تفسير البغوي

28 - تفسير البغوي سورة القصص

التالي السابق

سورة القصص

 

مكية إلا قوله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ وفيها آية نـزلت بين مكة والمدينة ، وهي قوله عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ .

بسم الله الرحمن الرحيم

طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 )

( طسم )

( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) ( نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ) بالصدقُ ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يصدقون بالقرآن.

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا ) استكبر وتجَّبر وتعظَّم ( فِي الأرْضِ ) أرض مصرُ ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) فِرَِقًا وأصنافًا في الخدمة والتسخيرُ ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) أراد بالطائفة: بني إسرائيلُ ثم فسّر الاستضعاف فقال: ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) سّمى هذا استضعافًا لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهمُ ( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( 5 )

( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ ) يعني: بني إسرائيل، ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) قادة في الخير يقتدى بهم. وقال قتادة: ولاة وملوكًا، دليله: قوله عز وجل: وجعلكم ملوكًا ( المائدة- 20 ) ، وقال مجاهد: دعاة إلى الخير. ( وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) يعني: أملاك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم.

 

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( 6 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 7 )

( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ ) نوطِّن لهم في أرض مصر والشام، ونجعلها لهم مكانًا يستقرون فيه، ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا ) قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي: « ويرى » بالياء وفتحها، ( فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا ) مرفوعات على أن الفعل لهم، وقرأ الآخرون بالنون وضمها، وكسر الراء، ونصب الياء ونصب ما بعده، بوقوع الفعل عليه، ( مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) والحذر هو التوقي من الضرر، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على وَجَلٍ منه، فأراهم الله ما كانوا يحذرون.

( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ) وحي إلهام لا وحي نبوة، قال قتادة: قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوخابذ بنت لاوى بن يعقوب، ( أَنْ أَرْضِعِيهِ ) واختلفوا في مدة الرضاع، قيل: ثمانية أشهر. وقيل: أربعة أشهر. وقيل: ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها، وهو لا يبكي ولا يتحرك ، ( فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ ) يعني: من الذبح، ( فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) واليم: البحر، وأراد هاهنا النيل، ( وَلا تَخَافِي ) قيل: لا تخافي عليه من الغرق، وقيل: من الضيعة، ( وَلا تَحْزَنِي ) على فراقه، ( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال . إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر، استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهو عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم على يد نبيه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها، وكانت قابلةٌ من القوابل التي وكلهن فرعون بحُبَالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى، فلما ضرب بها الطلق أرسلت إليها فقالت: قد نـزل بي ما نـزل، فلينفعني حبك إيّاي اليوم، قالت: فعالجت قبالتها، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نورٌ بين عيني موسى، فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى قلبها. ثم قالت لها: يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن رأيي قتل مولودك، ولكن وجدت لابنك هذا حبًا ما وجدت حب شيء مثل حبه، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفَّتْ موسى في خرقة، فوضعته في التنور وهو مسجور، وطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع.

قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن، فقالوا لها: ما أدخل عليك القابلة؟ قالت: هي مصافية لي فدخلت علي زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ قالت لا أدري، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه بردًا وسلامًا، فاحتملته قال: ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله في نفسها أن تتخذ له تابوتًا ثم تقذف التابوت في اليمِّ وهو النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتًا صغيرًا، فقال لها النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: ابن لي أخبئه في التابوت، وكرهت الكذب، قال ولم تقل: أخشى عليه كيد فرعون، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى، فلما همَّ بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه فضربوه وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم، فانطلق أيضًا يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئًا، فضربوه وأخرجوه، فوقع في واد يهوى فيه حيران، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيث ما كان، فعرف الله منه الصدق فردّ عليه لسانه وبصره فخر لله ساجدًا، فقال: يا رب دلَّني على هذا العبد الصالح، فدلَّه الله عليه، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه، وعلم أن ذلك من الله عز وجل. وقال وهب بن منبه: لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتشن النساء تفتيشا لم يفتشن قبل ذلك مثله ، وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها، ولم يتغير لونها، ولم يظهر لبنها، وكانت القوابل لا تتعرض لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم، فأوحى الله إليها « أن أرضعيه فإذا خفت عليه » الآية، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها، لا يبكي ولا يتحرك، فلما خافت عليه عملت تابوتا له مطبقا ثم ألقته في البحر ليلا.

قال ابن عباس وغيره: وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون، وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها، فقالوا له: أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ايتوني به، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده، وإذا نور بين عينيه، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبنا، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية، وأحبه فرعون وعطف عليه، وأقبلت بنت فرعون، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله، فهم فرعون بقتله، قالت آسية: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها » ، فقيل لآسية سميه فقالت: سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء، وسى هو الشجر ، فذلك قوله عز وجل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( 8 ) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 9 )

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) والالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب، ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) وهذه اللام تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك، قرأ حمزة والكسائي: « حُزْنًا » بضم الحاء وسكون الزاي، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي، وهما لغتان، ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) عاصين . آثمين.

قوله تعالى: ( وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ) قال وهب: لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك، وقال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم، قالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي وذلك، ( لا تَقْتُلُوهُ ) وروي أنها قالت له: إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيلُ ( عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أن هلاكهم على يديه، فاستحياه فرعون، وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته: عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه، قال وهب قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية: عسى أن ينفعنا، لنفعه الله، ولكنه أبى، للشقاء الذي كتبه الله عليه .

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 10 ) وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 11 )

وقوله تعالى: ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا ) أي: خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه، وهذا قول أكثر المفسرين . وقال الحسن: « فارغا » أي: ناسيا للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، فجاءها الشيطان فقال: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر، وأغرقته، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت: إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: « فارغا » أي: فارغا من الحزن، لعلمها بصدق وعد الله تعالى، وأنكر القتيـبـي هذا، وقال: كيف يكون هذا والله تعالى يقول: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ؟ والأول أصح.

قول الله عز وجل: ( إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) قيل الهاء في « به » راجعة إلى موسى، أي: كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها. وقال عكرمة عن ابن عباس: كادت تقول: وابناه. وقال مقاتل: لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها. وقال الكلبي: كادت تظهر أنه ابنها، وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب: موسى بن فرعون، فشق عليها فكادت تقول: بل هو ابني. وقال بعضهم: الهاء عائدة إلى الوحي أي: كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يرده إليها . ( لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ) بالعصمة والصبر والتثبيت، ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) المصدقين لوعد الله حين قال لها: ( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ )

( وَقَالَتْ لأخْتِهِ ) أي: لمريم أخت موسى: ( قُصِّيه ) اتبعي أثره حتى تعلمي خبره، ( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) أي: عن بعد، وفي القصة أنها كانت تمشي جانبا وتنظر اختلاسا تري أنها لا تنظره، ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أنها أخته وأنها ترقبه، قال ابن عباس: إن امرأة فرعون كل همها من الدنيا أن تجد له مرضعة، فكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها، فذلك قوله عز وجل: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ( 12 ) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )

( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ) والمراد من التحريم المنع، والمراضع: جمع المرضع، ( مِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل مجيء أم موسى، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم: هل أدلكم؟ وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا ويصيح وهم في طلب مرضعة له.

( فَقَالَت ) يعني أخت موسى، ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ) أي: يضمنونه ( لَكُمُ ) ويرضعونه، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيرا ترضعه، ( وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ) والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد، قالوا: نعم فأتينا بها. قال ابن جريج والسدي: لما قالت أخت موسى: « وهم له ناصحون » أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه، وقلت هم للملك ناصحون. وقيل: إنها قالت: إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به. وقيل إنها لما قالت: « هل أدلكم على أهل بيت » قالوا لها: من؟ قالت: أميُ قالوا: ولأمك ابن؟ قالت: نعم هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها، قالوا: صدقت، فأتينا بها، فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها، وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريًا. قال السدي: كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى: ( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا )

( فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ) برد موسى إليها، ( وَلا تَحْزَنْ ) أي: ولئلا تحزن، ( وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) برده إليها، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أن الله وعدها رده إليها.

 

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 14 )

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) قال الكلبي: الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. [ قال مجاهد وغيره: ثلاث وثلاثون سنة، ( وَاسْتَوَى ) أي: بلغ أربعين سنة ] ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقيل: استوى انتهى شبابه ( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) أي: الفقه والعقل والعلم في الدين، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا، ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ( 15 )

قوله تعالى: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ) يعني: دخل موسى المدينة. قال السدي: هي مدينة « منف » من أرض مصر. وقال مقاتل: كانت قرية « حابين » على رأس فرسخين من مصر. وقيل: مدينة « عين الشمس » ، ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة. وقال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء. واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت؛ قال السدي: وذلك أن موسى عليه السلام كان يسمى ابن فرعون، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه، فركب فرعون يوما وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض « منف » فدخلها نصف النهار، وليس في طرفها أحد، فذلك قوله عز وجل: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) قال ابن إسحاق: كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخيفا، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها. وقال ابن زيد: لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره، فأراد فرعون قتله، قالت امرأته: هو صغير، فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها، يعني: عن ذكر موسى، أي: من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به .

وروي عن علي في قوله: « حين غفلة » كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم. ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) يختصمان ويتنازعان، ( هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) بني إسرائيل، ( وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) من القبط، قيل: الذي كان من شيعته السامري، والذي من عدوه من القبط، قيل: طباخ فرعون اسمه فليثون. وقيل: « هذا من شيعته وهذا من عدوه » أي: هذا مؤمن وهذا كافر، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى، لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم، فوجد موسى رجلان يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، والاستغاثة: طلب الغوث، فغضب موسى واشتد غضبه؛ لأنه تناوله وهو يعلم منـزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى، فقال للفرعوني: خل سبيله، فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فنازعه، فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك، وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش، ( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) وقرأ ابن مسعود: « فلكزه موسى » ، ومعناهما واحد، وهو الضرب بجمع الكف. وقيل: « الوكز » الضرب في الصدر و « اللكز » في الظهر. وقال الفراء: معناهما واحد، وهو الدفع، قال أبو عبيدة: الوكز الدفع بأطراف الأصابع، وفي بعض التفاسير: عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره، ( فَقَضَى عَلَيْهِ ) أي: فقتله وفرغ من أمره، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه، فندم موسى عليه السلام، ولم يكن قصده القتل، فدفنه في الرمل، ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) أي: بين الضلالة.

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 16 ) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ( 17 )

( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) بقتل القبطي من غير أمر، ( فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )

( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) بالمغفرة، ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا ) عونا، ( لِلْمُجْرِمِينَ ) قال ابن عباس: للكافرين، وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا، وهو قول مقاتل، قال قتادة: لن أعين بعدها على خطيئة، قال ابن عباس: لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني.

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ( 18 ) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( 19 ) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20 )

( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ ) أي: في المدينة التي قتل فيها القبطي، ( خَائِفًا ) من قتله القبطي، ( يَتَرَقَّبُ ) ينتظر سوءا، والترقب: انتظار المكروه، قال الكلبي: ينتظر متى يؤخذ به، ( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) يستغيثه ويصيح به من بُعْدٍ. قال ابن عباس: أُتي فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا، فقال: ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه، فلا يستقيم أن يقضي بغير بينة، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني فصادف موسى، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي، ( قَالَ لَهُ مُوسَى ) للإسرائيلي: ( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) ظاهر الغواية قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه؟ وقيل: إنما قال موسى للفرعوني: إنك لغوي مبين بظلمك، والأول أصوب، وعليه الأكثرون أنه قال ذلك للإسرائيلي.

( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا ) وذلك أن موسى أدركته الرقة بالإسرائيلي فمد يده ليبطش بالفرعوني، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه وسمع قوله: إنك لغوي مبين، ( قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ ) ما تريد، ( إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ ) بالقتل ظلما، ( وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى هوالذي قتل ذلك الفرعوني، فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك، وأمر فرعون بقتل موسى. قال ابن عباس: فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم.

( وَجَاءَ رَجُلٌ ) من شيعة موسى، ( مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) أي: من آخرها، قال أكثر أهل التأويل: اسمه « حزبيل » مؤمن من آل فرعون، وقيل: اسمه « شمعون » ، وقيل: « شمعان » ، ( يَسْعَى ) أي: يسرع في مشيه، فأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذروه حتى أخذ طريقا آخر، ( قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ) يعني: أشراف قوم فرعون يتشاورون فيك، ( لِيَقْتُلُوك ) قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضا بقتلك، ( فَاخْرُجْ ) من المدينة، ( إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) في الأمر لك بالخروج.

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 21 )

( فَخَرَجَ مِنْهَا ) موسى، ( خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) أي: ينتظر الطلب، ( قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الكافرين، وفي القصة: أن فرعون بعث في طلبه حين أخبر بهربه فقال اركبوا ثنيات الطريق فإنه لا يعرف كيف الطريق.

 

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 22 ) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ( 23 )

( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ ) أي: قصد نحوها ماضيا إليها، يقال: داره تلقاء دار فلان، إذا كانت محاذيتها، وأصله من اللقاء، قال الزجاج: يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها، ومدين هو مدين بن إبراهيم، سميت البلدة باسمه، وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر، ( قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي: قصد الطريق إلى مدين، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها قبل، فلما دعا جاءه ملك بيده عنـزة فانطلق به إلى مدين. قال المفسرون: خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل، حتى يرى خضرته في بطنه، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس: وهو أول ابتلاء من الله عز وجل لموسى عليه السلام.

( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ ) وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم، ( وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً ) جماعة ( مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) مواشيهم، ( وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ ) يعني: سوى الجماعة، ( امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ ) يعني: تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهم البئر، قال الحسن: تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس، وقال قتادة: تكفان الناس عن أغنامهما. وقيل: تمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب. والقول الأول أصوبها، لما بعده، وهو قوله: ( قَالَ ) يعني: موسى للمرأتين، ( مَا خَطْبُكُمَا ) ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس؟ ( قَالَتَا لا نَسْقِي ) أغنامنا، ( حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ) قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وابن عامر: « يصدر » بفتح الياء وضم الدال على اللزوم، أي: حتى يرجع الرعاء عن الماء، وقرأ الآخرون: بضم الياء وكسر الدال، أي: حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء، و « الرعاء » جمع راع، مثل: تاجر وتجار. ومعنى الآية: لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء، لأنا امرأتان لا نطيق أن نسقي، ولا نستطيع أن نـزاحم الرجال، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض.

( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) لا يقدر أن يسقي مواشيه، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم. واختلفوا في اسم أبيهما، فقال مجاهد، والضحاك، والسدي والحسن: هو شعيب النبي عليه السلام. وقال وهب بن منبه، وسعيد بن جبير: هو يثرون بن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره، فدفن بين المقام وزمزم. وقيل: رجل ممن آمن بشعيب قالوا: فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس.

وقال ابن إسحاق: إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر، فسقى غنم المرأتين. ويروى: أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر، فجاء موسى ورفع الحجر وحده، وسقى غنم المرأتين. ويقال: إنه نـزع ذنوبا واحدا ودعا فيه بالبركة، فروى منه جميع الغنم ، فذلك قوله: فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ

فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( 24 ) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 25 )

( فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ) ظل شجرة، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع، ( فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ ) طعام، ( فَقِير ) قال أهل اللغة اللام بمعنى « إلى » ، يقال: هو فقير له، وفقير إليه، يقول: إني لما أنـزلت إلي من خير، أي: طعام، فقير محتاج، كان يطلب الطعام لجوعه. قال ابن عباس: سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه. قال الباقر: لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لقد قال موسى: ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة. وقال مجاهد: ما سأله إلا الخبز . قالوا: فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حُفَّل بطان، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي.

قال الله تعالى: ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليست بسَّلْفَعٍ من النساء خَرَّاجة ولاجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كُمَّ درعها على وجهها استحياء، ( قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) قال أبو حازم سلمة بن دينار: لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب، ولكن كان جائعًا فلم يجد بُدًا من الذهاب، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأتُ، ففعلت ذلك، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا شاب فتعش، فقال موسى: أعوذ بالله، فقال شعيب: ولم ذاك ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا، فقال له شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى وأكل .

( فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ) يعني: أمره أجمعُ مِنْ قتله القبطي وقَصْدِ فرعون قتله، ( قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يعني: فرعون وقومه، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين.

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ( 26 ) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 )

( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) اتخذه أجيرًا ليرعى أغنامنا، ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ) يعني: خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة، فقال لها أبوها: وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت: أما قوته: فإنه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة. وقيل: إلا أربعون رجلا وأما أمانته: فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك.

( قَالَ ) شعيب عند ذلك: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ) واسمها « صفورة » و « ليا » في قول شعيب الجبائي، وقال ابن إسحاق: « صفورة » و « شرقا » وقال غيرهما: الكبرى « صفراء » والصغرى « صفيراء » . وقيل زوَّجه الكبرى. وذهب أكثرهم إلى أنه زوجه الصغرى منهما واسمها « صفورة » ، وهي التي ذهبت لطلب موسى ، ( عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ) يعني: أن تكون أجيرًا لي ثمان سنين، قال الفراء: يعني: تجعل ثوابي من تزويجها أن ترعى غنمي ثماني حجج، تقول العرب: آجرك الله بأجرك أي: أثابك، والحجج: السنون، واحدتها حجة، ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ) أي: إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع، ليس بواجب عليك، ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ) أي: ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرعُ ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) قال عمر: يعني: في حسن الصحبة والوفاء بما قلت.

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 28 )

( قَالَ ) موسى، ( ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ) يعني: هذا الشرط بيني وبينك، فما شرطت عليَّ فلك وما شرطتَ من تزويج إحداهما فلي ، والأمر بيننا، تم الكلام، ثم قال: ( أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ ) يعني: أي الأجلين: و « ما » صلة، « قضيت » : أتممت وفرغت منه، الثمان أو العشر، ( فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ ) لا ظلم عليَّ بأن أطالب بأكثر منهما، ( وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) قال ابن عباس ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك. وقيل: حفيظ. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، أخبرنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على خير العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل وروي عن أبي ذرِّ مرفوعًا: إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما وأبرهما، وإذا سئلت: فأي المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما، وهي التي جاءت، فقالت يا أبتِ استأجره، فتزوج أصغرهما وقضى أوفاهما .

وقال وهب: أنكحه الكبرى . وروي عن شداد بن أوس مرفوعًا: بكى شعيب النبي صلى الله عليه وسلم [ من حب الله عز وجل ] حتى عمي فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فردّ الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فردّ الله عليه بصره، فقال الله: ما هذا البكاء؟ أشوقًا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ قال: لا يا رب، ولكن شوقًا إلى لقائك، فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئًا لك لقائي [ يا شعيب ] ، لذلك أخدمتك موسى كليمي .

ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، واختلفوا في تلك العصا؛ قال عكرمة: خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه . وقال آخرون: كانت من آس الجنة، حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته، فصارت من آدم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى. وقال السدي: كانت تلك العصا استودعها إياه مَلَك في صورة رجل، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها شعيب قال لها: ردي هذه العصا، وأتيه بغيرها، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فأعطاها موسى فأخرجها موسى معه، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة، فذهب في أثره، وطلب أن يرد العصا فأبى موسى أن يعطيه. وقال: هي عصاي، فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن يطرح العصا فمن حملها فهي له، فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها فلم يطقها، فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ .

ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب، ابنته إليه، قال موسى للمرأة: اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم، فطلبت من أبيها، فقال شعيب: لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها . وقيل: أراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيته إكرامًا له وصلةً لابنته، فقال له إني قد وهبت لك من الجدايا التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال: فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله عز وجل إلى موسى وامرأته فوفى له شرطه وسلم الأغنام إليه .

 

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ( 29 )

قوله عز وجل: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ ) يعني أتمه وفرغ منه، ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ ) قال مجاهد: لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرًا آخر فأقام عنده عشرين سنة ، ثم استأذنه في العود إلى مصر، فأذن له، فخرج بأهله إلى جانب مصر، ( آنَسَ ) يعني: أبصر، ( مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا ) وكان في البرية في ليلة مظلمة، شديدة البرد وأخذ امرأته الطلقُ، ( قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ) عن الطريق، لأنه كان قد أخطأ الطريق، ( أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ ) يعني: قطعة وشعلة من النار. وفيها ثلاث لغات، قرأ عاصم: « جَذْوة » بفتح الجيم، وقرأ حمزة بضمها، وقرأ الآخرون بكسرها، قال قتادة ومقاتل: هي العود الذي قد احترق بعضه، وجمعها « جِذَىً » ( لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) تستدفئون.

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 30 ) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ( 31 ) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 )

( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ ) من جانب الوادي الذي عن يمين موسى، ( فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ) لموسى، جعلها الله مباركة لأن الله كلم موسى هناك وبعثه نبيا. وقال عطاء: يريد المقدسة، ( مِنَ الشَّجَرَةِ ) من ناحية الشجرة، قال ابن مسعود: كانت سَمُرة خضراء تبرق ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت عَوْسَجَة . قال وهب من العُلَّيق ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها العنَّاب ، ( أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )

( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ) تتحرك، ( كَأَنَّهَا جَانٌّ ) وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها، ( وَلَّى مُدْبِرًا ) هاربًا منها، ( وَلَمْ يُعَقِّبْ ) لم يرجع، فنودي: ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ )

( اسْلُك ) أدخل ( يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) برص، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس، ( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ) قرأ أهل الكوفة، والشام: بضم الراء وسكون الهاء، ويفتح الراء حفص، وقرأ الآخرون بفتحهما، وكلها لغات بمعنى الخوف ومعنى الآية: إذا هَلَكَ أمُر يدك وما ترى من شعاعها فأدخِلْها في جيبك تعدْ إلى حالتها الأولى. « والجناح » : اليد كلها. وقيل: هو العضد. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقال: ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. قال مجاهد: كل من فزع فضم جناحيه إليه ذهب عنه الفزع. وقيل: المراد من ضم الجناح: السكون، أي: سكن روعك واخفض عليك جانبك، لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه، ومثله قوله: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ( الإسراء- 24 ) ، يريد الرفق، وقوله: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء- 215 ) ، أي: ارفق بهم وألِنْ جانبك لهم.

قال الفراء: أراد بالجناح العصا، معناه: اضمم إليك عصاك. وقيل: « الرَّهْب » الكُمْ بلغة حمير، قال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب يقول: أعطني ما في رهبك، أي: في كمك، معناه: اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم، لأنه تناول العصا ويده في كمه. ( فَذَانِكَ ) يعني: العصا، واليد البيضاء، ( بُرْهَانَان ) آيتان، ( مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ )

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 33 ) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 34 )

( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ )

( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا ) وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ، ( فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا ) عونًا، يقال ردأته أي: أعنته، قرأ نافع ( ردًا ) بفتح الدال من غير همز طلبًا للخفة، وقرأ الباقون بسكون الدال مهموزًا، ( يُصَدِّقُنِي ) قرأ عاصم، وحمزة: برفع القاف على الحال، أي: رداءً مصدقًا، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والتصديق لهارون في قول الجميع، قال مقاتل: لكي يصدقني فرعون، ( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) يعني فرعون وقومه.

قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( 35 )

( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) أي: نقويك بأخيك، وكان هارون يومئذ بمصر، ( وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا ) حجة وبرهانا، ( فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ) أي: لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء لمكان آياتنا، وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: ونجعل لكما سلطانًا بآياتنا بما نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما، ( أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ) أي: لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه.

 

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ( 36 ) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 37 ) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 38 )

( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ ) واضحات، ( قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى ) مختلق، ( وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا ) بالذي تدعونا إليه، ( فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ )

( وَقَالَ مُوسَى ) قرأ أهل مكة بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم، ( رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ ) بالمحق من المبطل، ( وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ) العقبى المحمودة في الدار الآخرة، ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أي: الكافرون.

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ ) فاطبخ لي الآجر، وقيل: إنه أول من اتخذ من الآجر وبنى به، ( فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا ) قصرا عاليا، وقيل: منارة، قال أهل التفسير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، أراد الله عز وجل أن يفتنهم فيه، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما، فقال قد قتلت إله موسى، وكان فرعون يصعد على البراذين، فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ، فذلك قوله تعالى: ( فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) أنظر إليه وأقف على حاله، ( وَإِنِّي لأظُنُّهُ ) يعني موسى، ( مِنَ الْكَاذِبِينَ ) في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري، وأنه رسوله.

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ( 39 ) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 40 ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ( 41 ) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ( 42 )

( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ ) قرأ نافع، وحمزة، والكسائي ويعقوب: « يَرْجِعون » بفتح الياء وكسر الجيم، [ والباقون بضم الياء وفتح الجيم ] .

( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ ) فألقيناهم، ( فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ )

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) قادة ورؤساء، ( يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) لا يمنعون من العذاب.

( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) خزيًا وعذابًا، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ) المبعدين الملعونين، وقال أبو عبيدة: من المهلكين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون، يقال: قَبَحه اللهُ وقَبَّحه: إذا جعله قبيحًا، ويقال: قبحه قبحًا، وقبوحًا، إذا أبعده من كل خير.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 43 )

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى ) يعني: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى، ( بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ) أي: ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به، ( وَهُدًى ) الضلالة لمن عمل به، ( وَرَحْمَةٌ ) لمن آمن به، ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) بما فيه من المواعظ والبصائر.

 

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 44 ) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 45 )

( وَمَا كُنْتَ ) يا محمد ، ( بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ) يعني: بجانب الجبل الغربي، قاله قتادة والسدي، وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد حيث ناجى موسى ربه، ( إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ ) يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه، ( وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك.

( وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا ) خلقنا أمما بعد موسى عليه السلام، ( فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) أي: طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وتركوا أمره، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها. ( وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا ) مقيما، ( فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ) كمقام موسى وشعيب فيهم، ( تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) تذكرهم بالوعد والوعيد، قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم، ( وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) أي: أرسلناك رسولا وأنـزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها.

وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 46 ) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )

( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ) بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى، ( إِذْ نَادَيْنَا ) قيل: إذ نادَيْنَا موسى: خذ الكتابَ بقوّة . وقال وهب: قال موسى: يا رب أرني محمدا، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير: ونادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني .

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما - ورفعه بعضهم- ، قال الله: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر . قوله تعالى: ( وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) أي: ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك ، ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) يعني: أهل مكة، ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )

( وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ) عقوبة ونقمة، ( بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) الكفر والمعصية، ( فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا ) هلا ( أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وجواب « لولا » محذوف، أي: لعاجلناهم بالعقوبة، يعني: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم. وقيل: معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ( 48 ) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 49 ) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 50 )

( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، ( قَالُوا ) يعني: كفار مكة، ( لَوْلا ) هلا ( أُوتِيَ ) محمد، ( مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) [ من الآيات كاليد البيضاء والعصاُ وقيل: مثل ما أوتي موسى ] كتابًا جملة واحدة. قال الله تعالى: ( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) أي: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمدُ ( قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) قرأ أهل الكوفة: « سحران » ، أي: التوراة والقرآن: « تظاهرا » يعني: كل سحر يقوي الآخر، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع، قال الكلبي: كانت مقالتهم تلك حين بعثوا إلى رءوس اليهود بالمدينة، فسألوهم عن محمد فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة، فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا: سِحْرَانِ تظاهرا. وقرأ الآخرون: « ساحران » يعنون محمدًا وموسى عليه السلام، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب، ( وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ )

( قُلْ ) يا محمد، ( فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا ) يعني: من التوراة والقرآن، ( أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ) أي: لم يأتوا بما طلبت، ( فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

 

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 51 ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ( 52 )

( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: بينا. قال الفراء: أنـزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضًا. قال قتادة: وصل لهم القول في هذا القرآن، يعني كيف صنع بمن مضى. قال مقاتل: بيّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم. وقال ابن زيد: وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا، ( لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ) من قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقيل: من قبل القرآن، ( هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) نـزلت في مؤمني أهل الكتاب؛ عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مقاتل: بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . [ وقال سعيد بن جبير: هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى الله عليه وسلم ] ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا: يا نبي الله إن لنا أموالا [ فإن أذنت لنا انصرفنا ] وجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها [ فأذن لهم، فانصرفوا فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين ] ، فنـزل فيهم: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) إلى قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نـزلت في ثمانين من أهل الكتاب، أربعون من نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشام . ثم وصفهم الله فقال: وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( 53 ) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 54 ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( 55 )

( وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) يعني القرآن، ( قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا ) وذلك أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) أي: من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي حق.

( أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ) لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ( بِمَا صَبَرُوا ) على دينهم. قال مجاهد: نـزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني، أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي، أخبرنا عثمان، أخبرنا شعبة، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده » . قوله عز وجل: ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، قال مقاتل: يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو ، ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) في الطاعة.

( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ ) القبيح من القول، ( أَعْرَضُوا عَنْهُ ) وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تبا لكم تركتم دينكم، فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم، ( وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) لنا ديننا ولكم دينكم، ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) ليس المراد منه سلام التحية، ولكنه سلام المتاركة، معناه: سلمتُم منّا لا نعارضكم بالشتم والقبيح من القول، ( لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) أي: دين الجاهلين، يعني: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه. وقيل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال .

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 56 ) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 57 )

قوله تعالى: ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) أي: أحببت هدايته. وقيل: أحببته لقرابته، ( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) قال مجاهد، ومقاتل: لمن قُدّر له الهدى، نـزلت في أبي طالب قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنـزل الله تعالى هذه الآية .

( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) مكة، نـزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تُخرجنا العرب من أرضنا مكة . وهو معنى قوله: ( نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ، والاختطاف: الانتزاع بسرعة. قال الله تعالى: ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ) وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضًا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا، لحرمة الحرم، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة، ( يُجْبَى ) قرأ أهل المدينة ويعقوب: « تجبى » بالتاء لأجل الثمرات، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل، أي: يجلب ويجمع، ( إِلَيْهِ ) يقال: جبيت الماء في الحوض أي: جمعته، قال مقاتل: يحمل إلى الحرم، ( ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أن ما يقوله حق.

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ( 58 ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( 59 )

قوله عز وجل: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ ) [ أي من أهل قرية ] ، ( بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ) أي: في معيشتها، أي: أشرت وطغت، قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، ( فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافرون ومارُّ الطريق يومًا أو ساعة، معناه: لم تسكن من بعدهم إلا سكونًا قليلا. وقيل: معناه: لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب، ( وَكُنَّا نَحْن الْوَارِثِينَ ) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ( مريم- 40 ) .

( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى ) أي: القرى الكافر أهلها، ( حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا ) يعني: في أكبرها وأعظمها رسولا ينذرهم، وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف، والأشراف يسكنون المدائن، والمواضع التي هي أم ما حولها، ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) قال مقاتل: يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا، ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) مشركون، يريد: أهلكتهم بظلمهم.

 

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 60 ) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( 61 )

( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ) تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء، ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أن الباقي خير من الفاني. قرأ عامة القراء: « تعقلون » بالتاء وأبو عمرو بالخيار بين التاء والياء.

( أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا ) أي الجنةُ ( فَهُوَ لاقِيهِ ) مصيبه ومدركه وصائر إليهُ ( كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ويزول عن قريب ( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) النار، قال قتادة: يعني المؤمن والكافر، قال مجاهد: نـزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل . وقال محمد بن كعب: نـزلت في حمزة وعلي، وأبي جهل . وقال السدي: نـزلت في عمار والوليد بن المغيرة .

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 62 ) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( 63 ) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ( 64 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( 65 )

( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) في الدنيا أنهم شركائي.

( قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) وجب عليهم العذاب وهم رءوس الضلالة، ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا ) أي: دعوناهم إلى الغي، وهم الأتباع، ( أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ) أضللناهم كما ضللنا، ( تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ) منهم ( مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ) برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء، كما قال تعالى: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ( الزخرف- 67 ) .

( وَقِيلَ ) للكفار: ( ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ) أي: الأصنام لتخلصكم من العذاب، ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) يجيبوهم، ( وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ) وجواب « لو » محذوف على تقدير: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب.

( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ) أي: يسأل الله الكفار، ( فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ( 66 ) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ( 67 ) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 68 ) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 69 ) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 70 )

( فَعُمِّيَت ) خفيت واشتبهتُ ( عَلَيْهِمُ الأنْبَاءُ ) أي: الأخبار والأعذار، وقال مجاهد: الحجج، ( يَوْمَئِذ ) فلا يكون لهم عذر ولا حجة، ( فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ ) لا يجيبون، وقال قتادة: لا يحتجون، وقيل: يسكتون لا يسأل بعضهم بعضا.

( فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ) السعداء الناجين.

قوله تعالى: ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ) نـزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، يعني: الوليد بن المغيرة، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم. قوله عز وجل: ( مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) قيل: « ما » للإثبات، معناه: ويختار الله ما كان لهم الخيرة، أي: يختار ما هو الأصلح والخير . وقيل: هو للنفي أي: ليس إليهم الاختيار، وليس لهم أن يختاروا على الله، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ( الأحزاب- 36 ) ، « والخيرة » : اسم من الاختيار يقام مقام المصدر، وهي اسم للمختار أيضا كما يقال: محمد خيرة الله من خلقه. ثم نـزه نفسه فقال: ( سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ )

( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ) يظهرون.

( وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ ) يحمده أولياؤه في الدنيا، ويحمدونه في الآخرة في الجنة، ( وَلَهُ الْحُكْمُ ) فصل القضاء بين الخلق. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل معصيته بالشقاء، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )

 

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ( 71 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ( 72 ) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 73 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 74 ) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 75 )

قوله عز وجل: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ) أخبروني يا أهل مكةُ ( إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا ) دائما، ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) لا نهار معه، ( مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ) بنهار تطلبون فيه المعيشة، ( أَفَلا تَسْمَعُونَ ) سماع فهم وقبول.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّه عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) لا دليل فيه، ( مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ما أنتم عليه من الخطأ.

( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) أي: في الليل، ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) بالنهار، ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) نعم الله عز وجل.

( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) كرر ذكر النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ.

( وَنـزعْنَا ) أخرجنا، ( مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) يعني: رسولهم الذي أرسل إليهم، كما قال: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ( النساء- 41 ) ، ( فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) حجتكم بأن معي شريكا. ( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ ) التوحيد، ( لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) في الدنيا.

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( 76 )

قوله عز وجل: ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ) كان ابن عمه؛ لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلامُ وموسى بن عمران بن قاهث، وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى، كان أخا عمران، وهما ابنا يصهر، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون، ولكنه نافق كما نافق السامري، ( فَبَغَى عَلَيْهِمْ ) قيل: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل، فكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقال قتادة: بغى عليهم بكثرة المال. وقال الضحاك: بغى عليهم بالشرك. وقال شهر بن حوشب: زاد في طول ثيابه شبرا، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء » وقيل: بغى عليهم بالكبر والعلو. ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ ) هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة، وقيل: مفاتحه: خزائنه، كما قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ( الأنعام- 59 ) ، أي: خزائنه، ( لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) أي: لَتُثْقِلُهم، وتميل بهم إذا حملوها لثقلها، قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، تقديره: ما إن العصبة لتنوء بها، يقال: ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا.

واختلفوا في عدد العصبة، قال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقال قتادة: ما بين العشرة إلى الأربعين. وقيل: أربعون رجلا. وقيل: سبعون. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال. وقال جرير عن منصور عن خيثمة، قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنـز .

ويقال: كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، وكانت من حديد، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا . ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ ) قال لقارون قومه من بني إسرائيل: ( لا تَفْرَحْ ) لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبّ الْفَرِحِينَ ) الأشِرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 77 )

( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة والجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله تعالى، ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) قال مجاهد، وابن زيد: لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة. وقال السدي: بالصدقة وصلة الرحم. وقال علي: لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن شاذان، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي، أخبرنا حسين المروزي، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا جعفر بن برقان، عن زياد بن الجراح، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: وهو يعظه: « اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك » الحديث مرسل . قال الحسن: أمر أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه، قال منصور بن زاذان في قوله: « ولا تنسَ نصيبك من الدنيا » ، قال: قوتك وقوت أهلك.

( وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) [ أي: أحسن بطاعة الله ] كما أحسن الله إليك بنعمته. وقيل: أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك، ( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ ) من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض، ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )

 

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( 78 ) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 79 )

( قَالَ ) يعني قارون، ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) أي: على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك، ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره. قيل: هو علم الكيمياء، قال سعيد بن المسيب: كان موسى يعلم الكيمياء فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله . وقيل: « على علم عندي » بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب. قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ ) الكافرة، ( مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ) للأموال، ( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِم الْمُجْرِمُونَ ) قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال، وقال مجاهد: يعني لا يسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم. قال الحسن: لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ.

( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) قال إبراهيم النخعي: خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر، قال ابن زيد: في سبعين ألفا عليهم المعصفرات. [ قال مجاهد: علي براذين بيض عليها سرج الأرجوان ] قال مقاتل: خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ثلثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر، وهن على البغال الشهب، ( قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) من المال.

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ( 80 ) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ( 81 )

( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الأحبار من بني إسرائيل. وقال مقاتل: أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة، قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون في الدنيا: ( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ ) يعني ما عند الله من الثواب والجزاء خير ( لِمَنْ آمَنَ ) وصدق بتوحيد الله، ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) مما أوتي قارون في الدنيا، ( وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ) قال مقاتل: لا يؤتاها، يعني الأعمال الصالحة. وقال الكلبي لا يعطاها في الآخرة. وقيل: لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله: « ويلكم ثواب الله خير » إلا الصابرون على طاعة الله وعن زينة الدنيا.

قوله عز وجل: ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعقلوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطًا أزرق كلون السماء، يذكرون به إذا نظروا إليها، ويعلمون أني منـزل منها كلامي، فقال موسى: يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرًا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، [ فدعاهم موسى عليه السلام ] ، وقال: إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطًا خضرًا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، ففعلت بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى، واستكبر قارون فلم يطعه، وقال: إنما يفعل هذا الأرباب، بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون، وهي رياسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنـزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون من ذلك من نفسه وأتى موسى فقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست، في شيء من ذلك، وأنا أقرأ التوراة، لا صبر لي على هذا. فقال له موسى: ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له. فقال قارون: والله لا أصدقك حتى تريني بيانه، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال: هاتوا عصيكم، فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟ فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، واعتزل قارون، موسى بأتباعه، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتوًا وتجبرًا ومعاداًة لموسى، حتى بنى دارًا وجعل بابها من الذهب، وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما، فلما نـزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وعن كل ألف شيء على شيء، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرًا فلم تسمح بذلك نفسه، فجمع بني إسرائيل فقال لهم: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغّي، فنجعل لها جُعْلا حتى تقذف موسى بنفسها، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه، فدعوها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل ألف دينار، وقيل طستًا من ذهب، وقيل: قال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدًا إذا حضر بنو إسرائيل، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال: إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض، فقام فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنتَ؟ قال: وإن كنت، أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ وعظَّم عليها، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنـزل التوراة إلا صدقت، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها: أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالتْ: لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرَّ موسى ساجدًا يبكي ويقول: اللهم إن كنت، رسولك فاغضبْ لي، فأوحى الله تعالى إليه: إني أمرت، الأرض أن تطيعك، فمرها بما شئت، فقال موسى: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم.

وفي رواية: كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى، ويناشده قارون الله والرحم، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض، وأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثتُه، وفي بعض الآثار: لا أجعل الأرض بعدك طوعًا لأحد . قال قتادة: خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة. قال: وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض، فذلك قوله عز وجل: ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ ) ( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ ) جماعة، ( يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يمنعونه من الله، ( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ) الممتنعين مما نـزل به من الخسف.

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( 82 )

( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ ) صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني، والعرب تعبر عن الصيرورة بأضحى وأمسى وأصبح، تقول: أصبح فلان عالمًا ، وأضحى معدمًا، وأمسى حزينًا، ( يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ ) اختلفوا في معنى هذه اللفظة، قال مجاهد: ألم تعلم، وقال قتادة: ألم ترَ. قال الفراء: هي كلمة تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه. وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، يعني: أما ترينه وراء البيت. وعن الحسن: أنه كلمه ابتداء، تقديره: أن الله يبسط الرزق. وقيل: هو تنبيه بمنـزلة ألا وقال قطرب: « ويك » بمعنى ويلك، حذفت منه اللام، كما قال عنترة:

وَلَقَـــدْ شَـــفَى وَأَبْــرَأَ سُـقْمَهَا قَــوْلُ الفَـوَارِسِ وَيْـكَ عَنْـتَرَ أَقْـدِمِ

أي: ويلك، و « أن » منصوب بإضمار اعلم أن الله، وقال الخليل: « وي » مفصولة من « كأن » ومعناها التعجب، كما تقول: وي لم فعلت ذلك! وذلك أن القوم تندموا فقالوا: وي! متندمين على ما سلف منهم وكأن معناه أظن ذلك وأقدره، كما تقول كأن: الفرج قد أتاك أي أظن ذلك وأقدره، ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ) أي: يوسع ويضيق، ( لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ) قرأ حفص، ويعقوب: بفتح الخاء والسين، وقرأ العامة بضم الخاء وكسر السين، ( وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ )

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 83 ) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 84 )

قوله تعالى: ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ ) قال الكلبي ومقاتل: استكبارًا عن الإيمان، وقال عطاء: « علوًا » واستطالةً على الناس وتهاونًا بهم. وقال الحسن: لم تطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان. وعن علي رضي الله عنه: أنها نـزلت في أهل التواضع من الولادة وأهل القدرةٍ ، ( وَلا فَسَادًا ) قال الكلبي: هو الدعاء إلى عبادة غير الله. وقال عكرمة: أخذ أموال الناس بغير حق. وقال ابن جريج ومقاتل: العمل بالمعاصي. ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) أي: العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه. وقال قتادة: الجنة للمتقين.

( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) .

 

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 85 )

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ) أي: أنـزل عليك القرآن على قول أكثر المفسرينُ وقال عطاء: أوجب عليك العمل بالقرآن، ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) إلى مكة، وهو رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول مجاهد. قال القتيـبي: معاد الرجل: بلده، لأنه ينصرف ثم يعود إلى بلده ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا خرج من الغار مهاجرًا إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن ورجع إلى الطريق نـزل الجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى يقول: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ، وهذه الآية نـزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية .

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: « لرادك إلى معاد » إلى الموت . وقال الزهري وعكرمة: إلى القيامة . وقيل: إلى الجنة . ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى ) [ أي: يعلم من جاء بالهدى ] ، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لفي ضلال، فقال الله عز وجل: قل لهم ربي أعلم من جاء بالهدى، يعني نفسه، ( وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) يعني المشركين، ومعناه: أعلم بالفريقين.

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ( 86 )

قوله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ ) أي: يوحي إليك القرآن، ( إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) قال الفراء: هذا من الاستثناء المنقطع، معناه: لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن، ( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ) أي: مُعِينًا لهم على دينهم. قال مقاتل: وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكر الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه.

وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 87 ) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 88 )

( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ ) يعني القرآن، ( بَعْدَ إِذْ أُنـزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) إلى معرفته وتوحيده، ( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أهل دينه، أي: لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم.

( وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ) أي: إلا هو، وقيل: إلا ملكه، قال أبو العالية: إلا ما أريد به وجهه، ( لَهُ الْحُكْمُ ) أي: فصل القضاء، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.

 

أعلى