فهرس السور

52 - تفسير القرطبي سورة الطور

التالي السابق

سورة الطور

مقدمة السورة

 

روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب. متفق عليه.

 

الآيات: 1 - 8 ( والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع )

 

قوله تعالى: « والطور » الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة ) قيل: فما الأجبل؟ قال: ( جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة ) وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب « التذكرة » قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.

قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في « البقرة » مستوفى.

 

قوله تعالى: « وكتاب مسطور » أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون » [ الواقعة:78 ] . وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن أخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره: « ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا » [ الإسراء: 13 ] وقوله: « وإذا الصحف نشرت » [ التكوير: 10 ] . وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه: « أولئك كتب في قلوبهم الإيمان » [ المجادلة: 22 ] .

قلت: وفي هذا القول تجوز؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: « في رق منشور » والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس:

فكأنما هي من تقادم عهدها رق أتيح كتابها مسطور

وأما الرق بالكسر فهو الملك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب.

 

قوله تعالى: « والبيت المعمور » قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ روى أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه ) ذكره الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في « الصحاح » : والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: ( ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم ) وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتيت بالبراق ) الحديث؛ وفيه: ( ثم عرج بنا إلى السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد - صلى الله عليه وسلم - قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ) . وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات. وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول ببت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله جل وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان؛ قال الله تعالى: « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود » [ الحح: 26 ] .

 

قوله تعالى: « والسقف المرفوع » يعني السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » [ الأنبياء: 32 ] . وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. « والبحر المسجور » قال مجاهد: الموقد؛ وقد جاء في الخبر: ( إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا ) . وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:

إذا شاء طالع سجورة ترى حولها النبع والساسما

يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وإذا البحار سجرت » [ التكوير: 6 ] أي أوقدت؛ سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته. وقال سعيد بن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: « والبجر المسجور » . « وإذا البحار سجرت » [ التكوير: 6 ] مخففة. وقال عبدالله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارع، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله: « وإذا البحار فجرت » [ الانفطار: 3 ] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح.

قلت: إليه يرجع معنى « فجرت » في أحد التأويلين؛ أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس.

 

قوله تعالى: « إن عذاب ربك لواقع » هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب « والطور » إلى قوله: « إن عذاب ربك لواقع. ما له من دافع » فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ « والطور » حتى بلغ « إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع » فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول « والطور » إلى أن قال له قل « إن عذاب ربك لواقع » إن كنت كاذبا؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.

الآية [ 9 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 9 - 16 ( يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون، يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، هذه النار التي كنتم بها تكذبون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « يوم تمور السماء مورا » العامل في يوم قوله: « واقع » أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:

كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل

وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:

وما زالت القتلى تمور دماؤها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:

... فوق مور معبد

والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:

على ظهر موار الملاط حصان

الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره؛ قاله ابن بحر. « وتسير الجبال سيرا » قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا؛ بيانه « وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب » [ النمل: 88 ] . وقد مضى هذا المعنى في « الكهف » . « فويل يومئذ للمكذبين » « ويل » كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة. « الذين هم في خوض يلعبون » أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب. وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في « التوبة » .

 

قوله تعالى: « يوم يدَعُّون » « يوم » بدل من يومئذ. و « يدعون » معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: « فذلك الذي يدع اليتيم » [ الماعون: 2 ] . وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع « يوم يدعون إلى نار جهنم دعا » بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: « هذه النار التي كنتم بها تكذبون » في الدنيا.

 

قوله تعالى: « أفسحر هذا » استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم: « أفسحر هذا » الذي ترون الآن بأعينكم « أم أنتم لا تبصرون » وقيل: « أم » بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. « اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا » أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. « سواء عليكم » أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ « سواء » خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: « سواء علينا أجزعنا أم صبرنا » [ إبراهيم: 21 ] . « إنما تجزون ما كنتم تعملون » .

 

الآيات: 17 - 20 ( إن المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين )

 

قوله تعالى: « إن المتقين في جنات ونعيم » لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا « فاكهين » أي ذوي فاكهة كثيرة؛ يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر؛ أي ذو لبن وتمر؛ قال:

وغررتني وزعمت أنـ ـك لابنٌ بالصيف تامر

أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره: « فكهين » بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره؛ يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في « الدخان » القول في هذا. « بما آتاهم » أي أعطاهم « ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم » « كلوا واشربوا » أي يقال لهم ذلك. « هنيئا بما كنتم تعملون » الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه « هنيئا » . وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم « هنيئا » فهو صفة في موضع المصدر. « هنيئا » : أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل: « هنيئا » أي لا تموتون؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء.

 

قوله تعالى: « متكئين على سرر » سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. « مصفوفة » قال ابن الأعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. « وزوجناهم بحور عين » أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل: « وزوجناهم بحور عين » أي قرناهم بهن؛ من قول الله تعالى: « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] أي وقرناءهم. وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين.

 

الآيات: 21 - 24 ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين، وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون، يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم، ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون )

 

قوله تعالى: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم » قرأ العامة « وأتبعتهم » بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو « وأتبعناهم » بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون؛ أعتبارا بقوله: « ألحقنا بهم » ليكون الكلام على نسق واحد. « ذريتهم » الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون « ذريتهم » على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون « ذريتهم » على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في « الناسخ والمنسوخ » له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقربهم عينه ) ثم قرأ « والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان » الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا يجب أن يكون؛ لأن ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان؛ قال المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: « بإيمان » في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير « بإيمان » من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: « بإيمان » حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون. وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إل الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء؛ فالأباء داخلون في اسم الذرية؛ كقوله تعالى: « وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون » [ يس: 41 ] . وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ) . وقالت خديجة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي: ( هما في النار ) فلما رأى الكراهية في وجهي قال: ( لو رأيت مكانهما لأبغضتهما ) قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: ( في الجنة ) ثم قال: ( إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار ) ثم قرأ « والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان » الآية.

 

قوله تعالى: « وما ألتناهم من عملهم من شيء » أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: « والذين أمنوا » . وقال ابن زيد: المعنى « وأتبعتهم ذريتهم بإيمان » ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل؛ فالهاء والميم على، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير « وما ألتناهم » بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة « آلتناهم » بالمد؛ قال ابن الأعرابي: الته يألته ألتا، وآلته يولته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ « الحجرات » .

 

قوله تعالى: « كل امرئ بما كسب رهين » قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: « كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أصحاب اليمين » [ المدثر: 38 ] . وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم.

 

قوله تعالى: « وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون » أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. « يتنازعون فيها كأسا » أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:

وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحضور ولا فيها بسوار

نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

وقال امرؤ القيس:

فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

وقد مضى هذا في « والصافات » . « لا لغو فيها » أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو « ولا تأثيم » ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل: « لا لغو فيها » أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله! « ولا تأثيم » أي ولا كذب؛ قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو: « لا لغو فيها ولا تأثيم » بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في « البقرة » عند قوله تعالى: « ولا خلة ولا شفاعة » [ البقرة: 254 ] والحمد لله.

 

قوله تعالى: « ويطوف عليهم غلمان لهم » أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب؛ ودليله: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب » [ الزخرف: 71 ] ، « يطاف عليهم بكأس من معين » [ الصافات: 45 ] . ثم قيل: هم الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم، فأقر الله تعالى بهم أعينهم. وقيل: إنهم من أخدمهم الله تعالى إياهم من أولاد غيرهم. وقيل: هم غلمان خلقوا في الجنة. قال الكلبي: لا يكبرون أبدا « كأنهم » في الحسن والبياض « لؤلؤ مكنون » في الصدف، والمكنون المصون. وقوله تعالى: « يطوف عليهم ولدان مخلدون » [ الواقعة: 17 ] . قيل: هم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة. وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم على نهاية النعيم. وعن عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف كلهم لبيك لبيك ) . وعن عبدالله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام كل غلام على عمل ليس عليه صاحبه ) . وعن الحسن أنهم قالوا: يا رسول الله إذا كان الخادم كاللؤلؤ فكيف يكون المخدوم؟ فقال: ( ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب ) . قال الكسائي: كننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى في الكن وفي النفس جميعا؛ تقول: كننت العلم وأكننته فهو مكنون ومكن. وكننت الجارية وأكننتها فهي مكنونة ومكنة.

 

الآيات: 25 - 28 ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم )

 

قوله تعالى: « وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون » قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة « يتساءلون » أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة؟ « قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين » أي قال كل مسؤول منهم لسائله: « إنا كنا قبل » أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. « فمن الله علينا » بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. « ووقانا عذاب السموم » قال الحسن: « السموم » اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر؛ قال الراجز:

اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه

 

قوله تعالى: « إنا كنا من قبل ندعوه » أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل: « ندعوه » أي نعبده. « إنه هو البر الرحيم » وقرأ نافع والكسائي « أنه » بفتح الهمزة؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و « البر » اللطيف؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج.

الآية [ 29 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 29 - 34 ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين، أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون، أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين )

 

قوله تعالى: « فذكر » أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. « فما أنت بنعمة ربك » يعني برسالة ربك « بكاهن » تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. « ولا مجنون » وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى « فما أنت بنعمة ربك » القسم؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل؛ أي برأك الله من ذلك.

 

قوله تعالى: « أم يقولون شاعر » أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح؛ يريد سيبويه أن « أم » في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث؛ كما قال:

أتهجر غانية أم تلم

فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال:

أم الحبل واه بها منجذم

فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. « نتربص به ريب المنون » قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي:

هم منعوا حمى الوقبي بضرب يؤلف بين أشتات المنون

أي المنايا؛ يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: « ريب » في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور « ريب المنون » يعني حوادث الأمور؛ وقال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها

وقال مجاهد: « ريب المنون » حوادث الدهر، والمنون هو الدهر؛ قال أبو ذؤيب:

أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقال الأعشى:

أأن رأت رجلا أعشى أضربه ريب المنون ودهر متبل خبل

قال الأصمعي: المنون والليل والنهار؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهر منون؛ لأنه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.

 

قوله تعالى: « قل تربصوا » أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. « فإني معكم من المتربصين » أي من المنتظرين بكم العذاب؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف.

 

قوله تعالى: « أم تأمرهم أحلامهم » أي عقولهم « بهذا » أي بالكذب عليك. « أم هم قوم طاغون » أي أم طغوا بغير عقول. وقيل: « أم » بمعنى بل؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: « أحلامهم » أي أذهانهم؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا رسول الله، ما أعقل فلانا النصراني! فقال: ( مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: « وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » [ الملك: 10 ] ) . وفي حديث ابن عمر: فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ( مه فإن العاقل من يعمل بطاعة الله ) ذكره الترمذي الحكيم أبو عبدالله بإسناده.

 

قوله تعالى: « أم يقولون تقوله » أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال:

ومنزلة في دار صدق وعبطة وما آقتال من حكم علي طبيب

فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. « بل لا يؤمنون » جحودا واستكبارا. « فليأتوا بحديث مثله » أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم « إن كانوا صادقين » في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري « فليأتوا بحديث مثله » بالإضافة. والهاء في « مثله » للنبي صلى الله عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن.

 

الآيات: 35 - 43 ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون، أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين، أم له البنات ولكم البنون، أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون، أم عندهم الغيب فهم يكتبون، أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون، أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون )

 

قوله تعالى: « أم خلقوا من غير شيء » « أم » صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء. قال ابن عباس: من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل: من غير أم ولا أب؛ فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة؛ ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى « من غير شيء » أي لغير شيء فـ « من » بمعنى اللام. « أم هم الخالقون » أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. « أم خلقوا السماوات والأرض » أي ليس الأمر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا « بل لا يوقنون » بالحق « أم عندهم خزائن ربك » أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس: خزائن ربك المطر والرزق. وقيل: مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة: النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا. وضرب المثل بالخزائن؛ لأن الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر؛ ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. « أم هم المسيطرون » قال ابن عباس: المسلطون الجبارون. وعنه أيضا: المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أم هم المتولون. عطاء: أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء: يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقال أبو عبيدة. وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ومتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر: « أم هم المسيطرون » أي هم الحفظة؛ مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه؛ فصار المسيطر ها هنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات: الصاد وبها قرأت العامة، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في « الصراط » [ الفاتحة: 6 ] .

 

قوله تعالى: « أم لهم سلم » أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا « يستمعون فيه » أي عليه الأخبار ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. « فليأت مستمعهم بسلطان مبين » أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك؛ قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته:

مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها بسلم غرز في مناخ يعاجله

وقال زهير:

ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم

وقال آخر:

تجنيت لي ذنبا وما إن جنيته لتتخذي عذرا إلى الهجر سلما

وقال ابن مقبل في الجمع:

لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا يبنى له في السموات السلاليم

الأحجاء النواحي مثل الأرجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى: أعناء البلاد، والأعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الأعرابي: واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر، وهم قوم من قبائل شتى. « يستمعون فيه » أي عليه؛ كقوله تعالى: « في جذوع النخل » [ طه: 71 ] أي عليها؛ قال الأخفش. وقال أبو عبيدة: يستمعون به. وقال الزجاج: أي ألهم كجبريل الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي.

 

قوله تعالى: « أم له البنات ولكم البنون » سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. « أم تسألهم أجرا » أي على تبليغ الرسالة. « فهم من مغرم مثقلون » أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به « مثقلون » مجهدون لما كلفتهم به.

 

قوله تعالى: « أم عندهم الغيب فهم يكتبون » أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل: أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أم القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة: لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى: « أم عندهم الغيب » حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يؤول إليه أمره. وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي: يكتبون يحكمون والكتاب الحكم؛ ومنه قوله تعالى: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » [ الأنعام: 54 ] أي حكم، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لأحكمن بينكم بكتاب الله ) أي بحكم الله.

 

قوله تعالى: « أم يريدون كيدا » أي مكرا بك في دار الندوة. « فالذين كفروا هم المكيدون » أي الممكور بهم « ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله » [ فاطر: 43 ] وذلك أنهم قتلوا ببدر. « أم لهم إله غير الله » يخلق ويرزق ويمنع. « سبحان الله عما يشركون » نزه نفسه أن يكون له شريك. قال الخليل: كل ما في سورة « والطور » من ذكر « أم » فكلمة استفهام وليس بعطف.

 

الآيات: 44 - 46 ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم، فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون، يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون )

 

قوله تعالى: « وإن يروا كسفا من السماء ساقطا » قال ذلك جوابا لقولهم: « فأسقط علينا كسفا من السماء » [ الشعراء: 187 ] ، وقولهم: « أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا » [ الإسراء: 92 ] فأعلم أنه لو فعل ذلك لقالوا « سحاب مركوم »

أي بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء؛ وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، ويقال في جمعها أيضا: كسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ كسفا جعله واحدا، ومن قرأ « كسفا » جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في « الإسراء » وغيرها والحمد لله.

 

قوله تعالى: « فذرهم » منسوخ بآية السيف. « حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون » بفتح الياء قراءة العامة، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء: هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة: يوم يموتون. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: يوم النفخة الأولى. وقيل: يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل: « يصعقون » بضم الياء من أصعقه الله. « يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا » أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا. « ولا هم ينصرون » من الله. و « يوم » منصوب على البدل من « يومهم الذي فيه يصعقون » .

 

الآيات: 47 - 49 ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم )

 

قوله تعالى: « وإن للذين ظلموا » أي كفروا « عذابا دون ذلك » قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. فـ « دون » بمعنى غير. وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » أن العذاب نازل بهم وقيل: « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ما يصيرون إليه.

 

قوله تعالى: « واصبر لحكم ربك » قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك؛ ثم نسخ بآية السيف. « فإنك بأعيننا » أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام: « ولتصنع على عيني » أي بحفظي وحراستي وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « وسبح بحمد ربك حين تقوم » اختلف في تأويل قوله: « حين تقوم » فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه؛ فيقول: سبحان الله وبحمده، أوسبحانك اللهم وبحمدك؛ فإن كان المجلس خيرا آزددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له؛ ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك ) قال: حديث حسن صحيح غريب. وفيه عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور ) قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري: وهذا فيه بعد؛ فإن قوله: « حين تقوم » لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله. وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفي هذا روايات مختلفات صحاح؛ منها حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعار في الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أودعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ) خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت؛ ومنه عار الظليم يعار عرارا وهو صوته؛ وبعضهم يقول: عر الظليم يعر عرارا،كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: ( اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات ولأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك ) متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم من وجهه؛ ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة « آل عمران » . وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال ( وجهت وجهي ) الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة « الأنعام » . وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ فقال: ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .

 

قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم » تقدم في « ق » مستوفى عند قوله تعالى: « ومن الليل فسبحه وإدبار السجود » [ ق: 49 ] . وأما « إدبار النجوم » فقال علي وابن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد: أن قوله: « وإدبار النجوم » يريد به صلاة الصبح وهو آختيار الطبري. وعن ابن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في « إدبار النجوم » قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في « ق » . وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع « وإدبار » بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب؛ وهو جمع دبر ودبر ودبر الأمر ودبره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب ) قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبدالله بن عبدالرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ) . تم تفسير سورة « والطور » والحمد لله.

 

أعلى