لم يحمل .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وفرشًا ) ، قال: صغار الإبل .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، الكبار, و « الفرش » ، الصغار .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، هنّ الصغار .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل, و « الفرش » ، الصغار قال ابن المثنى, قال محمد, قال شعبة: إنما كان حدثني سفيان، عن أبي إسحاق .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه قال، قال الحسن: « الحمولة » ، من الإبل والبقر .

وقال بعضهم: « الحمولة » ، من الإبل, وما لم يكن من « الحمولة » ، فهو « الفرش » .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن الحسن: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، ما حمل عليه, و « الفرش » ، حواشيها, يعني صغارها .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، فـ « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، صغار الإبل, الفصيل وما دون ذلك مما لا يحمل .

ويقال: « الحمولة » ، من البقر والإبل و « الفرش » ، الغنم .

وقال آخرون: « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك, و « الفرش » ، الغنم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، فأما « الحمولة » ، فالإبل والخيل والبغال والحمير, وكل شيء يحمل عليه، وأما « الفرش » ، فالغنم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس: « الحمولة » ، من الإبل والبقر و « فرشًا » . المعز والضأن .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، قال: أما « الحمولة » ، فالإبل والبقر . قال: وأما « الفرش » ، فالغنم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, كان غير الحسن يقول: « الحمولة » ، الإبل والبقر, و « الفرش » ، الغنم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، أما « الحمولة » ، فالإبل . وأما « الفرش » ، فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم. وما حمل عليه فهو « حمولة » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، « الحمولة » ، الإبل, و « الفرش » , الغنم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن: ( وفرشًا ) ، قال: « الفرش » ، الغنم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حمولة وفرشًا ) قال: « الحمولة » ، ما تركبون, و « الفرش » ، ما تأكلون وتحلبون, شاة لا تحمل, تأكلون لحمها, وتتخذون من أصوافها لحافًا وفرشًا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن « الحمولة » ، هي ما حمل من الأنعام, لأن ذلك من صفتها إذا حملت, لا أنه اسم لها، كالإبل والخيل والبغال، فإذا كانت إنما سميت « حمولة » لأنها تحمل, فالواجب أن يكون كل ما حَمَل على ظهره من الأنعام فحمولة. وهي جمع لا واحد لها من لفظها, كالرَّكوبة، و « الجزورة » . وكذلك « الفرش » ، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه, ويقال له: « الفرش » . وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض, وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس .

فأما « الحمولة » ، بضم « الحاء » ، فإنها الأحمال, وهي « الحمول » أيضًا بضم الحاء .

 

القول في تأويل قوله : كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 142 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: كلوا مما رزقكم الله، أيها المؤمنون, فأحلّ لكم ثمرات حروثكم وغروسكم، ولحوم أنعامكم, إذ حرّم بعض ذلك على أنفسهم المشركون بالله, فجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا وللشيطان مثله, فقالوا: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، كما اتبعها باحرُو البحيرة، ومسيِّبو السوائب, فتحرموا على أنفسكم من طيب رزق الله الذي رزقكم ما حرموه, فتطيعوا بذلك الشيطان، وتعصوا به الرحمن ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، لا تتبعوا طاعته، هي ذنوب لكم, وهي طاعة للخبيث .

إن الشيطان لكم عدو يبغي هلاككم وصدكم عن سبيل ربكم ( مبين ) ، قد أبان لكم عدواته، بمناصبته أباكم بالعداوة, حتى أخرجه من الجنة بكيده، وخدَعه حسدًا منه له، وبغيًا عليه .

 

القول في تأويل قوله : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 143 )

قال أبو جعفر: وهذا تقريعٌ من الله جل ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل وتعليم منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, الحجةَ عليهم في تحريمهم ما حرموا من ذلك. فقال للمؤمنين به وبرسوله: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشًا . ثم بين جل ثناؤه « الحمولة » و « الفرش » , فقال: ( ثمانية أزواج ) .

وإنما نصب « الثمانية » , لأنها ترجمة عن « الحمولة » و « الفرش » ، وبدل منها. كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدّم قبل « الثمانية » « الحمولة » و « الفرش » بيّن ذلك بعد فقال: ( ثمانية أزواج ) ، على ذلك المعنى.

( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فذلك أربعة, لأن كل واحد من الأنثيين من الضأن زوج, فالأنثى منه زوج الذكر, والذكر منه زوج الأنثى, وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان. فلذلك قال جل ثناؤه: ( ثمانية أزواج ) ، كما قال: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ، [ سورة الذاريات: 49 ] ، لأن الذَّكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر, فهما وإن كانا اثنين فيهما زوجان, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، [ سورة الأعراف: 189 ] ، وكما قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، [ سورة الأحزاب: 37 ] ، وكما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: ( من الضأن اثنين ) ، ذكر وأنثى, ( ومن البقر اثنين ) ، ذكر وأنثى ( ومن الإبل اثنين ) ، ذكر وأنثى .

ويقال للاثنين: « هما زوج » ، كما قال لبيد:

مِـنْ كُـلِّ مَحْـفُوفٍ يُظِـلُّ عِصِيَّـهُ زَوْجٌ عَلَيْـــهِ كِلَّـــةٌ وَقِرَامُهَــا

ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم, واركبوا هذه الحمولة، أيها المؤمنون, فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك .

قل، يا محمد، لهؤلاء الذين حرّموا ما حرموا من الحرث والأنعام اتباعًا للشيطان، من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرم عليهم ما هم محرمون من ذلك: آلذكرين حرم ربكم، أيها الكذبة على الله، من الضأن والمعز؟ فإنهم إن ادعوا ذلك وأقرّوا به, كذبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم. لأنهم إذا قالوا: « يحرم الذكرين من ذلك » , أوجبوا تحريم كل ذكرين من ولد الضأن والمعز, وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها. وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم ( أم الأنثيين ) ، فإنهم إن قالوا: « حرم ربنا الأنثيين » , أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها. وفي ذلك أيضًا تكذيب لهم, ودحض دعواهم أنّ ربهم حرم ذلك عليهم, إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره ( أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يقول: أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين, يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز، فلذلك قال: « أرحام الأنثيين » ، وفي ذلك أيضًا لو أقرُّوا به فقالوا: « حرم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين » , بُطولُ قولهم وبيان كذبهم, لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أنّ الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها، أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها, وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها.

و « ما » التي في قوله: ( أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نصب عطفًا بها على « الأنثيين » .

( نبئوني بعلم ) ، يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته: أيَّ ذلك حرم ربكم عليكم، وكيف حرم؟ ( إن كنتم صادقين ) ، فيما تنحلونه ربكم من دعواكم، وتضيفونه إليه من تحريمكم .

وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه أنّ كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله, فهو كذب على الله, وأنه لم يحرم شيئًا من ذلك, وأنهم إنما اتّبعوا في ذلك خطوات الشيطان, وخالفوا أمره .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) الآية, إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيرًا، ذكرًا ولا أنثى .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال: سلهم: ( آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، أي: لم أحرم من هذا شيئًا ( بعلم إن كنتم صادقين ) ، فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ثمانية أزواج ) ، في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ثمانية أزواج ) ، قال: هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسُّيَّب قال ابن جريج يقول: من أين حرمت هذا؟ من قبل الذكرين أم من قبل الأنثيين, أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوا هم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين , يقول: أنـزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت، ذكر وأنثى, فالذكرين حرمت عليكم أم الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ يقول: أي: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية. إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، قال: ما حملت الرَّحم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، قال: هذا لقولهم: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا . قال: وقال ابن زيد في قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال: « الأنعام » ، هي الإبل والبقر والضأن والمعز, هذه « الأنعام » التي قال الله: « ثمانية أزواج » . قال: وقال في قوله: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ، نحتجرها على من نريد، وعمن نريد. وقوله: وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ، قال: لا يركبها أحد وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ، فقال: ( آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء؟ أي: أن تكون لهؤلاء حِلا وعلى هؤلاء حرامًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى؟ فهل يحرمون بعضًا ويحلون بعضًا؟ .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فهذه أربعة أزواج وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ ، يقول: لم أحرم شيئًا من ذلك ( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) ، يقول: كله حلال .

و « الضأن » جمع لا واحد له من لفظه, وقد يجمع « الضأن » ، « الضَّئين والضِّئين » , مثل « الشَّعير » و « الشِّعير » , كما يجمع « العبد » على « عَبيد، وعِبيد » . وأما الواحد من ذكوره فـ « ضائن » , والأنثى « ضائنة » , وجمع « الضائنة » « ضوائن » .

وكذلك « المعز » ، جمع على غير واحد, وكذلك « المعزى » ، وأما « الماعز » , فجمعه « مواعز » .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 144 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نحو تأويل قوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، وهذه أربعة أزواج, على نحو ما بيّنا من الأزواج الأربعة قبلُ من الضأن والمعز, فذلك ثمانية أزواج، كما وصف جل ثناؤه .

وأما قوله: ( أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ) ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين قص قصصهم في هذه الآيات التي مضَت. يقول له عز ذكره: قل لهم، يا محمد, أيَّ هذه سألتكم عن تحريمه حرم ربكم عليكم من هذه الأزواج الثمانية؟ فإن أجابوك عن شيء مما سألتهم عنه من ذلك, فقل لهم: أخبرًا قلتم: « إن الله حرم هذا عليكم » ، أخبركم به رسول عن ربكم, أم شهدتم ربكم فرأيتموه فوصَّاكم بهذا الذي تقولون وتزوّرون على الله؟ فإن هذا الذي تقولون من إخباركم عن الله أنه حرام بما تزعمون على ما تزعمون, لا يعلم إلا بوحي من عنده مع رسول يرسله إلى خلقه, أو بسماع منه, فبأي هذين الوجهين علمتم أنّ الله حرم ذلك كذلك، برسول أرسله إليكم، فأنبئوني بعلم إن كنتم صادقين ؟ أم شهدتم ربكم فأوصَاكم بذلك، وقال لكم: « حرمت ذلك عليكم » , فسمعتم تحريمه منه، وعهدَه إليكم بذلك؟ فإنه لم يكن واحدٌ من هذين الأمرين . يقول جل ثناؤه: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ) ، يقول: فمن أشد ظلمًا لنفسه، وأبعد عن الحق ممن تخرَّص على الله قيلَ الكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، وتحليل ما لم يحلل ( ليضل الناس بغير علم ) ، يقول: ليصدّهم عن سبيله ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يقول: لا يوفّق الله للرشد من افترى على الله وقال عليه الزُّور والكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، كفرًا بالله، وجحودًا لنبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، كالذي:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) ، الذي تقولون.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كانوا يقولون يعني الذين كانوا يتّخذون البحائر والسوائب : إن الله أمر بهذا . فقال الله: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ) .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله ممّا ذَرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله والقائلين هذه أنعام وحرث حجرٌ لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورَها والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها والمحرِّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومحلِّيه لذكورهم, المحرّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله, وإضافةً منهم ما يحرمون من ذلك إلى أنَّ الله هو الذي حرّمه عليهم: أجاءكم من الله رسولٌ بتحريمه ذلك عليكم, فأنبئونا به, أم وصَّاكم الله بتحريمه مشاهدةً منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه, لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنـزيله، شيئًا محرَّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريمَ ما حَرّم عليكم منها بزعمكم « إلا أن يكون ميتة » ، قد ماتت بغير تذكية « أو دمًا مسفوحًا » ، وهو المُنْصَبّ أو إلا أن يكون لحم خنـزير ( فإنه رجس أو فسقًا ) ، يقول: أو إلا أن يكون فسقًا، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا ذبحه ذابحٌ من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته، فذكر عليه اسم وثنه, فإن ذلك الذبح فسقٌ نهى الله عنه وحرّمه, ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك, لأنه ميتة .

وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيَّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادَلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله, وأن الذي زعموا أنّ الله حرمه حلالٌ قد أحلَّه الله, وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرمًا ) قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون أشياء ويحلِّون أشياء, فقال: قل لا أجد مما كنتم تحرمون وتستحلُّون إلا هذا: ( إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّمًا ) الآية, قال: كان أهل الجاهلية يستحلّون أشياء ويحرّمون أشياء, فقال الله لنبيه: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا مما كنتم تستحلون إلا هذا وكانت أشياء يحرِّمونها، فهي حرام الآن .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه ) ، قال: ما يؤكل . قلت: في الجاهلية؟ قال: نعم ! وكذلك كان يقول: ( إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا ) قال ابن جريج: وأخبرني إبراهيم بن أبي بكر, عن مجاهد: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا ) ، قال: مما كان في الجاهلية يأكلون, لا أجد محرمًا من ذلك على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا .

وأما قوله: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، فإن معناه: أو دمًا مُسَالا مُهَرَاقًا. يقال منه: « سفحت دمه » ، إذا أرقته, أسفحه سَفْحًا, فهو دم مسفوح كما قال طرفة بن العبد:

إِنِّــي وَجــدِّكَ مَـا هَجَـوْتُكَ وَالْ أَنْصَـــابِ يَسْـــفَحُ فَــوْقَهُنَّ دَمُ

وكما قال عَبِيد بن الأبرص:

إذَا مَـــا عَــادَهُ مِنْهَــا نِسَــاءٌ سَــفَحْنَ الـدَّمْعَ مِـنْ بَعْـدِ الـرَّنِينِ

يعني: صببن, وأسلنَ الدمع .

وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عبادَه تحريمه إياه، المسفوحَ منه دون غيره, الدليلُ الواضح أنَّ ما لم يكن منه مسفوحًا، فحلال غير نجس . وذلك كالذي:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة: ( أو دما مسفوحًا ) ، قال: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود .

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة بنحوه إلا أنه قال: لاتَّبَع المسلمون .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة، بنحوه .

حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا وكيع, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز, في القِدْر يعلوها الحمرة من الدم. قال: إنما حرم الله الدمَ المسفوحَ .

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز قال: سألته عن الدم وما يتلطَّخ بالمذْبح من الرأس, وعن القدر يرى فيها الحُمرة؟ قال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قال: حُرِّم الدم ما كان مسفوحًا; وأما لحم خالطه دم، فلا بأس به .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا ) ، يعني: مُهَراقًا .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, أخبرني ابن دينار, عن عكرمة: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قال: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا, والحمرةِ والدم يكونان على القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه ) ... الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن يحيى بن سعيد, قال حدثني القاسم بن محمد, عن عائشة قالت, وذكرت هذه الآية: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قلت: وإن البرمة ليرى في مائها [ من ] الصفرة .

وقد بينا معنى « الرجس » ، فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه النجس والنتن, وما يُعْصى الله به, بشواهده, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وكذلك القول في معنى « الفسق » وفي قوله: ( أهل لغير الله به ) ، قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفِّق لفهمه، عن تكراره وإعادته .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إلا أنْ يكون ميتة ) .

فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: ( إِلا أَنْ يَكُونَ ) ، بالياء ( مَيْتَةً ) مخففة الياء منصوبة، على أن في « يكون » مجهولا و « الميتة » فعل له، فنصبت على أنها فعل « يكون » , وذكروا « يكون » ، لتذكير المضمر في « يكون » .

وقرأ ذلك بعض قرأة أهل مكة والكوفة: « إلا أَنْ تَكُونَ » ، بالتاء « مَيْتَةً » ، بتخفيف الياء من « الميتة » ونصبها وكأن معنى نصبهم « الميتة » معنى الأولين, وأنثوا « تكون » لتأنيث الميتة, كما يقال: « إنها قائمة جَارِيتُك » , و « إنه قائم جاريتك » , فيذكر المجهول مرة ويؤنث أخرى، لتأنيث الاسم الذي بعده .

وقرأ ذلك بعض المدنيين: « إلا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ » ، بالتاء في « تكون » , وتشديد الياء من « ميتة » ورفعها فجعل « الميتة » اسم « تكون » , وأنث « تكون » لتأنيث « الميتة » , وجعل « تكون » مكتفية بالاسم دون الفعل, لأن قوله: « إلا أن تكون ميتة » استثناء, والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال, فيقولون: « قام الناس إلا أن يكون أخاك » , و « إلا أن يكون أخوك » , فلا تأتي لـ « يكون » ، بفعل, وتجعلها مستغنية بالاسم, كما يقال: « قام القوم إلا أخاك » و « إلا أخوك » , فلا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: ( إِلا أَنْ يَكُونَ ) بـ « الياء » ( مَيْتَةً ) ، بتخفيف الياء ونصب « الميتة » , لأن الذي في « يكون » من المكنى من ذكر المذكر وإنما هو: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ذلك ميتةً أو دمًا مسفوحًا .

فأما قراءة « ميتة » بالرفع, فإنه، وإن كان في العربية غير خطأ، فإنه في القراءة في هذا الموضع غيرُ صواب. لأن الله يقول: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، فلا خلاف بين الجميع في قراءة « الدم » بالنصب, وكذلك هو في مصاحف المسلمين, وهو عطف على « الميتة » . فإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن « الميتة » لو كانت مرفوعة، لكان « الدم » ، وقوله « أو فسقًا » ، مرفوعين, ولكنها منصوبة، فيعطف بهما عليها بالنصب .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 145 )

قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) ، والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا، في « سورة » البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وأن معناه: فمن اضطر إلى أكلِ ما حرَّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنـزير, أو ما أهل لغير الله به, غير باغ في أكله إيّاه تلذذًا, لا لضرورة حالة من الجوع, ولا عادٍ في أكله بتجاوزه ما حدَّه الله وأباحه له من أكله, وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك، لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه, فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك ( فإنّ الله غفور ) ، فيما فعل من ذلك, فساتر عليه بتركه عقوبته عليه, ولو شاء عاقبه عليه ( رحيم ) ، بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه, ولو شاء حرَّمه عليه ومنعه منه .

 

القول في تأويل قوله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود « كل ذي ظفر » , وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقُوق الأصابع، كالإبل والنَّعام والإوز والبط .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، وهو البعير والنعامة .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابّ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع .

حدثني علي بن الحسين الأزدي قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: كل شيء متفرق الأصابع, ومنه الديك .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ( كل ذي ظفر ) ، النعامة والبعير .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, مثله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، فكان يقال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيتان .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( كل ذي ظفر ) ، قال: الإبل والنعام, ظفر يد البعير ورجله, والنعام أيضًا كذلك, وحرم عليهم أيضًا من الطير البط وشبهه, وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أما كل ذي ظفر » ، فالإبل والنعام .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ, عن مجاهد في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا, قال قلت: « ما شقًّا شقًّا » ؟ قال: كل ما لم تفرج قوائمه لم يأكله اليهود, البعيرُ والنعامة. والدجاج والعصافير تأكلها اليهود، لأنها قد فُرِجت .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( كل ذي ظفر ) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا. قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثنيه: ما « شقًّا شقًّا » ؟ قال: كل شيء لم يفرج من قوائم البهائم. قال: وما انفرج أكلته اليهود. قال: انفرجت قوائم الدجاج والعصافير, فيهود تأكلها . قال: ولم تنفرج قائمة البعير، خفّه، ولا خف النعامة، ولا قائمة الوَزِّينة, فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزِّين، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته, وكذلك لا تأكل حمار وحش .

وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، الإبل قطْ .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب, القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن قال بمثل مقالته؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر, فغير جائز إخراج شيء من عموم هذا الخبر إلا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه . وإذا كان ذلك كذلك, وكان النعام وكل ما لم يكن من البهائم والطير مما له ظفر غير منفرج الأصابع داخلا في ظاهر التنـزيل, وجب أن يحكم له بأنه داخل في الخبر, إذ لم يأت بأن بعض ذلك غير داخلٍ في الآية، خبرٌ عن الله ولا عن رسوله, وكانت الأمة أكثرها مجمع على أنه فيه داخل .

 

القول في تأويل قوله : وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الشحوم » التي أخبر الله تعالى ذكره: أنه حرمها على اليهود من البقر والغنم.

فقال بعضهم: هي شحوم الثُّروب خاصة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ) ، الثروب . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها!

وقال آخرون: بل ذلك كان كل شحم لم يكن مختلطًا بعظم ولا على عظم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: إنما حرم عليهم الثرب, وكل شحم كان كذلك ليس في عظم .

وقال آخرون: بل ذلك شحم الثرب والكُلَى .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: الثرب وشحم الكليتين . وكانت اليهود تقول: إنما حرَّمه إسرائيل، فنحن نحرّمه .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: إنما حرم عليهم الثروب والكليتين هكذا هو في كتابي عن يونس, وأنا أحسب أنه: « الكُلَى » .

قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرم على اليهود من البقر والغنم شحومهما، إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحَوَايا أو ما اختلط بعظم. فكل شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم, فإنه كان محرمًا عليهم .

وبنحو ذلك من القول تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك قوله: « قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها » .

وأما قوله: ( إلا ما حملت ظهورهما ) ، فإنه يعني: إلا شحوم الجَنْب وما علق بالظهر, فإنها لم تحرَّم عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( إلا ما حملت ظهورهما ) ، يعني: ما علق بالظهر من الشحوم .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « ما حملت ظهورهما » ، فالألْيات .

14108م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: الألية، مما حملت ظهورهما .

 

القول في تأويل قوله : أَوِ الْحَوَايَا

قال أبو جعفر: و « الحوايا » جمع, واحدها « حاوِياء » ، و « حاوية » ، و « حَوِيَّة » ، وهي ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار, وهي بنات اللبن, وهي « المباعر » , وتسمى « المرابض » , وفيها الأمعاء .

ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا فـ « الحوايا » ، رفع، عطفًا على « الظهور » , و « ما » التي بعد « إلا » , نصبٌ على الاستثناء من « الشحوم » .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( أو الحوايا ) ، وهي المبعر .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الحوايا » ، المبعر والمرْبَض .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة والمحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: المبعر .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال،سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أو الحوايا ) ، يعني: البطون غير الثروب .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو الحوايا ) ، هو المبعر .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر .

وقال ابن زيد في ذلك ما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أو الحوايا ) ، قال: « الحوايا » ، المرابض التي تكون فيها الأمعاء، تكون وسطها, وهي « بنات اللبن » , وهي في كلام العرب تدعى « المرابض » .

 

القول في تأويل قوله : أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرمنا على الذين هادوا شحومهما، سوى ما حملت ظهورهما, أو ما حملت حواياهما, فإنا أحللنا ذلك لهم, وإلا ما اختلط بعظم، فهو لهم أيضًا حلال .

فردّ قوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، على قوله: إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فـ « ما » التي في قوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، في موضع نصب عطفًا على « ما » التي في قوله: إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا .

وعنى بقوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، شحم الألية والجنب، وما أشبه ذلك ، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( أو ما اختلط بعظم ) ، قال: شحم الألية بالعُصْعُص, فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين قد اختلط بعظم, فهو حلال .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو ما اختلط بعظم ) ، مما كان من شحم على عظم .

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 146 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير, ذوات الأظافير غير المنفرجة, ومن البقر والغنم, ما حرمنا عليهم من شحومهما، الذي ذكرنا في هذه الآية, حرمناه عليهم عقوبة منّا لهم, وثوابًا على أعمالهم السيئة، وبغيهم على ربهم ، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) ، إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ذلك جزيناهم ببغيهم ) ، فعلنا ذلك بهم ببغيهم.

وقوله: ( وإنا لصادقون ) ، يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنّا حرمنا عليهم, وفي غير ذلك من أخبارنا, وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه .

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 147 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كذبك، يا محمد، هؤلاء اليهود فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وحللنا لهم، كما بينا في هذه الآية « فقل ربكم ذو رحمة » ، بنا، وبمن كان به مؤمنًا من عباده، وبغيرهم من خلقه « واسعة » , تسع جميع خلقه، المحسنَ والمسيء, لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنِّقمة, ولا يدع كرامة من آمن به وأطاعه، ولا يحرمه ثواب عمله, رحمة منه بكلا الفريقين، ولكن بأسه وذلك سطوته وعذابه لا يردّه إذا أحله عند غضبه على المجرمين بهم عنهم شيء و « المجرمون » هم الذين أجرَموا فاكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل يعني: الثَّرْب وشحم الكليتين فنحن نحرمه, فذلك قوله: ( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين ) .

 

القول في تأويل قوله : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ( سيقول الذين أشركوا ) ، وهم العادلون بالله الأوثان والأصنام من مشركي قريش ( لو شاء الله ما أشركنا ) ، يقول: قالوا احتجازًا من الإذعان للحق بالباطل من الحجة، لما تبين لهم الحق, وعلموا باطل ما كانوا عليه مقيمين من شركهم, وتحريمهم ما كانوا يحرّمون من الحروث والأنعام, على ما قد بيَّن تعالى ذكره في الآيات الماضية قبل ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ، وما بعد ذلك: لو أراد الله منا الإيمان به، وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة، وتحليل ما حرم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا, ما جعلنا لله شريكًا, ولا جعل ذلك له آباؤنا من قبلنا, ولا حرمنا ما نحرمه من هذه الأشياء التي نحن على تحريمها مقيمون، لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك, حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل: إما بأن يضطرنا إلى الإيمان وترك الشرك به، وإلى القول بتحليل ما حرمنا وأما بأن يلطف بنا بتوفيقه، فنصير إلى الإقرار بوحدانيته، وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام, وإلى تحليل ما حرمنا ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام, واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد, وأراد ما نحرّم من الحروث والأنعام, فلم يَحُلْ بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك .

قال الله مكذبًا لهم في قيلهم: « إن الله رضي منا ما نحن عليه من الشرك، وتحريم ما نحرّم » ورادًّا عليهم باطلَ ما احتجوا به من حجتهم في ذلك ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، يقول: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، ما جئتهم به من الحق والبيان, كذب من قبلهم من فسقة الأمم الذين طَغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه, وردُّوا عليهم نصائحهم ( حتى ذاقوا بأسنا ) ، يقول: حتى أسخطونا فغضبنا عليهم, فأحللنا بهم بأسنا فذاقوه, فعطبوا بذوقهم إياه, فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. يقول: وهؤلاء الآخرون مسلوك بهم سبيلهم, إن هم لم ينيبوا فيؤمنوا ويصدقوا بما جئتهم به من عند ربهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، وقال: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) , ثم قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، فإنهم قالوا: « عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى » , فأخبرهم الله أنها لا تقربهم, وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قال: قول قريش يعني: إن الله حرم هذه البحيرة والسائبة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قولُ قريش بغير يقين: إن الله حرّم هذه البحيرة والسائبة .

فإن قال قائل: وما برهانك على أن الله تعالى إنما كذب من قيل هؤلاء المشركين قولهم: « رضي الله منا عبادة الأوثان, وارأد منا تحريم ما حرمنا من الحروث والأنعام » , دون أن يكون تكذيبه إياهم كان على قولهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ، وعلى وصفهم إياه بأنه قد شاء شركهم وشرك آبائهم, وتحريمهم ما كانوا يحرمون؟

قيل له: الدلالة على ذلك قوله: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم سلكوا في تكذيبهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما آتاهم به من عند الله من النهي عن عبادة شيء غير الله تعالى ذكره, وتحريم غير ما حرّم الله في كتابه وعلى لسان رسوله مسلكَ أسلافهم من الأمم الخالية المكذبة اللهَ ورسولَه . والتكذيبُ منهم إنما كان لمكذَّب, ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، لقال: « كذلك كذَبَ الذين من قبلهم » ، بتخفيف « الذال » , وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله، لا إلى التكذيب مع علل كثيرة يطول بذكرها الكتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ( 148 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، المحرِّمين ما هم له محرِّمون من الحُروث والأنعام, القائلين: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرم: « هل عندكم » ، بدعواكم ما تدعون على الله من رضاه بإشراككم في عبادته ما تشركون، وتحريمكم من أموالكم ما تحرمون علمُ يقينٍ من خبر مَنْ يقطع خبره العذر, أو حجة توجب لنا اليقين، من العلم « فتخرجوه لنا » ، يقول: فتظهروا ذلك لنا وتبينوه, كما بينا لكم مواضع خطأ قولكم وفعلكم, وتناقض ذلك واستحالته في المعقول والمسموع ( إن تتبعون إلا الظن ) ، يقولُ له: قل لهم: إن تقولون ما تقولون، أيها المشركون، وتعبدون من الأوثان والأصنام ما تعبدون، وتحرمون من الحروث والأنعام ما تحرّمون، إلا ظنًّا وحسبانًا أنه حق, وأنكم على حق، وهو باطلٌ, وأنتم على باطل ( وإن أنتم إلا تخرصون ) ، يقول: « وإن أنتم » , وما أنتم في ذلك كله « إلا تخرصون » , يقول: إلا تتقوّلون الباطل على الله، ظنًّا بغير يقين علم ولا برهان واضح .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 149 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, القائلين على ربهم الكذبَ، في تحريمهم ما حرموا من الحروث والأنعام, إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم: « هل عندكم من علم بما تدعون على ربكم فتخرجوه لنا » , وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره, وهم لا شك عن ذلك عَجَزَة, وعن إظهاره مقصرون, لأنه باطل لا حقيقة له ( فلله ) ، الذي حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا, وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام ( الحجة البالغة ) ، دونكم أيها المشركون .

ويعني بـ « البالغة » ، أنها تبلغ مراده في ثبوتها على مَنْ احتج بها عليه من خلقه, وقَطْعِ عُذْرِه إذا انتهت إليه فيما جُعِلت حجة فيه .

( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، يقول: فلو شاء ربكم لوفَّقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة، والبراءة من الأنداد والآلهة، والدينونة بتحريم ما حرم الله وتحليل ما حلله الله, وترك اتباع خطوات الشيطان, وغير ذلك من طاعاته، ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم, فمنهم كافر ومنهم مؤمن .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال، لا حجة لأحد عصَى الله, ولكن لله الحجة البالغة على عباده . وقال: ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، قال: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ سورة الأنبياء: 23 ] .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 150 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان, الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم ( هلم شهداءكم ) ، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم .

وأهل العالية من تهامة توحِّد « هلم » في الواحد والاثنين والجميع, وتذكر في المؤنث والمذكر, فتقول للواحد: « هلم يا فلان » ، وللاثنين والجميع كذلك, وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى:

وَكَـــانَ دَعَــا قَوْمَــهُ دَعْــوَةً هَلُــمَّ إلَــى أَمْــرِكُمْ قَـدْ صُـرِمْ

ينشد: « هلم » ، و « هلموا » . وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال: « هلم » وللواحدة من النساء: « هلمي » , وللاثنين: « هلما » , وللجماعة من الرجال: « هلموا » , وللنساء: « هَلْمُمْنَ » .

قال الله لنبيه: ( فإن شهدوا ) ، يقول: يا محمد, فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم ( فلا تشهد معهم ) ، فإنهم كذبة وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله . وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم, والمراد به أصحابه والمؤمنون به ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ) ، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنـزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم, ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( والذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة, فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم ( وهم بربهم يعدلون ) ، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ, فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب, وقالوا: أمرنا الله به . قال الله لرسوله: ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، قال: البحائر والسُّيَّب .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم, على ما ذكرت لك في تنـزيلي عليك : تعالوا، أيها القوم، أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا, لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا, ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ, وتنـزيلا أنـزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه ( وبالوالدين إحسانًا ) ، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا وحذف « أوصى » و « أمر » ، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب .

وأما « أن » في قوله: ( أن لا تشركوا به شيئًا ) ، فرفعٌ, لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم, هو أن لا تشركوا به شيئًا .

وإذا كان ذلك معناه, كان في قوله: ( تشركوا ) ، وجهان:

الجزم بالنهي, وتوجيهه « لا » إلى معنى النهي .

والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر, ونصب « تشركوا » ، بـ « أن لا » ، كما يقال: « أمرتك أن لا تقوم » .

وإن شئت جعلت « أن » في موضع نصبٍ، ردًّا على « ما » وبيانًا عنها, ويكون في قوله: ( تشركوا ) ، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و « أن » في موضع رفع.

ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم, أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا .

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله ( تشركوا ) نصبًا بـ « أن لا » , أم كيف يجوز توجيه قوله: « ألا تشركوا به » , على معنى الخبر, وقد عطف عليه بقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، فجعل « أن أكون » خبرًا، و « أنْ » اسمًا, ثم عطف عليه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، [ سورة الأنعام: 14 ] , وكما قال الشاعر:

حَــجَّ وَأوْصَــى بِسُـلَيْمَى الأعْبُـدَا أَنْ لا تَـــرَى وَلا تُكَـــلِّمْ أَحَــدَا

وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا

فجعل قوله: « أن لا ترى » خبرًا, ثم عطف بالنهي فقال: « ولا تكلم » , « ولا يزل » .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم, فإن الله هو رازقكم وإياهم, ليس عليكم رزقهم, فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم .

و « الإملاق » ، مصدر من قول القائل: « أملقت من الزاد, فأنا أملق إملاقًا » , وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، الإملاق الفقر, قتلوا أولادهم خشية الفقر .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، أي خشية الفاقة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، قال: « الإملاق » ، الفقر .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( من إملاق ) ، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك في قوله: ( من إملاق ) ، يعني: من خشية فقر .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها, والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به, فإن كل ذلك حرام .

وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن, لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [ دون بعض ] .

وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع, غير أن دليل الظاهر من التنـزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها, ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها .

* ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، أما « ما ظهر منها » ، فزواني الحوانيت, وأما « ما بطن » ، فما خَفِي .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية ( ما ظهر منها ) ، يعني: العلانية ( وما بطن ) ، يعني: السر .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية, فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية .

وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، سرَّها وعلانيتها .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, نحوه .

وقال آخرون: « ما ظهر » ، نكاح الأمهات وحلائل الآباء « وما بطن » ، الزنى .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، جمعٌ بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي, عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، الخمر « وما بطن » ، الزنى .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 151 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) ، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد وقوله: ( إلا بالحق ) ، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها, أو تزني وهي محصنة فترجم, أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك « الحق » الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به ( ذلكم ) ، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه, هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به ( لعلكم تعقلون ) ، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: التجارة فيه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، فليثمر مالَه .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق العنـزي, عن سليط بن بلال, عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: يبتغي له فيه, ولا يأخذ من ربحه شيئًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: « التي هي أحسن » ، أن يأكل بالمعروف إن افتقر, وإن استغنى فلا يأكل. قال الله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، [ سورة النساء: 6 ] . قال: وسئل عن الكسوة، فقال: لم يذكر الله الكسوة، إنما ذكر الأكل .

وأما قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، فإن « الأشُدّ » جمع « شَدٍّ » , كما « الأضُرّ » جمع « ضر » , وكما « الأشُرّ » جمع « شر » ، و « الشد » القوة, وهو استحكام قوة شبابه وسنه, كما « شَدُّ النهار » ارتفاعه وامتداده. يقال: « أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار » , وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة:

عَهْــدِي بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ كَأَنَّمَـا خُــضِبَ اللَّبَــانُ وَرَأْسُـهُ بِـالْعِظْلِمِ

ومنه قول الآخر:

تُطِيــفُ بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ ظَعِينَـةٌ طَوِيلَــةُ أَنْقَــاءِ اليَــدَيْنِ سَـحُوقُ

وكان بعض البصريين يزعم أن « الأشد » مثل « الآنُك » .

فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل: « بلغ أشدّه » .

فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحُلُم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، أخبرني يحيى بن أيوب, عن عمرو بن الحارث, عن ربيعة في قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: الحلم .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, مثله قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله .

حدثت عن الحماني قال، حدثنا هشيم, عن مجاهد, عن عامر: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: « الأشد » ، الحلم, حيث تكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات .

وقال آخرون: إنما يقال ذلك له، إذا بلغ ثلاثين سنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: أما « أشده » ، فثلاثون سنة, ثم جاء بعدها: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ . [ سورة النساء: 6 ] .

وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف . وذلك أن معنى الكلام: « ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده » , فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يُقرب مال اليتيم في حال يُتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ليحِلَّ لوليّه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ, ولكنه نهاهم أن يقرَبوه حياطةً منه له، وحفظًا عليه، ليسلموه إليه إذا بلغ أشده .

 

القول في تأويل قوله : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وأن أوفوا الكيل والميزان. يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم, ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة « بالقسط » ، يعني بالعدل ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بالقسط ) ، بالعدل .

وقد بينا معنى: « القسط » بشواهده فيما مضى، وكرهنا إعادته .

وأما قوله: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) ، فإنه يقول: لا نكلف نفسًا، من إيفاء الكيل والوزن، إلا ما يسعها فيحلّ لها ولا تحرَجُ فيه . وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تَضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجبُ عليها له, فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقَّه الذي هو له، ولم يكلِّفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر الذي له الحق، بأخذ حقه، ولم يكلفه الرضا بأقل منه, لما في النقصان عنه من ضيق نفسه. فلم يكلف نفسًا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق, فلذلك قال: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) .

وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 152 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم, واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم، ذا قرابة لكم, ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره, أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه ( وبعهد الله أوفوا ) ، يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم, وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك هو الوفاء بعهد الله .

وأما قوله: ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين, هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم، وأمركم بالعمل بها لا بالبحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، وقتل الأولاد، ووأد البنات، واتباع خطوات الشيطان ( لعلكم تذكرون ) ، يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها, لتتذكروا عواقبَ أمركم، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون, فتنـزجروا عنها، وترتدعوا وتُنيبوا إلى طاعة ربكم .

وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات، هنَّ الآيات المحكمات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن علي بن صالح, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن قيس, عن ابن عباس قال: هن الآيات المحكمات, قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد بن أبى حبيب, عن مرثد بن عبد الله, عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار قال، سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقال: والذي نفس كعب بيده, إنّ هذا لأوَّل شيء في التوراة: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن سعيد بن مسروق, عن رجل, عن الربيع بن خثيم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن عمرو بن مرة قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يقل: « خاتمها » فقرأ هذه الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحابَ محمد، فحدثنا عن الوَحي. فقرأ عليهم هذه الآيات من « الأنعام » : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، قالوا: ليس عن هذا نسألك ! قال: فما عندنا وحيٌ غيره .

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، قال: قولوا الحق .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 153 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم، أيها الناس، في هاتين الآيتين من قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وأمركم بالوفاء به, هو « صراطه » يعني: طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده ( مستقيمًا ) ، يعني: قويمًا لا اعوجاج به عن الحق ( فاتبعوه ) ، يقول: فاعملوا به, واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، فاتبعوه ( ولا تتبعوا السبل ) ، يقول: ولا تسلكوا طريقًا سواه, ولا تركبوا منهجًا غيره, ولا تبغوا دينًا خلافه ، من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل, فإنها بدع وضلالات ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: فيشتّت بكم، إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان, اتباعُكم إياها « عن سبيله » , يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه, وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: « أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل » ، وصاكم به « لعلكم تتقون » , يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها, وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: البدع والشبهات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا تتبعوا السبل ) ، البدع والشبهات .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) , وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: لا تتبعوا الضلالات .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد, عن عاصم, عن أبي وائل, عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: « سبيله » ، الإسلام, و « صراطه » ، الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، عن الإسلام .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبان: أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه, وطرفُه في الجنة, وعن يمينه جوادُّ, وعن يساره جَوَادُّ, وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) ، الآية .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَنَّ ) بفتح « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » , ردًّا على قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأن هذا صراطي مستقيمًا » .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: « وَإِنَّ » بكسر « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » منها، على الابتداء وانقطاعها عن الأول, إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه، عندهم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوامّ المسلمين، صحيح معنياهما, فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته .

وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله, كما أمر عباده الأنبياء . وإن أدخل ذلك مُدْخِلٌ فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وما أمركم به, ففتح على ذلك « أن » ، فمصيب وإن كسرها، إذ كانت « التلاوة » قولا وإن كان بغير لفظ « القول » لبعدها من قوله: « أتل » , وهو يريد إعمال ذلك فيه، فمصيبٌ وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و « التلاوة » , وأن ما أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أُمِر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك, فمصيب .

وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري: « وَأنْ » بفتح الألف من « أن » وتخفيف النون منها, بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأنْ هذا صراطي » ، فخففها، إذ كانت « أن » في قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، مخففة, وكانت « أن » في قوله: ( وأن هذا صراطي ) ، معطوفة عليها, فجعلها نظيرةَ ما عطفت عليه .

وذلك وإن كان مذهبًا, فلا أحب القراءة به، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب ) ، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ فترك ذكر « قل » , إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ فيها, وذلك قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقصَّ ما حرم عليهم وأحلّ, ثم قال: ثم قل: « آتينا موسى » , فحذف « قل » لدلالة قوله: « قل » عليه, وأنه مراد في الكلام .

وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام, لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و « ثم » في كلام العرب حرف يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، فقال بعضهم: معناه: تمامًا على المحسنين .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: على المؤمنين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، المؤمنين والمحسنين.

وكأنّ مجاهدًا وجّه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده .

فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: ( على الذي أحسن ) ، فيوحِّد « الذي » , والتأويل على الذين أحسنوا؟

قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في « الذي » وفي « الألف واللام » ، إذا أرادت به الكل والجميع, كما قال جل ثناؤه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، [ سورة العصر: 2،1 ] ، وكما قالوا: « كثر الدِّرهم فيه في أيدي الناس » .

وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ ذلك: « تمامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا » ، وذلك من قراءته كذلك، يؤيد قول مجاهد .

وإذا كان المعنى كذلك, كان قوله: « أحسن » ، فعلا ماضيًا, فيكون نصبه لذلك .

وقد يجوز أن يكون « أحسن » في موضع خفض, غير أنه نصب إذ كان « أفعل » , و « أفعل » ، لا يجري في كلامها .

فإن قيل: فبأيِّ شيء خفض؟

قيل: ردًّا على « الذي » ، إذ لم يظهر له ما يرفعه فيكون تأويل الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي هو أحسن, ثم حذف « هو » , وجاور « أحسن » « الذي » , فعرِّب بتعريبه, إذ كان كالمعرفة من أجل أن « الألف واللام » لا يدخلانه, « والذي » مثله, كما تقول العرب: « مررت بالذي خيرٍ منك، وشرٍّ منك » , كما قال الراجز:

إِنَّ الزُّبَــيْرِيَّ الَّــذِي مِثْـلَ الحَـلَمْ مَسَّــى بِأَسْــلابِكُمُ أَهْــلَ الْعَلَــمْ

فأتبع « مثل » « الذي » ، في الإعراب . ومن قال ذلك، لم يقل: مررت « بالذي عالمٍ » , لأن « عالمًا » نكرة، « والذي » معرفة, ولا تتبع نكرة معرفة .

وقال آخرون: معنى ذلك: « تمامًا على الذي أحسن » ، موسى، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذين أحسن ) ، فيما أعطاه الله.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله له ذلك في الآخرة .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، يقول: من أحسن في الدنيا، تمت عليه كرامة الله في الآخرة.

وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع، يكون « أحسن » ، نصبًا, لأنه فعل ماض, و « الذي » بمعنى « ما » وكأنّ الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على ما أحسن موسى أي: آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة، تمامًا على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته .

وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: تمامًا من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام, وآتاهم ذلك الكتاب تمامًا، لنعمته عليه وإحسانه .

« وأحسن » على هذا التأويل أيضًا، في موضع نصب، على أنه فعل ماض، « والذي » على هذا القول والقول الذي قاله الربيع، بمعنى: « ما » .

وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك: « تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ » رفعًا بتأويل: على الذي هو أحسن .

حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا الحجاج, عن هارون, عن أبي عمرو بن العلاء, عن يحيى بن يعمر .

قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح, لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام, وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة .

ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد، كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسنّا أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن .

وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب، ثم صرفه الخبر بقوله: « أحسن » , إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين الدليلُ الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد .

وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه « الذي » إلى معنى الجميع، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك. بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام، كان أولى معانيه به أغلبُه على الظاهر, إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليلٌ واضح على أنه معنيٌّ به غير ذلك .

وأما قوله: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فإنه يعني: وتبيينًا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به .

فتأويل الكلام إذًا: ثم آتينا موسى التوراة تمامًا لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله, تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربَّه وقيامه بما كلّفه من شرائع دينه, وتبيينًا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم، كما:-

حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فيه حلاله وحرامه .

 

القول في تأويل قوله : وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 154 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تمامًا وتفصيلا لكل شيء ( وهدى ) ، يعني بقوله « وهدى » ، تقويمًا لهم على الطريق المستقيم, وبيانًا لهم سُبُل الرشاد لئلا يضلوا ( ورحمة ) ، يقول: ورحمة منا بهم ورأفة, لننجيهم من الضلالة وَعمى الحيرة .

وأما قوله: ( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) ، فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تمامًا لكرامة الله موسى، على إحسان موسى, وتفصيلا لشرائع دينه, وهدًى لمن اتبعه، ورحمة لمن كان منهم ضالا لينجيه الله به من الضلالة, وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه, فيرتدع عما هو عليه مقيمٌ من الكفر به, وبلقائه بعد مماته, فيطيع ربه, ويصدِّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 155 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهذا القرآن الذي أنـزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم « كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه » ، يقول: فاجعلوه إمامًا تتّبعونه وتعملون بما فيه، أيها الناس ( واتقوا ) ، يقول: واحذروا الله في أنفسكم، أن تضيعوا العمل بما فيه, وتتعدّوا حدودَه, وتستحلُّوا محارمه . كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة,قوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهو القرآن الذي أنـزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام ( فاتبعوه ) ، يقول: فاتبعوا حلاله، وحرّموا حرامه .

وقوله: ( لعلكم ترحمون ) ، يقول: لترحموا، فتنجوا من عذاب الله، وأليم عقابه .

 

القول في تأويل قوله : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( 156 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في العامل في « أن » التي في قوله: ( أن تقولوا ) وفي معنى هذا الكلام.

فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ، كراهيةَ أن تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك في موضع نصب بفعل مضمر. قال: ومعنى الكلام: فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون اتقوا أن تقولوا . قال: ومثله يقول الله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، [ سورة الحجرات: 2 ] .

وقال آخرون منهم: هو في موضع نصب . قال: ونصبه من مكانين: أحدهما: أنـزلناه لئلا يقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا والآخر من قوله: ( اتقوا ) . قال: ولا يصلح في موضع « أن » كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نصب « أن » لتعلقها: بالإنـزال, لأن معنى الكلام: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك لئلا تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » .

فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله, وأخبر أنه إنما أنـزل كتابه على نبيه محمد لئلا يقول المشركون: « لم ينـزل علينا كتاب فنتبعه, ولم نؤمر ولم نُنْه, فليس علينا حجة فيما نأتي ونَذَر, إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول » , وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا فإنهما اليهود والنصارى، وكذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، اليهود والنصارى يُخاف أن تقوله قريش .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، قال: اليهود والنصارى. قال: أن تقول قريش .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، أما الطائفتان: فاليهود والنصارى .

وأما ( وإن كنا عن دِرَاستهم لغافلين ) ، فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتابَ الذي أنـزلتُ عليهم « غافلين » , لا ندري ما هي, ولا نعلم ما يقرؤون وما يقولون، وما أنـزل إليهم في كتابهم, لأنهم كانوا أهله دوننا, ولم نعن به ولم نؤمر بما فيه, ولا هو بلساننا, فيتخذوا ذلك حجة . فقطع الله بإنـزاله القرآنَ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، أي: عن قراءتهم .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، قال: « الدراسة » ، القراءة والعلم. وقرأ: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ، [ سورة الأعراف: 169 ] . قال: علموا ما فيه، لم يأتوه بجهالة .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن قراءتهم لغافلين، لا نعلم ما هي .

 

القول في تأويل قوله : أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ , لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش: إِنَّمَا أُنْـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا , أو: لئلا يقولوا: لو أنّا أنـزل علينا الكتاب كما أنـزل على هاتين الطائفتين من قبلنا, فأمرنا فيه ونُهِينا, وبُيِّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه ( لكنا أهدى منهم ) ، أي: لكنا أشدَّ استقامة على طريق الحق، واتباعًا للكتاب, وأحسن عملا بما فيه، من الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا . يقول الله: ( فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: فقد جاءكم كتابٌ بلسانكم عربيٌ مبين, حجة عليكم واضحة بيّنة من ربكم ( وهدى ) ، يقول: وبيان للحق, وفُرْقانٌ بين الصواب والخطأ ، ( ورحمة ) لمن عمل به واتّبعه، كما:-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: قد جاءكم بينة، لسانٌ عربي مبين, حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين, وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) ، فهذا قول كفار العرب ( فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) .

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( 157 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فمن أخطأ فعلا وأشدّ عدوانًا منكم، أيها المشركون, المكذبون بحجج الله وأدلته وهي آياته ( وصدف عنها ) ، يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته, فلم يؤمن بها، ولم يصدِّق بحقيقتها .

وأخرج جل ثناؤه الخبر بقوله: ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ) ، مخرج الخبر عن الغائب, والمعنيّ به المخاطبون به من مشركي قريش .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وصدف عنها ) ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وصدف عنها ) ، يقول: أعرض عنها .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يصدفون عن آياتنا ) ، يعرضون عنها, و « الصدف » ، الإعراض.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وصدف عنها ) ، أعرض عنها, ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) ، أي: يعرضون .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وصدف عنها ) ، فصدَّ عنها.

وقوله: ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب ) ، يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها، ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله، وحقيقة نبوة نبيه، وصدق ما جاءهم به من عند ربهم ( سوء العذاب ) ، يقول: شديد العقاب, وذلك عذاب النار التي أعدَّها الله لكفرة خلقه به ( بما كانوا يصدفون ) ، يقول: يفعل الله ذلك بهم جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا، فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة » ، بالموت فتقبض أرواحهم أو أن يأتيهم ربك، يا محمد، بين خلقه في موقف القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: أو أن يأتيهم بعضُ آيات ربك. وذلك فيما قال أهل التأويل: طلوعُ الشمس من مغربها .

* ذكر من قال من أهل التأويل ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، يقول: عند الموت حين توفَّاهم « أو يأتي ربك » ، ذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: آية موجبة، طلوع الشمس من مغربها, أو ما شاء الله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة , قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، يقول: بالموت « أو يأتي ربك » ، وذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، عند الموت « أو يأتي ربك » « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: طلوع الشمس من مغربها.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق قال، قال عبد الله في قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: يصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب، كالبعيرين القَرينين زاد ابن حميد في حديثه: « فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قَبْل أو كسبت في إيمانها خيرًا » ، وقال: « كالبعيرين المقترنين » . .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، تقبض الأنفس بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » .

 

القول في تأويل قوله : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « يوم يأتي بعض آيات ربك » , لا ينفع من كان قبل ذلك مشركًا بالله، أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية .

وقيل: إن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه أن الكافر لا ينفعه إيمانه عند مجيئها: طلوعُ الشمس من مغربها .

ذكر من قال ذلك، وما ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

حدثني عيسى بن عثمان الرملي قال، حدثنا يحيى بن عيسى, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، قال: طلوع الشمس من مغربها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, وجرير عن عمارة, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. قال: فإذا رآها الناس آمن من عليها, فتلك « حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري وإسحاق بن شاهين قالا أخبرنا خالد بن عبد الله الطحان, عن يونس, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: إنها تذهب إلى مستقرِّها تحت العرش, فتخرُّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » , فتصبح طالعة من مطلعها . ثم تجري إلى أن تنتهي إلى مستقرٍّ لها تحت العرش, فتخرّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » ، فتصبح طالعةً من مطلعها . ثم تجري لا ينكر الناسُ منها شيئًا, حتى تنتهي فتخرّ ساجدة في مستقر لها تحت العرش, فيصبح الناسُ لا ينكرون منها شيئًا, فيقال لها: « اطلعي من مغربك » فتصبح طالعة من مغربها. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ذاك يومَ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا مؤمل بن هشام ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية, عن يونس, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, نحوه .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن صفوان بن عسّال قال، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من قِبَل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه. فإذا طلعت الشمس من نحوه ، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. .

حدثنا المفضل بن إسحاق قال، حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد الإياميّ, عن أبيه, عن زبيد, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال المرادي قال: ذكرت التوبة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للتوبة بابٌ بالمغرب مسيرة سبعين عامًا أو: أربعين عامًا فلا يزال كذلك حتى يأتي بعض آيات ربك. .

حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال أنه قال: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, فإذا طلعت الشمس من مغربها, لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها الناس، آمن مَنْ عليها, فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمس من مغربها, فيومئذ يؤمن الناس كلهم أجمعون, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي عون, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال، التوبة مقبولة، ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا ضمضم بن زرعة, عن شريح بن عبيد, عن مالك بن يخامر, عن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن عمرو بن العاص, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: لا تزل التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت طُبِع على كل قلب بما فيه, وكُفي الناسُ العمل.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة وجعفر بن عون, بنحوه .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان التيمي, عن أبي زرعة قال، جلس ثلاثة من المسلمين إلى مروان بن الحكم بالمدينة, فسمعوه وهو يحدث عن الآيات: أن أولها خروجا الدجالُ، فانصرف القوم إلى عبد الله بن عمرو, فحدثوه بذلك, فقال: لم يقل مروان شيئًا! قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا لم أنسَه, لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها, أو خروج الدابة على الناس ضُحًى, أيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا . ثم قال عبد الله بن عمرو، وكان يقرأ الكتب: أظن أولهما خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فيؤذن لها في الرجوع, حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها، فعلت كما كانت تفعل، أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فلم يردَّ عليها شيئًا, فتفعل ذلك ثلاث مرات، لا يردّ عليها بشيء. حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب, وعرفت أن لو أذن لها لم تدرك المشرق, قالت: « ما أبعدَ المشرق! ربِّ، منْ لي بالناس » ! حتى إذا صار الأفق كأنه طَوْق، استأذنت في الرجوع, فقيل لها: « اطلعي من مكانك » ، فتطلع من مغربها . ثم قرأ: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، إلى آخر الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد أبي حيان, عن الشعبي, أن ثلاثة نفر دخلوا على مروان بن الحكم, فذكر نحوه, عن عبد الله بن عمرو.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعت عاصم بن أبي النجود، يحدث عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن حجاج, عن عاصم, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال قال: إذا طلعت الشمس من مغربها, فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش قال: غَدَوْتُ إلى صفوان بن عسال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب, عرضه مسيرة سبعين عامًا, فلا يزال مفتوحًا حتى تطلع من قبله الشمس . ثم قرأ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ، إلى: خَيْرًا .

حدثني الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث, عن جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز: أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من المغرب. قال: فإذا طلعت الشمس من المغرب آمن الناس كلهم، وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قُبِل منه .

حدثني المثنى قال، حدثنا فهد قال، حدثنا حماد, عن يونس بن عبيد, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس إذا غربت أتت تحت العرش فسجدت, فيقال لها: « اطلعي من حيث غربت » ، ثم قرأ هذه الآية: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ، إلى آخر الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمارٍ, فنظر إلى الشمس حين غربت فقال: إنها تغرب في عين حامية, تنطلق حتى تخرّ لربها ساجدة تحت العرش، حتى يأذن لها, فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها, فتقول: يا ربِّ، إن مسيري بعيد! فيقول لها: اطلعي من حيث غربت ! فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة, عن موسى بن المسيب, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الشمس فقال: يوشك أن تجيء حتى تقف بين يدي الله, فيقول: « ارجعي من حيث جئت » ! فعند ذلك: « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فهو أنه لا ينفع مشركًا إيمانه عند الآيات, وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرًا قبل ذلك . قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً من العشيّات فقال لهم: يا عباد الله, توبوا إلى الله ، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قِبَل المغرب, فإذا فعلت ذلك، حُبِست التوبة، وطُوِي العمل، وخُتم الإيمان. فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آية تلكم الليلة، أن تطول كقدر ثلاث ليال, فيستيقظ الذين يخشون رَبهم، فيصلُّون له, ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض, ثم يأتون مضاجعهم فينامون. حتى إذا استيقظوا والليل مكانه, فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون بين يدي أمرٍ عظيم. فإذا أصبحوا وطال عليهم طلوع الشمس ، فبينا هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب, فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, أنه سمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها » ، الآية .

وبه قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن أبي عتيق, أنه سمع عبيد بن عمير يتلو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال، يقول: [ كنّا ] نُحدَّث، والله أعلم، أنها الشمس تطلع من مغربها قال ابن جريج، وأخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع عبيد بن عمير يقول ذلك قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الآية التي لا ينفع نفسًا إيمانها، إذا طلعت الشمس من مغربها . قال ابن جريج: وقال مجاهد ذلك أيضًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن قتادة, عن زرارة بن أوفى, عن ابن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث عن زرارة بن أوفى, عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف, عن ابن سيرين قال، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان عبد الله بن مسعود يقول: ما ذكر من الآيات فقد مضَين غير أربع: طلوع الشمس من مغربها, ودابة الأرض, والدجال, وخروج يأجوج ومأجوج ، والآية التي تختم بها الأعمال: طلوع الشمس من مغربها. ألم تر أن الله قال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، قال: فهي طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن أبي الضحى, عن مسروق قال: قال عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر, كأنهما بعيران مقرونان .

. . . . قال شعبة: وحدثنا قتادة, عن زرارة, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين المقترنين .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور والأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق عن عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين القرينين .

. . . وقال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وأبيه, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن عبد الله قال: التوبة مبسوطةٌ ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن أمِّ عبد كان يقول: لا يزال باب التوبة مفتوحًا حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا رأى الناس ذلك آمنوا, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا بشر قال، حدثنا عبد الله بن جعفر قال، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت آمن الناس كلهم, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عبيد بن عمير: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

. . . وقال، حدثنا أبي, عن الحسن بن عقبة، أبي كيران, عن الضحاك: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل قال، أخبرني أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن ابن مسعود في قوله: ( لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، قال: لا تزال التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر, عن القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، يقول: إذا جاءت الآيات لم ينفع نفسًا إيمانها. يقول: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن وهب بن جابر, عن عبد الله بن عمرو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

وقال آخرون: بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة, ويأجوج ومأجوج, وطلوع الشمس من مغربها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن المسعودي, عن القاسم قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: ما لم تطلع الشمس من مغربها, أو الدابة, أو فتح يأجوج ومأجوج .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا المسعودي, عن القاسم بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة, وطلوع الشمس من مغربها, وخروج يأجوج ومأجوج .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن عامر, عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات، طُرِحت الأقلام, وحُبِست الحفظة, وشهدت الأجساد على الأعمال .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أبيه, عن أبي حازم, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث إذا خرجت « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » : طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض .

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا معاوية بن عبد الكريم قال: حدثنا الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال ستًّا: طلوعَ الشمس من مغربها, والدجال، والدخَان, ودابة الأرض, وخُوَيِّصة أحدكم, وأمرَ العامة .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول, فذكر نحوه .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك, ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ذلك حين تطلع الشمس من مغربها » .

وأما قوله: ( أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فإنه يعني: أو عملت في تصديقها بالله خيرًا، من عمل صالح يصدِّق قِيلَه ويُحققه، من قبل طلوع الشمس من مغربها. لا ينفع كافرًا لم يكن آمن بالله قبل طلوعها كذلك، إيمانه بالله إن آمن وصدق بالله ورسله, لأنها حالة لا تمتنع نفسٌ من الإقرار بالله، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله, فحكم إيمانهم، كحكم إيمانهم عند قيام الساعة، وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله، لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار, ولا ينفع مَنْ كان بالله وبرسله مصدِّقًا، ولفرائض الله مضيعًا، غير مكتسب بجوارحه لله طاعة، إذا هي طلعت من مغربها أعمالُه إن عمل, وكسبُه إن اكتسب, لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، يقول: كسبت في تصديقها خيرًا، عملا صالحًا, فهؤلاء أهل القبلة . وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا، فعملت بعد أن رأت الآية، لم يقبل منها . وإن عملت قبل الآية خيرًا، ثم عملت بعد الآية خيرًا, قُبل منها .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: مَنْ أدركه بعضُ الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قَبِلَ الله منه العمل بعدَ نـزول الآية، كما قَبِلَ منه قبل ذلك .

 

القول في تأويل قوله : قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 158 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت فتقبض أرواحكم, أو أن يأتي ربكم لفصل القضاء بيننا وبينكم في موقف القيامة, أو أن يأتيكم طلوع الشمس من مغربها, فتطوى صحف الأعمال, ولا ينفعكم إيمانكم حينئذ إن آمنتم, حتى تعلموا حينئذ المحقَّ منا من المبطل, والمسيءَ من المحسن, والصادقَ من الكاذب, وتتبينوا عند ذلك بمن يحيق عذاب الله وأليم نكاله, ومَنْ الناجي منا ومنكم ومَنْ الهالك - إنا منتظرو ذلك, ليجزل الله لنا ثوابه على طاعتنا إياه, وإخلاصنا العبادة له, وإفرادناه بالربوبية دون ما سواه, ويفصل بيننا وبينكم بالحق, وهو خير الفاصلين .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 159 )

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: ( فرقوا ) .

فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ما:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن دينار, أن عليًّا رضي الله عنه قرأ: « إنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير قال، قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

. . . وقال، حدثنا الحسن بن علي, عن سفيان, عن قتادة: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

وكأن عليًّا ذهب بقوله: « فارقوا دينهم » ، خرجوا فارتدوا عنه، من « المفارقة » .

وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود, كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن رافع, عن زهير قال، حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها: ( فَرَّقوا دِينَهُمْ ) .

وعلى هذه القراءة أعني قراءة عبد الله قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين . وكأنّ عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد, وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة, ففرّق ذلك اليهود والنصارى, فتهوّد قومٌ وتنصَّر آخرون, فجعلوه شيعًا متفرقة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان, قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة, وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك أن كل ضالّ فلدينه مفارق, وقد فرَّق الأحزابُ دينَ الله الذي ارتضاه لعباده, فتهود بعض وتنصر آخرون, وتمجس بعض. وذلك هو « التفريق » بعينه، ومصير أهله شيعًا متفرقين غير مجتمعين, فهم لدين الله الحقِّ مفارقون، وله مفرِّقون. فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب, غير أني أختار القراءة بالذي عليه عُظْم القرأة, وذلك تشديد « الراء » من « فرقوا » .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: ( إن الذين فرّقوا دينهم ) .

فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وكانوا شيعًا ) ، قال: يهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فرقوا دينهم ) ، قال: هم اليهود والنصارى.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، من اليهود والنصارى.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، هؤلاء اليهود والنصارى . وأما قوله: ( فارقوا دينهم ) ، فيقول: تركوا دينهم وكانوا شيعًا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد، فتفرقوا. فلما بعث محمد أنـزل الله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، يعني اليهود والنصارى .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي, عن شيبان, عن قتادة: « فارقوا دينهم » ، قال: هم اليهود والنصارى .

وقال آخرون: عنى بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: ( إن الذين فرقوا دينهم ) ، قال: نـزلت هذه الآية في هذه الأمة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، قال: هم أهل الصلاة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: كتب إليّ عباد بن كثير قال، حدثني ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، وليسوا منك, هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه, وكانوا فرقًا فيه وأحزابًا شيعًا, وأنه ليس منهم. ولا هم منه، لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام، دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ سورة الأنعام: 161 ] .

فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهودي ونصرانيّ ومتحنِّف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم, فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء, وهو داخل في عموم قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) .

وأما قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وُجوب فرض قتالهم, ثم نسخها الأمر بقتالهم في « سورة براءة » , وذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . [ سورة التوبة: 5 ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، لم يؤمر بقتالهم, ثم نسخت, فأمر بقتالهم في « سورة براءة » .

وقال آخرون: بل نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلامًا من الله له أنَّ من أمته من يُحْدث بعده في دينه. وليست بمنسوخة, لأنها خبرٌ لا أمر, والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مالك بن مغول, عن علي بن الأقمر, عن أبي الأحوص, أنه تلا هذه الآية: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، ثم يقول: بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم, عن مالك بن مغول, بنحوه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا شجاع أبو بدر, عن عمرو بن قيس الملائي قال، قالت أم سلمة: ليتّق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ! ثم قرأت: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) قال عمرو بن قيس: قالها مُرَّة الطيِّب، وتلا هذه الآية .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: ( لست منهم في شيء ) ، إعلام من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء, ومن الأحزاب من مشركي قومه، ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم, لأنه غير محال أن في الكلام: « لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم. فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه, ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرًا فيقبض روحه, أو يقتله بيدك على كفره, ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدَمهم عليه » . وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم, وقوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، ولم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة، في كتابنا كتاب: « اللطيف عن أصول الأحكام » .

وأما قوله: ( إنما أمرهم إلى الله ) ، فإنه يقول: أنا الذي إليَّ أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا, والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك, دونك ودون كل أحد. إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها, وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم ( ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) ، يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليَّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون, المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 160 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من وافَى ربَّه يوم القيامة في موقف الحساب، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا، بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته, وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال: من جاء بها فله عشر أمثالها .

ويعني بقوله: ( فله عشر أمثالها ) ، فله عشر حسنات أمثال حسنته التي جاء بها ( ومن جاء بالسيئة ) ، يقول: ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدِّين الحقّ والكفر بالله, فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء, كما وافى الله به من عمله السيئ ( وهم لا يظلمون ) ، يقول: ولا يظلم الله الفريقين، لا فريق الإحسان, ولا فريق الإساءة, بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان، ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له, لأنه جل ثناؤه حكيمٌ لا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يستحق أن يضعه فيه, ولا يجازي أحدًا إلا بما يستحقّ من الجزاء .

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « الظلم » ، وضع الشيء في غير موضعه، بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما ذكرت، من أن معنى « الحسنة » في هذا الموضع: الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتصديق برسوله « والسيئة » فيه: الشرك به، والتكذيب لرسوله أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن؟ وإن كان له مثل، فكيف يجازى به, و « الإيمان » ، إنما هو عندك قول وعمل, والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الآخرة, والإنعام عليه بما أعدّ لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود, وذلك أعيان ترى وتعاين وتحسّ ويلتذّ بها, لا قول يسمع، ولا كسبُ جوارح؟

قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه, وإنما معناه: من جاء بالحسنة فوافَى الله بها له مطيعًا, فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها .

فإن قال: قلت فهل لقول « لا إله إلا الله » من الحسنات مثل؟

قيل: له مثل هو غيره, [ ولكن له مثل هو قول لا إله إلا الله ] , وذلك هو الذي وعد الله جل ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله. وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك, إلا أنه لا يجازى صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال رجل من القوم: فإنّ « لا إله إلا الله » حسنة؟ قال: نعم, أفضل الحسنات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله .

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله قال: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: من جاء بلا إله إلا الله. قال: ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن الحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاوية بن عمرو المعنَّى، عن زائدة, عن عاصم, عن شقيق: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد وعن عثمان بن الأسود, عن مجاهد والقاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قالوا: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قالوا: بالشرك وبالكفر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن أبي معشر, عن إبراهيم, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أبي المحجل, عن أبي معشر قال: كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني: أنّ ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، من جاء بالشرك .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء, في قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) قال: بالشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم جميعًا, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن عثمان بن الأسود, عن القاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الكفر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن أشعث, عن الحسن: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، يقول: من جاء بلا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الأعمال ستة: مُوجِبة ومُوجِبة, ومُضْعِفة ومُضْعِفة, ومِثْل ومِثْل . فأما الموجبتان: فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة, ومن لقي الله مشركًا به دخل النار. وأما المضعف والمضعف: فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمئة ضعف, ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها . وأما مثل ومثل: فإذا همّ العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيئة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش, عن شمر بن عطية, عن شيخ من التيم, عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، علمني عملا يقرِّبني إلى الجنة ويباعدني من النار . قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة, فإنها عشر أمثالها . قال: قلت: يا رسول الله, « لا إله إلا الله » من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات .

وقال قوم: عني بهذه الآية الأعراب، فأما المهاجرون فإن حسناتهم سبعمئة ضعف أو أكثر .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري في قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: هذه للأعراب, وللمهاجرين سبعمئة .

حدثنا محمد أبو نشيط بن هارون الحربي قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي, عن عبد الله بن عمر قال: نـزلت هذه الآية في الأعراب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: قال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أعظم من ذلك: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، [ سورة النساء: 40 ] وإذا قال الله لشيء: « عظيم » , فهو عظيم .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع قال: نـزلت هذه الآية: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر، ويؤدّون عشر أموالهم. ثم نـزلت الفرائض بعد ذلك: صوم رمضان والزكاة .

فإن قال قائل: وكيف قيل « عشر أمثالها » , فأضيف « العشر » إلى « الأمثال » , وهي « الأمثال » ؟ وهل يضاف الشيء إلى نفسه؟

قيل: أضيفت إليها لأنه مرادٌ بها: فله عشر حسنات أمثالها, فـ « الأمثال » حلّت محل المفسّر, وأضيف « العشر » إليها, كما يقال: « عندي عشر نسوة » , فلأنه أريد بالأمثال مقامها، فقيل: « عشر أمثالها » , فأخرج « العشر » مخرج عدد الحسنات, و « المثل » مذكر لا مؤنث, ولكنها لما وضعت موضع الحسنات, وكان « المثل » يقع للمذكر والمؤنث, فجعلت خلفًا منها, فعل بها ما ذكرت. ومَنْ قال: « عندي عشر أمثالها » , لم يقل: « عندي عشر صالحات » , لأن « الصالحات » فعل لا يعدّ, وإنما تعدّ الأسماء. و « المثل » اسم, ولذلك جاز العدد به .

وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « فَلَهُ عَشْرٌ » بالتنوين، « أَمْثَالُهَا » بالرفع. وذلك على وجه صحيح في العربية, غير أن القرأة في الأمصار على خلافها, فلا نستجيز خلافها فيما هي عليه مُجْمِعة .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم, هو دين الله الذي ابتعثه به, وذلك الحنيفية المسلمة, فوفقني له ( دينًا قيمًا ) ، يقول: مستقيمًا ( ملة إبراهيم ) ، يقول: دين إبراهيم ( حنيفًا ) يقول: مستقيمًا ( وما كان من المشركين ) ، يقول: وما كان من المشركين بالله, يعني إبراهيم صلوات الله عليه, لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( دينًا قيمًا ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: « دِينًا قَيِّمًا » بفتح « القاف » وتشديد « الياء » ، إلحاقًا منهم ذلك بقول الله: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [ سورة التوبة: 36 / سورة يوسف: 40 / سورة الروم: 30 ] . وبقوله: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ سورة البينة: 5 ] .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( دِينًا قِيَمًا ) بكسر « القاف » وفتح « الياء » وتخفيفها. وقالوا: « القيِّم » و « القِيَم » بمعنى واحد, وهم لغتان معناهما: الدين المستقيم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيبٌ, غير أن فتح « القاف » وتشديد « الياء » أعجب إليّ, لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما .

ونصب قوله: ( دينًا ) على المصدر من معنى قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، وذلك أن المعنى: هداني ربي إلى دين قويم, فاهتديت له « دينا قيما » فالدين منصوب من المحذوف الذي هو « اهتديت » ، الذي ناب عنه قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) .

وقال بعض نحويي البصرة: إنما نصب ذلك، لأنه لما قال: ( هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، قد أخبر أنه عرف شيئًا, فقال: « دينًا قيمًا » ، كأنه قال: عرفت دينًا قيما ملّة إبراهيم .

وأما معنى الحنيف, فقد بينته في مكانه في « سورة البقرة » بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 162 ) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( 163 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الذين يسألونك أن تتبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان ( إن صلاتي ونسكي ) ، يقول: وذبحي ( ومحياي ) ، يقول: وحياتي ( ومماتي ) يقول: ووفاتي ( لله رب العالمين ) ، يعني: أن ذلك كله له خالصًا دون ما أشركتم به، أيها المشركون، من الأوثان ( لا شريك له ) في شيء من ذلك من خلقه, ولا لشيء منهم فيه نصيب, لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصًا ( وبذلك أمرت ) ، يقول: وبذلك أمرني ربي ( وأنا أول المسلمين ) ، يقول: وأنا أوّل من أقرَّ وأذْعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

* ذكر من قال: « النسك » ، في هذا الموضع، الذبح.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( إن صلاتي ونسكي ) ، قال: « النسك » ، الذبائح في الحج والعمرة .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ونسكي ) ، ذبحي في الحج والعمرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ونسكي ) ، ذبيحتي في الحج والعمرة .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل, وليس بابن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن إسماعيل, عن سعيد بن جبير في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير قال ابن مهدي: لا أدري من « إسماعيل » هذا ! ( صلاتي ونسكي ) ، قال: صلاتي وذبيحتي .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: وذبيحتي .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ونسكي ) ، قال: ذبيحتي .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: « الصلاة » ، الصلاة, و « النسك » ، الذبح .

وأما قوله: ( وأنا أوّل المسلمين ) ، فإن:-

محمد بن عبد الأعلى حدثنا قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر، عن قتادة: ( وأنا أول المسلمين ) ، قال: أول المسلمين من هذه الأمة .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان, الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان ( أغير الله أبغي ربًّا ) ، يقول: أسوى الله أطلب سيدًا يسودني ؟ ( وهو رب كل شيء ) ، يقول: وهو سيد كل شيء دونه ومدبّره ومصلحه ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ، يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة، سواها, بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها, ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها .

وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم. يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم, وعليكم عقوبة إجرامكم, ولنا جزاء أعمالنا . وهذا كما أمره الله جل ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون:6 ] ، وذلك كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: كان في ذلك الزمان، لا مخرج للعلماء العابدين إلا إحدى خَلَّتين: إحداهما أفضل من صاحبتها. إمَّا أمرٌ ودعاء إلى الحق, أو الاعتزال فلا تشارك أهل الباطل في عملهم, وتؤدي الفرائض فيما بينك وبين ربك, وتحبّ لله وتبغض لله, ولا تشارك أحدًا في إثم . قال: وقد أنـزل في ذلك آية محكمة: ( قل أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء ) ، إلى قوله: فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وفي ذلك قال: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [ سورة البينة: 4 ] .

يقال من « الوزر » « وزَر يَزِر » , « و وزَرَ يَوْزَر » , و « وُزِرَ يُؤزر، فهو موزور » .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 164 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان: كل عامل منا ومنكم فله ثواب عمله، وعليه وزره, فاعملوا ما أنتم عاملوه - ( ثم إلى ربكم ) ، أيها الناس ( مرجعكم ) ، يقول: ثم إليه مصيركم ومنقلبكم ( فينبئكم بما كنتم فيه ) ، في الدنيا, ( تختلفون ) من الأديان والملل, إذ كان بعضكم يدين باليهودية, وبعضٌ بالنصرانية, وبعض بالمجوسية, وبعض بعبادة الأصنام وادِّعاء الشركاء مع الله والأنداد, ثم يجازي جميعَكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شر, فتعلموا حينئذ من المحسنُ منَّا والمسيء .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله الذي جعلكم، أيها الناس، ( خلائفَ الأرض ) ، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية, واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض, تخلفونهم فيها, وتعمرُونها بعدَهم .

و « الخلائف » جمع « خليفة » , كما « الوصائف » جمع « وصيفة » , وهي من قول القائل: « خَلَف فلان فلانًا في داره يخلُفه خِلافة، فهو خليفة فيها » , كما قال الشماخ:

تُصِيبُهُـــمُ وَتُخْـــطِئُنِي المَنَايــا وَأَخْــلُفُ فِـي رُبُـوعٍ عَـنْ رُبُـوعِ

وذلك كما:-

حدثني الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) ، قال: أما « خلائف الأرض » ، فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم .

وأما قوله: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم, فجعل بعضكم فوق بعض, بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا, وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى, فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا . وذلك كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، يقول: في الرزق .

وأما قوله: ( ليبلوكم في ما آتاكم ) ، فإنه يعني: ليختبركم فيما خوَّلكم من فضله ومنحكم من رزقه, فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه، والعاصي؛ ومن المؤدِّي مما آتاه الحق الذي أمره بأدائه منه، والمفرِّط في أدائه .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 165 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « إن ربك » ، يا محمد، لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه، وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه, ولمن ابتلى منه فيما منحه من فضله وطَوْله, تولِّيًا وإدبارًا عنه, مع إنعامه عليه، وتمكينه إياه في الأرض, كما فعل بالقرون السالفة ( وإنه لغفور ) ، يقول: وإنه لساتر ذنوبَ مَنْ ابتلى منه إقبالا إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة, واختباره إياه بأمره ونهيه, فمغطٍّ عليه فيها، وتارك فضيحته بها في موقف الحساب ( رحيم ) بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه، إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه.

آخر تفسير سورة الأنعام

 

أعلى