فهرس تفسير القرطبي للسور

21 - تفسير القرطبي سورةالأنبياء

التالي السابق

سورة الأنبياء

مقدمة السورة

 

الآيات: 1 - 3 ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون )

 

قوله تعالى: « اقترب للناس حسابهم » قال عبدالله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل « اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون » فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. « اقترب » أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. « للناس » قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: « إلا استمعوه وهم يلعبون » إلى قوله: « أفتأتون السحر وأنتم تبصرون » . وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش؛ يدل على ذلك ما بعد من الآيات؛ ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت؛ وموت كل إنسان قيام ساعته؛ والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى. وقال الضحاك: معنى « اقترب للناس حسابهم » أي عذابهم يعني أهل مكة؛ من لأنهم استبطؤوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس؛ لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير. « وهم في غفلة معرضون » ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما: « وهم غفلة معرضون » يعني بالدنيا عن الآخرة. الثاني: عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا الواو عند سيبويه بمعنى « إذ » وهي التي يسميها النحويون واو الحال؛ كما قال الله تبارك وتعالى: « يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم » [ آل عمران: 154 ] .

 

قوله تعالى: « ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث » محدث « نعت لـ » ذكر « . وأجاز الكسائي والفراء » محدثا « بمعنى ما يأتيهم محدثا؛ نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع » محدث « على النعت للذكر؛ لأنك لو حذفت » من « رفعت ذكرا؛ أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث؛ يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزل الله تعالى عليه في وقت بعد وقت؛ لا أن القرآن مخلوق. وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم به. وقال: » من ربهم « لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره ذكر، وهو محدث؛ قال الله تعالى: » فذكر إنما أنت مذكر « [ الغاشية: 21 ] . ويقال: فلان في مجلس الذكر. وقيل: الذكر الرسول نفسه؛ قال الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية » هل هذا إلا بشر مثلكم « [ الأنبياء: 3 ] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: » ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين « [ القلم: 51 - 52 ] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال: » قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا « [ الطلاق: 10 - 11 ] . » إلا استمعوه « يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، أو القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمته. » وهم يلعبون « الواو واو الحال يدل عليه » لاهية قلوبهم « ومعنى » يلعبون « أي يلهون. وقيل: يشتغلون؛ فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله حلى الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما: بالدنيا لأنها لعب؛ كما قال الله تعالى: » إنما الحياة الدنيا لعب ولهو « [ محمد: 36 ] . الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل: يستمعون القرآن مستهزئين.»

 

قوله تعالى: « لاهية قلوبهم » أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم؛ من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و « لاهية » نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الإعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله: « خاشعة أبصارهم » [ القلم: 43 ] و « ودانية عليهم ظلالها » [ الإنسان: 14 ] و « لاهية قلوبهم » قال الشاعر:

لعزة موحشا طلل يلوح كأنه خلل

أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء « لاهية قلوبهم » بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ. وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى؛ إلا استمعوه لاهية قلوبهم. « وأسروا النجوى الذين ظلموا » أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: « الذين ظلموا » أي الذي أشركوا؛ فـ « الذين ظلموا » بدل من الواو في « أسروا » وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم؛ ولا يوقف على هذا القول على « النجوى » . قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبدالله فبنو بدل من الواو في انطلقوا. وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا. وقيل: على حذف القول؛ التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول؛ مثل « والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم » [ الرعد: 23 - 24 ] . واختار هذا القول النحاس؛ قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده « هل هذا إلا بشر مثلكم » [ الأنبياء: 3 ] . وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا. وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم؛ ولا يوقف على هذا الوجه على « النجوى » ويوقف على الوجه المتقدمة الثلاثة قبله؛ فهذه خمسة أقوال. وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث؛ وهو حسن؛ قال الله تعالى: « ثم عموا وصموا كثير منهم » [ المائدة: 71 ] . وقال الشاعر:

بك نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض

وقال آخر:

ولكن ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير؛ مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى أبو عبيدة: « أسروا » هنا من الأضداد؛ فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه.

 

قوله تعالى: « هل هذا إلا بشر مثلكم » أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون. وما علموا أن الله عز وجل أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم. « أفتأتون السحر » أي إن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سحر، فكيف تجيؤون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به. و « السحر » في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. « وأنتم تبصرون » أنه إنسان مثلكم مثل: « وأنتم تعقلون » لأن العقل البصر بالأشياء. وقيل: المعنى؛ أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. وقيل: المعني؛ أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق؛ ومعنى الكلام التوبيخ.

 

الآيات: 4 - 6 ( قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم، بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون، ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون )

 

قوله تعالى: « قال ربي يعلم القول في السماء والأرض » أي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض. وفي مصاحف أهل الكوفة « قال ربي » أي قال محمد ربي يعلم القول؛ أي هو عالم بما تناجيتم به. وقيل: إن القراءة الأولى أولي لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم هذا؛ قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأنه قال كما أمر.

 

قوله تعالى: « بل قالوا أضغاث أحلام » قال الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام. وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط كالأحلام المختلطة؛ أي أهاويل رآها في المنام؛ قال معناه مجاهد وقتادة؛ ومنه قول الشاعر:

كضغث حلم غرمنه حالمه

وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة؛ وفيه قول الشاعر:

أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم

وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في « يوسف » . فلما رأوا أن الأمر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: « بل افتراه » ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: « بل هو شاعر » أي هم متحيرون لا يستقرون على شيء قالوا ومرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر. وقيل: أي قال فريق إنه ساحر، وفريق إنه أضغاث أحلام؛ وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق؛ وقد تقدم. « فليأتنا بآية كما أرسل الأولون » أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها؛ ولم يكن لهم الاقتراح بعدما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل: « ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون » [ الأنفال: 23 ] .

 

قوله تعالى: « ما آمنت قبلهم من قرية » قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. « أهلكناها » يريد كان في علمنا هلاكها. « أفهم يؤمنون » يريد يصدقون؛ أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا؛ لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا؛ وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن. و « من » زائدة في قوله: « من قرية » كقوله: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] .

 

الآيات: 7 - 10 ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين، ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم » هذا رد عليهم في قولهم: « هل هذا إلا بشر مثلكم » [ الأنبياء: 3 ] وتأنيس لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي لم يرسل قبلك إلا رجالا. « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قاله سفيان. وسماهم أهل الذكر؛ لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب. وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في آمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن؛ أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن؛ قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر. وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر؛ فالمعنى لا تبدؤوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة، بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر. والملك لا يسمى رجلا؛ لأن الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول رجل وامرأة، ورجل وصبي فقوله: « إلا رجالا » من بني آدم. وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نوحي إليهم » .

مسألة: لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل: « فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » أجمعوا على أن الأعمى لا بدله من تقليد غيره ممن يثق بميزة بالقبلة إذا أشكلت عليه؛ فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا؛ لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم.

 

قوله تعالى: « وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام » الضمير في « جعلناهم » للأنبياء؛ أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب « وما كانوا خالدين » يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم: « ما هذا إلا بشر مثلكم » [ المؤمنون: 33 ] وقولهم: « ما لهذا الرسول يأكل الطعام » [ الفرقان: 7 ] . و « جسدا » اسم جنس؛ ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا؛ لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا. والجسد البدن؛ تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران أو نحوه الصبغ، وهو الدم أيضا؛ قاله النابغة:

وما أهريق على الأنصاب من جسد

وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. « ثم صدقناهم الوعد » يعني الأنبياء؛ أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. « فأنجيناهم ومن نشاء » أي الذين صدقوا الأنبياء. « وأهلكنا المسرفين » أي المشركين.

 

قوله تعالى: « لقد أنزلنا إليكم كتابا » يعني القرآن. « فيه ذكركم » رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب؛ والمراد بالذكر هنا الشرف؛ أي فيه شرفكم، مثل « وإنه لذكر لك ولقومك » [ الزخرف: 44 ] . ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: « أفلا تعقلون » وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أم دينكم؛ وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟ ! وقال مجاهد: « فيه ذكركم » أي حديثكم. وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم. وقال سهل بن عبدالله: العمل بما فيه حياتكم.

قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها؛ إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا عليه السلام؛ لأنه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قول عليه السلام: ( القرآن حجة لك أو عليك ) .

 

الآيات: 11 - 15 ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون، قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين )

 

قوله تعالى: « وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة » يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين؛ لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرسول في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق؛ كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة؛ ثم إن بختنصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم نصرف راجعا إلى السواد. و « كم » في موضع نصب بـ « قصمنا » . والقصم الكسر؛ يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به ههنا الإهلاك. وأما الفصم ( بالفاء ) فهو الصدع في الشيء من غير بينونة؛ قال الشاعر:

كأنه دملج من فضه نبه في ملعب من عذاري الحي مفصوم

ومنه الحديث ( فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ) . وقوله: « كان ظالمة » أي كافرة؛ يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.

 

قوله تعالى: « وأنشأنا » أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم « فلما أحسوا » أي رأوا عذابنا؛ يقال: أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش: « أحسوا » خافوا وتوقعوا. « إذا هم منها يركضون » أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطء. والركض تحريك الرجل؛ ومنه قوله تعالى: « اركض برجلك » [ ص: 42 ] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهوم مركوض.

 

قوله تعالى: « لا تركضوا » أي لا تفروا. وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: « لا تركضوا » « وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم » أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم؛ يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: « وأترفناهم في الحياة الدنيا » [ المؤمنون: 33 ] . « لعلكم تسألون » أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم؛ استهزاء بهم؛ قاله قتادة. وقيل: المعنى « لعلكم تسألون » عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل: المعنى « لعلكم تسألون » أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم؛ قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. « قالوا يا ويلنا » لما قالت لهم الملائكة: « لا تركضوا » ونادت بالثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا « يا ويلنا إن كنا ظالمين » فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. « فما زالت تلك دعواهم » أي لم يزالوا يقولون: « يا ويلتا إنا كنا ظالمين » . « حتى جعلناهم حصيدا » أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل؛ قال مجاهد. وقال الحسن: أي بالعذاب. « خامدين » أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.

 

الآيات: 16 - 18 ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون )

 

قوله تعالى: « وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين » أي عبثا وباطلا؛ بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أموه، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة.

 

قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » لما اعتقد قوم أن له ولدا قال: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » واللهو المرأة بلغة اليمن؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاووس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » - فقال: اللهو الزوجة؛ وقال الحسن. وقال ابن عباس: اللهو الولد؛ وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع.

قلت: ومنه قول امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:

وفيهن ملهى للصديق ومنظر

الجوهري: قوله تعالى: « لو أردنا أن نتخذ لهوا » قالوا امرأة، ويقال: ولدا. « لاتخذناه من لدنا » أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. « إن كنا فاعلين » قال قتادة ومقاتل وابن. جريح والحسن: المعنى ما كنا فاعلين؛ مثل « إن أنت إلا نذير » [ فاطر: 23 ] أي ما أنت إلا نذير. و « إن » بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: « لاتخذناه من لدنا » . وقيل: إنه على معنى الشرط؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل؛ ذكره القشيري.

 

قوله تعالى: « بل نقذف بالحق على الباطل » القذف الرمي؛ أي نرمي بالحق على الباطل. « فيدمغه » أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد؛ قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم. وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. « فإذا هو زاهق » أي هالك وتالف؛ قاله قتادة. « ولكم الويل » أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم؛ وقد تقدم. « مما تصفون » أي مما تكذبون؛ عن قتادة ومجاهد؛ نظيره « سيجزيهم وصفهم » [ الأنعام: 139 ] أي بكذبهم. وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.

 

الآيات: 19 - 21 ( وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون )

 

قوله تعالى: « وله من في السماوات والأرض » أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. « ومن عنده » يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. « لا يستكبرون » أي لا يأنفون « عن عبادته » والتذلل له. « ولا يستحسرون » أي يعيون؛ قال قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالأعياء والتعب، [ يقال ] : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون. وقال أبو زيد: لا يكلون. وقيل: لا يفشلون؛ ذكره ابن الأعرابي؛ والمعنى واحد. « يسبحون الليل والنهار » أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. « لا يفترون » أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبدالله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شيء؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبدالمطلب؛ فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله.

 

قوله تعالى: « أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون » قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء. وقيل: « أم » بمعنى « هل » أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون « أم » هنا بمعنى بل؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر « أم » مع الاستفهام فتكون « أم » المنقطعة فيصح المعنى؛ قاله المبرد. وقيل: « أم » عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع شبهة؟. وقيل: « لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون » [ الأنبياء: 10 ] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون « أم » متصلة. وقرأ الجمهور « ينشرون » بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن بفتح الياء؛ أي يحيون ولا يموتون.

 

الآيات: 22 - 24 ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون )

 

قوله تعالى: « لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا » أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: « إلا » بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب كما غير، كما قال:

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء: « إلا » هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا. وقيل: معنى « لفسدتا » أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. « فسبحان الله رب العرش عما يصفون » نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.

 

قوله تعالى: « لا يسأل عما يفعل وهم يسألون » قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج: المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم؛ لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للألهية. وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: « لا يسأل عمال يفعل يفعل وهم يسألون » . وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحي الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.

 

قوله تعالى: « أم اتخذوا من دونه آلهة » أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون « أم » بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل: الأول احتجاج. من حيث المعقول؛ لأنه قال: « هم ينشرون » ويحيون الموتى؛ هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القران، أم في الكتب المنزلة سائر الأنبياء؟ « هذا ذكر من معي » بإخلاص التوحيد في القرآن « وذكر من قبلي » في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي. وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن؛ المعنى: « هذا ذكر من معي » بما يلزمهم من الحلال والحرام « وذكر من قبلي » من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك. وقيل: « ذكر من معي » بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر « وذكر من قبلي » من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ « هذا ذكر من معي وذكر من قبلي » بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى؛ هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. « بل أكثرهم لا يعلمون الحق » وقرأ ابن محيصن والحسن « الحق » بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق. وعلى هذا يوقف على « لا يعلمون » ولا يوقف عليه على قراءة النصب. « فهم معرضون » أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.

 

الآية: 25 ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه » وقرأ حفص وحمزة والكسائي « نوحي إليه » بالنون؛ لقوله: « أرسلنا » . « أنه لا إله إلا أنا فاعبدوني » أي قلنا للجميع لا إله إلا الله؛ فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والأنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.

 

الآيات: 26 - 29 ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين )

 

قوله تعالى: « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه » نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: « سبحانه » تنزيها له. « بل عباد » أي بل هم عباد « مكرمون » أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان ما « لا يسبقونه بالقول » أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. « وهم بأمره يعملون » أي بطاعته وأوامره. « يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم » أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا: « ما بين أيديهم » الآخرة « وما خلفهم » الدنيا؛ ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. « ولا يشفعون إلا لمن ارتضى » قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا؛ فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. « وهم » يعني الملائكة « من خشيته » يعني من خوفه « مشفقون » أي خائفون لا يأمنون مكره.

 

قوله تعالى: « ومن يقل منهم إني إله من دونه » قال قتادة والضحاك وغيرهما: عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل « نجزيه جهنم » وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء. وقد تقدم في « البقرة » . « كذلك نجزي الظالمين » أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.

 

الآيات: 30 - 33 ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون )

 

قوله تعالى: « أولم يرى الذين كفروا » قراءة العامة « أو لم » بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « ألم تر » بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. « أو لم ير » بمعنى يعلم. « الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا » قال الأخفش: « كانتا » لأنهما صنفان، كما تقول العرب: هما لقاحان أسودان، وكما قال الله عز وجل: « إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا » [ فاطر: 41 ] قال أبو إسحاق: « كانتا » لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء؛ ولأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. وقال: « رتقا » ولم يقل رتقين؛ لأنه مصدر؛ والمعنى كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن « رتقا » بفتح التاء. قال عيسى بن عمر: هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيط واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قال مجاهد والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الأخبار له، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل: « أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقاهما » قال: كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، ومن هذه سبع أرضين؛ خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والإنس، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار، وجعل فيها البحار وسماها رعاء، مسيرة خمسمائة عام؛ ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس؛ وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج، واسم تلك الأرض الدكماء، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام، ومنها هواء إلى الأرض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [ مثلها ] في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد، فيها حجارة سود بهم، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم، فذلك قول عز وجل: « وقودها الناس والحجارة » [ البقرة: 24 ] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين والآخر الغلق، فأما سجين فهو مفتوح وإليه ينتهي كتاب الكفار، وعليه يعرض أصحاب المائدة وقوم فرعون، وأما الغلق فهو مغلق لا يفتح إلى يوم القيامة. وقد مضى في « البقرة » أنها سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام، وسيأتي له في آخر « الطلاق » زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وقول ثالث قال عكرمة وعطية وابن زيد وابن عباس أيضا فيما ذكر المهدوي: إن السموات كانت رتقا لا تمطر، والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات؛ نظيره قوله عز وجل: « والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع » [ الطارق: 11 - 12 ] . واختار هذا القول الطبري؛ لأن بعده: « وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون » .

قلت: وبه يقع الاعتبار مشاهدة ومعاينة؛ ولذلك أخبر بذلك في غير ما آية؛ ليدل على مال قدرته، وعلى البعث والجزاء. وقيل:

يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها

ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها

 

قوله تعالى: « وجعلنا من الماء كل شيء حي » ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شيء من الماء؛ قال قتادة الثاني: حفظ حياة كل شيء بالماء. الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي؛ قال قطرب. « وجعلنا » بمعنى خلقنا. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، أنبئني عن كل شيء؛ قال: ( كل شيء خلق من الماء ) الحديث؛ قال أبو حاتم قول أبي هريرة: « أنبئني عن كل شيء » أراد به عن كل شيء خلق من الماء، والدليل على صحة هذا جواب المصطفى إياه حيث قال: ( كل شيء خلق من الماء ) وإن لم يكن مخلوقا. وهذا احتجاج آخر سوى ما تقدم من كون السموات والأرض رتقا. وقيل: الكل قد يذكر بمعنى البعض كقول: « وأوتيت من كل شيء » [ النمل: 23 ] وقول: « تدمر كل شيء » [ الأحقاف: 25 ] والصحيح العموم؛ لقول عليه السلام: ( كل شي خلق من الماء ) والله أعلم. « أفلا يؤمنون » أي أفلا يصدقون بما يشاهدون، وأن ذلك لم يكن بنفسه، بل لمكون كونه، ومدبر أوجده، ولا يجوز أن يكون ذلك المكون محدثا.

 

قوله تعالى: « وجعلنا في الأرض رواسي » أي جبالا ثوابت. « أن تميد بهم » أي لئلا تميد بهم، ولا تتحرك ليتم القرار عليها؛ قاله الكوفيون. وقال البصريون: المعنى كراهية أن تميد. والميد التحرك والدوران. يقال: ماد رأسه؛ أي دار. ومضى في « النحل » مستوفى. « وجعلنا فيها فجاجا » يعني في الرواسي؛ عن ابن عباس. والفجاج ا لمسالك. والفج الطريق الواسع بين الجبلين. وقيل: وجعلنا في الأرض فجاجا أي مسالك؛ وهو اختيار الطبري؛ لقوله: « لعلهم يهتدون » أي يهتدون إلى السير في الأرض. « سبلا » تفسير الفجاج؛ لأن الفج قد يكون طريقا نافذا مسلوكا وقد لا يكون. وقيل: ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم.

 

قوله تعالى: « وجعلنا السماء سقفا محفوظا » أي محفوظا من أن يقع ويسقط على الأرض؛ دليله قوله تعالى: « ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه » [ الحج: 65 ] . وقيل: محفوظا بالنجوم من الشياطين؛ قاله الفراء. دليله قوله تعالى: « وحفظناها من كل شيطان رجيم » [ الحجر: 17 ] . وقيل: محفوظا من الهدم والنقض، وعن أن يبلغه أحد بحيلة. وقيل: محفوظا فلا يحتاج إلى عماد. وقال مجاهد: مرفوعا. وقيل: محفوظا من الشرك والمعاصي. « وهم » يعني الكفار « عن آياتها معرضون » قال مجاهد يعني الشمس والقمر. وأضاف الآيات إلى السماء لأنها مجعولة فيها، وقد أضاف الآيات إلى نفسه في مواضع، لأنه الفاعل لها. بين أن المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، إذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعا قادرا فيستحيل أن يكون له شريك.

 

قوله تعالى: « وهو الذي خلق الليل والنهار » ذكرهم نعمة أخرى: جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم « والشمس والقمر » أي وجعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل؛ لتعلم الشهور والسنون والحساب، كما تقدم في « سبحان » بيانه. « كل » يعني من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار « في فلك يسبحون » أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: « والسابحات سبحا » ويقال للفرس الذي يمد يده في الجري سابح. وفيه من النحو أنه لم يقل: يسحن ولا تسبح؛ فمذهب سيبويه: أنه لما أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بفعل من يعقل وجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل، أخبر عنهن بالواو والنون ونحوه قال الفراء. وقد تقدم هذا المعنى في « يوسف » . وقال الكسائي: إنما قال: « يسبحون » لأنه رأس آية، كما قال الله تعالى: « نحن جميع منتصر » [ القمر: 44 ] ولم يقل منتصرون. وقيل: الجري للفلك فنسب إليها. والأصح أن السيارة تجري في الفلك، وهي سبعة أفلاك دون السموات المطبقة، التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت، فالقمر في الفلك الأدنى، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، والثامن فالك البروج، التاسع الفلك الأعظم. والفلك واحد أفلاك النجوم. قال أبو عمرو: ويجوز أن يجمع على فعل مثل أسد وأسد وخشب وخشب. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل؛ لاستدارتها. ومنه قيل: فلك ثدي المرأة تفليكا، وتفلك استدار. وفي حديث ابن مسعود: تركت فرسي كأنه يدور في فلك. كأنه لدورانه شبهه بفلك السماء الذي تدور عليه النجوم. قال ابن زيد: الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر. قال: وهي بين السماء والأرض. وقال قتادة: الفلك استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء. وقال مجاهد: الفلك كهيئة حديد الرحى وهو قطبها. وقال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة مسيرها. وقيل: الفلك موج مكتوف ومجرى الشمس والقمر فيه؛ والله أعلم.

 

الآيتان: 34 - 35 ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )

 

قوله تعالى: « وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد » أي دوام البقاء في الدنيا نزلت حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون. وذلك أن المشركين كانوا يدفعون نبوته ويقولون: شاعر نتربص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان؛ فقال الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك. « أفإن مت فهم الخالدون »

أي أفهم؛ مثل قول الشاعر:

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي أهم فهو استفهام إنكار. وقال الفراء: جاء بالفاء ليدل على الشرط؛ لأنه جواب قولهم سيموت. ويجوز أن يكون جيء بها؛ لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن مت! قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن « هم » لا يتبين فيها الإعراب. أي إن مت فهم يموتون أيضا، فلا شماتة في الإماتة. وقرئ « مت » بكسر الميم وضمها لغتان. « كل نفس ذائقة الموت » تقدم. « ونبلوكم بالشر والخير فتنة » « فتنة » مصدر على غير اللفظ. أي نختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام، فننظر كيف شكركم وصبركم. « وإلينا ترجعون » أي للجزاء بالأعمال.

 

الآية: 36 ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون )

 

قوله تعالى: « وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا » أي ما يتخذونك. والهزاء السخرية؛ وقد تقدم وهم المستهزئون المتقدمو الذكر في آخر سورة « الحجر » في قوله: « إنا كفيناك المستهزئين » [ الحجر: 95 ] . كانوا يعيبون من جاحد إلهية أصنامهم وهم جاحدون لإلهية الرحمن؛ وهذا غاية الجهل. « أهذا الذي » أي يقولون: أهذا الذي؟ فأضمر القول وهو جواب « إذا » وقوله: « إن يتخذونك إلا هزوا » كلام معترض بين « إذا » وجوابه. « يذكر آلهتكم » أي بالسوء والعيب. ومنه قول عنترة:

لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري. « وهم بذكر الرحمن » أي بالقرآن. « هم كافرون » « هم » الثانية توكيد كفرهم، أي هم الكافرون مبالغة في وصفهم بالكفر.

 

الآيات: 37 - 40 ( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون )

 

قوله تعالى: « خلق الإنسان من عجل » أي ركب على العجلة فخلق عجولا؛ كما قال الله تعالى: « الله الذي خلقكم من ضعف » [ الروم: 54 ] أي خلق الإنسان ضعيفا. ويقال: خلق الإنسان من الشر أي شريرا إذا بالغت في وصفه به. ويقال: إنما أنت ذهاب ومجيء. أي ذاهب جائي. أي طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة. ثم قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام. قال سعيد بن جبير والسدي: لما دخل الروح في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله: « خلق الإنسان من عجل » . وقيل خلق آدم يوم الجمعة. في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل، وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس؛ قاله الكلبي ومجاهد وغيرهما. وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل الطين بلغة حمير. وأنشدوا:

والنخل ينبت بين الماء والعجل

وقيل: المراد بالإنسان الناس كلهم. وقيل المراد: النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار في تفسير ابن عباس؛ أي لا ينبغي لمن خلق من الطين الحقير أن يستهزئ بآيات الله ورسله. وقيل: إنه من المقلوب؛ أي خلق العجل من الإنسان. وهو مذهب أبي عبيدة. النحاس: وهذا القول لا ينبغي أن يجاب به في كتاب الله؛ لأن القلب إنما يقع في الشعر اضطرارا كما قال:

كان الزناء فريضة الرجم

ونظيره هذه الآية: « وكان الإنسان عجولا » [ الإسراء: 11 ] وقد مضى في « سبحان » [ الإسراء: 1 ] . « سأريكم آياتي فلا تستعجلون » هذا يقوي القول الأول، وأن طبع الإنسان العجلة، وأنه خلق خلقا لا يتمالك، كما قال عليه السلام حسب ما تقدم في « الإسراء » . والمراد بالآيات ما دل على صدق محمد عليه السلام من المعجزات، وما جعله له. العاقبة المحمودة. وقيل: ما طلبوه من العذاب، فأرادوا الاستعجال وقالوا: « متى هذا الوعد » [ يونس: 48 ] ؟ وما علموا أن لكل شيء أجلا مضروبا. نزلت في النضر بن الحرث. وقول: « إن كان هذا هو الحق » [ الأنفال: 32 ] . وقال الأخفش سعيد: معنى « خلق الإنسان من عجل » أي قيل له كن فكان، فمعنى « فلا تستعجلون » على هذا القول أنه من يقول للشيء كن فيكون، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات. « ويقولون متى هذا الوعد » أي الموعود، كما يقال: الله رجاؤنا أي مرجونا. وقيل: معنى « الوعد » هنا الوعيد، أي الذي يعدنا من العذاب. وقيل: القيامة. « إن كنتم صادقين » يا معشر المؤمنين.

 

قوله تعالى: « لو يعلم الذين كفروا » العلم هنا بمعنى المعرفة فلا يقتضي مفعولا ثانيا مثل « لا تعلمونهم الله يعلمهم » [ الأنفال: 60 ] . وجواب « لو » محذوف، أي لو علموا الوقت الذي « لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون » وعرفوه لما استعجلوا الوعيد. وقال الزجاج: أي لعلموا صدق الوعد. وقيل: المعنى لو علموه لما أقاموا على الكفر ولآمنوا. وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية. ودل عليه « بل تأتيهم بغتة » أي فجأة يعني القيامة. وقيل: العقوبة. وقيل: النار فلا يتمكنون حيلة « فتبهتهم » قال الجوهري: بهته بهتا أخذه بغتة، قال الله تعالى: « بل تأتيهم بغتة فتهتهم » وقال الفراء: « فتبهتهم » أي تحيرهم، يقال: بهته يبهته إذا واجهه بشيء يحيره. وقيل: فتفجأهم. « فلا يستطيعون ردها » أي صرفها عن ظهورهم. « ولا هم ينظرون » أي لا يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.

 

الآية: 41 ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون )

 

قوله تعالى: « ولقد استهزئ برسل من قبلك » هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. يقول: إن استهزأ بك هؤلاء، فقد استهزئ برسل من قبلك، فاصبر كما صبروا. ثم وعده النصر فقال: « فحاق » أي أحاط ودار « بالذين » كفروا « سخروا منهم » وهزئوا بهم « ما كانوا به يستهزئون » أي جزاء استهزائهم.

 

الآيات: 42 - 44 ( قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون، أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون، بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون )

 

قوله تعالى: « قل من يكلؤكم » أي يحرسكم ويحفظكم. والكلاءة الحراسة والحفظ؛ كلاه الله كلاء ( بالكسر ) أي حفظه وحرسه. يقال: اذهب في كلاءة الله؛ واكتلأت منهم أي احترست، قال الشاعر هو ابن هرمة:

إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها

وقال آخر:

أنخت بعيري واكتلأت بعينه

وحكى الكسائي والفراء « قل من يكْلَوكم » بفتح اللام وإسكان الواو. وحكيا « من يكلاكم » على تخفيف الهمزة في الوجهين، والمعروف تحقيق الهمزة وهي قراءة العامة. فأما « يكلاكم » فخطأ من وجهين فيما ذكره النحاس: أحدهما: أن بدل الهمزة. يكون في الشعر. والثاني: أنهما يقولان في الماضي كليته، فينقلب المعنى؛ لأن كليته أوجعت كليته، ومن قال لرجل: كلاك الله فقد دعا عليه بأن يصيبه الله بالوجع في كليته.

ثم قيل: مخرج اللفظ مخرج الاستفهام والمراد به النفي. وتقديره: قل لا حافظ لكم « بالليل » إذا نمتم « والنهار » إذا قمتم وتصرفتم في أموركم. « من الرحمن » أي من عذابه وبأسه؛ كقوله تعالى: « فمن ينصرني من الله » [ هود: 63 ] أي من عذاب الله. والخطاب لمن اعترف منهم بالصانع؛ أي إذا أقررتم بأنه الخالق، فهو القادر على إحلال العذاب الذي تستعجلونه. « بل هم عن ذكر ربهم » أي عن القرآن. وقيل: عن مواعظ ربهم وقيل: عن معرفته. « معرضون » لاهون غافلون.

 

قوله تعالى: « أم لهم آلهة » المعنى: ألهم والميم صلة. « تمنعهم من دوننا » أي من عذابنا. « لا يستطيعون » يعني الذين زعم هؤلاء الكفار. أنهم ينصرونهم لا يستطيعون « نصر أنفسهم » فكيف ينصرون عابديهم. « ولا هم منا يصحبون » قال ابن عباس: يمنعون. وعنه: يجارون؛ وهو اختيار الطبري. تقول العرب: أنا لك جار وصاحب. من فلان؛ أي مجير منه؛ قال الشاعر:

ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منها والرماح دواني

وروى معمر عن ابن أبي نجيح عن قال: « ينصرون » أي يحفظون. قتادة: أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل رحمته صاحبا لهم.

 

قوله تعالى: « بل متعنا هؤلاء وآباءهم » قال ابن عباس: يريد أهل مكة. أي بسطنا لهم ولآبائهم في نعيمها « حتى طال عليهم العمر » في النعمة. فظنوا أنها لا تزول عنهم، فاغتروا وأعرضوا عن تدبر حجج « أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها » أي بالظهور عليها لك يا محمد أرضا بعد أرض، وفتحها بلدا بعد بلد مما حول مكة؛ قال معناه الحسن وغيره. وقيل: بالقتل والسبي؛ حكاه الكلبي. والمعنى واحد. وقد مضى في « الرعد » الكلام في هذا مستوفى. « أفهم الغالبون » يعني، كفار مكة بعد أن نقصنا من أطرافهم، بل أنت تغلبهم وتظهر عليهم.

 

الآيتان: 45 - 46 ( قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون، ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين )

 

قوله تعالى: « قل إنما أنذركم بالوحي » أي أخوفكم وأحذركم بالقرآن. « ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون » أي من أصم الله قلبه، وختم على سمعه، وجعل على بصره غشاوة، عن فهم الآيات وسماع الحق. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ومحمد بن السميقع « ولا يُسْمَع » بياء مضمومة وفتح الميم على ما لم يسم فاعله « الصم » رفعا أي إن الله لا يسمعهم. وقرأ ابن عامر والسلمي أيضا، وأبو حيوة ويحيى بن الحرث « ولا تسمع » بتاء مضمومة وكسر الميم « الصم » نصبا؛ أي إنك يا محمد « لا تُسمع الصم الدعاء » ؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورد هذه القراءة بعض أهل اللغة. وقال: وكان يجب أن يقول: إذا ما تنذرهم. قال النحاس: وذلك جائز؛ لأنه قد عرف المعنى.

 

قوله تعالى: « ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك » قال ابن عباس: طرف. قال قتادة: عقوبة. ابن كيسان: قليل وأدنى شيء؛ مأخوذة من نفح المسك. قال:

وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها

ابن جريج: نصيب؛ كما يقال: نفح فلان لفلان من عطائه، إذا أعطاه نصيبا من المال. قال الشاعر:

لما أتيتك أرجو فضل نائلكم نفحتني نفحة طابت لها العرب

أي طابت لها النفس. والنفحة في اللغة الدفعة اليسيرة؛ فالمعنى ولئن مسهم أقل شيء من العذاب. « ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين » أي متعدين فيعترفون حين لا ينفعهم الاعتراف.

 

الآية: 47 ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )

 

قوله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا » الموازين جمع ميزان. فقيل: إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله، فتوضع الحسنات في وكفة، والسيئات في كفة. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله؛ كما قال:

ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان

ويمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع. وخرج اللالكائي الحافظ أبو القاسم في سننه عن أنس يرفعه: ( إن ملكا موكلا بالميزان فيؤتي بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادي الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقي بعدها أبدا وإن خف نادي الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ) . وخرج عن حذيفة رضي الله عنه قال: ( صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام ) وقيل: للميزان كفتان وخيوط ولسان والشاهين؛ فالجمع يرجع إليها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: ذكر الميزان مثل وليس ثم ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في « الأعراف » بيان هذا، وفي « الكهف » أيضا. وقد ذكرناه في كتاب « التذكرة » مستوفى والحمد لله. و « القسط » العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و « القسط » صفة الموازين ووحد لأنه مصدر؛ يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة « القصط » بالصاد. « ليوم القيامة » أي لأهل يوم القيامة. وقيل: المعنى في يوم القيامة. « فلا تظلم نفس شيئا » أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. « وإن كان مثقال حبة من خردل » قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر « مثقال حبة » بالرفع هنا؛ وفي « لقمان » على معنى إن وقع أو حضر؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون « مثقال » بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. « أتينا بها » مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل: مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال: « أتينا بها » . وقرأ مجاهد وعكرمة « آتينا » بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. « وكفى بنا حاسبين » أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل: « حاسبين » إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: ( يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل ) قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما تقرأ كتاب الله تعالى: « ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا » ) فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب.

 

الآيات: 48 - 50 ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين، الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء » وحكي عن ابن عباس وعكرمة « الفرقان ضياء » بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد، كما قال عز وجل: « إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا » [ الصافات: 6 - 7 ] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال: لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال: وتفسير « الفرقان » التوراة؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال: « وضياء » مثل « فيه هدى ونور » وقال ابن زيد: « الفرقان » هنا هو النصر على الأعداء؛ دليله قوله تعالى: « وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان » [ الأنفال: 41 ] يعني يوم بدر. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية؛ لدخول الواو في الضياء؛ فيكون معنى الآية: ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. « الذين يخشون ربهم بالغيب » أي غائبين؛ لأنهم لم يروا الله تعالى، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس.

« وهم من الساعة » أي من قيامها قبل التوبة. « مشفقون » أي خائفون وجلون

 

قوله تعالى: « وهذا ذكر مبارك أنزلناه » يعني القرآن « أفأنتم له » يا معشر العرب « منكرون » وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء « وهذا ذكر مباركا أنزلناه » بمعنى أنزلناه مباركا.

 

الآية: 51 ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين )

 

قوله تعالى: « ولقد آتينا إبراهيم رشده » قال الفراء: أي أعطياه هداه. « من قبل » أي من قبل النبوة؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل: « من قبل » أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير؛ كما قال ليحيى: « وآتيناه الحكم صبيا » [ مريم: 12 ] . وقال القرظي: رشده صلاحه. « وكنا به عالمين » أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.

 

الآيات: 52 - 56 ( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين، قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين )

 

قوله تعالى: « إذ قال لأبيه وقومه » قيل: المعنى أي اذكر حين قال لأبيه؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله: « وكنا به عالمين » . وقيل: المعنى؛ « وكنا به عالمين إذ قال » فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله: « عالمين » . « لأبيه » وهو آزر « وقومه » نمرود ومن اتبعه. « ما هذه التماثيل » أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال: مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. « التي أنتم لها عاكفون » أي مقيمون على عبادتها. « قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين » أي نعبدها تقليدا لأسلافنا. « قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين » أي في خسران بعبادتها؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. « قالوا أجئتنا بالحق » أي أجاء أنت بحق فيما تقول؟ « أم أنت من اللاعبين » أي لاعب مازح. « قال بل ربكم رب السماوات والأرض » أي لست بلاعب، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. « الذي فطرهن » أي خلقهن وأبدعهن. « وأنا على ذلكم من الشاهدين » أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم، ومنه « شهد الله » [ آل عمران: 18 ] بين الله؛ فالمعنى: وأنا أبين بالدليل ما أقول.

الآية [ 57 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 57 - 58 ( وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون )

 

قوله تعالى: « وتالله لأكيدن أصنامكم » أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في « تالله » تختص في القسم باسم الله وحده، والواو تختص بكل مظهر، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر:

تالله يبقي على الأيام ذو حيد بمشمخر به الظيان والآس

وقال ابن عباس: أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة، وكذلك المكايدة؛ وربما سمي الحرب كيدا؛ يقال: غزا فلان فلم يلق كيدا، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. « بعد أن تولوا مدبرين » أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في « والصافات » - فقال إبراهيم في نفسه: « وتالله لأكيدهم أصنامكم » . قال مجاهد وقتادة: إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله « يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل » [ المنافقون: 8 ] . وقيل: إنما قاله بعد خروج القوم، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] أي ضعيف عن الحركة.

 

قوله تعالى: « فجعلهم جذاذا » أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي: ويقال لحجارة الذهب جذاذ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن « جذاذا » بكسر الجيم؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر:

جذذ الأصنام في محرابها ذاك في الله العلي المقتدر

الباقون بالضم؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [ مثل ] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال: « فجعلهم » ؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال « جذاذا » بفتح الجيم؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم: الفتح والكسر والضم بمعنى؛ حكاه قطرب. « إلا كبيرا لهم » أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه؛ ليحتج به عليهم. « لعلهم إليه يرجعون » أي إلى إبراهيم دينه « يرجعون » إذا قامت الحجة عليهم. وقيل: « لعلهم إليه » أي إلى الصنم الأكبر « يرجعون » في تكسيرها.

 

الآيات: 59 - 61 ( قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون )

 

قوله تعالى: « قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين » المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم، قالوا على جهة البحث والإنكار: « من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين » . وقيل: « من » ليس استفهاما، بل هو ابتداء وخبره « لمن الظالمين » أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله: « سمعنا فتى يذكرهم » وهذا هو جواب « من فعل هذا » . والضمير في « قالوا » للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى « يذكرهم » يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم؛ فقال الزجاج يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم؛ فيكون [ خبر مبتدأ ] محذوف، والجملة محكية. قال: ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل: رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله؛ على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ، كما تقول زيد وزن، فعل، أو زيد ثلاثة أحرف، فلم تدل بوجه الشخص، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة. وعلى هذه الطريقة تقول: قلت إبراهيم، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام؛ فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الأستاذ أبو الحجاج الأشبيلي الأعلم: هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية: لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه، ذهب إلى رفعه بغير شيء، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس: ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ: « سمعنا فتى يذكرهم » .

 

قوله تعالى: « قالوا فأتوا به على أعين الناس » فيه مسألة واحدة، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا: ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه « لعلهم يشهدون » عليه بما قال؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل: « لعلهم يشهدون » عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما « يشهدون » بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو « لعلهم يشهدون » طعنه على آلهتهم؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب.

قلت: وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم؛ لقوله تعالى: « فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون » وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه.

 

الآيتان: 62 - 63 ( قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون )

 

قوله تعالى: « قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم » لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: « بل فعله كبيرهم هذا » . فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: « بل فعله كبيرهم هذا » . أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله: « فاسألوهم إن كانوا ينطقون » . وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لأبيه: « يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر » [ مريم: 42 ] - الآية - فقال إبراهيم: « بل فعله كبيرهم هذا » ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون؛ فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: « هذا ربي » وهذه أختي و « إني سقيم » وبل فعله كبيرهم هذا « وقرأ ابن السميقع » بل فعله « بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي: الوقف عند قوله: » بل فعله « أي فعله من فعله؛ ثم يبتدئ » كبيرهم هذا « . وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا؛ والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم. »

روى البخاري ومسلم والترمذي أبى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله لسارة أختي وقوله « بل فعله كبيرهم » ) لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الإسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب « هذا ربي » . فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول قد نفى تلك بقوله: ( لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله: « بل فعله كبيرهم » وواحدة في شأن سارة ) الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب: « هذا ربي » [ الأنعام: 78 ] كذبة وهي داخلة في الكذب؛ لأنه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولة، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها على أن ما لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في « الأنعام » مبينة والحمد لله.

 

قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: ( لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قول « إني سقيم » [ الصافات: 89 ] وقوله « بل فعله كبيرهم » ولم يعد [ قوله ] هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال: « ألا لله الدين الخالص » [ الزمر: 3 ] . وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم.

 

قال علماؤنا: الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة؛ فإن الأنبياء مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة؛ والقصة جاء في حديث الشفاعة ( إنما اتخذت خليلا من وراء وراء ) بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا جاري بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم ( من وراء من وراء ) بإعادة من، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف؛ لأن ألفه للتأنيث؛ لأنهم قالوا في تصغيرها ورية؛ قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا الفتح فيهما مع وجود « من » فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

الآيات: 64 - 67 ( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون )

 

قوله تعالى: « فرجعوا إلى أنفسهم » أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجه خصمه « فقالوا إنكم أنتم الظالمون » أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. « ثم نكسوا على رؤوسهم » أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا « لقد علمت ما هؤلاء ينطقون » فـ « قال » قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون « أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم » أي النتن لكم « ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون » . وقيل: « نكسوا على رؤوسهم » أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم، وفيه نظر؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم، بفتح الكاف بل قال: « نكسوا على رؤوسهم » أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس، قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.

 

الآيتان: 68 - 69 ( قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم )

 

قوله تعالى: « قالوا حرقوه » لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس؛ أي من باديتها؛ قال ابن عمرو ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قال ملكهم نمرود. « وانصروا آلهتكم » بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق: وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى: « إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه » فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: « اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل » . وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ) قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل؛ فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: « أما إليك فلا » . فقال جبريل: فاسأل ربك. فقال: « حسبي من سؤالي علمه بحالي » . فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: « يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم » قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل « بردا وسلاما » لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل « على إبراهيم » لكان بردها باقيا على الأبد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلام. وقال علي وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته. وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاؤوا فإذا هو قائم يصلي. وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم: « ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار » . وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وسماها فويسقة. وقال شعيب الحماني: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي؛ فالله أعلم. وقال الكلبي: بردت نيران الأرض جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمرود من الصراح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه.

الآية [ 70 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 70 - 73 ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )

 

قوله تعالى: « وأرادوا به كيدا » أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به « فجعلناهم الأخسرين » في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكوم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد. فأقام بهذا نحوا من أربعمائة سنة.

 

قوله تعالى: « ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين » يريد نجينا إبراهيم ولوطا إلى أرض الشام وكانا بالعراق. وكان « إبراهيم » عليه السلام عمه؛ قال ابن عباس. وقيل: لها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ ولأنها معادن الأنبياء. والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير إذا لزم مكانه فلم يبرح. وقال ابن عباس: الأرض المباركة مكة. وقيل: بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء، وهي أيضا كثيرة الخصب والنمو، عذبة الماء، ومنها يتفرق في الأرض. قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرق في الأرض. ونحوه عن كعب الأحبار. وقيل: الأرض المباركة مصر.

 

قوله تعالى: « ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة » أي زيادة؛ لأنه دعا في إسحاق وزيد في يعقوب من غير دعاء فكان ذلك نافلة؛ أي زيادة على ما سأل؛ إذ قال: « رب هب لي من الصالحين » [ الصافات: 100 ] . ويقال لولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد. « وكلا جعلنا صالحين » أي وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب جعلناه صالحا عاملا بطاعة الله. وجعلهم صالحين إنما يتحقق بخلق الصلاح والطاعة لهم، وبخلق القدرة على الطاعة، ثم ما يكتسبه العبد فهو مخلوق لله تعالى.

 

قوله تعالى: « وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا » أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات. ومعنى « بأمرنا » أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي؛ فكأنه قال يهدون بكتابنا وقيل: المعنى يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم بإرشاد الخلق، ودعائهم إلى التوحيد. « وأوحينا إليهم فعل الخيرات » أي أن يفعلوا الطاعات. « وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين » أي مطيعين.

 

الآيتان: 74 - 75 ( ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين )

 

قوله تعالى: « ولوطا آتيناه حكما وعلما » « لوطا » منصوب بفعل مضمر دل عليه الثاني؛ أي وآتينا لوطا آتيناه. وقيل: أي واذكر لوطا. والحكم النبوة، والعلم المعرفة بأمر الدين وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل: « علما » فهما؛ والمعنى واحد. « ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث » يريد سدوم. ابن عباس: كانت سبع قرى، قلب جبريل عليه السلام ستة وأبقي واحدة للوط وعياله، وهي زغر التي فيها الثمر من كورة فلسطين إلى حد السراة؛ ولها قرى كثيرة إلى حد بحر الحجاز وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان: أحدهما: اللواط على ما تقدم. والثاني: الضراط؛ أي كانوا يتضارطون في ناديهم ومجالسهم. وقيل: الضراط وحذف الحصي وسيأتي. « إنهم كانوا قوم سوء فاسقين » أي خارجين عن طاعة الله، والفسوق الخروج وقد تقدم. « وأدخلناه في رحمتنا » في النبوة. وقيل: في الإسلام. وقيل: الجنة. وقيل: عنى بالرحمة إنجاءه من قومه « إنه من الصالحين » .

 

الآيتان: 76 - 77 ( ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم، ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين )

 

قوله تعالى: « ونوحا إذ نادى من قبل » أي واذكر نوحا إذ نادى؛ أي دعا. « من قبل » أي من قبل إبراهيم ولوط على قومه، وهو قوله: « رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا » [ نوح: 26 ] وقال لما كذبوه: « أني مغلوب فانتصر » [ القمر: 10 ] . « فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم » أي من الغرق. والكرب الغم الشديد « وأهله » أي المؤمنين منهم. « ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا » قال أبو عبدة: « من » بمعنى على. وقيل: المعنى فانتقمنا له « من القوم الذين كذبوا بآياتنا » . « فأغرقناهم أجمعين » أي الصغير منهم والكبير.

 

الآيتان: 78 - 79 ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين )

 

قوله تعالى: « وداود وسليمان إذ يحكمان » أي واذكرهما إذ يحكمان، ولم يرد بقوله « إذ يحكمان » الاجتماع في الحكم وإن جمعهما في القول؛ فإن حكمين على حكم واحد لا يجوز. وإنما حكم كل واحد منهما انفراده؛ وكان سليمان الفاهم لها بتفهيم الله تعالى إياه. « في الحرث » اختلف فيه على قولين: فقيل: كان زرعا؛ قال قتادة. وقيل: كرما نبت عنا قيده؛ قال ابن مسعود وشريح. و « الحرث » يقال فيهما، وهو في الزرع أبعد من الاستعارة. « إذ نفشت فيه غنم القوم » أي رعت فيه ليلا؛ والنفش الرعي بالليل. يقال: نفشت بالليل، وهملت بالنهار، إذا رعت بلا راع. وأنفشها صاحبها. وإبل نفاش. وفي حديث عبدالله بن عمرو: الحبة في الجنة مثل كرش البعير يبيت نافشا؛ أي راعيا؛ حكاه الهروي. وقال ابن سيده: لا يقال الهمل في الغنم وإنما هو في الإبل. « وكنا لحكمهم شاهدين » دليل على أن أقل الجمع اثنان. وقيل: المراد الحاكمان والمحكوم عليه؛ فلذلك قال « لحكمهم » .

 

قوله تعالى: « ففهمناها سليمان » أي فهمناه القضية والحكومة، فكنى عنها إذ سبق ما يدل عليها. وفضل حكم سليمان حكم أبيه في أنه أنه أحرز أن يبقي كل واحد منهما على متاعه، وتبقي نفسه طيبة بذلك؛ وذلك أن داود عليه السلام رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث. وقالت فرقة: بل دفع الغنم إلى صاحب الحرث، والحرث إلى صاحب الغنم. قال ابن عطية: فيشبه على القول الواحد أنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. وعلى القول الثاني رآها تقاوم الحرث والغلة؛ فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب أخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال: يا نبي الله أنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حال التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما مال إلى صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان؛ قال معناه ابن مسعود ومجاهد وغيرهما. قال الكلبي: قوم داود الغنم والكرم الذي أفسدته الغنم فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم. وهكذا قال النحاس؛ قال: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبا منه. وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا.

 

قوله تعالى: « وكلا آتينا حكما وعلما » تأول قوم أن داود عليه السلام لم يخطئ في هذه النازلة، بل فيها أوتي الحكم والعلم. وحملوا قوله: « ففهمناها سليمان » على أنه فضيلة له على داود وفضيلته راجعة إلى داود، والوالد تسره زيادة ولده عليه. وقالت فرقة: بل لأنه لم يصب العين المطلوبة في هذه النازلة، وإنما مدحه الله بأن له حكما وعلما يرجع إليه في غير هذه النازلة. وأما في هذه فأصاب سليمان وأخطأ داود عليهما الصلاة والسلام، ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم، لكن لا يقرون عليه، وإن أقر عليه غيرهم. ولما هدم الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيبا فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيبا فقد أخطأت أنت؛ فأجابه الوليد « وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما » . وقال قوم: كان داود وسليمان - عليهما السلام - نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا « ففهمناها سليمان » أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحى إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال: « وكلا آتينا حكما وعلما » . هذا قول جماعة من العلماء ومنها ابن فورك. وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وهي:

 

واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم، وجوزه المحققون؛ لأنه ليس فيه استحالة عقلية؛ لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء، كما لو قال له الله سبحانه وتعالى: إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة؛ فهذا غير مستحيل في العقل. فإن قيل: إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه. قلنا: إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم، وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ، وعن الغلط، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك. كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم. وذهب أبو علي بن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله تعالى منه، وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطة. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في تجويز الخطأ على سواء إلا أنهم لا يقرون على إمضائه، فلم يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سألته امرأة عن العدة فقال لها: ( اعتدي حيث شئت ) ثم قال لها: ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) . وقال له رجل: أرأيت إن قتلت صبرا محتسبا أيحجزني الجنة شيء؟ فقال: ( لا ) ثم دعاه فقال: ( إلا الدين كذا أخبرني جبريل عليه السلام ) .

 

قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت القضاة هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده. وقد اختلف الناس في المجتهدين في الفروع إذ اختلفوا؛ فقالت فرقة: الحق في طرف واحد عند الله، قد نصب على ذلك أدلة، وحمل المجتهدين على البحث عنها، والنظر فيها، فمن صادف العين المطلوبة في المسألة فهو المصيب على الإطلاق، وله أجران في الاجتهاد وأجر في الإصابة، ومن لم يصادفها فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في أنه لم يصب العين فله أجر وهو غير معذور. هذا سليمان قد صادف العين المطلوبة، وهي التي فهم. ورأت فرقة أن العالم المخطئ لا إثم في خطئه وإن كان غير معذور. وقالت فرقة: الحق في طرف واحد ولم ينصب الله تعالى عليه دلائل [ بل ] وكل الأمر إلى نظر المجتهدين فمن أصابه أصاب ومن أخطأ فهو معذور مأجور متعبد بإصابته العين بل تعبدنا بالاجتهاد فقط. وقال جمهور أهل السنة وهو المحفوظ عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم: إن الحق في مسائل الفروع في الطرفين، وكل مجتهد مصيب، والمطلوب إنما هو الأفضل في ظنه، وكل مجتهد قد أداه نظره إلى الأفضل في ظنه؛ والدليل على هذه المقالة أن الصحابة فمن بعدهم قرر بعضهم خلاف بعض، ولم ير أحد منهم أن يقع الانحمال على قوله دون قول مخالفه. ومنه رد مالك رحمه الله للمنصور أبي جعفر عن حمل الناس « الموطأ » ؛ فإذا قال عالم في أم حلال فذلك هو الحق فيما يختص بذلك العالم عند الله تعالى وبكل من أخذ بقوله، وكذا في العكس. قالوا: وإن كان سليمان عليه السلام فهم القضية المثلى والتي أرجح فالأولى ليست بخطأ، وعلى هذا يحملون قول عليه السلام: ( إذا اجتهد العالم فأخطأ ) أي فأخطأ الأفضل.

 

روى مسلم وغيره عن عمروه بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) هكذا لفظ الحديث في كتاب مسلم ( إذا حكم فاجتهد ) فبدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس؛ فإن الاجتهاد مقدم لي الحكم، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع. وإنما معنى هذا الحديث: إذا أراد أن يحكم، كما قال: « فإذا قرأت القرآن فاستعذ » [ النحل: 98 ] فعند ذلك أراد أن يجتهد في النازلة. ويفيد هذا صحة ما قال الأصوليون: إن المجتهد يجب عليه أن يجدد نظرا عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا، اللهم إن يكون ذاكرا لأركان اجتهاده، مائلا إليه، فلا يحتاج إلى استئناف نظر في أمارة أخرى.

إنما يكون يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضي؛ لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط، فأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف لا يعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر. يدل على ذلك حديثه الآخر؛ رواه أبو داود: ( القضاة ثلاثة ) الحديث. قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب لا على الخطأ، ومما يؤيد هذا قوله تعالى: « ففهمناها سليمان » الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذم داود.

 

ذكر أبو التمام المالكي أن مذهب مالك أن الحق في واحد من أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في أقاويل المختلفين، وبه قال أكثر الفقهاء. قال: وحكى ابن القاسم أنه سأل مالكا عن اختلاف الصحابة، فقال: مخطئ ومصيب، وليس الحق في جميع أقاويلهم. وهذا القول قيل: هو المشهور عن مالك وإليه ذهب محمد بن الحسين. واحتج من قال هذا بحديث عبدالله بن عمرو؛ قالوا: وهو نص على أن في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئا ومصيبا؛ قالوا: والقول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي إلى كون الشيء حلالا حراما، وواجبا ندبا. واحتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عمر. قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب ( ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال الآخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدا من الفريقين؛ قالوا: فلو كان أحد الفريقين مخطئا لعينه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: لعله إنما سكت عن تعيين المخطئين لأنه غير آثم بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه. والله أعلم. ومسألة الاجتهاد طويلة متشعبة؛ وهذه النبذة التي ذكرناها كافية في معنى الآية، والله الموفق للهداية.

 

ويتعلق بالآية فصل آخر: وهو رجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاده إلى اجتهاد آخر أرجح من الأول؛ فإن داود عليه السلام فعل ذلك. وقد اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله تعالى؛ فقال عبدالملك ومطرف في « الواضحة » : ذلك له ما دام في ولايته؛ فأما إن كانت ولاية أخرى فليس له ذلك، وهو بمنزلة غيره من القضاة. وهذا هو ظاهر قول مالك رحمة الله في « المدونة » . وقال سحنون في رجوعه من اجتهاد فيه قول إلى غيره مما رآه أصوب ليس له ذلك؛ وقال ابن عبدالحكم. قالا: ويستأنف الحكم بما قوي عنده. قال سحنون: إلا أن يكون نسي الأقوى عنده في ذلك الوقت، أو وهم فحكم بغيره فله نقضه؛ وأما وإن حكم بحكم هو الأقوى عنده في ذلك الوقت ثم قوى عنده غيره بعد ذلك فلا سبيل إلى نقض الأول؛ قاله سحنون في كتاب ابنه. وقال أشهب في كتاب ابن المواز: إن كان رجوعه إلى الأصوب في مال فله نقض الأول، وإن كان في طلاق أو نكاح أو عتق فليس له نقضه.

قلت: رجوع القاضي عما حكم القاضي إذا يتبين له أن الحق في غيره ما دام في ولايته أولى. وهكذا في رسالة عمر إلى أبي موسى. الله عنهما؛ رواها الدارقطني، وقد ذكرناها في « الأعراف » ولم يفصل؛ وهي الحجة لظاهر قول مالك. ولم يختلف العلماء أن القاضي إذا قضى تجوزا وبخلاف أهل العلم فهوم دود، إن كان على وجه الاجتهاد؛ فأما أن يتعقب قاض حكم قاض آخر فلا يجوز ذلك له لأن فيه مضرة عظمى من جهة نقض الأحكام، وتبديل الحلال بالحرام، وعدم ضبط قوانين الإسلام، ويتعرض أحد من العلماء لنقض ما رواه الآخر، وإنما كان يحكم بما ظهر له.

قال بعض الناس: إن داود عليه السلام لم يكن أنفذ الحكم وظهر له ما قال غير. وقال آخرون لم يكن حكما وإنما كانت فتيا.

قلت: وهكذا تؤول فيما رواه أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك؛ فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه؛ فقال: ائتوني بالسكين أشفه بينكما؛ فقالت الصغرى: لا - يرحمك الله - هو ابنها؛ فقضى به للصغرى؛ قال أبو هريرة: إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المدية؛ أخرجه مسلم. فأما القول بأن ذلك من داود فتيا فهو ضعيف؛ لأنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه حكم. وأما القول الآخر فيبعد؛ لأنه تعالى قال: « إذ يحكمان في الحرث » فبين أن كل واحد منهما كان قد حكم. وكذا قول في الحديث: فقضى به للكبرى؛ يدل على إنفاذ القضاء وإنجازه. ولقد أبعد من قال: إنه كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى من حيث هي كبرى؛ لأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوى كالطول والقصر والسواد والبياض وذلك لا يوجب ترجيح أحد المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك. وهو مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع. والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما قضى به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها. ولم يذكر في الحديث تعيينه إذ لم تدع حاجة إليه، فيمكن أن الولد كان بيدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا الحديث. وهو الذي تشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. لا يقال: فإن كان داود قضى بسبب شرعي فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؛ فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرض لحكم أبيه بالنقض، وإنما احتال حيلة لطيفة ظهر له بسببها صدق الصغرى؛ وهي أنه لما قال: هات السكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: لا؛ فظهر له من قرينه الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى، مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سوغ له أن يحكم بعلمه. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث « حكم الحاكم بعلمه » . وترجم له أيضا « السعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين الحق » . وترجم له أيضا « نقض الحاكم لا يحكم به غيره ممن هو مثله أو أجل منه » . ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الحزم والجد في ذلك، فقضى بالولد للصغرى؛ ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، لكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم. وفي هذا الحديث من الفقه أن الأنبياء سوغ لهم الحكم بالاجتهاد؛ وقد ذكرناه. وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة، وممارسة أحوال الخلق؛ وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية، وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وفيه الحجة لمن يقول: إن الأم تستلحق؛ وليس مشهور مذهب مالك، وليس هذا موضع ذكره. وعلى الجملة فقضاء سليمان في هذه القصة تضمنها مدحه تعالى له بقوله: « ففهمناها سليمان » .

 

قد تقدم القول في الحرث والحكم في هذه الواقعة في شرعنا: أن على أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار، ثم الضمان في المثل بالمثليات، وبالقيمة في ذوات القيم. والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به نبينا صلى الله عليه وسلم في ناقة البراء بن عازب. رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. هكذا رواه جميع الرواة مرسلا. وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد وحرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة؛ فذكر مثله بمعناه. ورواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب أنه بلغه أن ناقة البراء دخلت حائط قوم؛ مثل حديث مالك سواء، إلا أنه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره. قال أبو عمر: لم يصنع ابن أبي ذئب شيئا؛ إلا أنه أفسد إسناده. ورواه عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عبدالرزاق على ذلك وأنكروا عليه قوله عن أبيه. ورواه ابن جريج عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت؛ فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي أمامة، ولم يذكر أن الناقة كانت للبراء. وجائز أن يكون الحديث عن ابن شهاب عن ابن محيصة، وعن سعيد بن المسيب، وعن أبي أمامة - والله أعلم - فحدث به عمن شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات. قال أبو عمر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور أرسله الأئمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث.

 

ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعا في ليل أو نهار أنه لا يلزم صاحبها شيء، وأدخل فسادها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( جرح العجماء جبار ) فقاس جميع أعمالها على جرحها. ويقال: أنه ما تقدم أبا حنيفة أحد بهذا القول، ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء، وكونه ناسخا لحديث البراء ومعارضا له؛ فإن النسخ شروطه معدومة، والتعاوض إنما يصح إذا لم يمكن استعماله أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث ( العجماء جرحها جبار ) عموم متفق عليه، ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء عنه في حديث واحد: العجماء جرحها جبار نهارا لا ليلا وفي الزرع والحوائط والحرث، لم يكن هذا مستحيلا من القول؛ فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض؟ ! وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول.

 

إن قيل: ما الحكمة في تفريق الشارع بين الليل والنهار، وقد قال الليث بن سعد: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار كل ما أفسدت، ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية؟ قلنا: الفرق بينهما واضح وذلك أن أهل المواشي لهم ضرورة إلى إرسال مواشيهم ترعى بالنهار، والأغلب عندهم أن من عنده زرع يتعاهده بالنهار ويحفظه عمن أراده، فجعل حفظ ذلك بالنهار على أهل الزروع؛ لأنه وقت التصرف في المعاش، كما قال الله سبحانه وتعالى: « وجعلنا النهار معاشا » [ النبأ: 11 ] فإذا جاء الليل فقد جاء الوقت الذي يرجع كل شيء إلى موضعه وسكنه؛ كما قال الله تعالى: « من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه » [ القصص: 72 ] وقال: « وجعل الليل سكنا » [ الأنعام: 96 ] ويرد أهل المواشي مواشيهم إلى مواضعهم ليحفظوها، فإذا فرط صاحب الماشية في ردها إلى منزله، وفرط في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل حتى أتلفت شيئا فعليه ضمان ذلك، فجرى الحكم الأوفق الأسمح، وكان ذلك أرفق بالفريقين، وأسهل على الطائفتين، وأحفظ للمالين، وقد وضح الصبح لذي عينين، ولكن لسليم الحاستين؛ وأما قول الليث: لا يضمن أكثر من قيمة المال فقد قال أبو عمر: لا أعلم من أين قال هذا الليث بن سعد، إلا أن يجعله قياسا على العبد الجاني لا يفتك بأكثر من قيمته ولا يلزم سيده في جنايته أكثر من قيمته، وهذا ضعيف الوجه؛ كما قال في « التمهيد » وفي « الاستذكار » فخالف الحديث في ( العجماء جرحها جبار ) وخالف ناقة البراء، وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء. قال ابن جريج قلت لعطاء: الحرث الماشية ليلا أو نهارا؟ قال: يضمن صاحبها ويغرم. قلت: كان عليه حظرا أو لم يكن؟ قال نعم! يغرم. قلت: ما يغرم؟ قال: قيمة ما أكل حماره ودابته وماشيته. وقال معمر عن ابن شبرمة: يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم. وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهما: يضمن رب الماشية ليلا أو نهارا، من طرق لا تصح.

 

قال مالك: ويقوم الزرع الذي أفسدت المواشي بالليل على الرجاء والخوف. قال: والحوائط التي تحرس والتي لا تحرس، والمحظر عليها وغير المحظر سواء، يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغ، وإن كان أكثر من قيمتها. قال: وإن انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل نائم لم يغرم صاحبها شيئا، وإنما هذا في الحائط والزرع والحرث؛ ذكره عنه ابن عبدالحكم. وقال ابن القاسم: ما أفسدت الماشية بالليل فهو في مال ربها، وإن كان أضعاف ثمنها؛ لأن الجناية من قبله إذ لم يربطها، وليست الماشية كالعبيد؛ حكاه سحنون وأصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم.

ولا يستأني بالزرع أن ينبت أولا ينبت كما يفعل في سن الصغير. وقال عيسى عن ابن القاسم: قيمته لو حل بيعه. وقال أشهب وابن نافع في المجموعة عنه: وإن لم يبد صلاحه. ابن العربي: والأول أقوى لأنها صفته فتقوم كما يقوم كل متلف على صفته.

لو لم يقض للمفسد له بشيء حتى نبت وانجبر فإن كان فيه قبل ذلك منفعة رعي أو شيء ضمن تلك المنفعة، وإن لم تكن فيه منفعة فلا ضمان. وقال أصبغ: يضمن؛ لأن التلف قد تحقق والجبر ليس من جهته فلا يعتد له به.

وقع في كتاب ابن سحنون أن الحديث إنما جاء في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار؛ كأنه ذهب إلى أن ترك تثقيف الحيوان في مثل هذه البلاد تعد؛ لأنها ولا بد تفسد. وهذا جنوب إلى قول الليث.

 

قال أصبغ في المدينة: ليس لأهل المواشي أن يخرجوا مواشيهم إلى قرى الزرع بغير ذواد؛ فركب العلماء على هذا أن البقعة لا تخلو أن تكون بقعة زرع، أو بقعة سرح، فإن كانت بقعة زرع فلا تدخلها ماشية إلا ماشية تجتاح، وعلى أربابها حفظها، وما أفسدت فصاحبها ضامن ليلا أو نهارا؛ وإن كانت بقعة سرح فعلى صاحب الذي حرثه فيها حفظه، ولا شيء على أرباب المواشي.

المواشي على قسمين: ضواري وحريسة وعليهما قسمها مالك. فالضواري هي المعتادة للزرع والثمار، فقال مالك: تغرب وتباع في بلد لا زرع فيه؛ رواه ابن القاسم في الكتاب وغيره. قال ابن حبيب: وإن كره ذلك ربها، وكذلك قال مالك في الدابة التي ضريت في إفساد الزرع: تغرب وتباع. وأما ما يستطاع الاحتراس منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه.

قال أصبغ: النحل والحمام والإوز والدجاج كالماشية، لا يمنع صاحبها من اتخاذها وإن [ ضريت ] ، وعلى أهل القرية حفظ زروعهم. قال ابن العربي: وهذه رواية ضعيفة لا يلتفت إليها من أراد أن يجد ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكن منه، وأما انتفاعه بما يتخذه بإضراره بأحد فلا سبيل إليه. قال عليه السلام: ( لا ضرر ولا ضرار ) وهذه الضواري عن ابن القاسم في المدينة لا ضمان على أربابها إلا بعد التقدم ابن العربي: وأرى الضمان عليهم قبل التقدم إذا كانت ضواري.

ذكر عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حائك فاختصموا إلى شريح، فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم ليلا وقعت فيه أو نهارا؛ ففعل. ثم قال: إن كان بالليل ضمن، وإن كان بالنهار لم يضمن، ثم قرأ شريح « إذ نقشت فيه غنم القوم » قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار.

قلت: ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم ( العجماء جرحها جبار ) الحديث. وقال ابن شهاب: والجبار الهدر، والعجماء البهيمة، قال علماؤنا: ظاهر قوله: ( العجماء جرحها جبار ) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا مجمع عليه. فلو كان معها قائد أو سائق أو راكب فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المتلف؛ فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص وكان الحمل عمدا كان فيه القصاص ولا يختلف فيه؛ لأن الدابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الجاني.

واختلفوا فيمن أصابته برجلها أو ذنبها، فلم يضمن مالك والليث والأوزاعي صاحبها، وضمنه الشافعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة. واختلفوا في الضارية فجمهورهم أنها كغيرها، ومالك وبعض أصحابه يضمنونه.

 

روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرجل جبار ) قال الدارقطني: لم يروه غير سفيان بن حسين ولم يتابع عليه، وخالفه الحفاظ عن الزهري منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل وليث بن سعد، وغيرهم كلهم رووه عن الزهري فقالوا: ( العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار ) ولم يذكروا الرجل وهو الصواب. وكذلك روى أبو صالح السمان، وعبدالرحمن الأعرج، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة، ولم يذكروا فيه ( والرجل جبار ) وهو المحفوظ عن أبي هريرة.

قوله: ( والبئر جبار ) قد روى موضعه ( والنار ) قال الدارقطني: حدثنا حمزة بن القاسم الهاشمي حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول في حديث عبدالرزاق: حديث أبي هريرة ( والنار جبار ) ليس بشيء لم يكن في الكتاب باطل ليس هو بصحيح. حدثنا محمد بن مخلد حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول: أهل اليمن يكتبون النار النير ويكتبون البير؛ يعني مثل ذلك. وإنما لقن عبدالرزاق ( النار جبار ) . وقال الرمادي: قال عبدالرزاق قال معمر لا أراه إلا وهما. قال أبو عمر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النار جبار ) وقال يحيي بن معين: أصله البئر ولكن معمرا صحفه قال أبو عمر: لم يأت ابن معين على قوله هذا بدليل، وليس هكذا ترد أحاديث الثقات. ذكر وكيع عن عبدالعزيز بن حصين عن يحي بن يحي الغساني قال: أحرق رجل سافي قراح له فخرجت شررة من نار حتى أحرقت شيئا لجاره. قال: فكتب فيه إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ابن حصين فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العجماء جبار ) وأرى أن النار جبار. وقد روي ( والسائمة جبار ) بدل العجماء فهذا ما ورد في ألفاظ هذا الحديث ولكل معنى لفظ صحيح مذكور في شرح الحديث وكتب الفقه.

 

قوله تعالى: « وسخرنا مع داود الجبال يسبحن » قال وهب: كان داود يمر بالجبال مسبحا والجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير. وقيل كان داود إذا وجد فترة أمر الجبال فسبحت حتى يشتاق؛ ولهذا قال: « وسخرنا » أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة؛ دليله قوله تعالى: « يا جبال أوبي معه » [ سبأ: 10 ] . وقال قتادة: « يسبحن » يصلين معه إذا صلى، والتسبيح الصلاة. وكل محتمل. وذلك فعل الله تعالى بها؛ ذلك لأن الجبال لا تعقل فتسبيحها دلالة على تنزيه الله تعالى عن صفات العاجزين والمحدثين.

 

الآية: 80 ( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون )

 

قوله تعالى: « وعلمناه صنعة لبوس لكم » يعني اتخاذ الدروع بإلانة الحديد له، واللبوس عند العرب السلاح كله؛ درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا. قال الهذلي يصف رمحا:

ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل

واللبوس كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت:

ألبس كل حالة لبوسها إما نعيمها وإما ما بوسها

وأراد الله تعالى هنا الدرع، وهو بمعنى الملبوس نحو الركوب والحلوب. قال قتادة: أول من صنع الدروع داود. وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها.

 

قوله تعالى: « ليحصنكم » ليحرزكم. « من بأسكم » أي من حربكم. وقيل: من السيف والسهم والرمح، أي من آلة بأسكم فحذف المضاف. ابن عباس: « من بأسكم » من سلاحكم. الضحاك: من حرب أعدائكم. والمعنى واحد. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وحفص وروح « لتحصنكم » بالتاء ردا على الصفة. وقيل: على اللبوس والمنعة التي هي الدروع. وقرأ شيبة وأبو بكر والمفضل ورويس وابن أبي إسحاق « لنحصنكم » بالنون لقوله: « وعلمناه » . وقرأ الباقون بالياء جعلوا الفعل للبوس، أو يكون المعنى ليحصنكم الله. « فهل أنتم شاكرون » أي على تيسير نعمة الدروع لكم. وقيل: « فهل أنتم شاكرون » بأن تطيعوا رسولي.

 

هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونسب من ذكرنا إلى الضعف وعدم المنة. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا. وقيل: سقاء؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع. بها عن نفسه الضرر والباس. وفي الحديث: « إن الله يحب المؤمن المحترف الضعيف المتعفف ويبغض السائل الملحف » . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « الفرقان » وقد تقدم في غير ما آية، وفيه كفاية والحمد لله.

الآية [ 81 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيتان: 81 - 82 ( ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين )

 

قوله تعالى: « ولسليمان الريح عاصفة » أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، أي شديدة الهبوب. يقال منه: عصفت الريح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وفي لغة بني أسد: أعصفت الريح فهي معصفة ومعصفة. والعصف التبن فسمي به شدة الريح؛ لأنها تعصفه بشدة تطيرها. وقرأ عبدالرحمن الأعرج وأبو بكر « ولسليمان الريح » برفع الحاء على القطع مما قبله؛ والمعنى ولسليمان تسخير الريح؛ ابتداء وخبر. « تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها » يعني الشام يروي أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم ترده إلى الشام. وقال وهب: كان سليمان بن داود إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء لا يعقد عن الغزو؛ فإذا أراد أن يغزو أمر بخشب فمدت ورفع عليها الناس والدواب وآلة الحرب، أمر العاصف فأقلت ذلك، ثم أمر الرخاء فمرت به شهرا في رواحه وشهرا في غدوه، وهو معنى قوله تعالى: « تجري بأمره رخاء حيث أصاب » [ ص: 36 ] . والرخاء اللينة. « وكنا بكل شيء عالمين » أي بكل شيء عملنا عالمين بتدبيره.

 

قوله تعالى: « ومن الشياطين من يغوصون له » أي وسخرنا له من يغوصون؛ يريد تحت الماء. أي يستخرجون له الجواهر من البحر. والغوص النزول تحت الماء، وقد غاص في الماء، والهاجم على الشيء غائص. والغواص الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ، وفعله الغياصة. « ويعملون عملا دون ذلك » أي سوي ذلك من الغوص؛ قاله الفراء. وقيل: يراد بذلك المحاريب والتماثيل وغير ذلك يسخرهم فيه. « وكنا لهم حافظين » أي لأعمالهم. وقال الفراء: حافظين لهم من أن يفسدوا أعمالهم، أو يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان. وقيل: « حافظين » من أن يهربوا أو يمتنعوا. أو حفظناهم من أن يخرجوا عن أمره. وقد قيل: إن الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون من استخراج الشياطين.

 

الآيتان: 83 - 84 ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين )

 

قوله تعالى: « وأيوب إذ نادى ربه » أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. « أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » أي نالني في بدني ضر وفي مالي وأهلي. قال ابن عباس: سمي أيوب لأنه آب إلى الله تعالى في كل حال. وروي أن أيوب عليه السلام كان رجلا من الروم ذا مال عظيم، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف، ويبلغ ابن السبيل، شاكرا لأنعم الله تعالى، وأنه دخل مع قومه على جبار عظيم فخاطبوه في أمر، فجعل أيوب يلين له في القول من أجل زرع كان له فامتحنه الله بذهاب مال وأهله، وبالضر في جسمه حتى تناثر لحمه وتدود جسمه، حتى أخرجه أهل قريته إلى خارج القرية، وكانت امرأته تخدمه. قال الحسن: مكث بذلك تسع سنين وستة أشهر. فلما أراد الله أن يفرج عنه قال الله تعالى له: « اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب » [ ص: 42 ] فيه شفاؤك، وقد وهبت لك أهلك ومالك وولدك ومثلهم معهم. وسيأتي في « ص » ما للمفسرين في قصة أيوب من تسليط الشيطان عليه، والرد عليهم إن شاء الله تعالى. واختلف في قول أيوب: « مسني الضر » على خمسة عشر قولا:

الأول: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال: « مسني الضر » إخبارا عن حاله، لا شكوى لبلائه؛ رواه أنس مرفوعا. الثاني: أنه إقرار بالعجز فلم يكن منافيا للصبر. الثالث: أنه سبحانه أجراه على لسانه ليكون حجة لأهل البلاء بعده في الإفصاح بما ينزل بهم. الرابع: أنه أجراه على لسانه إلزاما له في صفة الآدمي في الضعف عن تحمل البلاء. الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه فقال: « مسني الضر » . وهذا قول جعفر بن محمد. السادس: أن تلامذته الذين كانوا يكتبون عنه لما أفضت حال إلى ما انتهت إليه محوا ما كتبوا عنه، وقالوا: ما لهذا عند الله قدر؛ فاشتكى الضر في ذهاب الوحي والدين من أيدي الناس. وهذا مما لم يصح سنده. والله أعلم؛ قال ابن العربي. السابع: أن دودة سقطت من لحمه فأخذها وردها في موضعها فعقرته فصاح « مسني الضر » فقيل: أعلينا تتصبر. قال ابن العربي: وهذا بعيد جدا مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده. الثامن: أن الدود كان يتناول بدنه فصبر حتى تناولت دودة قلبه وأخرى لسانه، فقال: « مسني الضر » لاشتغاله عن ذكر الله، قال ابن العربي: وما أحسن هذا لو كان له سند ولم تكن دعوى عريضة. التاسع: أنه أبهم عليه جهة أخذ البلاء له هل هو تأديب، أو تعذيب، أو تخصيص، أو تمحيص، أو ذخر أو طهر، فقال: « مسني الضر » أي ضر الإشكال في جهة أخذ البلاء. قال ابن العربي: وهذا غلو لا يحتاج إليه. العاشر: أنه قيل له سل الله العافية فقال: أقمت في النعيم سبعين سنة وأقيم في البلاء سبع سنين وحينئذ أسأله فقال: « مسني الضر » . قال ابن العربي: وهذا ممكن ولكنه لم يصح في إقامته مدة خبر ولا في هذه القصة. الحادي عشر: أن ضره قول إبليس لزوجه اسجدي لي فخاف ذهاب الإيمان عنها فتهلك ويبقي بغير كافل. الثاني عشر: لما ظهر به البلاء قال قومه: قد أضر بنا كونه معنا وقذره فليخرج عنا، فأخرجته امرأته إلى ظاهر البلد؛ فكانوا إذا خرجوا رأوه وتطيروا به وتشاءموا برؤيته، فقالوا: ليبعد بحيث لا نراه. فخرج إلى بعد من القرية، فكانت امرأته تقوم عليه وتحمل قوته إليه. فقالوا: إنها تتناوله وتخالطنا فيعود بسببه ضره إلينا. فأرادوا قطعها عنه؛ فقال: « مسني الضر » . الثالث عشر: قال عبدالله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما. بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من نتن ريحه، فقال أحدهما: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه به البلاء؛ فلم يسمع شيئا أشد عليه من هذه الكلمة؛ فعند ذلك قال: « مسني الضر » ثم قال: « اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعان قط وأنا أعلم مكان جائع فصدقني » فنادى مناد من السماء « أن صدق عبدي » وهما يسمعان فخرا ساجدين. الرابع عشر: أن معنى « مسني الضر » من شماتة الأعداء؛ ولهذا قيل له: ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال شماتة الأعداء. قال ابن العربي: وهذا ممكن فإن الكليم قد سأله أخوه العافية من ذلك فقال: « إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء » [ الأعراف: 150 ] . الخامس عشر: أن امرأته كانت ذات ذوائب فعرفت حين منعت أن تتصرف لأحد بسببه ما تعود به عليه، فقطعت ذوائبها واشترت بها ممن قوتا وجاءت به إليه، وكان يستعين بذوائبها في تصرفه وتنقله، فلما عدمها وأراد الحركة في تنقله لم يقدر قال: « مسني الضر » . وقيل: إنها لما اشترت القوت بذوائبها جاءه إبليس في صفة رجل وقال له: إن أهلك بغت فأخذت وحلق شعرها. فحلف أيوب أن يجلدها؛ فكانت المحنة على قلب المرأة أشد من المحنة على قلب أيوب.

قلت: وقول سادس عشر: ذكر ابن المبارك: أخبرنا يونس بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما النبي صلى الله عليه وسلم وما أصابه من البلاء؛ الحديث. وفيه أن بعض إخوانه ممن صابره ولازمه قال: يا نبي الله لقد أعجبني أمرك وذكرته إلى أخيك وصاحبك، أنه قد ابتلاك بذهاب الأهل والمال وفي جسدك منذ ثمان عشرة سنة حتى بلغت ما ترى ألا يرحمك فيكشف عنك ! لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه! فقال أيوب عليه السلام: « ما أدري ما يقولان غير أن ربي عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان وكل يحلف بالله - أو على النفر يتزاعمون - فأنقلب إلى أهلي فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد ذكره ولا يذكره أحد إلا بالحق » فنادى ربه « أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » إنما كان دعاؤه عرضا عرضه على الله تبارك وتعالى يخبره بالذي بلغه، صابرا لما يكون من الله تبارك وتعالى فيه. وذكر الحديث. وقول سابع عشر: سمعته ولم أقف عليه أن دودة سقطت من جسده فطلبها ليردها إلى موضعها فلم يجدها فقال: « مسني الضر » لما فقد من أجر ألم تلك الدودة، وكان أراد أن يبقي له الأجر موفرا إلى وقت العافية، وهذا حسن إلا أنه يحتاج إلى سند. قال العلماء: ولم يكن قوله « مسني الضر » جزعا؛ لأن الله تعالى قال: « إنا وجدناه صابرا » [ ص: 44 ] بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية قد قال الله تعالى: « إنا وجدناه صابرا » [ ص: 44 ] فقلت: ليس هذا شكاية وإنما كان دعاء؛ بيانه « فاستجبنا له » والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الجند عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكوم النوال.

 

قوله تعالى: « فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم » قال مجاهد وعكرمة قيل لأيوب صلى الله عليه وسلم: قد آتيناك أهلك في الجنة فإن شئت تركناهم لك في الجنة وإن شئت آتيناكهم في الدنيا. قال مجاهد: فتركهم الله عز وجل له في الجنة وأعطاه مثلهم في الدنيا. قال النحاس: والإسناد عنهما بذلك صحيح.

قلت: وحكاه المهدوي عن ابن عباس. وقال الضحاك: قال عبدالله بن مسعود كان أهل أيوب قد ماتوا إلا امرأته فأحياهم الله عز وجل في أقل من طرف البصر، وآتاه مثلهم معهم. وعن ابن عباس أيضا: كان بنوه قد ماتوا فأحيوا له وولد له مثلهم معهم. وقال قتادة وكعب الأحبار والكلبي وغيرهم. قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإناث فلما عوفي نشروا له، وولدت امرأته سبعة بنين وسبع بنات. الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية.

قلت: لأنهم ماتوا ابتلاء قبل آجالهم حسب ما تقدم بيانه في سورة « البقرة » في قصة « الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » [ البقرة: 243 ] . وفي قصة السبعين الذين أخذتهم الصعقة فماتوا ثم أحيوا؛ وذلك أنهم ماتوا قبل آجالهم، وكذلك هنا والله أعلم. وعلى قول مجاهد وعكرمة يكون المعنى: « وأتيناه أهله » في الآخرة « ومثلهم معهم » في الدنيا. وفي الخبر: إن الله بعث إليه جبريل عليه السلام حين ركض برجله على الأرض ركضة فظهرت عين ماء حار، وأخذ بيده ونفضه نفضة فتناثرت عنه الديدان، وغاص في الماء غوصة فنبت لحمه وعاد إلى منزله، ورد الله عليه أهله ومثلهم معهم، ونشأت سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. فقال له جبريل: أشبعت؟ فقال: ومن يشبع من الله! فضل. فأوحى الله إليه: قد أثنيت عليك بالصبر قبل وقوعك في البلاء وبعده، ولولا أني وضعت تحت كل شعرة منك صبرا ما صبرت. « رحمة من عندنا » أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا. وقيل: ابتليناه ليعظم ثوابه غدا. « وذكرى للعابدين » أي وتذكيرا للعباد؛ لأنهم إذا ذكروا بلاء أيوب وصبره عليه ومحنته له وهو أفضل أهل زمانه وطنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا نحو ما فعل أيوب، فيكون هذا تنبيها لهم على إدامة العبادة، واحتمال الضرر. واختلف في مدة إقامته في البلاء؛ فقال ابن عباس: كانت مدة البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ليال. وهب: ثلاثين سنة. الحسن سبع سنين وستة أشهر. قلت: وأصح من هذا والله أعلم ثماني عشرة سنة؛ رواه ابن شهاب عن النبي صلى؛ ذكره ابن المبارك وقد تقدم.

 

الآيتان: 85 - 86 ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين )

 

قوله تعالى: « وإسماعيل وإدريس » وهو أخنوخ وقد تقدم. « وذا الكفل » أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل ) وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - [ لم أحدث به ] ولكني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل ) قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل: أنا؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبدالرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة - ووصفها له - قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل: سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. « كل من الصابرين » أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. « وأدخلناهم في رحمتنا » أي في الجنة.

 

الآيتان: 87 - 88 ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين )

 

قوله تعالى: « وذا النون » أي واذكر « ذا النون » وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا.

 

قوله تعالى: « إذ ذهب مغاضبا » قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: ( اشترطي لهم الولاء ) من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: « ولا تكن كصاحب الحوت » [ القلم: 48 ] . وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى: « فالتقمه الحوت وهو مليم » [ الصافات: 142 ] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.

قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في « والصافات » إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد: « حتى إذا فشلتم » [ آل عمران: 152 ] إلى قوله: « وليمحص الله الذين آمنوا » [ آل عمران: 141 ] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا. وينشد هذا البيت:

وأغضب أن تهجي تميم بداوم

أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه.

 

قوله تعالى: « فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات » قيل: معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. الحسن: هو من قوله تعالى: « الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر » [ الرعد: 26 ] أي يضيق. وقوله « ومن قدر عليه رزقه » [ الطلاق: 7 ] .

قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل: « فظن أن لن نقدر عليه » هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:

فليست عشيات اللوى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبدالعزيز والزهري: « فظن أن لن نُقدِّر عليه » بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج: « أن لن يقدر عليه » بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبدالله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا « يُقْدَر عليه » بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا « فظن أن لن يقدر عليه » . الباقون « نقدر » بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.

قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه ( فوالله لئن قدر الله على ) الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه ( لم يعمل خيرا إلا التوحيد ) وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى: « إنما يخشى الله من عباده العلماء » . [ فاطر: 28 ] . وقد قيل: إن معنى « فظن أن لن نقدر عليه » الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان « أبو » المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ « أفظن » بالألف.

 

قوله تعالى: « فنادى في الظلمات » اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر « أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » « فنبذناه بالعراء وهو سقيم » [ الصافات: 145 ] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال: « في غيابة الجب » [ يوسف: 10 ] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروي: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت: « لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك » وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه: « واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد » . وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » و « الأعراف » . « أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء: « ربنا ظلمنا أنفسنا » [ الأعراف: 23 ] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.

 

روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دعاء ذي النون في بطن الحوت « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له ) وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: « وكذلك ننجي المؤمنين » وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله: « إني كنت من الظالمين » فاعترف بالظلم فكان تلويحا.

 

قوله تعالى: « وكذلك ننجي المؤمنين » أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله: « فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون » [ الصافات: 143 - 144 ] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعيد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. « من الغم » أي من بطن الحوت. قوله تعالى: « وكذلك ننجي المؤمنين » قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر « نجي » بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد:

ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا

أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن « وذروا ما بقي من الربا » [ البقرة: 278 ] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:

خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا

ليت شعري إذا القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا

سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة [ فيه ] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في « من جاء بالحسنة » « مجاء بالحسنة » قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل: « ولا تفرقوا » [ آل عمران: 103 ] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية « وكذلك نجى المؤمنين » أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة.

 

الآيتان: 89 - 90 ( وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين )

 

قوله تعالى: « وزكريا إذ نادى ربه » أي واذكر زكريا. وقد تقدم في « آل عمران » ذكره. « رب لا تذرني فردا » أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. « وأنت خير الوارثين » أي خير من يبقي بعد كل من يموت؛ وإنما قال « وأنت خير الوارثين » لما تقدم من قوله: « يرثني » [ مريم: 6 ] أي أعلم أنك، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي. كما تقدم في « مريم » بيانه.

 

قوله تعالى: « فاستجبنا له » أي أجبنا دعاءه: « ووهبنا له يحيى » . تقدم. « وأصلحنا له زوجه » قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق.

قلت: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. « إنهم » يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة « إنهم كانوا يسارعون في الخيرات » وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى.

 

قوله تعالى: « ويدعوننا رغبا ورهبا » أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها؛ قاله خصيف؛ وقال ابن عطية: وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه.

 

روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في « الأعراف » الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يد بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم ) . وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و « رغبا ورهبا » منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف « ويدعونا » بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا « رغبا ورهبا » بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. « وكانوا لنا خاشعين » أي متواضعين خاضعين.

 

الآيات: 101 - 103 ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

 

قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » أي الجنة « أولئك عنها » أي عن النار. « مبعدون » فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: « إن » ههنا بمعنى « إلا » وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن عثمان منهم ) .

 

قوله تعالى: « لا يسمعون حسيسها » أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: « لا يسمعون حسيسها » فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: « وإن منكم إلا واردها » وقوله تعالى: « فأوردهم النار » [ هود: 98 ] وقوله: « إلى جهنم وردا » [ مريم: 86 ] . ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. « وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون » أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال « ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] .

 

قوله تعالى: « لا يحزنهم الفزع الأكبر » وقرأ أبو جعفر وابن محيصن « لا يحزنهم » بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه ) . وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر ) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. « وتتلقاهم الملائكة » أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: « هذا يومكم الذي كنتم توعدون » وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس « هذا يومكم » أي ويقولون لهم؛ فحذف. « الذي كنتم توعدون » فيه الكرامة.

 

الآية: 104 ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )

 

قوله تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري « تُطوى » بتاء مضمومة « السماء » رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد « يطوي » على معنى يطوي الله السماء. الباقون « نطوي » بنون العظمة. وانتصاب « يوم » على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ « نعيد » من قول « كما بدأنا أول خلق نعيده » . أو بقول: « لا يحزنهم » أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: « والسموات مطويات بيمنه » [ الزمر: 67 ] . « كطي السجل للكتاب » قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى « على » . وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: « السجل » ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير « كطي السجل » بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة « كطي السجل » بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: « للكتاب » . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: « والسموات مطويات بيمينه » [ الزمر: 67 ] . والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: « إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت » [ التكوير: 1 - 2 ] « وإذا السماء كشطت » [ التكوير: 11 ] . « للكتاب » وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: « للكتب » جمعا ثم استأنف الكلام فقال: « كما بدأنا أول خلق نعيده » أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - « كما بدأنا أول خلق نعيده » أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا « كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين » ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب « التذكرة » مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ « كما بدأنا أول خلق نعيده » . وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: « يوم نطوي السماء » أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات » [ إبراهيم: 48 ] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » [ الأنعام: 94 ] وقوله عز وجل: « وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة » « وعدا » نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا « علينا » إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: « إنا كنا فاعلين » قال الزجاج: معنى « إنا كنا فاعلين » إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل « إنا كنا فاعلين » أي ما وعدناكم وهو كما قال: « كان وعده مفعولا » [ المزمل: 18 ] . وقيل: « كان » للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.

 

الآيتان: 105 - 106 ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين )

 

قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور » الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: « الزبور » التوراة والإنجيل والقرآن. « من بعد الذكر » الذي في السماء « أن الأرض » أرض الجنة « يرثها عبادي الصالحون » رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: « الزبور » زبور داود، و « الذكر » توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد « الزبور » كتب الأنبياء عليهم السلام، و « الذكر » أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: « الزبور » الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و « الذكر » التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة « في الزبور » بضم الزاي جمع زبر « أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض » [ الزمر: 74 ] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: « وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها » [ الأعراف: 137 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة « عبادي الصالحون » بتسكين الياء. « إن في هذا » أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن « لبلاغا لقوم عابدين » قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: « عابدين » مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.

 

الآيات: 107 - 109 ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.

 

قوله تعالى: « قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » فلا يجوز الإشراك به. « فهل أنتم مسلمون » أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] أي انتهوا.

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » أي إن أعرضوا عن الإسلام « فقل آذنتكم على سواء » أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ الأنفال: 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. « وإن أدري » « إن » نافيه بمعنى « ما » أي وما أدري. « أقريب أم بعيد ما توعدون » يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.

 

الآيات: 110 - 112 ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون )

 

قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون » أي من الشرك وهو المجازي عليه. « وإن أدري لعله » أي لعل الإمهال « فتنة لكم » أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. « ومتاع إلى حين » قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى « وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون » « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.

 

قوله تعالى: « قال رب احكم بالحق » ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق » [ الأعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: « رب احكم بالحق » فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل « رب احكم بالحق » أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و « رب » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن « قل ربُّ احكم بالحق » بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب « قال ربي أَحكَم بالحق » بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري « قل ربي أحكم » على معنى أحكم الأمور بالحق. « وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون » أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي « على ما يصفون » بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.

 

الآيات: 101 - 103 ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

 

قوله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » أي الجنة « أولئك عنها » أي عن النار. « مبعدون » فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: « إن » ههنا بمعنى « إلا » وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى » فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن عثمان منهم ) .

 

قوله تعالى: « لا يسمعون حسيسها » أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس: « لا يسمعون حسيسها » فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى: « وإن منكم إلا واردها » وقوله تعالى: « فأوردهم النار » [ هود: 98 ] وقوله: « إلى جهنم وردا » [ مريم: 86 ] . ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. « وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون » أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال « ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون » [ فصلت: 31 ] .

 

قوله تعالى: « لا يحزنهم الفزع الأكبر » وقرأ أبو جعفر وابن محيصن « لا يحزنهم » بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه ) . وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر ) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. « وتتلقاهم الملائكة » أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: « هذا يومكم الذي كنتم توعدون » وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس « هذا يومكم » أي ويقولون لهم؛ فحذف. « الذي كنتم توعدون » فيه الكرامة.

 

الآية: 104 ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين )

 

قوله تعالى: « يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب » قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري « تُطوى » بتاء مضمومة « السماء » رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد « يطوي » على معنى يطوي الله السماء. الباقون « نطوي » بنون العظمة. وانتصاب « يوم » على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ « نعيد » من قول « كما بدأنا أول خلق نعيده » . أو بقول: « لا يحزنهم » أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله: « والسموات مطويات بيمنه » [ الزمر: 67 ] . « كطي السجل للكتاب » قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى « على » . وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي: « السجل » ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير « كطي السجل » بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة « كطي السجل » بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله: « للكتاب » . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى: « والسموات مطويات بيمينه » [ الزمر: 67 ] . والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى: « إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت » [ التكوير: 1 - 2 ] « وإذا السماء كشطت » [ التكوير: 11 ] . « للكتاب » وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف: « للكتب » جمعا ثم استأنف الكلام فقال: « كما بدأنا أول خلق نعيده » أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - « كما بدأنا أول خلق نعيده » أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا « كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين » ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب « التذكرة » مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ « كما بدأنا أول خلق نعيده » . وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: « يوم نطوي السماء » أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول: « يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات » [ إبراهيم: 48 ] والقول الأول أصح وهو نظير قوله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » [ الأنعام: 94 ] وقوله عز وجل: « وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة » « وعدا » نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا « علينا » إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه: « إنا كنا فاعلين » قال الزجاج: معنى « إنا كنا فاعلين » إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل « إنا كنا فاعلين » أي ما وعدناكم وهو كما قال: « كان وعده مفعولا » [ المزمل: 18 ] . وقيل: « كان » للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.

 

الآيتان: 105 - 106 ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين )

 

قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور » الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير: « الزبور » التوراة والإنجيل والقرآن. « من بعد الذكر » الذي في السماء « أن الأرض » أرض الجنة « يرثها عبادي الصالحون » رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي: « الزبور » زبور داود، و « الذكر » توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد « الزبور » كتب الأنبياء عليهم السلام، و « الذكر » أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس: « الزبور » الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و « الذكر » التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة « في الزبور » بضم الزاي جمع زبر « أن الأرض يرثها عبادي الصالحون » أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض » [ الزمر: 74 ] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى: « وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها » [ الأعراف: 137 ] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة « عبادي الصالحون » بتسكين الياء. « إن في هذا » أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن « لبلاغا لقوم عابدين » قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: « عابدين » مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.

 

الآيات: 107 - 109 ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون )

 

قوله تعالى: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين » قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.

 

قوله تعالى: « قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد » فلا يجوز الإشراك به. « فهل أنتم مسلمون » أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى: « فهل أنتم منتهون » [ المائدة: 91 ] أي انتهوا.

 

قوله تعالى: « فإن تولوا » أي إن أعرضوا عن الإسلام « فقل آذنتكم على سواء » أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ الأنفال: 58 ] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. « وإن أدري » « إن » نافيه بمعنى « ما » أي وما أدري. « أقريب أم بعيد ما توعدون » يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.

 

الآيات: 110 - 112 ( إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون )

 

قوله تعالى: « إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون » أي من الشرك وهو المجازي عليه. « وإن أدري لعله » أي لعل الإمهال « فتنة لكم » أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. « ومتاع إلى حين » قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى « وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون » « وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين » يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.

 

قوله تعالى: « قال رب احكم بالحق » ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول: « ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق » [ الأعراف: 89 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: « رب احكم بالحق » فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل « رب احكم بالحق » أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و « رب » في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن « قل ربُّ احكم بالحق » بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب « قال ربي أَحكَم بالحق » بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري « قل ربي أحكم » على معنى أحكم الأمور بالحق. « وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون » أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي « على ما يصفون » بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.

 

أعلى