تفسير الطبري

تفسير الآية رقم 269 من سورة البقرة

القول في تأويل قوله : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا.
* * *
واختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم،" الحكمة " التي ذكرها الله في هذا الموضع، هي: القرآن والفقه به.
* ذكر من قال ذلك:
6177 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
6178 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " يؤتي الحكمة من يشاء "، قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن.
6179 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا "، والحكمة: الفقه في القرآن.
6180 - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية:" ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا "، قال: الكتاب والفهم به. (99) .
6181 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله: " يؤتي الحكمة من يشاء " الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه.
6182 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى " الحكمة "، الإصابة في القول والفعل.
* ذكر من قال ذلك:
6183 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال: " ومن يؤت الحكمة "، قال: الإصابة.
6184 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " يؤتي الحكمة من يشاء "، قال: يؤتي إصابته من يشاء.
6185 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " يؤتي الحكمة من يشاء "، قال: الكتاب، يؤتي إصابته من يشاء .
* * *
وقال آخرون: هو العلم بالدين.
* ذكر من قال ذلك:
6186 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: " يؤتي الحكمة من يشاء " العقل في الدين، وقرأ: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ".
6187 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل.
6188 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له.
* * *
وقال آخرون: " الحكمة " الفهم.
* ذكر من قال ذلك:
6190 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. (100) .
* * *
وقال آخرون: هي الخشية.
* ذكر من قال ذلك:
6191 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة " الآية، قال: " الحكمة " الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ . [ سورة فاطر: 28].
* * *
وقال آخرون: هي النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
6192 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة "، الآية، قال: الحكمة: هي النبوة.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى " الحكمة "- وأنها مأخوذة من " الحكم " وفصل القضاء، وأنها الإصابة - بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. (101) .
* * *
وإذا كان ذلك كذلك معناه، (102) كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما، (103) .
وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور،" والنبوة " بعض معاني" الحكمة ".
* * *
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا.
* * *
القول في تأويل قوله : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (269)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات = التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به غيرهم= (104) فيها وفي غيرها من آي كتابه= (105) فيذكر وعده ووعيده فيها، فينـزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به=" إلا أولوا الألباب "، يعني: إلا أولوا العقول، الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. (106) .
فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول.
------------------------------
الهوامش :
(99) الأثر : 6180 -"محمد بن عبد الله الهلالي" هو : محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي ، أبو مسعود البصري ، روي عن جده عبيد بن عقيل ، وعثمان بن عمر بن فارس ، وعمرو ابن عاصم الكلابى وغيرهم ، وروى عنه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم . قال النسائي : "لا بأس به" . وقال مسلمة : "ثقة" . "مسلم بن إبراهيم" الأزدي الفراهيدي ، أبو عمرو البصري الحافظ . قال ابن معين : "ثقة مأمون" . وكان يقول : "ما أتيت حلالا ولا حراما قط" ، وقال أبو حاتم : "كان لا يحتاج إليه" . وكان من المتقنين . مات سنة 222 . "مهدي بن ميمون" الأزدي المعولي . كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات . مات سنة 171 . "شعيب بن الحبحاب" و"المعولي" بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو .
وكان في المطبوعة : "والفهم فيه" . وهي صواب في المعنى ، جيد في العربية وأثبت ما في المخطوطة ، وهو أيضًا صواب جيد .
(100) الأثر : 6190 -"أبو حمزة" هو أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي ، وهو صاحب إبراهيم النخعي . قال البخاري : "ليس بذاك" . وقال : "ضعيف ذاهب الحديث" . قال أبو موسى : "ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن : سفيان ، عن أبي حمزة ، قط" . وقال ابن عدي : "وأحاديثه خاصة عن إبراهيم ، مما لا يتابع عليه" . مترجم في التهذيب .
(101) انظر تفسير"الحكمة"فيما سلف 3 : 87 ، 88 ، 211 /ثم 5 : 15 ، 16 ، 371 .
(102) في المطبوعة : "فإذا كان ذلك..." بالفاء ، ولا معنى لتغيير ما هو في المخطوطة .
(103) في المطبوعة : "فهما خاشيا..." . وفي المخطوطة : "ففهما" ، والصواب قراءتها كما أثبت ، بدليل معناه الذي أراده ، من إدخال الأنبياء في معنى ذلك ، وبدليل قوله بعد : "مفهمون..." .
(104) في المطبوعة : "بما وعظ به غيرهم" ، وهو غير مستقيم تمام الاستقامة في السياق . وفي المخطوطة : "بما وعظهم به غيرهم" ، والصواب أن تزاد"الواو" قبل"غيرهم" ، ليستقيم السياق .
(105) سياق الجملة : "وما يتعظ بما وعظه به ربه في هذه الآيات... فيذكر وعده ووعيده..." وما بينهما فصل .
(106) انظر تفسير"الألباب"فيما سلف 3 : 383 / 4 : 162 .