تفسير القرطبي

تفسير الآية رقم 107 من سورة الصافات

قوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح ، كالطحن اسم المطحون . والذبح بالفتح المصدر . " عظيم " أي : عظيم القدر ، ولم يرد عظيم الجثة . وإنما عظم قدره لأنه فدي به الذبيح ، أو لأنه متقبل . قال النحاس : عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف . وأهل التفسير على أنه هاهنا للشريف ، أو المتقبل . وقال ابن عباس : هو الكبش الذي تقرب به هابيل ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل . وعنه أيضا : أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا . وقال الحسن : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه ، وهذا قول علي - رضي الله عنه - . فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه . وقال : يا بني اليوم وهبت لي . وقال أبو إسحاق الزجاج : قد قيل إنه فدي بوعل ، والوعل : التيس الجبلي . وأهل التفسير على أنه فدي بكبش .
في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر . وهذا مذهب مالك وأصحابه . قالوا : أفضل الضحايا الفحول من الضأن ، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز ، وفحول المعز خير من إناثها ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر . وحجتهم قوله سبحانه وتعالى : وفديناه بذبح عظيم أي : ضخم الجثة سمين ، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة . وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأله رجل : إني نذرت أن أنحر ابني ؟ فقال : يجزيك كبش سمين ، ثم قرأ : وفديناه بذبح عظيم . وقال بعضهم : لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق . وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين . وأكثر ما ضحى به الكباش . وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال : الذبح العظيم : الشاة .
واختلفوا أيهما أفضل : الأضحية أو الصدقة بثمنها . فقال مالك وأصحابه : الضحية أفضل إلا بمنى ; لأنه ليس موضع الأضحية ، حكاه أبو عمر . وقال ابن المنذر : روينا عن بلال أنه قال : ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ، ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه - هكذا قال المحدث - أحب إلي من أن أضحي به . وهذا قول الشعبي : إن الصدقة أفضل . وبه قال مالك وأبو ثور . وفيه قول ثان : إن الضحية أفضل ، هذا قول ربيعة وأبي الزناد . وبه قال أصحاب الرأي . زاد أبو عمر : وأحمد بن حنبل . قالوا : الضحية أفضل من الصدقة ; لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد . ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل . وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله . قال أبو عمر : وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم قال أبو عمر : وهو حديث غريب من حديث مالك . وعن عائشة قالت : يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة ، فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد . وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض ، فطيبوا بها نفسا قال : وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم . وهذا حديث حسن .
الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف . وقال عكرمة : كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ، ويقول : من لقيت فقل : هذه أضحية ابن عباس . قال أبو عمر : ومجمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم ، لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض ، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم ; لأنهم الواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته ، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم . وقد حكى الطحاوي في مختصره : وقال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ، ولا تجب على المسافر . قال : ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه . وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا : ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها . قال : وبه نأخذ . قال أبو عمر : وهذا قول مالك ، قال : لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما ، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى . وقال الإمام الشافعي : هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة . وقد احتج من أوجبها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى ; لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة . احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي قالوا : فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضحي . وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال .
والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية : وهي الضأن والمعز والإبل والبقر . قال ابن المنذر : وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال : يضحى ببقرة الوحش عن سبعة ، وبالظبي عن رجل . وقال الإمام الشافعي : لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية ، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية . وقال أصحاب الرأي : جائز ; لأن ولدها بمنزلة أمه . وقال أبو ثور : يجوز إذا كان منسوبا إلى الأنعام .
قد مضى في سورة [ الحج ] الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، ووضع رجله على صفاحهما في رواية قال : ويقول : بسم الله والله أكبر وقد مضى في آخر [ الأنعام ] حديث عمران بن حصين ، ومضى في [ المائدة ] القول في التذكية وبيانها وما يذكى به ، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى . وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها : يا عائشة ، هلمي المدية ، ثم قال : اشحذيها بحجر ، ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : بسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ، ثم ضحى به . وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية : بسم الله والله أكبر ، هذا منك ولك ، تقبل من فلان . وقال مالك : إن فعل ذلك فحسن ، وإن لم يفعل وسمى الله أجزأه . وقال الشافعي : والتسمية على الذبيحة بسم الله ، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله ، أو صلى على محمد - عليه السلام - لم أكرهه ، أو قال : اللهم تقبل مني ، أو قال : تقبل من فلان ، فلا بأس . وقال النعمان : يكره أن يذكر مع اسم الله غيره ، يكره أن يقول : اللهم تقبل من فلان عند الذبح . وقال : لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح . وحديث عائشة يرد هذا القول . وقد تقدم أن إبراهيم - عليه السلام - قال لما أراد ذبح ابنه : الله أكبر والحمد لله . فبقي سنة .
روى البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل : ماذا يتقى من الضحايا ؟ فأشار بيده وقال : أربعا - وكان البراء يشير بيده ويقول : يدي أقصر من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - العرجاء البين ظلعها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى لفظ مالك ولا خلاف فيه . واختلف في اليسير من ذلك . وفي الترمذي عن علي - رضي الله عنه - قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ، وألا نضحي بمقابلة ، ولا مدابرة ، ولا شرقاء ، ولا خرقاء . قال : والمقابلة ما قطع طرف أذنها ، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن ، والشرقاء المشقوقة ، والخرقاء المثقوبة ، قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي الموطأ عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن ، والتي نقص من خلقها . قال مالك : وهذا أحب ما سمعت إلي . قال القتبي : لم تسنن أي : لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا . وهذا كما يقال : فلان لم يلبن أي : لم يعط لبنا ، ولم يسمن أي : لم يعط سمنا ، ولم يعسل أي : لم يعط عسلا . وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء . قال أبو عمر : ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة ، فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها ; لأنه عيب غير خفيف . والنقصان كله مكروه ، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه . وفي الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : استشرقوا ضحاياكم ؛ فإنها على الصراط مطاياكم ذكره الزمخشري .
ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه ، قاله ابن عباس . وعنه رواية أخرى : ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه ، روى الروايتين عنه الشعبي . وروى عنه القاسم بن محمد : يجزيه كفارة يمين . وقال مسروق : لا شيء عليه . وقال الشافعي : هو معصية يستغفر الله منها . وقال أبو حنيفة : هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ، ولا يلزمه في غير ولده شيء . قال محمد : عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث . وذكر ابن عبد الحكم عن مالك فيمن قال : أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي . قال : ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه . قال : ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه ، قال القاضي ابن العربي : يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة ; لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا ، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد ، وأخرجه عنه بذبح شاة . وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة ; لأن الله تعالى قال : ملة أبيكم إبراهيم والإيمان التزام أصلي ، والنذر التزام فرعي ، فيجب أن يكون محمولا عليه . فإن قيل : كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية ، والأمر بالمعصية لا يجوز ؟ . قلنا : هذا اعتراض على كتاب الله ، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام ، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام ، وقد قال الله تعالى : افعل ما تؤمر والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك : أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان ، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال ، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال ، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء ، ولهذا قال الله تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين في الصبر على ذبح الولد والنفس ، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية . فإن قيل : كيف يصير نذرا وهو معصية . قلنا : إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء ؟ فإن قيل : فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء ؟ قلنا : لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره ; لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا .