فهرس تفسير القرطبي للسور

34 - تفسير القرطبي سورة سبأ

التالي السابق

سورة سبأ

مقدمة السورة

 

مكية في قول الجميع، إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى: « ويرى الذين أوتوا العلم » الآية. فقالت فرقة: هي مكية، والمراد المؤمنون أصحاب النبي صلى

الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس. وقالت فرقة: هي مدنية، والمراد بالمؤمنين من أسلم بالمدينة؛ كعبدالله بن سلام وغيره؛ قال مقاتل. وقال قتادة: هم أمة محمد

صلى الله عليه وسلم المؤمنون به كائنا من كان. وهي أربع وخمسون أية.

 

الآية: 1 ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير )

 

قوله تعالى: « الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض » « الذي » في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه « الحمد لله»

أهل الحمد « بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله؛ إذ النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة. » وله الحمد في الآخرة « قيل: هو قوله تعالى: » وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده « [ الزمر: 47 ] . وقيل: هو قوله » وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين « [ يونس: 10 ] فهو المحمود في»

الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى. « وهو الحكيم » في فعله « الخبير » بأمرخلقه.

 

الآية: 2 ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور )

 

قوله تعالى: « يعلم ما يلج في الأرض » أي ما يدخل فيها من قطر وغيره، كما قال: « فسلكه ينابيع في الأرض » [ الزمر: 21 ] من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات. « وما يخرج منها » من نبات وغيره « وما ينزل من السماء » من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات. وقرأ علي بن أبي طالب « وما ننزل » بالنون والتشديد. « وما يعرج فيها » من الملائكة وأعمال العباد؛ قاله الحسن وغيره « وهو الرحيم الغفور » .

 

الآيات: 3 - 4 ( وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم )

 

قوله تعالى: « وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة » قيل: المراد أهل مكة. قال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث. « قل بلى وربي لتأتينكم » « قل » يا محمد « بلى وربي لتأتينكم » وروى هارون عن طلق المعلم قال: سمعت أشياخنا يقرؤون « قل بلى وربي ليأتينكم » بياء، حملوه على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره. كما قال: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك » [ الأنعام: 158 ] . فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أن يبعث لخلق، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. « عالم الغيب » بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء، وخبره وقرأ عاصم وأبو عمرو « عالم » بالخفض، أي الحمد لله عالم، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله: « لتأتينكم » . وقرأ حمزة والكسائي: « علام الغيب » على المبالغة والنعت. « لا يعزب عنه » أي لا يغيب عنه، « ويعزب » أيضا. قال الفراء: والكسر أحب إلى. النحاس وهي قراءة يحيى بن وثاب، وهي لغة معروفة. يقال عزَب يعزِب ويعزُب إذا بعد وغاب. « مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض » أي قدر نملة صغيرة. « ولا أصغر من ذلك ولا أكبر » وفي قراءة الأعمش « ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ » بالفتح فيهما عطفا على « ذرة » . وقراءة العامة بالرفع عطفا على « مثقال » . « إلا في كتاب مبين » فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شيء. « ليجزي » منصوب بلام كي، والتقدير: لتأتينكم ليجزي. « الذين آمنوا وعملوا الصالحات » بالثواب، والكافرين بالعقاب. « أولئك » يعني المؤمنين. « لهم مغفرة » لذنوبهم. « ورزق كريم » وهو الجنة.

 

الآية: 5 ( والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم )

 

قوله تعالى: « والذين سعوا في آياتنا » أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا. « معاجزين » مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنا نهملهم؛ فهؤلاء « لهم عذاب من رجز أليم » يقال: عاجزه وأعجزه إذا غالبه وسبقه « أولئك لهم عذاب من رجز أليم » « أليم » قراءة نافع بالكسر نعتا للرجز، فإن الله هو العذاب، قال الله تعالى: « فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء » [ البقرة:59 ] . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم « عذاب من رجز أليم » يرفع الميم هنا وفي « الجاثية » نعتا للعذاب. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو « معجزين » مثبطين؛ أي ثبطوا الناس عن الإيمان بالمعجزات وآيات القرآن.

 

الآية: 6 ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد )

 

لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق. قال مقاتل: « الذين أوتوا العلم » هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل جميع المسلمين، وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم، وهو في موضع نصب عطفا على « ليجزى » أي ليجزي وليرى، قال الزجاج والفراء. وفيه نظر، لأن قوله: « ليجزي » متعلق بقول: « لتأتينكم الساعة » ، ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم يرون القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف، ذكره القشيري.

قلت: وإذا كان « ليجزي » متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين، فيحسن عطف « ويرى » عليه، أي وأثبت أيضا ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا. « الذي » في موضع نصب على أنه مفعول أول لـ « يرى » « وهو الحق » مفعول ثان، و « هو » فاصلة. والكوفيون يقولون « هو » عماد. ويجوز الرفع على أنه مبتدأ. و « الحق » خبره، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني، والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا يدخله الألف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قوله: كان أخوك هو زيد، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الألف واللام أشبه النكرة في قولك: كان زيد هو جالس، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. « ويهدي إلى صراط العزيز الحميد » أي يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله: « العزيز » على أنه لا يغالب. وبقوله: « الحميد » على أنه لا يليق به صفة العجز.

 

الآية: 7 ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد )

 

قوله تعالى: « وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل » وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها « ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق » هذا إخبار عمن قال: « لا تأتينا الساعة » [ سبأ: 3 ] أي هل نرشدكم إلى رجل ينبكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد. البلي في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري: « فإن قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قولهم: » هل ندلكم على رجل ينبئكم « فنكروه لهم عرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على. مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والهزؤ والسخرية، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره. و » إذا « في موضع نصب والعامل فيها » مزقتم « قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها » ينبئكم « ، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد » إن « ، لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ومعمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا؛ التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي: ولا يعمل فيه » مزقتم « ؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم على أن يجعل » إذا « للمجازاة، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة إليه. وأكثر ما تقع » إذا « للمجازاة في الشعر. ومعنى » مزقتم كل ممزق « فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء؛ يقال: ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق.»

 

الآية: 8 ( أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد )

 

قوله تعالى: « أفترى على الله كذبا » لما دخلت ألف الاستفهام استغني عن ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة « مريم » عند قوله تعالى: « أطلع الغيب » [ مريم: 78 ] مستوفى. « أم به جنة » وقيل هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين، والمعنى: قال المشركون « افترى على الله كذبا » . والافتراء الاختلاق. « أم به جنة » أي جنون، فهو يتكلم بما لا يدري. « بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد » أي ليس الأمر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب؛ إذ صاروا إلى تعجيز الإله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.

 

الآية: 9 ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب )

 

أعلم الله تعالى أن الذي قدر علي خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السموات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف. كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط « بالياء في الثلاث؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص » كسفا « بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في » الإسراء « وغيرها. » إن في ذلك لآية « أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا » لآية « أي دلالة ظاهرة. » لكل عبد منيب « أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته.»

 

الآية: 10 ( ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا داود منا فضلا » بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. « آتينا » أعطينا. « فضلا » أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأول: النبوة. الثاني: الزبور. الثالث: العلم، قال الله تعالى: « ولقد آتينا داود وسليمان علما » [ النمل: 15 ] . الرابع - القوة، قال الله تعالى: « واذكر عبدنا داود ذا الأيد » [ ص: 17 ] . الخامس::تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: « يا جبال أوبي معه » . السادس: التروية، قال الله تعالى: « فغفرنا له ذلك » [ ص: 25 ] . السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض » [ ص: 26 ] الآية. الثامن: إلانة الحديد، قال تعالى: « وألنا له الحديد » . التاسع: حسن الصوت، وكان، داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: « يزيد في الخلق ما يشاء » [ فاطر: 1 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: ( لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ) . قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله.

 

قوله تعالى: « ياجبال أوبي معه » أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: « إنا سخرنا الجبال معه » يسبحن بالعشي والإشراق « [ ص: 18 ] . قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سيري معه حيث شاء؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنزل الليل. قال ابن مقبل: »

لحقنا بحي أوبوا السير بعدما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح

وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: « أوبي معه » أي رجعي معه؛ من آب يؤوب إذا رجع، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة؛ فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوي بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته. « والطير » بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبدالملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في « أوبي » وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع « يا جبال » أي نادينا الجبال والطير، قال سيبويه. وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير. وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على « ولقد آتينا داود ما فضلا » . النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير.

 

قوله تعالى: « وألنا له الحديد » قال ابن عباس: صار عنده كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجيين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم. وقيل: أعطي قوة يثني بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له: ( ما قولك في هذا الملك داود ) ؟ فقال له الملك ( نعم العبد لولا خلة فيه ) قال داود: ( وما هي ) ؟ قال: ( يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله ) . فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله، وتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. مسألة: في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) . وقد مضى هذا في « الأنبياء » مجودا والحمد لله.

 

الآية: 11 ( أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير )

 

قوله تعالى: « أن اعمل سابغات » أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات؛ يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. « وقدر في السرد » قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي « يقصم » بالقاف، والفاء أيضا رواية. « في السرد » السرد نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط. والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الإشفى، ويقال سراد؛ قال الشماخ:

فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم كما تابعت سرد العنان الخوارز

والسراد: السير الذي يخرز به؛ قال لبيد:

يشك صفائحها بالروق شزرا كما خرج السراد من النقال

ويقال: قد سرد الحديث والصوم؛ فالسرد فيهما أن يجيء بهما ولاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام. وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه: ومنه رجل سردي أي جريء، قال: لأنه يمضى قوما. وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:

صنع الحديد مضاعفا أسراده لينال طول العيش غير مروم

وقال أبو ذؤيب:

وعليهما مسرودتان قضاهما داودُ أو صَنـَعُ السوابغ تبَّع

 

قوله تعالى: « واعملوا صالحا » أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود وأهله، كما قال: « اعملوا آل داود شكرا » [ سبأ: 13 ] . « إني بما تعملون بصير » وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور.

 

الآية: 12 ( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير )

 

قوله تعالى: « ولسليمان الريح » قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: « الريحُ » بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار؛ فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار. وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. « غدوها شهر ورواحها شهر » أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سفلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الإنس مما يلي سفلة الإنس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: « غدوها شهر ورواحها شهر » . وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه كتبه بعض صحابة سليمان؛ إما من الجن وإما من الإنس - : نحن نزلنا وما بنيناه، ومبينا وجدناه، غدونا من اصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام. وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تؤمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفيه يقول النابغة:

إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فأحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

فمن أطاعك فانفعه بطاعته كما أطاعك وأدلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:

ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح إلى الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدو لآخر

أناس شروا لله طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معالي الدين فضل رفعة وإن نسوا يوما فمن خير معشر

متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفر

 

قوله تعالى: « وأسلنا له عين القطر » القطر: النحاس؛ عن ابن عباس وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب؛ وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل لعكرمة: إلى أين سالت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من الناقل؛ إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها؛ وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدته عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته أو قال الخليل: القطر: النحاس المذاب.

قلت: دليله قراءة من قرأ: « من قطرٍ آن » . « ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه » أي بأمره « ومن يزغ منهم عن أمرنا » الذي أمرناه به من طاعة سليمان. « نذقه من عذاب السعير » أي في الآخرة، قال أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم فيما روى السدي - ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أم سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و « من » في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم في الريح.

 

الآية: 13 ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور )

 

قوله تعالى: « من محاريب وتماثيل » المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ومعظم. وقال الضحاك: « من محاريب » أي من مساجد. وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:

وماذا عليه أن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقيال

وقال عدي بن زيد:

كدمى العاج في المحاريب أوكالـ ـبيض في الروض زهره مستنير

وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة؛ كما قال: « إذ تسوروا المحراب » [ ص: 21 ] وقوله: « فخرج على قومه من المحراب » [ مريم: 11 ] أي أشرف عليهم. وفي الخبر ( أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يخرجون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح ( والتهليل لجة واحدة.

 

قوله تعالى: « وتماثيل » جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياه. ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ) . أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « نوح » عليه السلام. وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:

ويا رب يوم قد لهوت وليلة بآنسة كأنها خط تمثال

وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح. ويقال: إن اسفنديار كان منهم؛ والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما.

 

حكى مكي في الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه.

قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها والتوعد لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.

 

التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام؛ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه؛ لعموم قوله: « وتماثيل » . وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله: « وتماثيل » فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقتر بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: « ما يشاء » فاقتران المشية به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور. المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.

 

مقتضى الأحاديث يدل أن الصور ممنوعة، ثم جاء ( إلا ما كان رقما في ثوب ) فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: ( أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا ) . ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهية لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه. فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم؛ قال ابن العربي.

 

روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا ) . قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. وعنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: ( إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل ) . وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال: ( أخريه عني ) قالت: فأخرته فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا؛ لأن محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله.

 

قال المزني عن الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء. واستثنى بعضهم ( ما كان رقما في ثوب ) ، لحديث سهل بن حنيف.

قلت: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن. وقوله: ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم ) ولم يستثن. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ) . يدل على المنع من تصوير شيء، أي شيء كان. وقد قال جل وعز: « ما كان لكم أن تنبتوا شجرها » [ النمل: 60 ] على ما تقدم بيانه فأعلمه.

وقد استثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له، فرخص في ذاك، والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وجفان كالجواب » قال ابن عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل. وقال ابن القاسم عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. النحاس: « وجفان كالجواب » الأولى أن تكون بالياء، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف واللام أقر على حال فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع؛ ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد؛ أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر. وقال الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، قال:

تروج على آل الملحق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق

ويروى أيضا:

نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح... ... ...

ذكره النحاس. « وقدور راسيات » قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى « راسيات » ثوابت، لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبدالله بن الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقول:

كالجوابي لا تني مترعة لقرى الأضياف أو للمحتضر

قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد.

 

قوله تعالى: « اعملوا آل داود شكرا » قد مضى معنى الشكر في « البقرة » وغيرها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: ( ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود ) قال فقلنا: ما هن. فقال: ( العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر والغنى. وخشية الله في السر والعلانية ) . خرجه الترمذي الحكيم أبو عبدالله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: ( يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ) فقال: ( يا داود الآن عرفتني ) . وقد مضى هذا المعنى في سورة « إبراهيم » . وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك؛ لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما قال الله تعالى « أعملوا آل داود شكرا » قال داود لسليمان: أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني - قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر - قال نعم، فكفاه. وقال الزهري: « أعملوا آل داود شكرا » أي قولوا الحمد لله. و « شكرا » نصب على جهة المفعول؛ أي اعملوا عملا هو الشكر. وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى: « إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم » [ ص: 24 ] وهو المراد بقوله « وقليل من عبادي الشكور » . وقد قال سفيان بن عينة في تأويل قوله تعالى « أن اشكر لي » [ لقمان: 14 ] أن المراد بالشكر الصلوات الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه؛ فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ( أفلا أكون عبدا شكورا ) . انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان؛ فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « وقليل من عبادي الشكور » يحتمل أن يكون، مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله الله عليه وسلم قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل؛ فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى « وقليل من عبادي الشكور » . فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك. وقد قيل: إنه كان يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله، والله أعلم.

 

الآية: 14 ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين )

 

قوله تعالى: « فلما قضينا عليه الموت » أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت « ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته » وذلك أنه كان متكئا على المنسأة ( وهي العصا بلسان الحبشة، في قول السدي. وقيل: هي بلغة اليمن، ذكره القشيري ) فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها، فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، أي سببا لظهور موته، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضى عليه سنة. واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قولين: أحدهما ما قاله قتادة وغيره، قال: كانت الجن تدعي علم الغيب، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم « تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب » ابن مسعود: أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط. ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات؛ فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وقيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به؛ فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأل عن آية موته فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا؛ فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا ولكذا؛ فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ قال: ولأي شيء أنت؟ قال: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال. اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد؛ ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت؛ فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة؛ فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت؛ فقال: اللهم عم الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب؛ فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة.

وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس « تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب » . وقرأ يعقوب في رواية رويس « تبنت الجن » غير مسمى الفاعل. ونافع وأبو عمرو « تأكل منساته » بألف بين السين والتاء من غير همز. والباقون بهمزة مفتوحة موضع الألف، لغتان، إلا أن ابن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:

إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقال آخر فهمز وفتح:

ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهينا ذليلا

وقال آخر:

أمن أجل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا

وقال آخر فسكن همزها:

وقائم قد قام من تكأته كقومة الشيخ إلى منسأته

وأصلها من: نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء وساق. وقال طرفة:

أمون كألواح الإران نسئتها على لاحب كأنه ظهر برجد

فسكن همزها. قال النحاس: واشتقاقها يدل على أنها مهموزة؛ لأنها مشتقة من نسأته أي أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر. وقال مجاهد وعكرمة: هي العصا، ثم قرأ « منساته » أبدل من الهمزة ألفا، فإن قيل: البدل من الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب عنه مثل هذا لا سيما وأهل المدينة على هذه القراءة. فالجواب على هذا أن العرب استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس عليه حتى قال أبو عمور: ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة لأنها لأن ما كان مهموزا فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزه بوجه. المهدوي: ومن قرأ بهمزة ساكنة فهو شاذ بعيد؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا، لكنه يجوز أن يكون ما سكن من المفتوح استخفافا، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير قياس قلب الألف همزة كما قلبوها في قولهم العألم والخأتم، وروي عن صعيد بن جبير « من » مفصولة « سأته » مهموزة مكسورة التاء؛ فقيل: إنه من سئة القوس في لغة من همزها، وقد روي همز سية القوس عن رؤية. قال الجوهري: سية القوس ما عطف من طرفيها، والجمع سيات، والهاء عوض عن الواو، والنسبة إليها سيوي. قال أبو عبيدة: كان رؤبة يهمز « سية القوس » وسائر العرب لا يهمزونها. وفي دابة الأرض قولان: أحدهما: أنها أرضة؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقد قرئ « دابة الأرض » بفتح الراء، وهو جمع الأرضة؛ ذكره الماوردي. الثاني: أنها دابة تأكل العيدان. قال الجوهري: والأرضة ( بالتحريك ) : دويبة تأكل الخشب؛ يقال: أرضت الخشبة تؤرض أرضا ( بالتسكين ) فهي مأروضة إذا أكلتها.

 

قوله تعالى: « فلما خر » أي سقط « تبينت الجن » قال الزجاج: أي تبينت الجن موته. وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن؛ مثل: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] . وفي التفسير - بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول؛ فلما خر تبينت، الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير. وفي الخبر: أن الجن شكرت ذلك للأرضة فأينما كانت، يأتونها بالماء. قال السدي: والطين، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها به الشياطين شكرا؛ وقالت: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. و « أن » في موضع رفع على البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للإنس وانكشف لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن تكون في موضع نصب على، تقدير حذف اللام. « ما لبثوا » أقاموا. « في العذاب المهين » السخرة والحمل والبنيان وغير ذلك. وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة؛ فملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة. وقال السدي وغيره: كان عمر سليمان سبعا وستين ستة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة. وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا، وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني، على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل، للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه. ولا خائف إلا أمنته. ولا سقيم إلا شفيته. ولا فقير إلا أغنيته. والخامسة: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه؛ إلا من أراد إلحادا أو ظلما، يا رب العالمين؛ ذكره الماوردي.

قلت: وهذا أصح مما تقدم أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرج النسائي وغيره بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ) وقد ذكرنا هذا الحديث في « آل عمران » وذكرنا بناءه في « الإسراء » .

 

الآية: 15 ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور )

 

قوله تعالى: « لقد كان لسبأ في مسكنهم آية » قرأ نافع وغيره بالصرف والتنوين على أنه اسم حي، وهو في الأصل اسم رجل؛ جاء بذلك التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؛ فأذن لي في قتالهم وأمر؛ فلما خرجت من عنده سأل عني: ( ما فعل الغطيفي ) ؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: ( ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك؛ قال: وأنزل في سبأ ما أنزل؛ فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: ( الذين منهم خثعم وبجيلة ) . وروي هذا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « لسبأَ » بغير صرف، جعله اسما للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه اسم قبيلة بأن بعده « في مساكنهم » . النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في « النمل » زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:

الواردون وتم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس

وقال آخر في غير الصرف:

من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيلها العرما

وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري « لسبأْ » بإسكان الهمزة. « في مساكنهم » قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص « مسكنهم » موحدا، إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرأ يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت « مسكنهم » كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والأخر: أن يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع؛ كما قال الله تعالى: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم » [ البقرة: 7 ] فجاء بالسمع موحدا. وكذا « مقعد صدق » [ القمر: 55 ] و « مسكن » مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا. « آية » اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. « جنتان عن يمين وشمال » يجوز أن يكون بدلا من « آية » ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف،فوقف على هذا الوجه على « آية » وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب « آية » على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن. وقال عبدالرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قال قتادة. وروى أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صروح، مقيل ومراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها. « كلوا من رزق ربكم » أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لهم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. « كلوا من رزق ربكم » أي من ثمار الجنتين. « واشكروا له » يعني على ما رزقكم. « بلدة طيبة » هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة. وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. « ورب غفور » أي والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد. يكون فيه حرام. وقد. مضى القول في هذا في أول « البقرة » . وقيل: إنما امتن عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.

 

الآية: 16 ( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل )

 

قوله تعالى: « فأعرضوا » يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين قال السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى، السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال الجوهري: وقولهم « أكفر من حمار » هو رجل، من عاد مات له أولاد فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل: « تفرقوا أيادي سبا » . وقيل: الأوس والخزرج منهم. « فأرسلنا عليهم سيل العرم » والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم. وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له الخلد - وقال قتادة أيضا - فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الأعرابي أيضا: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم المسناة؛ وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة. النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام ( بالضم ) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة ( بالفتح ) . والعرم العارم؛ عن الجوهري.

 

قوله تعالى: « وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط » وقرأ أبو عمرو ( أكل خمط ) بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة « ذواتي أكل خمط » بالتنوين على أنه نعت لـ « أكل » أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب؛ نحو قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل: هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة: الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح؛ وأنشد:

عقار كماء النيء ليست بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شهابها

 

قوله تعالى: « وأثل » قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا؛ ( منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر النضار. النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار. « وشيء من سدر قليل » قال الفراء: هو السمر؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني: سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى: « وجزاء سيئة سيئة مثلها » [ الشورى: 40 ] . ويحتمل أن يرجع قوله « قليل » إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.

 

الآية: 17 ( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور )

 

قوله تعالى: « ذلك جزيناهم بما كفروا » أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع « ذلك » نصب؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. « وهل يجازى إلا الكفور » قراءة العامة « يجازى بياء مضمومة وزاي مفتوحة، » الكفور « رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي: » نجازي « بالنون وكسر الزاي، » الكفور « بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لأن قبله » جزيناهم « ولم يقل جوزوا. النحاس: والأمر في هذا واسع، والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا. »

مسألة: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا؛ فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال: المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حوسب هلك ) فقلت: يا نبي الله، فأين قوله جل وعز: « فسوف يحاسب حسابا يسيرا » [ الإنشقاق: 8 ] ؟ قال: ( إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك ) . وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول: « ذلك جزيناهم بما كفروا » وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور « ومعنى » يجازى « : يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى » جزيناهم « . وفيناهم؛ فهذا حقيقة اللغة، وإن كان » جازى « يقع بمعنى » جزى « . مجازا.»

 

الآية: 18 ( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين )

 

قوله تعالى: « وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة » قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها: الشام والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون « باركنا فيها » بكثرة العدد. « قرى ظاهرة » قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى « ظاهرة » : متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل « ظاهرة » أي مرتفعة، قال المبرد. وقيل: إنما قيل لها « ظاهرة » لظهورها، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف. « وقدرنا فيها السير » أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والهاء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. « سيروا فيها » أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول. « ليالي وأياما آمنين » ظرفان « آمنين » نصب على الحال. وقال: « ليالي وأياما » بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.

 

الآية: 19 ( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور )

 

قوله تعالى: « فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا » لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل،: « فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها » [ البقرة: 61 ] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة « ربنا » بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: ناديت ودعوت. « باعد » سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر: « ربنا » كذلك على الدعاء « بعد » من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: « ربنا » رفعا « باعد » بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس « ربنا بعد بين أسفارنا » بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري « ربنا بعد بن أسفارنا. « ربنا » نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: » بعد بين أسفارنا « ورفع » بين « بالفعل، أي، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب » بين « على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس. » وظلموا أنفسهم « أي بكفرهم » فجعلناهم أحاديث « أي يتحدث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. » ومزقناهم كل ممزق « أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. » إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور « الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. » شكور « لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في » البقرة « .»

 

الآية: 20 ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين )

 

قوله تعالى: « ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه » فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، « ولقد صدق عليهم » بالتخفيف « إبليس » بالرفع « ظنه » بالنصب؛ أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي « صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي: « ظنه » نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: » لأقعدن لهم صراطك المستقيم « [ الأعراف: 16 ] وقال: » لأغوينهم أجمعين « [ الحجر: 39 ] ؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديث، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: » صدق « بالتشديد « ظنه » بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج » صدق عليهم « بالتخفيف « إبليس » بالنصب « ظنه » بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل » صدق « « إبليس » مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و » على « متعلقة بـ » صدق « ، كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة: » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه « برفع إبليس والظن، مع التخفيف في » صدق « على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عالم، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قال مجاهد. وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله تعالى: » ولقد صدق عليهم إبليس ظنه « . وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء » لأحتنكن ذريته إلا قليلا « [ الإسراء: 62 ] فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه. » فاتبعوه « قال الحسن: ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. » إلا فريقا من المؤمنين « نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى: » إن عبادي ليس لك عليهم سلطان « [ الحجر: 42 ] . فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، فـ » من « على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل ل: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى » واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك « [ الإسراء: 64 ] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال: » إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين « [ الحجر: 42 ] علم أن له تبعا ولآدم تبعا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الذي ظنه، والله أعلم.»

 

الآية: 21 ( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ )

 

قوله تعالى: « وما كان له عليهم من سلطان » أي لم يقهرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل. « إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك » يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: « أين شركائي » [ النحل: 27 ] ، على قولكم وعندكم، وليس قوله: « إلا لنعلم » جواب « وما كان له عليهم من سلطان » في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، فـ « إلا » بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل: « كان » زائدة؛ أي وماله عليهم من سلطان، كقوله: « كنتم خير أمة » [ آل عمران: 110 ] أي أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل: « إلا لنعلم » إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسول » [ المائدة: 33 ] أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل: أي ليميز؛ كقوله: « ليميز الله الخبيث من الطيب » [ الأنفال: 37 ] وقد مضى هذا المعنى في « البقرة » وغيرها. وقرأ الزهري « إلا ليعلم » على ما لم يسم فاعله. « وربك على كل شيء حفيظ » أي أنه عالم بكل شيء. وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.

 

الآية: 22 ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير )

 

قوله تعالى: « قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله » أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، « وما له منهم من ظهير » أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء، بل الله المنفرد بالإيجاد؛ فهو الذي يعبد، وعبادة غيره محال.

 

الآية: 23 ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )

 

قوله تعالى: « ولا تنفع الشفاعة » أي شفاعة الملائكة وغيرهم. « عنده » أي عند الله. « إلا لمن أذن له » قراءة العامة « أذن » بفتح الهمزة؛ لذكر الله تعالى أولا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي « أذن » بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. و « من يجوز أن ترجع إلى الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. » حتى إذا فزع عن قلوبهم « قال ابن عباس: خلي عن قلوبهم الفزع. قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة؛ أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام؛ إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله؛ كما قال: » وهم من خشيته مشفقون « [ الأنبياء: 28 ] والمعنى: أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن: ماذا قال ربكم » أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم: « قالوا الحق » وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. « وهو العلي الكبير » فله أن يحكم في عباده بما يريد. ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي الكلام إضمار؛ أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من الإذن تهيبا لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد. وقيل: هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى؛ أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقول كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير - قال - والشياطين بعضهم فوق بعض ) قال: حديث حسن صحيح. وقال النواس بن سمعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع أهل السموات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلى الكبير - قال فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث، أمره الله تعالى ) .

وذكر البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: « حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم » قال: كان لكل قبيل من الجن مقعه من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير، ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس يقولون يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة؛ حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس! أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من حيث السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار! قال فقال إبليس: لقد حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال من ها هنا جاء الحدث؛ فنصتوا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث. وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في صورة « الحجر » ، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة « الجن » بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما يفزعون من قيام الساعة. وقال الكلبي وكعب: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا يجيء فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا قال الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السموات من أشراط الساعة. وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة. وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا يمكن أن يشفعوا لأحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم، فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين. قال الحسن ومجاهد وابن زيد: في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق.

وقراءة العامة « فزع عن قلوبهم » . وقرأ ابن عباس « فزع عن قلوبهم » مسمى الفاعل وفاعله ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع، والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى، والمعنى في القراءتين: أزيل الفزع عن قلوبهم، حسبما تقدم بيانه. ومثله: أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه. وقرأ الحسن: « فزع » مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع أيضا؛ وهو كقولك: انصرف عن كذا إلى كذا. وكذا معنى « فزع » بالراء والغين المعجمة والتخفيف، غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضا وقتادة. وعنهما أيضا « فرغ » بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى: فرغ الله تعالى قلوبهم أي كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول، على هذه القراءة وعن الحسن أيضا « فرغ » بالتشديد.

 

الآية: 24 ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )

 

قوله تعالى: « قل من يرزقكم من السماوات والأرض » لما ذكر أن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال: قل يا محمد للمشركين « من يرزقكم من السموات والأرض » أي من يخلق لكم هذه الأرزاق الكائنة من السموات؛ أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها من المنافع. « والأرض » أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات أي لا يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا - فيقولون لا ندري، فقل إن الله يفعل ذلك الذي يعلم ما في نفوسكم وإن قالوا: إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن يعبد. « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » هذا على وجه الإنصاف في الحجة؛ كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن والآخر ضال وهو أنتم؛ فكذبهم بأحسن من تاريخ التكذيب، والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض. « أو إياكم » معطوف على اسم « إن » ولو عطف على الموضع لكان « أو أنتم » ويكون « لعلى هدى » للأول لا غير وإذا قلت: « أو إياكم » كان للثاني أولى، وحذفت من الأول أن يكون للأول، وهو اختيار المبرد، قال: ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة: أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول: أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا وأحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » . و « أو » عند البصريين على بابها وليست للشك، ولكنها على ما تستعمل العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. وقال جرير:

أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والربابا

يعني أثعلبة ورياحا وقال آخر:

فلما اشتد أمر الحرب فينا تأملنا رياحا أو رزاما

 

الآية: 25 ( قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون )

 

قوله تعالى: « قل لا تسألون عما أجرمنا » أي اكتسبنا، « ولا نسأل » نحن أيضا « عما تعملون » أي إنما أقصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، لا أنه ينالني ضرر كفركم، وهذا كما قال: « لكم دينكم ولي دين » [ الكافرون: 6 ] والله مجازي الجميع. فهذه آية مهادنة ومتاركة، وهي منسوخة بالسيف وقيل: نزل هذا قبل آية السيف.

 

الآية: 26 ( قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم )

 

قوله تعالى: « قل يجمع بيننا ربنا » يريد يوم القيامة « ثم يفتح بيننا بالحق » أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال « وهو الفتاح » أي القاضي بالحق « العليم » بأحوال الخلق. وهذا كله منسوخ بآية السيف.

 

الآية: 27 ( قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم )

 

قوله تعالى: « قل أروني الذين ألحقتم به شركاء » يكون « أروني » هنا من رؤية القلب، فيكون « شركاء » المفعول الثالث، أي عرفوني الأصنام والأوثان التي، جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شيء، فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها. وجوز أن تكون من رؤية البصر، فيكون « شركاء » حالا. « كلا » أي ليس الأمر كما زعمتم. وقيل: إن « كلا » رد لجوابهم المحذوف، كأنه قال: أروني الذين ألحقتم به شركاء. قالوا: هي الأصنام. فقال كلا، أي ليس له شركاء « بل هو الله العزيز الحكيم » .

 

الآيات: 28 - 30 ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا كافة للناس » أي وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة؛ في الكلام تقديم وتأخير. وقال الزجاج: أي وما أرسلنا إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع. وقيل: معناه كافا للناس، تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام. والهاء للمبالغة. وقيل: أي إلا ذا كافة، فحذف المضاف، أي ذا منع للناس من أن يشذوا عن تبليغك، أو ذا منع لهم من الكفر، ومنه: كف الثوب، لأنه ضم طرفيه. « بشيرا » أي بالجنة لمن أطاع. « ونذيرا » من النار لمن كفر. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » لا يعلمون ما عند الله وهم المشركون؛ وكانوا في ذلك الوقت أكثر من المؤمنين عددا. « ويقولون متى هذا الوعد » يعني موعدكم لنا بقيام الساعة. « إن كنتم صادقين » فقال تعالى: « قل » أي قل لهم يا محمد « لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون » فلا يغرنكم تأخيره. والميعاد الميقات. ويعني بهذا الميعاد وقت البعث وقيل وقت حضور الموت؛ أي لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون حقيقة قولي. وقيل: أراد بهذا اليوم يوم بدر؛ لأن ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في الدنيا في حكم الله تعالى. وأجاز النحويون « ميعاد يوم » على أن « ميعاد » ابتداء و « يوم » بدل منه، والخبر « لكم » . وأجازوا « ميعاد يوما » يكون ظرفا، وتكون الهاء في « عنه » ترجع إلى « يوم » ولا يصح « ميعاد يوم لا تستأخرون » بغير تنوين، وإضافة « يوم » إلى ما بعده إذا قدرت الهاء عائدة على اليوم، لأن ذلك يكون من إضافة الشيء إلى نفسه من أجل الهاء التي في الجملة. ويجوز ذلك على أن تكون الهاء للميعاد لا لليوم.

الآية [ 31 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 31 - 33 ( وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين، قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون )

 

قوله تعالى: « وقال الذين كفروا » يريد كفار قريش. « لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه » قال سعيد عن قتادة: « ولا بالذي بين يديه » من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل من الآخرة. وقال ابن جريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع؛ وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم. ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال « ولو ترى » يا محمد « إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول » أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين. وجواب « لو » محذوف؛ أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا. ثم ذكر أي شيء يرجع من القول بينهم قال: « يقول الذين استضعفوا » في الدنيا من الكافرين « للذين استكبروا » وهم القادة والرؤساء « لولا أنتم لكنا مؤمنين » أي أنتم أغويتمونا وأضللتمونا. واللغة الفصيحة « لولا أنتم » ومن العرب من يقول « لولاكم » حكاها سيبويه؛ تكون « لولا » تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره. ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز « لولاكم » لأن المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا. « قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم » هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى بعد إذ جاءكم، ولا أكرهناكم. « بل كنتم مجرمين » أي مشركين مصرين على الكفر. « وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار » المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى: « إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر » [ نوح: 4 ] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون، ساعة » [ الأعراف: 34 ] إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم

وأنشد سيبويه:

فنام ليلي وتجلى همي

أي نمت فيه. ونظيره: « والنهار مبصرا » [ يونس: 67 ] . وقرأ قتادة: « بل مكرٌ الليلَ والنهارَ » بتنوين « مكر » ونصب « الليل والنهار » ، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف. وقرأ سعيد بن جبير « بل مكَرُّ » بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف. ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه « أنحن صددناكم » كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار. وروي عن سعيد بن جبير « بل مكر الليل والنهار » قال: مر الليل والنهار عليهم فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما كقوله « فطال عليهم الأمد » [ الحديد: 16 ] . وقرأ راشد « بل مكَرَّ الليل والنهار » بالنصب، كما تقول: رأيته مقدم الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدم زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس.

 

قوله تعالى: « إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا » أي أشباها وأمثالا ونظراء. قال محمد بن يزيد: فلان ند فلان، أي مثله. ويقال نديد؛ وأنشد:

أينما تجعلون إلي ندا وما أنتم لذي حسب نديد

وقد مضى هذا في « البقرة » . « وأسروا الندامة » أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. قال امرؤ القيس:

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراصا لو يسرون مقتلي

وروي « يشرون » . وقيل: « وأسروا الندامة » أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم. قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم بيانه في سورة « يونس، وآل عمران » . وقيل: إظهارهم الندامة قولهم: « فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين » [ الشعراء: 102 ] . وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال: « وأسروا النجوى » [ الأنبياء: 3 ] .

 

قوله تعالى: « وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا » الأغلال جمع غل، يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه؛ وقد غل فهو مغلول، يقال: ما له ؟؟ وغل. والغل أيضا والغلة: حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه: غل الرجل يغل غللا فهو مغلول، على ما لم يسم فاعله؛ عن الجوهري. أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين. قيل من غير هؤلاء الفريقين. وقيل يرجع « الذين كفروا » إليهم. وقيل: تم الكلام عند قوله: « لما رأوا العذاب » ثم ابتدأ فقال: « وجعلنا الأغلال » بعد ذلك في أعناق سائر الكفار. « هل يجزون إلا ما كانوا يعملون » في الدنيا.

 

الآيات: 34 - 38 ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون، والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها » قال قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: « إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا » أي فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين والفضل لم يخولنا ذلك. « وما نحن بمعذبين » لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل إن ربي يبسط الرزق » أي يوسعه « لمن يشاء ويقدر » أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شيء من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا شيئا. « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » لا يعلمون هذا لأنهم لا يتأملون. ثم قال تأكيدا: « وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى » قال مجاهد: أي قربى. والزلفة القربة. وقال الأخفش: أي إزلافا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع « قربى » نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا. وزعم الفراء أن التي « تكون للأموال والأولاد جميعا. وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه. وأنشد الفراء: »

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين؛ للأولاد خاصة أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. « إلا من آمن وعمل صالحا » قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من أمن وعمل صالحا فلن يضره ماله وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت « وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عدنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا » .

قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنبني المال والولد المطغيين أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنعم هذا وقد مضى هذ! في « آل عمران ومريم والفرقان » . و « من » في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه مني. وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في « تقربكم » . النحاس: وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء. إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قول يؤول إل ذلك، وزعم أن مثله « إلا من أتى الله بقلب سليم » يكون منصوبا عنده بـ « ينفع » . وأجاز الفراء أن يكون « من » في موضع رفع بمعنى: ما هو إلا من أمن، كذا قال، ولست أحصل معناه. « فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا » يعني قوله: « من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » [ الأنعام: 160 ] فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى. أي لهم الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة.

وبهذه الآية استدل من فضل الغنى على الفقر. وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله أجره مرتين بهذه الآية. قراءة العامة « جزاء الضعف » بالإضافة. وقرأ الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم « جزاء » منونا منصوبا « الضعف » رفعا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير. « وجزاء الضعف » على أن يجازوا الضعف. و « جزاء الضعف » مرفوعان، الضعف بدل من جزاء. وقرأ الجمهور « في الغرفات » على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد؛ لقوله: « لنبوئنهم من الجنة غرفا » [ العنكبوت: 58 ] . الزمخشري: وقرئ « في الغرفات » بضم الراء وفتحها وسكونها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة وخلف « في الغرفة » على التوحيد؛ لقوله تعالى: « أولئك يجزون الغرفة » [ الفرقان: 75 ] . والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس. قال ابن عباس: هي غرف من ياقوت وزبرجد ودر وقد مضى بيان ذلك. « آمنون » أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان. « والذين يسعون في آياتنا » في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا. « معاجزين » معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم. « أولئك في العذاب محضرون » أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها.

 

الآية: 39 ( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين )

 

قوله تعالى: « قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » كرر تأكيدا. « وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه » أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال: أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قال لي أنفق أنفق عليك... ) الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار ها هنا مثله في الأجر.

مسألة: روى الدارقُطني وأبو أحمد بن عدي عن عبدالحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ( كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية ) . قال عبدالحميد: قلت لابن المنكدر: « ما وقى الرجل عرضه » ؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان. عبدالحميد وثقه ابن معين.

قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك، مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) . وقد مضى هذا المعنى في « الأعراف » مستوفى.

 

قوله تعالى: « وهو خير الرازقين » لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله والأمير جنده؛ قال: « وهو خير الرازقين » والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال: « إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين » [ الذاريات: 58 ] .

 

الآيات: 40 - 41 ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون )

 

قوله تعالى: « ويوم يحشرهم جميعا » هذا متصل بقوله: « ولو ترى إذ الظالمون موقوفون » [ سبأ: 31 ] . أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرا فظيعا. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ثم قال ولو تراهم أيضا « يوم نحشرهم جميعا » العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب « ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون » قال سعيد عن قتادة: هذا استفهام؛ كقول عز وجل لعيسى: « أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » [ المائدة: 116 ] قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين. « قالوا سبحانك » أي تنزيها لك. « أنت ولينا من دونهم » أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له. « بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون » أي يطيعون إبليس وأعوانه. وفي التفاسير: أن حيا يقال لهم بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله: « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا » [ الصافات: 158 ] .

 

الآية: 42 ( فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون )

 

قوله تعالى: « فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا » أي شفاعة ونجاة. « ولا ضرا » أي عذابا وهلاكا. وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن عابديهم؛ فحذف المضاف « ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون » يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا.

 

الآية: 43 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين )

 

قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » يعني القرآن. « قالوا ما هذا إلا رجل » يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. « يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم » أي أسلافكم من الآلهة التي كانوا يعبدونها. « وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى » يعنون القرآن؛ أي ما هو إلا كذب مختلق. « وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين » فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك. ويحتمل أن يكون منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.

 

الآيات: 44 - 45 ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير، وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير )

 

قوله تعالى: « وما آتيناهم من كتب يدرسونها » أي لم يقرؤوا في كتاب أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال: « أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون » [ الزخرف: 21 ] فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله الحق: « وكذب الذين من قبلهم » أي كذب قبلهم أقوام كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد. « وما بلغوا » أي ما بلغ أهل مكة « معشار ما آتيناهم » تلك الأمم. والمعشار والعشر سواء، لغتان. وقيل: المعشار عشر العشر. الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا يقولون هذا في شيء سوى العشر. وقال: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم؛ حكاه النقاش. وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان. قال ابن عباس: فليس أمة أعلم من أمة، ولا كتاب أبين من كتابه. وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء. الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل. « فكذبوا رسلي فكيف كان نكير » أي عقابي في الأمم، وفيه محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نكيري.

 

الآية: 46 ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد )

 

قوله تعالى: « قل إنما أعظكم بواحدة » تمم الحجة على المشركين؛ أي قل لهم يا محمد: « إنما أعظكم » أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه. « بواحدة » أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد: هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا: بطاعة الله. وقيل: بالقرآن؛ لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، « أن تقوموا لله مثنى وفرادى » « أن » في موضع خفض على البدل من « واحدة » ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر كذا؛ أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى: « وأن تقوموا لليتامى بالقسط » [ النساء: 127 ] . « مثنى وفرادى » أي وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور. وقال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قال الماوردي. وقيل: إنما قال: « مثنى وفرادى » لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد؛ والله أعلم. « ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة » الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على « ثم تتفكروا » . وقيل: ليس هو بوقف لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من فساد، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة. « إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد » وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية « وأنذر عشيرتك الأقربين » [ الشعراء: 214 ] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه؟ فقالوا: من هذا الذي يهتف!؟ قالوا محمد؛ فاجتمعوا إليه فقال: ( يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبدالمطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . قال فقال أبو لهب: تبا لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة: « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.

 

الآية: 47 ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد )

 

قوله تعالى: « قل ما سألتكم من أجر » أي جعل على تبليغ الرسالة « فهو لكم » أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه « إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد » أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع.

 

الآية: 48 ( قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب )

 

قوله تعالى: « قل إن ربي يقذف بالحق » أي يبين الحجة ويظهرها. قال قتادة: بالحق بالوحي. وعنه: الحق القرآن. وقال ابن عباس: أي يقذف الباطل بالحق علام الغيوب. وقرأ عيسى بن عمر « علام الغيوب » على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل مما في يقذف. النحاس: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد خبر « إن » ومثله « إن ذلك لحق تخاصم أهل النار » [ ص: 64 ] وقرئ: « الغيوب » بالحركات الثلاث، فالغيوب كالبيوت، والغيوب كالصبور، وهو الأمر الذي غاب وخفي جدا.

 

الآية: 49 ( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد )

 

قوله تعالى: « قل جاء الحق » قال سعيد عن قتادة: يريد القرآن. النحاس: والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. « وما يبدئ الباطل » قال قتادة: الشيطان؛ أي ما يخلق الشيطان أحدا « وما يعيد » فـ « ما » نفي. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شيء؛ أي جاء الحق فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه أي فلم يبق منه شيء، كقوله: « فهل ترى لهم من باقية » [ الحاقة: 8 ] أي لا ترى.

 

الآية: 50 ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب )

 

قوله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » وذلك أن الكفار قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له: قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل على نفسي. وقراءه العامة « ضللت » بفتح اللام. وقرأ يحيى بن وثاب وغيره: « قل إن ضللت » بكسر اللام وفتح الضاد من « أضل » ، والضلال والضلالة ضد الرشاد. وقد ضللت ( بفتح اللام ) أضل ( بكسر الضاد ) ، قال الله تعالى: « قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي » فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. وأهل العالية يقولون « ضللت » بالكسر « أضل » ، أي إثم ضلالتي على نفسي. « وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي » من الحكمة والبيان « إنه سميع قريب » أي سميع ممن دعاه قريب الإجابة. وقيل وجه النظم: قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.

 

الآية: 51 ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب )

 

قوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت » ذكر أحوال الكفار في وقت ما يضطرون فيه إلى معرفة الحق. والمعنى: لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس. الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة. وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم؛ وقاله قتادة. وقال ابن مغفل: إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. سعيد ابن جبير: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعون، فهذا هو فزعهم. « فلا فوت » « فلا فوت » فلا نجاة؛ قاله ابن عباس. مجاهد: فلا مهرب. « وأخذوا من مكان قريب » أي من القبور. وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. وقال ابن عباس: نزلت في، ثمانين ألفا يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم؛ فهو الأخذ من مكان قريب.

قلت: وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب التذكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب: ( فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشا إلى المشرق؛ وجيشا إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الحبيبة يعني مدينة بغداد، قال - فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من ولد العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ومحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل أذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى: « ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب » فلا يبقى منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، ولذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين وقيل: « أخذوا من مكان قريب » أي قبضت أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع عند النزع. ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة؛ يقال: فزع الرجل أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. ومنه الخبر إذ قال للأنصار: ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ) . ومن قال: أراد الخسف أو القتل في الدنيا كيوم بدر قال: أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة. ومن قال: هو فزع يوم القيامة قال: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وقيل: « اخذوا من مكان قريب » من جهنم فألقوا فيها.

 

الآية: 52 ( وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد )

 

قوله تعالى: « وقالوا آمنا به » أي القرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. الحسن: بالبعث. قتادة: بالرسول صلى الله عليه وسلم « وأنى لهم التناوش من مكان بعيد » قال ابن عباس والضحاك: التناوش الرجعة؛ أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وهيهات من ذلك! ومنه قول الشاعر:

تمنى أن تؤوب إلي وليس إلى تناوشها سبيل

وقال السدي: هي التوبة؛ أي طلبوها وقد بعدت، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا. وقيل: التناوش التناول؛ قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته: ناشه ينوشه نوشا. وأنشد:

فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا

أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر. قال: ومنه المناوشة في القتال؛ وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نووش أي ذو بطش. والتناوش. التناول: والانتياش مثله. قال الراجز:

كانت تنوش العنق انتياشا

 

قوله تعالى: « وأنى لهم التناوش من مكان بعيد » يقول: أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا. وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة: « وأنى لهم التناوش » بالهمز. النحاس: وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة؛ لأن « التناوش » بالهمز البعد، فكيف يكون: وأنى لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة، ولها وجهان في كلام العرب، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد. فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية، وذلك كثير في كلام العرب. وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة « وإذا الرسل أقتت » [ المرسلات: 11 ] والأصل « وقتت » لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال: يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء؛ أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد، يقال: نأشت الشيء أخذته من بعد والنئيش: الشيء البطيء. قال الجوهري: التناؤش ( بالهم ) التأخر والتباعد. وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته؛ فانتأش. ويقال: فعله نئيشا أي أخيرا. قال الشاعر:

تمنى نئيشا أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأمور أمور

وقال آخر:

قعدت زمانا عن طلابك للعلا وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبر

وقال الفراء: الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب؛ مثل: ذمت الرجل وذأمته أي عبته. « من مكان بعيد » أي من الآخرة. وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال: « وأنى لهم » قال: الرد، سألوه وليس بحين رد.

 

الآية: 53 ( وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد )

 

قوله تعالى: « وقد كفروا به » أي بالله عز وجل وقيل: بمحمد « من قبل » يعني في الدنيا. « ويقذفون بالغيب من مكان بعيد » العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه: هو يقذف ويرجم بالغيب. « من مكان بعيد » على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب، أي يرمون بالظن فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما منهم بالظن؛ قال قتادة. وقيل: « يقذفون » أي يرمون في القرآن فيقولون: سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل: في محمد؛ فيقولون ساحر شاعر كاهن مجنون. « من مكان بعيد » أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد. وقيل: أراد البعد عن القلب، أي من مكان بعيد عن قلوبهم. وقرأ مجاهد « ويقذفون بالغيب » غير مسمى الفاعل، أي يرمون به. وقيل: يقذف به إليهم من يغويهم ويضلهم.

 

الآية: 54 ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب )

 

قوله تعالى: « وحيل بينهم وبين ما يشتهون » قيل: حيل بينهم وبين النجاة من العذاب. وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم. ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله جل وعز وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت. والأصل « حول » فقلبت حركة الواو على الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها. « كما فعل بأشياعهم » الأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة. « من قبل » أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة. « إنهم كانوا في شك » أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار. قيل: في الدين والتوحيد، والمعنى واحد. « مريب » أي يستراب به، يقال: أراب الرجل أي صار ذا ريبة، فهو مريب. ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال: يقال شك مريب؛ كما يقال: عجب عجيب وشعر شاعر؛ في التأكيد. ختمت السور، والحمد لله رب العالمين.

 

أعلى