فهرس تفسير القرطبي للسور

39 - تفسير القرطبي سورة الزمر

التالي السابق

سورة الزمر

مقدمة السورة

 

ويقال سورة الغرف. قال وهب بن منبه: من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلقه فليقرأ سورة الغرف. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال ابن عباس: إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما « الله نزل أحسن الحديث » [ الزمر: 23 ] والأخرى « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم » [ الزمر: 53 ] الآية. وقال آخرون: إلا سبع آيات من قوله تعالى: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم » [ الزمر: 53 ] إلى آخر سبع آيات نزلت في وحشي وأصحابه على ما يأتي. روى الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وهي خمس وسبعون آية. وقيل: اثنتان وسبعون آية.

 

الآيات: 1 - 4 ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار )

 

قوله تعالى: « تنزيل الكتاب » رفع بالابتداء وخبره « من الله العزيز الحكيم » . ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل؛ قال الفراء. وأجاز الكسائي والفراء أيضا « تنزيل » بالنصب على أنه مفعول به. قال الكسائي: أي اتبعوا واقرؤوا « تنزيل الكتاب » . وقال الفراء: هو على الإغراء مثل قوله: « كتاب الله عليكم » [ النساء: 24 ] أي الزموا. والكتاب القرآن. سمي بذلك لأنه مكتوب.

 

قوله تعالى: « إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق » أي هذا تنزيل الكتاب من الله وقد أنزلناه بالحق؛ أي بالصدق وليس بباطل وهزل. « فاعبد الله مخلصا » « مخلصا » نصب على الحال أي موحدا لا تشرك به شيئا « له الدين » أي الطاعة. وقيل: العبادة وهو مفعول به. « ألا لله الدين الخالص » أي الذي لا يشوبه شيء. وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه ) ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألا لله الدين الخالص » وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » و « النساء » و « الكهف » مستوفى.

 

قال ابن العربي: هذه الآية دليل على وجوب النية في كل عمل، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان أن الوضوء يكفي من غير نية، وما كان ليكون من الإيمان شطرا ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر بغير نية.

 

قوله تعالى: « والذين اتخذوا من دونه أولياء » يعني الأصنام والخبر محذوف. أي قالوا: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف « فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة » [ الأحقاف: 28 ] والزلفى القربة؛ أي ليقربونا إليه تقريبا، فوضع « زلفى » في موضع المصدر. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد « والذين اتخذوا من دونه أولياء قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » وفي حرف أُبيّ ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى الله زلفى « ذكره النحاس. قال: والحكاية في هذا بينة. » إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون « أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحق. » إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار « أي من سبق له القضاء بالكفر لم يهتد؛ أي للدين الذي ارتضاه وهو دين الإسلام؛ كما قال الله تعالى: » ورضيت لكم الإسلام دينا « وفي هذا رد على القدرية وغيرهم على ما تقدم.»

 

قوله تعالى: « لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء » أي لو أراد أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله عز وجل إليهم. « سبحانه » أي تنزيها له عن الولد « هو الله الواحد القهار » .

الآية [ 5 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 5 - 6 ( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار، خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون )

 

قوله تعالى: « خلق السماوات والأرض بالحق » أي هو القادر على الكمال المستغني عن الصاحبة والولد، ومن كان هكذا فحقه أن يفرد بالعبادة لا أنه يشرك به. ونبه بهذا على أن يتعبد العباد بما شاء وقد فعل. « يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل » قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. وهذا على معنى التكوير في اللغة وهو طرح الشيء بعضه على بعض؛ يقال كور المتاع أي ألقى بعضه على بعض؛ ومنه كور العمامة. وقد روي عن ابن عباس هذا في معنى الآية. قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل. وهو معنى قوله تعالى: « يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل » [ فاطر: 13 ] وقيل: تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوءه، ويغشى النهار على الليل فيذهب ظلمته، وهذا قول قتادة. وهو معنى قوله تعالى: « يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا » [ الأعراف:54 ] . « وسخر الشمس والقمر » أي بالطلوع والغروب لمنافع العباد. « كل يجري لأجل مسمى » أي في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وهو يوم القيامة حين تنفطر السماء وتنتثر الكواكب. وقيل: الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهي فيه سير الشمس والقمر إلى المنازل المرتبة لغروبها وطلوعها. قال الكلبي: يسيران إلى أقصى منازلهما، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما لا يجاوزانه. وقد تقدم بيان هذا في سورة [ يس ] . « ألا هو العزيز الغفار » « ألا » تنبيه أي تنبهوا فإني أنا « العزيز » الغالب « الغفار » الساتر لذنوب خلقه برحمته.

 

قوله تعالى: « خلقكم من نفس واحدة » يعني آدم عليه السلام « ثم جعل منها زوجها » يعني ليحصل التناسل وقد مضى هذا في « الأعراف » وغيرها. « وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج » أخبر عن الأزواج بالنزول، لأنها تكونت بالنبات والنبات بالماء المنزل. وهذا يسمى التدريج؛ ومثله قوله تعالى: « قد أنزلنا عليكم لباسا » [ الأعراف: 26 ] الآية. وقيل: أنزل أنشأ وجعل. وقال سعيد بن جبير: خلق. وقيل: إن الله تعالى خلق هذه الأنعام في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض؛ كما قيل في قوله تعالى: « وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد » [ الحديد: 25 ] فإن آدم لما هبط إلى الأرض أنزل معه الحديد. وقيل: « وأنزل لكم من الأنعام » أي أعطاكم. وقيل: جعل الخلق إنزالا؛ لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء. فالمعنى: خلق لكم كذا بأمره النازل. قال قتادة: من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين كل واحد زوج. وقد تقدم هذا. « يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق » قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. ابن زيد: « خلقا من بعد خلق » خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم. وقيل: في ظهر الأب ثم خلقا في بطن الأم ثم خلقا بعد الوضع ذكره الماوردي. « في ظلمات ثلاث » ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة الليل. والقول الأول أصح. وقيل: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم. وهذا مذهب أبي عبيدة. أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين. « ذلكم الله » أي الذي خلق هذه الأشياء « ربكم له الملك لا إله إلا هو » . « فأنى تصرفون » أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره. وقرأ حمزة: « إمهاتكم » بكسر الهمزة والميم. والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.

 

الآية: 7 ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور )

 

قوله تعالى: « إن تكفروا فإن الله غني عنكم » شرط وجوابه. « ولا يرضى لعباده الكفر » أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم. وقال ابن عباس والسدي: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان » [ الإسراء: 65 ] . وكقوله: « عينا يشرب بها عباد الله » [ الإنسان: 6 ] أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة. وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده؛ فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة.

 

قوله تعالى: « وإن تشكروا يرضه لكم » أي يرضى الشكر لكم؛ لأن « تشكروا » يدل عليه. وقد مضى القول في الشكر في « البقرة » وغيرها. ويرضى بمعنى يثيب ويثني، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل « لئن شكرتم لأزيدنكم » [ إبراهيم: 7 ] وإما ثناؤه فهو صفة ذات. و « يرضه » بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم. وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع. واختلس الباقون. « ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور » قد تقدم.

 

الآيات: 8 - 9 ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب )

 

قوله تعالى: « وإذا مس الإنسان » يعني الكافر « ضر » أي شدة من الفقر والبلاء « دعا ربه منيبا إليه » أي راجعا إليه مخبتا مطيعا له مستغيثا به في إزالة تلك الشدة عنه. « ثم إذا خوله نعمة منه » أي أعطاه وملكه. يقال: خولك الله الشيء أي ملكك إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:

هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

وخول الرجل: حشمه الواحد خائل. قال أبو النجم:

أعطى فلم يبخل ولم يبخل كوم الذرى من خول المخول

 

قوله تعالى: « نسي ما كان يدعو إليه من قبل » أي نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه. فـ « ما » على هذا الوجه لله عز وجل وهي بمعنى الذي. وقيل: بمعنى من كقوله: « ولا أنتم عابدون ما أعبد » [ الكافرون: 3 ] والمعنى واحد. وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عز وجل. أي ترك كون الدعاء منه إلى الله، فما والفعل على هذا القول مصدر. « وجعل لله أندادا » أي أوثانا وأصناما. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمدون عليهم في جميع أمورهم. « ليضل عن سبيله » أي ليقتدي به الجهال. « قل تمتع بكفرك قليلا » أي قل لهذا الإنسان « تمتع » وهو أمر تهديد فمتاع الدنيا قليل. « إنك من أصحاب النار » أي مصيرك إلى النار.

 

قوله تعالى: « أمن هو قانت آناء الليل » بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره. وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي « أمن » بالتشديد. وقرأ نافع وابن كثير ويحيى ابن وثاب والأعمش وحمزة: « أمن هو » بالتخفيف على معنى النداء؛ كأنه قال يا من هو قانت. قال الفراء: الألف بمنزلة يا، تقول يا زيد أقبل وأزيد أقبل. وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين؛ كما قال أوس بن حجر:

أبني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد

وقال آخر هو ذو الرمة:

أدارا بحزوي هجت للعين عبرة فماء الهوى يرفض أو يترقرق

فالتقدير عل هذا « قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار » يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة؛ كما يقال في الكلام: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من يصلي ويصوم أبشر؛ فحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: إن الألف في « أمن » ألف استفهام أي « أمن هو قانت آناء الليل » أفضل؟ أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير الذي هو قانت خير. ومن شدد « أمن » فالمعنى العاصون المتقدم ذكرهم خير « أمن هو قانت » فالجملة التي عادلت أم محذوفة، والأصل أم من فأدغمت في الميم. النحاس: وأم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي؛ والتقدير: أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر. وفي قانت أربعة أوجه: أحدها أنه المطيع؛ قاله ابن مسعود. الثاني أنه الخاشع في صلاته؛ قاله ابن شهاب. الثالث أنه القائم في صلاته؛ قاله يحيى بن سلام. الرابع أنه الداعي لربه. وقول ابن مسعود يجمع ذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله عز وجل ) وروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل؟ فقال: ( طول القنوت ) وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبدالله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال: ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن. وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع وغض البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين. قال النحاس: أصل هذا أن القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها كما قال نافع: قال لي ابن عمر قم فصل فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق، فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضى هكذا؟ فقلت: كنت أتزين قال: فالله أحق أن تتزين له. واختلف في تعيين القانت ها هنا، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه: هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال ابن عمر: هو عثمان رضي الله عنه. وقال مقاتل: إنه عمار بن ياسر. الكلبى: صهيب وأبو ذر وابن مسعود. وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال. « آناء الليل » قال الحسن: ساعاته؛ أوله وأوسطه وآخره. وعن ابن عباس: « آناء الليل » جوف الليل. قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه. وقيل: ما بين المغرب والعشاء. وقول الحسن عام. « يحذر الآخرة » قال سعيد بن جبير: أي عذاب الآخرة. « ويرجو رحمة ربه » أي نعيم الجنة. وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا متمن. ولا يقف على قوله: « رحمة ربه » من خفف « أمن هو قانت » على معنى النداء؛ لأن قوله: « قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر، على ما تقدم بيانه.

 

قوله تعالى: « قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم. « إنما يتذكر أولو الألباب » أي أصحاب العقول من المؤمنين.

 

الآية: 10 ( قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )

 

قوله تعالى: « قل ياعباد الذين آمنوا » أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين « اتقوا ربكم » أي أتقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو وقد تقدم. وقال ابن عباس: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة. ثم قال: « للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة » يعني بالحسنة الأولى الطاعة وبالثانية الثواب في الجنة. وقيل: المعنى للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا، يكون ذلك زيادة على ثواب الآخرة، والحسنة الزائدة في الدنيا الصحة والعافية والظفر والغنيمة. قال القشيري: والأول أصح؛ لأن الكافر قد نال نعم الدنيا.

قلت: وينالها معه المؤمن ويزاد الجنة إذا شكر تلك النعم. وقد تكون الحسنة في الدنيا الثناء الحسن، وفي الآخرة الجزاء.

 

قوله تعالى: « وأرض الله واسعة » فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي. وقد مضى القول في هذا مستوفى في « النساء » وقيل: المراد أرض الجنة؛ رغبهم في سعتها وسعة نعيمها؛ كما قال: « عرضها السماوات والأرض » [ آل عمران: 133 ] والجنة قد تسمى أرضا؛ قال الله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء » [ الزمر: 74 ] والأول أظهر فهو أمر بالهجرة. أي ارحلوا من مكة إلى حيث تأمنوا. الماوردي: يحتمل أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق؛ لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه ورزق الله واسع وهو أشبه؛ لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان.

قلت: فتكون الآية دليلا على الانتقال من الأرض الغالية، إلى الأرض الراخية، كما قال سفيان الثوري: كن في موضع تملأ فيه جرابك خبزا بدرهم.

 

قوله تعالى: « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » أي بغير تقدير. وقيل: يزاد على الثواب؛ لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب. وقيل: « بغير حساب » أي بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا. و « الصابرون » هنا الصائمون؛ دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله عز وجل: ( الصوم لي وأنا أجزي به « قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا؛ وحكي عن علي رضي الله عنه. وقال مالك بن أنس في قوله: « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » قال: هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم. وقال قتادة: لا والله ما هناك مكيال ولا ميزان، حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تنصب الموازين فيؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين وكذلك الصلاة والحج ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر بغير حساب قال الله تعالى: « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل ) . وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أد الفرائض تكن من أعبد الناس وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا ) ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم « إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب » . ولفظ صابر يمدح به وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت صابر على كذا؛ قال النحاس. وقد مضى في » البقرة « مستوفى.»

 

الآيات: 11 - 16 ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل الله أعبد مخلصا له ديني، فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون )

 

قوله تعالى: « قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين » تقدم. « وأمرت لأن أكون أول المسلمين » من هذه الأمة، وكذلك كان؛ فإنه كان أول من خالف دين آبائه؛ وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إليه صلى الله عليه وسلم. واللام في قوله: « لأن أكون » صلة زائدة قال الجرجاني وغيره. وقيل: لام أجل. وفي الكلام حذف أي أمرت بالعبادة « لأن أكون أول المسلمين » .

 

قوله تعالى: « قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم » يريد عذاب يوم القيامة وقال حين دعاه قومه إلى دين آبائه؛ قال أكثر أهل التفسير. وقال أبو حمزة الثمالي وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] فكانت هذه الآية من قبل أن يغفر ذنب النبي صلى الله عليه وسلم. « قل الله أعبد » « الله » نصب بـ « أعبد » ، « مخلصا له ديني » طاعتي وعبادتي. « فاعبدوا ما شئتم من دونه » أمر تهديد ووعيد وتوبيخ؛ كقوله تعالى: « اعملوا ما شئتم » [ فصلت: 40 ] . وقيل: منسوخة بآية السيف.

 

قوله تعالى: « قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين » قال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. في رواية عن ابن عباس: فمن عمل بطاعة الله كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى: « أولئك هم الوارثون » [ المؤمنون: 10 ] . « لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل » سمى ما تحتهم ظللا؛ لأنها تظل من تحتهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: « لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش » [ الأعراف: 41 ] وقوله: « يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم » . [ العنكبوت: 55 ] . « ذلك يخوف الله به عباده » قال ابن عباس: أولياءه. « ياعباد فاتقوني » أي يا أوليائي فخافون. وقيل: هو عام في المؤمن والكافر. وقيل: خاص بالكفار.

 

الآيات: 17 - 18 ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب )

 

قوله تعالى: « والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها » قال الأخفش: الطاغوت جمع ويجوز أن تكون واحدة مؤنثة. وقد تقدم. أي تباعدوا من الطاغوت وكانوا منها على جانب فلم يعبدوها. قال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان. وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل إنه اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت وهاروت وماروت. وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان، و « أن » في موضع نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين أجتنبوا عبادة الطاغوت. « وأنابوا إلى الله » أي رجعوا إلى عبادته وطاعته. « لهم البشرى فبشر عباد » « لهم البشرى » في الحياة الدنيا بالجنة في العقبى. روي أنها نزلت في عثمان وعبدالرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير رضي الله عنهم؛ سألوا أبا بكر رضي الله عنه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا. وقيل: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وغيرهما ممن وحد الله تعالى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: « الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون القرآن وأقوال الرسول فيتبعون أحسنه أي محكمه فيعملون به. وقيل: يستمعون عزما وترخيصا فيأخذون بالعزم دون الترخيص. وقيل: يستمعون العقوبة الواجبة لهم والعفو فيأخذون بالعفو. وقيل: إن أحسن القول على من جعل الآية فيمن وحد الله قبل الإسلام « لا إله إلا الله » . وقال عبدالرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم، واتبعوا أحسن ما صار من القول إليهم. « أولئك الذين هداهم الله » لما يرضاه. « وأولئك هم أولو الألباب » أي أصحاب العقول من المؤمنين الذين انتفعوا بعقولهم.

 

الآية: 19 ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار )

 

قوله تعالى: « أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار » كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قوم وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان. وكرر الاستفهام في قوله: « أفأنت » تأكيدا لطول الكلام، وكذا قال سيبويه في قوله تعالى: « أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون » [ المؤمنون: 35 ] على ما تقدم. والمعنى: « أفمن حق عليه كلمة العذاب » أفأنت تنقذه. والكلام شرط وجوابه. وجيء بالاستفهام؛ ليدل على التوقيف والتقرير. وقال الفراء: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب. والمعنى واحد. وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، وما بعده مستأنف. وقال: « أفمن حق عليه » وقال في موضع آخر: « حقت كلمة العذاب » [ الزمر: 71 ] لأن الفعل إذا تقدم ووقع بينه وبين الموصوف به حائل جاز التذكير والتأنيث، على أن التأنيث هنا ليس بحقيقي بل الكلمة في معنى الكلام والقول؛ أي أفمن حق عليه قول العذاب.

 

الآية: 20 ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد )

 

قوله تعالى: « لكن الذين اتقوا ربهم » لما بين أن للكفار ظلا من النار من فوقهم ومن تحتهم بين أن للمتقين غرفا فوقها غرف؛ لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا و « لكن » ليس للاستدرار؛ لأنه لم يأت نفي كقوله: ما رأيت زيدا لكن عمرا؛ بل هو لترك قصة إلى قصة مخالفة للأولى كقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يأت. « مبنية » قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت « تجري من تحتها الأنهار » أي هي جامعة لأسباب النزهة. « وعد الله » نصب على المصدر؛ لأن معنى « لهم غرف » وعدهم الله ذلك وعدا. ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله. « لا يخلف الله الميعاد » أي ما وعد الفريقين.

 

الآية: 21 ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب )

 

قوله تعالى: « ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء » أي إنه لا يخلف الميعاد في إحياء الخلق، والتمييز بين المؤمن والكافر، وهو قادر على ذلك كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء. « أنزل من السماء » أي من السحاب « ماء » أي المطر « فسلكه ينابيع في الأرض » أي فأدخله في الأرض وأسكنه فيها؛ كما قال: « فأسكناه في الأرض » [ المؤمنون: 18 ] . « ينابيع » جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع وينبع وينبع بالرفع والنصب والخفض. النحاس: وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر:

ينباع من ذفرى غضوب جسرة

أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في « سبحان ] . » ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه « ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض » زرعا « هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. » ثم يهيج « أي ييبس. » فتراه « أي بعد خضرته » مصفرا « قال المبرد قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: كذلك هاج النبت. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري: هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. » ثم يجعله حطاما « أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين » ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه « أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل: هو مثل ضربه الله للدنيا؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. » إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب « .»

 

الآية: 22 ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « أفمن شرح الله صدره للإسلام » شرح فتح ووسع. قال ابن عباس: وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه. وقال السدي: وسع صدره بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه؛ فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام؛ وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. « فهو على نور من ربه » أي على هدى من ربه. « فويل للقاسية قلوبهم » قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صلب، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها. وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين. والمراد بمن شرح الله صدره ها هنا فيما ذكر المفسرون علي وحمزة رضي الله عنهما. وحكى النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال مقاتل: عمار بن ياسر. وعنه أيضا والكلبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية عامة فيمن شرح الله صدوره بخلق الإيمان فيه. وروى مرة عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله قوله تعالى: « أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه » كيف انشرح صدره؟ قال: ( إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح ) قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟. قال: ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله ) وخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر: أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: ( أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ) قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) فذكر صلى الله عليه وسلم خصالا ثلاثة، ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر؛ لأن دار الخلود إنما وضعت جزاء لأعمال البر، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك: « جزاء بما كانوا يعملون » [ الواقعة: 24 ] فالجنة جزاء الأعمال؛ فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر، واقفا متأدبا متثبتا حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه، فقد استعد للموت. فهذه علامتهم في الظاهر. وإنما صار هكذا لرؤية الموت، ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب. وقوله: « فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله » قيل: المراد أبو لهب وولده؛ ومعنى: « من ذكر الله » أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره. وقيل: إن « من » بمعنى عن، والمعنى قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي ) . وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.

 

الآية: 23 ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد )

 

قوله تعالى: « الله نزل أحسن الحديث » يعني القرآن لما قال: « فيتبعون أحسنه » [ الزمر: 18 ] بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل: « الله نزل أحسن الحديث » فقالوا: لو قصصت علينا فنزل: « نحن نقص عليك أحسن القصص » [ يوسف: 3 ] فقالوا: لو ذكرتنا فنزل: « ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله » [ الحديد: 16 ] الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدث. وسمي القرآن حديثا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث به أصحابه وقومه، وهو كقوله: « فبأي حديث بعده يؤمنون » [ المرسلات: 50 ] وقوله: « أفمن هذا الحديث تعجبون » [ النجم: 59 ] وقوله: « إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا » [ الكهف: 6 ] وقوله: « ومن أصدق من الله حديثا » [ النساء: 87 ] وقوله: « فذرني ومن يكذب بهذا الحديث » [ القلم: 44 ] قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فيدل على أن كلامه محدث وهو وهم؛ لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله: « ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث » وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى. « كتابا » نصب على البدل من « أحسن الحديث » ويحتمل أن يكون حالا منه. « متشابها » يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه؛ لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. « مثاني » تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثنى للتلاوة فلا يمل. « تقشعر » تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. « ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله » أي عند آية الرحمة. وقيل: إلى العمل بكتاب الله والتصديق به. وقيل: « إلى ذكر الله » يعني الإسلام.

 

وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال سعيد بن عبدالرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم؛ ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عمر بن عبدالعزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق. وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحب المبذرين؛ يشرح لي عن قلبه.

 

وقال زيد بن أسلم: ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ) . وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها ) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار ) . وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى؛ قالت: فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب. وعن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. يقال: اقشعر جلد الرجل أقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم، لأنها زائدة؛ يقال أخذته قشعريرة. قال امرؤ القيس:

فبت أكابد ليل التمام والقلب من خشية مقشعر

وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظاما له، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه؛ وهو كقوله تعالى: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله » [ الحشر: 21 ] فالتصدع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله: « ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله » ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه. « ذلك هدى الله » أي القرآن هدى الله. وقيل: أي الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله. « ومن يضلل الله فما له من هاد » أي من خذله فلا مرشد له. وهو يرد على القدرية وغيرهم. وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله. ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله: « هاد » في الموضعين بالياء، الباقون بغير ياء.

 

الآيات: 24 - 26 ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون، كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون )

 

قوله تعالى: « أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب » قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه. وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه؛ لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال. والخبر محذوف. قال الأخفش: أي « أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب » أفضل أم من سعد، مثل: « أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة » [ فصلت: 40 ] . « وقيل للظالمين » أي وتقول الخزنة للكافرين « ذوقوا ما كنتم تكسبون » أي جزاء كسبكم من المعاصي. ومثله « هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون » [ التوبة:35 ] .

 

قوله تعالى: « كذب الذين من قبلهم » أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. « فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا » تقدم معناه. وقال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياء « ولعذاب الآخرة أكبر » أي مما أصابهم في الدنيا « لو كانوا يعلمون » .

 

الآيات: 27 - 28 ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون )

 

قوله تعالى: « ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل » أي من كل مثل يحتاجون إليه؛ مثل قوله تعالى: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » [ الأنعام: 38 ] وقيل: أي ما ذكرناه من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء. « لعلهم يتذكرون » يتعظون. « قرآنا عربيا » نصب على الحال. مال الأخفش: لأن قوله جل وعز: « في هذا القرآن » معرفة. وقال علي بن سليمان: « عربيا » نصب على الحال و « قرآنا » توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. وقال الزجاج: « عربيا » منصوب على الحال و « قرآنا » توكيد. « غير ذي عوج » النحاس: أحسن ما قيل فيه قول الضحاك، قال: غير مختلف. وهو قول ابن عباس، ذكره الثعلبي. وعن ابن عباس أيضا غير مخلوق، ذكره المهدوي وقاله السدي فيما ذكره الثعلبي. وقال عثمان بن عفان: غير متضاد. وقال مجاهد: غير ذي لبس. وقال بكر بن عبدالله المزني: غير ذي لحن. وقيل: غير ذي شك. قال السدي فيما ذكره الماوردي. قال:

وقـد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب

« لعلهم يتقون » الكفر والكذب.

 

الآية: 29 ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )

 

قوله تعالى: « ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون » قال الكسائي: نصب « رجلا » لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه: ضرب الله مثلا برجل « فيه شركاء متشاكسون » قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر، يقال: رجل شكس وشرس وضرس وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي شرس عسر شكس؛ قاله الجوهري. الزمخشري: والتشاكس والتشاخس الاختلاف. يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه. ويقال: شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي. قال الجوهري: رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق. قال الراجز:

شكس عبوس عنبس عذور

وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق. وقد شكس بالكسر شكاسة. وحكى الفراء: رجل شكس. وهو القياس، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة. « ورجلا سلما لرجل » أي خالصا لسيد واحد، وهو مثل من يعبد الله وحده. « هل يستويان مثلا » هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه؛ فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطأه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم. وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة: « ورجلا سالما » وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب: « ورجلا سالما » واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه. قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا. النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم؛ لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر؛ كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك. ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره؛ لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة « سلما » قال وهذا الذي لا تنازع فيه. وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر « سلما » بكسر السين وسكون اللام. وسلما وسلما مصدران؛ والتقدير: ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و « مثلا » صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. « الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون » أي لا يعلمون الحق فيتبعونه.

 

الآيات: 30 - 31 ( إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )

 

قوله تعالى: « إنك ميت وإنهم ميتون » قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق « إنك مائت وإنهم مائتون » وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبدالله بن الزبير. النحاس: ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و « مائت » في المستقبل كثير في كلام العرب؛ ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام. وقال الحسن والفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من فارقته الروح؛ فلذلك لم تخفف هنا. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم. وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين؛ قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر. قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال: « إنك ميت وإنهم ميتون » . وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بموته وموتهم؛ فاحتمل خمسة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثا على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره؛ لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة.

 

قوله تعالى: « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم؛ قال ابن عباس وغيره. وفي خبر فيه طول: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد. وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: ( نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ) فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد. وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين: « ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون » فقلنا: وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف؛ فعرفت أنها فينا نزلت. وقال أبو سعيد الخدري: ( كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا ) . وقال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ما خصومتنا بيننا؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا بيننا. وقيل تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته، ويردها في حسنات من وجبت له. وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتدرون من المفلس ) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) خرجه مسلم. وقد مضى المعنى مجودا في « آل عمران » وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) وفي الحديث المسند ( أول ما تقع الخصومات في الدنيا ) وقد ذكرنا هذا الباب كله في التذكرة مستوفى.

 

الآيات: 32 - 35 ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين، ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « فمن أظلم » أي لا أحد أظلم « ممن كذب على الله » فزعم أن له ولدا وشريكا « وكذب بالصدق إذ جاءه » يعني القرآن « أليس في جهنم » استفهام تقرير « مثوى للكافرين » أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة. وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى:

أثوى وقصر ليلة ليزودا ومضى وأخلف من قتيلة موعدا

والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى.

 

قوله تعالى: « والذي جاء بالصدق » في موضع رفع بالابتداء وخبره « أولئك هم المتقون » واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به؛ فقال علي رضي الله عنه: « الذي جاء بالصدق » النبي صلى الله عليه وسلم « وصدق به » أبو بكر رضي الله عنه. وقال مجاهد: النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي: الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة: « الذي جاء بالصدق » النبي صلى الله عليه وسلم: « وصدق به » المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: « أولئك هم المتقون » كما قال: « هدى للمتقين » [ البقرة: 2 ] . وقال النخعي ومجاهد: « الذي جاء بالصدق وصدق به » المؤمنون الذين يجيؤون بالقرآن يوم القيامة فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه؛ فيكون « الذي » على هذا بمعنى جمع كما تكون من بمعنى جمع. وقيل: بل حذفت منه النون لطول الاسم، وتأول الشعبي على أنه واحد. وقال: « الذي جاء بالصدق » محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا خبره جماعة؛ كما يقال لمن يعظم هو فعلوا، وزيد فعلوا كذا وكذا. وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل؛ قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري. وفي قراءة ابن مسعود « والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به » وهي قراءة على التفسير. وفي قراءة أبي صالح الكوفي « والذي جاء بالصدق وصدق به » مخففا على معنى وصدق بمجيئه به، أي صدق في طاعة الله عز وجل، وقد مضى في « البقرة » الكلام في « الذي » وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. « لهم ما يشاؤون عند ربهم » أي من النعيم في الجنة، كما يقال: لك إكرام عندي؛ أي ينالك مني ذلك. « ذلك جزاء المحسنين » الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة.

 

قوله تعالى: « ليكفر الله عنهم » أي صدّقوا « ليكفر الله عنهم » . « أسوأ الذي عملوا » أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. « ويجزيهم أجرهم » أي يثيبهم على الطاعات في الدنيا « بأحسن الذي كانوا يعملون » وهي الجنة.

 

الآيات: 36 - 37 ( أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام )

 

قوله تعالى: « أليس الله بكاف عبده » حذفت الياء من « كاف » لسكونها وسكون التنوين بعدها؛ وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي. وقراءة العامة « عبده » بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي « عباده » وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه: « ويخوفونك بالذين من دونه » . ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس؛ كقوله عز من قائل: « إن الإنسان لفي خسر » [ العصر:2 ] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام، حتى قال إبراهيم عليه السلام. « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله » [ الأنعام: 81 ] . وقال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب.

 

قوله تعالى: « ويخوفونك بالذين من دونه » وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان، فقالوا: أتسب آلهتنا؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء. وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها: أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم؛ كما قال: « أم يقولون نحن جميع منتصر » [ القمر: 44 ] « ومن يضلل الله فما له من هاد » تقدم. « ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام » أي ممن عاداه أوعادى رسله.

الآية [ 38 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 38 - 41 ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون، قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون، من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم، إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل )

 

قوله تعالى: « ولئن سألتهم » أي ولئن سألتهم يا محمد « من خلق السماوات والأرض ليقولن الله » بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى، وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السماوات والأرض. « قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله » أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا « أفرأيتم ما تدعون من دون الله » « إن أرادني الله بضر » بشدة وبلاء « هل هن كاشفات ضره » يعني هذه الأصنام « أو أرادني برحمة » نعمة ورخاء « هل هن ممسكات رحمته » قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع. فنزلت: « قل حسبي الله » ترك الجواب لدلالة الكلام عليه؛ يعني فسيقولون لا أي لا تكشف ولا تمسك فـ « قل » أنت « حسبي الله » أي عليه توكلت أي اعتمدت و « عليه يتوكل المتوكلون » يعتمد المعتمدون. وقد تقدم الكلام في التوكل. وقرأ نافع وابن كثير والكوفيون ما عدا عاصما « كاشفات ضره » بغير تنوين. وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم « هل هن كاشفات ضره » . « ممسكات رحمته » بالتنوين على الأصل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأنه اسم فاعل في معنى الاستقبال، وإذا كان كذلك كان التنوين أجود. قال الشاعر:

الضاربون عميرا عن بيوتهم بالليل يوم عمير ظالم عادي

ولوكان ماضيا لم يجز فيه التنوين، وحذف التنوين على التحقيق، فإذا حذفت التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين كثير في كلام العرب موجود حسن؛ قال الله تعالى: « هديا بالغ الكعبة » [ المائدة: ] وقال: « إنا مرسلو الناقة » [ القمر:27 ] قال سيبويه: ومثل ذلك « غير محلي الصيد » [ المائدة: 1 ] وأنشد سيبويه:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا أوعبد رب أخا عون بن مخراق

وقال النابغة:

احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام شراع وارد الثمد

معناه وارد الثمد فحذف التنوين؛ مثل « كاشفات ضره » .

 

قوله تعالى: « قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل » أي على مكانتي أي على جهتي التي تمكنت عندي « فسوف تعلمون » . وقرأ أبو بكر بالجمع « مكاناتكم » . وقد مضى في « الأنعام » . « من يأتيه عذاب يخزيه » أي يهينه ويذله أي في الدنيا وذلك بالجوع والسيف. « ويحل عليه عذاب مقيم » أي في الآخرة. « إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل » تقدم.

 

الآية: 42 ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )

 

قوله تعالى: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » أي يقبضها عند فناء آجالها « والتي لم تمت في منامها » اختلف فيه. فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها « فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى » وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها؛ قال ابن عيسى. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. قال: وقد يكون توفيها نومها؛ فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف « فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى » أي يعيدها. قال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة. وقال ابن زيد: النوم وفاة والموت وفاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون ) . وقال عمر: النوم أخو الموت. وروي مرفوعا من حديث جابر بن عبدالله قيل: يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: ( لا النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها ) خرجه الدارقطني. وقال ابن عباس: ( في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحريك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ) . وهذا قول ابن الأنباري والزجاج. قال القشيري أبو نصر: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحال شيء واحد؛ ولهذا قال: « فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى » فإذاً يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله: « ويرسل الأخرى » أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان. فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية. « فيمسك التي قضى عليها الموت » بألا يخلق فيها الإدراك كيف وقد خلق فيها الموت؟ « ويرسل الأخرى » بأن يعيد إليها الإحساس.

 

وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح؛ هل هما شيء واحد أو شيئان على ما ذكرنا. والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب. من ذلك حديث أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره ) قال: ( فذلك حين يتبع بصره نفسه ) خرجهما مسلم. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء... ) وذكر الحديث وإسناده صحيح خرجه ابن ماجة؛ وقد ذكرناه في التذكرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: ( إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها... ) . وذكر الحديث. وقال بلال في حديث الوادي: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي: ( يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولوشاء ردها إلينا في حين غير هذا ) .

والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج، وبه إلى السماء يعرج، لا يموت ولا يفنى، وهو مما له أول وليس له آخر، وهو بعينين ويدين، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة؛ كما في حديث أبي هريرة. وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض؛ وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة. وقال تعالى: « فلولا إذا بلغت الحلقوم » [ الواقعة: 83 ] يعني النفس إلى خروجها من الجسد؛ وهذه صفة الجسم. والله أعلم.

 

خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليُسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها ) . وقال البخاري وابن ماجة والترمذي: ( فارحمها ) بدل ( فاغفر لها ) ( وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) زاد الترمذي ( وإذا استيقظ فليقل الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره ) . وخرج البخاري عن حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده؛ ثم يقول: ( اللهم باسمك أموت وأحيا ) وإذا استيقظ قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) .

 

قوله تعالى: « فيمسك التي قضى عليها الموت » هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل « الموت » نصبا؛ أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله في أول الآية: « الله يتوفى الأنفس » فهو يقضي عليها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزه والكسائي « قضي عليها الموت » على ما لم يسم فاعله. النحاس، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام؛ لأنهم قد أجمعوا على « ويُرسِلُ » ولم يقرؤوا « ويُرسَلُ » . وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء، ويحيي ويميت، لا يقدر على ذلك سواه. « إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون » يعني في قبض الله نفس الميت والنائم، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت وقال الأصمعي سمعت معتمرا يقول: روح الإنسان مثل كبة الغزل، فترسل الروح، فيمضى ثم تمضى ثم تطوى فتجيء فتدخل؛ فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد. وقيل غير هذا؛ وفي التنزيل: « ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي » [ الإسراء: 85 ] أي لا يعلم حقيقته إلا الله. وقد تقدم في « سبحان » .

 

الآيات: 43 - 45 ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )

 

قوله تعالى: « أم اتخذوا من دون الله شفعاء » أي بل اتخذوا يعني الأصنام وفي الكلام ما يتضمن لم؛ أي « إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون » لم يتفكروا ولكنهم اتخذوا آلهتهم شفعاء. « قل أولو كانوا لا يملكون شيئا » أي قل لهم يا محمد أتتخذونهم شفعاء وإن كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة « ولا يعقلون » لأنها جمادات. وهذا استفهام إنكار. « قل لله الشفاعة جميعا » نص في أن الشفاعة لله وحده كما قال: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » [ البقرة: 255 ] فلا شافع إلا من شفاعته « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » [ الأنبياء: 28 ] . « جميعا » نصب على الحال. فإن قيل: « جميعا » إنما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة. فالجواب أن الشفاعة مصدر والمصدر يؤدي عن الاثنين والجميع: « له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون » .

 

قوله تعالى: « وإذا ذكر الله وحده » نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه، وعلى الحال عند يونس. « اشمأزت » قال المبرد: انقبضت. وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة: نفرت واستكبرت وكفرت وتعصت. وقال المؤرج أنكرت. وأصل الاشمئزاز النفور والازورار. قال عمرو بن كلثوم:

إذا عض الثقاف بها اشمأزت وولتهم عشوزنة زبونا

وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع وهو المذعور. وكان المشركون إذا قيل لهم « لا إله إلا الله » نفروا وكفروا. « وإذا ذكر الذين من دونه » يعني الأوثان حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة « النجم » تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى. قاله جماعة المفسرين. « إذا هم يستبشرون » أي يظهر في وجوههم البشر والسرور.

الآية [ 46 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 46 - 48 ( قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « قل اللهم فاطر السماوات والأرض » نصب لأنه نداء مضاف وكذا « عالم الغيب » ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. « أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون » وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل « فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون » اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) ولما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ: « قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون » . وقال سعيد بن جبير: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، قوله تعالى: « قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون » .

 

قوله تعالى: « ولو أن للذين ظلموا » أي كذبوا وأشركوا « ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة » أي من سوء عذاب ذلك اليوم. وقد مضى هذا في سورة « آل عمران » و « الرعد » . « وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون » من أجل ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقاله السدي. وقيل: عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة فـ « بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون » من دخول النار. وقال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله « وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون » فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. « وبدا لهم » أي ظهر لهم « سيئات ما كسبوا » أي عقاب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. « وحاق بهم » أي أحاط بهم ونزل « ما كانوا به يستهزئون » .

 

الآيات: 49 - 52 ( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون، قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين، أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « فإذا مس الإنسان ضر دعانا » قيل: إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة. « ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم » قال قتادة: « على علم » عندي بوجوه المكاسب، وعنه أيضا « على علم » على خير عندي. وقيل: « على علم » أي على علم من الله بفضلي. وقال الحسن: « على علم » أي بعلم علمني الله إياه. وقيل: المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة؛ فقال الله: « بل هي فتنة » أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها. قال الفراء: أنث « هي » لتأنيث الفتنة، ولوكان بل هو فتنة لجاز. النحاس: التقدير بل أعطيته فتنة. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » أي لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار.

 

قوله تعالى: « قد قالها » أنث على تأنيث الكلمة. « الذين من قبلهم » يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال: « إنما أوتيته على علم عندي » . « فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون » « ما » للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقيل: أي فما الذي أغنى أموالهم؟ فـ « ما » استفهام. « فأصابهم سيئات ما كسبوا » أي جزاء سيئات أعمالهم. وقد يسمى جزاء السيئة سيئة. « والذين ظلموا » أي أشركوا « من هؤلاء » الأمة « سيصيبهم سيئات ما كسبوا » أي بالجوع والسيف. « وما هم بمعجزين » أي فائتين الله ولا سابقيه. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون » خص المؤمن بالذكر؛ لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها. ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكرا واستدراجا، وتقتيره رفعة وإعظاما.

الآية [ 53 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 53 - 59 ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين )

 

قوله تعالى: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » وإن شئت حذفت الياء؛ لأن النداء موضع حذف. النحاس: ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، أتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعد أضاة بني غفار، وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه. فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام، وإذا به قد فتن فافتتن، فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله عز وجل في كتابه: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » إلى قوله تعالى: « أليس في جهنم مثوى للمتكبرين » قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه: إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم » ذكره البخاري بمعناه. وقد مضى في آخر « الفرقان » .

وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا: بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية. وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه: وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد كنت أحب أن أراك على غير جوار فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ) قال: فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت، هل يقبل الله منى توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: « والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون » [ الفرقان: 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه؛ فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » [ النساء: 48 ] فدعا به فتلا عليه؛ قال: فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: « يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » فقال: نعم الآن لا أرى شرطا. فأسلم. وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم » . وفي مصحف ابن مسعود « إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء » . قال أبو جعفر النحاس: وهاتان القراءتان على التفسير، أي يغفر الله لمن يشاء. وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة، ودل على أنه يريد التائب ما بعده « وأنيبوا إلى ربكم » فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك « وإني لغفار لمن تاب » [ طه: 82 ] فهذا لا إشكال فيه. وقال علي بن أبي طالب: ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية: « قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله » وقد مضى هذا في « سبحان » . وقال عبدالله بن عمر: وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم » [ الرعد: 6 ] وقد مضى في « الرعد ] . وقرئ » ولا تقنطوا « بكسر النون وفتحها. وقد مضى في » الحجر « بيانه.»

 

قوله تعالى: « وأنيبوا إلى ربكم » أي ارجعوا إليه بالطاعة. لما بين أن من تاب من الشرك يغفر له أمر بالتوبة والرجوع إليه، والإنابة الرجوع إلى الله بالإخلاص. « وأسلموا له » أي اخضعوا له وأطيعوا « من قبل أن يأتيكم العذاب » في الدنيا « ثم لا تنصرون » أي لا تمنعون من عذابه. وروى من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله ) .

 

قوله تعالى: « واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون » « أحسن ما أنزل » هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته. وقال السدي: الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى علمه. وقال: أنزل الله كتب التوراة والإنجيل والزبور، ثم أنزل القرآن وأمر باتباعه فهو الأحسن وهو المعجز. وقيل: هذا أحسن لأنه ناسخ قاض على جميع الكتب وجميع الكتب منسوخة. وقيل: يعني العفو؛ لأن الله تعالى خير نبيه عليه السلام بين العفو والقصاص. وقيل: ما علم الله النبي عليه السلام وليس بقرآن فهو حسن؛ وما أوحى إليه من القرآن فهو الأحسن. وقيل: أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية. « أن تقول نفس » « أن » في موضع نصب أي كراهة « أن تقول » وعند الكوفيين لئلا تقول وعند البصريين حذر « أن تقول » . وقيل: أي من قبل « أن تقول نفس » لأنه قال قيل هذا: « من قبل أن يأتيكم العذاب » الزمخشري: فإن قلت لم نكرت؟ قلت: لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر. ويجوز أن يريد نفسا متميزة من الأنفس، إما بلجاج في الكفر شديد، أو بعقاب عظيم. ويجوز أن يراد التكثير كما قال الأعشى:

ورب بقيع لو هتفت بجوه أتاني كريم ينفض الرأس معضبا

وهو يريد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، ونظيره: رب بلد قطعت، ورب بطل قارعت، ولا يقصد إلا التكثير. « ياحسرتا » والأصل « يا حسرتي » فأبدل من الياء ألف؛ لأنها أخف وأمكن في الاستغاثة بمد الصوت، وربما ألحقوا بها الهاء؛ أنشد الفراء:

يا مرحباه بحمار ناجيه إذا أتى قربته للسانيه

وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف؛ لتدل على الإضافة. وكذلك قرأها أبو جعفر: « يا حسرتاي » والحسرة الندامة « على ما فرطت في جنب الله » قال الحسن: في طاعة الله. وقال الضحاك: أي في ذكر الله عز وجل. قال: يعني القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة: « في جنب الله » أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار؛ يقال فلان يعيش في جنب فلان أي في جواره؛ ومنه « والصاحب بالجنب » [ النساء: 36 ] أي ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة. وقال الزجاج: أي على ما فرطت في الطريق الذي هو طريق الله الذي دعاني إليه. والعرب تسمي السبب والطريق إلى الشيء جنبا؛ تقول: تجرعت في جنبك غصصا؛ أي لأجلك وسببك ولأجل مرضاتك. وقيل: « في جنب الله » أي في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله عز وجل وثوابه، والعرب تسمي الجانب جنبا، قال الشاعر:

قسم مجهودا لذاك القلب الناس جنب والأمير جنب

يعني الناس من جانب والأمير من جانب. وقال ابن عرفة: أي تركت من أمر الله؛ يقال ما فعلت ذلك في جنب حاجتي؛ قال كثير:

ألا تتقين الله في جنب عاشق له كبد حرى عليك تقطع

وكذا قال مجاهد؛ أي ضيعت من أمر الله. ويروى عن النبي صلى أنه قال: ( ما جلس رجل مجلسا ولا مشى ممشى ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله عز وجل فيه إلا كان عليه ترة يوم القيامة ) أي حسرة؛ خرجه أبو داود بمعناه. وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله في الدنيا يوم القيامة في ميزان غيره، قد ورثه وعمل فيه بالحق، كان له أجره وعلى الآخر وزره، ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوله الله إياه في الدنيا أقرب منزلة من الله عز وجل، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. « وإن كنت لمن الساخرين » أي وما كنت إلا من المستهزئين بالقرآن وبالرسول في الدنيا وبأولياء الله تعالى: قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ومحل « إن كنت » النصب على الحال؛ كأنه قال: فرطت وأنا ساخر؛ أي فرطت في حال سخريتي. وقيل: وما كنت إلا في سخرية ولعب وباطل؛ أي ما كان سعيي إلا في عبادة غير الله تعالى.

 

قوله تعالى: « أو تقول » هذه النفس « لو أن الله هداني » أي أرشدني إلى دينه. وهذا القول لو أن الله هداني لاهتديت قول صدق. وهو قريب من احتجاج المشركين فيما أخبر الرب جل وعز عنهم في قوله: « سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا » [ الأنعام: 148 ] فهي كلمة حق أريد بها باطل؛ كما قال علي رضى الله عنه لما قال قائل من الخوارج لاحكم إلا لله. « لكنت من المتقين » أي الشرك والمعاصي. « أو تقول حين ترى العذاب » يعني أن هذه النفس تقول حين ترى العذاب « لو أن لي كرة » أي تتمنى الرجعة. « فأكون من المحسنين » نصب على جواب التمني، وإن شئت كان معطوفا على « كرة » لأن معناه أن أكر؛ كما قال الشاعر:

للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف

وأنشد الفراء:

فما لك منها غير ذكرى وخشية وتسأل عن ركبانها أين يمموا

فنصب وتسأل على موضع الذكرى؛ لأن معنى الكلام فما لك منها إلا أن تذكر. ومنه للبس عباءة وتقر؛ أي لأن ألبس عباءة وتقر. وقال أبو صالح: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن. وقال قتادة: هؤلاء أصناف؛ صنف منهم قال: « يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله » . وصنف منهم قال: « لو أن الله هداني لكنت من المتقين » . وقال آخر: « لو أن لي كرة فأكون من المحسنين » فقال الله تعالى ردا لكلامهم: « بلى قد جاءتك آياتي » قال الزجاج: « بلى » جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي، ولكن معنى « لو أن الله هداني » ما هداني، وكأن هذا القائل قال ما هديت؛ فقيل: بل قد بين لك طريق الهدى فكنت بحيث لو أردت أن تؤمن أمكنك أن تؤمن. « آياتي » أي القرآن. وقيل: عنى بالآيات المعجزات؛ أي وضح الدليل فأنكرته وكذبته. « واستكبرت وكنت من الكافرين » أي تكبرت عن الإيمان « وكنت من الكافرين » . وقال: « استكبرت وكنت » وهو خطاب الذكر؛ لأن النفس تقع على الذكر والأنثى. يقال: ثلاثة أنفس. وقال المبرد؛ تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد. وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: « قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين » . وقرأ الأعمش: « بلى قد جاءته آياتي » وهذا يدل على التذكير. والربيع بن أنس لم يلحق أم سلمة إلا أن القراءة جائزة؛ لأن النفس تقع للمذكر والمؤنث. وقد أنكر هذه القراءة بعضهم وقال: يجب إذا كسر التاء أن تقول وكنت من الكوافر أو من الكافرات. قال النحاس: وهذا لا يلزم؛ ألا ترى أن قبله « أن تقول نفس » ثم قال: « وإن كنت لمن الساخرين » ولم يقل من السواخر ولا من الساخرات. والتقدير في العربية على كسر التاء « واستكبرت وكنت » من الجمع الساخرين أو من الناس الساخرين أو من القوم الساخرين.

 

الآيات: 60 - 64 ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون، الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون، قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون )

 

قوله تعالى: « ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة » أي مما حاط بهم من غضب الله ونقمته. وقال الأخفش: « ترى » غير عامل في قوله: « وجوههم مسودة » إنما هو ابتداء وخبر. الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان « ترى » من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب. « أليس في جهنم مثوى للمتكبرين » بين رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الكبر فقال عليه السلام: ( سفه الحق وغمص الناس ) أي احتقارهم. وقد مضى في « البقرة » وغيرها. وفي حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم ) .

 

قوله تعالى: « وينجي الله الذين اتقوا » وقرئ: « وينجى » أي من الشرك والمعاصي. « بمفازتهم » على التوحيد قراءة العامة لأنها مصدر. وقرأ الكوفيون: « بمفازاتهم » وهو جائز كما تقول بسعاداتهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة، قال: ( يحشر الله مع كل امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب ريح فكلما كان رعب أو خوف قال له لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت بالمعني به فإذا كثر ذلك عليه قال فما أحسنك فمن أنت فيقول أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك ولأدفعن عنك فهي التي قال الله: « وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون » .

« الله خالق كل شيء » أي حافظ وقائم به. وقد تقدم.

 

قوله تعالى: « له مقاليد السماوات والأرض » واحدها مقليد. وقيل: مقلاد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد. والمقاليد المفاتيح عن ابن عباس وغيره. وقال السدي: خزائن السماوات والأرض. وقال غيره: خزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات. وفيه لغة أخرى أقاليد وعليها يكون واحدها إقليد. قال الجوهري: والإقليد المفتاح، والمقلد مفتاح كالمنجل ربما يقلد به الكلأ كما يقلد القت إذا جعل حبالا؛ أي يفتل والجمع المقاليد. وأقلد البحر على خلق كثير أي غرقهم كأنه أغلق عليهم. وخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى: « له مقاليد السماوات والأرض » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما سألني عنها أحد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ) ذكره الثعلبي في تفسيره، وزاد من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله ست خصال: أولها يحرس من إبليس، والثانية يحضره اثنا عشر ألف ملك، والثالثة يعطى قنطارا من الأجر، والرابعة ترفع له درجة، والخامسة يزوجه الله من الحور العين، والسادسة يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وله أيضا من الأجر كمن حج واعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا. وروى الحارث عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد فقال: ( يا علي لقد سألت عن عظيم المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله الأول والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير من قالها عشرا إذا أصبح، وعشرا إذا أمسى أعطاه الله خصالا ستا: أولها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان، والثانية يعطى قنطارا في الجنة هو أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة ترفع له درجة لا ينالها إلا الأبرار، والرابعة يزوجه الله من الحور العين، والخامسة يشهده اثنا عشر ألف ملك يكتبونها له في رق منشور ويشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة يكون له من الأجر كأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكمن حج واعتمر فقبل الله حجته وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أوشهره طبع بطابع الشهداء. وقيل: المقاليد الطاعة يقال ألقى إلى فلان بالمقاليد أي أطاعه فيما يأمره؛ فمعنى الآية له طاعة من في السماوات والأرض.

 

قوله تعالى: « والذين كفروا بآيات الله » أي بالقرآن والحجج والدلالات. « أولئك هم الخاسرون » تقدم.

 

قوله تعالى: « قل أفغير الله تأمروني أعبد » ذلك حين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين آبائك. و « غير » نصب بـ « أعبد » على تقدير أعبد غير الله فيما تأمرونني. ويجوز أن ينتصب بـ « تأمروني » على حذف حرف الجر؛ التقدير: أتأمروني بغير الله أن أعبده، لأن أن مقدرة وأن والفعل مصدر، وهي بدل من غير؛ التقدير: أتأمروني بعبادة غير الله. وقرأ نافع: « تأمروني » بنون واحدة مخففة وفتح الياء. وقرأ ابن عامر: « تأمرونني » بنونين مخففتين على الأصل. الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنها وقعت في مصحف عثمان بنون واحدة. وقرأ نافع على حذف النون الثانية وإنما كانت المحذوفة الثانية؛ لأن التكرير والتثقيل يقع بها، وأيضا حذف الأولى لا يجوز؛ لأنها دلالة الرفع. وقد مضى في « الأنعام » بيانه عند قوله تعالى: « أتحاجوني » . « أعبد » أي أن أعبد فلما حذف « أن » رفع؛ قاله الكسائي. ومنه قول الشاعر:

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ « أعبد » بالنصب.

 

الآيات: 65 - 66 ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين )

 

قوله تعالى: « ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت » قيل: إن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والتقدير: لقد أوحي إليك لئن أشركت وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك. وقيل: هو على بابه؛ قال مقاتل: أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف. ثم قال: « لئن أشركت » يا محمد: « ليحبطن عملك » وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقيل: الخطاب له والمراد أمته؛ إذ قد علم الله أنه لا يشرك ولا يقع منه إشراك. والإحباط الإبطال والفساد؛ قال القشيري: فمن ارتد لم تنفعه طاعاته السابقة ولكن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة على الكفر؛ ولهذا قال: « من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم » [ البقرة: 217 ] فالمطلق ها هنا محمول على المقيد؛ ولهذا قلنا: من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام لا يجب عليه إعادة الحج.

قلت: هذا مذهب الشافعي. وعند مالك تجب عليه الإعادة وقد مضى في « البقرة » بيان هذا مستوفى.

 

قوله تعالى: « بل الله فاعبد » النحاس: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله عز وجل منصوب بـ « اعبد » قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. قال النحاس: وقال الفراء يكون منصوبا بإضمار فعل. وحكاه المهدوي عن الكسائي. فأما الفاء فقال الزجاج: إنها للمجازاة. وقال الأخفش: هي زائدة. وقال ابن عباس: « فاعبد » أي فوحد. وقال غيره: « بل الله » فأطع « وكن من الشاكرين » لنعمه بخلاف المشركين.

الآية [ 67 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 67 - 68 ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون )

 

قوله تعالى: « وما قدروا الله حق قدره » قال المبرد: ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر. قال النحاس: والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذا عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها. ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال: « والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه » . ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة فقال: « سبحانه وتعالى عما يشركون » . وفي الترمذي عن عبدالله قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: « وما قدروا الله حق قدره » . قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) . وفي الترمذي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: « والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه » قالت: قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: ( على جسر جهنم ) في رواية ( على الصراط يا عائشة ) قال: حديث حسن صحيح. وقوله: « والأرض جميعا قبضته » ( ويقبض الله الأرض ) عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته؛ يقال: ما فلان إلا في قبضتي، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي، والناس يقولون الأشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته. وقد يكون معنى القبض والطي إفناء الشيء وإذهابه فقوله جل وعز: « والأرض جميعا قبضته » يحتمل أن يكون المراد به والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة، والمراد بالأرض الأرضون السبع؛ يشهد لذلك شاهدان: قوله: « والأرض جميعا » ولأن الموضع موضع تفخيم وهو مقتضٍ للمبالغة. وقوله: « والسماوات مطويات بيمينه » ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب،وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب؛ يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره. وانطوى عنا دهر بمعنى المضى والذهاب. واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك؛ ومنه قوله تعالى: « أو ما ملكت أيمانكم » [ النساء:3 ] يريد به الملك؛ وقال: « لأخذنا منه باليمين » [ الحاقة: 45 ] أي بالقوة والقدرة أي لأخذنا قوته وقدرته. قال الفراء والمبرد: اليمين القوة والقدرة. وأنشدا:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

وقال آخر:

ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيمين

قتلت شنيفا ثم فاران بعده وكان على الآيات غير أمين

وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم، كما قال: « والأمر يومئذ لله » [ الانفطار: 19 ] وقال: « مالك يوم الدين » [ الفاتحة: 3 ] حسب ما تقدم في « الفاتحة » ولذلك قال في الحديث: ( ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) وقد زدنا هذا الباب في التذكرة بيانا، وتكلمنا على ذكر الشمال في حديث ابن عمر قوله: ( ثم يطوي الأرض بشماله ) .

 

قوله تعالى: « ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى » بين ما يكون بعد قبض الأرض وطي السماء وهو النفخ في الصور، وإنما هما نفختان؛ يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون في الثانية وقد مضى الكلام في هذا في « النمل » و « الأنعام » أيضا. والذي ينفخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام. وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن صاحبي الصور بأيديهما - أو في أيديهما - قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران ) خرجه ابن ماجة في السنن. وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صاحب الصور، وقال: ( عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل ) . واختلف في المستثنى من هم؟ فقيل: هم الشهداء متقلدين أسيافهم حول العرش. روي مرفوعا من حديث أبي هريرة فيما ذكر القشيري، ومن حديث عبدالله بن عمر فيما ذكر الثعلبي. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وروي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: » ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله « فقالوا: يا نبي الله من هم الذين استثنى الله تعالى؟ قال: ( هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فيقول الله تعالى لملك الموت يا ملك الموت من بقي من خلقي وهو أعلم فيقول يا رب بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت فيقول الله تعالى خذ نفس إسرائيل وميكائيل فيخران ميتين كالطودين العظيمين فيقول مت يا ملك الموت فيموت فيقول الله تعالى لجبريل يا جبريل من بقي فيقول تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني فيقول الله تعالى يا جبريل لا بد من موتك فيقع ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الظرب من الظراب ) ذكره الثعلبي. وذكره النحاس أيضا من حديث محمد بن إسحاق، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله جل وعز: » فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله « قال: ( جبريل وميكائيل وحملة العرش وملك الموت وإسرافيل ) وفي هذا الحديث: ( إن آخرهم موتا جبريل عليه وعليهم السلام ) وحديث أبي هريرة في الشهداء أصح على ما تقدم في « النمل » . وقال الضحاك: هو رضوان والحور ومالك والزبانية. وقيل: عقارب أهل النار وحياتها. وقال الحسن: هو الله الواحد القهار وما يدع أحدا من أهل السماء والأرض إلا أذاقه الموت. وقال قتادة: الله أعلم بثنياه. وقيل: الاستئناء في قوله: » إلا من شاء الله « يرجع إلى من مات قبل النفخة الأولى؛ أي فيموت من في السماوات والأرضى إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا.»

وفي الصحيحين وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوقي المدينة، والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه؛ قال: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( قال الله عز وجل: « ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون » فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ) وخرجه الترمذي أيضا وقال فيه: حديث حسن صحيح. قال القشيري: ومن حمل الاستثناء على موسى والشهداء فهؤلاء قد ماتوا غير أنهم أحياء عند الله. فيجوز أن تكون الصعقة بزوال العقل دون زوال الحياة، ويجوز أن تكون بالموت، ولا يبعد أن يكون الموت والحياة فكل ذلك مما يجوزه العقل، والأمر في وقوعه موقوف على خبر صدق.

قلت: جاء في بعض طرق أبي هريرة أنه عليه السلام قال: ( لا تخيروني على موسى فان الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله ) خرجه مسلم. ونحوه عن أبي سعيد الخدري؛ والإفاقة إنما تكون عن غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « فإذا هم قيام ينظرون » أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم، فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون. وقيل: قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. وقيل: هذا النظر بمعنى الانتظار؛ أي ينتظرون ما يفعل بهم. وأجاز الكسائي قياما بالنصب؛ كما تقول: خرجت فإذا زيد جالسا.

 

الآيات: 69 - 70 ( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون )

 

قوله تعالى: « وأشرقت الأرض بنور ربها » إشراقها إضاءتها؛ يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وشرقت إذا طلعت. ومعنى: « بنور ربها » بعدل ربها؛ قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها؛ والمعنى واحد؛ أي أنارت وأضاءت بعدل الله وقضائه بالحق بين عباده. والظلم ظلمات والعدل نور. وقيل: إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به. وقال ابن عباس: النور المذكور ها هنا ليس من نور الشمس والقمر، بل هو نور يخلقه الله فيضيء به الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة تشرق بنور الله تعالى حين يأتي لفصل القضاء. والمعنى أنها أشرقت بنور خلقه الله تعالى، فأضاف النور إليه على حد إضافة الملك إلى المالك. وقيل: إنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه؛ لأنه نهار لا ليل معه. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: « وأشرقت الأرض » على ما لم يسم فاعله وهي قراءة على التفسير. وقد ضل قوم ها هنا فتوهموا أن الله عز وجل من جنس النور والضياء المحسوس، وهو متعال عن مشابهة المحسوسات، بل هو منور السماوات والأرض، فمنه كل نور خلقا وإنشاء. وقال أبو جعفر النحاس: وقوله عز وجل: « وأشرقت الأرض بنور ربها » يبين هذا الحديث المرفوع من طرق كثيرة صحاح ( تنظرون إلى الله عز وجل لا تضامون في رؤيته ) وهو يروى على أربعة أوجه: لا تضامون ولا تضارون ولا تضامون ولا تضارون؛ فمعنى ( لا تضامُون ) لا يلحقكم ضيم كما يلحقكم في الدنيا في النظر إلى الملوك. و ( لا تضارُون ) لا يلحقكم ضير. و ( لا تضامُّون ) لا ينضم بعضكم إلى بعض ليسأله أن يريه. و ( لا تضارُّون ) لا يخالف بعضكم بعضا. يقال: ضاره مضارة وضرارا أي خالفه.

 

قوله تعالى: « ووضع الكتاب » قال ابن عباس: يريد اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يريد الكتاب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله. « وجيء بالنبيين » أي جيء بهم فسألهم عما أجابتهم به أممهم. « والشهداء » الذين شهدوا على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: « وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس » [ البقرة: 143 ] . وقيل: المراد بالشهداء الذي استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله؛ قاله السدي. قال ابن زيد: هم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. قال الله تعالى: « وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد » [ ق: 21 ] فالسائق يسوقها إلى الحساب والشهيد يشهد عليها، وهو الملك الموكل بالإنسان على ما يأتي بيانه في « ق ] . » وقضي بينهم بالحق « أي بالصدق والعدل. » وهم لا يظلمون « قال سعيد بن جبير: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم. » ووفيت كل نفس ما عملت « من خير أو شر. » وهو أعلم بما يفعلون « في الدنيا ولا حاجة به عز وجل إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك فتشهد الكتب، والشهود إلزاما للحجة.»

 

الآيات: 71 - 72 ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين )

 

قوله تعالى: « وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا » هذا بيان توفية كل نفس عملها، فيساق الكافر إلى النار والمؤمن إلى الجنة. والزمر: الجماعات واحدتها زمرة كظلمة وغرفة. وقال الأخفش وأبو عبيدة: « زمرا » جماعات متفرقة بعضها إثر بعض. قال الشاعر:

وترى الناس إلى منزله زمرا تنتابه بعد زمر

وقال آخر:

حتى احزألت زمر بعد زمر

وقيل: دفعا وزجرا بصوت كصوت المزمار. « حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها » جواب إذا، وهي سبعة أبواب. وقد مضى في « الحجر » . « وقال لهم خزنتها » واحدهم خازن نحو سدنة وسادن، « ألم يأتكم رسل منكم » يقولون لهم تقريعا وتوبيخا. « ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم » أي الكتب المنزلة على الأنبياء. « وينذرونكم لقاء يومكم هذا » أي يخوفونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى « أي قد جاءتنا، وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم » ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين « وهي قوله تعالى: » لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين « [ السجدة: 13 ] . » قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها « أي يقال لهم ادخلوا جهنم. وقد مضى الكلام في أبوابها. قال وهب: تستقبلهم الزبانية بمقامع من نار فيدفعونهم بمقامعهم، فإنه ليقع في الدفعة الواحدة إلى النار بعدد ربيعة ومضر. » فبئس مثوى المتكبرين « تقدم بيانه.»

الآية [ 73 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 73 - 75 ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين، وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين )

 

قوله تعالى: « وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا » يعني من الشهداء والزهاد والعلماء والقراء وغيرهم، ممن اتقى الله تعالى وعمل بطاعته. وقال في حق الفريقين: « وسيق » بلفظ واحد، فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان؛ لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين. « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » قيل: الواو هنا للعطف عطف على جملة والجواب محذوف. قال المبرد: أي سعدوا وفتحت، وحذف الجواب بليغ في كلام العرب. وأنشد:

فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا

فحذف جواب لو والتقدير لكان أروح. وقال الزجاج: « حتى إذا جاؤوها » دخلوها وهو قريب من الأول. وقيل: الواو زائدة. قال الكوفيون وهو خطأ عند البصريين. وقد قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله تعالى، والتقدير حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة، بدليل قوله: « جنات عدن مفتحة لهم الأبواب » [ ص: 50 ] وحذف الواو في قصة أهل النار؛ لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا لهم. ذكره المهدوي وحكى معناه النحاس قبله. قال النحاس: فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول، فقد تكلم فيه بعض أهل العلم بقول لا أعلم أنه سبقه إليه أحد، وهو أنه لما قال الله عز وجل في أهل النار: « حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها » دل بهذا على أنها كانت مغلقة ولما قال في أهل الجنة: « حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها » دل بهذا على أنها كانت مفتحة قبل أن يجيؤوها؛ والله أعلم. وقيل: إنها واو الثمانية. وذلك من عادة قريش أنهم يعدون من الواحد فيقولون خمسة ستة سبعة وثمانية، فإذا بلغوا السبعة قالوا وثمانية. قال أبو بكر بن عياش. قال الله تعالى: « سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام » [ الحاقة: 7 ] وقال: « التائبون العابدون » [ التوبة: 112 ] ثم قال في الثامن: « والناهون عن المنكر » [ التوبة: 112 ] وقال: « ويقولون سبعة وثامنهم » [ الكهف: 22 ] وقال « ثيبات وأبكارا » [ التحريم: 5 ] وقد مضى القول في هذا في « براءة » مستوفى وفي « الكهف » أيضا.

قلت: وقد استدل بهذا من قال إن أبواب الجنة ثمانية؛ وذكروا حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ الوضوء - ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ) خرجه مسلم وغيره. وقد خرج الترمذي حديث عمر هذا وقال فيه: ( فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة ) بزيادة من وهو يدل على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التذكرة وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابا، وذكرنا هناك عظم أبوابها وسعتها حسب ما ورد في الحديث من ذلك، فمن أراده وقف عليه هناك.

 

قوله تعالى: « وقال لهم خزنتها » قيل: الواو ملغاة تقديره حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها « قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم » أي في الدنيا. قال مجاهد: بطاعة الله. وقيل: بالعمل الصالح. حكاه النقاش والمعنى واحد. وقال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه: « سلام عليكم » بمعنى التحية « طبتم فادخلوها خالدين » .

قلت: خرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ) وحكى النقاش: إن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم وذلك قوله تعالى: « وسقاهم ربهم شرابا طهورا » [ الإنسان: 21 ] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم فعندها يقول لهم خزنتها: « سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين » وهذا يروى معناه عن علي رضي الله عنه.

 

قوله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده » أي إذا دخلوا الجنة قالوا هذا. « وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء » أي أرض الجنة قيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت تكون لأهل النار لو كانوا مؤمنين؛ قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين وقيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير. « فنعم أجر العاملين » قيل: هو من قولهم أي نعم الثواب هذا. وقيل: هو من قول الله تعالى؛ أي نعم ثواب المحسنين هذا الذي أعطيتهم.

 

قوله تعالى: « وترى الملائكة » يا محمد « حافين » أي محدقين « من حول العرش » في ذلك اليوم « يسبحون بحمد ربهم » متلذذين بذلك لا متعبدين به؛ أي يصلون حول العرش شكرا لربهم. والحافون أخذ من حافات الشيء ونواحيه. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم إلا مجتمعين. ودخلت « من » على « حول » لأنه ظرف والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. وقال الأخفش: « من » زائدة أي حافين حول العرش. وهو كقولك: ما جاءني من أحد، فمن توكيد. الثعلبي: والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا، فيقولون: سبح بحمد ربك، وسبح حمدا لله؛ قال الله تعالى: « سبح اسم ربك الأعلى » [ الأعلى: 1 ] وقال: « فسبح باسم ربك العظيم » [ الواقعة: 74 ] . « وقضي بينهم بالحق » بين أهل الجنة والنار. وقيل: قضى بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق والعدل. « وقيل الحمد لله رب العالمين » أي يقول المؤمنون الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا. وقال قتادة في هذه الآية: افتتح الله أول الخلق بالحمد لله، فقال: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور » [ الأنعام:1 ] وختم بالحمد فقال: « وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين » فلزم الاقتداء به، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده. وقيل: إن قول « الحمد لله رب العالمين » من قول الملائكة فعلى هذا يكون حمدهم لله تعالى على عدله وقضائه. وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة « الزمر » فتحرك المنبر مرتين.

 

أعلى