تفسير البغوي

47 - تفسير البغوي سورة محمد

التالي السابق

سورة محمد

مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 1 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ( 3 )

( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) أبطلها فلم يقبلها [ وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام وصلة الأرحام ] قال الضحاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم, وجعل الدائرة عليهم .

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نـزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) قال سفيان الثوري: يعني لم يخالفوه في شيء ( وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: « الذين كفروا وصدوا » : مشركو مكة, « والذين آمنوا وعملوا الصالحات » : الأنصار. ( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) حالهم, قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عصمهم أيام حياتهم, يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا.

( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ) الشيطان, ( وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني القرآن ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) أشكالهم, قال الزجاج: كذلك يبين الله أمثال حسنات المؤمنين, وإضلال أعمال الكافرين.

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 4 )

( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) نصب على الإغراء, أي فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم. ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ) بالغتم في القتل وقهرتموهم, ( فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ) يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم, والأسر يكون بعد المبالغة في القتل, كما قال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ( الأنفال- 67 ) , ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) يعني: بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مَنًّا بإطلاقهم من غير عوض, وإما أن تفادوهم فداء.

واختلف العلماء في حكم هذه الآية, فقال قوم: هي منسوخة بقوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ( الأنفال- 57 ) , وبقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ( التوبة- 5 ) . وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج, وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي, قالوا: لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء.

وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة, والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم, فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال, أو بأسارى المسلمين، وإليه ذهب ابن عمر, وبه قال الحسن, وعطاء, وأكثر الصحابة والعلماء, وهو قول الثوري, والشافعي, وأحمد وإسحاق.

قال ابن عباس: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنـزل الله عز وجل في الأسارى: « فإما منا بعد وإما فداء » .

وهذا هو الأصح والاختيار, لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده:

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, حدثنا محمد بن يوسف, [ حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبد الله بن يوسف ] حدثنا الليث, حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد, فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال, فربطوه بسارية [ من سواري ] . المسجد, فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم, وإن تنعم تنعم على شاكر, وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت, حتى كان الغد, فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر, [ وإن تقتل تقتل ذا دم, وإن كنت تريد المال سل تعط ] فتركه حتى كان بعد الغد, فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك, فقال: « أطلقوا ثمامة » , فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل, ثم دخل المسجد, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك, فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ, والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك, فأصبح دينك أحب الدين إليّ, والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ, وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة, فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر, فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب, أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال, حدثنا أبو العباس الأصم, أخبرنا الربيع, أخبرنا الشافعي, أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي, عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي المهلب, عن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه, وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.

قوله عز وجل: ( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) أي أثقالها وأحمالها, يعني حتى تضع أهل الحرب السلاح, فيمسكوا عن الحرب.

وأصل « الوزر » : ما يحتمل الإنسان, فسمى الأسلحة أوزارًا لأنها تحمل.

وقيل: « الحرب » هم المحاربون, كالشرب والركب.

وقيل: « الأوزار » الآثام, ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها, بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله.

وقيل: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا, ومعنى الآية: أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام, ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال, وذلك عند نـزول عيسى بن مريم عليهما السلام, وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال » .

وقال الكلبي: حتى يسلموا أو يسالموا.

وقال الفراء: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.

( ذَلِك ) الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار, ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال, ( وَلَكِن ) أمركم بالقتال, ( لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكافرين إلى العذاب, ( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) قرأ أهل البصرة وحفص: « قتلوا » بضم القاف وكسر التاء خفيف, يعني الشهداء, وقرأ الآخرون: « قاتلوا » بالألف من المقاتلة, وهم المجاهدون, ( فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ) قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت يوم أحد, وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل.

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ( 5 ) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ( 6 )

( سَيَهْدِيهِم ) أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور, وفي الآخرة إلى الدرجات, ( وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ) يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم.

( وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) أي بَيَّن لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطؤون ولا يستدلون عليها أحدًا كأنهم سكانها منذ خلقوا, فيكون المؤمن أهدى إلى درجته, وزوجته وخدمه منه إلى منـزله وأهله في الدنيا, هذا قول أكثر المفسرين.

وروى عطاء عن ابن عباس: « عرفها لهم » أي طيبها لهم, من العَرْف, وهو الريح الطيبة, وطعام معرف أي: مطيَّب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( 7 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 8 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 9 ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( 10 ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ( 11 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ ) أي دينه ورسوله, ( يَنْصُرْكُمْ ) على عدوكم, ( وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) عند القتال.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ ) قال ابن عباس: بُعْدًا لهم. وقال أبو العالية: سقوطًا لهم. وقال الضحاك: خيبة لهم. وقال ابن زيد: شقاءً لهم. قال الفراء: هو نصب على المصدر, على سبيل الدعاء. وقيل: في الدنيا العثرة, وفي الآخرة التردي في النار. ويقال للعاثر: تعسًا إذا لم يريدوا قيامه, وضده لعًا إذا أرادوا قيامه , ( وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ) لأنها كانت في طاعة الشيطان.

( ذَلِكَ ) التعس والإضلال, ( بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) .

ثم خوف الكفار فقال: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) أي أهلكهم, ( وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) إن لم يؤمنوا, يتوعد مشركي مكة.

( ذَلِكَ ) الذي ذكرت, ( بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) وليهم وناصرهم, ( وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) لا ناصر لهم. ثم ذكر مآل الفريقين فقال:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ( 12 )

( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ) في الدنيا, ( وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ ) ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم, وهم لاهون ساهون عما في غد, قيل: المؤمن في الدنيا يتزود, والمنافق يتزين, والكافر يتمتع, ( وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ( 13 ) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 14 ) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 )

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ) أي أخرجك أهلها, قال ابن عباس: كم رجال هم أشد من أهل مكة؟ يدل عليه قوله: ( أَهْلَكْنَاهُمْ ) ولم يقل: أهلكناها, ( فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) قال ابن عباس: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: « أنت أحبُّ بلاد الله إلى الله وأحبُّ بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك » فأنـزل الله هذه الآية .

( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) يقين من دينه, محمد والمؤمنون, ( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) يعني عبادة الأوثان, وهم أبو جهل والمشركون.

( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) أي صفتها, ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) آجن متغير منتن, قرأ ابن كثير « آسن » بالقصر, والآخرون بالمد, وهما لغتان يقال: أسن الماء يأسن أسنًا, وأجن يأجن, أسونًا وأجونًا, إذا تَغَّير, ( وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ ) [ لذيذة ] ، ( لِلشَّارِبِينَ ) لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي, ( وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, أخبرنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر, عن عبيد الله بن عمر, عن خبيب بن عبد الرحمن, عن حفص بن عاصم, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة » .

قال كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة, ونهر الفرات نهر لبنهم, ونهر مصر نهر خمرهم, ونهر سيحان نهر عسلهم, وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.

( وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار, ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم فإذا شربوه, ( فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) فخرجت من أدبارهم, والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 16 ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( 17 ) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( 18 )

( وَمِنْهُم ) يعني من هؤلاء الكفار, ( مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) وهم المنافقون, يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه, تهاونًا به وتغافلا ( حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) يعني فإذا خرجوا من عندك, ( قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) من الصحابة: ( مَاذَا قَالَ ) محمد, ( آنِفًا ) ؟ يعني الآن, هو من الائتناف ويقال: ائتنفت الأمر أي ابتدأته وأنف الشيء أوله.

قال مقاتل: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين, فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) فلم يؤمنوا, ( وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ) في الكفر والنفاق.

( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا ) يعني المؤمنين, ( زَادَهُم ) ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم, ( هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) وفقهم للعمل بما أمرهم به, وهو التقوى, قال سعيد بن جبير: وآتاهم ثواب تقواهم. ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً )

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي, أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت, حدثنا أبو إسحاق الهاشمي, حدثنا الحسين بن الحسن, حدثنا ابن المبارك, أخبرنا معمر بن راشد, عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا, أو فقرًا منسيًا, أو مرضًا مفسدًا, أو هرمًا مُفَنِّدًا, أو موتًا مجهزًا, أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر, أو الساعة والساعة أدهى وأمر » .

قوله عز وجل: ( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) أي أماراتها وعلاماتها, واحدها: شرط, وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن المقدام, حدثنا فضل بن سليمان, حدثنا أبو حازم, حدثنا سهل بن سعد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا, بالوسطى والتي تلي الإبهام: « بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا حفص بن عمر الحوضي, حدثنا هشام, عن قتادة, عن أنس قال: لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثنكم به أحد غيري, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم, ويكثر الجهل, ويكثر الزنا, ويكثر شرب الخمر, ويقل الرجال ويكثر النساء, حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا محمد بن سنان, حدثنا فليح, حدثني هلال بن علي, عن عطاء بن يسار, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث, فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه, قال: « أين السائل عن الساعة؟ » قال: ها أنا يا رسول الله, قال: « إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة » . قال: كيف إضاعتها؟ قال: « إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة » .

قوله عز وجل: ( فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ) فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة؟ نظيره: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ( الفجر- 23 ) .

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( 19 )

قوله عز وجل: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ) قيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره, وقيل: معناه فاثبت عليه. وقال الحسين بن الفضل: فازدد علمًا على علمك. وقال أبو العالية وابن عيينة: هو متصل بما قبله معناه: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله. وقيل: فاعلم أنه لا إله إلا الله, أن الممالك تبطل عند قيامها, فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله, ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستنَّ به أمته.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أبو منصور السمعاني, أخبرنا أبو جعفر الرياني, حدثنا حميد بن زنجويه, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, عن ثابت, عن أبي بردة, عن الأغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه ليغان على قلبي, وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة » .

قوله عز وجل: ( وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم, ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) قال ابن عباس والضحاك: « متقلبكم » متصرفكم [ ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا, « ومثواكم » مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار.

وقال مقاتل وابن جرير: « متقلبكم » منصرفكم ] لأشغالكم بالنهار, « ومثواكم » مأواكم إلى مضاجعكم بالليل.

وقال عكرمة: « متقلبكم » من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. « ومثواكم » مقامكم في الأرض.

وقال ابن كيسان: « متقلبكم » من ظهر إلى بطن, « ومثواكم » مقامكم في القبور.

والمعنى: أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها.

 

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ( 21 )

( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) حرصًا منهم على الجهاد: ( لَوْلا نـزلَتْ سُورَةٌ ) تأمرنا بالجهاد, ( فَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ) قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة, وهي أشد القرآن على المنافقين, ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يعني المنافقين, ( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) شزرًا بتحديق شديد, كراهية منهم للجهاد وجبنًا عن لقاء العدو, ( نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) كما ينظر الشاخص بصره عند الموت, ( فَأَوْلَى لَهُمْ ) وعيد وتهديد, ومعنى قولهم في التهديد: « أولى لك » أي: وَلِيَك وقاربك ما تكره.

ثم قال: ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) وهذا ابتداء محذوف الخبر, تقديره: طاعة, وقول معروف أمثل, أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفًا كان أمثل وأحسن.

وقيل: مجازه: يقول هؤلاء المنافقون قبل نـزول السورة المحكمة: طاعة, رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة, « وقول معروف » : حسن.

وقيل: هو متصل بما قبله, واللام في قوله: « لهم » بمعنى الباء, مجازه: فأولى بهم طاعة الله ورسوله, وقول معروف بالإجابة, أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم, وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء.

( فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ ) أي جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزومًا, ( فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ ) في إظهار الإيمان والطاعة, ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) وقيل: جواب « إذا » محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيرًا لهم.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( 22 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( 23 ) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 24 ) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ( 25 )

( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ) فلعلكم, ( إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه, ( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء, وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام. ( وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) قرأ يعقوب: « وتقطعوا » بفتح التاء خفيف, والآخرون بالتشديد و « تقطعوا » من التقطيع, على التكثير, لأجل الأرحام, قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام, وقطعوا الأرحام, وعصوا الرحمن؟ وقال بعضهم: هو من الولاية. وقال المسيب بن شريك والفراء: يقول فهل عسيتم إن وليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم, نـزلت في بني أمية وبني هاشم ، يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب « توليتم » بضم التاء والواو وكسر اللام, يقول: إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وعاونتموهم.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) عن الحق.

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه, و « أم » بمعنى « بل » .

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي, أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي, أنبأني عقيل بن محمد, أخبرنا المعافى بن زكريا, أخبرنا محمد بن جرير, حدثنا بشر, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » فقال شاب من أهل اليمن: بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها, فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به.

( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ) رجعوا كفارًا, ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم.

وقال ابن عباس, والضحاك, والسدي: هم المنافقون .

( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ) زين لهم القبيح, ( وَأَمْلَى لَهُمْ ) قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله, وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك, وتروى هذه القراءة عن يعقوب, وقرأ الآخرون: « وأملى لهم » بفتح الألف, أي: وأملى الشيطان لهم, مد لهم في الأمل.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( 26 ) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( 27 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 28 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ( 29 )

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ) يعني المنافقين أو اليهود, ( قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نـزلَ اللَّهُ ) وهم المشركون, ( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ ) في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد, وكانوا يقولونه سرًا فأخبر الله تعالى عنهم, ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ) قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر: بكسر الهمزة, على المصدر, والباقون بفتحها على جمع السر.

( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ ) الضرب, ( بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ) قال ابن عباس: بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم, ( وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ) كرهوا ما فيه رضوان الله, وهو الطاعة والإيمان. ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) .

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يعني المنافقين , ( أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ) لن يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرفوا نفاقهم, واحدها: « ضغن » , قال ابن عباس: حسدهم.

 

وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 )

( وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ ) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم, ( فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ ) بعلامتهم, قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها.

قال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نـزول هذه الآية شيء من المنافقين, كان يعرفهم بسيماهم .

( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) في معناه ومقصده.

« واللحن » : وجهان صواب وخطأ, فالفعل من الصواب: لَحِنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لَحِنٌ إذا فطن للشيء, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض » .

والفعل من الخطأ لَحَنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لاحِنٌ. والأصل فيه: إزالة الكلام عن جهته.

والمعنى: إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم, فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله, ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته.

( وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) .

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 )

( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ) ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال, ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) أي: علم الوجود, يريد: حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره, ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال, ولا يصبر على الجهاد.

وقرأ أبو بكر عن عاصم: « وليبلونكم حتى يعلم » , ويبلو بالياء فيهن, لقوله تعالى: [ « والله يعلم أعمالكم » , وقرأ الآخرون بالنون فيهن, لقوله تعالى ] وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ , وقرأ يعقوب: « ونبلوا » ساكنة الواو, ردًا على قوله: « ولنبلونكم » وقرأ الآخرون بالفتح ردا على قوله: « حتى نعلم » .

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ) إنما يضرون أنفسهم, ( وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ) فلا يرون لها ثوابًا في الآخرة, قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم المطعمون يوم بدر, نظيرها قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ( الأنفال- 36 ) الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( 34 ) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 ) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) قال عطاء: بالشك والنفاق, وقال الكلبي: بالرياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر.

وقال أبو العالية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل, فنـزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعده أن تحبط الأعمال.

وقال مقاتل: لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم, نـزلت في بني أسد, وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) قيل: هم أصحاب القليب. وحكمها عام.

( فَلا تَهِنُوا ) لا تضعفوا ( وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء, منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح, وأمرهم بحربهم حتى يسلموا, ( وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ ) الغالبون, قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات, ( وَاللَّهُ مَعَكُمْ ) بالعون والنصرة, ( وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم, يقال: وتره يتره وترًا وَتِرَةً: إذا نقص حقه, قال ابن عباس, وقتادة, ومقاتل، والضحاك: لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها. ثم حض على طلب الآخرة فقال:

( إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) باطل وغرور, ( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا ) الفواحش, ( يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ) جزاء أعمالكم في الآخرة, ( وَلا يَسْأَلْكُمْ ) ربكم, ( أَمْوَالَكُمْ ) لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة, نظيره قوله: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ( الذاريات- 57 ) , وقيل: لا يسألكم محمد أموالكم, نظيره: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان- 57 ) .

وقيل: معنى الآية: لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات, إنما يسألانكم غيضًا من فيض, ربع العشر فطيبوا بها نفسًا. وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة, يدل عليه سياق الآية:

إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ( 38 )

( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ ) أي يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها, يقال: أحفى فلان فلانا إذا جهده, وألحف عليه بالمسألة.

( تَبْخَلُوا ) بها فلا تعطوها.

( وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ) بغضكم وعداوتكم, قال قتادة: علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان. ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) يعني إخراج ما فرض الله عليكم, ( فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) بما فرض عليه من الزكاة, ( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ ) عن صدقاتكم وطاعتكم, ( وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ) إليه وإلى ما عنده من الخير. ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم.

قال الكلبي: هم كندة والنخع, وقال الحسن: هم العجم, وقال عكرمة: فارس والروم.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني, أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر, حدثنا إسحاق النجيبي المصري المعروف بابن النحاس, أخبرنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش, حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثنا مسلم بن خالد, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: « وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم » , قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: « هذا وقومه, ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس » .

 

 

أعلى