الوسيط للطنطاوي

تفسير الآية رقم 65 من سورة الأنفال

ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم بتحريض المؤمنين على القتال من أجل إعلاء كلمة الحق، فقال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ....
وقوله: حَرِّضِ من التحريض بمعنى الحث على الشيء بكثرة التزيين له، وتسهيل الأمر فيه حتى تقدم عليه النفس برغبة وحماس.
قال الراغب: الحرض ما لا يعتد به ولا خير فيه، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك حرض. قال- تعالى- حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ..
والتحريض: الحث على الشيء.. فكأنه في الأصل إزالة الحرض نحو حرضته وقذيته أى: أزلت عنه الحرض والقذى..» .
والمعنى: يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين وإحمائهم على القتال بصبر وجلد، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض أصحابه على القتال عند صفهم ومواجهة الأعداء كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» . فقال عمير بن الحمام: عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله: نعم. فقال عمير: بخ بخ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك بخ بخ» ؟ قال:
رجاء أن أكون من أهلها، قال صلى الله عليه وسلم «فإنك من أهلها» فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن» ثم ألقى بقيتهن من يده وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن، إنها لحياة طويلة، ثم تقدم فقاتل حتى قتل- رضى الله عنه- .
وقوله:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ بشارة من الله- تعالى- للمؤمنين ووعد لهم بالظفر على أعدائهم.
أى: قابلوا- أيها المؤمنون أعداءكم بقوة وإقدام، فإنكم إن يوجد منكم عشرون رجلا صابرون يغلبوا- بسبب إيمانهم وصبرهم- مائتين من الكافرين، وإن يوجد منكم مائة يغلبوا ألفا منهم، وذلك بسبب أن هؤلاء الكافرين قوم جهلة بحقوق الله- تعالى- وبما يجب عليهم نحوه.
فهم- كما يقول صاحب الكشاف-: «يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم» فيقل ثباتهم. ويعدمون لجهلهم بالله نصرته، ويستحقون الخذلان. بخلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله- تعالى-».
وقال صاحب المنار: والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين وأفقه منهم بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم. وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين ...
وهكذا كان المؤمنون في قرونهم الأولى.. أما الآن فقد أصبح المسلمون غافلين عن هذه المعاني الجليلة، فزال مجدهم.. .