فهرس تفسير القرطبي للسور

43 - تفسير القرطبي سورة الزخرف

التالي السابق

سورة الزخرف

مقدمة السورة

 

مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله: « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا » [ الزخرف: 45 ] . وهي تسع وثمانون آية.

 

الآيات: 1 - 3 ( حم، والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )

 

قوله تعالى: « حم، والكتاب المبين » تقدم. وقيل: « حم » قسم. « والكتاب المبين » قسم ثان؛ ولله أن يقسم بما شاء. والجواب « إنا جعلناه » . وقال ابن الأنباري: من جعل جواب « والكتاب » « حم » - كما تقول نزل والله وجب والله - وقف على « الكتاب المبين » . ومن جعل جواب القسم « إنا جعلناه » لم يقف على « الكتاب المبين » . ومعنى: « جعلناه » أي سميناه ووصفناه؛ ولذلك تعدى إلى مفعولين؛ كقوله تعالى: « ما جعل الله من بحيرة » [ المائدة: 103 ] . وقال السدي: أي أنزلناه قرآنا. مجاهد: قلناه الزجاج وسفيان الثوري: بيناه. « عربيا » أي أنزلناه بلسان العرب؛ لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه؛ قال سفيان الثوري وغيره. وقال مقاتل: لأن لسان أهل السماء عربي. وقيل: المراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة على الأنبياء؛ لأن الكتاب اسم جنس فكأنه أقسم بجميع ما أنزل من الكتب أنه جعل القرآن عربيا.

والكناية في قوله: « جعلناه » ترجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة؛ كقوله تعالى: « إنا أنزلناه في ليلة القدر » . [ القدر: 1 ] . « لعلكم تعقلون » أي تفهمون أحكامه ومعانيه. فعلى هذا القول يكون خاصا للعرب دون العجم؛ قال ابن عيسى.

وقال ابن زيد: المعنى لعلكم تتفكرون؛ فعلى هذا يكون خطابا عاما للعرب والعجم. ونعت الكتاب بالمبين لأن الله بين فيه أحكامه وفرائضه؛ على ما تقدم في غير موضع.

 

الآية: 4 ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )

 

قوله تعالى: « وإنه في أم الكتاب » يعني القرآن في اللوح المحفوظ « لدينا » عندنا

« لعلي حكيم » أي رفيع محكم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض؛ قال الله تعالى: « إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون » [ الواقعة:78 ] وقال تعالى: « بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ » [ البروج:22 ] . وقال ابن جريج: المراد بقوله تعالى: « وإنه » أي أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. « لعلي » أي رفيع عن أن ينال فيبدل « حكيم » أي محفوظ من نقص أو تغيير. وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق؛ فالكتاب عنده؛ ثم قرأ « وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم » . وكسر الهمزة من « أم الكتاب » حمزة والكسائي. وضم الباقون، وقد تقدم.

 

الآية: 5 ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين )

 

قوله تعالى: « أفنضرب عنكم الذكر صفحا » يعني: القرآن؛ عن الضحاك وغيره. وقيل: المراد بالذكر العذاب؛ أي أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم؛ قال مجاهد وأبو صالح والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال ابن عباس: المعنى أفحسبتم أن نصفح عنكم العذاب ولما تفعلوا ما أمرتم به. وعنه أيضا أن المعنى أتكذبون بالقرآن ولا تعاقبون. وقال السدي أيضا: المعنى أفنترككم سدى فلا نأمركم ولا ننهاكم. وقال قتادة: المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وعنه أيضا: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به فلا ننزله عليكم. وقال ابن زيد. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رددته أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله ردده وكرره عليهم برحمته. وقال الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيا فلا توعظون ولا تؤمرون. وقيل: الذكر التذكر؛ فكأنه قال: أنترك تذكيركم لأن كنتم قوما مسرفين؛ في قراءة من فتح. ومن كسر جعلها للشرط وما قبلها جوابا لها؛ لأنها لم تعمل في اللفظ. ونظيره: « وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين » [ البقرة: 278 ] وقيل: الجواب محذوف دل عليه تقدم؛ كما تقول: أنت ظالم إن فعلت. ومعنى الكسر عند الزجاج الحال؛ لأن في الكلام معنى التقرير والتوبيخ. ومعنى « صفحا » إعراضا؛ يقال صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته. والأصل، فيه صفحة العنق؛ يقال: أعرضت عنه أي وليته صفحه عنقي. قال الشاعر:

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة فمن مل منها ذلك الوصل ملت

وانتصب « صفحا » على المصدر لأن معنى أفنضرب « أفنصفح. وقيل: التقدير أفنضرب عنكم الذكر صافحين، كما يقال: جاء فلان مشيا. ومعنى: » مسرفين « مشركين. واختار أبو عبيدة الفتح في » أن « وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، قال: لأن الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم.»

 

الآيات: 6 - 8 ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون، فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين )

 

قوله تعالى: « وكم أرسلنا من نبي في الأولين » « كم » هنا خبرية والمراد بها التكثير؛ والمعنى ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء. كما قال: « كم تركوا من جنات وعيون » [ الدخان: 25 ] أي ما أكثر ما تركوا. « وما يأتيهم من نبي » أي لم يكن يأتيهم نبي « إلا كانوا به يستهزؤون » كاستهزاء قومك بك. يعزي نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ويسليه. « فأهلكنا أشد منهم بطشا » أي قوما أشد منهم قوة. والكناية في « منهم » ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله: « أفنضرب عنكم الذكر صفحا » فكنى عنهم بعد أن خاطبهم. و « أشد » نصب على الحال. وقيل: هو مفعول؛ أي فقد أهلكنا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. « ومضى مثل الأولين » أي عقوبتهم؛ عن قتادة وقيل: صفحة الأولين؛ فخبرهم بأنهم أهلكوا على كفرهم؛ حكاه النقاش والمهدوي. والمثل: الوصف والخبر.

 

الآية: 9 ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم )

 

قوله تعالى: « ولئن سألتهم » يعني المشركين. « من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم » فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم.

 

الآية: 10 ( الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون )

 

قوله تعالى: « الذي جعل لكم الأرض مهادا » وصف نفسه سبحانه بكمال القدرة. وهذا ابتداء إخبار منه عن نفسه، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار لقال الذي جعل لنا الأرض « مهادا » فراشا وبساطا. وقد تقدم. وقرأ الكوفيون « مهدا » « وجعل لكم فيها سبلا » أي معايش. وقيل طرقا، لتسلكوا منها إلى حيث أردتم.

 

قوله تعالى: « لعلكم تهتدون » فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل: « لعلكم تهتدون » في أسفاركم؛ قال ابن عيسى. وقيل: لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم؛ قاله سعيد بن جبير. وقيل: تهتدون إلى معايشكم.

 

الآية: 11 ( والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون )

 

قوله تعالى: « والذي نزل من السماء ماء بقدر » قال ابن عباس: أي لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم، بل هو بقدر لا طوفان مغرق ولا قاصر عن الحاجة، حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم. « فأنشرنا » أي أحيينا. « به » أي بالماء.

« بلدة ميتا » أي مقفرة من النبات. « كذلك تخرجون » أي من قبوركم؛ لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقد مضى في « الأعراف » مجودا. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر « يخرجون » بفتح الياء وضم الراء. الباقون على الفعل المجهول.

 

الآيات: 12 - 14 ( والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون )

 

قوله تعالى: « والذي خلق الأزواج » أي والله الذي خلق الأزواج. قال سعيد بن جبير: أي الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والشمس والقمر والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى؛ قال ابن عيسى. وقيل: أراد أزواج النبات؛ كما قال تعالى: « وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج » [ ق: 7 ] و « من كل زوج كريم » [ لقمان: 10 ] . وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى، وصحة وسقم.

قلت: وهذا القول يعم الأقوال كلها ويجمعها بعمومه.

 

قوله تعالى: « وجعل لكم من الفلك » السفن « والأنعام » الإبل « ما تركبون » في البر والبحر. « لتستووا على ظهوره » ذكر الكناية لأنه رده إلى ما في قوله: « ما تركبون » ؛ قال أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند؛ فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس.

 

قال سعيد بن جبير: الأنعام هنا الإبل والبقر. وقال أبو معاذ: الإبل وحدها؛ وهو الصحيح لقوله عليه السلام: بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر ) . وما هما في القوم. وقد مضى هذا.

 

قوله تعالى: « لتستووا على ظهوره » يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا. ولأن الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أخرها على أحدهما. ويحتمل أن يجعل ظاهرها باطنها؛ لأن الماء غمره وستره وباطنها ظاهرا؛ لأنه أنكشف الظاهرين وظهر للمبصرين.

 

قوله تعالى: « ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه » أي ركبتم عليه وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر. « وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين » « وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا » أي ذلل لنا هذا المركب. وفي قراءة علي بن أبي طالب « سبحان من سخر لنا هذا » . « وما كنا له مقرنين » أي مطيقين؛ في قول ابن عباس والكلبي. وقال الأخفش وأبو عبيدة: « مقرنين » ضابطين. وقيل: مماثلين في الأيد والقوة؛ من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. ويقال: فلان مقرن لفلان أي ضابط له. وأقرنت كذا أي أطقته. وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه؛ كأنه صار له قرنا. قال الله تعالى: « وما كنا له مقرنين » أي مطيقين. وأنشد قطرب قول عمرو بن معديكرب:

لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا

وقال آخر:

وكبتم صعبتي أشرا وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا

والمقرن أيضا: الذي غلبته ضيعته؛ يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقي إبله ولا ذائد له يذودها. قال ابن السكيت: وفي أصله قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الإقران؛ يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق. وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته؛ كأنه جعله في قرن - وهو الحبل - فأوثقه به وشده. والثاني: أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير؛ يقال: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه.

 

علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن؛ وهي قوله تعالى: « وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم » [ هود: 41 ] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح من ظهرها فهلك. وكم من راكبين في سفينة أنكسرت بهم فغرقوا. فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألا ينسى عند أتصال به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه. ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه. والحذر من أن يكون وركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه. حكى سليمان بن يسار أن قوما في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: « سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين » وكان فيهم رجل على ناقة له رازم - وهي التي لا تتحرك هزالا، الرازم من الإبل: الثابت على الأرض لا يقوم من الهزال. أو قد رزمت الناقة ترزم وترزم رزوما ورزاما: قامت من الإعياء والهزال فلم تتحرك؛ فهي رازم. قال الجوهري في الصحاح. فقال: أما أنا فاني لهذه لمقرن، قال: فقمصت به فدقت عنقه. وروي أن أعرابيا ركب قعودا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود حتى صرعته فاندقت عنقه. ذكر الأول الماوردي والثاني ابن العربي. قال: وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان؛ فيقول متى ركب وخاصة في السفر إذا تذكر: « سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له بمقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون » اللهم أنت الصاحب في السفر، والحليفة في الأهل والمال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والجور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل والمال؛ يعني بـ « الجور بعد الكور » تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه. وقال عمرو بن دينار: ركبت مع أبي جعفر إلى أرض له نحو حائط يقال لها مدركة، فركب على جمل صعب فقلت له: أبا جعفر ! أما تخاف أن يصرعك ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( على سنام كل بعير شيطان إذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم أمتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله ) . وقال علي بن ربيعة: شهدت علي بن أبي طالب ركب دابة يوما فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على الدابة قال الحمد لله، ثم قال: « سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون » ثم قال: الحمد لله والله أكبر - ثلاثا - اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لى إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ ثم ضحك فقلت له: ما أضحكك ؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت، وقال كما قلت؛ ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ( العبد - أو قال - عجبا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيره ) . خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو عبدالله محمد بن خويزمنداد في أحكامه. وذكر الثعلبي له نحوه مختصرا عن علي رضي الله عنه، ولفظه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: ( باسم الله - فإذا استوى قال - الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا نزلتم من الفلك والأنعام فقولوا اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ) . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: من ركب ولم يقل « سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين » قال له الشيطان تغنه؛ فإن لم يحسن قال له تمنه؛ ذكره النحاس. ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل أوفي بعض الزوارق؛ فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف، فلا يزالون يستقون حتى تمل طلاهم وهم على ظهور الدواب أو في بطون السفن وهي تجري بهم؛ لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب الخمر من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما أطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به؛ فكيف بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر به في هذه الآية ! ؟

 

الآية: 15 ( وجعلوا له من عباده جزء إن الإنسان لكفور مبين )

 

قوله تعالى: « وجعلوا له من عباده جزءا » أي عدلا؛ عن قتادة. يعني ما عبد من دون الله عز وجل. الزجاج والمبرد: الجزء ها هنا البنات؛ عجب المؤمنين من جهلهم إذا أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله ثم جعلوا له شريكا أو ولدا، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والأرض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو: يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص. قال الماوردي: والجزء عند أهل العربية البنات؛ يقال: قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات؛ قال الشاعر:

إن أجزأت المرأة يوما فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا

الزمخشري: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا، وبيتا:

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب

زوجتها من بنات الأوس مجزئة

وإنما قوله: « وجعلوا له من عباده جزاء » متصل بقوله: « ولئن سألتهم » أي ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به؛ وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى « من عباده جزءا » أن قالوا الملائكة بنات الله؛ فجعلوهم جزءا له وبعضا، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. وقرئ « جزؤا » بضمتين. « إن الإنسان » يعني الكافر. « لكفور مبين » قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. « مبين » مظهر الكفر.

 

الآية: 16 ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين )

 

قوله تعالى: « أم اتخذ مما يخلق بنات » الميم صلة؛ تقديره أتخذ مما يخلق بنات كما زعمتم أن الملائكة بنات الله؛ فلفظه الاستفهام ومعناه التوبيخ. « وأصفاكم بالبنين » أي اختصكم وأخلصكم بالبنين؛ يقال: أصفيته بكذا؛أي آثرته به. وأصفيته الود أخلصته له. وتصافينا تخالصنا. عجب من إضافتهم إلى الله اختيار البنات مع اختيارهم لأنفسهم البنين، وهو مقدس عن أن يكون له ولد إن توهم جاهل أنه اتخذ لنفسه ولدا فهلا أضاف إليه أرفع الجنسين ! ولم جعل هؤلاء لأنفسهم أشرف الجنسين وله الأخس ؟ وهذا كما قال تعالى: « ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى » [ النجم:22 ] .

 

الآية: 17 ( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم )

 

قوله تعالى: « وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا » أي بأنه ولدت له بنت « ظل وجهه » أي صار وجهه « مسودا » قيل ببطلان مثله الذي ضربه. وقيل: بما بشر به من الأنثى؛ دليله في سورة النحل: « وإذا بشر أحدهم بالأنثى » [ النحل: 58 ] . ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت له أنثى اغتم وأربد وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت:

ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا وإنما نأخذ ما أعطينا

وقرئ « مسودٌ، ومسوادٌ » . وعلى قراءة الجماعة يكون وجهه اسم « ظل » و « مسودا » خبر « ظل » . ويجوز أن يكون في « ظل » ضمير عائد على أحد وهو اسمها، و « وجهه » بدل من الضمير، و « مسودا » خبر « ظل » . ويجوز أن يكون رفع « وجهه » بالابتداء ويرفع « مسودا » على أنه خبره، وفي « ظل » اسمها والجملة خبرها. « وهو كظيم » أي حزين؛ قال قتادة. وقيل مكروب؛ قال عكرمة وقيل ساكت؛ قال ابن أبي حاتم؛ وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شبها لله؛ لأن الولد من جنس الوالد وشبهه. ومن أسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجل منه؛ فكيف إلى الله عز وجل ! وقد مضى في « النحل » في معنى هذه الآية ما فيه كفاية.

 

الآيات: 18 - 19 ( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون )

 

قوله تعالى: « أومن ينشأ » أي يربى ويشب. والنشوء: التربية؛ يقال: نشأت في بني فلان نشأ ونشوءا إذا شببت فيهم. ونشئ وأنشئ بمعنى. وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف « ينشأ » بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين؛ أي يربى ويكبر في الحلية. واختاره أبو عبيد، لأن الإسناد أيها أعلى. وقرأ الباقون « ينشأ » بفتح الياء وإسكان النون، واختاره أبو حاتم، أي يرسخ وينبت، وأصله من نشأ أي ارتفع، قال الهروي. فـ « ينشأ » متعد، و « ينشأ » لازم.

 

قوله تعالى: « في الحلية » أي في الزينة. قال ابن عباس وغيره: هن الجواري زيهن غير زي الرجال. قال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير؛ وقرأ هذه الآية. قال الكيا: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه والأخبار فيه لا تحصى.

قلت: روي عن أبي هريرة أنه كان يقول لابنته: يا بنية، إياك والتحلي بالذهب ! فإني أخاف عليك اللهب.

 

قوله تعالى: « وهو في الخصام غير مبين » أي في المجادلة والإدلاء بالحجة. قال قتادة، ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. وفي مصحف عبدالله « وهو في الكلام غير مبين » . ومعنى الآية: أيضاف إلى الله من هذا وصفه! أي لا يجوز ذلك. وقيل: المنشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها؛ قال ابن زيد والضحاك. ويكون معنى « وهو في الخصام غير مبين » على هذا القول: أي ساكت عن الجواب. و « من » في محل نصب، أي اتخذوا لله من ينشأ في الحلية. ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء والخبر مضمر؛ قال الفراء. وتقديره: أو من كان على هذه الحالة يستحق العبادة. وإن شئت قلت خفض ردا إلى أول الكلام وهو قوله: « بما ضرب » أو على « ما » في قوله: « مما يخلق بنات » . وكون البدل في هذين الموضعين ضعيف لكون ألف الاستفهام حائلة بين البدل والمبدل منه. « وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا » قرأ الكوفيون « عباد » بالجمع. واختاره أبو عبيد؛ لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله تعالى إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عبيد وأنهم ليسوا ببناته. وعن ابن عباس أنه قرأ « عباد الرحمن » ، فقال سعيد بن جبير: إن في مصحفي « عبدالرحمن » فقال: أمحها واكتبها « عباد الرحمن » . وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: « بل عباد مكرمون » [ الأنبياء: 26 ] . وقوله تعالى: « فحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء » [ الكهف: 102 ] . وقوله تعالى: « إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » [ الأعراف: 194 ] وقرأ الباقون « عند الرحمن » بنون ساكنة واختاره أبو حاتم. وتصديق هذه القراءة قوله تعالى: « إن الذين عند ربك » وقوله: « وله من في السماوات والأرض ومن عنده » [ الأنبياء: 19 ] . والمقصود إيضاح كذبهم وبيان جهلهم في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث وهم بنات الله. وذكر العباد مدج لهم؛ أي كيف عبدوا من هو نهاية العبادة، ثم كيف حكموا بأنهم إناث من غير دليل. والجعل هنا بمعنى القول والحكم؛ تقول: جعلت زيدا أعلم الناس؛ أي حكمت له بذلك. « أشهدوا خلقهم » أي أحضروا حالة خلقهم حتى حكموا بأنهم إناث. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وقال: [ فما يدريكم أنهم إناث ] ؟ فقالوا: سمعنا بذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا في أنهم إناث، فقال الله تعالى: « ستكتب شهادته ويسألون » أي يسألون عنها في الآخرة. وقرأ نافع « أوشْهدوا » بهمزة استفهام داخلة على همزة مضمومة مسهلة، ولا يمد سوى ما روى المسيبي عنه أنه يمد. وروى المفضل عن عاصم مثل ذلك وتحقق الهمزتين. والباقون « أشهدوا » بهمزة واحدة للاستفهام.

وروي عن الزهري « أُشْهِدوا خلقهم » على الخبر، « ستكتب » قراءة العامة بضم التاء على الفعل المجهول « شهادتهم » رفعا. وقرأ السلمى وابن السميقع وهبيرة عن حفص « سنكتب » بنون، « شهادتهم » نصبا بتسمية الفاعل. وعن أبي رجاء « ستكتب شهاداتهم » بالجمع.

 

الآية: 20 ( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون )

 

قوله تعالى: « وقالوا لوشاء الرحمن » يعني قال المشركون على طريق الاستهزاء والسخرية: لوشاء الرحمن على زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة. وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل. وكل شيء بإرادة الله، وإرادته تجب وكذا علمه فلا يمكن الاحتجاج بها؛ وخلاف المعلوم والمراد مقدور وإن لم يقع. ولو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أن الله أراد منهم ما حصل منهم. وقد مضى هذا المعنى في الأنعام عند قوله: « سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا » [ الأنعام: 148 ] وفي « يس » : « أنطعم من لو يشاء الله أطعمه » [ يس: 47 ] . وقوله: « ما لهم بذلك من علم » مردود إلى قوله « وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا » [ الزخرف: 19 ] أي ما لهم بقولهم: الملائكة بنات الله - من علم قال قتادة ومقاتل والكلبى. وقال مجاهد وابن جريج: يعني الأوثان؛ أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم. « من » صلة. « إن هم إلا يخرصون » أي يحدسون ويكذبون؛ فلا عذر لهم في عبادة غير الله عز وجل. وكان من، ضمن كلامهم أن الله أمرنا لم بهذا أو أرضى ذلك منا، ولهذا لم ينهنا ولم يعاجلنا بالعقوبة.

 

الآية: 21 ( أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون )

 

هذا معادل لقوله: « أشهدوا خلقهم » . والمعنى: أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا من قبله؛ أي من قبل القرآن بما ادعوه؛ فهم به متمسكون يعملون بما فيه.

الآية [ 22 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 22 - 23 ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )

 

قوله تعالى: « بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة » أي على طريقة ومذهب؛ قال عمر بن عبدالعزيز. وكان يقرأ هو ومجاهد وقتادة « على إمة » بكسر الألف. والأمة الطريقة. وقال الجوهري: والإمة ( بالكسر ) . النعمة. والإمة أيضا لغة في الأمة، وهي الطريقة والدين؛ عن أبي عبيدة. قال عدي بن زيد في النعمة:

ثم بعد الفلاح والملك والأ مة وارتهم هناك القبور

عن غير الجوهري. وقال قتادة وعطية: « على أمة » على دين؛ ومنه قول قيس بن الخطيم:

كنا على أمة أبائنا ويقتدي الآخر بالأول

قال الجوهري: والأمة الطريقة والدين، يقال: فلان لا أمة له؛ أي لا دين له ولا نحلة. قال الشاعر:

وهل يستوي ذو أمة وكفور

وقال مجاهد وقطرب: على دين على ملة. وفي بعض المصاحف « قالوا إنا وجدنا أباءنا على ملة » وهذه الأقوال متقاربة. وحكي عن الفراء على ملة على قبلة. الأخفش: على استقامة، وأنشد قول النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

 

قوله تعالى: « وإنا على آثارهم مهتدون » أي نهتدي بهم. وفي الآية الأخرى « مقتدون » أي نقتدي بهم، والمعنى واحد. قال قتادة: مقتدون متبعون. وفي هذا دليل على إبطال التقليد؛ لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضى القول في هذا في « البقرة » مستوفى. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة بني ربيعة من قريش؛ أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا. يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ونظيره: « ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك » [ فصلت: 43 ] . والمترف: المنعم، والمراد هنا الملوك والجبابرة.

 

الآية: 24 ( قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون )

 

قوله تعالى: « قل أولو جئتكم بأهدى » أي قل يا محمد لقومك: أوليس قد جئتكم من عند الله بأهدى؛ يريد بأرشد. « مما وجدتم عليه آبائكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون » يعني بكل ما أرسل به الرسل. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه لفظ الجمع؛ لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه. وقرئ « قل وقال وجئتكم وجئناكم » يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى. وقد مضى في « البقرة » القول في التقليد وذمه فلا معنى لإعادته. وقراءة العامة « قل أو لو جئتكم » وقرأ ابن عامر وحفص « قال أو لو » على الخبر عن النذير أنه قال لهم هذه المقالة. وقرأ أبو جعفر « قل أولو جئناكم » بنون وألف؛ على أن المخاطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل.

 

الآية: 25 ( فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين )

 

قوله تعالى: « فانتقمنا منهم » بالقحط والقتل والسبي « فانظر كيف كان عاقبه المكذبين » آخر أمر من كذب الرسل.

 

الآيات: 26 - 27 ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين )

 

قوله تعالى: « وإذ قال » أي ذكرهم إذ قال. « إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون » البراء يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث؛ لأنه مصدر وضع موضع النعت؛ لا يقال: البراءان والبراؤون، لأن المعنى ذو البراء وذوو البراء. قال الجوهري: وتبرأت من كذا، وأنا منه براء، وخلاء منه لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل؛ مثل: سمع سماعا. فإذا قلت: أنا بريء منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت، وقلت في الجمع: نحن منه براء مثل فقيه وفقهاء، وبراء أيضا مثل كريم وكرام، وأبراء مثل شريف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء، وبريئون. وامرأة بريئة بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل بريء وبراء مثل عجيب وعجاب.

والبراء ( بالفتح ) أول ليلة من الشهر، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس. « إلا الذي فطرني » استئناء متصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة: كانوا يقولون الله ربنا؛ مع عبادة الأوثان. ويجوز أن يكون منقطعا؛ أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه.

 

الآية: 28 ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون )

 

قوله تعالى: « وجعلها كلمة باقية » الضمير في « جعلها » عائد على قوله: « إلا الذي فطرني » . وضمير الفاعل في « جعلها » لله عز وجل؛ أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه، وهم ولده وولد ولده؛ أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي: هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: قوله: « في عقبه » أي في خلقه. وفي الكلام تقديم وتأخير؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة: الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة: لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك: الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة: الإسلام؛ لقوله تعالى: « هو سماكم المسلمين من قبل » [ الحج: 78 ] . القرظي: وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله: « يا بني إن الله اصطفى، لكم الدين » . [ البقرة: 132 ] الآية المذكورة في البقرة - كلمة باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد: الكلمة قوله: « أسلمت لرب العالمين » [ البقرة: 131 ] وقرأ « سماكم المسلمين من قبل » . وقيل: الكلمة النبوة. قال ابن العربي: ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم.

 

قال ابن العربي: إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين؛ إحداهما في قوله: « إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين » [ البقرة: 124 ] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله: « واجنبني وبني أن نعبد الأصنام » [ إبراهيم: 35 ] . وقيل: بل الأولى قوله: « واجعل لي لسان صدق في الآخرين » [ الشعراء: 84 ] فكل أمة تعظمه، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح.

 

قال ابن العربي: جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى والتحبيس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما رجل أعمر عمرى له واعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ) . وهي ترد على أحد عشر لفظا: اللفظ الأول: الولد، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ، قاله مالك في المجموعة وغيرها.

قلت: هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى: « يوصيكم الله في أولادكم » [ النساء: 11 ] . وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس؛ يقول المحبس: حبست على ولدي أو على عقبي. وهذا اختيار أبي عمر بن عبدالبر وغيره؛ واحتجوا بقول الله جل وعز: « حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم » [ النساء: 23 ] . قالوا: فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أوعقبه. وقد مضى هذا المعنى في « الأنعام » مستوفى.

اللفظ الثاني: البنون؛ فإن قال: هذا حبس عل ابني؛ فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد. ولو قال ولدي، لتعدى وتعدد في كل من ولد. وإن قال على بني، دخل فيه الذكور والإناث. قال مالك: من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته ( إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) . قلنا: هذا مجاز، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه؛ ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني؛ ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه؛ لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها. ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه؛ ولذلك قيل في عبدالله بن عباس: إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية.

قلت: هذا الاستدلال غير صحيح، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى: « حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم » [ النساء: 23 ] . وقال تعالى: « ومن ذريته داود وسليمان » إلى قوله « من الصالحين » [ الأنعام: 84 - 85 ] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك. فإن قيل فقد قال الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

قيل لهم: هذا لا دليل فيه؛ لأن معنى قوله: إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن؛ وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته، وتأول على قائله ما لا يصح، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا، ولا يسمى ولد الابنة ابنا؛ من اجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة، وولد الابن إنما هو ولده بمال مما كان سببا للولادة. ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة. وقد مضى هذا في « الأنعام » والحمد لله.

اللفظ الثالث: الذرية؛ وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق؛ فيدخل فيه ولد البنات لقوله: « ومن ذريته داود وسليمان » إلى أن قال « وزكريا ويحيى وعيسى » [ الأنعام: 84 - 85 ] . وإنما كان من ذريته من قبل أمه. وقد مضى في « البقرة » اشتقاق الذرية وفي « الأنعام » الكلام على « ومن ذريته » [ الأنعام: 84 ] الآية؛ فلا معنى للإعادة.

اللفظ الرابع: العقب؛ وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه؛ يقال: أعقب الله بخير؛ أي جاء بعد الشدة بالرخاء. وأعقب الشيب السواد. وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شيء؛ ولهذا قيل لولد الرجل: عقبه. والمعقاب من النساء: التي تلد ذكرا بعد أنثى، هكذا أبدا وعقب الرجل: ولده وولد ولده الباقون بعده. والعاقبة الولد؛ قال يعقوب: في القرآن « وجعلها كلمة باقية في عقبه » وقيل: بل الورثة كلهم عقب. والعاقبة الولد؛ ولذلك فسره مجاهد هنا. وقال ابن زيد: ها هنا هم الذرية. وقال ابن شهاب: هم الولد وولد الولد. وقيل غيره على ما تقدم عن السدي. وفي الصحاح والعقب ( بكسر القاف ) مؤخر القدم وهي مؤنثة. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وفيه لغتان: عقب وعقب ( بالتسكين ) وهي أيضا مؤنثة، عن الأخفش. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه؛ وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى: « ليس لوقعتها كاذبة » [ الواقعة: 2 ] . ولا فرق عند احد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى. واختلف في الذرية والنسل فقيل انهما بمنزلة الولد والعقب؛ لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيهما. وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي « الأنعام » .

اللفظ الخامس: نسلي؛ وهو عند علمائنا كقول: ولدي وولد ولدي؛ فإنه يدخل فيه ولد البنات. ويجب أن يدخلوا؛ لأن نسل به بمعنى خرج، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه، ولم يقترن به ما يخصه كما أقترن بقول عقبي ما تناسلوا. وقال بعض علمائنا: إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه والد البنات؛ إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي، كما إذا قال: عقبي وعقب عقبي، وأما إذا قال ولدي أوعقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات.

اللفظ السادس: الآل؛ وهم الأهل؛ وهو اللفظ السابع. قال ابن القاسم: هما سواء، وهم العصبة والإخوة والبنات والعمات؛ ولا يدخل فيه الخالات. وأصل أهل الاجتماع يقال: مكان أهل إذا كان فيه جماعة، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد من النساء والعصبة مشتقة منه وهي أخصى به. وفي حديث الإفك: يا رسول الله، أهلك ! ولا نعلم إلا خيرا؛ يعني عائشة. ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل؛ لأن ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق. وقد. قال مالك: آل محمد كل تقي؛ وليس من هذا الباب. وإنما أراد أن الإيمان أخصى من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة. وقد قال أبو إسحاق التونسي: يدخل في لأهل كل من كان من جهة الأبوين، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال. وهذه المعاني إنما تبغى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق، فهذان لفظان.

اللفظ الثامن: قرابة، فيه أربعة أقوال: الأول: قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس: إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد؛ ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني: يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه؛ قال علي بن زياد. الثالث: قال أشهب: يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع: قال ابن كنانة: يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: « قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى » [ الشورى: 23 ] قال: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال: لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة؛ فهذا يضبطه والله أعلم.

اللفظ التاسع: العشيرة؛ ويضبطه الحديث الصحيح: إن الله تعالى لما أنزل: « وأنذر عشيرتك الأقربين » [ الشعراء: 214 ] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الأقربون؛ وسواهم عشيرة في الإطلاق. واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد، كما تقدم من قول علمائنا.

اللفظ العاشر: القوم؛ يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقول يشمل الرجال والنساء؛ وإن كان الشاعر قد قال:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء؛ فتعممه الصفة وتخصصه القرينة.

اللفظ الحادي عشر: الموالي؛ قال مالك: يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه. وقال ابن وهب: يدخل فيه أولاد مواليه. قال ابن العربي: والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء؛ قال: وهذه فصول الكلام وأصول المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له؛ والتفريع والتتميم في كتاب المسائل، والله أعلم.

 

الآيات: 29 - 32 ( بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين، ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون، وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون )

 

قوله تعالى: « بل متعت » وقرئ « بل متعنا » . « هؤلاء وآبائهم » أي في الدنيا بالإمهال. « حتى جاءهم الحق » أي محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والإسلام الذي هو اصل دين إبراهيم؛ وهو الكلمة التي بقاها الله في عقبه. « ورسول مبين » أي يبين لهم ما بهم إليه حاجة. « ولما جاءهم الحق » يعني القرآن. « قالوا هذا سحر وإنا به كافرون » جاحدون. « وقالوا لولا نزل » أي هلا نزل « هذا القرآن على رجل » وقرئ « على رجل » بسكون الجيم. « من القريتين عظيم » أي من إحدى القريتين؛ كقوله تعالى: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » [ الرحمن: 22 ] أي من أحدهما. أو على أحد رجلين من القريتين. القريتان: مكة والطائف. والرجلان: الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل. والذي من الطائف أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي؛ قاله قتادة. وقيل: عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، وعتبة بن ربيعة من مكة؛ وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس: أن عظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وقال السدي: كنانة بن عبد بن عمرو. روي أن الوليد بن المغيرة - وكان يسمى ريحانة قريش كان يقول: لو كان ما يقول محمد حقا لنزل علي أو على أبي مسعود؛ فقال الله تعالى: « أهم يقسمون رحمة ربك » يعني النبوة فيضعونها حيث شاؤوا. « نحن قسمنا ببنهم معيشتهم في الحياة الدنيا » أي أفقرنا قوما وأغنينا قوما؛ فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم. قال قتادة: تلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، ونلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن في رواية عنه « معايشهم » . وقيل: أي نحن أعطينا عظيم القريتين ما أعطينا لا لكرامتهما علي وأنا قادر على نزع النعمة عنهما؛ فأي فضل وقدر لهما. « ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات » أي فاضلنا بينهم فمن فاضل ومفضول ورئيس ومرؤوس؛ قال مقاتل. وقيل: بالحرية والرق؛ فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. وقيل: بالغنى والفقر؛ فبعضهم غني وبعضهم فقير. وقيل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. « ليتخذ بعضهم بعضا سخريا » قال السدي وابن زيد: خولا وخداما، يسخر الأغنياء الفقراء فيكون به بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا. وقيل: هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء؛ أي ليستهزئ الغني بالفقير. قال الأخفش: سخرت به وسخرت منه، وضحكت منه وضحكت به، وهزئت منه وبه؛ كل يقال، والاسم السخرية ( بالضم ) . والسخري والسخري ( بالضم والكسر ) . وكل الناس ضموا « سخريا » إلا ابن محيصن ومجاهد فإنهما قرآ « سخريا » « ورحمة ربك خير مما يجمعون » أي أفضل مما يجمعون من الدنيا. ثم قيل: الرحمة النبوة، وقيل الجنة. وقيل: تمام الفرائض خير مم كثير النوافل. وقيل: ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم.

 

الآية: 33 ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون )

 

قال العلماء: ذكر حقارة الدنيا وقلة خطرها، وأنها عنده من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب؛ فيحمل ذلك على الكفر. قال الحسن: المعنى لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه؛ لهوان الدنيا عند الله عز وجل. وعلى هذا أكثر المفسرين ابن عباس والسدي وغيرهم. وقال ابن زيد: « ولولا أن يكون الناس أمة واحدة » في طلب الدنيا واختيارها على الآخرة « لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة » . وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها.

 

قرأ ابن كثير وأبو عمرو « سقفا » بفتح السين وإسكان القاف على الواحد ومعناه الجمع؛ اعتبارا بقوله تعالى: « فخر عليهم السقف من فوقهم » [ النحل: 26 ] . وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع؛ مثل رهن ورهن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما. وقيل: هو جمع سقيف؛ مثل كثيب وكثب، ورغيف ورغف؛ قاله الفراء. وقيل: هو جمع سقوف؛ فيصير جمع الجمع: سقف وسقوف، نحو فلس وفلوس. ثم جعلوا فعولا كأنه اسم واحد فجمعوه على فعل. وروي عن مجاهد « سقفا » بإسكان القاف. وقيل: اللام في « لبيوتهم » بمعنى على؛ أي على بيوتهم. وقيل: بدل؛ كما تقول: فعلت هذا لزيد لكرامته؛ قال الله تعالى: « ولأبويه لكل واحد منهما السدس » [ النساء: 11 ] كذلك قال هنا: « لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم » .

 

قوله تعالى: « ومعارج » يعني الدرج؛ قال ابن عباس وهو قول الجمهور. واحدها معراج، والمعراج السلم؛ ومنه ليلة المعراج. والجمع معارج ومعاريج؛ مثل مفاتح ومفاتيح؛ لغتان. « ومعاريج » قرأ أبو رجاء العطاردي وطلحة بن مصرف؛ وهي المراقي والسلاليم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج؛ مثل مرقاة ومرقاة. « عليها يظهرون » أي على المعارج يرتقون ويصعدون؛ يقال: ظهرت على البيت أي علوت سطحه. وهذا لأن من علا شيئا وارتفع عليه ظهر للناظرين. ويقال: ظهرت على الشيء أي علمته. وظهرت على العدو أي غلبته.

وأنشد نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:

علونا السماء عزة ومهابة وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

أي مصعدا؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ إلى أين ] ؟ قال إلى الجنة؛ قال: [ أجل إن شاء الله ] . قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك ! فكيف لو فعل ؟!

 

استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لا حق فيه لرب العلو؛ لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله.

قال ابن العربي: وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب، فمن له البيت فله أركانه. ولا خلاف أن العلول إلى السماء. واختلفوا في السفل؛ فمنهم من قال هو له، ومنهم من قال ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان.

وقد بين حديث الإسرائيلي الصحيح فيما تقدم: أن رجلا باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب، فجاء بها إلى البائع فقال: إنما اشتريت الدار دون الجرة، وقال البائع: إنما بعت الدار بما فيها؛ وكلهم تدافعها فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج أحدهما ولده من بنت الآخر ويكون المال لهما. والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنهما بالبيع؛ فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه.

 

من أحكام العلو والسفل. إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه؛ فذكر سحنون عن أشهب أنه قال: إذا أراد صاحب السفل أن يهدم، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل. قال: ولو أنهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل؛ فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بع ممن يبني. وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فأعتل السفل، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلع سفله؛ لأن عليه إما أن يحمله على بنيان أو على تعليق، وكذلك لو كان على العلو فتعليق العلو الثاني على صاحب الأوسط. وقد قيل: إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الأسفل. وحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لوأنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ] - أصل في هذا الباب. وهو حجة لمالك وأشهب. وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضربه، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر؛ لقوله عليه السلام: [ فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ] ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم أو من هو ممنوع من إحداث ما لا يجوز له في السنة. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد مضى في « الأنفال » . وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها، وقد مضى في « آل عمران » فتأمل كلا في موضعه تجده مبينا، والحمد لله.

 

الآيات: 34 - 35 ( ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين )

 

قوله تعالى: « ولبيوتهم أبوابا وسررا » « ولبيوتهم أبوابا » أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل: « لبيوتهم » بدل اشتمال من قوله: « لمن يكفر بالرحمن » . « أبوابا » أي من فضة.

« وسررا » كذلك؛ وهو جمع السرير. وقيل: جمع الأسرة، والأسرة جمع السرير؛ فيكون جمع الجمع. « عليها يتكئون » الاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشيء؛ ومنه، « أتوكأ عليها » . ورجل تكأة؛ مثال همزة؛ كثير الاتكاء. والتكأة أيضا: ما يتكأ عليه. وأتكأ على الشيء فهو متكئ؛ والموضع متكأ. وطعنه حتى أتكأه ( على أفعله ) أي ألقاه على هيئة المتكئ. وتوكأت على العصا. وأصل التاء في جميع ذلك واو، ففعل به ما فعل باتزن واتعد. « وزخرفا » الزخرف هنا الذهب؛ عن ابن عباس وغيره. نظيره: « أو يكون لك بيت من زخرف » [ الإسراء: 93 ] وقد تقدم. وقال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن: النقوش؛ وأصله الزينة. يقال: زخرفت الدار؛ أي زينتها. وتزخرف فلان؛ أي تزبن. واتصب « زخرفا » على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا. وقيل: ينزع الخافض؛ والمعنى فجعلنا لهم سقفا وأبوابا وسررا من فضة ومن ذهب؛ فلما حذف « من » قال: « وزخرفا » فنصب. « وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا » قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر « وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا » بالتشديد. الباقون بالتخفيف؛ وقد ذكر هذا. وروي عن أبي رجاء كسر اللام من « لما » ؛ فـ « ما » عنده بمنزلة الذي، والعائد عليها محذوف؛ والتقدير: وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا، وحذف الضمير ها هنا كحذفه في قراءة من قرأ « مثلا ما بعوضة فما فوقها » [ البقرة: 26 ] و « تماما على الذي أحسن » [ الأنعام: 154 ] . أبو الفتح: ينبغي أن يكون « كل » على هذه القراءة منصوبة؛ لأن « إن » مخففة من الثقيلة، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين « إن » النافية التي بمعنى ما؛ نحو إن زيد لقائم، ولا لام هنا سوى الجارة. « والآخرة عند ربك للمتقين » يريد الجنة لمن اتقى وخاف. وقال كعب: إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس عبدي الكافر بالإكليل، ولا يتصدع ولا ينبض منه عرق بوجع. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ] .

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) . وفي الباب عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب. وأنشدوا:

فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن إذاً لم يكن فيها معاش لظالم

لقد جاع فيها الأنبياء كرامة وقد شبعت فيها بطون البهائم

وقال آخر:

تمتع من الأيام إن كنت حازما فإنك فيها بين ناه وآمر

إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بضائر

فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ولا وزن رَقٌّ من جناح لطائر

فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن ولا رضي الدنيا عقابا لكافر

 

الآيات: 36 - 38 ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين )

 

قوله تعالى: « ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين » وقرأ ابن عباس وعكرمة « ومن يعش » بفتح الشين، ومعناه يعمى؛ يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي. ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر؛ ومنه قول الأعشى:

رأت رجلا غائب الوافدَيـ ـن مختلفَ الخلق أعشى ضريرا

وقوله:

أن رأت رجلا أعشى أضر به ريب المنون ودهر مفند خَبِلُ

الباقون بالضم؛ من عشا يعشو إذا لحقه ما لحق الأعشى. وقال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف؛ وأنشد:

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد

وقال آخر:

لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره إذا الريح هبت والمكان جديب

الجوهري: والعشا ( مقصور ) مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء، وامرأتان عشواوان. وأعشاه الله فعشي ( بالكسر ) يعشى عشي، وهما يعشيان، ولم يقولوا يعشوان؛ لأن الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها. وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى. والنسبة إلى أعشى أعشوي. وإلى العشية عشوى. والعشواء: الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء. وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة. وفلان خابط خبط عشواء.

وهذه الآية تتصل بقول أول السورة: « أفنضرب عنكم الذكر صفحا » [ الزخرف: 5 ] أي نواصل لكم الذكر؛ فمن يعش عن ذلك الذكر بالإعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم « نقيض له شيطانا » أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره « فهو له قرين » قيل في الدنيا، يمنعه يمنعه من الحلال، ويبعثه على الحرام، وينهاه عن الطاعة، ويأمره بالمعصية؛ وهو معنى قول ابن عباس. وقيل في الآخرة إذا قام من قبره؛ قال سعيد الجريري. وفي الخبر: أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخل النار. وأن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه؛ ذكره المهدوي. وقال القشيري: والصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة. وقال أبو الهيثم والأزهري: عشوت إلى كذا أي قصدته. وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه، فتفرق بين « إلى » و « عن » ؛ مثل: ملت إليه وملت عنه. وكذا قال قتادة: يعش، يعرض؛ وهو قول الفراء. النحاس: وهو غير معروف في اللغة. وقال القرظي: يولي ظهره؛ والمعنى واحد. وقال أبو عبيدة والأخفش: تظلم عينه. وأنكر العتبي عشوت بمعنى أعرضت؛ قال: وإنما الصواب تعاشيت. والقول قول أبي الهيثم والأزهري. وكذلك قال جميع أهل المعرفة. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم وعن الأعمش « يقيض » ( بالياء ) لذكر « الرحمن » أولا؛ أي يقيض له الرحمن شيطانا. الباقون بالنون. وعن ابن عباس « يقيض له شيطان فهو له قرين » أي ملازم ومصاحب. قيل: « فهو » كناية عن الشيطان؛ على ما تقدم. وقيل عن الإعراض عن القرآن؛ أي هو قرين للشيطان. « وإنهم ليصدونهم عن السبيل » أي وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى؛ وذكر بلفظ الجمع لأن « من » في قوله: « ومن يعش » في معنى الجمع. « ويحسبون » أي ويحسب الكفار « أنهم مهتدون » وقيل: ويحسب الكفار إن الشياطين مهتدون فيطيعونهم.

 

قوله تعالى: « حتى إذا جاءنا » على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يعني الكافر يوم القيامة. الباقون « جاءانا » على التثنية، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة؛ فيقول الكافر: « يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين » أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، كما قال تعالى: « رب المشرقين ورب المغربين » [ الرحمن: 17 ] ونحوه قول مقاتل. وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الإفراد فالمعنى لهما جميعا؛ لأنه قد عرف ذلك بما بعده؛ كما قال:

وعين لها حدرة بدرة شقت مآقيهما من أخر

قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة، ولذلك قال: « بعد المشرقين » . وقال الفراء: أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما، كما يقال: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للكوفة والبصرة، والعصران للغداة والعصر. وقال الشاعر:

أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع

وأنشد أبو عبيدة لجرير:

ما كان يرضى رسول الله فعلهم والعمران أبو بكر ولا عمر

وأنشد سيبويه:

قَدْنيَ من نصر الخُـبَيبين قَدِي

يريد عبدالله ومصعبا ابني الزبير،وإنما أبو خبيب عبدالله. « فبئس القرين » أي فبئس الصاحب أنت؛ لأنه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار.

 

الآية: 39 ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون )

 

قوله تعالى: « ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم » « إذ » بدل من اليوم؛ أي يقول الله للكافر: لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام؛ وهو قول الكافر: « يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين » أي لا تنفع الندامة اليوم « إنكم » بالكسر « في العذاب مشتركون » وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه. الباقون بالفتح. وهي في موضع رفع تقديره: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب؛ لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه. أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم: لي في البلاء والمصيبة أسوة؛ فيسكن ذلك من حزنه؛ كما قالت الخنساء:

فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي

فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي، شيئا لشغلهم بالعذاب. وقال مقاتل: لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم؛ لأن قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر.

 

الآية: 40 ( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي » يا محمد « ومن كان في ضلال مبين » أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا؛ ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه رد على القدرية وغيرهم، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى، يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

 

الآيات: 41 - 42 ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون، أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون )

 

قوله تعالى: « فإما نذهبن بك » يريد نخرجنك من مكة من أذى قريش. « فإنا منهم منتقمون. أو نريك الذي وعدناهم » وهو الانتقام منهم في حياتك. « فإنا عليهم مقتدرون » قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر؛ وهو قول أكثر المفسرين.

وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام؛ يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن. و « نذهبن بك » على هذا نتوفينك. وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلا وقد أري النقمة في أمته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما لقيت أمته من بعده، فما زال منقبضا، ما انبسط ضاحكا حتى لقي، الله عز وجل. وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أراد الله بأمة خيرا قبض نبيها قبلها فجعاه لها فرطا وسلفا. وإذا أراد الله بأمة عذابا عذبها ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوا أمره ) .

 

الآيات: 43 - 44 ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم، وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون )

 

قوله تعالى: « فاستمسك بالذي أوحي إليك » يريد القرآن، يريد القرآن، وإن كذب به من كذب؛ فـ « إنك على صراط مستقيم » يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه. « وإنه لذكر لك ولقومك » يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم؛ نظيره: « لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم » [ الأنبياء: 10 ] أي شرفكم. فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب؛ فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذك فصاروا عيالا عليهم؛ لأن أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الأمر. والنهي وجميع ما فيه من الأنباء، فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات ولذلك سمي عربيا.

وقيل: بيان لك ولأمتك فيما بكم إليه حاجة. وقيل: تذكرة تذكرون به أمر الدين وتعملون به. وقيل: « وإنه لذكر لك ولقومك » يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم؛ قال النبي مصلى الله عليه وسلم: [ الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم ] . وقال مالك: هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه، حكاه ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس فيما ذكر الماوردي والثعلبي وغيرهما. قال ابن العربي: ولم أجد في الإسلام هذه المرتبة لأحد إلا ببغداد فإن بني التميمي بها يقولون: حدثني أبي قال حدثني أبي، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك شرفت أقدارهم، وعظم الناس شأنهم، وتهممت الخلافة بهم. ورأيت بمدينة السلام ابني أبي محمد رزق الله بن عبدالوهاب أبي الفرج بن عبدالعزيز بن الحارث بن الأسد بن الليث آل سليمان بن أسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبدالله التميمي وكانا يقولان: سمعنا أبانا رزق الله يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت علي بن أبي طالب يقول وقد سئل عن الحنان المنان فقال: الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال. والقائل سمعت عليا: أكينة بن عبدالله جدهم الأعلى. والأقوى أن يكون المراد بقوله: « وإنه لذكر لك ولقومك » يعني القرآن؛ فعليه انبنى الكلام وإليه يرجع المصير، والله أعلم. قال الماوردي: « ولقومك » فيهم قولان: أحدهما: من اتبعك من أمتك؛ قاله قتادة وذكره الثعلبي عن الحسن. الثاني: لقومك من قريش؛ فيقال ممن هذا ؟ فيقال من العرب، فيقال من أي العرب ؟ فيقال من قريش؛ قال مجاهد.

قلت: والصحيح أنه شرف لمن عمل به، كان من قريش أومن غيرهم. روى ابن عباس قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم من سرية أو غزاة فدعا فاطمة فقال: [ يا فاطمة اشتري نفسك من الله فإني لا أغني عنك من الله شيئا ] وقال مثل ذلك لنسوته، وقال مثل ذلك لعترته، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: [ ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا قريش بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة وأنتم كجمام الصاع ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى ] . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم أو يكونون شرا عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها، كلكم بنو آدم وآدم من تراب، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء الناس مؤمن تقي وفاجر شقي ] . خرجهما الطبري. وسيأتي لهذا مزيد بيان في الحجرات إن شاء الله تعالى.

 

قوله تعالى: « وسوف تسألون » أي عن الشكر عليه؛ قال مقاتل والفراء. وقال ابن جريج: أي تسألون أنت ومن معك على ما أتاك. وقيل: تسألون عما عملتم فيه؛ والمعنى متقارب.

 

الآية: 45 ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )

 

قوله تعالى: « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا » قال ابن عباس وابن زيد: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو مسجد بيت المقدس - بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، وجبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأذن جبريل صلى الله عليه وسلم ثم أقام الصلاة، ثم قال: يا محمد تقدم فصل بهم؛ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال جبريل صلى الله عليه وسلم: [ سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ] . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لا أسأل قد اكتفيت ] . قال ابن عباس: وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؛ فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم. في غير رواية ابن عباس: فصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة صفوف، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة؛ وكان يلي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خليل الله، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين؛ فلما انفتل قام فقال: [ إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله ] ؟ فقالوا: يا محمد، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل، وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى ابن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك ) .

وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا » قال: لقي الرسل ليلة أسري به. وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى: « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا » قال: سألت عن ذلك وليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال: سألهم ليلة أسري به، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالك خازن النار.

قلت: هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. و « من » التي قبل « رسلنا » على هذا القول غير زائدة. وقال المبرد وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا. وروي أن في قراءة ابن مسعود: « واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا » . وهذه قراءة مفسرة؛ فـ « من » على هذا زائدة، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا. أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل. وقيل: المعنى سلنا يا محسد عن الأنبياء الذين أرسلنا قبلك؛ فحذفت « عن » ، والوقف على « رسلنا » على هذا تام، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار. وقيل: المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا، فحذف المضاف. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.

 

قوله تعالى: « أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون » أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال: « يعبدون » ولم يقل تعبد ولا يعبدن، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل.

وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك؛ فأمره الله بسؤال الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير؛ لا لأنه كان في شك منه.

واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما: أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد؛ قاله الواقدي. الثاني: أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل؛ حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: ( هل سألك محمد عن ذلك ؟ فقال جبريل: هو أشد إيمانا وأعظم يقينا من أن يسأل عن ذلك ) . وقد تقدم هذا المعنى في الروايتين حسبما ذكرناه.

الآية [ 46 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 46 - 52 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين، فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون، وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون، وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون، فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون، ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين )

 

قوله تعالى: « ولقد أرسلنا موسى بآياتنا » لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه منتقم له من عدوه وأقام الحجة باستشهاد الأنبياء واتفاق الكل على التوحيد أكد ذلك قصة موسى وفرعون، وما كان من فرعون من التكذيب، وما نزل به وبقومه من الإغراق والتعذيب: أي أرسلنا موسى بالمعجزات وهي التسع الآيات فكذب؛ فجعلت العاقبة الجميلة له، فكذلك أنت. ومعنى: « يضحكون » استهزاء وسخرية؛ يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخيل، وأنهم قادرون عليها. وقوله: « وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها » أي كانت آيات موسى من أكبر الآيات، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل: « إلا وهي أكبر من أختها » لأن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فتضم الثانية إلى الأولى فيزداد الوضوح، ومعنى الأخوة المشاكلة المناسبة؛ كما يقال: هذه صاحبة هذه؛ أي قريبتان في المعنى. « وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون » أي على تكذيبهم بتلك الآيات؛ وهو كقوله تعالى: « ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات » [ الأعراف:130 ] . والطوفان والجراد والقمل والضفادع. وكانت هذه الآيات الأخيرة عذابا لهم وآيات لموسى. « لعلهم يرجعون » من كفرهم.

 

قوله تعالى: « وقالوا يا أيها الساحر » لما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر؛ نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل: كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس: « يا أيها الساحر » يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه؛ ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل: يا أيها الذي غلبنا بسحره؛ يقال: ساحرته فسحرته؛ أي غلبته بالسحر؛ كقول العرب: خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة، وفاضلته ففضلته، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن ثابت « وأيهُ الساحر » بغير ألف والهاء مضمومة؛ وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء:

يأيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس

فضم الهاء حملا على ضم الياء؛ وقد مضى في « النور » معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي « أيها » بالألف على الأصل. الباقون بغير ألف؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف. « ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون » « ادع لنا ربك بما عهد عندك » أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا؛ فسله يكشف عنا « إننا لمهتدون » أي فيما يستقبل. « فلما كشفنا عنهم العذاب » أي فدعا فكشفنا. « إذا هم ينكثون » أي ينقضون العهد على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل:قولهم: « إننا لمهتدون » إخبار منهم عن أنفسهم بالإيمان؛ فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا.

 

قوله تعالى: « ونادى فرعون في قومه » قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال: فنادى بمعنى قال؛ قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط؛ وكأنه نودي بينهم. وقيل: إنه أمر من ينادي في قومه؛ قاله ابن جريج. « قال يا قوم أليس لي ملك مصر » أي لا ينازعني فيه أحد. قيل: إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها؛ حكاه النقاش. وقيل أراد بالملك هنا الإسكندرية. « وهذه الأنهار تجري من تحتي » يعني أنهار النيل، ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. وقال قتادة: كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل: من تحت سريره. وقيل: « من تحتي » قال القشيري: ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية؛ إذ لا حاجة في التمييز الإله من غير الإله إلى فعل خارق للعادة. وقيل معنى « وهذه الأنهار تجري من تحتي » أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون من تحت لوائي؛ قاله الضحاك. وقيل: أراد بالأنهار الأموال، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها. وقوله: « تجري من تحتي » أي أفرقها على من يتبعني؛ لأن الترغيب والقدرة في الأموال دون الأنهار. « أفلا تبصرون » عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل: قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في « وهذه » يجوز أن تكون عاطفة للأنهار على « ملك مصر » و « تجري » نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، و « الأنهار » صفة لاسم الإشارة، و « تجري » خبر للمبتدأ. وفتح الياء من « تحتي » أهل المدينة والبزي وأبو عمرو، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال: لأولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبدالله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها شارفها ووقع عليها بصره قال: أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: « أليس لي ملك مصر » ؟ ! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها ! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال: « أم أنا خير » قال أبو عبيدة السدي: « أم » بمعنى « بل » وليست بحرف عطف؛ على قول أكثر المفسرين. والمعنى: قال فرعون لقومه بل أنا خير « من هذا الذي هو مهين » أي لا عزله فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه « ولا يكاد يبين » يعني ما كان في لسانه من العقدة؛ على ما تقدم في « طه » وقال الفراء:في « أم » وجهان: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله: « أليس لي ملك مصر » . وقيل: هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون « أم » زائدة؛ والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؛ كما قال:

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم

أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتداء فقال: ( أنا خير ) . وقال الخليل وسيبويه: المعنى « أفلا تبصرون » ، أم أنتم بصراء، فعطف بـ « أم » على « أفلا تبصرون » لأن معنى « أم أنا خير » أم أي تبصرون؛ وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء.

وروي عن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على « أم » على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون؛ فحذف تبصرون الثاني. وقيل من وقف على « أم » جعلها زائدة، وكأنه وقف على « تبصرون » من قوله: « أفلا تبصرون » . ولا يتم الكلام على « تبصرون » عند الخليل وسيبويه؛ لأن « أم » تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم: الوقف على قوله: « أفلا تبصرون » ثم ابتدأ « أم أنا خير » بمعنى بل أنا؛ وأنشد الفراء:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح

فمعناه: بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ « أما أنا خير » ؛ ومعنى هذا ألست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على « أم » ثم يبتدئ « أنا خير » وقد ذكر.

 

الآية: 53 ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين )

 

قوله تعالى: « فلولا » أي هلا « ألقي عليه أساورة من ذهب » إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرأ حفص « أسورة » جمع سوار، كخمار وأخمرة. وقرأ أبي « أساور » جمع إسوار. وابن مسعود « أساوير » . الباقون « أساورة » جمع الأسورة فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون « أساورة » جمع « إسوار » وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء؛ فهو مثل زناديق وزنادقة، وبطاريق وبطارقة، وشبهه. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير إسوار، وهي لغة في سوار. قال مجاهد: كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته، فقال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا ! « أو جاء معه الملائكة مقترنين » يعني متتابعين؛ في قول قتادة. مجاهد: يمشون معا. ابن عباس: يعاونونه على من خالفه؛ والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه؛ فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد، ولم يعلم أن رسل الله إنما أيدوا بالجنود السماوية؛ وكل عاقل يعلم أن حفظ الله موسى مع تفرده ووحدته من فرعون مع كثرة أتباعه، وإمداد موسى بالعصا واليد البيضاء كان أبلغ من أن يكون له أسورة أو ملائكة يكونون معه أعوانا - في قول مقاتل - أو دليلا على صدقه - في قول الكلبي - وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كان، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما كذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى؛ لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم.

 

الآية: 54 ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين )

 

قوله تعالى: « فاستخف قومه » قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه « فأطاعوه » لخفة أحلامهم وقلة عقولهم؛ يقال: استخفه الفرح أي أزعجه، واستخفه أي حمله على الجهل؛ ومنه: « ولا يستخفنك الذين لا يوقنون » [ الروم: 60 ] . وقيل: استفزهم بالقول فأطاعوه على، التكذيب. وقيل: استخف قومه أي وجدهم خفاف الأول. وهذا لا يدل على أنه يجب أن يطيعوه، فلا بد من إضمار بعيد تقديره وجدهم خفاف العقول فدعاهم إلى الغواية فأطاعوه. وقيل: استخف قومه وقهرهم حتى أتبعوه؛ يقال: استخفه خلاف استثقله، واستخف به أهانه. « إنهم كانوا قوما فاسقين » أي خارجين عن طاعة الله.

 

الآية: 55 ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين )

 

قوله تعالى: « فلما آسفونا انتقمنا منهم » روى الضحاك عن ابن عباس: أي غاظونا وأغضبونا. وروى عنه علي بن أبي طلحة: أي أسخطونا. قال الماوردي: ومعناها مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة. والغضب إرادة الانتقام. القشيري: والأسف ها هنا بمعنى الغضب؛ والغضب من الله إما إرادة العقوبة فيكون من صفات الذات، وإما عين العقوبة فيكون من صفات الفعل؛ وهو معنى قول الماوردي.

وقال عمر بن ذر: يا أهل معاصي الله، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه؛ فإنه قال: « فلما آسفونا انتقمنا منهم » . وقيل: « آسفونا » أي أغضبوا رسلنا وأولياءنا المؤمنين؛ نحو السحرة وبني إسرائيل. وهو كقوله تعالى: « يؤذون الله » [ الأحزاب: 57 ] و « يحاربون الله » [ المائدة: 33 ] أي أولياءه ورسله.

 

الآية: 56 ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين )

 

قوله تعالى: « فجعلناهم سلفا » أي جعلنا قوم فرعون سلفا. قال أبو مِجْلَز: « سلفا » لمن عمل عملهم، و « مثلا » لمن يعمل عملهم. وقال مجاهد: « سلفا » إخبارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، « ومثلا » أي عبرة لهم. وعنه أيضا « سلفا » لكفار قومك يتقدمونهم إلى النار. قتادة: « سلفا » إلى النار، « ومثلا » عظة لمن يأتي بعدهم. والسلف المتقدم؛ يقال: سلف يسلف سلفا؛ مثل طلب طلبا؛ أي تقدم ومضى. وسلف له عمل صالح أي تقدم. والقوم السلاف المتقدمون. وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون؛ والجمع أسلاف وسلاف. وقراءة العامة « سلفا » ( بفتح السين واللام ) جمع سالف؛ كخادم وخدم، وراصد ورصد، وحارس وحرس. وقرأ حمزة والكسائي « سلفا » ( بضم السين واللام ) . قال الفراء هو جمع سليف، نحو سرير وسرر. وقال أبو حاتم: هو جمع سلف؛ نحو خشب وخشب، وثمر وثمر؛ ومعناهما واحد. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس « سلفا » ( بضم السين وفتح اللام ) جمع سلفة، أي فرقة متقدمة. قال المؤرج والنضر بن شميل: « سلفا » جمع سلفة، نحو غرفة وغرف، وطرفة وطرف، وظلمة وظلم.

 

الآية: 57 ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون )

 

لما قال تعالى: « وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون » [ الزخرف: 45 ] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم الها؛ قال قتادة. ونحوه عن مجاهد قال: إن قريشا قالت إن محمدا يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى؛ فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبدالله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى، وأن الضارب لهذا المثل هو عبدالله بن الزبعرى اسهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو: « إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم » [ الأنبياء: 98 ] الآية، فقال: لو حضرته لرددت عليه؛ قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال: كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تعبد عزيرا، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم؛ وذلك معنى قوله: « يصدون » فما نزل الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء: 101 ] . ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما أعترض عليها؛ لأنه قال: « وما تعبدون » ولم يقل ومن تعبدون وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين. وقد مضى هذا في آخر سورة « الأنبياء » .

وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: [ يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله ] . قالوا: أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله !. فأنزل الله تعالى: « ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك يصدون » أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي « يصدون » ( بضم الصاد ) ومعناه يعرضون؛ قاله النخعي، وكسر الباقون. قال الكسائي: هما لغتان؛ مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون، ومعناه يضجون. قال الجوهري: وصد يصد صديدا؛ أي ضج. وقيل: إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض، وبالكسر من الضجيج؛ قال قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لكانت: إذا قومك عنه يصدون. الفراء: هما سواء؛ منه وعنه. ابن المسيب: يصدون يضجون. الضحاك يعجون. ابن عباس: يضحكون. أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون؛ فيكون المعنى: من أجل الميل يعدلون. ولا يعدى « يصدون » بمن، ومن كسر فمعناه يضجون؛ فـ « من » متصلة بـ « يصدون » والمعنى يضجون منه.

 

الآية: 58 ( وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون )

 

قوله تعالى: « وقالوا أآلهتنا خير أم هو » أي ألهتنا خير أم عيسى ؟ قال السدي. وقال: خاصموه وقالوا إن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى والملائكة وعزير، فأنزل الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء: 101 ] الآية. وقال قتادة: « أم هو » يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي قراءة ابن مسعود « ألهتنا خير أم هذا » . وهو يقوي قول قتادة، فهو استفهام تقرير في أن آلهتهم خير. وقرأ الكوفيون ويعقوب « أألهتنا » بتحقيق الهمزتين، ولين الباقون. وقد تقدم. « ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون » « ما ضربوه لك إلا جدلا » حال؛ أي جدلين. يعني ما ضربوا لك هذا المثل إلا إرادة الجدل؛ لأنهم علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموت « بل هم قوم خصمون » مجادلون بالباطل. وفي صحيح الترمذي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية - « ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون » ] .

 

الآيات: 59 - 60 ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون )

 

قوله تعالى: « إن هو إلا عبد أنعمنا عليه » أي ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالنبوة، وجعله مثلا لبني إسرائيل؛ أي آية وعبرة يستدل بها. على قدرة الله تعالى؛ فإن عيسى كان من غير أب، ثم جعل الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والأسقام كلها ما لم يجعل لغيره في زمانه، مع أن بني إسرائيل كانوا يومئذ خير الخلق وأحبه إلى الله عز وجل، والناس دونهم، ليس أحد عند الله عز وجل مثلهم.

وقيل المراد بالعبد المنعم عليه محمد صلى الله عليه وسلم؛ والأول أظهر. « ولو نشاء لجعلنا منكم » أي بدلا منكم « ملائكة » يكونون خلفا عنكم؛ قال السدي. ونحوه عن مجاهد قال: ملائكة يعمرون الأرض بدلا منكم. وقال الأزهري: إن « من » قد تكون للبدل؛ بدليل هذه الآية.

قلت: قدم تقدم هذا المعنى في « التوبة » وغيرها. وقيل: لو نشاء لجعلنا من الإنس ملائكة وإن لم تجر العادة بذلك، والجواهر جنس واحد والاختلاف بالأوصاف؛ والمعنى: لو نشاء لأسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا، أو يقال لهم بنات الله. ومعنى « يخلفون » يخلف بعضهم بعضا؛ قاله ابن عباس.

 

الآيات: 61 - 62 ( وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين )

 

قوله تعالى: « وإنه لعلم للساعة » قال الحسن وقتادة وسعيد بن جببر: يريد القرآن؛ لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، أو به تعلم الساعة وأهوالها وأحوالها.

وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا: إنه خروج عيسى عليه السلام، وذلك من أعلام الساعة. لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك « وإنه لعلم للساعة » ( بفتح العين واللام ) أي أمارة. وقد روي عن عكرمة « وإنه للعلم » ( بلامين ) وذلك خلاف للمصاحف. وعن عبدالله بن مسعود. قال: لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا الساعة فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علم؛ فرد الحديث إلى عيسى ابن مريم قال: قد عهد إلي فيما دون وجبتها فأت وجبتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل؛ فذكر خروج الدجال - قال: فأنزل فأقتله. وذكر الحديث، خرجه ابن ماجة في سننه. وفي صحيح مسلم [ فبينما هو - يعني المسيح الدجال - إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله... ] الحديث...

وذكر الثعلبي والزمخشري وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء على ثنية من الأرض المقدسة يقال لها أفيق بين ممصرتين وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به ] . وروى خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم إنه ليس بيني وبينه نبي وإنه أول نازل فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام ] . قال الماوردي: وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولا إلى ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم. وهذا قول مردود لثلاثة أمور؛ منها الحديث، ولأن بقاء الدنيا يقتضي التكليف فيها، ولأنه ينزل آمرا بمعروف وناهيا عن منكر. وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى له مقصورا على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه.

قلت: ثبت في صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لينزلن عيسى بن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ] . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ كيف أنتم إذا نزل،ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ] وفي رواية [ فأمكم منكم ] قال ابن أبي ذئب: تدري [ ما أمكم منكم ] ؟ قلت: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فهذا نص على أنه ينزل مجددا لدين النبي صلى الله عليه وسلم للذي درس منه، لا بشرع مبتدأ والتكليف باق؛ على ما بيناه هنا وفي كتاب التذكرة.

وقيل: « وإنه لعلم للساعة » أي وإن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى؛ قال ابن إسحاق.

قلت: ويحتمل أن يكون المعنى « وإنه » وإن محمدا صلى الله عليه وسلم لعلم للساعة؛ بدليل قوله عليه السلام: [ بعثت أنا والساعة كهاتين ] وضم السبابة والوسطى؛ خرجه البخاري ومسلم. وقال الحسن: أول أشراطها محمد صلى الله عليه وسلم.

 

قوله تعالى: « فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط مستقيم » « فلا تمترون بها » فلا تشكون فيها؛ يعني في الساعة؛ قاله يحيى بن سلام. وقال السدي: فلا تكذبون بها، ولا تجادلون فيها فإنها كائنة لا محالة. « واتبعون » أي في التوحيد وفيما أبلغكم عن الله. « هذا صراط مستقيم » أي طريق قويم إلى الله، أي إلى جنته. وأثبت الياء يعقوب في قوله: « واتبعون » في الحالين، وكذلك « وأطيعون » . وأبو عمرو وإسماعيل عن نافع في الوصل دون الوقف، وحذف الباقون في الحالين. « ولا يصدنكم الشيطان » أي لا تغتروا بوساوسه وشبه الكفار. المجادلين؛ فإن شرائع الأنبياء لم تختلف في التوحيد ولا فيما أخبروا به من علم الساعة وغيرها بما تضمنته من جنه أو نار. « إنه لكم عدو مبين » تقدم.

 

الآيات: 63 - 64 ( ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم )

 

قوله تعالى: « ولما جاء عيسى بالبينات » قال ابن عباس: يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام، وخلق الطير، والمائدة وغيرها، والإخبار بكثير من الغيوب. وقال قتادة: البينات هنا الإنجيل. « قال قد جئتكم بالحكمة » أي النبوة؛ قاله السدي. ابن عباس: علم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح. وقيل الإنجيل؛ ذكره القشيري والماوردي. « ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه » قال مجاهد: من تبديل التوراة. الزجاج: المعنى لأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوراة.

قال مجاهد: وبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل: بين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على قدر ما سألوه. ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عنها. وقيل: إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم وأشياء من أمر دنياهم فبين لهم أمر دينهم. ومذهب أبي عبيدة أن البعض بمعنى الكل؛ ومنه قوله تعالى: « يصبكم بعض الذي يعدكم » [ غافر: 28 ] . وأنشد الأخفش قول لبيد:

سراك أمكنة إذا لم أرضها وتعتلق بعض النفوس حمامها

والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض. ويقال للمنية: علوق وعلاقة. قال المفضل البكري:

وسائلة بثعلبة بن سير وقد علقت بثعلبة العلوق

وقال مقاتل: هو كقول: « ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم » [ آل عمران: 50 ] . يعني ما أحل في الإنجيل مما كان محرما في التوراة؛ كلحم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت. « فاتقوا الله » أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده؛ وإذا كان هذا قول عيسى فكيف يجوز أن يكون إلها أو ابن إله. « وأطيعون » فيما أدعوكم إليه من التوحيد وغيره. « إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم » أي عبادة الله صراط مستقيم، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق.

 

الآيات: 65 - 66 ( فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم، هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون )

 

قوله تعالى: « فاختلف الأحزاب من بينهم » قال قتادة: يعني ما بينهم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، خالف بعضهم بعضا، قال مجاهد والسدي. الثاني: فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة، اختلفوا في عيسى؛ فقال النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة: هو الله. وقالت الملكية: ثالث ثلاثة أحدهم الله؛ قال الكلبي ومقاتل، وقد مضى هذا في سورة « مريم » . « فويل للذين ظلموا » أي كفروا وأشركوا؛ كما في سورة « مريم » . « من عذاب يوم أليم » أي أليم عذابه؛ مثله: ليل نائم؛ أي ينام فيه. « هل ينظرون » يريد الأحزاب لا ينتظرون. « إلا الساعة أن تأتيهم بغتة » « إلا الساعة » يريد القيامة. « أن تأتيهم بغتة » أي فجأة. « وهم لا يشعرون » يفطنون. وقد مضى في غير موضع. وقيل: المعنى لا ينتظر مشركو العرب إلا الساعة. ويكون « الأحزاب » على هذا، الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. ويتصل هذا بقوله تعالى: « ما ضربوه لك إلا جدلا » [ الزخرف: 58 ] .

 

الآية: 67 ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين )

 

قوله تعالى: « الأخلاء يومئذ » يريد يوم القيامة. « بعضهم لبعض عدو » أي أعداء، يعادي بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. « إلا المتقين » فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة؛ قال معناه ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط، كانا خليلين؛ وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط؛ فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه؛ ففعل عقبة ذلك؛ فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا، وقتل أمية في المعركة؛ وفيهم نزلت هذه الآية. وذكر الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كان خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب، إن فلانا كان يأمرني بطاعتك، وطاعة رسولك، وكان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر. ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي، وأهده كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. فإذا مات خليله المؤمن جمع الله ببنهما، فيقول الله تعالى: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، ويخبرني أني ملاقيك، فيقول الله تعالى: نعم الخليل ونعم الأخ ونعم الصاحب كان. قال: ويموت أحد الكافرين فيقول: يا رب، إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير، ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك يا رب ألا تهده بعدي، وأن تضله كما أضللتني، وأن تهينه كما أهنتني؛ فإذا مات خليله الكافر قال الله تعالى لهما: لثين كل واحد منكما على صاحبه، فيقول: يا رب، إنه كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك، فأسألك أن تضاعف عليه العذاب؛ فيقول الله تعالى: بئس الصاحب والأخ والخليل كنت. فيلعن كل واحد منهما صاحبه.

قلت: والآية عامة في كل مؤمن ومتق وكافر ومضل.

 

الآية: 68 ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون )

 

قال مقاتل ورواه المعتمر بن سليمان عن أببه: ينادي مناد في العرصات « يا عبادي لا خوف عيكم اليوم » ، فيرفع أهل العرصة رؤوسهم، فيقول المنادي: « الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين » فينكس أهل الأديان رؤوسهم غير المسلمين.

وذكر المحاسبي في الرعاية: وقد روي في هذا الحديث أن المنادي ينادي يوم القيامة: « يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون » فيرفع الخلائق رؤوسهم، يقولون: نحن عباد الله. ثم ينادي الثانية: « الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين » فينكس الكفار رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم. ثم ينادي الثالث: « الذين آمنوا وكانوا يتقون » [ يونس: 63 ] فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم؛ لأنه أكرم الأكرمين، لا يخذل وليه ولا يسلمه عند الهلكة. وقرئ « يا عباد » . وقرأ أبو بكر وزر بن حبيش « يا عبادي » بفتح الياء وإثباتها في الحالين؛ ولذلك أثبتها نافع وابن عامر وأبو عمرو ورويس ساكنة في الحالين. وحذفها الباقون في الحالين؛ لأنهما وقعت مثبتة في مصاحف أهل الشام والمدينة لا غير.

 

الآيات: 69 - 70 ( الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون )

 

قال الزجاج: « الذين » نصب على النعت لـ « عبادي » لأن « عبادي » منادى مضاف. وقيل: « الذين آمنوا » خبر لمبتدأ محذوف أو ابتداء وخبره محذوف؛ تقديره هم الذين آمنوا، يقال لهم: « ادخلوا الجنة » أو يا عبادي الذين آمنوا ادخلوا الجنة. « أنتم وأزواجكم » المسلمات في الدنيا. وقيل: قرناؤكم من المؤمنين. وقيل: زوجاتكم من الحور العين. « تحبرون » تكرمون؛ قاله ابن عباس؛ والكرامة في المنزلة. الحسن: تفرحون. والفرح في القلب. قتادة: ينعمون؛ والنعيم في البدن. مجاهد؛ تسرون؛ والسرور في العين. ابن أبي نجيح: تعجبون؛ والعجب ها هنا درك ما يستطرف يحي بن أبي كثير: هو التلذذ بالسماع. وقد مضى.

 

الآية: 71 ( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون )

 

قوله تعالى: « يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب » أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في صحاف من ذهب وأكواب. ولم يذكر الأطعمة والأشربة؛ لأنه يعلم أنه لا معنى للإطافة بالصحاف والأكواب عليهم من غير أن يكون فيها شيء. وذكر الذهب في الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب؛ كقوله تعالى: « والذاكرين الله كثيرا والذاكرات » [ الأحزاب: 35 ] . وفي الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ] . وقد مضى في سورة « الحج » أن من أكل فيهما في الدنيا أو لبس الحرير في الدنيا ولم يتب حرم ذلك في الآخرة تحريما مؤيدا. والله أعلم. وقال المفسرون: يطوف على أدناهم في الجنة منزلة سبعون ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب، يغدى عليها بها، في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا، ويراح عليه بمثلها. ويطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام، مع كل غلام صحفة من ذهب، فيها لون من الطعام ليس في صاحبتها، يأكل من آخرها كما يأكل من أولها، ويجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها، لا يشبه بعضه بعضا.

« وأكواب » أي ويطاف عليهم بأكواب؛ كما قال تعالى: « ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب » [ الإنسان: 15 ] .

وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال: يؤتون بالطعام والشراب، فإذا كان في آخر ذلك أوتوا بالشراب الطهور فتضمر لذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك؛ ثم قرأ « شرابا طهورا » [ الإنسان: 21 ] . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام ؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير - في رواية - كما يلهمون النفس ] .

 

روى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) وقال: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ) وهذا يقتضي التحريم، ولا خلاف في ذلك. واختلف الناس في استعمالها في غير ذلك. قال ابن العربي: والصحيح أنه لا يجوز للرجال استعمالها في شي لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والحرير: ( هذان حرام لذكور أمتي حل لإناثها ) . والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل علن تحريم استعمالها؛ لأنه نوع من المتاع فلم يجز. أصله الأكل والشرب، ولأن العلة في ذلك استعجال أمر الآخرة، وذلك يستوي فيه الأكل والشرب وسائر أجزاء الانتفاع؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: ( هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ) فلم يجعل لنا فيها حظا في الدنيا.

 

إذا كان الإناء مضببا بهما أو فيه حلقة منهما؛ فقال مالك: لا يعجبني أن يشرب فيه، وكذلك المرأة تكون فيها الحلقة من الفضة ولا يعجبني أن ينظر فيها وجهه.

وقد كان عند أنس إناء مضبب بفضة وقال: لقد سقيت فيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين: كانت فيه حلقة حديد فأراد أنس أن يجعل فيه حلقة فضة؛ فقال أبو طلحة: لا أغير شيئا مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركه.

 

إذا لم يجز استعمالها لم يجز اقتناؤها؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اقتناؤه كالصنم والطنبور. وفي كتب علمائنا أنه يلزم الغرم في قيمتها لمن كسرها، وهو معنى فاسد، فإن كسره واجب فلا ثمن لقيمتها. ولا يجوز تقويمها في الزكاة بحال. وغير هذا لا يلتفت إليه.

 

قوله تعالى: « بصحاف » قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة طيها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف. « وأكواب » قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب قال الأعشى يصف الخمر:

صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن

وقال آخر:

متكئا تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب

وقال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة. والإبريق: المستطيل العنق الطويل العروة. وقال الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وهي الأباريق التي ليست لها عرى. وقال مجاهد: إنها الآنية المدورة الأفواه. السدي: هي التي لا آذان لها. ابن عزيز: « أكواب » أباريق لا عرى لها ولا خراطيم؛ واحدها كوب.

قلت: وهو معنى قول مجاهد والسدي، وهو مذهب أهل اللغة أنها التي لا آذان لها ولا عرى.

 

قوله تعالى: « وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين » روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،هل في الجنة من خيل ؟ قال: [ إن الله أدخلك الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنة حيث شئت ] . قال: وسأله رجلا فقال يا رسول الله، هل في الجنة من إبل ؟ قال: فلم يقل له مثل ما قال لصاحبه قال: [ إن أدخلك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك ] . وقرأ أهل المدينة، ابن عامر وأهل الشام « وفيها ما تشتهيه الأنفس » ، الباقون « تشتهي الأنفس » أي تشتهيه الأنفس؛ تقول الذي ضربت زيد، أي الذي ضربته زيد. « وتلذ الأعين » تقول: لذ الشيء يلذ لذاذا، ولذاذة. ولذذت. بالشيء ألذ ( بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل ) لذاذا ولذاذة؛ أي وجدته لذيذا. والتذذت به وتلذذت به بمعنى. أي في الجنة ما تستلذه العين فكان حسن المنظر. وقال سعيد بن جبير: « وتلذ الأعين » النظر إلى الله عز وجل؛ كما في الخبر: [ أسألك لذة النظر إلى وجهك ] . « وأنتم فيها خالدون » باقون دائمون؛ لأنها لو انقطعت لتبغضت.

 

الآية: 72 ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون )

 

قوله تعالى: « وتلك الجنة » أي يقال لهم هذه تلك الجنة التي كانت توصف لكم في الدنيا. وقال ابن خالَويه: أشار تعالى إلى الجنة بتلك وإلى جهنم بهذه؛ ليخوف بجهنم ويؤكد التحذير منها. وجعلها بالإشارة القريبة كالحاضرة التي ينظر إليها. « التي أورثتموها بما كنتم تعملون » قال ابن عباس: خلق الله لكل نفس جنة ونارا؛ فالكافر يرث نار المسلم، والمسلم يرث جنة الكافر؛ وقد تقدم هذا مرفوعا في « قد أفلح المؤمنون » [ المؤمنون: 1 ] من حديث أبي هريرة، وفي « الأعراف » أيضا.

 

الآية: 73 ( لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون )

 

الفاكهة معروفة، وأجناسها الفواكه، والفاكِهاني الذي يبيعها. وقال ابن عباس: هي الثمار كلها، رطبها وطيبا؛ أي لهم في الجنة سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة يأكلون منها.

 

الآيات: 74 - 76 ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون، لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون، وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين )

 

قوله تعالى: « إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون » لما ذكر أحوال أهل الجنة ذكر أحوال أهل النار أيضا ليبين فضل المطيع على العاصي. « لا يفتر عنهم » أي لا يخفف عنهم ذلك العذاب. « وهم فيه ملبسون » أي آيسون من الرحمة. وقيل: ساكتون سكوت يأس؛ وقد مضى. « وما ظلمناهم » بالعذاب « ولكن كانوا هم الظالمين » أنفسهم بالشرك. ويجوز « ولكن كانوا هم الظالمون » بالرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر كان.

 

الآية: 77 ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون )

 

قوله تعالى: « ونادوا يا مالك » وهو خازن جهنم، خلقه لغضبه؛ إذا زجر النار زجرة أكل بعضها بعضا. وقرأ علي وابن مسعود رضي الله عنهما « ونادوا يا مالِ » وذلك خلاف المصحف. وقال أبو الدرداء وابن مسعود: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « ونادوا يا مال » باللام خاصة؛ يعني رخم الاسم وحذف الكاف. والترخيم الحذف، ومنه ترخيم الاسم في النداء، وهو أن يحذف من آخره حرف أوكثر، فتقول في مالك: يا مال، وفي حارث: يا حار، وفي فاطمة: يا فاطم، وفي عائشة يا عائش وفي مروان: يا مرو، وهكذا. قال:

يا حار لا أرمين منكم به بداهية لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك

وقال امرؤ القيس:

أحار ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل

وقال أيضا:

أفاطم مهلا بعض هذا التدليل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

وقال آخر:

يا مرو إن مطيتي محبوسة ترجو الحباء وربها لم ييأس

وفي صحيح الحديث ( أي فل، هلم ) . ولك في آخر الاسم المرخم وجهان: أحدهما: أن تبقيه على ما كان عليه قبل الحذف. والآخر: أن تبقيه على الضم؛ مثل: يا زيد؛ كأنك أنزلته منزلته ولم تراع المحذوف. وذكر أبو بكر الأنباري قال: حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد - وهو ابن سعدان - قال حدثنا حجاج عن شعبة عن الحكم بن عيينة عن مجاهد قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى وجدناه في قراءة عبدالله « بيت من ذهب » ، وكنا لا ندري « ونادوا يا مالك » أو يا ملك ( بفتح اللام وكسرها ) حتى وجدناه في قراءة عبدالله « ونادوا يا مال » على الترخيم. قال أبو بكر: لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن الرسول عليه السلام؛ وكتاب الله أحق بأن يحتاط له وينفى عنه الباطل.

قلت: وفي صحيح البخاري عنه صفوان بن يعلى عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: « ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك » بإثبات الكاف.

وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني - أو ذكر لي - أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى: « وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب » [ غافر: 49 ] فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب؛ فردت عليهم: « قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال » [ غافر:50 ] قال: فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا؛ وهو عليهم وله مجلس في وسطها، وجسور تمر عليها ملائكة العذاب؛ فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا: « يا مالك ليقض علينا ربك » سألوا الموت، قال: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال: والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال: « إنكم ماكثون » وذكر الحديث؛ ذكره ابن المبارك. وفي حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ فيقولون ادعوا مالكا فيقولون يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ] . قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام؛ خرجه الترمذي. وقال ابن عباس: يقولون ذلك فلا يجيبهم ألف سنة، ثم يقول إنكم ماكثون. وقال مجاهد ونوف البكالي: بين ندائهم وإجابته إياهم مائة سنة. وقال عبدالله بن عمرو: أربعون سنة؛ ذكره ابن المبارك.

 

الآية: 78 ( لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون )

 

يحتمل أن يكون هذا من قول مالك لهم؛ أي إنكم ماكثون في النار لأنا جئناكم في الدنيا بالحق فلم تقبلوا. ويحتمل أن يكون من كلام الله لهم اليوم؛ أي بينا لكم الأدلة وأرسلنا إليكم الرسل. « ولكن أكثركم » قال ابن عباس: « ولكن أكثركم » أي ولكن كلكم. وقيل: أراد بالكثرة الرؤساء والقادة منهم؛ وأما الأتباع فما كان لهم أثر « للحق » أي للإسلام ودين الله « كارهون » .

 

الآية: 79 ( أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون )

 

قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه؛ فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم ببدر.

« أبرموا » أحكموا. والإبرام الإحكام. أبرمت الشيء أحكمته. وأبرم القتال إذا أحكم القتل، وهو القتل الثاني، والأول سحيل؛ كما قال:

. .. من سحيل ومبرم

فالمعنى: أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا؛ قال ابن زيد ومجاهد. قتادة: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث. الكلبي: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم بالعذاب. وأم بمعنى بل. وقيل: « أم أبرموا » عطف على قوله: « أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون » [ الزخرف: 45 ] . وقيل: أي ولقد جئناكم بالحق فلم تسمعوا، أم سمعوا فأعرضوا لأنهم في أنفسهم أبرموا أمرا أمنوا به العقاب.

 

الآية: 80 ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون )

 

قوله تعالى: « أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم » أي ما يسرونه في أنفسهم ويتناجون به بينهم. « بلى » نسمع ونعلم. « ورسلنا لديهم يكتبون » أي الحفظة عندهم يكتبون عليهم. وروي أن هذا نزل في ثلاثة نفر كانوا بين الكعبة وأستارها؛ فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا ؟ وقال الثاني: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع. وقال الثالث: إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم؛ قاله محمد بن كعب القرظي، وقد مضى هذا المعنى عن ابن مسعود في سورة « فصلت » .

 

الآيات: 81 - 82 ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين، سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون )

 

قوله تعالى: « قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين » اختلف في معناه؛ فقال ابن عباس والحسن والسدي: المعنى ما كان للرحمن ولد، فـ « إن » بمعنى ما، ويكون الكلام على هذا تاما، ثم تبتدئ: « فأنا أول العابدين » أي الموحدين من أهل مكة على أنه لا ولد له. والوقف على « العابدين » تام. وقيل: المعنى قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد ولده، ولكن يستحيل أن يكون له ولد؛ وهو كما تقول لمن تناظره: إن ثبت بالدليل فأنا أول من يعتقده؛ وهذا مبالغة في الاستبعاد؛ أي لا سبيل إلى اعتقاده. وهذا ترقيق في الكلام؛ كقوله: « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » [ سبأ: 24 ] . والمعنى على هذا: ترقيق في الكلام؛ كقول: « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » [ سبأ: 24 ] . والمعنى على هذا: فأنا أول العابدين لذلك الولد، لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد. وقال مجاهد: المعنى إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده وحده، على أنه لا ولد له. وقال السدي أيضا: المعنى لو كان له ولد كنت أول من عبده على أن له ولدا؛ ولكن لا ينبغي ذلك. قال المهدوي: فـ « إن » على هذه الأقوال للشرط، وهو الأجود، وهو اختيار الطبري، لأن كونها بمعنى ما يتوهم معه أن المعنى لم يكن له فيما مضى. وقيل: إن معنى « العابدين » الآنفين. وقال بعض العلماء: لو كان كذلك لكان العبدين. وكذلك قرأ أبو عبدالرحمن واليماني « فأنا أول العبدين » بغير ألف، يقال: عبد يعبد عبدا ( بالتحريك ) إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، عن أبي زيد. قال الفرزدق:

أولئك أجلاسي فجئني بمثلهم واعبد أن أهجو كلبا بدارم

وينشد أيضا:

أولئك ناس إن هجوني هجوتهم وأعبد أن يهجى كليب بدارم

قال الجوهري: وقال أبو عمرو وقوله تعالى: « فأنا أول العابدين » من الأنف والغضب، وقال الكسائي والقتبي، حكاه الماوردي عنهما. وقال الهروي: وقوله تعالى: « فأنا أول العابدين » قيل هو من عبد يعبد؛ أي من الآنفين. وقال ابن عرفة: إنما يقال عبد يعبد فهو عبد؛ وقلما يقال عابد، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ولكن المعنى فأنا أول من يعبد الله عز وجل على أنه واحد لا ولد له.

وروي أن امرأة دخلت على زوجها فولدت منه لستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر برجمها؛ فقال له علي: قال الله تعالى: « وحمله وفصاله ثلاثون شهرا » [ الأحقاف:15 ] وقال في آية أخرى: « وفصاله في عامين » [ لقمان: 14 ] فوالله ما عَبِد عثمان أن بعث إليها تُرَدُّ. قال عبدالله بن وهب: يعني ما استنكف ولا أنف. وقال ابن الأعرابي « فأنا أول العابدين » أي الغضاب الآنفين وقيل: « فأنا أول العابدين » أي أنا أول من يعبده على الوحدانية مخالفا لكم. أبو عبيدة: معناه الجاحدين؛ وحكى: عبدني حقي أي جحدني. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما « ولد » بضم الواو وإسكان اللام. الباقون وعاصم « ولد » وقد تقدم. « سبحان رب السماوات والأرض » أي تنزيها له وتقديسا. نزه نفسه عن كل ما يقتضي الحدوث، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتنزيه. « رب العرش عما يصفون » أي عما يقولون من، الكذب.

 

الآية: 83 ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون )

 

قوله تعالى: « فذرهم يخوضوا ويلعبوا » يعني كفار مكة حين كذبوا بعذاب الآخرة. أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم « حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون » إما العذاب في الدنيا أو في الآخرة. وقيل: إن هذا منسوخ بآية السيف. وقيل: هو محكم، وإنما أخرج مخرج التهديد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد وابن القعقاع وابن السميقع « حتى يلقوا » بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف؛ وفتح القاف هنا وفي « الطور » و « المعارج » . الباقون « يلاقوا » .

 

الآية: 84 ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم )

 

قوله تعالى: « وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » هذا تكذيب لهم في أن لله شريكا وولدا؛ أي هو المستحق للعبادة في السماء والأرض. وقال عمر رضي الله عنه وغيره: المعنى وهو الذي في السماء إله في الأرض؛ وكذلك قرأ. والمعنى أنه يعبد فيهما. وروي أنه قرأ هو وابن مسعود وغيرهما « وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله » وهذا خلاف المصحف. و « إله » رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي وهو الذي في السماء هو إله؛ قاله أبو علي. وحسن حذفه لطول الكلام. وقيل: « في » بمعنى على؛ كقوله تعالى: « ولأصلبنكم في جذوع النخل » [ طه: 71 ] أي على جذوع النخل؛ أي هو القادر على السماء والأرض. « وهو الحكيم العليم » تقدم.

 

الآية: 85 ( وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون )

 

قوله تعالى: « تبارك » تفاعل من البركة؛ وقد تقدم. « وعنده علم الساعة » أي وقت قيامها. « وإليه ترجعون » قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي « وإليه يرجعون » بالياء. الباقون بالتاء. وكان ابن محيصن وحميد ويعقوب وابن أبي إسحاق يفتحون أوله على أصولهم. وضم الباقون.

 

الآية: 86 ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون )

 

قوله تعالى: « إلا من شهد بالحق » في موضع الخفض. وأراد بـ « الذين يدعون من دونه » عيسى وعزيرا والملائكة. والمعنى ولا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة؛ قال سعيد بن جبير وغيره. قال: وشهادة الحق لا إله إلا الله. وقيل: « من » في محل رفع؛ أي ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة؛ يعني الآلهة - في قول قتادة - أي لا يشفعون لعابديها إلا من شهد بالحق؛ يعني عزيرا وعيسى والملائكة فإنهم يشهدون بالحق والوحدانية لله. « وهم يعلمون » حقيقة ما شهدوا به. قيل: إنها نزلت بسبب أن النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة لنا منه؛ فأنزل الله: « ولا يملك الذين، يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق » أي اعتقدوا أن الملائكة أو الأصنام أو الجن أو الشياطين تشفع لهم ولا شفاعة لأحد يوم القيامة.

« إلا من شهد بالحق » يعني المؤمنين إذا أذن لهم. قال ابن عباس: « إن من شهد بالحق » أي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل: أي لا يملك هؤلاء العابدون من دون الله أن يشفع لهم أحد إلا من شهد بالحق؛ فإن من شهد بالحق يشفع له ولا يشفع لمشرك. و « إلا » بمعنى لكن؛ أي لا ينال المشركون الشفاعة لكن ينال الشفاعة من شهد بالحق؛ فهو استئناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا؛ لأن في جملة « الذين يدعون من دونه » الملائكة. ويقال: شفعته وشفعت له؛ مثل كاته وكلت له.

وقيل: « إلا من شهد بالحق » إلا من تشهد له الملائكة بأنه كان على الحق في الدنيا، مع علمهم بذلك منه بأن يكون الله أخبرهم به، أو بأن شاهدوه على الإيمان.

 

قوله تعالى: « إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » يدل على معنيين: أحدهما: أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة. والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها. ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ) . وقد مضى.

 

الآية: 87 ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون )

 

قوله تعالى: « ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله » أي لأقروا بأن الله خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا. « فأنى يؤفكون » أي كيف ينقلبون عن عبادته وينصرفون حتى أشركوا به غيره رجاء شفاعتهم له. يقال: أفكه يأفكه أفكا؛ أي قلبه وصرفه عن الشيء. ومنه قوله تعالى: « قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا » [ الأحقاف: 22 ] . وقيل: أي ولئن سألت الملائكة وعيسى « من خلقهم » لقالوا الله. « فأنى يؤفكون » أي فأنى يؤفك هؤلاء في ادعائهم إياهم آلهة.

 

الآية: 88 ( وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون )

 

قوله تعالى: « وقيله » فيه ثلاث قراءات: النصب، والجر، والرفع. فأما الجر فهي قراءة عاصم وحمزة. وبقية السبعة بالنصب. وأما الرفع فهي قراءة الأعرج وقتادة وابن هرمز ومسلم بن جندب. فمن جر حمله على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. ومن نصب فعلى معنى: وعنده علم الساعة ويعلم قيله؛ وهذا اختيار الزجاج.

وقال الفراء والأخفش: يجوز أن يكون « قيله » عطفا على قوله: « أنا لا نسمع سرهم ونجواهم » [ الزخرف: 80 ] . قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد بأي شيء تنصب القيل ؟ فقال: أنصبه على « وعنده علم الساعة ويعلم قيله » . فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على « ترجعون » ، ولا على « يعلمون » . ويحسن الوقف على « يكتبون » . وأجاز الفراء والأخفش أن ينصب القيل على معنى: لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله؛ كما ذكرنا عنهما فمن هذا الوجه لا يحسن الوقف على « يكتبون » . وأجاز الفراء والأخفش أيضا: أن ينصب على المصدر؛ كأنه قال: وقال قيله، وشكا شكواه إلى الله عز وجل، كما قال كعب بن زهير:

تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

أراد: ويقولون قيلهم. ومن رفع « قيله » فالتقدير: وعنده قيله، أوقيله مسموع، أوقيله هذا القول. الزمخشري: والذي قالوه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه. والرفع على قولهم: ايمن الله وأمانة الله ويمين الله ولعمرك، ويكون قوله: « إن هؤلاء قوم لا يؤمنون » جواب القسم؛ كأنه قال: وأقسم بقيله يا رب، أو قيله يا رب قسمي، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وقال ابن الأنباري: ويجوز في العربية « وقيله » بالرفع، على أن ترفعه بإن هؤلاء قوم لا يؤمنون. المهدوي: أويكون على تقدير وقيله قيله يا رب؛ فحذف قيله الثاني الذي هو خبر، وموضع « يا رب » نصب بالخبر المضمر، ولا يمتنع ذلك من حيث امتنع حذف بعض الموصول وبقي بعضه؛ لأن حذف القول قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور. والهاء في « قيله » لعيسى، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد جرى ذكره إذ قال: « قل إن كان للرحمن ولد » [ الزخرف: 81 ] . وقرأ أبو قلابة « يا رب » بفتح الباء. والقيل مصدر كالقول؛ ومنه الخبر ( نهى عن قيل وقال ) . ويقال: قلت قولا وقيلا وقالا. وفي النساء « ومن أصدق من الله قيلا » [ النساء: 122 ] .

 

الآية: 89 ( فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون )

 

قال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أمره بقتالهم؛ فصار الصفح منسوخا بالسيف. ونحوه عن ابن عباس قال: « فاصفح عنهم » أعرض عنهم. « وقل سلام » أي معروفا؛ أي قل المشركين أهل مكة « فسوف تعلمون » ثم نسخ هذا في سورة « التوبة » بقوله تعالى: « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم » [ التوبة: 5 ] الآية. وقيل: هي محكمة لم تنسخ. وقراءة العامة « فسوف يعملون » ( بالباء ) على أنه خبر من الله تعالى لنبيه بالتهديد. وقرأ نافع وابن عامر « تعلمون » ( بالتاء ) على أنه من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتهديد. و « سلام » رفع بإضمار عليكم؛ قاله الفراء. ومعناه الأمر بتوديعهم بالسلام، ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش. وروى شعيب بن الحبحاب أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ والله أعلم.

 

أعلى