تفسير البغوي

80 - تفسير البغوي سورة عبس

التالي السابق

سورة عبس

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

عَبَسَ وَتَوَلَّى ( 1 ) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ( 2 )

( عَبَسَ ) كلح ( وَتَوَلَّى ) أعرض بوجهه. ( أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) [ أي: لأن جاءه الأعمى ] وهو ابن أم مكتوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بني لؤي، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأبيّ بن خلف، وأخاه أمية، يدعوهم إلى الله، يرجو إسلامهم، فقال ابن أم مكتوم: [ يا رسول الله ] أقرئني وعلمني مما علمك الله، فجعل يناديه ويكرر النداء، ولا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما أتباعه العميان والعبيد والسفلة، فعبس وجهه وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فأنـزل الله هذه الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما، قال أنس بن مالك: فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء .

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ( 3 ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ( 4 ) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ( 5 ) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ( 6 ) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ( 7 ) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ( 8 ) وَهُوَ يَخْشَى ( 9 ) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ( 10 ) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ( 11 ) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ( 12 ) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ( 13 )

( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح وما يتعلمه منك، وقال ابن زيد: يسلم. ( أَوْ يَذَّكَّرُ ) يتعظ ( فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) الموعظة قرأ عاصم: « فتنفعه » بنصب العين على جواب « لعل » بالفاء، وقراءة العامة بالرفع نسقا على قوله: « يذكر » . ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ) قال ابن عباس: عن الله وعن الإيمان بما له من المال. ( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) تتعرض له وتقبل عليه وتصغي إلى كلامه، وقرأ أهل الحجاز: « تصَّدَّى » بتشديد الصاد على الإدغام، أي: تتصدى، وقرأ الآخرون بتخفيف الصاد على الحذف. ( وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) لا يؤمن ولا يهتدي، إن عليك إلا البلاغ. ( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ) يمشي يعني: ابن أم مكتوم. ( وَهُوَ يَخْشَى ) الله عز وجل. ( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) تتشاغل وتعرض [ عنه ] ( كَلا ) زجر، أي لا تفعل بعدها مثلها، ( إِنَّهَا ) يعني هذه الموعظة. وقال مقاتل: آيات القرآن ( تَذْكِرَةٌ ) موعظة وتذكير للخلق. ( فَمَنْ شَاءَ ) من عباد الله ( ذَكَرَهُ ) أي اتعظ به. وقال مقاتل: فمن شاء الله، ذكره وفهمه، واتعظ بمشيئته وتفهيمه، والهاء في « ذكره » راجعة إلى القرآن والتنـزيل والوعظ. ثم أخبر عن جلالته عنده فقال ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) يعني اللوح المحفوظ. وقيل: كتب الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى: 18- 19 ) .

مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ( 14 ) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ( 15 ) كِرَامٍ بَرَرَةٍ ( 16 ) قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( 17 ) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ( 18 ) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( 19 ) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ( 20 ) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( 21 )

( مَرْفُوعَة ) رفيعة القدر عند الله عز وجل، وقيل: مرفوعة يعني في السماء السابعة. ( مُطَهَّرَةٍ ) لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة. ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) قال ابن عباس ومجاهد: كتبة، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، واحدهم سافر، يقال: سفرت أي كتبت. ومنه قيل [ للكاتب: سافر، و ] للكتاب: سِفْرٌ وجمعه: أسفار.

وقال الآخرون: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير، وهو الرسول، وسفير القوم الذي يسعى بينهم للصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم. ثم أثنى عليهم فقال: ( كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) أي: كرام على الله، بررة مطيعين، جمع بار. قوله عز وجل: ( قُتِلَ الإنْسَانُ ) أي لعن الكافر. قال مقاتل: نـزلت في عتبة بن أبي لهب ( مَا أَكْفَرَهُ ) ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده، على طريق التعجب، قال الزجاج: معناه: اعجبوا أنتم من كفره. وقال الكلبي ومقاتل: هو « ما » الاستفهام، يعني: أي شيء حمله على الكفر؟ ثمَ بيَّن من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال: ( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) لفظه استفهام ومعناه التقرير. ثم فسره فقال: ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أطوارًا: نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه، قال الكلبي: قدَّر خلقه، رأسه وعينيه ويديه ورجليه. ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) أي طريق خروجه من بطن أمه. قال السدي ومقاتل، والحسن ومجاهد: يعني طريق الحق والباطل، سهل له العلم به، كما قال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ( الإنسان- 3 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( البلد- 10 ) وقيل: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدَّره عليه. ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) جعل له قبرًا يوارى فيه. قال الفراء: جعله مقبورًا ولم يجعله ممن يلقى كالسباع والطيور. يقال: قبرت الميت إذا دفنته، وأقبره الله: أي صيَّره بحيث يقبر، وجعله ذا قبر، كما يقال: طردت فلانا والله أطرده أي صيره طريدًا .

ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ( 22 ) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ( 23 ) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( 24 ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ( 25 ) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ( 26 ) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ( 27 ) وَعِنَبًا وَقَضْبًا ( 28 ) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا ( 29 ) وَحَدَائِقَ غُلْبًا ( 30 ) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ( 31 )

( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أحياه بعد موته. ( كَلا ) ردًا عليه، أي: ليس كما يقول ويظن هذا الكافر، وقال الحسن: حقًا. ( لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) أي لم يفعل ما أمره [ الله به ] ولم يؤد ما فرض عليه، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال: ( فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) ( فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) كيف قدره ربه ودبره له وجعله سببًا لحياته. وقال مجاهد: إلى مدخله ومخرجه. ثم بين فقال: ( أَنَّا ) قرأ أهل [ الكوفة ] « أنا » [ بالفتح ] على تكرير الخافض، مجازه: فلينظر إلى أنا وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف. ( صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) يعني المطر. ( ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا ) بالنبات. ( فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ) يعني الحبوب التي يُتغذى بها. ( وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) وهو القت الرطب، سمي بذلك لأنه يقضب في كل الأيام أي يقطع. وقال الحسن: القضب: العلف للدواب. ( وَزَيْتُونًا ) وهو ما يعصر منه الزيت ( وَنَخْلا ) جمع نخلة. ( وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) غلاظ الأشجار، واحدها أغلب، ومنه قيل الغليظ الرقبة: أغلب. وقال مجاهد ومقاتل: الغلب: الملتفة الشجر بعضه في بعض، قال ابن عباس: طوالا. ( وَفَاكِهَةً ) يريد ألوان الفواكه ( وَأَبًّا ) يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس، مما يأكله الأنعام والدواب.

قال عكرمة: « الفاكهة » ما يأكله الناس، و « الأبُّ » ما يأكله الدواب. ومثله عن قتادة قال: الفاكهة لكم والأبُّ لأنعامكم.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أنبتت [ الأرض ] مما يأكل الناس والأنعام.

وروي عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله: « وفاكهة وأبًا » فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم .

وروى ابن شهاب عن أنس أنه سمع عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال: كل هذا قد عرفنا فما الأبُّ؟ ثم رفض عصًا كانت بيده وقال: هذا [ والله ] لعَمْرُ الله التكلف، وما عليك يا ابن [ أم ] عمر أن لا تدري ما الأبُّ، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا [ تبين ] فدعوه .

مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ( 32 ) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ( 33 ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ( 34 ) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ( 35 ) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ( 36 )

( مَتَاعًا لَكُمْ ) منفعة لكم يعني الفاكهة ( وَلأنْعَامِكُمْ ) يعني العشب. ثم ذكر القيامة فقال: ( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ) يعني صيحة القيامة سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في الأسماع حتى تكاد تصمها. ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه.

حكي عن قتادة قال في هذه الآية « يوم يفر المرء من أخيه [ وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ] » قال: يفر هابيل من قابيل، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ولوط عليه السلام من صاحبته، ونوح عليه السلام من ابنه .

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( 37 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ( 38 ) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ( 39 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ( 40 ) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ( 41 )

( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) يشغله عن شأن غيره.

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا أبي، عن محمد بن أبي عياش، عن عطاء بن يسار، عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يبعث الناس حفاةً عراة غُرْلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان، فقلت: يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: قد شُغِلَ الناس، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) مشرقة مضيئة. ( ضَاحِكَة ) بالسرور ( مُسْتَبْشِرَةٌ ) فرحة بما نالت من كرامة الله عز وجل. ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) سواد وكآبة الهم [ والحزن ] ( تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) تعلوها وتغشاها ظلمة وكسوف. قال ابن عباس: تغشاها ذلة. قال ابن زيد: الفرق بين الغبرة والقترة: أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض.

أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( 42 )

( أُولَئِكَ ) الذين يصنع بهم هذا، ( هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) جمع الكافر والفاجر.

 

أعلى