فهرس تفسير بن كثير للسور

5 - تفسير بن كثير سورة المائدة

التالي السابق

 

تفسير سورة المائدة

 

[ وهي مدنية ]

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو النَّضر، حدثنا أبو معاوية شَيْبان، عن لَيْث، عن شَهر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت:إني لآخذة بزِمَام العَضْباء ناقةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نـزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تَدُقّ عَضُد الناقةَ .

وروى ابن مَرْدُويه من حديث صالح بنِ سُهَيْل، عن عاصم الأحول قال:حدثتني أم عمرو، عن عمها؛ أنه كان في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزلت عليه سورة المائدة، فاندَقَّ عُنُق الراحلة من ثقلها .

وقال أحمد أيضًا:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثني حُيَيُّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عبد الله بن عمرو قال:أنـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنـزل عنها.

تفرد به أحمد وقد روى الترمذي عن قُتَيْبَة، عن عبد الله بن وَهْب، عن حُيَيٍّ، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو قال:آخر سورة أنـزلت:سورة المائدة والفتح، ثم قال الترمذي:هذا حديث غريب حسن. وقد روي عن ابن عباس أنه قال:آخر سورة أنـزلت: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ سورة النصر:1 ] .

وقد روى الحاكم في مستدركه، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو رواية الترمذي، ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

وقال الحاكم أيضا:حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بحر بن نصر قال:قُرئ على عبد الله بن وَهْب، أخبرني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نُفَيْر قال:حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي:يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت:نعم. فقالت:أما إنها آخر سورة نـزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ورواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، وزاد:وسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:القرآن. وراوه النسائي من حديث ابن مهدي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 2 ) .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مِسْعَر، حدثني مَعْن وعَوْف - أو:أحدهما- أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] فقال:اعهد إليَّ. فقال:إذا سمعت الله يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فارْعِها سَمْعَك، فإنه خَيْر يأمر به، أو شَر ينهى عنه.

وقال:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دُحيم- حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري قال:إذا قال الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) افعلوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم.

وحدثنا أحمد بن سنَان، حدثنا محمد بن عُبيد حدثنا الأعمش، عن خَيْثَمَة قال:كل شيء في القرآن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فهو في التوراة: « يأ يها المساكين » .

فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي، حدثنا معاوية - يعني:ابن هشام- عن عيسى بن راشد، عن علي بن بُذَيْمَة، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:ما في القرآن آية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلا أن عليًا سيدها وشريفها وأميرها، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب، فإنه لم يعاتبْ في شيء منه. فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة، وفي إسناده نظر.

قال البخاري:عيسى بن راشد هذا مجهول، وخبره منكر. قلت:وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة- إلا أنه شيعي غالٍ، وخبره في مثل هذا فيه تُهمة فلا يقبل. وقوله: « ولم يبق أحد من الصحابة إلا عوتب في القرآن إلا عليًا » إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوي، فإنه قد ذَكَر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا عليٌّ، ونـزل قوله: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ الآية [ سورة المجادلة:13 ] وفي كون هذا عتابًا نظر؛ فإنه قد قيل:إن الأمر كان ندبا لا إيجابا، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل، فلم ير من أحد منهم خلافه. وقوله عن علي: « إنه لم يعاتب في شيء من القرآن » فيه نظر أيضًا؛ فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفِداء عَمَّت جميع من أشار بأخذه، ولم يسلم منها إلا عُمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فعلم بهذا، وبما تقدم ضَعفُ هذا الأثر، والله أعلم.

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا اللَّيْث، حدثني يونس قال:قال محمد بن مسلم:قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كُتب لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى نَجْران، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فيه:هذا بيان من الله ورسوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فكتب الآيات منها حتى بلغ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد، حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه قال:هذا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، الذي كتبه لعمرو بن حَزْم، حين بعثه إلى اليمن يُفَقه أهلها ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم. فكتب له كتابا وعهدا، وأمره فيه بأمره، فكتب: « بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) عَهْدٌ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » .

قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد:يعني بالعقود:العهود. وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال:والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يعني بالعهود:يعني ما أحل الله وما حرم، وما فرض وما حَد في القرآن كله، فلا تغدروا ولا تنكثوا، ثم شدد في ذلك فقال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قوله: سُوءُ الدَّارِ [ الرعد:25 ] .

وقال الضحاك: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال:ما أحل الله وما حرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام.

وقال زيد بن أسلم: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال:هي ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين.

وقال محمد بن كعب:هي خمسة منها:حلف الجاهلية، وشركة المفاوضة.

وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال:فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته، فيقتضي نفي خيار المجلس، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك. وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البَيِّعان بالخيار ما لم يَتَفرَّقا » وفي لفْظ للبخاري: « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع، وليس هذا منافيًا للزوم العقد، بل هو من مقتضياته شرعا، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد.

وقوله تعالى: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ ) هي:الإبل والبقر، والغنم. قاله الحسن وقتادة وغير واحد. قال ابن جرير:وكذلك هو عند العرب. وقد استدل ابن عمر، وابن عباس، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت، وقد ورد في ذلك حديث في السنن، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من طريق مُجالد، عن أبي الودَّاك جبر بن نَوْف، عن أبي سعيد، قال:قلنا:يا رسول الله، ننحر الناقة، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: « كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه » . وقال الترمذي:حديث حسن .

[ و ] قال أبو داود:حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عَتَّاب بن بشير، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ذكاة الجنين ذكاة أمه » . تفرد به أبو داود .

وقوله: ( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني بذلك:الميتة، والدم، ولحم الخنـزير.

وقال قتادة:يعني بذلك الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه.

والظاهر - والله أعلم- أن المراد بذلك قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض؛ ولهذا قال: إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعني:منها. فإنه حرام لا يمكن استدراكه، وتلاحقُه؛ ولهذا قال تعالى: ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي:إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال.

وقوله: ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) قال بعضهم:هذا منصوب على الحال. والمراد من الأنعام:ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر، فاستثنى من الإنسي ما تقدم، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام.

وقيل:المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام، كقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ أي:أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد، أي:كما ] أحللنا الأنعام لكم في جميع الأحوال، فحرموا الصيد في حال الإحرام، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ )

ثم قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) قال ابن عباس:يعني بذلك مناسك الحج.

وقال مجاهد:الصفا والمروة والهدي والبُدن من شعائر الله.

وقيل:شعائر الله محارمه [ التي حرمها ] أي:لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ) يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم، كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [ البقرة:217 ] ، وقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الآية. [ التوبة:36 ] .

وفي صحيح البخاري:عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات:ذو القَعْدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان » .

وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت، كما هو مذهب طائفة من السلف.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ) يعني: لا تستحلوا قتالا فيه. وكذا قال مُقَاتل بن حَيَّان، وعبد الكريم بن مالك الجزَريُّ، واختاره ابن جرير أيضًا، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم، واحتجوا بقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التوبة:5 ] قالوا:والمراد أشهر التسيير الأربعة، فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قالوا:فلم يستثن شهرا حراما من غيره.

وقد حكى الإمام أبو جعفر [ رحمه الله ] الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم، وغيرها من شهور السنة، قال:وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانا من القتل، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان ولهذه المسألة بحث آخر، له موضع أبسط من هذا.

[ و ] قوله: ( وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ) يعني:لا تتركوا الإهداء إلى البيت؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها، فإن من دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا؛ ولهذا لما حَج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيْفة، وهو وادي العَقيق، فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا، ثم اغتسل وتَطيَّب وصلَّى ركعتين، ثم أشعر هَدْيَه وقلَّدَه، وأهَلَّ بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين، من أحسن الأشكال والألوان، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [ الحج:32 ] .

قال بعض السلف:إعظامها:استحسانها واستسمانها.

وقال علي بن أبي طالب:أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن

وقال مُقاتل بن حَيَّان: ( وَلا الْقَلائِدَ ) فلا تستحلوا وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلَّدوا أنفسهم بالشَّعْر والوَبَر، وتقلد مشركو الحرم من لَحاء شجر الحرم، فيأمنون به.

رواه ابن أبي حاتم، ثم قال:حدثنا محمد بن عَمَّار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:نسخ من هذه السورة آيتان:آية القلائد، وقوله: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ المائدة:42 ] .

وحدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا زكريا بن عَدِيّ، حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، عن ابن عَوْن قال:قلت للحسن:نسخ من المائدة شيء؟ قال:لا.

وقال عطاء:كانوا يتقلدون من شجر الحرم، فيأمنون، فنهى الله عن قطع شجره. وكذا قال مُطرِّف بن عبد الله.

وقوله: ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) أي:ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام، الذي من دخله كان آمنا، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه.

قال مجاهد، وعطاء، وأبو العالية، ومُطَرِّف بن عبد الله، وعبد الله بن عُبَيد بن عُمير، والربيع بن أنس، وقتادة، ومُقاتل بن حَيَّان في قوله: ( يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ ) يعني بذلك:التجارة.

وهذا كما تقدم في قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ [ البقرة:198 ]

وقوله: ( وَرِضْوَانَا ) قال ابن عباس:يترضَّون الله بحجهم.

وقد ذكر عِكْرِمة، والسُّدِّي، وابن جُرَيْجٍ:أن هذه الآية نـزلت في الحُطم بن هند البكري، كان قد أغار على سَرْح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت، فأنـزل الله عز وجل ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ) .

وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله، إذا لم يكن له أمان، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس؛ فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم، والله أعلم. فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التوبة:28 ] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمَّر الصديق على الحجيج- علِيّا، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، وألا يحج بعد العام مُشْرِك، ولا يطوفن بالبيت عُرْيان .

وقال [ على ] بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) يعني من توجه قِبَل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنـزل الله بعدها: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ التوبة:28 ] وقال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [ التوبة:17 ] وقال [ تعالى ] : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ التوبة:18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام.

وقال عبد الرزاق:حدثنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ) قال:منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تَقلَّد من الشجر، فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة من شَعرٍ فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت، فنسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ التوبة:5 ] . .

وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ( وَلا الْقَلائِدَ ) يعني:إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوه، قال:ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك، قال الشاعر :

ألَـمْ تَقْتـُلا الحرْجَين إذ أعــورا لكم يمـرَّان الأيــدي اللَّحاء المُضَفَّـرا

وقوله: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) أي:إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد. وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السَّبْر:أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده واجبًا، وإن كان مستحبًا فمستحب، أو مباحًا فمباح. ومن قال:إنه على الوجوب، ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال:إنه للإباحة، يرد عليه آيات أخر، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم.

وقوله: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) ومن القراء من قرأ: « أن صدوكم » بفتح الألف من « أن » ومعناها ظاهر، أي:لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا [ في ] حكم الله فيكم فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [ المائدة:8 ] أي:لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد في كل حال.

وقال بعض السلف:ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سَهْل بن عثمان حدثنا عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنـزل الله هذه الآية .

والشنآن هو:البغض. قاله ابن عباس وغيره، وهو مصدر من شنَأته أشنؤه شنآنا، بالتحريك، مثل قولهم:جَمَزَان، ودَرَجَان ورَفَلان، من جمز، ودرج، ورفل. قال ابن جرير:من العرب من يسقط التحريك في شنآن، فيقول:شنان. قال:ولم أعلم أحدًا قرأ بها، ومنه قول الشاعر :

ومَـا العيـشُ إلا ما تُحـبُّ وتَشْتَـهي وَإنْ لامَ فيــه ذو الشنَّـان وفَنــَّدَا

وقوله: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل. والتعاون على المآثم والمحارم.

قال ابن جرير:الإثم:ترك ما أمر الله بفعله، والعدوان:مجاوزة ما حد الله في دينكم، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم .

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن جده أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا » . قيل:يا رسول الله، هذا نَصَرْتُه مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: « تحجزه تمنعه فإن ذلك نصره » .

انفرد به البخاري من حديث هُشَيْم به نحوه وأخرجاه من طريق ثابت، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انصر أخاك ظالما أو مظلوما » . قيل:يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: « تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يحيى بن وَثَّاب، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » .

وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر:حدثنا حجاج، حدثنا شعبة عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [ قال الأعمش:هو ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ] أنه قال: « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم » .

وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة، وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف، كلاهما عن الأعمش، به .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي، حدثنا بكر بن عبد الرحمن، حدثنا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن فُضَيْل بن عمرو، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الدَّالُّ على الخير كفاعله » . ثم قال:لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد .

قلت:وله شاهد في الصحيح: « من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا » .

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي، حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، قال عباس بن يونس:إن أبا الحسن نِمْرَان بن مخُمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام » .

 

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 3 )

يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي:ما مات من الحيوان حَتْف أنفه، من غير ذكاة ولا اصطياد، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة، لما فيها من الدم المحتقن، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله، عز وجل، ويستثني من الميتة السمك، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر، فقال: « هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته » .

وهكذا الجراد، لما سيأتي من الحديث، وقوله: ( وَالدَّمُ ) يعني [ به ] المسفوح؛ لقوله: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [ الأنعام:145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو- يعني ابن قيس- عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس:أنه سئل عن الطحال فقال:كلوه فقالوا:إنه دم. فقال:إنما حُرم عليكم الدم المسفوح.

وكذا رواه حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة، قالت:إنما نهى عن الدم السافح.

وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي:حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أحِلَّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال » .

وكذا رواه أحمد بن حنبل، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي:ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة، وعبد الله، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعا.

قلت:وثلاثتهم ضعفاء، ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرازي:وهو أصح.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسن، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا بَشير بن سُرَيج، عن أبي غالب، عن أبي أمامة - وهو صُدَيّ بن عجلان- قال:بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقَصْعَة من دم، فاجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا:هلم يا صُديّ، فكل. قال:قلت:ويحكم! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم هذا عليكم، وأنزل الله عليه، قالوا:وما ذاك؟ قال:فتلوت عليهم هذه الآية: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ] ) الآية.

ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله، وزاد بعد هذا السياق:قال:فجعلت أدعوهم إلى الإسلام، ويأبون علي، فقلت لهم:ويحكم، اسقوني شربة من ماء، فإني شديد العطش - قال:وعليّ عباءتي- فقالوا:لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال:فاغتممت وضربت برأسي في العباء، ونمت على الرمضاء في حر شديد، قال:فأتاني آت في منامي بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس [ شرابا ] ألذ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة.

ورواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن حُمْشاذ عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري، حدثنا صدقة بن هرمز، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قد ذكر نحوه وزاد بعد قوله: « بعد تيك الشربة » :فسمعتهم يقولون:أتاكم رجل من سراة قومكم، فلم تَمْجعَوه بمذقة، فأتوني بمذقة فقلت:لا حاجة لي فيها، إن الله أطعمني وسقاني، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.

وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق:

وإيـــاكَ والميتــات لا تقربنَّهــا ولا تـأخذن عظمًـا حـديدًا فتفصـدا

أي:لا تفعل كما يفعل الجاهلية، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه، فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة، ثم قال الأعشى:

وذا النّصُــب المنصـوبَ لا تَأتينّـه ولا تعبــد الأصنـام واللـه فـاعبدا

وقوله: ( وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ) يعني:إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله: فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا يعنون قوله تعالى: إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [ الأنعام:145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، حتى يعم جميع أجزائه، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب، ومن العرف المطرد، وفي صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لعب بالنردَشير فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه » فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.

وفي الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » . فقيل:يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويَسْتَصبِحُ بها الناس؟ فقال: « لا هو حرام » .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان:أنه قال لهرقل ملك الروم: « نهانا عن الميتة والدم » .

وقوله: ( وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) أي:ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام؛ لأن الله أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك، من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه، إما عمدًا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جُمَيْع، عن أبي الطُّفَيْل قال:نزل آدم بتحريم أربع:الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وإن هذه الأربعة الأشياء لم تحل قط، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم، عليه السلام، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [ عليه السلام ] وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه. وهذا أثر غريب.

وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا ربعي بن عبد الله قال:سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة - قال:هو جدي- قال:كان رجل من بني رَيَاح يقال له:ابن وَثَيِل، وكان شاعرا، نافر- غالبا- أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة، على أن يعقر هذا مائة من إبله، وهذا مائة من إبله، إذا وردت الماء، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها. قال:فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم - قال:وعَليٌّ بالكوفة- قال:فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي:يا أيها الناس، لا تأكلوا من لحومها فإنما أهل بها لغير الله.

هذا أثر غريب، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود:حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا حماد بن مَسْعَدة، عن عوف، عن أبي رَيْحانة، عن ابن عباس قال:نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب.

ثم قال أبو داود:محمد بن جعفر - هو غُنْدَر- أوقفه على ابن عباس. تفرد به أبو داود

وقال أبو داود أيضا:حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، حدثنا أبي، حدثنا جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت قال:سمعت عِكْرِمة يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.

ثم قال أبو داود:أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس. تفرد به أيضا.

وقوله: ( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا، بأن تَتَخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام.

وأما ( الْمَوْقُوذَةُ ) فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد:هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها فتموت.

وقال قتادة:كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها.

وفي الصحيح:أن عدي بن حاتم قال:قلت:يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب. قال: « إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه، وإن أصابه بعَرْضِه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله » .

ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله:

أحدهما: [ أنه ] لا يحل، كما في السهم، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.

والثاني:أنه يحل؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب، ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه؛ لأنه قد دخل في العموم. وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا. .

فصل:

اختلف العلماء رحمهم الله تعالى، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه، أو صدمه، هل يحل أم لا ؟ على قولين:

أحدهما:أن ذلك حلال؛ لعموم قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة:4 ] وكذا عمومات حديث عَدي بن حاتم. وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي، رحمه الله، وصححه بعض المتأخرين [ منهم ] كالنووي والرافعي.

قلت:وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر، فإنه قال في كلا الموضعين: « يحتمل معنيين » . ثم وجه كلا منهما، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به. والقول بذلك، أعني الحل، نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة، من رواية الحسن بن زياد، عنه، ولم يذكر غير ذلك وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر. وهذا غريب جدًا، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم، إلا أنه من تصرفه، رحمه الله ورضي عنه.

والقول الثاني:أن ذلك لا يحل، وهو أحد القولين عن الشافعي، رحمه الله، واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا، والله أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب، والله أعلم، لأنه أجرى عن القواعد الأصولية، وأمس بالأصول الشرعية. واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج، قلت:يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى، أفنذبح بالقَصَب؟ قال: « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه » . الحديث بتمامه وهو في الصحيحين.

وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع، كما سئل عليه السلام عن البتع - وهو نبيذ العسل- فقال: « كل شراب أسكر فهو حرام » أفيقول فقيه:إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره؛ لأنه عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم.

إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله، ليس مما أنهر دمه، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل:هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء؛ لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذَكَّى؛ ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر، حيث قال: « ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك:أما السن فعظم، وأما الظفر فَمُدى الحبشة » . والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم.

فالجواب عن هذا:بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا، حيث يقول: « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه » . ولم يقل: « فاذبحوا به » فهذا يؤخذ منه الحكمان معا، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها، وحكم المذكى، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا. هذا مسلك.

والمسلك الثاني:طريقة المُزَني، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعَرْضِه فلا تأكل، وإن خَزَق فَكُل. والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخَزْق؛ لأنهما اشتركا في الموجب، وهو الصيد، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل، بل هذا أولى. وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة، فلا بد لهم من جواب عن هذا. وله أن يقول:هذا قتله الكلب بثقله، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه والجامع أن كلا منهما آلة للصيد، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك بعموم الآية؛ لأن القياس مقدم على العموم، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور، وهذا مسلك حسن أيضا.

مسلك آخر، وهو:أن قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة:4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو: إما أن يكون نطيحا أو في حكمه، أو منخنقا أو في حكمه، وأيا ما كان فيجب تقديم [ حكم ] هذه الآية على تلك لوجوه:

أحدها:أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد، حيث يقول لعديّ بن حاتم: « وإن أصابه بعرضه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله » . ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية، فقال:إن الوقيذ معتبر حالة الصيد، والنطيح ليس معتبرا، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به، وهو محظور عند كثير من العلماء.

الثاني:أن تلك الآية: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [ المائدة:4 ] ليست على عمومها بالإجماع، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ. .

المسلك الآخر:أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء؛ لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات، فلا تحل قياسا على الميتة.

المسلك الآخر:أن آية التحريم، أعني قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) إلى آخرها، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة، أعني قوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ] [ المائدة:4 ] فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك، وشاهد ذلك قصة السهم، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية، وهو ما إذا خَزَفه المِعْرَاض فيكون حلالا؛ لأنه من الطيبات، وما دخل في حكم تلك الآية، آية التحريم، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل؛ لأنه وقيذ، فيكون أحد أفراد آية التحريم، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا.

فإن قيل:فلم لا فَصَّل في حكم الكلب، فقال ما ذكرتم:إن جرحه فهو حلال، وإن لم يجرحه فهو حرام؟

فالجواب:أن ذلك نادر؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر، وكذا قتله إياه بثقله، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك، بل خطؤه أكثر من إصابته؛ فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: « إن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه » وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين فقالوا:لا يحل ما أكل منه الكلب، حكي ذلك عن أبي هريرة، وابن عباس. وبه قال الحسن، والشعبي، والنخَعي. وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد بن حنبل، والشافعي في المشهور عنه. وروى ابن جرير في تفسيره عن علي، وسعد، وسلمان، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس:أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب، حتى قال سعد، وسلمان، وأبو هريرة وابن عمر، وغيرهم:يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة. وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم، وأومأ في الجديد إلى قولين، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.

وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب: « إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك » .

ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا يقال له:أبو ثعلبة قال:يا رسول الله، فذكر نحوه.

وقال محمد بن جرير في تفسيره:حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى- هو اللاحوني- حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي- عن أبي إياس - وهو معاوية بن قرة- عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي » .

ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب، عن سلمان موقوفا وأما الجمهور فقدموا حديث « عَديّ » على ذلك، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ، فأكل منه لجوعه ونحوه، فإنه لا بأس بذلك؛ لأنه - والحالة هذه؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه، والله أعلم.

فأما الجوارح من الطير فنص الشافعي على أنها كالكلاب، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور، ولا يحرم عند الآخرين. واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، قالوا:لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد، فيعفى عن ذلك، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في « الإفصاح » :إذا قلنا:يحرم ما أكل منه الكلب، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب، لنص الشافعي، رحمه الله على التسوية بينهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك، فلا تحل.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) التي تسقط من جبل. وقال قتادة:هي التي تتردى في بئر.

وقال السدي:هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.

وأما ( النَّطِيحَةُ ) فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها.

والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة، أي:منطوحة. وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة في كلام العرب بدون تاء التأنيث، فيقولون:كَفٌّ خضيب، وعينٌ كحيل، ولا يقولون:كف خضيبة، ولا عين كحيلة:وأما هذه فقال بعض النحاة:إنما استعمل فيها تاء التأنيث؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء، كما في قولهم:طريقة طويلة. وقال بعضهم:إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة، بخلاف:عين كحيل، وكف خضيب؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.

وقوله: ( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) أي:ما عدا عليها أسد، أو فهد، أو نمر، أو ذئب، أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين.

وقوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ) عائد على ما يمكن عوده عليه، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: ( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ )

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ) يقول:إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه، فهو ذكي. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، والحسن البصري، والسدي.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا حَفْص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: ( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ) قال:إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها، أو طَرَفَتْ بعينها فكُلْ.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال:إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها.

وهكذا رُوي عن طاوس، والحسن، وقتادة وعُبَيد بن عُمير، والضحاك وغير واحد:أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب:سُئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك:لا أرى أن تذكى أيّ شيء يُذَكَّى منها.

وقال أشهب:سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت، فيؤكل؟ قال إن كان قد بلغ السُّحْرة، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له:وثب عليه فدق ظهره؟ فقال: لا يعجبني، هذا لا يعيش منه. قيل له:فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ فقال:إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل.

هذا مذهب مالك، رحمه الله، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك، رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية، والله أعلم.

وفي الصحيحين:عن رافع بن خَدِيج أنه قال:قلت:يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقَصَب؟ فقال: « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السنُّ والظَّفُر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة » .

وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [ عن أبي هريرة ] مرفوعا، وفيه نظر، وروي عن عمر موقوفا، وهو أصح « ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق » .

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من رواية حماد بن سلمة، عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه قال:قلت:يا رسول الله، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق؟ فقال: « لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.»

وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما [ لم ] يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.

وقوله: ( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) قال مجاهد وابن جُرَيْج كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج:وهي ثلاثمائة وستون نصبا، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.

وكذا ذكره غير واحد، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.

وقوله تعالى: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) أي:حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام:واحدها:زُلَم، وقد تفتح الزاي، فيقال:زَلم، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك، وهي عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب: « افعل » وعلى الآخر: « لا تفعل » والثالث « غُفْل ليس عليه شيء. ومن الناس من قال:مكتوب على الواحد: » أمرني ربي « وعلى الآخر: » نهاني ربي « . والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله، أو الناهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد [ الاستقسام. ] »

والاستقسام:مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا الحجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) قال:والأزلام:قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور.

وكذا روي عن مجاهد، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن البصري، ومُقَاتِل بن حَيَّان.

وقال ابن عباس:هي القداح، كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمد بن إسحاق وغيره:أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له:هُبَل، وكان داخل الكعبة، منصوب على بئر فيها، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه، مما أشكل عليهم، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.

وثبت في الصحيح:أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها، وفي أيديهما الأزلام، فقال: « قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا. »

وفي الصحيح:أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال:فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره:لا تضرهم قال:فعصيت الأزلام وأتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره:لا تضرهم وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثم أسلم بعد ذلك.

وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رَقَبةَ، عن عبد الملك بن عُمَيْر، عن رَجاء بن حَيْوَة، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرًا » .

وقال مجاهد في قوله: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ) قال:هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.

وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار، فيه نظر، اللهم إلا أن يقال:إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة، وفي القمار أخرى، والله أعلم. فإن الله سبحانه [ وتعالى ] قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر، فقال في آخر السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ ] منتهون [ الآيتان:90، 91 ] وهكذا قال هاهنا: ( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) أي:تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه، ثم يسألوه الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول: « إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل:اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم؛ فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم، وأنت عَلام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم هذا الأمر - ويسميه باسمه- خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي وبارك لي فيه، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري، فاصْرِفْنِي عنه، واصرفه عنِّي، واقْدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به » . لفظ أحمد.

وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.

قوله: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني:يئسوا أن يراجعوا دينهم..

وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان. وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب، ولكن بالتَّحْرِيش بينهم » .

ويحتمل أن يكون المراد:أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار، ولا يخافوا أحدا إلا الله، فقال: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) أي:لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم، وأشف صدوركم منهم، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.

وقوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) هذه أكبر نعم الله ، عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [ الأنعام:115 ] أي:صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم ؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) أي:فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا.

وقال أسباط عن السدي:نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عُمَيس:حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ تَجلَّى له جبريل، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا كان علي.

قال ابن جُرَيْج وغير واحد:مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.

رواهما ابن جرير، ثم قال:حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن فُضَيْل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال:لما نزلت ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ما يبكيك؟ » قال:أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذْ أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال: « صدقت » .

ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: « إن الإسلام بدأ غَرِيبًا، وسيعود غريبا، فَطُوبَى للغُرَبَاء » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا جعفر بن عَوْن، حدثنا أبو العُمَيْس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال:جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] فقال:يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال:وأي آية؟ قال قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) فقال عمر:والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة.

ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون، به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي، من طرق عن قيس بن مسلم، به ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري، عن قيس، عن طارق قال:قالت اليهود لعمر:إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر:إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت:يوم عرفة، وأنا والله بعرفة - قال سفيان:وأشك كان يوم الجمعة أم لا ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) الآية.

وشك سفيان، رحمه الله، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري، رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا رَجاء بن أبي سلمة، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ، أخبرنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر بن جرير:هو إسحاق بن خَرَشة- عن قَبِيصة - يعني ابن ذُؤيب- قال:قال كعب:لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر:أي آية يا كعب؟ فقال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فقال عمر:قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا قَبيصة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار- هو مولى بني هاشم- أن ابن عباس قرأ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) فقال يهودي:لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عباس:فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين:يوم عيد ويوم جمعة.

وقال ابن مَرْدُويه:حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا يحيى بن الحُمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سَلْمان، عن أبي عمر البَزّار، عن ابن الحنفية ، عن علي [ رضي الله عنه ] قال:نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )

وقال ابن جرير:حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش، حدثنا عمرو بن قيس السكوني:أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) حتى ختمها، فقال:نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة.

وروى ابن مَرْدُويه، من طريق محمد بن إسحاق، عن عمر بن موسى بن وجيه، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة قال:نزلت هذه الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا ) يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف.

فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة، عن خالد بن أبي عمران، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس قال:ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، [ ونبئ يوم الاثنين ] وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ورفع الذكر يوم الاثنين، فإنه أثر غريب وإسناده ضعيف.

وقد رواه الإمام أحمد:حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حَنَش الصنعاني، عن ابن عباس قال:ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين.

هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم، فاشتبه على الراوي، والله أعلم.

[ و ] قال ابن جرير:وقد قيل:ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، ثم روي من طريق العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) يقول:ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال:وقد قيل:إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس.

قلت:وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي، عن أبي سعيد الخدري؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم حين قال لعلي: « من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه » . ثم رواه عن أبي هريرة وفيه:أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، يعني مرجعه عليه السلام من حجة الوداع.

ولا يصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية:أنها أنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسَمُرَة بن جندب، رضي الله عنهم، وأرسله [ عامر ] الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري، رحمه الله.

وقوله: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، والله غفور رحيم له؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبَّان، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته » لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة « . »

ولهذا قال الفقهاء:قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، و [ قد ] يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا:هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال، كما هو مقرر في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير، أو صيدًا وهو محرم:هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له، وقد قال الإمام أحمد:حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا:يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة، فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: « إذا لم تَصْطَبِحوا، ولم تَغْتَبِقُوا، ولم تَجتفئوا بقْلا فشأنكم بها » .

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين. وكذا رواه ابن جرير، عن عبد الأعلى بن واصل، عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي به لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد - أو أبي مرثد- عن أبي واقد، به ورواه ابن جرير عن هناد بن السري، عن عيسي بن يونس، عن حسان، عن رجل قد سمي له، فذكره. ورواه أيضا عن هناد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن حسان، مرسلا

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عَوْن قال:وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة، فقرأته عليه، فكان فيه: « ويُجزي من الأضرار غَبُوق أو صبوح » .

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا هُشَيْم، عن الخَصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [ إلى ] متى يحل [ لي ] الحرام؟ قال:فقال: « إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم » .

حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عن جدته ؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « تَحِلُّ لك الطيبات، وتَحْرُم عليك الخبائث إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه » . فقال الرجل:وما فَقْرِي الذي يحل لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا كنت ترجو نِتَاجًا، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك إلى نتاجك، أو كنت ترجو غِنًى، تطلبه، فتبلغ من ذلك شيئا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه » . فقال الأعرابي:ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال [ النبي ] صلى الله عليه وسلم: « إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام، وأما مالك فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام » .

ومعنى قوله: « ما لم تصطبحوا » :يعني به:الغداء، « وما لم تغتبقوا » :يعني به:العشاء، « أو تختفئوا بقلا فشأنكم بها » [ أي ] فكلوا منها. وقال ابن جرير:يروى هذا الحرف - يعني قوله: « أو تختفئوا [ بقلا ] على أربعة أوجه: » تختفئوا « بالهمزة، » وتحتفيوا « بتخفيف الياء والحاء، » وتحتفوا « بتشديد [ الفاء ] وتحتفوا » بالحاء وبالتخفيف، ويحتمل الهمز، كذا ذكره في التفسير.

حديث آخر:قال أبو داود:حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

ما يحل لنا من الميتة؟ قال: « ما طعامكم؟ » قلنا:نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم:فَسَّرَه لي عقبة:قدح غُدوة، وقدح عَشيَّة قال: « ذَاكَ وأبي الجُوعُ » . وأحل لهم الميتة على هذه الحال.

تفرد به أبو داود وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرَّمَق، والله أعلم.

حديث آخر:قال أبو داود:حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا سماك، عن جابر بن سَمُرَة، أن رجلا نزل الحَرَّةَ، ومعه أهله وولده، فقال له رجل:إن ناقة لي ضَلَّت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها ولم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته:انحرها، فأبى، فَنَفَقَتْ، فقالت له امرأته:اسلخها حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله. فقال:حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله، فقال: « هل عندك غنًى يُغْنِيك؟ » قال:لا. قال: « فكلوها » . قال:فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال:هلا كنت نحرتها؟ قال:استحييت منك.

تفرد به وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.

وقوله: ( غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ ) أي: [ غير ] مُتَعَاطٍ لمعصية الله، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر، كما قال في سورة البقرة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الآية:173 ] .

وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأن الرخص لا تنال بالمعاصي، والله أعلم.

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 4 )

لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها، إما في بَدَنِه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة، كما قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [ الأنعام:119 ] قال بعدها: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) كما [ قال ] في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم:أنه يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [ الآية:157 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني عبد الله بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر، عن عَدِيّ بن حاتم، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا يا رسول الله، قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) قال سعيد [ بن جبير ] يعني:الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: [ بن حيان ] [ في قوله: ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) ] فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال:ليس هو من الطيبات.

رواه ابن أبي حاتم وقال ابن وَهْبٍ:سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال:ليس هو من الطيبات.

وقوله تعالى: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) أي:أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك:علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) وهن الكلاب المعلمة والبازي، وكل طير يعلم للصيد والجوارح:يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.

رواه ابن أبى حاتم، ثم قال:وروي عن خَيْثَمَة، وطاوس، ومجاهد، ومكحول، ويحيى بن أبي كثير، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنه قال:الباز والصقر من الجوارح. وروي عن علي بن الحسين مثله. ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله، وقرأ قول الله [ عز وجل ] ( وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) قال:وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك.

ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي، ثم قال:حدثنا هَنَّاد، حدثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ، عن نافع، عن ابن عمر قال:أما ما صاد من الطير البُزاة وغيرها من الطير، فما أدركتَ فهو لك، وإلا فلا تطعمه.

قلت:والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد، حدثنا عيسي بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: « ما أمسك عليك فَكُلْ » .

واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ » فقلت:ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: « الكلب الأسود شيطان » وفي الحديث الآخر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: « ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كل أسود بَهِيم » .

وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن:جوارح، من الجرح، وهو:الكسب. كما تقول العرب:فلان جَرح أهله خيرا، أي:كسبهم خيرا. ويقولون:فلان لا جارح له، أي:لا كاسب له، وقال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [ الأنعام:60 ] أي:ما كسبتم من خير وشر.

وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم:حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقتلت، فجاء الناس فقالوا:يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال:فسكت، فأنزل الله: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أرسل الرجل كلبه وسَمَّى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل » .

وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زيد بن الحباب بإسناده، عن أبي رافع قال:جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فأذن له فقال:قد أذنا لك يا رسول الله. قال:أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، قال أبو رافع:فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا:يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال:فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:فأنزل الله عز وجل: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ )

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق، عن أبَان بن صالح، به. وقال:صحيح ولم يخرجاه.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرَمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب، حتى بلغ العَوالي فدخل عاصم بن عَدِيٍّ، وسعد بن خَيْثَمةَ، وعُوَيْم بن ساعدة، فقالوا:ماذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ) [ الآية ]

ورواه الحاكم من طريق سِمَاك، عن عكرمة وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية:إنه في قتل الكلاب.

وقوله تعالى: ( مُكَلِّبِينَ ) يحتمل أن يكون حالا من الضمير في ( عَلَّمْتُمْ ) فيكون حالا من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو ( الْجَوَارِحِ ) أي:وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد، وذلك أن تقتنصه [ الجوارح ] بمخالبها أو أظفارها فيستدل بذلك - والحالة هذه- على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء؛ ولهذا قال: ( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ) وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد، وإن قتله بالإجماع.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال:قلت:يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله. فقال: « إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك » . قلت:وإن قتلن؟ قال: « وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره » . قلت له:فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد فأصيب؟ فقال: « إذا رميت بالمعراض فَخَزق فكله، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ، فلا تأكله » . وفي لفظ لهما: « إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاته » . وفي رواية لهما: « فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه. » فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا:لا يحرم مطلقا.

ذكر الآثار بذلك:

قال ابن جرير:حدثنا هَنَّاد، حدثنا وَكِيع، عن شُعْبَة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال:قال سلمان الفارسي:كل وإن أكل ثلثيه - يعني الصيد- إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة، وعمر بن عامر، عن قتادة. وكذا رواه محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان.

ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ والقاسم؛ أن سلمان قال:إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.

وقال ابن جرير:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم الدؤلي؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال:كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة - يعني: [ إلا ] بضعة.

ورواه شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن بكير بن الأشَجِّ، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال:كل وإن أكل ثلثيه.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن المُثَنَّى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة قال:لو أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المُعْتَمِر قال:سمعت عُبَيد الله وحدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر- عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال:إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.

وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد، عن نافع.

فهذه الآثار ثابتة عن سلمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وابن عمر. وهو محكي عن علي، وابن عباس. واختلف فيه عن عطاء، والحسن البصري. وهو قول الزهري، وربيعة، ومالك. وإليه ذهب الشافعي في القديم، وأومأ إليه في الجديد.

وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا، فقال ابن جرير:حدثنا عمران بن بَكَّار الكُلاعِيّ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني، حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي- عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة، عن سعيد بن المسيَّب، عن سلمان الفارسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه، وقد أكل منه، فليأكل ما بقي » .

ثم قال ابن جرير:وفي إسناد هذا الحديث نظر، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان، والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع.

وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر، فقال أبو داود:حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا حبيب المعلم، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن أعرابيا - يقال له:أبو ثعلبة- قال:يا رسول الله، إن لي كلابا مُكَلَّبة، فأفتني في صيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك » . فقال:ذكيا وغير ذكي؟ قال: « نعم » . قال:وإن أكل منه؟ قال: « نعم، وإن أكل منه » . قال:يا رسول الله، أفتني في قوسي. فقال: « كُلْ ما ردت عليك قوسك » قال:ذكيا وغير ذكي؟ قال: « وإن تغيب عنك ما لم يصل، أو تجد فيه أثر غير سهمك » . قال:أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: « اغسلها وكل فيها » . .

هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود، من طريق بُسْر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك »

وهذان إسنادان جيدان، وقد روى الثوري، عن سِماك بن حَرْب، عن عَدِيٍّ قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما كان من كلب ضار أمسك عليك، فكل » . قلت:وإن أكل؟ قال: « نعم » .

وروى عبد الملك بن حبيب:حدثنا أسد بن موسى، عن ابن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عَدي مثله.

فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب. وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، كما تقدم عمن حكيناه عنهم، وقد توسط آخرون فقالوا:إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم. وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم: « فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه » وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل من الصيد لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِيّ، وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح. وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه « النهاية » أن لو فصل مفصل هذا التفصيل، وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عَدِيّ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس؛ أنه قال في الطير:إذا أرسلته فقتل فكل، فإن الكلب إذا ضربته لم يَعُدْ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل.

وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان.

وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد، حدثنا المحاربي، حدثنا مُجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال:قلت:يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فما يحل لنا منها؟ قال: « يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه » ثم قال: « ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك » . قلت:وإن قتل؟ قال: « وإن قتل، ما لم يأكل » . قلت:يا رسول الله، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها؟ قال:فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك « . قال:قلت:إنا قوم نرمي، فما يحل لنا؟ قال: » ما ذكرت اسم الله عليه وخزَقَتْ فكل « .»

فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة، فدل على التفرقة بينهما في الحكم، والله أعلم.

وقوله: ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) أي:عند الإرسال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك » . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا: « إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله » ؛ ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [ بن حنبل ] - في المشهور عنه - التسمية - عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور، أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال، كما قال السُّدِّي وغير واحد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) يقول:إذا أرسلت جارحك فقل:باسم الله، وإن نسيت فلا حرج.

وقال بعض الناس:المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال: « سَمّ الله، وكُل بيمينك، وكل مما يليك » . وفي صحيح البخاري:عن عائشة أنهم قالوا:يا رسول الله، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر- بلُحْمانٍ لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: « سَمّوا الله أنتم وكلوا. »

حديث آخر:وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا هشام، عن بُدَيل، عن عبد الله بن عُبَيد بن عُمَير، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل:باسم الله أوله وآخره » .

وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، به وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة، فإنه لم يسمع منها هذا الحديث، بدليل ما رواه الإمام أحمد:

حدثنا عبد الوهاب، أخبرنا هشام - يعني ابن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي- عن بديل، عن عبد الله بن عبيد بن عمير؛ أن امرأة منهم - يقال لها:أم كلثوم- حدثته، عن عائشة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين، فقال: « أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل:باسم الله أوله وآخره » .

[ و ] رواه أحمد أيضا، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من غير وجه، عن هشام الدستوائي، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

حديث آخر:وقال أحمد:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا جابر بن صبح حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي، وصحبته إلى واسط، فكان يسمي في أول طعامه وفي آخر لقمة يقول:بسم الله أوله وآخره.

فقلت له:إنك تسمي في أول ما تأكل، أرأيت قولك في آخر ما تأكل:باسم الله أوله وآخره؟ فقال:أخبرك عن ذلك إن جدي أمية بن مخشى - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- سمعته يقول:إن رجلا كان يأكل، والنبي ينظر، فلم يسم، حتى كان في آخر طعامه لقمة، فقال:باسم الله أوله وآخره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سَمّى، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه » .

وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري ووثقه ابن مَعِين والنسائي، وقال أبو الفتح الأزدي:لا تقوم به الحجة.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن خَيْثَمَة، عن أبي حذيفة قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد:واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود- عن حذيفة قال:كنا إذا حضرنا مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على طعام، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيضع يده، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية، كأنما تُدفع، فذهبت تضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، وجاء أعرابي كأنما يُدفع، فذهب يضع يده في الطعام، فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يَسْتَحِلُّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده، إن يده في يدي مع يدهما يعني الشيطان. وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث الأعمش به. »

حديث آخر:روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طريق ابن جُرَيْج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان:لا مَبِيت لكم ولا عَشَاء، وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان:أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال:أدركتم المبيت والعشاء » . لفظ أبي داود.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، عن وَحْشِيّ بن حَرْب بن وَحْشِي بن حَرْب، عن أبيه، عن جده؛ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:إنا نأكل وما نشبع؟ قال: « فلعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله، يبارك لكم فيه » .

ورواه أبو داود، وابن ماجه، من طريق الوليد بن مسلم.

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 5 )

لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث، وما أحله لهم من الطيبات، قال بعده: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )

ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى، فقال: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) قال ابن عباس، وأبو أمامة، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة، وعَطاء، والحسن، ومَكْحول، وإبراهيم النَّخَعِي، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيَّان:يعني ذبائحهم.

وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء:أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم، تعالى وتقدس. وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل قال:دُلِّي بجراب من شحم يوم خيبر. [ قال ] فاحتضنته وقلت:لا أعطي اليوم من هذا أحدًا، والتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم.

فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناولُ ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة، وهذا ظاهر. واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم. فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله؛ لقوله تعالى: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) قالوا:وهذا ليس من طعامهم. واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظر؛ لأنه قضية عين، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما، والله أعلم.

وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح:أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مَصْليَّة، وقد سَمّوا ذراعها، وكان يعجبه الذراع، فتناوله فنَهَشَ منه نَهْشةً، فأخبره الذراع أنه مسموم، فلَفَظَه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبْهَرِه، وأكل معه منها بشر بن البراء بن مَعْرور؛ فمات، فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب، فقتلت ببشر بن البراء.

ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.

وفي الحديث الآخر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنَخَة، يعني:ودَكا زنخا

وقال ابن أبي حاتم:قرئ على العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان بن المنذر، عن مكحول قال:أنزل الله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [ الأنعام:121 ] ثم نسخها الرب، عز وجل، ورحم المسلمين، فقال: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) فنسخها بذلك، وأحل طعام أهل الكتاب.

وفي هذا الذي قاله مكحول، رحمه الله، نظر، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحةُ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم، وهم متعبدون بذلك؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة، ومن تَمَسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء، ونصارى العرب كبني تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.

[ و ] قال أبو جعفر بن جرير:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن محمد بن عَبِيدة قال:قال علي:لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب؛ لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر.

وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، والحسن؛ أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب.

وأما المجوس، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال عنه الإمام أحمد:أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سُنوا بهم سنة أهل الكتاب » ، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ، وإنما الذي في صحيح البخاري:عن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة- على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل

وقوله: ( وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) أي:ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى، أي:ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ ابن سلول حين مات ودفنه فيه، قالوا:لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك، فأما الحديث الذي فيه: « لا تَصْحَبْ إلا مُؤْمِنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي » فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم.

وقوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ) أي:وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده، وهو قوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم ) فقيل: أراد بالمحصنات:الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد. وإنما قال مجاهد:المحصنات:الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه. وهو قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: « حَشفَا وسَوء كيلة » . والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات:العفيفات عن الزنا، كما قال في الآية الأخرى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [ النساء:25 ] .

ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) هل يعم كل كتابية عفيفة، سواء كانت حرة أو أمة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف، ممن فسر المحصنة بالعفيفة. وقيل:المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات، وهو مذهب الشافعي. وقيل:المراد بذلك:الذميات دون الحربيات؛ لقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] [ التوبة:29 ]

وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية، ويقول:لا أعلم شركا أعظم من أن تقول:إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية [ البقرة:221 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المُزَنِيّ- حدثنا إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي مالك الغفاري، عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآية: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال:فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فنكح الناس [ من ] نساء أهل الكتاب.

وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا، أخذا بهذه الآية الكريمة: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فجعلوا هذه مخصصة للآية التي البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [ الآية:221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها ؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كما قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [ البينة:1 ] وكقوله وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا الآية [ آل عمران:20 ] ، وقوله: ( إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي: مهورهن، أي:كما هن محصنات عفائف، فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس. وقد أفتى جابر بن عبد الله، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها:أنه يفرق بينه وبينها، وتَرُدّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم..

وقوله: ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) فكما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة- عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا؛ ولهذا قال: ( غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) وهم:الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم، ( وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) أي:ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء سواء؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا؛ لهذه الآية وللحديث الآخر: « لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله. »

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بَشّار، حدثنا سليمان بن حَرْب، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن قال:قال عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] لقد هممت ألا أدع أحدًا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب:يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب.

وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [ النور:3 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 6 )

قال كثيرون من السلف:قوله: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) معناه وأنتم مُحْدِثون.

وقال آخرون:إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وكلاهما قريب.

وقال آخرون:بل المعنى أعم من ذلك، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب، وفي حق المتطهر على سبيل الندب والاستحباب. وقد قيل:إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ.

قال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن عَلْقَمَة بن مرثد، عن سليمان بن بُرَيْدة عن أبيه قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر:يا رسول الله، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟ قال: « إني عمدًا فعلته يا عمر. »

وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد ووقع في سنن ابن ماجه، عن سفيان عن محارب بن دِثَار - بدل علقمة بن مرثد- كلاهما عن سليمان بن بُريدة به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عباد بن موسى، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي، حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال:رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدث، توضأ ومسح بفضل طَهُوره الخفين. فقلت:أبا عبد الله، شيء تصنعه برأيك؟ قال:بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه، كما رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يصنع.

وكذا رواه ابن ماجه، عن إسماعيل بن تَوْبة، عن زياد البكائي، به وقال أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال:قلت له:أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، عَمَّن هو؟ قال:حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؛ أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة وَوُضِع عنه الوضوء، إلا من حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك، كان يفعله حتى مات.

وكذا رواه أبو داود، عن محمد بن عَوْف الحِمْصِيّ، عن أحمد بن خالد الذهني، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ثم قال أبو داود:ورواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق فقال:عبيد الله بن عبد الله بن عمر، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد.

وأيا ما كان فهو إسناد صحيح، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حَبَّان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر:رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان، به، والله أعلم. وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك، كما هو مذهب الجمهور. .

وقال ابن جرير:حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا أزْهَر، عن ابن عَوْن، عن ابن سِيرين:أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبَة، سمعت مسعود بن علي الشيباني، سمعت عِكْرِمة يقول:كان علي، رضي الله عنه، يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) الآية.

وحدثنا ابن المثنى، حدثني وَهْب بن جرير، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النـزال بن سبرة قال:رأيت عليًا صلى الظهر، ثم قعد للناس في الرّحْبة، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال هذا وضوء من لم يُحْدث.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم عن مغيرة، عن إبراهيم؛ أن عليًا اكماز من حُبٍّ، فتوضأ وضوءا فيه تجوّز فقال:هذا وضوء من لم يحدث « . وهذه طرق جيدة عن علي [ رضي الله عنه ] يقوي بعضها بعضا. »

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن حُمَيْد، عن أنس قال:توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تَجَوّز، خفيفا، فقال هذا وضوء من لم يحدث. وهذا إسناد صحيح.

وقال محمد بن سيرين:كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة..

وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال:الوضوء من غير حدث اعتداء. فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ، حدثنا سفيان، عن عمرو بن عامر الأنصاري، سمعت أنس بن مالك يقول:كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال:قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال:كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.

وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عَمْرو بن عامر، به.

وقال ابن جرير:حدثني أبو سعيد البغدادي، حدثنا إسحاق بن منصور، عن هُرَيم، عن عبد الرحمن بن زياد - هو الإفريقي- عن أبي غُطَيف، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من توضأ على طُهْر كتب له عشر حسنات » .

ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس، عن الإفريقي، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، فذكره، وفيه قصة.

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث الإفريقي، به نحوه وقال الترمذي:وهو إسناد ضعيف.

قال ابن جرير:وقد قال قوم:إن هذه الآية نـزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة، دون غيرها من الأعمال؛ وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ.

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عن عبد الله بن عَلْقَمَة بن الفَغَواء، عن أبيه، قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى نـزلت آية الرخصة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) الآية.

ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم، عن أبي كُرَيْب، به نحوه. وهو حديث غريب جدًا، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي، ضعفوه.

وقال أبو داود:حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب،عن عبد الله بن أبي مُلَيكة، عن عبد الله بن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فَقُدِّم إليه طعام، فقالوا:ألا نأتيك بوَضُوء فقال: « إنما أمرت بالوضوء إذا قُمْتُ إلى الصلاة. »

وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن مَنِيع والنسائي عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل - وهو ابن علية- به وقال الترمذي:هذا حديث حسن.

وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس قال:كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء، ثم إنه رجع فأتى بطعام، فقيل:يا رسول الله، ألا تتوضأ؟ فقال: « لِمَ؟ أأصلي فأتوضأ؟ » .

وقوله: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) قد استدل طائفة من العلماء بقوله: ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) على وجوب النية في الوضوء؛ لأن تقدير الكلام: « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها » ، كما تقول العرب: « إذا رأيت الأمير فقم » أي:له. وقد ثبت في الصحيحين حديث: « الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى » . ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه؛ لما ورد في الحديث من طرق جيدة، عن جماعة من الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه » .

ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا استيقظ أحدكم من نَوْمِه، فلا يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت يده » .

وحَدُّ الوجه عند الفقهاء:ما بين منابت شعر الرأس - ولا اعتبار بالصَّلع ولا بالغَمَم- إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا، وفي النـزعتين والتحذيف خلاف، هل هما من الرأس أو الوجه، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان، أحدهما:أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة. وروي في حديث:أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته، فقال: « اكشفها، فإن اللحية من الوجه » وقال مجاهد:هي من الوجه، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته:طلع وجهه.

ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كَثَّة، قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن جَمْرَة، عن أبي وائل قال:رأيت عثمان توضأ - فذكر الحديث- قال:وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت.

رواه الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي:حسن صحيح، وحسنه البخاري.

وقال أبو داود:حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع، حدثنا أبو المَلِيح، حدثنا الوليد بن زَوْرَانَ عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كَفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه، يخلل به لحيته، وقال: « هكذا أمرني به ربي عز وجل. »

تفرد به أبو داود وقد رُوي هذا من غير وجه عن أنس. قال البيهقي:وروينا في تخليل اللحية عن عمار، وعائشة، وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن علي وغيره، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر، والحسن بن علي، ثم عن النخعي، وجماعة من التابعين.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها:أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق، فاختلف الأئمة في ذلك:هل هما واجبان في الوضوء والغسل، كما هو مذهب أحمد بن حنبل، رحمه الله؟ أو مستحبان فيهما، كما هو مذهب الشافعي ومالك؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خُزَيمة، عن رفاعة بن رافع الزّرقي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: « توضأ كما أمرك الله » أو يجبان في الغسل دون الوضوء، كما هو مذهب أبي حنيفة؟ أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من توضأ فليستنثر » وفي رواية: « إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر » والانتثار:هو المبالغة في الاستنشاق.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس؛ أنه توضأ فغسل وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه. ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من ماء، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله اليسرى، ثم قال:هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يتوضأ.

ورواه البخاري، عن محمد بن عبد الرحيم، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي، به

وقوله: ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) أي:مع المرافق، كما قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [ النساء:2 ]

وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي، من طريق القاسم بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جده، عن جابر بن عبد الله قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. ولكن القاسم هذا متروك الحديث، وجده ضعيف والله أعلم.

ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه؛ لما روى البخاري ومسلم، من حديث نُعَيم المُجْمِر، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل » .

وفي صحيح مسلم:عن قُتَيْبَة، عن خَلَف بن خليفة، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: « تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » .

وقوله: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) اختلفوا في هذه « الباء » هل هي للإلصاق، وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر، على قولين. ومن الأصوليين من قال:هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- :هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد:نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه.

وفي حديث عبد خير، عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.

ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.

وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية.

وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح، لا يتقدر ذلك بحدٍّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه.

واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة، قال:تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال: « هل معك ماء؟ » فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه... وذكر باقي الحديث، وهو في صحيح مسلم، وغيره.

فقال لهم أصحاب الإمام أحمد:إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة، والله أعلم.

ثم اختلفوا في أنه:هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا، كما هو المشهور من مذهب الشافعي، أو إنما يستحب مسحة واحدة، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه، على قولين. فقال عبد الرزاق:عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن حُمْران بن أبان قال:رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك ثم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: « من تَوَضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه » .

أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة، عن عثمان في صفة الوضوء:ومسح برأسه مرة واحدة وكذا من رواية عبد خير، عن علي مثله.

واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عثمان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:توضأ ثلاثا ثلاثا.

وقال أبو داود:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا عبد الرحمن بن وَرْدَان، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني حمران قال:رأيت عثمان بن عفان توضأ. فذكر نحوه، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، قال فيه:ثم مسح رأسه ثلاثا، ثم غسل رجليه ثلاثا، ثم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا وقال: « من توضأ دون هذا كفاه. »

تفرد به أبو داود ثم قال:وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.

وقوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قُرئ: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب عطفا على ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا وُهَيْب، عن خالد، عن عِكَرِمة، عن ابن عباس؛ أنه قرأها: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) يقول:رجعت إلى الغسل.

وروي عن عبد الله بن مسعود، وعُرْوَة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، والضحاك، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم التيمي، نحو ذلك.

وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل، كما قاله السلف، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب كما هو مذهب الجمهور، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء، و « الواو » لا تدل على الترتيب. وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا، فمنهم من قال:الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة؛ لأنه مأمور به بفاء التعقيب، وهي مقتضية للترتيب، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده، بل القائل اثنان، أحدهما:يوجب الترتيب، كما هو واقع في الآية. والآخر يقول:لا يجب الترتيب مطلقا، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء، فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع، حيث لا فارق. ومنهم من قال:لا نسلم أن « الواو » لا تدل على الترتيب، بل هي دالة - كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء. ثم نقول - بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي- :هي دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت، خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [ البقرة:158 ] ثم قال: « ابدأ بما بدأ الله به » لفظ مسلم، ولفظ النسائي: « ابدءوا بما بدأ الله به » . وهذا لفظ أمر، وإسناده صحيح، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا، والله أعلم.

ومنهم من قال:لما ذكر تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب، فقطع النظير عن النظير، وأدخل الممسوح بين المغسولين، دل ذلك على إرادة الترتيب.

ومنهم من قال:لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال: « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » قالوا:فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب، ولا قائل به، فوجب ما ذكره.

وأما القراءة الأخرى، وهي قراءة من قرأ: ( وَأَرْجُلِكُمْ ) بالخفض. فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين؛ لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس. وقد رُوي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح، فقال ابن جرير:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، حدثنا حُمَيْد قال:قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده:يا أبا حمزة، إن الحجاج خَطَبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال:اغسلوا وجوهكم وأيديكم، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورهما عَرَاقيبهما فقال أنس:صدق الله وكذب الحجاج، قال الله [ تعالى ] ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال:وكان أنس إذا مسح قدميه بَلَّهما إسناد صحيح إليه.

وقال ابن جرير:حدثنا علي بن سَهْل، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا حماد، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال:نـزل القرآن بالمسح، والسنة الغسل وهذا أيضا إسناد صحيح.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا محمد بن قَيْس الخراساني، عن ابن جُرَيْج، عن عمرو بن دينار، عن عِكرِمة، عن ابن عباس قال:الوضوء غَسْلتَان ومسحتان.

وكذا روى سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثني أبي، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَريّ، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قال:هو المسح. ثم قال:وروي عن ابن عمر وعلقمة، وأبي جعفر، [ و ] محمد بن علي، والحسن - في إحدى الروايات- وجابر بن زيد، ومجاهد - في إحدى الروايات- نحوه.

وقال ابن جرير:حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب، قال:رأيت عكرمة يمسح على رجليه، قال:وكان يقوله.

وقال ابن جرير:حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال:نـزل جبريل بالمسح. ثم قال الشعبي:ألا ترى أن « التيمم » أنْ يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟

وحدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد، أخبرنا إسماعيل، قلت لعامر:إن ناسا يقولون:إن جبريل نـزل بغسل الرجلين؟ فقال:نـزل جبريل بالمسح.

فهذه آثار غريبة جدًا، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف، لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين. وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام، كما في قول العرب: « جُحْرُ ضَب خربٍ » ، وكقوله تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ [ الإنسان:21 ] وهذا سائغ ذائع، في لغة العرب شائع. ومنهم من قال:هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان، قاله أبو عبد الله الشافعي، رحمه الله. ومنهم من قال:هي دالة على مسح الرجلين، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف، كما وردت به السنة. وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا، لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها.

ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي، حيث قال:أخبرنا أبو علي الروذباري، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن مَيْسَرَة، سمعت النـزال بن سَبْرَة يحدث عن علي بن أبي طالب، أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رَحَبَة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء، فأخذ منه حفنة واحدة، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم، ثم قال:إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صنع ما صنعتُ. وقال: « هذا وضوء من لم يحدث » .

رواه البخاري في الصحيح، عن آدم، ببعض معناه.

ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف، فقد ضل وأضل. وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، فلم يحقق مذهبه في ذلك، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دَلْكَهما ليذهب ما عليهما، ولكنه عَبَّر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما، فحكاه من حكاه كذلك؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل، سواء تقدمه أو تأخر عليه؛ لاندراجه فيه، وإنما أراد الرجلُ ما ذكرتهُ، والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضًا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين، في قوله: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) خفضا على المسح وهو الدلك ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه.

ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه:

قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي، وابن عباس ومعاوية، وعبد الله بن زيد بن عاصم، والمقداد بن معد يكرب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة، وإما مرتين، أو ثلاثا، على اختلاف رواياتهم.

وفي حديث عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه، ثم قال: « هذا وُضُوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » .

وفي الصحيحين، من رواية أبي عَوَانة، عن أبي بِشْر، عن يوسف بن مَاهَك، عن عبد الله بن عمرو قال:تَخَلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدرَكَنا وقد أرْهَقَتْنَا الصلاةُ، صلاةُ العصر ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: « أسبِغوا الوضوء وَيْلٌ للأعقاب من النار » .

وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار » .

وروى الليث بن سعد، عن حَيْوة بن شُرَيْح، عن عُقْبة بن مسلم، عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « وَيْلٌ للأعْقَاب وبُطون الأقدام من النار » . رواه البيهقي والحاكم وهذا إسناد صحيح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق:أنه سمع سعيد بن أبي كرب - أو شعيب بن أبي كرب - قال:سمعت جابر بن عبد الله - وهو على جمل - يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ويل للعراقيب من النار » .

وحدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب عن جابر بن عبد الله قال:رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْل رَجُل منا مثْل الدرهم لم يغسله، فقال: « ويل للعَقِبِ من النار » .

ورواه ابنُ ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن الأحْوص عن أبي إسحاق، عن سعيد، به نحوه وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن سعيد بن أبي كرب عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. ثم قال:

حدثنا علي بن مسلم، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضئون، لم يصب أعْقابهم الماءُ، فقال: « وَيْلٌ للعَراقِيبِ من النار » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا خَلَف بن الوليد، حدثنا أيوب بن عُتْبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن مُعَيْقيب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ويل للأعقاب من النار » . تفرد به أحمد.

وقال ابن جرير:حدثني علي بن عبد الأعلى، حدثنا المحاربي، عن مُطَرَّح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار » . قال:فما بقي في المسجد شَرِيف ولا وَضِيع، إلا نظرت إليه يُقلب عُرْقوبيه ينظر إليهما « . »

وحدثنا أبو كريب، حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث، حدثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة - أو عن أخي أبي أمامة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قومًا يتوضئون وفي عَقِب أحدهم - أو:كعب أحدهم- مثل موضع الدرهم - أو:موضع الظفر- لم يمسه الماء، فقال: « ويل للأعقاب من النار » . قال:فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئًا لم يصبه الماء أعاد وضوءه « . »

ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة، وذلك أنه لو كان فَرْض الرجلين مَسْحهما، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توَعّد على تركه؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل، بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف، وهكذا وجه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله.

وقد روى مسلم في صحيحه، من طريق أبي الزبير، عن جابر، عن عمر بن الخطاب؛ أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « ارجع فأحسن وضوءك » .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وَهْبٍ، حدثنا جرير بن حازم:أنه سمع قتادة بن دعامة قال:حدثنا أنس بن مالك؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ارجع فأحسن وضوءك » .

وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف، وابن ماجه، عن حَرْمَلَة بن يحيى، كلاهما عن ابن وَهْب به وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات، لكن قال أبو داود: [ و ] ليس هذا الحديث بمعروف، لم يروه إلا ابن وهب.

وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد أخبرنا يونس وحميد، عن الحسن؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... بمعنى حديث قتادة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بَقيةُ، حدثني بَحِير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء.

ورواه أبو داود من حديث بقية وزاد: « والصلاة » . وهذا إسناد جيد قوي صحيح، والله أعلم.

وفي حديث حُمْران، عن عثمان، في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم:أنه خلل بين أصابعه. وروى أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لَقِيط بن صَبرةَ، عن أبيه قال، قلت:يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء:فقال: « أسبغ الوضوء، وخَلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن يزيد، أبو عبد الرحمن المقري حدثنا عِكْرِمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال قال أبو أمامة:حدثنا عَمْرو بن عبسة قال:قلت:يا نبي الله، أخبرني عن الوضوء. قال: « ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » . قال أبو أمامة:يا عمرو، انظر ما تقول، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عَبْسة يا أبا أمامة، لقد كبرت سنِّي، وَرَقَّ عظمي، واقترب أجلي، وما بي حاجة أن أكذب على الله، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ و ] لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا، لقد سمعته [ منه ] سبع مرات أو أكثر من ذلك.

وهذا إسناد صحيح، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر، وفيه: « ثم يغسل قدميه كما أمره الله » . فدل على أن القرآن يأمر بالغسل.

وهكذا روى أبو إسحاق السَّبِيعي، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال:اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم.

ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير، عن علي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفًا وهما في النعلين ولا مانع من إيجاد الغسل والرِجل في نعلها، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه، وهو من روايته، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطةَ قوم فبال قائما، ثم دعا بماء فتوضأ، ومسح على نعليه وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال:فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه.

قلت:ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان، وعليهما نعلان.

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا يحيى عن شُعْبَة، حدثني يَعْلَى، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام إلى الصلاة. وقد رواه أبو داود عن مُسَدَّد وعباد بن موسى كلاهما، عن هُشَيْم، عن يعلى بن عَطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال، وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه.

وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم ثم قال:وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث؛ إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عُذْر من انتهى إليه وبلغه.

ولما كان القرآن آمرًا بغسل الرجلين - كما في قراءة النصب، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها- توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب، ولكن لم يصح إسناده، ثم الثابت عنه خلافه، وليس كما زعموه، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نـزول هذه الآية الكريمة.

قال الإمام أحمد:حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله بن عُلاثة، عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري، عن مجاهد، عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال:أنا أسلمت بعد نـزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت. تفرد به أحمد.

وفي الصحيحين، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن هَمَّام قال:بال جرير، ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل:تفعل هذا؟ فقال:نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه. قال الأعمش:قال إبراهيم:فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نـزول المائدة. لفظ مسلم.

وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب « الأحكام الكبير » ، وما يحتاج إلى ذكره هناك، من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه، كما هو مبسوط في موضعه. وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند، بل بجهل وضلال، مع أنه ثابت في صحيح مسلم، من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. كما ثبت في الصحيحين عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها. وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين، مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة، وهم مخالفون لذلك كله، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر، ولله الحمد.

وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين، فعندهم أنهما في ظهر القدم، فعندهم في كل رجل كعب، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال الربيع:قال الشافعي:لم أعلم مخالفًا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم. هذا لفظه. فعند الأئمة، رحمهم الله، [ أن ] في كل قدم كعبين كما هو المعروف عند الناس، وكما دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من طريق حُمْران عن عثمان؛ أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين، واليسرى مثل ذلك.

وروى البخاري تعليقًا مجزوما به، وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه، من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي، عن النعمان بن بشير قال:أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: « أقيموا صفوفكم - ثلاثا- والله لتقيمُن صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم » . قال:فرأيت الرجل يُلْزِق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، ومَنْكبِه بمنكبه. لفظ ابن خزيمة.

فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق، حتى يحاذي كعب الآخر، فدل ذلك على ما ذكرناه، من أنهما العظمان الناتئان عند مَفْصِل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن موسى، أخبرنا شريك، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث التيمي - يعني الجابر- قال:نظرت في قتلى أصحاب زيد، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه.

وقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) كل ذلك قد تقدَّم الكلام عليه في تفسير آية النساء، فلا حاجة بنا إلى إعادته؛ لئلا يطول الكلام. وقد ذكرنا سبب نـزول آية التيمم هناك، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة، فقال:

حدثنا يحيى بن سليمان، حدثنا ابن وَهْبٍ، أخبرني عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عائشة:سقطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونـزل، فثَنَى رأسه في حِجْري راقدًا، أقبل أبو بكر فلَكَزَني لكزة شديدة، وقال:حَبَسْت الناس في قلادة، فَبي الموتُ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجَد، فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) هذه الآية، فقال أسَيْد بن الحُضَير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم.

وقوله: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) أي:فلهذا سهل عليكم ويسَّر ولم يعسِّر، بل أباح التيمم عند المرض، وعند فقد الماء، توسعة عليكم ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه، كما تقدم بيانه، وكما هو مقرر في كتاب « الأحكام الكبير » .

وقوله: ( وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي:لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، عن عقبة بن عامر قال:كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس، فأدركت من قوله: « ما من مسلم يتوضأ فيحسن وُضُوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة » . قال:قلت:ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول:التي قبلها أجود منها. فنظرت فإذا عمر، رضي الله عنه، فقال:إني قد رأيتك جئت آنفا قال: « ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو:فيسبغ- الوضوء، يقول:أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء » . لفظ مسلم.

وقال مالك:عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا توَضّأ العبد المسلم - أو:المؤمن- فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو:مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو:مع آخر قطْر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو:مع آخر قطْر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب » .

رواه مسلم عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك، به.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مُرَّة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه - أو:ذراعيه- إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه » .

هذا لفظه. وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن مرة بن كعب، أو كعب بن مرة السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « وإذا توضأ العبد فغسل يديه، خرجت خطاياه من بين يديه، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل ذراعيه خرجت خطاياه من ذراعيه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه » . قال شعبة:ولم يذكر مسح الرأس. وهذا إسناد صحيح.

وروى ابن جرير من طريق شَمِر بن عطية، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه » .

وروى مسلم في صحيحه، من حديث يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن أبي مالك الأشعري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الطَّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة بُرهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجَّة لك أو عليك، كل الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فَمعتِقهَا، أو مُوبِقُهَا » .

وفي صحيح مسلم، من رواية سِمَاك بن حَرْب، عن مُصْعب بن سعد، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقبل الله صدقة من غُلُول، ولا صلاة بغير طهور » .

وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، عن قتادة، سمعت أبا المَلِيح الهُذَلي يحدث عن أبيه قال:كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت، فسمعته يقول: « إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور، ولا صدقة من غُلُول » .

وكذا رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث شعبة.

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 8 ) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 9 )

يقول تعالى مُذكرًا عباده المؤمنين نعمتَه عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه، فقال [ تعالى ] ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عند إسلامهم، كما قالوا: « بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وأثرةً علينا، وألا ننازع الأمر أهله » ، وقال تعالى: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الحديد:8 ] وقيل:هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقيل:هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [ الأعراف:172 ] قاله مجاهد، ومُقَاتِل بن حَيَّان. والقول الأول أظهر، وهو المحكي عن ابن عباس، والسُّدِّي. واختاره ابن جرير.

ثم قال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال.

ثم أعلمهم أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر والسرائر من الأسرار والخواطر، فقال: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ) أي:كونوا قوامين بالحق لله، عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، وكونوا ( شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ) أي:بالعدل لا بالجور. وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير أنه قال:نحلني أبي نَحْلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة:لا أرضى حتى تُشْهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: « أكل ولدك نحلت مثله؟ » قال:لا. قال: « اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم » . وقال: « إني لا أشهد على جَوْر » . قال:فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

وقوله: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا ) أي:لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوًا؛ ولهذا قال: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) أي:عَدْلُكم أقرب إلى التقوى من تركه. ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه، كما في نظائره من القرآن وغيره، كما في قوله: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [ النور:28 ]

وقوله: ( هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله [ تعالى ] أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا [ الفرقان:24 ] وكقول بعض الصحابيات لعمر:أنت أفَظُّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أي:وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر؛ ولهذا قال بعده: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي:لذنوبهم ( وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) وهو:الجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم، بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسبابًا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة.

 

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 10 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 11 )

ثم قال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) وهذا من عدله تعالى، وحكمته وحُكْمه الذي لا يجور فيه، بل هو الحَكَمُ العدل الحكيم القدير.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ) قال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نـزل منـزلا وتَفَرّق الناس في العضَاه يستظلون تحتها، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:من يمنعك مني؟ قال: « الله » ! قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا:من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الله » ! قال:فَشَام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خَبَرَ الأعرابي، وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه - وقال معمر:وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي، وتأول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) الآية.

وقصة هذا الأعرابي - وهو غَوْرَث بن الحارث- ثابتة في الصحيح.

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ) وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم فأوحى الله تعالى إليه بشأنهم، فلم يأت الطعام، وأمر أصحابه فلم يأتوه رواه ابن أبي حاتم.

وقال أبو مالك:نـزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يَغْدروا بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه في دار كعب بن الأشرف. رواه ابن أبي حاتم.

وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار، ومجاهد وعكْرِمَة، وغير واحد:أنها نـزلت في شأن بني النَّضير، حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحَى، لما جاءهم يستعينهم في ديَةِ العامرييْن، ووكلوا عمرو بن جَحَّاش بن كعب بذلك، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه، فأطلع الله رسوله على ما تمالؤوا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه، فأنـزل الله [ تعالى ] في ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم فحاصرهم، حتى أنـزلهم فأجلاهم.

وقوله تعالى: ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) يعني:من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه.

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 12 ) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 13 )

لما أمر [ الله ] تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعَمَه عليهم الظاهرة والباطنة، فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين:اليهود والنصارى، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح، فقال تعالى: ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ) يعني:عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه.

وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى، عليه السلام، لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم النقباء، من كل سبط نقيب - قال محمد بن إسحاق:فكان من سبط روبيل: « شامون بن زكور » ، ومن سبط شمعون: « شافاط بن حُرّي » ، ومن سبط يهوذا: « كالب بن يوفنا » ، ومن سبط أبين: « فيخائيل بن يوسف » ، ومن سبط يوسف، وهو سبط أفرايم: « يوشع بن نون » ، ومن سبط بنيامين: « فلطمى بن رفون » ، ومن سبط زبلون : « جدي بن سودى » ، ومن سبط يوسف وهو منشا بن يوسف: « جدي بن سوسى » ، ومن سبط دان: « حملائيل بن جمل » ، ومن سبط أسير: « ساطور بن ملكيل » ، ومن سبط نفتالي : « نحى بن وفسى » ، ومن سبط جاد: « جولايل بن ميكي » .

وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم، قال فيها:فعلى بني روبيل: « الصوني بن سادون » ، وعلى بني شمعون: « شموال بن صورشكي » ، وعلى بني يهوذا: « يحشون بن عمبيا ذاب » ، وعلى بني يساخر: « شال بن صاعون » ، وعلى بني زبلون: « الياب بن حالوب » ، وعلى بني يوسف إفرايم: « منشا بن عمنهود » ، وعلى بني منشا: « حمليائيل بن يرصون » ، وعلى بني بنيامين: « أبيدن بن جدعون » ، وعلى بني دان: « جعيذر بن عميشذي » ، وعلى بني أسير: « نحايل بن عجران » ، وعلى بني حاز: « السيف بن دعواييل » ، وعلى بني نفتالي: « أجزع بن عمينان » .

وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة، كان فيهم اثنا عشر نقيبًا، ثلاثة من الأوس وهم:أسيد بن الحُضَيْر، وسعد بن خَيْثَمَة، ورفاعة بن عبد المنذر - ويقال بدله:أبو الهيثم بن التيهان- رضي الله عنهم، وتسعة من الخزرج، وهم:أبو أمامة أسعد بن زُرَارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العَجْلان والبراء بن مَعْرور، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عُبَادة، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام، والمنذر بن عَمْرو بن خُنَيس، رضي الله عنهم. وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له، كما أورده ابن إسحاق، رحمه الله.

والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وهم الذين ولوا المبايعة والمعاقدة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن زيد، عن مُجالد، عن الشعبي، عن مسروق قال:كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل:يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم:كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله:ما سألني عنها أحد منذ قدمتُ العراق قبلك، ثم قال:نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سَمُرة قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا » . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عَلَيّ، فسألت أبي:ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: « كلهم من قريش » .

وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نَسَق، وهم الخلفاء الأربعة:أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس. ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره:أنه يُواطئُ اسمُه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدْلا وقِسْطًا، كما ملئت جَوْرا وظُلْمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب « سَامرّاء » . فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هَوَسِ العقول السخيفة، وَتَوَهُّم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة [ الاثني عشر ] الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض، لجهلهم وقلة عقلهم. وفي التوراة البشارة بإسماعيل، عليه السلام، وأن الله يقيم من صُلْبِه اثني عشر عظيما، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود، وجابر بن سَمُرة، وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر، فيتشيع كثير منهم جهلا وسَفَها، لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: ( وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ) أي:بحفظي وكَلاءتي ونصري ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ) أي:صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي ( وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ) أي:نصرتموهم وآزرتموهم على الحق ( وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) وهو:الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته ( لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) أي:ذنوبكم أمحوها وأسترها، ولا أؤاخذكم بها ( وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي:أدفع عنكم المحذور، وأحصل لكم المقصود.

وقوله: ( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي:فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده وتوكيده وشدَه، وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه، فقد أخطأ الطريق الحق، وعدل عن الهدى إلى الضلال.

ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ) أي:فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى، ( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) أي:فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها، ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) أي:فسدت فُهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنـزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذًا بالله من ذلك، ( وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي:وتركوا العمل به رغبة عنه.

قال الحسن:تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها. وقال غيره:تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة.

( وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ) يعني:مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك.

وقال مجاهد وغيره:يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي، صلى الله عليه وسلم.

( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف:ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) يعني به:الصفح عمن أساء إليك.

وقال قتادة:هذه الآية ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ) منسوخة بقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] [ التوبة:29 ]

 

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 14 )

وقوله: ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ) أي:ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام، وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، أي:ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود؛ ولهذا قال: ( فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) أي:فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا؛ فكل فرقة تُحَرم الأخرى ولا تدعها تَلجُ معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

ثم قال تعالى: ( وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب، عز وجل، وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا، من جعلهم له صاحبة وولدا، تعالى الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفوًا أحد.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ( 15 ) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 16 )

يقول تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة:أنه قد أرسل رسوله محمدًا بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيّهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل، فقال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ) أي:يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه.

وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قوله: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ) فكان الرجم مما أخفوه.

ثم قال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنـزله على نبيه الكريم فقال: ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) أي:طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة ( وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أنجب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 )

يقول تعالى مخبرًا وحاكمًا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم - وهو عبدٌ من عباد الله، وخلق من خلقه- أنه هو الله، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.

ثم قال مخبرًا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه: ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ) أي:لو أراد ذلك، فمن ذا الذي كان يمنعه ؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك؟

ثم قال: ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ ) أي:جميعُ الموجودات ملكهُ وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يُسأل عما يفعل، لقدرته وسلطانه، وعدله وعظمته، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

 

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 18 )

ثم قال تعالى رادًا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) أي:نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية، وهو يحبنا. ونقلوا عن كتابهم أن الله [ تعالى ] قال لعبده إسرائيل: « أنت ابني بكري » . فحملوا هذا على غير تأويله، وحَرّفوه. وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم، وقالوا:هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم:إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني:ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى، عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه وحظْوتهم عنده، ولهذا قالوا:نحن أبناء الله وأحباؤه.

قال الله تعالى رادا عليهم: ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) أي:لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه، فلم أعَد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟. وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء:أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا الصوفي هذه الآية: ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ )

وهذا الذي قاله حسن، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال:حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن حُمَيْد، عن أنس قال:مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ، فأقبلت تسعى وتقول:ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم:يا رسول الله، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال:فَخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « لا والله ما يلقي حبيبه في النار » . تفرد به.

[ وقوله ] ( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) أي:لكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده ( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ) أي:هو فعال لما يريد، لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب. ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) أي:الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه، ( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) أي:المرجع والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور.

[ و ] قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمَة، أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا:ما تخوفنا يا محمد! نحن والله أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى، فأنـزل [ الله ] فيهم: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) إلى آخر الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله [ تعالى ] ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) أما قولهم: ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) فإنهم قالوا:إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك - بكرك من الولد- فيدخلهم النار فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم يناد مناد أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل. فأخرجوهم فذلك قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [ آل عمران:24 ]

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 19 )

يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى:إنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا خاتم النبيين، الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم؛ ولهذا قال: ( عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) أي:بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.

وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، كم هي؟ فقال أبو عثمان النَّهْديّ وقتادة - في رواية عنه- :كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وعن قتادة:خمسمائة وستون سنة، وقال مَعْمَر، عن بعض أصحابه:خمسمائة وأربعون سنة. وقال:الضحاك:أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.

وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى، عليه السلام عن الشعبي أنه قال:ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة.

والمشهور هو الأول، وهو أنه ستمائة سنة. ومنهم من يقول:ستمائة وعشرون سنة. ولا منافاة بينهما، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين؛ ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [ الكهف:25 ] أي:قمرية، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب. وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أنا أولى الناس بابن مريم؛ لأنه لا نبي بيني وبينه » هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [ عليه السلام ] نبي، يقال له:خالد بن سنان، كما حكاه القضاعي وغيره.

والمقصود أن الله [ تعالى ] بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل، وتَغَير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عَمَم، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام حدثنا قتادة، عن مطَرِّف، عن عياض بن حِمَار المُجَاشِعِيِّ، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: « وإن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا:كل مال نَحَلْته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطانا، ثم إن الله، عز وجل، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ، عجَمَهم وعَرَبَهُم، إلا بقايا من أهل الكتاب وقال:إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنـزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويَقْظان، ثم إن الله أمرني أن أُحَرِّقَ قريشا، فقلت:يا رب، إذن يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خُبْزة، فقال:استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغْزِك، وأنفق عليهم فَسَنُنفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة:ذو سلطان مُقْسِطٌ مُتصدِّق موفق ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عَفِيف فقير متصدق، وأهل النار خمسة:الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تَبْعًا أو تُبعاء - شك يحيى- لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإن دَقَّ إلا خانه، ورجل لا يُصْبِح ولا يُمْسِي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك » ، وذكر البخيل أو الكذب، « والشِّنْظير:الفاحش » .

ثم رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي من غير وجه، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشّخير. وفي رواية سعيد عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف. وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده:أن قتادة لم يسمعه من مطرف، وإنما سمعه من أربعة، عنه. ثم رواه هو، عن روح، عن عوف، عن حكيم الأثرم، عن الحسن قال:حدثني مطرف، عن عياض بن حمَار، فذكره. و [ كذا ] رواه النسائي من حديث غُنْدَر، عن عوف الأعرابي به.

والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: « وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل » . وفي لفظ مسلم: « من أهل الكتاب » . وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهدى الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحَجَّة البيضاء، والشريعة الغرَّاء؛ ولهذا قال تعالى: ( أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ) أي:لئلا تحتجوا وتقولوا - :يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه- ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر، فقد جاءكم بشير ونذير، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

قال ابن جرير:معناه:إني قادر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( 20 ) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( 21 ) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( 22 ) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 23 )

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام، فيما ذكر به قومه نعَمَ الله عليهم وآلاءه لديهم، في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة، فقال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ) أي:كلما هلك نبي قام فيكم نبي، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده. وكذلك كانوا، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته، حتى ختموا بعيسى، عليه السلام، ثم أوحى الله [ تعالى ] إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله، المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم، عليه السلام، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس، في قوله: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) قال:الخادم والمرأة والبيت.

وروى الحاكم في مستدركه، من حديث الثوري أيضا، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:المرأة والخادم ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال:الذين هم بين ظَهرانيهِم يومئذ، ثم قال الحاكم:صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس قال:كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي مَلِكًا.

وقال ابن جرير:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وَهْب، أنبأنا أبو هانئ؛ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول:سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال:ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله:ألك امرأة تأوي إليها؟ قال:نعم. قال:ألك مسكن تسكنه؟ قال:نعم. قال:فأنت من الأغنياء. فقال:إن لي خادما. قال فأنت من الملوك.

وقال الحسن البصري:هل الملك إلا مركب وخادم ودار؟

رواه ابن جرير. ثم روي عن منصور والحكم، ومجاهد، وسفيان الثوري نحوًا من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران.

وقال ابن شَوْذَب:كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم، واستؤذن عليه، فهو ملك.

وقال قتادة:كانوا أول من ملك الخدم.

وقال السُّدِّي في قوله: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) قال:يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن ابن لَهِيعَة، عن دَرَاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة، كُتِب ملكا » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقال ابن جرير:حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا أبو ضَمْرَة أنس بن عياض، [ قال ] سمعت زيد بن أسلم يقول: ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) فلا أعلم إلا أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من كان له بيت وخادم فهو ملك » .

وهذا مرسل غريب. وقال مالك:بيت وخادم وزوجة.

وقد ورد في الحديث: « من أصبح منكم مُعَافى في جسده، آمنا في سِربه، عنده قُوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها » .

وقوله: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني عالمي زمانكم، فكأنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الجاثية:16 ] وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الأعراف:138- 140 ]

والمقصود:أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجا، وأكرم نبيا، وأعظم ملكا، وأغزر أرزاقا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع مملكة، وأدوم عزا، قال الله [ عز وجل ] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران:110 ] وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ البقرة:143 ] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها، عند الله، عند قوله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ من سورة آل عمران.

وروى ابن جرير عن ابن عباس، وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني:أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) مع هذه الأمة. والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا.

وقيل:المراد: ( وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) يعني بذلك:ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى، وتَظلَّلهم من الغمام وغير ذلك، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات، فالله أعلم.

ثم قال تعالى مخبرًا عن تحريض موسى، عليه السلام، لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس، الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى [ عليه السلام ] فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين، قد استحوذوا عليها وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى، عليه السلام، بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبَشَّرهم بالنصرة والظفر عليهم، فَنَكَلُوا وعَصوْا وخالفوا أمره، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين، لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد، مُدّة أربعين سنة، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله [ تعالى ] فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال: ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) أي:المطهرة.

قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) قال:هي الطور وما حوله. وكذا قال مجاهد وغير واحد.

وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد البقال، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:هي أريحا. وكذا ذكر غير واحد من المفسرين.

وفي هذا نظر؛ لأن أريحا ليست هي المقصود بالفتح، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس، وقد قدموا من بلاد مصر، حين أهلك الله عدوهم فرعون، [ اللهم ] إلا أن يكون المراد بأريحا أرض بيت المقدس، كما قاله - السدي فيما رواه ابن جرير عنه- لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الغَوْر شرقي بيت المقدس.

وقوله تعالى: ( الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) أي:التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل:أنه وراثة من آمن منكم. ( وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ) أي:ولا تنكلوا عن الجهاد ( فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) أي:اعتذروا بأن في هذه البلدة - التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها- قوما جبارين، أي:ذوي خلَقٍ هائلة، وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مُصَاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم.

وقد قال ابن جرير:حدثني عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار، حدثنا سفيان قال:قال أبو سعيد قال عِكْرَمَة، عن ابن عباس قال:أمرَ موسى أن يدخل مدينة الجبارين. قال:فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة - وهي أريحا- فبعث إليهم اثني عشر عينًا، من كل سبط منهم عين، ليأتوه بخبر القوم. قال:فدخلوا المدينة فرأوا أمرًا عظيما من هيئتهم وجُثَثهم وعِظَمِهم، فدخلوا حائطا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار. وينظر إلى آثارهم، فتتبعهم فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، حتى التقت الاثنى عشر كلهم، فجعلهم في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك:قد رأيتم شأننا وأمرنا، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال:فرجعوا إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.

وفي هذا الإسناد نظر.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لما نزل موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا - وهم النقباء الذين ذكر الله، فبعثهم ليأتوه بخبرهم، فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا:من أنتم؟ قالوا:نحن قوم موسى، بعثنا نأتيه بخبركم. فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل، فقالوا لهم:اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم:اقدروا قَدْر فاكهتهم فلما أتوهم قالوا:يا موسى، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ

رواه ابن أبي حاتم، ثم قال:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد، حدثني يحيى بن عبد الرحمن قال:رأيت أنس بن مالك أخذ عصا، فذرع فيها بشيء، لا أدري كم ذرع، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا وخمسين، ثم قال:هكذا طول العماليق.

وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق، بنت آدم، عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع، تحرير الحساب‌! وهذا شيء يستحي من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله [ تعالى ] خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن » .

ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زِنْية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نوح:26 ] وقال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ [ الشعراء:119- 120 ] وقال تعالى: [ قَالَ ] لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ [ هود:43 ] وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: « عوج بن عنق » نظر، والله أعلم.

وقوله: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ) أي:فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى، عليه السلام، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه.

وقرأ بعضهم: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ ) أي:ممن لهم مهابة وموضع من الناس. ويقال:إنهما « يوشع بن نون » و « كالب بن يوفنا » ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطية، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، وغير واحد من السلف، والخلف، رحمهم الله، فقالا ( ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي:متى توكلتم على الله واتبعتم أمره، ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم. فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا.

 

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( 24 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 25 ) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 26 )

( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون ) وهذا نكول منهم عن الجهاد، ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء.

ويقال:إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى بلادهم، سجد موسى وهارون، عليهما السلام، قُدام ملأ من بني إسرائيل، إعظاما لما هموا به، وشَق « يوشع بن نون » و « كالب بن يوفنا » ثيابهما ولاما قومهما على ذلك، فيقال:إنهم رجموهما. وجرى أمر عظيم وخطر جليل.

وما أحسن ما أجاب به الصحابة، رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير، الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان، فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف، في العُدة والبَيْض واليَلب، فتكلم أبو بكر، رضي الله عنه، فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « أشيروا عليَّ أيها المسلمون » . وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ [ رضي الله عنه ] كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك، وما تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشَّطه ذلك.

وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو حاتم الرازي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا حميد عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار إليه عمر، ثم استشارهم فقالت الأنصار:يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا:إذًا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك الغمَاد لاتبعناك.

ورواه الإمام أحمد، عن عبيدة بن حميد، الطويل، عن أنس، به. ورواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن حميد به، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى، عن عبد الأعلى بن حماد، عن مَعْمَر بن سليمان، عن حميد، به.

وقال ابن مَرْدُويه:أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا محمد بن شعيب، عن الحسن بن أيوب، عن عبد الله بن ناسخ، عن عتبة بن عبد السلمي قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « ألا تقاتلون؟ » قالوا:نعم، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي، رضي الله عنه، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي، عن طارق - هو ابن شهاب- :أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر:يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

هكذا رواه أحمد من هذا الوجه، وقد رواه من طريق أخرى فقال:

حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال:قال عبد الله - هو ابن مسعود- رضي الله عنه:لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به:أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يدعو على المشركين، فقال:والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك، وسره بذلك.

وهكذا رواه البخاري « في المغازي » وفي « التفسير » من طرق عن مخارق، به. ولفظه في « كتاب التفسير » عن عبد الله قال:قال المقداد يوم بدر:يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن [ نقول ] امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال البخاري:ورواه وَكِيع، عن سفيان، عن مخارق، عن طارق؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية، حين صَدّ المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم: « إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عند البيت » . فقال له المقداد بن الأسود:أما والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم: ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك.

وهذا. إن كان محفوظا يوم الحديبية، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر.

وقوله: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) يعني:لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعيا عليهم: ( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ) أي:ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوتَ إليه إلا أنا وأخي هارون، ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) قال العَوْفِي، عن ابن عباس:يعني اقض بيني وبينهم. وكذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.

وكذا قال الضحاك:اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم، وقال غيره:افرق:افصل بيننا وبينهم، كما قال الشاعر

يَــا رب فــافرق بَيْنَــه وبَيْنـي أشــدّ مــا فَــرقْت بَيْـن اثنيـن

وقوله تعالى: ( [ قَالَ ] فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ] ) لما دعا عليهم موسى، عليه السلام، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة، وخوارق كثيرة، من تظليلهم بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك أنزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد، ويقال لها:قبة الزمان.

قال يزيد بن هارون، عن أصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير:سألت ابن عباس عن قوله: ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ ) الآية. قال:فتاهوا في الأرض أربعين سنة، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث « الفتون » ، ثم كانت وفاة هارون، عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاثة سنين مات موسى الكليم، عليه السلام، وأقام الله فيهم « يوشع بن نون » عليه السلام، نبيا خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويقال:إنه لم يبق منهم أحد سوى « يوشع » و « كالب » ، ومن هاهنا قال بعض المفسرين في قوله: ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) هذا وقف تام، وقوله: ( أَرْبَعِينَ سَنَةً ) منصوب بقوله: ( يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ ) فلما انقضت المدة خرج بهم « يوشع بن نون » عليه السلام، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تَضَيَّفَتِ الشمس للغروب، وخَشي دخول السبت عليهم قال « إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ » ، فحبسها الله تعالى حتى فتحها، وأمر الله « يوشع بن نون » أن يأمر بني إسرائيل، حين يدخلون بيت المقدس، أن يدخلوا بابها سُجّدا، وهم يقولون:حطّة، أي:حط عنا ذنوبنا، فبدلوا ما أمروا به، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون:حَبَّة في شَعْرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنِيُّ، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قوله: ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ ) قال:فتاهوا أربعين سنة، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم « يوشع بن نون » ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها، وهو الذي قيل له: « اليوم يوم الجمعة » فهَمُّوا بافتتاحها، ودنت الشمس للغروب، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا، فنادى الشمس: « إني مأمور وإنك مأمورة » فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال:فيكم الغلول، فدعا رءوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال:الغلول عندك، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان، فأتت النار فأكلتها.

وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله: ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) هو العامل في « أربعين سنة » ، وأنهم مَكَثوا لا يدخلونها أربعين سنة، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد. قال:ثم خرجوا مع موسى، عليه السلام، ففتح بهم بيت المقدس. ثم احتج على ذلك قال:بإجماع علماء أخبار الأولين أن « عوج بن عنق » قتله موسى، عليه السلام، قال:فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق، فدل على أنه كان بعد التيه. قال:وأجمعوا على أن « بلعام بن باعورا » أعان الجبارين بالدعاء على موسى، قال:وما ذاك إلا بعد التيه؛ لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا استدلاله، ثم قال:

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب « عوج » فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل سنة.

وروي أيضا عن محمد بن بَشّار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نَوْف البِكالي قال:كان سرير « عوج » ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب « عوجا » فأصاب كعبه، فسقط ميتا، وكان جسْرًا للناس يمرون عليه.

وقوله تعالى: ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) تسلية لموسى، عليه السلام، عنهم، أي:لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم، به فإنهم يستحقون ذلك.

وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما، فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غَيِّهم يترددون، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [ المائدة:18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 27 ) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 28 ) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 29 ) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 30 ) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( 31 )

يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه - في قول الجمهور- وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغيا عليه وحسدا له، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) أي:واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم- خبر ابني آدم، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف.

وقوله: ( بِالْحَقِّ ) أي:على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب، ولا وَهْم ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [ آل عمران:62 ] وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [ الكهف:13 ] وقال تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ] [ مريم:34 ]

وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى قد شرع لآدم، عليه السلام، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن قالوا:كان يُولَد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دَميمةً، وأخت قابيل وضيئةً، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانًا، فمن تقبل منه فهي له، فقربا فَتُقُبِّل من هابيل ولم يتَقَبَّل من قابيل، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه.

ذكر أقوال المفسرين هاهنا:

قال السُّدي - فيما ذكر- عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما:قابيل وهابيل وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضَرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال:هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوج بها. فأمره أبوه أن يزوجها هابيل، فأبى، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية، وكان آدم، عليه السلام، قد غاب عنهما، أتى مكة ينظر إليها، قال الله عز وجل:هل تعلم أن لي بيتا في الأرض؟ قال:اللهم لا قال:إن لي بيتا في مكة فأته. فقال آدم للسماء:احفظي ولدي بالأمانة، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال، فأبت. فقال لقابيل، فقال:نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قَربا قربانا، وكان قابيل يفخر عليه، فقال:أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي. فلما قَربا، قرب هابيل جَذعَة سمنة، وقرب قابيل حَزْمَة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال:لأقتلنك حتى لا تنكح أختي. فقال هابيل:إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن خُثَيْم قال:أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس قال:نهي أن تنكح المرأة أخاها تَوْأمها، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة:أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال:لا أنا أحق بأختي فقربا قربانا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. إسناد جيد.

وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ) فقربا قربانهما، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض، وصاحب الحرث بصَبرة من طعام، فقبل الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وسلم إسناد جيد.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عَوْف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال:إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، وإنهما أمرا أن يقربا قربانا، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنَها وأحسنها، طيبة بها نفسه، وإن صاحب الحرث قرب أشَرَّ حرثه الكودن والزُّوان غير طيبة بها نفسه، وإن الله، عز وجل، تقبل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه، قال:وأيم الله، إن كان المقتول لأشد الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط [ يده ] إلى أخيه.

وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص:بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أنْتج له حَمَل في غنمه، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه. فلما أمر بالقربان قربه لله، عز وجل، فقبله الله منه، فما زال يرتع في الجنة حتى فَدى به ابن إبراهيم، عليه السلام. رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا الأنصاري، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال:قال آدم، عليه السلام، لهابيل وقابيل:إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان، فقربا قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكُولة غنمه، خَيْر ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة من زرعه، فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما، ثم جلسوا ثلاثتهم:آدم وهما، ينظران إلى القربان، فبعث الله نارًا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل، فانصرفوا. وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال:ويلك يا قابيل رد عليك قربانك. فقال قابيل:أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه، ورد عليَّ قرباني. وقال قابيل لهابيل:لأقتلنك فأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك، فتقبل منك. وكان يتواعده بالقتل، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم:يا قابيل، أين أخوك؟ [ قال ] قال:وبَعثتني له راعيا؟ لا أدري. فقال [ له ] آدم:ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه:الليلة أقتله. وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال:يا هابيل، تقبل قربانك ورد علي قرباني، لأقتلنك. فقال هابيل:قربتُ أطيب مالي، وقربتَ أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها، فقال:ويلك يا قابيل أين أنت من الله؟ كيف يجزيك بعملك؟ فقتله فطرحه في جَوْبة من الأرض، وحثى عليه شيئًا من التراب.

وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول:إن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته تَوأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل ، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى ذلك قابيل وكره، تكرما عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال:نحن ولادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي - ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول:كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فَضَنّ بها عن أخيه وأرادها لنفسه، فالله أعلم أي ذلك كان- فقال له أبوه:يا بني، إنها لا تحل لك، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه. فقال له أبوه:يا بني، قرب قربانا، ويقرب أخوك هابيل قربانا، فأيكما تُقُبِّل قربانه فهو أحق بها، وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رعاية الماشية، فقرب قابيل قمحا، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه - وبعضهم يقول:قرب بقرة- فأرسل الله نارا بيضاء، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقْبَل القربان إذا قبله . رواه ابن جرير.

وقال العَوْفِيُّ، عن ابن عباس قال:كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله، أرسل إليه نارا فتأكله وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار، فقربا قربانا، وكان أحدهما راعيا، وكان الآخر حَرّاثا، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها، وقرب الآخر بعض زرعه، فجاءت النار فنزلت بينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه:أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ عليَّ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنت خير مني. فقال:لأقتلنك. فقال له أخوه:ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.

فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في امرأة، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم، وهو ظاهر القرآن: ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه.

ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل، وأنه تُقُبل من هابيل شاته، حتى قال ابن عباس وغيره:إنه الكبش الذي فدي به الذبيح، وهو مناسب، والله أعلم، ولم يتقبل من قابيل. كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا، ولكن روى ابن جرير، عنه أنه قال:الذي قرب الزرع قابيل، وهو المتقبل منه، وهذا خلاف المشهور، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم.

ومعنى قوله: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) أي:ممن اتقى الله في فعله ذلك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش، حدثني صَفْوان بن عمرو، عن تَمِيم، يعني ابن مالك المقري، قال:سمعت أبا الدرداء يقول:لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )

وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا إسحاق بن سليمان - يعني الرازي- عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون بن أبي حمزة قال:كنت جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل - يقال له:أبو عفيف، من أصحاب معاذ- فقال له شقيق بن سلمة:يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال:بلى، سمعته يقول:يحبس الناس في بقيع واحد، فينادي مناد:أين المتقون؟ فيقومون في كَنَف من الرحمن، لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت:من المتقون؟ قال:قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا العبادة، فيمرون إلى الجنة.

وقوله: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) يقول له أخوه الرجل الصالح، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ ) أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، ( إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) أي:من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب.

قال عبد الله بن عمرو:وأيم الله، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج، يعني الورع.

ولهذا ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار » . قالوا:يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: « إنه كان حريصا على قتل صاحبه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا لَيْثُ بن سعد، عن عَيَّاش بن عباس، عن بكير بن عبد الله، عن بُسْر بن سعيد ؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان:أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي » . قال:أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني قال: « كن كابن آدم » .

وكذا رواه الترمذي عن قُتَيْبَة بن سعيد وقال:هذا الحديث حسن، وفي الباب عن أبي هريرة، وخَباب بن الأرت، وأبي بَكْرَة وابن مسعود، وأبي واقد، وأبي موسى، وخَرَشَة. ورواه بعضهم عن الليث بن سعد، وزاد في الإسناد رجلا.

قال الحافظ ابن عساكر:الرجل هو حسين الأشجعي.

قلت:وقد رواه أبو داود من طريقه فقال:حدثنا يزيد بن خالد الرملي، حدثنا المفضل، عن عياش بن عباس عن بُكَيْر، عن بُسْر بن سعيد عن حسين بن عبد الرحمن الأشجعي؛ أنه سمع سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال:فقلت:يا رسول الله، أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كن كابن آدم » وتلا يزيد: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ )

قال أيوب السَّخْتَياني:إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا مَرْحوم، حدثني أبو عمران الجَوْني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال:ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه، وقال: « يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ » . قال:قال الله ورسوله أعلم. قال: « تعفف » قال: « يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد، ويكون البيت فيه بالعبد، يعني القبر، كيف تصنع؟ » قلت:الله ورسوله أعلم. قال: « اصبر » . قال: « يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟ » . قال:الله ورسوله أعلم. قال: « اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك » . قال:فإن لم أتْرَك؟ قال: « فأت من أنت منهم، فكن فيهم » قال:فآخذ سلاحي؟ قال: « إذًا تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك » .

رواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي، من طرق عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن الصامت به ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق حماد بن زيد، عن أبي عمران، عن المُشَعَّث بن طريف، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر بنحوه.

قال أبو داود:ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد.

وقال ابن مَرْدُويَه:حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا قَبِيصَة بن عُقْبَة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن رِبْعِيّ قال:كنا في جنازة حُذَيفة، فسمعت رجلا يقول:سمعت هذا يقول في ناس:مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري، فلألجنَّه، فلئن دخل عَليّ فلان لأقولن:ها بؤ بإثمي وإثمك، فأكون كخير ابني آدم » .

وقوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي، في قوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي:بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك.

قال ابن جرير:وقال آخرون:يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا؛ لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه. يعني:ما رواه سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي ) قال:بقتلك إياي، ( وَإِثْمِكَ ) قال:بما كان منك قبل ذلك.

وكذا روى عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثْله، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) يقول:إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا.

قلت:وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له:ما ترك القاتل على المقتول من ذنب.

وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا، ولكن ليس به، فقال:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثنَا يعقوب بن عبد الله، حدثنا عتبة بن سعيد، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه » .

وهذا بهذا لا يصح ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا. ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص، وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها، والله أعلم.

وأما ابن جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال:إن تأويله:إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي - وذلك هو معنى قوله: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي ) وأما معنى ( وَإِثْمِكَ ) فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله، عز وجل، في أعمال سواه.

وإنما قلنا هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه، وأن الله، عز وجل، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه وإذا كان هذا حكمه في خلقه، فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله.

هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله:كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله، وإثم نفسه، مع أن قتله له محرم؟ وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله، بل يكف يده عنه، طالبًا - إنْ وقع قتل- أن يكون من أخيه لا منه.

قلت:وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ، وزجرًا له لو انزجر؛ ولهذا قال: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) أي:تتحمل إثمي وإثمك ( فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ )

وقال ابن عباس:خوفه النار فلم ينته ولم ينزجر.

وقوله تعالى: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي:فحسنت وسوّلت له نفسه، وشجعته على قتل أخيه فقتله، أي:بعد هذه الموعظة وهذا الزجر.

وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر، وهو محمد بن علي بن الحسين:أنه قتله بحديدة في يده.

وقال السُّدِّي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة، عن عبد الله، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال، فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له، وهو نائم فرفع صخرة، فشدخ بها رأسه فمات، فتركه بالعَرَاء. رواه ابن جرير.

وعن بعض أهل الكتاب:أنه قتله خنقًا وعضًّا، كما تَقْتُل السباع، وقال ابن جرير لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر، ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها، وابن آدم ينظر، ففعل بأخيه مثل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.

وقال عبد الله بن وَهْب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال:أخذ برأسه ليقتله، فاضطجع له، وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله، فجاءه إبليس فقال:أتريد أن تقتله؟ قال:نعم. قال:فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه. قال:فأخذها، فألقاها عليه، فشَدَخ رأسه. ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعًا، فقال:يا حواء، إن قابيل قتل هابيل. فقالت له:ويحك. أيّ شيء يكون القتل؟ قال:لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك. قالت:ذلك الموت. قال:فهو الموت. فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح، فقال:ما لك؟ فلم تكلمه، فرجع إليها مرتين، فلم تكلمه. فقال:عليك الصيحة وعلى بناتك، وأنا وبنيّ منها برآء. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي:في الدنيا والآخرة، وأيّ خسارة أعظم من هذه؟ . و قد قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تُقتَل نفس ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أول من سن القتل » .

وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق، عن الأعمش، به.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج قال:قال ابن جُرَيْج:قال مجاهد:عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج - قال:وقال عبد الله بن عمرو:إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابِ، عليه شطر عذابهم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول:إن أشقى أهل النار رجلا ابن آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شر، وذلك أنه أول من سَنّ القتل.

وقال إبراهيم النخعي:ما من مقتول يقتل ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفْل منه.

رواه ابن جرير أيضًا.

وقوله تعالى: ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة:لما مات الغلام تركه بالعَرَاء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حثى عليه. فلما رآه قال: ( قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ) .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:جاء غراب إلى غراب ميت، فبَحَث عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: ( قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي )

وقال الضحاك، عن ابن عباس:مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة، حتى بعث الله الغُرابين، فرآهما يبحثان، فقال: ( أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ ) فدفن أخاه.

وقال لَيْثُ بن أبي سليم، عن مجاهد:وكان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتًا، لا يدري ما يصنع به يحمله، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: ( يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقال عطية العوفي:لما قتله ندم. فضمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابن جرير.

وقال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول:لما قتله سُقِط في يديه، ولم يدر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أول قتيل في بني آدم وأول ميت ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال:وزعم أهل التوراة أن قابيلًا لما قتل أخاه هابيل، قال له الله، عز وجل:يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال:قال:ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا. فقال الله:إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإن أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض.

وقوله: ( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) قال الحسن البصري:علاه الله بندامة بعد خسران.

فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه، كما هو ظاهر القرآن، وكما نطق به الحديث في قوله: « إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل » . وهذا ظاهر جَليّ، ولكن قال ابن جرير:

حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سَهْل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن - هو البصري- قال:كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. وهذا غريب جدًّا، وفي إسناده نظر.

وقد قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الحسن قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن ابني آدم، عليه السلام، ضُربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما »

ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول، عن الحسن قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر » .

وكذا أرسل هذا الحديث بكر بن عبد الله المزني، روى ذلك كله ابن جرير.

وقال سالم بن أبي الجَعْد:لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له:حياك الله وبيّاك. أي:أضحكك.

رواه ابن جرير، ثم قال:حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا سلمة، عن غِياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمْداني قال:قال علي بن أبي طالب:لما قتل ابن آدم أخاه، بكاه آدم فقال:

تَغــيَّرت البــلاد ومَــنْ عَلَيهــا فَلَـــوْنُ الأرض مُغْــــبر قَبيــح

تغــيَّر كــل ذي لــون وطعــم وقــلَّ بَشَاشَــة الوجْــه المليــح

فأجيب آدم عليه السلام:

أبَــا هَــابيـل قَــدْ قُتـلا جَميعًـا وصـار الحـي كــالميْت الذبيـح

وجَــاء بشــرةٍ قــد كـان مِنْهـا عَــلى خَـوف فجــاء بهـا يَصيـح

والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال: « ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة، من البَغْي وقطيعة الرحم » . وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( 32 ) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 33 ) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 34 )

يقول تعالى: ( مِنْ أَجْلِ ) قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا: ( كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي:شرعنا لهم وأعلمناهم ( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) أي:ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، ( وَمَنْ أَحْيَاهَا ) أي:حرم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار؛ ولهذا قال: ( فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) .

وقال الأعمش وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:دخلت على عثمان يوم الدار فقلت:جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال:يا أبا هريرة، أيسرك أن تَقْتُل الناس جميعًا وإياي معهم؟ قلت:لا. قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا، فانْصَرِفْ مأذونًا لك، مأجورًا غير مأزور. قال:فانصرفت ولم أقاتل.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو كما قال الله تعالى: ( مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) وإحياؤها:ألا يقتل نفسًا حَرّمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا، يعني:أنه من حَرّم قتلها إلا بحق، حَيِي الناس منه [ جميعا ]

وهكذا قال مجاهد: ( وَمَنْ أَحْيَاهَا ) أي:كف عن قتلها.

وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس، في قوله: ( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) يقول:من قتل نفسًا واحدة حرمها الله، فهو مثل من قتل الناس جميعًا. وقال سعيد بن جبير:من استحل دمَ مُسْلِم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعًا.

هذا قول، وهو الأظهر، وقال عِكْرمة والعوفي، عن ابن عباس [ في قوله: ( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) يقول ] من قتل نبيًا أو إمام عَدْل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شَدّ على عَضد نبي أو إمام عَدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا. رواه ابن جرير.

وقال مجاهد في رواية أخرى عنه:من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا؛ وذلك لأنه من قتل النفس فله النار، فهو كما لو قتل الناس كلهم.

وقال ابن جُرَيْج عن الأعرج، عن مجاهد في قوله: ( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) من قتل النفس المؤمنة متعمدا، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا، يقول:لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب.

قال ابن جريج:قال مجاهد ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) قال:من لم يقتل أحدًا فقد حيي الناس منه.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس [ جميعا ] يعني:فقد وجب عليه القصاص، فلا فرق بين الواحد والجماعة ( وَمَنْ أَحْيَاهَا ) أي:عفا عن قاتل وليه، فكأنما أحيا الناس جميعًا. وحكي ذلك عن أبيه. رواه ابن جرير.

وقال مجاهد - في رواية- : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا ) أي:أنجاها من غَرق أو حَرق أو هَلكة.

وقال الحسن وقتادة في قوله: ( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) هذا تعظيم لتعاطي القتل - قال قتادة:عَظُم والله وزرها، وعظم والله أجرها.

وقال ابن المبارك، عن سلام بن مسكين، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال:قلت للحسن:هذه الآية لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال:إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل. وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.

وقال الحسن البصري: ( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) قال:وزرًا. ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) قال:أجرًا.

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال:جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا حمزة، نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ » قال:بل نفس أحييها:قال: « عليك بنفسك » .

وقوله: ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) أي:بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة ( ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة، حيث يقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ البقرة:84 ، 85 ] .

وقوله تعالى: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ) الآية. المحاربة:هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب:إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [ البقرة:205 ] .

ثم قال بعضهم:نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير:

حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عِكْرِمَة والحسن البصري قالا [ قال تعالى ] ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) إلى ( أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.

ورواه أبو داود والنسائي، من طريق عكرمة، عن ابن عباس: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا ) نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا ) قال:كان قوم من أهل الكتاب، بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله رسوله:إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير.

وروى شعبة، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن مُصْعَب بن سعد، عن أبيه قال:نزلت في الحرورية: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا ) رواه ابن مردويه.

والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قِلابة - واسمه عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري- عن أنس بن مالك:أن نفرًا من عُكْل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض وسَقَمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟ » فقالوا:بلى. فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فَصَحُّوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأُدْرِكُوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا.

لفظ مسلم. وفي لفظ لهما: « من عكل أو عُرَيْنَة » ، وفي لفظ: « وألقوا في الحَرَّة فجعلوا يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون » . وفي لفظ لمسلم: « ولم يَحْسمْهم » . وعند البخاري:قال أبو قلابة:فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. ورواه مسلم من طريق هُشَيْم، عن عبد العزيز بن صُهَيب وحميد، عن أنس، فذكر نحوه، وعنده: « وارتدوا » . وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس، بنحوه. وقال سعيد عن قتادة: « من عكل وعُرَينة » . ورواه مسلم من طريق سليمان التيمي، عن أنس قال:إنما سَمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء. ورواه مسلم، من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من عُرَينة، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة المُومُ - وهو البرْسام- ثم ذكر نحو حديثهم، وزاد:وعنده شباب من الأنصار، قريب من عشرين فارسًا فأرسلهم، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصّ أثرهم. وهذه كلها ألفاظ مسلم، رحمه الله.

وقال حماد بن سلمة:حدثنا قتادة وثابت البنَاني وحُمَيْد الطويل، عن أنس بن مالك:أن ناسًا من عُرَينة قدموا المدينة، فاجْتَوَوْها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصَحُّوا فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسَمَرَ أعينهم وألقاهم في الحرة. قال أنس:فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا، ونزلت: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الآية.

وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه - وهذا لفظه- وقال الترمذي: « حسن صحيح » .

وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة، عن أنس بن مالك، منها ما رواه من طريقين، عن سلام بن أبى الصهباء، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال:ما ندمتُ على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج قال أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:قلت:قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عُرَيْنة، من البحرين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضَخُمت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عَدَوا على الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لِحال ذَوْدٍ [ من الإبل ] وكان يحتج بهذا الحديث على الناس.

وقال ابن جرير:حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد - يعني ابن مسلم- حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال:كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثة نفر من عُكْل، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتَلقَّمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله في ذلك: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الآية.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو مسعود - يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج- حدثنا أبو سعد - يعني البقال- عن أنس بن مالك قال:كان رهط من عُرَينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جَهْد، مُصْفرّة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طَلَبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسَمَرَ أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، ونزلت: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) إلى آخر الآية.

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرنيين، وهم من بَجِيلة قال أنس:فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.

وقال:حدثني يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر - أو:عمرو، شك يونس- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك - يعني بقصة العرَنيين- ونزلت فيهم آية المحاربة. ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد، وفيه: « عن ابن عمر » من غير شك.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن خَلَف، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال:قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قومٌ من عُرَيْنَة حُفَاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعَاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جرير:فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسَمَل أعينهم، فجعلوا يقولون:الماء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « النار » ! حتى هلكوا. قال:وكره الله، عز وجل، سَمْل الأعين، فأنزل الله هذه الآية: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) إلى آخر الآية.

هذا حديث غريب وفي إسناده الرَّبَذيّ وهو ضعيف، وفيه فائدة، وهو ذكر أمير هذه السرية، وهو جرير بن عبد الله البجلي وتقدم في صحيح مسلم أن السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار. وأما قوله: « فكره الله سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية » فإنه منكر، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سَملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصا، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال:قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فَزَارة قد ماتوا هزلا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطُلِبوا، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَر أعينهم. قال أبو هريرة:ففيهم نزلت هذه الآية: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) فترك النبي صلى الله عليه وسلم سَمْر الأعين بعدُ.

وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.

وقال أبو بكر بن مردويه:حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا الحسين بن إسحاق التُسْتَرِيّ، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد، عن عمرو بن محمد المديني، حدثنا محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن الأكوع قال:كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له: « يَسار » فنظر إليه يُحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها، قال:فأظهر قوم الإسلام من عُرَينة، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، قال:فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى « يسار » فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم، ثم عدوا على « يسار » فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم أطردوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كُرْزُ بن جابر الفِهْري، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. غريب جدًا.

وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة، منهم جابر وعائشة وغير واحد. وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردُويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جدًا، فرحمه الله وأثابه.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شَقِيق، سمعت أبي يقول:سمعت أبا حمزة، عن عبد الكريم - وسُئِلَ عن أبوال الإبل- فقال:حدثني سعيد بن جُبير عن المحاربين فقال:كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذَبَة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا:إنا نَجْتوي المدينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها » قال:فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:قتلوا الراعي، واستاقوا النعم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنُودي في الناس:أن « يا خيل الله اركبي » . قال:فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا، قال:وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الآية. قال:فكان نفْيهم:أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم، وصلب، وقطع، وسَمَر الأعين. قال:فما مَثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال:ونهى عن المُثْلة، قال: « ولا تمثلوا بشيء » قال:وكان أنس يقول ذلك، غير أنه قال:أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.

قال:وبعضهم يقول:هم ناس من بني سليم، ومنهم عُرينة ناس من بَجيلة.

وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العُرَنيين:هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم:هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتابًا للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله [ تعالى ] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [ التوبة:43 ] ومنهم من قال:هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة. وهذا القول فيه نظر، ثم صاحبه مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ. وقال بعضهم:كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفي هذا نظر، فإن قصتهم متأخرة، وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها فإنه أسلم بعد نزول المائدة. ومنهم من قال:لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وإنما عزم على ذلك، حتى نزل القرآن فبيَّن حكم المحاربين. وهذا القول أيضا فيه نظر؛ فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمَلَ - وفي رواية:سمر- أعينهم.

وقال ابن جرير:حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال:ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سَمْل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وتَركه حَسْمهم حتى ماتوا، قال:سمعت محمد بن عجلان يقول:أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك، وعلَّمه عقوبة مثلهم:من القتل والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال:وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو - يعني الأوزاعي- فأنكر أن يكون نزلت معاتبة، وقال:بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، ورفع عنهم السمل.

ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله: ( وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا ) وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، حتى قال مالك - في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتًا فيقتله، ويأخذ ما معه- :إن هذا محاربة، ودمه إلى السلطان لا [ إلى ] ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.

وقال أبو حنيفة وأصحابه:لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا؛ لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. [ والله أعلم ]

وأما قوله: ( أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ) الآية:قال [ علي ] بن أبي طلحة عن ابن عباس في [ قوله: ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ] الآية [ قال ] من شهر السلاح في قبَّة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار:إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.

وكذا قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخَعي، والضحاك. وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير، وحكي مثله عن مالك بن أنس، رحمه الله. ومستند هذا القول أن ظاهر « أو » للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن، كقوله في جزاء الصيد: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [ المائدة:95 ] وقوله في كفارة الترفه: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ البقرة:196 ] وكقوله في كفارة اليمين: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ المائدة:89 ] . [ و ] هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور:هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي [ رحمه الله ] أنبأنا إبراهيم - هو ابن أبي يحيى- عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق:إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.

وقد رواه ابن أبي شَيْبَة، عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية، عن ابن عباس، بنحوه. وعن أبي مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وعطاء الخُراساني، نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة.

واختلفوا:هل يُصْلَب حيا ويُتْرَك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح ونحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل، أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة وعليه التكلان.

ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره - إن صح سنده- فقال:

حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس [ بن مالك ] يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره:أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرَنِيِّين - وهم من بَجِيلة- قال أنس:فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس:فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، عليه السلام، عن القضاء فيمن حارب، فقال:من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام، فاصلبه.

وأما قوله تعالى: ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ) قال بعضهم:هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام.

رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.

وقال آخرون:هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية، وقال الشعبي:ينفيه - كما قال ابن هبيرة- من عمله كله. وقال عطاء الخراساني:ينفى من جُنْد إلى جند سنين، ولا يخرج من أرض الإسلام.

وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان:إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام.

وقال آخرون:المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير:أن المراد بالنفي هاهنا:أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.

وقوله: ( ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) أي:هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم - خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم، عن عبادة بن الصامت قال:أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء:ألا نشرك بالله شيئًا:ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضًا، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له

وعن علي [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه » .

رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: « حسن غريب » . وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث، فقال:روي مرفوعًا وموقوفًا، قال:ورفعه صحيح.

وقال ابن جرير في قوله: ( ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ) يعني:شَرٌّ وعَارٌ ونَكَالٌ وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) أي:إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا - في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها - ( عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعني:عذاب جهنم.

وقوله: ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أما على قول من قال:هي في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء.

وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن مجاهد عن الشعبي قال:كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش منهم:الحسن بن علي، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلموا عليًا، فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره، ثم أتى عليًا فقال:يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، فقرأ حتى بلغ: ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) قال:فكتب له أمانًا. قال سعيد بن قيس:فإنه حارثة بن بدر.

وكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن مجاهد عن الشعبي، به. وزاد:فقال حارثة بن بدر:

ألا أبلغَـن هَمْــدان إمَّـا لقيـتَهـا عَـلى النَّـأي لا يَسْـلمْ عَـدو يعيبُها

لَعَمْــرُ أبِيهـا إنَّ هَمْــدان تَتَّقِـي الـ إلَـه ويَقْضـي بالكتــاب خَطيبُهــا

وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري، عن السُّدِّي - ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامر الشعبي قال:جاء رجل من مَراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان، رضي الله عنه، بعدما صلى المكتوبة فقال:يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا، وإني تبت من قبل أن يُقْدر عليَّ. فقام أبو موسى فقال:إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله.

ثم قال ابن جرير:حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم قال:قال الليث، وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الأمير عندنا:أن عليًا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه، حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزمر:53 ] ، فوقف عليه فقال:يا عبد الله، أعد قراءتها. فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائبًا. حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة:صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة في زمن معاوية- فقال:هذا عليّ جاء تائبا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال:فتُرك من ذلك كله، قال:وخرج عليّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعًا. .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 35 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 36 )

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) قال سفيان الثوري، حدثنا أبي، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس:أي القربة. وكذا قال مجاهد [ وعطاء ] وأبو وائل، والحسن، وقتادة، وعبد الله بن كثير، والسدي، وابن زيد.

وقال قتادة:أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [ الإسراء:57 ] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه وأنشد ابن جرير عليه قول الشاعر

إذا غَفَــل الواشُـون عُدنَـا لِوصْلنَـا وعَــاد التَّصَـافي بَيْنَنَـا والوسَـائلُ

والوسيلة:هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضًا:علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقد ثبت في صحيح البخاري، من طريق محمد بن المُنكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قال حين يسمع النداء:اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودا الذي وعدته، إلا حَلَّتْ له الشفاعة يوم القيامة » .

حديث آخر في صحيح مسلم:من حديث كعب عن علقمة، عن عبد الرحمن بن جُبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عَليّ، فإنه من صلى عَليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حَلًّتْ عليه الشفاعة. »

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن لَيْث، عن كعب، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا صليتم عَليّ فَسَلُوا لي الوسيلة » . قيل:يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال: « أعْلَى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رَجُلٌ واحد وأرجو أن أكون أنا هو » .

ورواه الترمذي، عن بُنْدَار، عن أبي عاصم، عن سفيان - هو الثوري- عن لَيْث بن أبي سُلَيم، عن كعب قال:حدثني أبو هريرة، به. ثم قال:غريب، وكعب ليس بمعروف، لا نعرف أحدًا روى عنه غير ليث بن أبي سليم.

طريق أخرى:عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا محمد بن نصر الترمذي، حدثنا عبد الحميد بن صالح، حدثنا أبو شهاب، عن ليث، عن المعلى، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة رفعه قال: « صلوا عليَّ صلاتكم، وسَلُوا الله لي الوسيلة » . فسألوه وأخبرهم: « أن الوسيلة درجة في الجنة، ليس ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكونه » .

حديث آخر:قال الحافظ أبو القاسم الطبراني:أخبرنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو:شفيعًا- يوم القيامة » .

ثم قال الطبراني: « لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين » . كذا قال، وقد رواه ابن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن علي بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، فذكر بإسناده نحوه.

حديث آخر:روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غَزِيةَ، عن موسى بن وَرْدان:أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقها درجة، فسَلُوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه » .

حديث آخر:روى ابن مردويه أيضًا من طريقين، عن عبد الحميد بن بحر:حدثنا شَريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة » . قالوا:يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: « علي وفاطمة والحسن والحسين » .

هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الحسن الدَّشْتَكِيّ، حدثنا أبو زهير، حدثنا سعد بن طَرِيف، عن علي بن الحسين الأزْدِي - مولى سالم بن ثَوْبان- قال:سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة:يا أيها الناس، إن في الجنة لؤلؤتين:إحداهما بيضاء، والأخرى صفراء، أما الصفراء فإنها إلى بُطْنَان العرش، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسرتها وكأنها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء فيها مثل ذلك، هي لإبراهيم، عليه السلام، وأهل بيته.

وهذا أثر غريب أيضا

وقوله: ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، التاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تَبِيد ولا تَحُول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة، الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها يَنْعَم لا ييأس، ويحيا لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.

ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبًا، وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به وتيقن وصوله إليه ما تُقُبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص ؛ ولهذا قال: ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:موجع.

 

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 37 ) .

( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) كما قال تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الآية [ الحج:22 ] ، فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه، ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعالي جهنم، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد، فيردونهم إلى أسفلها، ( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) أي:دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها.

وقد قال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يُؤتَى بالرجل من أهل النار، فيقول:يا ابن آدم، كيف وجدت مَضْجَعك؟ فيقول:شَرَّ مضجع، فيقول:هل تفتدي بقُراب الأرض ذهبًا؟ » قال: « فيقول:نعم، يا رب! فيقول:كذبت! قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل:فيؤمر به إلى النار » .

رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه. وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق معاذ بن هشام الدَّسْتَوائي، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس، به. وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجَوْني، واسمه عبد الملك بن حبيب، عن أنس بن مالك، به. ورواه مَطَر الورَّاق، عن أنس بن مالك، ورواه ابن مردويه من طريقه، عنه.

ثم رواه ابن مَردويه، من طريق المسعودي، عن يزيد بن صُهَيب الفقير، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قال ] « يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة » قال:فقلت لجابر بن عبد الله:يقول الله: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ) قال:اتل أول الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ) الآية، ألا إنهم الذين كفروا.

وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر، عن يزيد الفقير، عن جابر وهذا أبسط سياقًا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مبارك بن فضالة، حدثني يزيد الفقير قال:جلست إلى جابر بن عبد الله، وهو يحدث، فحدّث أن أُنَاسًا يخرجون من النار - قال:وأنا يومئذ أنكر ذلك، فغضبت وقلت:ما أعجب من الناس، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد! تزعمون أن الله يخرج ناسًا من النار، والله يقول: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ] ) فانتهرني أصحابه، وكان أحلمهم فقال:دعوا الرجل، إنما ذلك للكفار: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) حتى بلغ: ( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) أما تقرأ القرآن؟ قلت:بلى قد جمعته قال:أليس الله يقول: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ؟ [ الإسراء:79 ] فهو ذلك المقام، فإن الله [ تعالى ] يحتبس أقوامًا بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم. قال:فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به.

ثم قال ابن مردويه:حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا عمرو بن حفص السَّدُوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا العباس بن الفضل، حدثنا سعيد بن المُهَلَّب، حدثني طَلْق بن حبيب قال:كنت من أشد الناس تكذيبًا بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله [ تعالى ] فيها خلود أهل النار، فقال:يا طلق، أتُرَاك أَقْرَأُ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها، هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبًا فعذبوا، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال صُمَّتًا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يخرجون من النار بعدما دخلوا » . ونحن نقرأ كما قرأت.

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 38 ) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 39 ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 40 )

يقول تعالى حاكمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجُعْفي، عن عامر بن شراحيل الشعبي؛ أن ابن مسعود كان يقرؤها: « والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما » . وهذه قراءة شاذة، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقًا لها، لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر. وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية، فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أخَر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، كما كانت القسامة والدية والقرَاض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه، وزيادات هي من تمام المصالح. ويقال:إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له: « دويك » مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال:سرقه قوم فوضعوه عنده.

وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرًا؛ لعموم هذه الآية: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) فلم يعتبروا نصابًا ولا حِرْزًا، بل أخذوا بمجرد السرقة.

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن، عن نَجْدَة الحَنَفِي قال:سألت ابن عباس عن قوله: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) أخاص أم عام؟

فقال:بل عام.

وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء، ويحتمل غير ذلك، فالله أعلم.

وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لَعَن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده » . وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حِدَةٍ، فعند الإمام مالك بن أنس، رحمه الله:النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مِجَن ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجاه في الصحيحين.

قال مالك، رحمه الله:وقطع عثمان، رضي الله عنه، في أتْرُجَّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم، وهو أحب ما سمعت في ذلك. وهذا الأثر عن عثمان، رضي الله عنه، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن:أن سارقًا سرق في زمان عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تُقَوم، فَقُومَت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار، فقطع عثمان يده.

قال أصحاب مالك:ومثل هذا الصنيع يشتهر، ولم ينكر، فمن مثله يحكى الإجماع السُّكوتي، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافًا للحنفية. وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافًا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار ربع دينار، والله أعلم.

وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدًا. والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان:البخاري ومسلم، من طريق الزهري، عن عَمْرة، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا » .

ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عَمْرة، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا » .

قال أصحابنا:فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا:وحديث ثمن المجن، وأنه كان ثلاثة دراهم، لا ينافي هذا؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهمًا، فهي ثمن ربع دينار، فأمكن الجمع بهذه الطريق.

ويروى هذا المذهبُ عن عُمَر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم. وبه يقول عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، والأوزاعي، والشافعي، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه- وأبو ثور، وداود بن علي الظاهري، رحمهم الله.

وذهب الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه- إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مَرَدٌ شرعي، فمن سرق واحدًا منهما، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر، وبحديث عائشة، رضي الله عنهما، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد، عن عائشة [ رضي الله عنها ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك » وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا. وفي لفظ للنسائي:لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل لعائشة:ما ثمن المجَن؟ قالت:ربع دينار.

فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.

وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه:أبو يوسف، ومحمد، وزُفَر، وكذا سفيان الثوري، رحمهم الله، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة. واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان ثمنه عشرة دراهم. وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة:حدثنا ابن نُمَير وعبد الأعلى وعن محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال:كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.

ثم قال:حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقطع يد السارق في دون ثمن المِجَن » . وكان ثمن المجن عشرة دراهم.

قالوا:فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن، فالاحتياط الأخذ بالأكثر؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

وذهب بعض السلف إلى أنه تُقْطَعُ يدُ السارق في عشرة دراهم، أو دينار، أو ما يبلغ قيمته واحدًا منهما، يحكى هذا عن علي، وابن مسعود، وإبراهيم النَّخَعِي ، وأبي جعفر الباقر، رحمهم الله تعالى.

وقال بعض السلف:لا تقطع الخمس إلا في خمس، أي:في خمسة دنانير، أو خمسين درهمًا. وينقل هذا عن سعيد بن جبير، رحمه الله.

وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة: « يَسْرقُ البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده » بأجوبة:

أحدها:أنه منسوخ بحديث عائشة. وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.

والثاني:أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.

والثالث:أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة.

وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي، لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله، وقلة عقله فقال:

يَدٌ بخـمس مئيـن عسجـد وديـَتُ مـا بالهـا قُطعَـتْ فـي رُبْـع دينار

تَنــاقض مـا لنـا إلا السـكوت لـه وأن نَعُــوذ بمَـوْلانــا من النـارِ

ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه الفقهاء فهرب منهم. وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي، رحمه الله، أنه قال:لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. ومنهم من قال:هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي:مجازاة على صنيعهما السِّيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك ( نَكَالا مِنَ اللَّهِ ) أي:تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ) أي:في انتقامه ( حِكِيمٌ ) أي:في أمره ونهيه وشرعه وقدره.

ثم قال تعالى: ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور.

وقال أبو حنيفة:متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها. وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال: « ما إخَاله سرق » ‍! فقال السارق:بلى يا رسول الله. قال: « اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به » . فقطع فأتي به، فقال: « تب إلى الله » . فقال:تبت إلى الله. فقال: « تاب الله عليك » .

وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي بن المديني وابن خُزَيْمة رحمهما الله، روى ابن ماجه من حديث ابن لَهِيعَة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه؛ أن عَمْرو بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني! فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة:أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول:الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن حُيَي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال:سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا:يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقطعوا يدها اليمنى » . فقالت المرأة:هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك » ! قال:فأنزل الله عز وجل: ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا، فقال:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهيعة، حدثني حُيَي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو؛ أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا:يا رسول الله، إن هذه المرأة سرقتنا! قال قومها:فنحن نفديها، فقال رسول الله: « اقطعوا يدها » فقالوا:نحن نفديها بخمسمائة دينار. قال: « اقطعوا يدها » . قال:فقطعت يدها اليمنى. فقالت المرأة:هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: « نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك » . فأنزل الله في سورة المائدة: ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت، وحديثها ثابت في الصحيحين، من رواية الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أن قريشا أهمهم شأنُ المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة الفتح، فقالوا:من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا:ومن يَجْتَرِئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتي بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أتشفع في حَدٍّ من حدود الله، عز وجل؟ » فقال له أسامة:استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العَشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: « أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها » . ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة [ رضي الله عنها ] فحَسنَتْ توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا لفظ مسلم وفي لفظ له عن عائشة قالت:كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.

وعن ابن عمر قال:كانت امرأة مخزومية تستعير متاعًا على ألسنة جاراتها وتجحده، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.

رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي - وهذا لفظه- وفي لفظ له:أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله وترد ما تأخذ على القوم » ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها »

وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب « الأحكام » ، ولله الحمد والمنة.

ثم قال تعالى: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:هو المالك لجميع ذلك، الحاكم فيه، الذي لا مُعَقِّبَ لحكمه، وهو الفعال لما يريد ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 41 )

نـزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله، عز وجل ( مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) أي:أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون. ( وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ) أعداء الإسلام وأهله. وهؤلاء كلهم ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) أي:يستجيبون له، منفعلون عنه ( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ) أي:يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد. وقيل:المراد أنهم يتسمعون الكلام، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك، من أعدائك ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) أي:يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا )

قيل:نـزلت في أقوام من اليهود، قتلوا قتيلا وقالوا:تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

والصحيح أنها نـزلت في اليهوديَّيْن اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا فيما بينهم:تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث بذلك، فقال مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال:إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ » فقالوا:نفضحهم ويُجْلَدون. قال عبد الله بن سلام:كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام:ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا صدق يا محمد، فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة.

وأخرجاه وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له: « فقال لليهود:ما تصنعون بهما؟ » قالوا:نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما. قال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ آل عمران:93 ] فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ:اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال:ارفع يدك. فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال:يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فَرُجما.

وعند مسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود، فقال: « ما تجدون في التوراة على من زنى؟ » قالوا:نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما، قال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قال:فجاءوا بها، فقرأوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سَلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- :مُرْه فلْيرفع يده. فرفع يده، فإذا تحتها آيةُ الرجم. فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما. قال عبد الله بن عمر:كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.

وقال أبو داود:حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني، حدثنا ابن وَهْب، حدثنا هشام بن سعد؛ أن زيد بن أسلم حَدثه، عن ابن عمر قال:أتَى نفر من اليهود، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس، فقالوا:يا أبا القاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة، فاحكم قال:ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة، فجلس عليها، ثم قال: « ائتوني بالتوراة » . فأتي بها، فنـزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال: « آمنت بك وبمن أنـزلك » . ثم قال: « ائتوني بأعلمكم » . فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع.

وقال الزهري:سمعت رجلا من مُزَيْنَة، ممن يتبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيب، عن أبي هريرة قال:زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض:اذهبوا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، قلنا:فتيا نبي من أنبيائك، قال:فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا:يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم، فقام على الباب فقال: « أنْشُدكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ؟ » قالوا:يُحَمَّم، ويُجبَّه ويجلد. والتجبية:أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما. قال:وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت، ألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّشْدة، فقال:اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ » قال:زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه وقالوا:لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فإني أحكم بما في التوراة » فأمر بهما فرجما. قال الزهري:فبلغنا أن هذه الآية نـزلت فيهم: إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم.

رواه أحمد، وأبو داود - وهذا لفظه- وابن جرير

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن البراء بن عازب قال:مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود، فدعاهم فقال: « أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ » فقالوا:نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: « أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟ » فقال:لا والله، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا:تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه » . قال:فأمر به فرجم، قال:فأنـزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) إلى قوله: ( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ) يقولون:ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، إلى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ قال:في اليهود إلى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال:في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قال:في الكفار كلها.

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من غير وجه، عن الأعمش، به.

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده:حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن مُجالد بن سعيد الهَمْدَاني، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال:زنى رجل من أهل فَدَك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، تسألوه عن ذلك، قال: « أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم » . فجاءوا برجل أعور - يقال له:ابن صوريا- وآخر، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: « أنتما أعلم من قبلكما؟ » . فقالا قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: « أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟ » قالا بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل، وظَلّل عليكم الغَمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنـزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل:ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ » فقال أحدهما للآخر:ما نُشدْتُ بمثله قط. قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية، والقبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد، كما يدخل الميل في المُكْحُلة، فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « هو ذاك » . فأمر به فَرُجمَ، فنـزلت: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث مُجالد، به نحوه. ولفظ أبي داود عن جابر قال:جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: « ائتوني بأعلم رجلين منكم » . فأتوا بابني صوريا، فنشدهما: « كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ » قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما، قال: « فما يمنعكم أن ترجموهما؟ » قالا ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما.

ثم رواه أبو داود، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي، مرسلا ولم يذكر فيه: « فدعا بالشهود فشهدوا » .

فهذه أحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله، عز وجل إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم، مما تراضوا على كتمانه وجحده، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم على خلافه، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا ( إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا ) والتحميم ( فَخُذُوهُ ) أي:اقبلوه ( وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) أي:من قبوله واتباعه.

 

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 42 ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( 43 ) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( 44 )

قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي:الباطل ( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) أي:الحرام، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد أي:ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه؟ وأنى يستجيب له.

ثم قال لنبيه: ( فَإِنْ جَاءُوكَ ) أي:يتحاكمون إليك ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ) أي:فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما وافق هواهم.

قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني:هي منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [ المائدة:49 ] ، ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) أي:بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )

ثم قال تعالى - منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال: ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ )

ثم مدح التوراة التي أنـزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: ( إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) أي:لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ ) أي:وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء، والأحبار وهم العلماء ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ) أي:بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به ( وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) أي:لا تخافوا منهم وخافوني ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) فيه قولان سيأتي بيانهما. سبب آخر لنـزول هذه الآيات الكريمة.

قال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:إن الله أنـزل: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) و فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ المائدة:45 ] فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ المائدة:47 ] قال:قال ابن عباس:أنـزلها الله في الطائفتين من اليهود، كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وَسَقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويومئذ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه، وهو في الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة:أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة:وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد:دية بعضهم نصف دية بعض. إنما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا، وفَرقًا منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة فقالت:والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيمًا منا وقهرًا لهم، فدسّوا إلى محمد:من يَخْبُر لكم رأيه، إن أعطاكم ما تريدون حَكمتموه وإن لم يعطكم حُذّرتم فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من المنافقين ليَخْبُروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله، وما أرادوا، فأنـزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: ( الْفَاسِقُونَ ) ففيهم - والله- أنـزل، وإياهم عنى الله، عز وجل.

ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد، عن أبيه، بنحوه.

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثنا هَنَّاد بن السري وأبو كُرَيْب قالا حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن الآيات في « المائدة » ، قوله: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) إلى ( الْمُقْسِطِينَ ) إنما أنـزلت في الدية في بني النَّضير وبني قُرَيْظَة، وذلك أن قتلى بني النضير، كان لهم شرف، تُؤدَى الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يُودَوْن نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء- والله أعلم أي ذلك كان.

ورواه أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن إسحاق.

ثم قال ابن جرير:حدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كانت قريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، ودي مائة وسق تمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا:ادفعوه إلينا فقالوا:بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنـزلت: ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ )

ورواه أبو داود والنسائي، وابن حِبَّان، والحاكم في المستدرك، من حديث عبيد الله بن موسى، بنحوه.

وهكذا قال قتادة، ومُقاتل بن حَيَّان، وابن زيد وغير واحد.

وقد روى العَوْفِيّ، وعلي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس:أن هذه الآيات نـزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنـزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم.

ولهذا قال بعد ذلك: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النـزول قضية القصاص، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) قال البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مِجْلزٍ، وأبو رَجاء العُطارِدي، وعِكْرِمة، وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري، وغيرهم:نـزلت في أهل الكتاب - زاد الحسن البصري:وهي علينا واجبة.

وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال:نـزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها. رواه ابن جرير.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كُهَيل، عن عَلْقَمَة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال:من السُّحْت:قال:فقالا وفي الحكم؟ قال:ذاك الكفر! ثم تلا ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )

وقال السُّدِّي: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) يقول:ومن لم يحكم بما أنـزلتُ فتركه عمدًا، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين [ به ]

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) قال:من جحد ما أنـزل الله فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير.

ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم الله المنـزل في الكتاب.

وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن زكريا، عن الشعبي: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) قال:للمسلمين.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) قال:هذا في المسلمين، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال:هذا في اليهود، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قال:هذا في النصارى.

وكذا رواه هُشَيْم والثوري، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي.

وقال عبد الرزاق أيضًا:أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس عن أبيه قال:سئل ابن عباس عن قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ] ) قال:هي به كفر - قال ابن طاوس:وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وقال الثوري، عن ابن جُرَيْج عن عطاء أنه قال:كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير.

وقال وَكِيع عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) قال:ليس بكفر ينقل عن الملة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حُجَير، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) قال:ليس بالكفر الذي يذهبون إليه.

ورواه الحاكم في مستدركه، عن حديث سفيان بن عيينة، وقال:صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 45 )

وهذا أيضًا مما وُبّخَتْ به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة:أن النفس بالنفس. وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا، ويُقيدون النضري من القرظي، ولا يُقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار؛ ولهذا قال هناك: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ لأنهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا، وقال هاهنا: ( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا، وتعدى بعضهم على بعض.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن أبي علي بن يزيد - أخي يونس بن يزيد- عن الزهري، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) نصب النفس ورفع العين.

وكذا رواه أبو داود، والترمذي والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن المبارك وقال الترمذي:حسن غريب.

وقال البخاري:تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.

وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة.

وقال الحسن البصري:هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم.

وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها:أن شرع إبراهيم حجة دون غيره، وصحح منها عدم الحجية، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا، فالله أعلم.

وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ، رحمه الله، في كتابه « الشامل » إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: « أن الرجل يقتل بالمرأة » وفي الحديث الآخر: « المسلمون تتكافأ دماؤهم » وهذا قول جمهور العلماء.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية؛ لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في روايته [ عنه ] وحكي [ هذا ] عن الحسن [ البصري ] وعطاء، وعثمان البتي، ورواية عن أحمد [ به ] أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب ديتها.

وهكذا احتج أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يقتل مسلم بكافر » وأما العبد فعن السلف في آثار متعددة:أنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حرًا بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.

ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، حدثنا حُمَيْد، عن أنس بن مالك:أن الرُّبَيع عَمّة أنس كسرت ثَنيَّة جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « القصاص » . فقال أخوها أنس بن النضر:يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أنس، كتاب الله القصاص » . قال:فقال:لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة. قال:فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره » .

أخرجاه في الصحيحين وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، في الجزء المشهور من حديثه، عن حميد، عن أنس بن مالك؛ أن الرُّبَيع بنت النضر عَمَّته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال:يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أنس كتاب الله القصاص » . فعفا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره » . رواه البخاري عن الأنصاري. فأما الحديث الذي رواه أبو داود:

حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي نَضرة، عن عمران بن حصين، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا رسول الله، إنا أناس فقراء، فلم يجعل عليه شيئًا. وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه عن قتادة، به وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات فإنه حديث مشكل، اللهم إلا أن يقال:إن الجاني كان قبل البلوغ، فلا قصاص عليه، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء، أو استعفاهم عنه.

وقوله تعالى: ( وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنـزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح.

فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [ به ] فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدًا، في النفس وما دون النفس، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

قاعدة مهمة:

الجراح تارة تكون في مَفْصِل، فيجب فيه القصاص بالإجماع، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك. وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم، فقال مالك، رحمه الله:فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها؛ لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه:لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن. وقال الشافعي:لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقًا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس. وبه يقول عطاء، والشعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النَّخَعِي، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد. وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

وقد احتج أبو حنيفة، رحمه الله، بحديث الرُّبَيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن. وحديثُ الربيع لا حجة فيه؛ لأنه ورد بلفظ: « كَسَرَتْ ثَنيَّة جارية » وجائز أن تكون سقطت من غير كسر، فيجب القصاص - والحالة هذه- بالإجماع. وتمموا الدلالة. بما رواه ابن ماجه، من طريق أبي بكر بن عَيَّاش، عن دهْثَم بن قُرَّان، عن نِمْرَان بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي؛ أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل، فقطعها، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية، فقال:يا رسول الله، أُريد القصاص. فقال: « خذ الدية، بارك الله لك فيها » . ولم يقض له بالقصاص.

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر:ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، وَدَهْثَم بن قُرَّان العُكلي ضعيف أعرابي، ليس حديثه مما يحتج به، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة.

ثم قالوا:لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تَنْدَمِل جراحة المجني عليه، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه، فلا شيء له، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، فذكر حديثًا، قال ابن إسحاق:وذكر عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:أقدني. فقال صلى الله عليه وسلم: « لا تعجل حتى يبرأ جرحك » . قال:فأبى الرجل إلا أن يستقيد، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قال:فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:يا رسول الله، عرجت وبرأ صاحبي. فقال: « قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله وبطل عرجك » . ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. تفرد به أحمد.

مسألة:

فلو اقتص المجني عليه من الجاني، فمات من القصاص، فلا شيء عليه عند مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة:تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحارث العُكْلِي، وابن أبي ليلى، وحماد بن أبي سليمان، والزهري، والثوري:تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود، وإبراهيم النَّخعي، والحكم بن عتَيبة وعثمان البَتِّيّ:يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله.

وقوله: ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) يقول:فمن عفا عنه، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب، وأجر للطالب.

وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال:كفارة للجارح، وأجر المجروح على الله، عز وجل. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال:وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن، ومجاهد، وإبراهيم - في أحد قوليه- وعامر الشعبي، وجابر بن زيد- نحو ذلك الوجه الثاني، ثم قال ابن أبي حاتم:

حدثنا حماد بن زاذان، حدثنا حرمي - يعني ابن عمارة- حدثنا شعبة، عن عمارة - يعني ابن أبي حفصة- عن رجل، عن جابر بن عبد الله، في قول الله، عز وجل ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال:للمجروح. وروى عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه- وأبي إسحاق الهمداني، نحو ذلك.

وروى ابن جرير، عن عامر الشعبي وقتادة، مثله.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا شعبة، عن قيس - يعني بن مسلم- قال:سمعت طارق بن شهاب يحدث، عن الهيثم أبي العريان النخعي قال:رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي، فسألته عن قول الله [ عز وجل ] ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال:يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تَصدق به.

وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم. وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة.

وقال ابن مَرْدُويَه:حدثني محمد بن علي، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المُجَاشِعي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري، حدثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي، حدثنا مُعلَّى - يعني ابن هلال - أنه سمع أبان بن تغلب، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو - وعن أبان بن تغلب، عن الشعبي، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال:هو الذي تكسر سنه، أو تقطع يده، أو يقطع الشيء منه، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك، وقال فَيُحَطّ عنه قدر خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان الثلث فثلث خطاياه، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك.

ثم قال ابن جرير:حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السَّفَر قال:دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار، فاندقت ثنيته، فرفعه الأنصاري إلى معاوية، فلما ألح عليه الرجل قال:شأنك وصاحبك. قال:وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه، إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة » . فقال الأنصاري:أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:سمعته أذناي ووعاه قلبي، فخلى سبيل القرشي، فقال معاوية:مروا له بمال.

هكذا رواه ابن جرير ورواه الإمام أحمد فقال:حدثنا وَكِيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السَّفر قال:كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال القرشيُّ:إن هذا دق سنّي؟ قال معاوية:إنا سنرضيه. فألح الأنصاري، فقال معاوية:شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من مسلم يصاب بشيء في جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة » . فقال الأنصاري:فإني، يعني:قد عفوت.

وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك، وابن ماجه من حديث وَكِيع، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق، به ثم قال الترمذي:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السَّفَر سماعًا من أبي الدرداء.

وقال [ أبو بكر ] بن مردويه:حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا محمد بن علي بن زيد، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن عدي بن ثابت؛ أن رجلا هَتَم فمه رجل، على عهد معاوية، رضي الله عنه، فأعْطِي دية، فأبى إلا أن يقتص، فأعطي ديتين، فأبى، فأعطي ثلاثًا، فأبى، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من تصدق بدم فما دونه، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا سُرَيج بن النعمان، حدثنا هُشَيْم، عن المغيرة، عن الشعبي؛ أن عبادة بن الصامت قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من رجل يجرح من جسده جراحة، فيتصدق بها، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به » .

ورواه النسائي، عن علي بن حُجْر، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه ابن جرير، عن محمود بن خِدَاش، عن هُشَيْم، كلاهما عن المغيرة، به.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن مجالد، عن عامر، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أصيب بشيء من جسده، فتركه لله، كان كفارة له » .

وقوله: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كُفْر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

 

وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ( 46 ) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 47 )

يقول تعالى: « وَقَفَّيْنَا » أي:أتبعنا ( عَلَى آثَارِهِمْ ) يعني:أنبياء بني إسرائيل [ عليه السلام ] ( بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) أي:مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها ( وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ) أي:هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات. ( وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ) أي:متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [ آل عمران:50 ] ؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة.

وقوله: ( وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) أي:وجعلنا الإنجيل ( هُدًى ) يهتدى به، ( وَمَوْعِظَةً ) أي:وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي:لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.

وقوله: ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فِيهِ ) قُرئ ( وَلْيَحْكُمْ ) بالنصب على أن اللام لام كي، أي:وآتيناه الإنجيل [ فيه هدى ونور ] ليحكم أهل ملته به في زمانهم. وقرئ: ( وَلْيَحْكُمْ ) بالجزم اللام لام الأمر، أي:ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية [ المائدة:68 ] وقال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ ] الْمُفْلِحُونَ [ الأعراف:157 ] ؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) أي:الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق. وقد تقدم أن هذه الآية نـزلت في النصارى، وهو ظاهر السياق.

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 48 ) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( 49 ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 50 )

لما ذكر تعالى التوراة التي أنـزلها الله على موسى كليمه [ عليه السلام ] ومدحها وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل ومدحه، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه، كما تقدم بيانه، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم، الذي أنـزله على عبده ورسوله الكريم، فقال: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) أي:بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله، ( مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ) أي:من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكْرَه ومَدْحَه، وأنه سينـزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نـزوله كما أخبرت به، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا [ الإسراء:107، 108 ] أي:إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين، من مجيء محمد، عليه السلام، لَمَفْعُولا أي:لكائنًا لا محالة ولا بد.

وقوله: ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، أي:مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:المهيمن:الأمين، قال:القرآن أمين على كل كتاب قبله.

وروي عن عِكْرِمَة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسُّدِّي، وابن زيد، نحو ذلك.

وقال ابن جريج:القرآن أمين على الكتب المتقدمة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.

وعن الوالبي، عن ابن عباس: ( وَمُهَيْمِنًا ) أي:شهيدًا. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.

وقال العَوْفِي عن ابن عباس: ( وَمُهَيْمِنًا ) أي:حاكمًا على ما قبله من الكتب.

وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم « المهيمن » يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنـزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال [ تعالى ] إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الحجر:9 ] .

فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله: ( وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) يعني:محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنـزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر. وبالجملة فالصحيح الأول، قال أبو جعفر بن جرير، بعد حكايته له عن مجاهد:وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ، وذلك أن « المهيمن » عطف على « المصدق » ، فلا يكون إلا من صفة ما كان « المصدق » صفة له. قال:ولو كان كما قال مجاهد لقال: « وأنـزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه » . يعني من غير عطف.

وقوله: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) أي:فاحكم يا محمد بين الناس:عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم ( بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ ) إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. فردهم إلى أحكامهم، فنـزلت: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

وقوله: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) أي:آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنـزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) أي:لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.

وقوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن التميمي، عن ابن عباس: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ) قال:سبيلا.

وحدثنا أبو سعيد، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: ( وَمِنْهَاجًا ) قال:وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ، عن ابن عباس: ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) سبيلا وسنة.

وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّي، وأبي إسحاق السبيعي؛ أنهم قالوا في قوله: ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي:سبيلا وسنة.

وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه: ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي:سنة وسبيلا والأول أنسب، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال: « شرع في كذا » أي:ابتدأ فيه. وكذا الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما « المنهاج » :فهو الطريق الواضح السهل، والسنن:الطرائق، فتفسير قوله: ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس، والله أعلم.

ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد » يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنـزله، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية [ النحل:36 ] ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى، وبالعكس، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة:قوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) يقول:سبيلا وسنة، والسنن مختلفة:هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان شريعة، يحل الله فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، والدين الذي لا يقبل الله غيره:التوحيد والإخلاص لله، الذي جاءت به الرسل.

وقيل:المخاطب بهذا هذه الأمة، ومعناه: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا ) القرآن ( مِنْكُمْ ) أيتها الأمة ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي:هو لكم كلكم، تقتدون به. وحُذف الضمير المنصوب في قوله: ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ) أي:جعلناه، يعني القرآن، ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي:سبيلا إلى المقاصد الصحيحة، وسنة أي:طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا.

هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد، رحمه الله، والصحيح القول الأول، ويدل على ذلك قوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) أي:أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.

وقال عبد الله بن كثير: ( فِي مَا آتَاكُمْ ) يعني:من الكتاب.

ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها، فقال: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنـزله.

ثم قال تعالى: ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) أي:معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة ( فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) أي:فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة.

وقال الضحاك: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) يعني:أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر الأول.

وقوله: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه.

ثم قال [ تعالى ] ( وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) أي:احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة. ( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي:عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله ( فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) أي:فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم. ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) أي:أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناؤون عنه، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] . وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ الآية ] [ الأنعام:116 ] .

وقال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال:قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض:اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه، فقالوا:يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك، ونصدقك! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله، عز وجل، فيهم: ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنـزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) إلى قوله: ( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.

وقوله: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) أي:يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي:ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هلال بن فياض، حدثنا أبو عبيدة الناجي قال:سمعت الحسن يقول:من حكم بغير حكم الله، فحكم الجاهلية [ هو ]

وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نَجِيح قال:كان طاوس إذا سأله رجل:أفضِّل بين ولدي في النحْل؟ قرأ: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ] )

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة الخوطي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبغض الناس إلى الله، عز وجل ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه » . وروى البخاري، عن أبي اليمان بإسناده نحوه.

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 51 ) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( 52 ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ( 53 )

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا كثير بن شهاب، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق- حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك بن حَرْب، عن عِياض:أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر [ رضي الله عنه ] وقال:إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتابًا في المسجد جاء من الشام؟ فقال:إنه لا يستطيع [ أن يدخل المسجد ] فقال عمر:أجُنُبٌ هو؟ قال:لا بل نصراني. قال:فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال:أخرجوه، ثم قرأ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] )

ثم قال الحسن بن محمد بن الصباح:حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا ابن عَوْن، عن محمد بن سِيرِين قال:قال عبد الله بن عتبة:ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا، وهو لا يشعر. قال:فظنناه يريد هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] ) الآية . وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس:أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال:كُلْ، قال الله تعالى: ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )

وروي عن أبي الزناد، نحو ذلك.

وقوله: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) أي:شك، وريب، ونفاق ( يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ) أي:يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، ( يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ) أي:يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى: ( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ) قال السُّدِّي:يعني فتح مكة. وقال غيره:يعني القضاء والفصلِ ( أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) قال السُّدِّي:يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى ( فَيُصْبِحُوا ) يعني:الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين ( عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) من الموالاة ( نَادِمِينَ ) أي:على ما كان منهم، مما لم يُجْد عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم محذورًا، بل كان عين المفسدة، فإنهم فضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم. فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم؛ ولهذا قال تعالى: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ )

وقد اختلف القراء في هذا الحرف، فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ ) ثم منهم من رفع ( وَيَقُولُ ) على الابتداء، ومنهم من نصب عطفًا على قوله: ( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) تقديره « أن يأتي » « وأن يقول » ، وقرأ أهل المدينة: ( يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير، قال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: ( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ) حينئذ ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ )

واختلف المفسرون في سبب نـزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السُّدِّي أنها نـزلت في رجلين، قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد:أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي، فآوي إليه وأتهود معه، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث! وقال الآخر:وأما أنا فأذهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه وأتنصر معه، فأنـزل الله [ عز وجل ] ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ) الآيات.

وقال عكرمة:نـزلت في أبي لُبَابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَة، فسألوه:ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي:إنه الذبح. رواه ابن جرير.

وقيل:نـزلت في عبد الله بن أبيّ بن سَلُول، كما قال ابن جرير:

حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس قال:سمعت أبيّ، عن عطية بن سعد قال:جاء عبادة بن الصامت، من بني الخزرج، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي:إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: « يا أبا الحُباب، ما بَخِلْتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه » . قال:قد قبلت! فأنـزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] ) إلى قوله: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) .

ثم قال ابن جرير:حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال:لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود:آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر! فقال مالك بن الصيف:أغركم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يَدٌ بقتالنا فقال عبادة:يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرًا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله [ تعالى ] وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي:لكني لا أبرأ من ولاء يهود أنا رجل لا بد لي منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه؟ » فقال:إذا أقبلُ! قال:فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] ) إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة:67 ] .

وقال محمد بن إسحاق:فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال:فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نـزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال:يا محمد، أحسن في مَوَالي. وكانوا حلفاء الخزرج، قال:فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:يا محمد، أحسن في موالي. قال:فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. « أرسلني » . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئِي لوجهه ظللا ثم قال: « ويحك أرسلني » . قال:لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مَوَالي، أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟! إني امرؤ أخشى الدوائر، قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هُم لك. »

قال محمد بن إسحاق:فحدثني أبو إسحاق بن يَسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال:لما حاربت بنو قَيْنُقَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عَوْف بن الخزرج، له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من حلفهم، وقال:يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله بن أبي نـزلت الآيات في المائدة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) إلى قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [ المائدة:56 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن أسامة بن زيد قال:دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « قد كنت أنهاك عن حُبّ يهود » . فقال عبد الله:فقد أبغضهم أسعد بن زرارة، فمات.

وكذا رواه أبو داود، من حديث محمد بن إسحاق.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 54 ) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( 55 ) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( 56 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 57 )

يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد:38 ] وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [ النساء:133 ] ، وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [ إبراهيم:19 ، 20 ] أي:بممتنع ولا صعب. وقال تعالى هاهنا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) أي:يرجع عن الحق إلى الباطل.

قال محمد بن كعب:نـزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري:نـزلت في أهل الردة أيام أبي بكر.

( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) قال الحسن:هو والله أبو بكر وأصحابه [ رضي الله عنهم ] رواه ابن أبي حاتم.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة:سمعت أبا بكر بن عياش يقول في قوله ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) هم أهل القادسية. وقال لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد:هم قوم من سبأ.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن محمد بن عمرو، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) قال:ناس من أهل اليمن، ثم من كِنْدَة، ثم من السَّكُون.

وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا معاوية - يعني ابن حفص- عن أبي زياد الحلفاني، عن محمد بن المُنْكَدر، عن جابر بن عبد الله قال:سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) قال: « هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من السكون، ثم من تجيب » . وهذا حديث غريب جدا.

وقال ابن أبى حاتم:حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا عبد الصمد - يعني ابن عبد الوارث- حدثنا شعبة، عن سِمَاك، سمعت عياضًا يحدث عن الأشعري قال:لما نـزلت: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هم قوم هذا » . ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه.

وقوله تعالى: ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ الفتح:29 ] . وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه: « الضحوك القتال » فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.

وقوله [ تعالى ] ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) أي:لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل.

قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا سلام أبو المنذر، عن محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال:أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع، أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول:لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنـز تحت العرش.

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان عن أبي المثنى؛ أن أبا ذر قال:بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعًا، وأشهد الله على تسعًا، أني لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو ذر:فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « هل لك إلى بيعة ولك الجنة؟ » قلت:نعم، قال:وبسطت يدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط:على ألا تسأل الناس شيئا؟ قلت:نعم قال: « ولا سوطك وإن سقط منك يعني تنـزل إليه فتأخذه. »

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا جعفر، عن المعلى القُرْدوسي، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يُبَاعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم » . تفرد به أحمد.

وقال أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن زُبَيْد عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله فيه مَقَال، فلا يقول فيه، فيقال له يوم القيامة:ما منعك أن تكون قلت فيّ كذا وكذا؟ فيقول:مخافة الناس. فيقول:إياي أحق أن تخاف » .

ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش، عن عَمْرو بن مرة به. وروى أحمد وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طُوَالة عن نهار بن عبد الله العبدي المدني، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى إنه ليسأله يقول له:أيْ عبدي، رأيت منكرًا فلم تنكره؟ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته، قال:أيْ رب، وثقت بك وخفت الناس » .

وثبت في الصحيح: « ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه » ، قالوا:وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله؟ قال: « يتحمل من البلاء ما لا يطيق » .

( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) أي:من اتصف بهذه الصفات، فإنما هو من فضل الله عليه، وتوفيقه له، ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) أي:واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه.

وقوله: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أي:ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين.

وقوله: ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [ وَهُمْ رَاكِعُونَ ] ) أي:المؤمنون المتصفون بهذه الصفات، من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين.

وأما قوله ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) فقد توهم بعضهم أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) أي:في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب:أن هذه الآية نـزلت فيه: [ ذلك ] أنه مر به سائل في حال ركوعه، فأعطاه خاتمه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الربيع بن سليمان المرادي، حدثنا أيوب بن سُوَيْد، عن عتبة بن أبي حكيم في قوله: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) قال:هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب.

وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا الفضل بن دُكَيْن أبو نعيم الأحول، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كُهَيْل قال:تصدق علي بخاتمه وهو راكع، فنـزلت: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .

وقال ابن جرير:حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا غالب بن عبيد الله، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) الآية:نـزلت في علي بن أبي طالب، تَصَّدَق وهو راكع

وقال عبد الرزاق:حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) الآية:نـزلت في علي بن أبي طالب.

عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.

ورواه ابن مَرْدُويه، من طريق سفيان الثوري، عن أبي سِنان، عن الضحاك، عن ابن عباس قال:كان علي بن أبي طالب قائمًا يصلي، فمر سائل وهو راكع، فأعطاه خاتمه، فنـزلت: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) الآية.

الضحاك لم يلق ابن عباس.

وروى ابن مَرْدُويه أيضًا عن طريق محمد بن السائب الكلبي - وهو متروك- عن أبي صالح، عن ابن عباس قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، والناس يصلون، بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أعطاك أحد شيئًا؟ » قال:نعم. قال: « من؟ » قال:ذلك الرجل القائم. قال: « على أي حال أعطاكه؟ » قال:وهو راكع، قال: « وذلك علي بن أبي طالب » . قال:فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وهو يقول: ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )

وهذا إسناد لا يفرح به.

ثم رواه ابن مردويه، من حديث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، نفسه، وعمار بن ياسر، وأبي رافع. وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. ثم روى بسنده، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) نـزلت في المؤمنين، وعلي بن أبي طالب أولهم.

وقال ابن جرير:حدثنا هَن‍َّاد، حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر قال:سألته عن هذه [ الآية ] ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) قلنا:من الذين آمنوا؟ قال:الذين آمنوا! قلنا:بلغنا أنها نـزلت في علي بن أبي طالب! قال:عَلِيٌّ من الذين آمنوا.

وقال أسباط، عن السُّدِّي:نـزلت هذه الآية في جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه.

وقال علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس:من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا. رواه ابن جرير.

وقد تقدم في الأحاديث التي أوردنا أن هذه الآيات كلها نـزلت في عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، حين تبرأ من حلْف يَهُود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ المجادلة:21 ، 22 ]

فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة [ ومنصور في الدنيا والآخرة ] ؛ ولهذا قال [ الله ] تعالى في هذه الآية الكريمة: ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )

وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها ( هُزُوًا وَلَعِبًا ) يستهزئون بها، ( وَلَعِبًا ) يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد كما قال القائل:

وَكَــمْ مِـنْ عَـائبٍ قَـولا صَحِيحًـا وآفَتُـــهُ مِــن الْفَهــم السَّــقِيمِ

وقوله: ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ ) « من » ههنا لبيان الجنس، كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [ الحج:30 ] ، وقرأ بعضهم ( وَالْكُفَّارِ ) بالخفض عطفا، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) تقديره:ولا الكفار أولياء، أي:لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء.

والمراد بالكفار ههنا المشركون، وكذا وقع في قراءة ابن مسعود، فيها رواه ابن جرير: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ) .

وقوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي:اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء ( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوًا ولعبًا، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [ آل عمران:28 ] .

 

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 58 )

وقوله [ تعالى ] ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ) أي:وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب ( اتَّخَذُوهَا ) أيضًا ( هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) مَعَانِي عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي « إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص، أي:ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول:اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلَّى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام » . متفق عليه.

وقال الزهري:قد ذكر الله [ تعالى ] التأذين في كتابه فقال: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال أسباط، عن السُّدِّي، في قوله: ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ) قال:كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: « أشهد أن محمدًا رسول الله » قال:حُرّق الكاذب! فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد:لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث بن هشام:أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان:لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « قد علمت الذي قلتم » ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب:نشهد أنك رسول الله، [ والله ] ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.

وقال الإمام أحمد:حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرنا عبد العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة؛ أن عبد الله بن مُحَيريز أخبره - وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة- قال:قلت لأبي محذورة:يا عم، إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك. فأخبرني أن أبا محذورة قال له:نعم خرجت في نفر، وكنا ببعض طريق حنين، مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع؟ » فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني. وقال « قم فأذّن بالصلاة » . فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه، قال: « قل الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، » ثم قال لي: « ارجع فامدد من صوتك » . ثم قال:أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله « . ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمرّها على وجهه، ثم بين ثدييه ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » بارك الله فيك وبارك عليك « . فقلت:يا رسول الله، مُرْني بالتأذين بمكة. فقال قد » أمرتك به « . وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز » .

هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربعة من طريق عن عبد الله بن محيريز، عن أبي محذورة - واسمه:سَمُرَة بن مِعْيرَ بن لوذان- أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأربعة، وهو مؤذن أهل مكة، وامتدت أيامه، رضي الله عنه وأرضاه.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( 59 ) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( 60 ) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ( 61 ) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 62 ) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 63 ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 64 )

يقول تعالى:قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب: ( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ ) أي:هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعًا كما في قوله: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ البروج:8 ] وكقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [ التوبة:74 ] وفي الحديث المتفق عليه: « ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله » .

وقوله: ( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) معطوف على ( أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ ) أي:وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي:خارجون عن الطريق المستقيم.

ثم قال: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ) أي:هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة، فقوله: ( مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ) أي:أبعده من رحمته ( وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) أي:غضبًا لا يرضى بعده أبدًا، ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) كما تقدم بيانه في سورة البقرة. وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [ إن شاء الله تعالى ]

وقد قال سفيان الثوري:عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المعرور بن سُوَيْد، عن ابن مسعود قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله [ تعالى ] ؟ فقال إن الله لم يهلك قومًا - أو قال:لم يمسخ قومًا- فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك « . »

وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري، به.

وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال:سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: « لا إن الله لم يلعن قومًا فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم، جعلهم مثلهم » .

ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات، به.

وقال ابن مردويه:حدثنا عبد الباقي، حدثنا أحمد بن صالح حدثنا الحسن بن محبوب، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن داود بن أبي هند، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الحيات مَسْخ الجن، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير » . هذا حديث غريب جدا .

وقوله: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) وقرئ ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) على أنه فعل ماض، « والطاغوت » منصوب به، أي:وجعل منهم من عبد الطاغوت. وقرئ: ( وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ ) بالإضافة على أن المعنى:وجعل منهم خدم الطاغوت، أي:خدامه وعبيده. وقرئ ( وَعُبُدَ الطَّاغُوت ) على أنه جمع الجمع:عبد وعَبيد وعُبُد، مثل ثمار وثُمُر. حكاها ابن جرير عن الأعمش. وحكي عن بُرَيْدةَ الأسلمي أنه كان يقرؤها: « وعَابد الطاغوت » ، وعن أبي، وابن مسعود: « وعبدوا » ، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها: ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ) على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، ثم استبعد معناها. والظاهر أنه لا بعد في ذلك؛ لأن هذا من باب التعريض بهم، أي:وقد عبدت الطاغوت فيكم، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك.

وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا، والذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون [ ما ] سواه، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال: ( أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ) أي:مما تظنون بنا ( وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ )

وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة، كقوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا [ الفرقان:24 ]

وقوله: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر؛ ولهذا قال: ( وَقَدْ دَخَلُوا [ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ] ) أي عندك يا محمد ( بِالْكُفْرِ ) أي:مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر؛ ولهذا قال: ( وَهُمْ [ قَدْ ] خَرَجُوا بِهِ ) فخصهم به دون غيرهم.

وقوله: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) أي:والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.

وقوله: ( وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) أي:يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس، وأكلهم أموالهم بالباطل ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم.

قوله: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) يعني:هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك. والربانيون وهم:العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار:وهم العلماء فقط.

( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني الربانيين، أنهم:بئس ما كانوا يصنعون. يعني:في تركهم ذلك.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:قال لهؤلاء حين لم يَنْهُوا، ولهؤلاء حين علموا. قال:وذلك الأمر كان. قال: « ويعملون » و « ويصنعون » واحد. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، حدثنا قَيْس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال:ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية: ( لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) قال:كذا قرأ.

وكذا قال الضحاك:ما في القرآن آية أخوف عندي منها:إنا لا ننهى. رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:ذكره يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا محمد بن مسلم عن أبي الوضاح، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني، قال:رأيته بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال:خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات. فَمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا، شَرِيك، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب » .

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

ورواه أبو داود، عن مَسَدَّد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن المنذر بن جرير، عن جرير قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا » .

وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد، عن وَكِيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبَيد الله بن جرير، عن أبيه، به.

قال الحافظ المِزِّي:وهكذا رواه شعبة، عن إسحاق، به.

يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- بأنهم وصفوا الله، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا، بأنه بخيل. كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء، وعبروا عن البخل بقولهم: ( يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبد الله الطهراني، حدثنا حفص بن عمر العَدَنِيّ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عِكْرِمَة قال:قال ابن عباس: ( مَغْلُولَةٌ ) أي:بخيلة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) قال:لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون:بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

وكذا روي عن عِكْرِمَة، وقتادة، والسُّدِّي، ومجاهد، والضحاك وقرأ: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [ الإسراء:29 ] . يعني:أنه ينهى عن البخل وعن التبذير، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله، وعبَّر عن البخل بقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ .

وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله. وقد قال عكرمة:إنها نـزلت في فنْحاص اليهودي، عليه لعنة الله. وقد تقدم أنه الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [ آل عمران:181 ] فضربه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه.

وقال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رجل من اليهود، يقال له:شاس بن قيس:إن ربك بخيل لا ينفق، فأنـزل الله: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )

وقد رد الله، عز وجل، عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ] [ النساء:53 - 55 ] وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ] الآية [ آل عمران:112 ] .

ثم قال تعالى: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) أي:بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال [ تعالى ] وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ الآية [ إبراهيم:34 ] . والآيات في هذا كثيرة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل:

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يمينه » قال: « وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى القبْض، يرفع ويخفض » :قال:قال الله تعالى: « أنفق أنفق عليك » أخرجاه في الصحيحين، البخاري في « التوحيد » عن علي بن المديني، ومسلم فيه، عن محمد بن رافع، وكلاهما عن عبد الرزاق، به.

وقوله: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) أي:يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك ( طُغْيَانًا ) وهو:المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ( وَكُفْرًا ) أي:تكذيبا، كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ فصلت:44 ] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ الإسراء:82 ] .

وقوله: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) يعني:أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك.

وقال إبراهيم النَّخَعي: ( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ) قال:الخصومات والجدال في الدين. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) أي:كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم.

( وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) أي:من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض، والله لا يحب من هذه صفته.

 

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 65 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنـْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ( 66 )

ثم قال جل وعلا ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) أي:لو أنهم آمنوا بالله ورسوله، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المحارم والمآثم ( لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) أي:لأزلنا عنهم المحذور ولحصّلْناهم المقصود .

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنـزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) قال ابن عباس، وغيره:يعني القرآن. ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) أي:لأنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة.

وقوله: ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ) يعني:لأرسل [ السماء ] عليهم مدرارًا، ( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني:يخرج من الأرض بركاتها.

وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسُّدِّي، كما قال [ تعالى ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ] [ الأعراف:96 ] ، وقال: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ] [ الروم:41 ] .

وقال بعضهم:معناه ( لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) يعني:من غير كَد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.

وقال ابن جرير:قال بعضهم:معناه:لكانوا في الخير، كما يقول القائل: « هو في الخير من قرَنه إلى قدمه » . ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف

وقد ذكر ابن أبي حاتم، عند قوله: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) حديث علقمة، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يوشك أن يرفع العلم » . فقال زياد بن لبيد:يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟! قال ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله « ثم قرأ ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) »

هكذا أورده ابن أبي حاتم حديثًا معلقًا من أول إسناده، مرسلا في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال:

حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن زياد بن لَبِيد قال:ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: « وذاك عند ذهاب العلم » . قال:قلنا:يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقْرئه أبناءنا، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: « ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء »

وكذا رواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبي شيبة، عن وكيع بإسناده نحوه وهذا إسناد صحيح.

وقوله: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) كقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ الأعراف:159 ] ، وكقوله عن أتباع عيسى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ] [ الحديد:27 ] . فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا الآية [ فاطر:32 ، 33 ] . والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة.

وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس الضَّبِّي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا أبو مَعْشَر، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعًا. واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار » . قالوا:من هم يا رسول الله؟ قال: « الجماعات الجماعات » .

قال يعقوب بن يزيد كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا فيه قرآنا: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) إلى قوله تعالى: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) وتلا أيضًا: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ الأعراف:181 ] يعني:أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق. وحديثُ افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مَرْوي من طرق عديدة، وقد ذكرناه في موضع آخر. ولله الحمد والمنة.

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 67 )

يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وقام به أتمّ القيام.

قال البخاري عند تفسير هذه الآية:حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت:من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنـزل عليه فقد كذب، الله يقول: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية.

هكذا رواه ههنا مختصرًا، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا. وكذا رواه مسلم في « كتاب الإيمان » ، والترمذي والنسائي في « كتاب التفسير » من سننهما من طرق، عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله عنها.

وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت:لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ الأحزاب:37 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال:كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له:إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال:ألم تعلم أن الله تعالى قال: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء.

وهذا إسناد جيد، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال:قلت لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه:هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال:لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت:وما في هذه الصحيفة؟ قال:العقل، وفَكَاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر .

وقال البخاري:قال الزهري:من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.

وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابه نحو من أربعين ألفًا كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: « أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ » قالوا:نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها إليهم ويقول: « اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بلغت » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا ابن نُمير، حدثنا فضيل - يعني ابن غَزْوان- عن عِكْرمَة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: « يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟ » قالوا:يوم حرام. قال: « أيّ بلد هذا؟ » قالوا:بلد حرام. قال: « فأيّ شهر هذا؟ » قالوا:شهر حرام. قال: « فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا » . ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: « اللهم هل بلغت! » مرارًا - قال:يقول ابن عباس:والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل- ثم قال: « ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض » .

وقد روى البخاري عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان، به نحوه.

وقوله: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني:وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به ( فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أي:وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني:إن كتمت آية مما أنـزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي:حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد قال:لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال: « يا رب، كيف أصنع وأنا وحدي؟ يجتمعون عليَّ » . فنـزلت ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )

ورواه ابن جرير، من طريق سفيان - وهو الثوري- به.

وقوله: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي:بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نـزول هذه الآية يُحْرَس كما قال الإمام أحمد:

حدثنا يزيد، حدثنا يحيى، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث:أن عائشة كانت تحدث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت:فقلتُ:ما شأنك يا رسول الله؟ قال: « ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة؟ » قالت:فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: « من هذا؟ » فقال:أنا سعد بن مالك. فقال: « ما جاء بك؟ » قال:جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت:فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه. أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري، به.

وفي لفظ:سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني:على أثر هجرته [ إليها ] بعد دخوله بعائشة، رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نـزيل مصر، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا الحارث بن عُبَيد - يعني أبا قدامة- عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نـزلت هذه الآية: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) قالت:فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: « يأيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل » .

وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال:وهذا حديث غريب.

وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه، من طرق مسلم بن إبراهيم، به. ثم قال الحاكم:صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا رواه سعيد بن منصور، عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [ الأيادي ] عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شَقِيق، عن عائشة، به.

ثم قال الترمذي:وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري، عن ابن شقيق قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس. ولم يذكر عائشة.

قلت:هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب كلاهما عن الجُرَيري، عن عبد الله بن شقيق مرسلا وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر ومحمد بن كعب القُرَظي، رواهما ابن جرير والربيع بن أنس رواه ابن مردويه، ثم قال:

حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي، حدثنا الفضل بن المختار، عن عبد الله بن مَوْهَب، عن عصمة بن مالك الْخَظْمي قال:كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نـزلت: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فترك الحرس.

حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي، حدثنا معلي بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال:كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نـزلت هذه الآية: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.

حدثنا علي بن أبي حامد المديني، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا محمد بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار، حدثنا أبي قال:سمعت أبا الزبير المكي يحدث، عن جابر بن عبد الله قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه، حتى نـزلت: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فذهب ليبعث معه، فقال: « يا عم، إن الله قد عصمني، لا حاجة لي إلى من تبعث » .

وهذا حديث غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية.

ثم قال:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه، حتى نـزلت عليه هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) قال:فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: « إن الله قد عصمني من الجن والإنس » .

ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني، عن أبي كريب به.

وهذا أيضا غريب. والصحيح أن هذه الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نـزل بها، والله أعلم.

ومن عصمة الله [ عز وجل ] لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله [ عز وجل ] له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنـزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه [ الله ] منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:

فقال أبو جعفر بن جرير:حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشَرٍ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل منـزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال:من يمنعك مني؟ فقال: « الله عز وجل » ، فَرُعِدَت يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال:وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنـزل الله عز وجل: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار، نـزل ذات الرِّقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال غَوْرَث بن الحارث من بني النجار:لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه:كيف تقتله؟ قال:أقول له:أعطني سيفك. فإذا أعطانيه قتلته به، قال:فأتاه فقال:يا محمد، أعطني سيفك أشيمُه. فأعطاه إياه، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حال الله بينك وبين ما تريد » فأنـزل الله، عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )

وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة « غَوْرَث بن الحارث » مشهورة في الصحيح.

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها، فينـزل تحتها، فنـزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه فقال:يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الله يمنعني منك، ضع السيف » . فوضعه، فأنـزل الله، عز وجل: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )

وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه، عن عبد الله بن محمد، عن إسحاق بن إبراهيم، عن المؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا إسرائيل - يعني الجُشَمي- سمعت جَعْدَة - هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي- رضي الله عنه، قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: « لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك » . قال:وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال:هذا أراد أن يقتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لم تُرَع، ولم تُرَع، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك الله عليَّ » .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) أي:بلغ أنت، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ البقرة:272 ] وقال فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [ الرعد:40 ] .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 68 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 69 ) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ( 70 )

يقول تعالى:قل يا محمد: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ ) أي:من الدين، ( حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ ) أي:حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنـزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر باتباع بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته؛ ولهذا قال ليث ابن أبي سليم، عن مجاهد، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني:القرآن العظيم.

وقوله: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنـزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) تقدم تفسيره ( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) أي:فلا تحزن عليهم ولا يَهيدنَّك ذلك منهم.

ثم قال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) وهم:المسلمون ( وَالَّذِينَ هَادُوا ) وهم:حملة التوراة ( وَالصَّابِئُونَ ) - لما طال الفصل حسن العطف بالرفع. والصابئون:طائفة بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين. قاله مجاهد، وعنه:بين اليهود والمجوس. وقال سعيد بن جبير:بين اليهود والنصارى، وعن الحسن [ والحكم ] إنهم كالمجوس. وقال قتادة:هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى غير القبلة، ويقرؤون الزبور. وقال وَهْب بن مُنَبّه:هم قوم يعرفون الله وحده، وليست لهم شريعة يعملون بها، ولم يحدثوا كفرًا.

وقال ابن وَهْب:أخبرني ابن أبي الزَّنَاد، عن أبيه قال:الصائبون:قوم مما يلي العراق، وهم بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. وقيل غير ذلك.

وأما النصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل.

والمقصود:أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر، وهو المعاد والجزاء يوم الدين، وعملت عملا صالحًا، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة، بما أغنى عن إعادته.

يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل، على السمع والطاعة لله ولرسوله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه؛ ولهذا قال: ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ) .

 

وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 71 )

( وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي:وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصَمُّوا، فلا يسمعون حقًا ولا يهتدون إليه، ( ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) أي:مما كانوا فيه ( ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا )

أي:بعد ذلك ( [ وَصَمُّوا ] كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) أي:مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 72 ) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 ) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 74 ) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 75 )

يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى، من الملكية واليعقوبية والنسطورية، ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنـزه وتقدس علوًا كبيرًا.

هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ولم يقل:أنا الله، ولا ابن الله. بل قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا إلى أن قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [ مريم:30- 36 ] .

وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته، آمرًا لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له؛ ولهذا قال تعالى: ( وَقَالَ الْمَسِيحُ ُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ) أي:فيعبد معه غيره ( فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ) أي:فقد أوجب له النار، وحرم عليه الجنة، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء:48، 116 ] ، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [ الأعراف:50 ] .

وفي الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس: « إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة » ، وفي لفظ: « مؤمنة » .

وتقدم في أول سورة النساء عند قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [ النساء:48، 116 ] حديث يزيد بن بَابَنُوس عن عائشة:الدواوين ثلاثة فذكر منهم ديوانًا لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ] ) الحديث في مسند أحمد.

ولهذا قال [ الله ] تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) أي:وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.

وقوله ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسن الهِسَتْجَاني، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا الفضل، حدثني أبو صخر في قول الله: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ) قال:هو قول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [ التوبة:30 ] فجعلوا الله ثالث ثلاثة.

وهذا قول غريب في تفسير الآية:أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى والصحيح:أنها أنـزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد.

ثم اختلفوا في ذلك فقيل:المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، قال ابن جرير وغيره:والطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنَّسطورية تقول بهذه الأقانيم. وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاث كافرة.

وقال السُّدِّي وغيره:نـزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، قال السدي:وهي كقوله تعالى في آخر السورة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ الآية [ المائدة:116 ] .

وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم. قال الله تعالى: ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي:ليس متعددا، بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات.

ثم قال:تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا: ( وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ ) أي:من هذا الافتراء والكذب ( لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:في الآخرة من الأغلال والنكال.

ثم قال: ( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه، ثم قال: ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) أي:له سَويَّة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [ الزخرف:59 ] .

وقوله: ( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) أي:مؤمنة به مصدقة له. وهذا أعلى مقاماتها فدل على أنها ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [ القصص:7 ] ، [ قالوا ] وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًّا إلا من الرجال، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [ يوسف:109 ] ، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك.

وقوله: ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) أي:يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

ثم قال تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ) أي:نوضحها ونظهرها، ( ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي:ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون؟ وبأيّ قول يتمسكون؟ وإلى أيّ مذهب من الضلال يذهبون؟ ؟

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 76 )

يقول تعالى منكرًا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبينًا له أنها لا تستحق شيئًا من الإلهية: ( قُلْ ) أي:يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم، ودخل في ذلك النصارى وغيرهم: ( أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ) أي:لا يقدر على إيصال ضرر إليكم، ولا إيجاد نفع ( وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي:فلم عدلتم عن إفراد السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء إلى عبادة جَمَاد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه.

 

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( 77 )

ثم قال: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) أي:لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تُطْروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه، حتى تخرجوه عن حَيّز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء، فجعلتموه إلهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال، الذين هم سلفكم ممن ضل قديمًا، ( وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) أي:وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضلال.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:وقد كان قائم قام عليهم، فأخذ بالكتاب والسنة زمانًا، فأتاه الشيطان فقال:إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عُمِل قبلك، فلا تَجْمُد عليه، ولكن ابتدع أمرًا من قِبَل نفسك وادع إليه وأجبر الناس عليه، ففعل، ثم ادَّكر بعد فعله زمانًا فأراد أن يتوب فخلع مُلْكه، وسلطانه وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أيامًا، فأتي فقيل له:لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة، فكيف لك بهداهم، فلا توبة لك أبدًا. ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) .

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 78 ) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 79 ) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ( 80 ) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 81 )

يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنـزل على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه.

قال العَوْفِيّ، عن ابن عباس:لعنوا في التوراة و [ في ] الإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان.

ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) أي:كان لا ينهي أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يُرْكَبَ مثل الذي ارتكبوا، فقال: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )

وقال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا يزيد حدثنا شَرِيك بن عبد الله، عن علي بن بَذيمة عن أبي عُبَيدة، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد:وأحسبه قال:وأسواقهم- وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: « لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا » .

وقال أبو داود:حدثنا عبد الله بن محمد النُّفَيْلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بَذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول:يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) إلى قوله: ( فَاسِقُونَ ) » ثم قال: « كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا - أو تقصرنه على الحق قصرًا » .

وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بَذيمة، به وقال الترمذي: « حسن غريب » . ثم رواه هو وابن ماجه، عن بُنْدَار، عن ابن مَهْدِىّ، عن سفيان، عن علي بن بَذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عَمْرو بن مُرَّة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكِيلَه وخَلِيطه وشَرِيكه - وفي حديث هارون:وشريبه، ثم اتفقا في المتن- فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرُنَّه على الحق أطرًا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعَنْكم كما لعنهم » ، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية هذا الحديث.

وقد رواه أبو داود أيضًا، عن خَلَف بن هشام، عن أبي شهاب الخياط، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو بن مرة، عن سالم - وهو ابن عِجْلان الأفطس- عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. ثم قال أبو داود:وكذا رواه خالد، عن العلاء، عن عمرو بن مُرَّة، به. ورواه المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزّي:وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي، عن العلاء، عن عمرو بن مرة، عن أبي موسى

والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام. [ و ] قد تقدم حديث جرير عند قوله [ تعالى ] لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [ المائدة:63 ] ، وسيأتي عند قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ المائدة:105 ] ، حديثُ أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخُشَنِي [ رضي الله عنهما ] - فقال الإمام أحمد:

حدثنا سليمان الهاشمي، أنبأنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي، عن حذيفة بن اليمان؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نَفْسِي بيده لتَأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المُنْكَرِ، أو ليُوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عِقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم » .

ورواه الترمذي عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، به. وقال:هذا حديث حسن

وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه:حدثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة، حدثنا معاوية بن هشام، عن هشام بن سعد، عن عمرو بن عثمان، عن عاصم بن عمر بن عثمان، عن عروَة، عن عائشة قالت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « مُروا بالمعروف، وانْهَوْا عن المنكر، قبل أن تَدْعوا فلا يستجاب لكم » . تفرد به، وعاصم هذا مجهول.

وفي الصحيح من طريق الأعمش، عن إسماعيل بن رَجاء، عن أبيه، عن سعيد - وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد الخدري- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من رأى منكم مُنْكَرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان » رواه مسلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا سَيْف - هو ابن أبي سليمان سمعت عَدِيّ بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال:حدثني مولى لنا أنه سمع جدي - يعني:عدي بن عميرة، رضي الله عنه- يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله لا يُعذِّب العامَّة بعَمَلِ الخاصة، حتى يَرَوا المنكر بين ظَهْرانيْهِم، وهم قادرون على أن ينكروه. فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عَذَّبَ الله العامة والخاصة » .

ثم رواه أحمد، عن أحمد بن الحجاج، عن عبد الله بن المبارك، عن سيف بن أبي سليمان، عن عدي بن عدي الكندي، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره. هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين.

وقال أبو داود:حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو بكر، حدثنا مُغِيرة بن زياد الموصلي، عن عَدِيّ بن عدي، عن العُرْس - يعني ابن عَميرة- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شَهِدَها فكَرِهَها - وقال مرة:فأنكرها- كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فَرَضِيَها كان كمن شهدها. »

تفرد به أبو داود، ثم رواه عن أحمد بن يونس، عن أبي شهاب، عن مغيرة بن زياد، عن عدي بن عدي، مرسلا.

[ و ] قال أبو داود:حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا حدثنا شعبة - وهذا لفظه- عن عمرو بن مرة، عن أبي البَخْتَري قال:أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وقال سليمان:حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: « لن يهلك الناس حتى يعْذِروا- أو:يُعْذِروا - من أنفسهم » .

وقال ابن ماجه:حدثنا عمران بن موسى، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا علي بن زيد بن جُدْعان، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال: « ألا لا يمنعن رجلا هَيْبَةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه » . قال:فبكى أبو سعيد وقال:قد - والله- رأينا أشياء، فَهِبْنَا.

وفي حديث إسرائيل:عن محمد بن حجادة، عن عطية، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر » .

رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي:حسن غريب من هذا الوجه.

وقال ابن ماجه:حدثنا راشد بن سعيد الرملي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال:عَرَض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ عند الجَمْرة الأولى فقال:يا رسول الله، أيّ الجهاد أفضل؟ فسكت عنه. فلما رَمَى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه. فلما رمى جمرة العَقَبة، ووضع رجله في الغَرْز ليركب، قال: « أين السائل؟ » قال:أنا يا رسول الله، قال: « كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر » . تفرد به.

وقال ابن ماجه:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي البَخْترِي، عن

أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يَحْقِر أحدكم نفسه » . قالوا:يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟. قال: « يرى أمرًا لله فيه مَقَال، ثم لا يقول فيه. فيقول الله له يوم القيامة:ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا وكذا؟ فيقول:خَشْيَةَ الناس، فيقول:فإياي كنت أحق أن تَخْشَى » . تفرد به.

وقال أيضا:حدثنا علي بن محمد، حدثنا محمد بن فُضَيل، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أبو طُوَالة، حدثنا نَهَارُ العَبْدِيّ؛ أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول:ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لَقَّنَ الله عبدًا حجته، قال:يا رب، رَجَوْتُكَ وفَرقْتُ من الناس » . تفرد به أيضًا ابن ماجه، وإسناده لا بأس به.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عمرو بن عاصم، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن جُنْدَب، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه » . قيل:وكيف يذل نفسه؟ قال: « يتعرض من البلاء لما لا يطيق » .

وكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعًا، عن محمد بن بَشَّار، عن عمرو بن عاصم، به. وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح غريب.

وقال ابن ماجه:حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى بن عُبَيد الخُزَاعي، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا أبو مَعْبَد حفص بن غَيْلان الرُّعَيني، عن مكحول، عن أنس بن مالك قال:قيل:يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: « إذا ظَهَر فيكم ما ظَهَر في الأمم قبلكم » . قلنا:يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: « المُلْك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رُذالكم » . قال زيد:تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: « والعلم في رُذالكم » :إذا كان العلم في الفُسَّاق.

تفرد به ابن ماجه وسيأتي في حديث أبي ثَعْلَبة، عند قوله: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ المائدة:105 ] شاهد لهذا، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

وقوله: ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال مجاهد:يعني بذلك المنافقين. وقوله: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) يعني بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين، التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم؛ ولهذا قال: ( أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ) فسر بذلك ما ذمهم به. ثم أخيرًا أنهم ( وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) يعني يوم القيامة.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا مسلمة بن علي، عن الأعمش بإسناد ذكره قال: « يا معشر المسلمين، إياكم والزنا، فإن فيه ست خصال، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة، فأما التي في الدنيا:فإنه يُذهب البهاء، ويُورِث الفقر، ويُنقِص العمر. وأما التي في الآخرة:فإنه يُوجب سَخَط الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار » . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ )

هكذا ذكره ابن أبي حاتم، وقد رواه ابن مَرْدُويه عن طريق هشام بن عمار، عن مسلمة عن الأعمش، عن شَقِيق، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره. وساقه أيضًا من طريق سعيد بن غُفَير، عن مسلمة، عن أبي عبد الرحمن الكوفي، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.

وهذا حديث ضعيف على كل حال والله أعلم. ثم قال تعالى: ( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنـزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ) أي:لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنـزل إليه ( وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) أي:خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنـزيله.

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 82 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه، الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم. وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة.

وقال سعيد بن جُبَير والسُّدِّي وغيرهما:نزلت في وَفْد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أسلموا وبَكَوا وخَشَعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه.

قال السدي:فهاجر النجاشي فمات في الطريق.

وهذا من إفراد السدي؛ فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة.

ثم اختلف في عِدة هذا الوفد، فقيل:اثنا عشر، سبعة قساوسة وخمسة رَهَابين. وقيل بالعكس. وقيل:خمسون. وقيل:بضع وستون. وقيل:سبعون رجلا. فالله أعلم.

وقال عَطاء بن أبي رَباح:هم قوم من أهل الحبشة، أسلموا حين قدم عليهم مُهَاجرَة الحبشة من المسلمين، وقال قتادة:هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم، فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يَتَلَعْثَمُوا. واختار ابن جرير أن هذه [ الآية ] نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة، سواء أكانوا من الحبشة أو غيرها.

فقوله [ تعالى ] ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عناد وجحود ومباهتة للحق، وغَمْط للناس وتَنَقص بحملة العلم. ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسحروه، وألَّبوا عليه أشباههم من المشركين - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية:حدثنا أحمد بن محمد بن السُّرِّي:حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرَّقي، حدثنا سعيد العلاف بن العلاف، حدثنا أبو النَّضْر، عن الأشجعي، عن سفيان، عن يحيى بن عبد الله عن أبيه، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما خلا يهودي قط بمسلم إلا هم بقتله » .

ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق اليَشْكُرِي حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي، حدثنا فرج بن عبيد، حدثنا عباد بن العوام، عن يحيى بن عُبَيد الله، عن أبيه عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثت نفسه بقتله » . وهذا حديث غريب جدًا.

وقوله: ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) أي:الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [ الحديد:27 ] وفي كتابهم:من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعًا في ملتهم؛ ولهذا قال تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي:يوجد فيهم القسيسون - وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم:قسيس وقَس أيضًا، وقد يجمع على قسوس- والرهبان:جمع راهب، وهو:العابد. مشتق من الرهبة، وهي الخوف كراكب وركبان، وفارس وفرسان.

وقال ابن جرير:وقد يكون الرهبان واحدًا وجَمْعُه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجُرْدان وجَرَادين وقد يجمع على رهابنة. ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحدًا قول الشاعر:

لَـوْ عَـاينَتْ رُهْبـان دَيْر في القـُلَل لانْحـدَر الرُّهْبَـان يَمْشـي ونـزل

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا بِشْر بن آدم، حدثنا نُصَير بن أبي الأشعث، حدثني الصلت الدهان، عن حامية بن رئاب قال:سألت سلمان عن قول الله [ عز وجل ] : ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ) فقال:دع « القسيسين » في البيع والخرب، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا » .

وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، عن نُصير بن زياد الطائي، عن صَلْت الدهان، عن حامية بن رِئَاب، عن سلمان، به.

وقال ابن أبي حاتم:ذكره أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، حدثنا نُصَير بن زياد الطائي، حدثنا صلت الدهان، عن حامية بن رئاب قال:سمعت سلمان وسئل عن قوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا ) قال:هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرَب، فدعوهم فيها، قال سلمان:وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ [ وَرُهْبَانًا ] ) فأقرأني: « ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا » .

فقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع،

 

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 83 ) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( 84 ) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 85 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 86 )

ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف، فقال: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) أي:مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ( يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي:مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.

وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس، عن عمر بن علي بن مُقَدَّم، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير [ رضي الله عنهما ] قال:نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )

وقال الطبراني:حدثنا أبو شُبَيْل عُبَيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الفضل، عن عبد الجبار بن نافع الضبي، عن قتادة وجعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قول الله: ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) قال:إنهم كانوا كرابين - يعني:فلاحين- قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ولعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم » . فقالوا:لن ننتقل عن ديننا. فأنزل الله ذلك من قولهم.

وروى ابن أبي حاتم:وابن مَرْدويه، والحاكم في مستدركه، من طريق سِماك عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: ( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) أي:مع محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته هم الشاهدون، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا. ثم قال الحاكم:صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

( وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله [ عز وجل ] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ] الآية [ آل عمران:199 ] ، وهم الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * [ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ] إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [ القصص:52- 55 ] ؛

ولهذا قال تعالى ههنا: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي:فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق ( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:ساكنين فيها أبدًا، لا يحولون ولا يزولون، ( وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) أي:في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان، وأين كان، ومع من كان.

ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي:جحدوا بها وخالفوها ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) أي:هم أهلها والداخلون إليها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 87 ) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 88 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:نزلت هذه الآية في رَهْط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا:نقطع مَذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك:فقالوا:نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسُنَّتِي فهو مِنِّي، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني » . رواه ابن أبي حاتم.

وروى ابن مردويه من طريق العَوْفي، عن ابن عباس نحو ذلك.

وفي الصحيحين، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم:لا آكل اللحم. وقال بعضهم:لا أتزوج النساء. وقال بعضهم:لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مني » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد، عن عثمان - يعني أبن سعد- أخبرني عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إني إذا أكلت اللحم انتشرتُ للنساء، وإني حَرَّمْتُ عليّ اللحم، فنزلت ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )

وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعًا، عن عمرو بن علي الفَلاس، عن أبي عاصم النبيل، به. وقال:حسن غريب وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفًا على ابن عباس، فالله أعلم.

وقال سفيان الثوري ووَكِيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قَيْس بن أبي حازم، عن عبد الله بن مسعود قال:كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنا نساء، فقلنا:ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] ) .

أخرجاه من حديث إسماعيل . وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة، والله أعلم.

وقال الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عمرو بن شُرحبيل قال:جاء مَعْقل بن مقرِّن إلى عبد الله بن مسعود فقال:إني حرمت فراشي. فتلا هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] ) .

وقال الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال:كنا عند عبد الله بن مسعود، فجيء بضَرْع، فتنحى رجل، فقال [ له ] عبد الله:اُدْن. فقال:إني حرمت أن آكله. فقال عبد الله:ادن فاطعَم، وكفر عن يمينك وتلا هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) الآية.

رواهن ابن أبي حاتم. وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه، من طريق إسحاق بن راهويه، عن جرير، عن منصور، به. ثم قال:على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وَهْبٍ، أخبرني هشام بن سعد، أن زيد بن أسلم حدثه:أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يُطْعموا ضَيْفَهم انتظارًا له، فقال لامرأته:حبست ضيفي من أجلي، هو عليَّ حرام. فقالت امرأته:هو عليَّ حرام. وقال الضيف:هو عليَّ حرام. فلما رأى ذلك وضع يده وقال:كلوا باسم الله. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم، ثم أنزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) وهذا أثر منقطع.

وفي صحيح البخاري في قصة الصديق [ رضي الله عنه ] مع أضيافه شبيه بهذا وفيه، وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسًا أو شيئًا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا؛ ولقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ) ؛ ولأن الذي حَرَّم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم- لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة. وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا أو مشربًا أو أو شيئًا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزامًا له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ التحريم:1 ] . ثُمَّ قَالَ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ الآية [ التحريم:2 ] . وكذلك هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير، والله أعلم.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد قال:أراد رجال، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يَتَبَتَّلوا ويخصُوا أنفسهم ويلبسوا المسُوح، فنزلت هذه الآية إلى قوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) قال ابن جريج، عن عكرمة:أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحاب تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالإخصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) يقول:لا تسيروا بغير سنة المسلمين يريد:ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا عليه من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الإخصاء، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إن لأنفسكم حقًا، وإن لأعينكم حقًا، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا » . فقالوا:اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت.

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين، كما تقدم ذلك، ولله الحمد والمنة.

وقال أسباط، عن السدي في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون:ما خفنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم، فنحن نحرم. فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودَك، وأن يأكل بنَهَار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان لا يدنو من أهله ولا تدنو منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، رضي الله عنها، وكان يقال لها:الحولاء، فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم:ما بالك يا حولاء متغيرة اللون، لا تمتشطين، لا تتطيبين؟ قالت:وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع عليَّ زوجي وما رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا. قال:فجعلن يضحكن من كلامها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن، فقال: « ما يضحككن؟ » قالت:يا رسول الله، إن الحولاء سألتها عن أمرها، فقالت:ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا. فأرسل إليه فدعاه، فقال: « ما لك يا عثمان؟ » قال:إني تركته لله، لكي أتخلى للعبادة، وقص عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك » . فقال:يا رسول الله، إني صائم. فقال: « أفطر » . فأفطر، وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة [ زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ] وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت:ما لك يا حولاء؟ فقالت:إنه آتاها أمس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما بال أقوام حَرَّموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رَغِب عني فليس مني » . فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ) يقول لعثمان « لا تجُبَّ نفسك، فإن هذا هو الاعتداء » . وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم، فقال: ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) رواه ابن جرير.

وقوله: ( وَلا تَعْتَدُوا ) يحتمل أن يكون المراد منه:ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليكم، كما قاله من قاله من السلف. ويحتمل أن يكون المراد:كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقَدْر كفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوزوا الحد فيه، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] [ الأعراف:31 ] ) وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [ الفرقان:67 ] فشرعُ الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط؛ ولهذا قال: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )

ثم قال: ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا ) أي:في حال كونه حلالا طيبًا، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي:في جميع أموركم، واتبعوا طاعته ورضوانه، واتركوا مخالفته وعصيانه، ( الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ )

لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 89 )

قد تقدم في سورة البقرة الكلام على لغو اليمين، وإنه قول الرجل في الكلام من غير قصد:لا والله، بلى والله، وهذا مذهب الشافعي وقيل:هو في الهَزْل. وقيل:في المعصية. وقيل:على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وقيل:اليمين في الغضب. وقيل:في النسيان. وقيل:هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك، واستدلوا بقوله: ( لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )

والصحيح أنه اليمين من غير قصد؛ بدليل قوله: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) أي:بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموها، فكفارته إطعام عشرة مساكين يعني:محاويج من الفقراء، ومن لا يجد ما يكفيه.

وقوله: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة:أي من أعدل ما تطعمون أهليكم.

وقال عطاء الخراساني:من أمثل ما تطعمون أهليكم. قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن الحارث، عن علي قال:خبز ولبن، خبز وسمن.

وقال ابن أبي حاتم:أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، حدثنا سفيان بن عييْنَة، عن سليمان - يعني ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون وبعضهم قوتًا فيه سعَة، فقال الله تعالى: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) أي:من الخبز والزيت.

وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) قال:من عسرهم ويسرهم.

وحدثنا عبد الرحمن بن خَلَف الحِمْصِي، حدثنا محمد بن شُعَيب - يعني ابن شابور- حدثنا شَيْبان بن عبد الرحمن التميمي، عن لَيْث بن أبي سليم، عن عاصم الأحول، عن رجل يقال له:عبد الرحمن، عن ابن عمر أنه قال: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) قال:الخبز واللحم، والخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والخل.

وحدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) قال:الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم:الخبز واللحم.

ورواه ابن جرير عن هَنَّاد وابن وَكِيع كلاهما عن أبي معاوية. ثم روى ابن جرير عن عُبَيدة والأسود، وشُرَيح القاضي، ومحمد بن سِيرِين، والحسن، والضحاك، وأبي رَزِين:أنهم قالوا نحو ذلك، وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضًا.

واختار ابن جرير أن المراد بقوله: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) أي:في القلة والكثرة.

ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم، فقال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن حُصَيْن الحارثي، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي [ رضي الله عنه ] في قوله: ( مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) قال:يغذيهم ويعشيهم.

وقال الحسن ومحمد بن سيرين:يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزًا ولحمًا، زاد الحسن:فإن لم يجد فخبزًا وسمنًا ولبنًا، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلا حتى يشبعوا.

وقال آخرون:يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بُرّ أو تمر، ونحوهما. هذا قول عمر، وعلي، وعائشة، ومجاهد، والشعبي، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي، وميمون بن مِهْران، وأبي مالك، والضحاك، والحاكم ومكحول، وأبي قلابة، ومُقَاتِل بن حَيَّان.

وقال أبو حنيفة:نصف صاع [ من ] بر، وصاع مما عداه.

وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف، حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطُّفَيل بن سَخْبَرَة بن أخي عائشة لأمه، حدثنا عمر بن يعلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كفَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر، وأمر الناس به، ومن لم يجد فنصف صاع من بُرٍّ.

ورواه ابن ماجه، عن العباس بن يزيد، عن زياد بن عبد الله البكائي، عن عُمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي، عن المنهال بن عمرو، به.

لا يصح هذا الحديث لحال عُمر بن عبد الله هذا فإنه مجمع على ضعفه، وذكروا أنه كان يشرب الخمر. وقال الدارقطني:متروك.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن إدريس، عن داود - يعني ابن أبي هند- عن عِكْرِمة، عن ابن عباس:مُدٌّ من بر - يعني لكل مسكين- ومعه إدامه.

ثم قال:ورُوِي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وأبي الشعثاء، والقاسم وسالم، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، والحسن، ومحمد بن سيرين، والزهري، نحو ذلك.

وقال الشافعي:الواجب في كفارة اليمين مُدٌّ بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين. ولم يتعرض للأدم - واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينًا من مكيل يسع خمسة عشر صاعًا لكل واحد منهم مُدٌّ.

وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك، فقال أبو بكر بن مردويه:حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا النضْر بن زُرَارة الكوفي، عن عبد الله بن عُمَر العُمَري، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدًا من حنطة بالمد الأول.

إسناده ضعيف، لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بَلْخ، قال فيه أبو حاتم الرازي:هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد. وذكره ابن حبان في الثقات وقال:روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة، فالله أعلم. ثم إن شيخه العُمَري ضعيف أيضًا.

وقال أحمد بن حنبل:الواجب مُدّ من بر، أو مدان من غيره. والله أعلم.

وقوله: ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) قال الشافعي، رحمه الله:لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقْنَعَة أجزأه ذلك. واختلف أصحابه في القلنسوة:هل تجزئ أم لا؟ على وجهين، فمنهم من ذهب إلى الجواز، احتجاجًا بما رواه ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو سعيد الأشج، وعمار بن خالد الواسطي قالا حدثنا القاسم بن مالك، عن محمد بن الزبير، عن أبيه قال:سألت عمران بن حصين عن قوله: ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) قال:لو أن وفدًا قدموا على أميركم وكساهم قلنسوة قلنسوة، قلتم:قد كُسُوا.

ولكن هذا إسناد ضعيف؛ لحال محمد بن الزبير هذا، والله أعلم. وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الاسفرايني في الخف وجهين أيضًا، والصحيح عدم الإجزاء.

وقال مالك وأحمد بن حنبل:لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه، إن كان رجلا أو امرأة، كلٌّ بحسبه. والله أعلم.

وقال العَوْفي عن ابن عباس:عباءة لكل مسكين، أو ثَمْلَة.

وقال مجاهد:أدناه ثوب، وأعلاه ما شئت.

وقال لَيْث، عن مجاهد:يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان.

وقال الحسن، وأبو جعفر الباقر، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم النَّخَعي، وحماد بن أبى سليمان، وأبو مالك:ثوب ثوب.

وعن إبراهيم النخعي أيضًا:ثوب جامع كالملحفة والرداء، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعًا.

وقال الأنصاري، عن أشعث، عن ابن سيرين، والحسن:ثوبان.

وقال الثوري، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب:عمامة يلف بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.

وقال ابن جرير:حدثنا هَنَّاد، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبي موسى؛ أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من مُعقَّدة البحرين.

وقال ابن مردويه:حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن المعلى، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن مقاتل بن سليمان، عن أبي عثمان، عن أبي عياض، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ ) قال: « عباءة لكل مسكين » . حديث غريب.

وقوله: ( أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) أخذ أبو حنيفة بإطلاقها، فقال:تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون:لا بد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل؛ لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب ولحديث معاوية بن الحكم السلمي، الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم:أنه ذكر أن عليه عتق رقبة، وجاء معه بجارية سوداء، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أين الله؟ » قالت:في السماء. قال: « من أنا؟ » قالت:رسول الله. قال: « أعتقها فإنها مؤمنة » . الحديث بطوله.

فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين، أيُّها فَعَلَ الحانثُ أجزأ عنه بالإجماع. وقد بدأ بالأسهل فالأسهل، فالإطعام أيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فَرُقىَ فيها من الأدنى إلى الأعلى. فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام، كما قال تعالى: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ )

وروى ابن جرير، عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام.

وقال ابن جرير، حاكيًا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه قال:جائز لمن لم يكن له فضل عن رأس مال يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام، أن يصوم إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه.

ثم اختار ابن جرير:أنه الذي لا يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين.

واختلف العلماء:هل يجب فيها التتابع، أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ على قولين:أحدهما أنه لا يجب التتابع، هذا منصوص الشافعي في كتاب « الأيمان » ، وهو قول مالك، لإطلاق قوله: ( فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) وهو صادق على المجموعة والمفرقة، كما في قضاء رمضان؛ لقوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [ البقرة:184 ] .

ونص الشافعي في موضع آخر في « الأم » على وجوب التتابع، كما هو قول الحنفية والحنابلة؛ لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيرهم أنهم كانوا يقرءونها: « فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها: « فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .

وحكاها مجاهد، والشعبي، وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود.

وقال إبراهيم:في قراءة عبد الله بن مسعود: « فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .

وقال الأعمش:كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك.

وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترًا، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا، أو تفسيرًا من الصحابي، وهو في حكم المرفوع.

وقال أبو بكر بن مردويه:حدثنا محمد بن علي، حدثنا محمد بن جعفر الأشعري، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي، حدثنا يزيد بن قيس، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن عباس قال:لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة:يا رسول الله، نحن بالخيار؟ قال: « أنت بالخيار، إن شئت أعتقت، وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات » .

وهذا حديث غريب جدًا.

وقوله: ( ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ) قال ابن جرير:معناه لا تتركوها بغير تكفير. ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ) أي:يوضحها وينشرها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 90 ) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( 91 ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 92 ) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 93 )

يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر، وهو القمار.

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال:الشَطْرَنج من الميسر. رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عُبَيس بن مرحوم، عن حاتم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، به.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن لَيْث، عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان:أو اثنين منهم- قالوا:كل شيء من القمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.

ورُوي عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب وقالا حتى الكعاب، والجوز، والبيض التي تلعب بها الصبيان، وقال موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال:الميسر هو القمار.

وقال الضحاك، عن ابن عباس قال:الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة.

وقال مالك، عن داود بن الحُصَيْن:أنه سمع سعيد بن المسيب يقول:كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.

وقال الزهري، عن الأعرج قال:الميسر والضرب بالقداح على الأموال والثمار.

وقال القاسم بن محمد:كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو من الميسر.

رواهن ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اجتنبوا هذه الكِعَاب الموسومة التي يزجر بها زجرًا فإنها من الميسر » . حديث غريب.

وكأن المراد بهذا هو النرد، الذي ورد في الحديث به في صحيح مسلم، عن بُرَيدة بن الحُصَيب الأسلمي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لعب بالنَّرْدَشير فكأنما صَبَغ يده في لحم خنـزير ودَمه » . وفي موطأ مالك ومسند أحمد، وسنني أبي داود وابن ماجه، عن أبي موسى الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله » . وروي موقوفًا عن أبي موسى من قوله، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا الجُعَيْد، عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي، أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول:أخبرني، ما سمعت أباك يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عبد الرحمن:سمعت أبي يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « مثل الذي يلعب بالنرد، ثم يقوم فيصلي، مثل الذي يتوضأ بالقَيْح ودم الخنـزير ثم يقوم فيصلي » .

وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر:أنه شرّ من النرد. وتقدم عن علي أنه قال:هو من الميسر، ونص على تحريمه مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وكرهه الشافعي، رحمهم الله تعالى.

وأما الأنصاب، فقال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وغير واحد:هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها.

وأما الأزلام فقالوا أيضًا:هي قداح كانوا يستقسمون بها.

وقوله: ( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أي سَخَط من عمل الشيطان. وقال سعيد بن جبير:إثم. وقال زيد بن أسلم:أي شر من عمل الشيطان.

( فَاجْتَنِبُوهُ ) الضمير عائد على الرجس، أي اتركوه ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) وهذا ترغيب.

ثم قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) وهذا تهديد وترهيب.

ذكر الأحاديث الواردة في [ بيان ] تحريم الخمر:

قال الإمام أحمد:حدثنا سُرَيج حدثنا أبو مَعْشَر، عن أبي وَهْب مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة قال:حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فأنـزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ إلى آخر الآية [ البقرة:219 ] . فقال الناس:ما حرم علينا، إنما قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنـزل الله [ عز وجل ] آية أغلظ منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ النساء:43 ] وكان الناس يشربون، حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق. ثم أنـزلت آية أغلظ من ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) قالوا:انتهينا ربنا. وقال الناس:يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله، [ وناس ] ماتوا على سرفهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان؟ فأنـزل الله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) إلى آخر الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم » . انفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد:حدثنا خَلَف بن الوليد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي مَيْسَرة، عن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] أنه قال:لما نـزل تحريم الخمر قال:اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنـزلت هذه الآية التي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ فَدُعي عمر فقرئت عليه، فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنـزلت الآية التي في سورة النساء: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى:ألا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنـزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) قال عمر:انتهينا.

وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عَمْرو بن عبد الله السَّبِيعي وعن أبي ميسرة - واسمه عمرو بن شُرَحبيل الهمداني- عن عُمَر، به. وليس له عنه سواه، قال أبو زُرْعَة:ولم يسمع منه. وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي.

وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم:أيها الناس، إنه نـزل تحريم الخمر وهي من خمسة:من العنب، والتمر، والعسل، والحِنْطَة، والشعير، والخمر ما خامر العقل.

وقال البخاري:حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا محمد بن بِشْر، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، حدثني نافع، عن ابن عمر قال:نـزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب.

حديث آخر:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا محمد بن أبي حميد، عن المصري - يعني أبا طعمة قارئ مصر - قال:سمعت ابن عمر يقول:نـزلت في الخمر ثلاث آيات، فأول شيء نـزل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية [ البقرة:219 ] فقيل:حرمت الخمر. فقالوا:يا رسول الله، ننتفع بها كما قال الله تعالى. قال:فسكت عنهم ثم نـزلت هذه الآية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ النساء:43 ] . فقيل:حرمت الخمر، فقالوا:يا رسول الله، إنا لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم ثم نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حرمت الخمر » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يعلى، حدثنا محمد بن إسحاق، عن القعقاع بن حكيم؛ أن عبد الرحمن بن وَعْلَة قال:سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال:كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف - أو:من دوس- فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا فلان، أما علمت أن الله حرمها؟ » فأقبل الرجل على غلامه فقال:اذهب فبعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا فلان، بماذا أمرته؟ » فقال:أمرته أن يبيعها. قال: « إن الذي حرم شربها حرم بيعها » . فأمر بها فأفرغت في البطحاء.

رواه مسلم من طريق ابن وَهْب، عن مالك، عن زيد بن أسلم. ومن طريق ابن وهب أيضًا، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد كلاهما - عن عبد الرحمن بن وَعْلَة، عن ابن عباس، به. ورواه النسائي، عن قتيبة، عن مالك، به.

حديث آخر:قال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية من خمر، فلما أنـزل الله تحريم الخمر جاء بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال: « إنها قد حرمت بعدك » . قال:يا رسول الله، فأبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعن الله اليهود، حرم عليهم شُحُوم البقر والغنم، فأذابوه، وباعوه، والله حَرّم الخمر وثمنها » .

وقد رواه أيضًا الإمام أحمد فقال:حدثنا رَوْح، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام قال:سمعت شهر بن حوشب قال:حدثني عبد الرحمن بن غَنْم:أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر، فلما كان عام حُرّمت جاء براوية، فلما نظر إليه ضحك فقال أشعرت أنها حرمت بعدك؟ فقال:يا رسول الله، ألا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعن الله اليهود، انطلقوا إلى ما حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه، فباعوه به ما يأكلون، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام، وإن الخمر حرام وثمنها حرام » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن نافع بن كَيسان أن أباه أخبره أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق، يريد بها التجارة، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا كيسان، إنها قد حرمت بعدك » . قال:فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنها قد حرمت وحرم ثمنها » . فانطلق كيسان إلى الزقاق، فأخذ بأرجلها ثم هراقها.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد، عن أنس قال:كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كَعْب، وسُهَيْل بن بيضاء، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم، حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال:أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فما قالوا:حتى ننظر ونسأل، فقالوا:يا أنس اكف ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ.

أخرجاه في الصحيحين - من غير وجه- عن أنس وفي رواية حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال:كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ، فإذا مناد ينادي، قال:اخرج فانظر. فإذا مناد ينادي:ألا إن الخمر قد حُرّمت، فَجرت في سِكَكِ المدينة، قال:فقال لي أبو طلحة:اخرج فَأهْرقها. فهرقتها، فقالوا - أو:قال بعضهم:قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم. قال:فأنـزل الله: ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ) الآية.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال:بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دُجَانة، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر. فسمعت مناديًا ينادي:ألا إن الخمر قد حُرّمت! قال:فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أمّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) إلى قوله: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال رجل:يا رسول الله، فما منـزلة من مات وهو يشربها؟ فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ] ) الآية، فقال رجل لقتادة:أنت سَمعتَه من أنس بن مالك؟ قال:نعم. وقال رجل لأنس بن مالك:أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم - أو:حدثني من لم يكذب، ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحر، عن بكر بن سوادة، عن قيس بن سعد بن عبادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن ربي تبارك وتعالى حرم عَلَيّ الخمر، والكُوبَة، والقنّين. وإياكم والغُبيراء فإنها ثلث خمر العالم » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا فرج بن فضالة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع عن أبيه، عن عبد الله بن عَمْرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزْر، والكُوبة والقِنّين. وزادني صلاة الوتر » . قال يزيد:القنين:البرابط. تفرد به أحمد.

وقال أحمد أيضا:حدثنا أبو عاصم - وهو النبيل- أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم » . قال:وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وكل مسكر حرام » . تفرد به أحمد أيضا

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبي طعمة - مولاهم- وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعنت الخمر على عشرة وجوه:لعنت الخمر بعينها وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومُبتاعها، وعاصرها، ومُعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها » .

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث وكيع، به.

وقال أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا أبو طِعْمة، سمعت ابن عمر يقول:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد، فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه، فكان عن يمينه وكنت عن يساره. ثم أقبل عمر فتنحيت له، فكان عن يساره. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر - قال ابن عمر- :فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - قال ابن عمر:وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال: « لعنت الخمر وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها » .

وقال أحمد:حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن ضَمْرة بن حبيب قال:قال عبد الله بن عمر:أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة، فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال: « اغد عليَّ بها » . ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته، ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته.

حديث آخر:قال عبد الله بن وَهب:أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح، وابن لَهِيعة، والليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن ثابت بن يزيد الخولاني أخبره:أنه كان له عم يبيع الخمر، وكان يتصدق، فنهيته عنها فلم ينته، فقدمت المدينة فتلقيت ابن عباس، فسألته عن الخمر وثمنها، فقال:هي حرام وثمنها حرام. ثم قال ابن عباس، رضي الله عنه:يا معشر أمة محمد، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم، ونبي بعد نبيكم، لأنـزل فيكم كما أنـزل فيمن قبلكم، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة، ولَعمري لهو أشد عليكم، قال ثابت:فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر، فقال:سأخبرك عن الخمر، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فبينما هو محتب حَلّ حُبْوَته ثم قال: « من كان عنده من هذه الخمر فليأتنا بها » . فجعلوا يأتونه، فيقول أحدهم:عندي راوية. ويقول الآخر:عندي زقٌّ أو:ما شاء الله أن يكون عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني » . ففعلوا، ثم آذنوه فقام وقمت معه، فمشيت عن يمينه وهو متكئ عليّ، فألحقنا أبو بكر، رضي الله عنه، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلني عن شماله، وجعل أبا بكر في مكاني. ثم لحقنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فأخرني، وجعله عن يساره، فمشى بينهما. حتى إذا وقف على الخمر قال للناس: « أتعرفون هذه قالوا:نعم، يا رسول الله، هذه الخمر » . قال: « صدقتم » . قال: « فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها » . ثم دعا بسكين فقال: « اشحذوها » . ففعلوا، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق، قال:فقال الناس:في هذه الزقاق منفعة، قال: « أجل، ولكني إنما أفعل ذلك غضبًا لله، عز وجل، لما فيها من سخطه » . فقال عمر:أنا أكفيك يا رسول الله؟ قال: « لا » .

قال ابن وَهْب:وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث. رواه البيهقي.

حديث آخر:قال الحافظ أبو بكر البيهقي:أنبأنا أبو الحسين بن بِشْران، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شُعْبَة، عن سِماك، عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال:أنـزلت في الخمر أربع آيات، فذكر الحديث. قال:وضع رجل من الأنصار طعامًا، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا، فتفاخرنا، فقالت الأنصار:نحن أفضل. وقالت قريش:نحن أفضل. فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكان أنف سعد مفزورًا. فنـزلت آية الخمر: ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ ] ) إلى قوله تعالى: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) أخرجه مسلم من حديث شعبة.

حديث آخر:قال البيهقي:وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو علي الرفاء، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:إنما نـزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول:صنع هذا بي، أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنـزل الله هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ] ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال ناس من المتكلفين:هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ] )

ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة، عن حجاج بن منهال.

حديث آخر:قال ابن جرير:حدثني محمد بن خَلَف، حدثنا سعيد بن محمد الجرْمي، عن أبي تُمَيْلَة، عن سلام مولى حفص أبي القاسم، عن أبي بريدة، عن أبيه قال:بينا نحن قُعُود على شراب لنا، ونحن رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية لنا، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، إذ نـزل تحريم الخمر: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) إلى آخر الآيتين ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها إلى قوله: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون ) ؟ قال:وبعض القوم شَربته في يده، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا، كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا:انتهينا ربنا.

حديث آخر:قال البخاري:حدثنا صَدَقة بن الفضل، أخبرنا ابن عُيَينة، عن عمرو، عن جابر قال:صَبَّح ناس غداة أحد الخمر، فَقُتلوا من يومهم جميعًا شهداء، وذلك قبل تحريمها.

هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا أحمد بن عَبْدة، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول:اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد، فقالت اليهود:فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم. فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) ثم قال:وهذا إسناد صحيح. وهو كما قال، ولكن في سياقته غرابة.

حديث آخر:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال:لما نـزل تحريم الخمر قالوا:كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فنـزلت: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) الآية.

ورواه الترمذي، عن بُنْدار، غُنْدَر عن شعبة، به نحو. وقال:حسن صحيح.

حديث آخر:قال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا جعفر بن حميد الكوفي، حدثنا يعقوب القمي، عن عيسى بن جارية، عن جابر بن عبد الله قال:كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة، فلقيه رجل من المسلمين فقال:يا فلان، إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تَلّ، وسجى عليها بأكسية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، بلغني أن الخمر قد حرمت؟ قال: « أجل » قال:لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: « لا يصلح ردها » . قال:لي أن أهديها إلى من يكافئني منها؟ قال: « لا » . قال:فإن فيها مالا ليتامى في حجري؟ قال: « إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوّضُ أيتامك من مالهم » . ثم نادى بالمدينة، فقال رجل:يا رسول الله، الأوعية ننتفع بها؟. قال: « فَحُلُّوا أوكيتها » . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن السُّدِّي، عن أبي هُبيرة - وهو يحيى بن عَبَّاد الأنصاري- عن أنس بن مالك؛ أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال: « أهرقها » . قال:أفلا نجعلها خلا؟ قال: « لا » .

ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، من حديث الثوري، به نحوه.

حديث آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رَجاء، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، حدثنا هلال بن أبي هلال، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال:إن هذه الآية التي في القرآن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) قال:هي في التوراة: « إن الله أنـزل الحق ليذهب به الباطل، ويبطل به اللعب، والمزامير، والزَّفْن، والكِبَارات - يعني البرابط- - والزمارات - يعني به الدف- والطنابير- والشعر، والخمر مرة لمن طعمها. أقسم الله بيمينه وعزة حَيْله من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس » .

وهذا إسناد صحيح.

حديث آخر:قال عبد الله بن وَهْب:أخبرني عمرو بن الحارث؛ أن عمرو بن شُعَيب حدثهم، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال » . قيل:وما طينة الخبال؟ قال: « عصارة أهل جهنم » .

ورواه أحمد، من طريق عمرو بن شعيب.

حديث آخر:قال أبو داود:حدثنا محمد بن رافع، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني، قال:سمعت النعمان - هو ابن أبي شيبة الجَنَدي- يقول عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كل مَخمَّر خَمْر، وكل مُسْكِر حَرَام، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال » . قيل:وما طينة الخبال يا رسول الله قال: « صديد أهل النار، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال »

تفرد أبو داود.

حديث آخر:قال الشافعي، رحمه الله:أنبأنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة » .

أخرجه البخاري ومسلم، من حديث مالك، به.

وروى مسلم عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل مُسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يُدْمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة » .

حديث آخر:قال ابن وَهْب:أخبرني عمر بن محمد، عن عبد الله بن يَسار؛ أنه سمع سالم بن عبد الله يقول:قال عبد الله بن عمر:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه، والمُدْمِن الخمر، والمنَّان بما أعطى » .

ورواه النسائي، عن عمر بن علي، عن يزيد بن زُرَيْع، عن عمر بن محمد العُمَري، به.

وروى أحمد، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة منَّان ولا عاق، ولا مُدْمِن خمر » .

ورواه أحمد أيضًا، عن عبد الصمد، عن عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، به. وعن مروان بن شجاع، عن خَصِيف، عن مجاهد، به ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا، عن الحسين الجَعْفِي، عن زائدة، عن بن ابن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد، كلاهما عن أبي سعيد، به.

حديث آخر:قال أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة عاق، ولا مُدْمِن خمر، ولا منَّان، ولا ولد زنْيَة » .

وكذا رواه عن يزيد، عن همام، عن منصور، عن سالم، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، به وقد رواه أيضًا عن غُنْدر وغيره، عن شعبة، عن منصور، عن سالم، عن نُبَيْط بن شُرَيط، عن جابان، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يدخل الجنة منان، ولا عاق والديه، ولا مدمن خمر » .

ورواه النسائي، من حديث شعبة كذلك، ثم قال:ولا نعلم أحدًا تابع شعبة عن نبيط بن شريط.

وقال البخاري:لا يعرف لجابان سماع من عبد الله، ولا لسالم من جابان ولا نبيط.

وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد، عن ابن عباس - ومن طريقه أيضًا، عن أبي هريرة، فالله أعلم.

وقال الزهري:حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن أباه قال:سمعت عثمان بن عفان يقول:اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فَعَلقته امرأة غَوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت:إنا ندعوك لشهادة. فدخل معها، فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت:إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عَليّ أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر. فسقته كأسًا، فقال:زيدوني، فلم يَرِم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه.

رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح. وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه « ذم المسكر » عن محمد بن عبد الله بن بَزِيع، عن الفضيل بن سليمان النميري، عن عمر بن سعيد، عن الزهري، به مرفوعًا والموقوف أصح، والله أعلم.

وله شاهد في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » .

وقال أحمد بن حنبل:حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، عن سِماك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:لما حرمت الخمر قال أناس:يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنـزل الله: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ) الآية. قال:ولما حُوّلت القبلة قال أناس:يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنـزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ البقرة:143 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا داود بن مِهْران الدباغ، حدثنا داود - يعني العطار- عن ابن خُثَيْم، عن شَهْرِ بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من شرب الخمر لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلة، إن مات مات كافرًا، وإن تاب تاب الله عليه. وإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبَال » . قالت:قلت:يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: « صديد أهل النار » .

وقال الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نـزلت: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « قيل لي:أنت منهم » .

وهكذا رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، من طريقه.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد:قرأت على أبي، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إياكم وهاتان الكعبتان الموسمتان اللتان تزجران زجرًا، فإنهما مَيْسِر العَجَم » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 94 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 95 )

قال الوالبي، عن ابن عباس قوله: ( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ) قال:هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله به عباده في إحرامهم، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقربوه.

وقال مجاهد: ( تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ) يعني:صغار الصيد وفراخه ( وَرِمَاحِكُمْ ) يعني:كباره.

وقال مُقَاتِل بن حَيَّان:أنـزلت هذه الآية في عُمْرة الحُدَيْبِيَّة، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.

( لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ) يعني:أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ الملك:12 ] .

وقوله هاهنا: ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) قال السدي وغيره:يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم ( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:لمخالفته أمر الله وشرعه.

ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه. وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها. والجمهور على تحريم قتلها أيضًا، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة أم المؤمنين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خمس فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم الغُراب والحدأة، والعَقْرب، والفأرة، والكلب العَقُور » .

وقال مالك، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح:الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور » . أخرجاه.

ورواه أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثله. قال أيوب، قلت لنافع:فالحية؟ قال:الحية لا شك فيها، ولا يختلف في قتلها.

ومن العلماء - كمالك وأحمد- من ألحق بالكلب العقور الذئب، والسَّبْعُ، والنِّمْر، والفَهْد؛ لأنها أشد ضررًا منه فالله أعلم. وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم:الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلّها. واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال: « اللهم سَلِّط عليه كلبك بالشام » فأكله السبع بالزرقاء، قالوا:فإن قتل ما عداهن فَدَاها كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك.

قال مالك:وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها، وصغار الملحق بها من السباع العوادي.

وقال الشافعي [ رحمه الله ] يجوز للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه، ولا فرق بين صغاره وكباره. وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل.

وقال أبو حنيفة:يقتل المحرم الكلب العقور والذئب؛ لأنه كلب بري، فإن قتل غيرهما فَدَاه، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه. وهذا قول الأوزاعي، والحسن بن صالح بن حيي.

وقال زُفَر بن الهذيل:يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه.

وقال بعض الناس:المراد بالغراب هاهنا الأبقع وهو الذي في بطنه وظهره بياض، دون الأدرع وهو الأسود، والأعصم وهو الأبيض؛ لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس، عن يحيى القَطَّان، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خمس يقتلهن المحرم:الحية، والفأرة، والحدأة، والغراب الأبقع، والكلب العقور » .

والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك؛ لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه.

وقال مالك، رحمه الله:لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه.

وقال مجاهد بن جَبْر وطائفة:لا يقتله بل يرميه. ويروى مثله عن علي.

وقد روى هُشَيْم:حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عما يقتل المحرم، فقال: « الحية، والعقرب، والفُوَيْسِقَة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي » .

رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن أحمد بن منيع، كلاهما عن هشيم. وابن ماجه، عن أبي كريم عن محمد بن فضيل، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، به. وقال الترمذي:هذا حديث حسن.

وقوله تعالى: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوب قال:نبئت عن طاوس قال:لا يحكم على من أصاب صيدًا خطأ، إنما يحكم على من أصابه متعمدًا.

وهذا مذهب غريب عن طاوس، وهو متمسك بظاهر الآية.

وقال مجاهد بن جبير:المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد، الناسي لإحرامه. فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه، فذاك أمره أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه.

رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليث بن أبي سليم وغيرهما، عنه. وهو قول غريب أيضًا. والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. قال الزهري:دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ) وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العَمْد، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمّد مأثوم والمخطئ غير مَلُوم.

وقوله: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها: « فجزاؤه مثل ما قتل من النعم » .

وفي قوله: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافًا لأبي حنيفة، رحمه الله، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليًا أو غير مثلي، قال:وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه، وإن شاء اشترى به هديًا. والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنـز وذكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب « الأحكام » ، وأما إذا لم يكن الصيد مثليًا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه، يحمل إلى مكة. رواه البيهقي. وقوله: ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل، أو بالقيمة في غير المثل، عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل:هل يجوز أن يكون أحد الحكمين؟ على قولين: أحدهما: « لا؛ لأنه قد يُتَّهم في حكمه على نفسه، وهذا مذهب مالك. »

والثاني:نعم؛ لعموم الآية. وهو مذهب الشافعي، وأحمد.

واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا جعفر - هو ابن بُرْقَان- عن ميمون بن مِهْران؛ أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال:قتلت صيدًا وأنا محرم، فما ترى عليَّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر، رضي الله عنه، لأبي بن كعب وهو جالس عنده:ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي:أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر:وما تنكر؟ يقول الله تعالى: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.

وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يحتمل هاهنا. فبين له الصديق الحكم برفق وتُؤدَة، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم، فأما إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم، فقد قال ابن جرير:

حدثنا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وَكِيع بن الجراح، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قَبِيصة بن جابر قال:خرجنا حجاجًا، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال:فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي - أو:برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا، قال:فَعَظَّمْنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، قال:فقص عليه القصة قال:وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة - يعني عبد الرحمن بن عوف- فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال:ثم أقبل على الرجل فقال:أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل:لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر:ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها. قال:فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي:أيها الرجل، عَظّم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه:اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك. قال قبيصة:ولا أذكر الآية من سورة المائدة: ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قال:فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة. قال:فعلا صاحبي ضربًا بالدرة، وجعل يقول:أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم؟ قال:ثم أقبل عليَّ فقلت:يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني، قال:يا قبيصة بن جابر، إني أراك شابّ السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب.

وقد روى هُشَيْم هذه القصة، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة، بنحوه. ورواها أيضًا عن حُصَيْن، عن الشعبي، عن قبيصة، بنحوه. وذكرها مرسلة عن عُمَر:بن بكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن سِيرين.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، أخبرني أبو جرير البَجَلِيّ قال:أصبت ظَبْيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال:ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ بتَيْس أعفر.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن مُخارق، عن طارق قال:أوطأ أربد ظبيًا فقتلته وهو محرم فأتى عمر؛ ليحكم عليه، فقال له عمر:احكم معي، فحكما فيه جَدْيًا، قد جمع الماء والشجر. ثم قال عمر: ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )

وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين، كما قاله الشافعي وأحمد، رحمهما الله.

واختلفوا:هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين، فقال الشافعي وأحمد:يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة:بل يجب الحكم في كل فرد فرد، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا؛ لقوله تعالى: ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ )

وقوله تعالى: ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) أي:واصلا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم، بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة.

وقوله: ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) أي:إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعَم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد رحمهم الله، لظاهر الآية « أو » فإنها للتخيير. والقول الآخر:أنها على الترتيب.

فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيُقوّم الصيد المقتول عند مالك، وأبي حنيفة وأصحابه، وحماد، وإبراهيم. وقال الشافعي:يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا، ثم يشتري به طعام ويتصدق به، فيصرف لكل مسكين مُدٌ منه عند الشافعي، ومالك، وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير.

وقال أبو حنيفة وأصحابه:يُطعِم كل مِسْكين مُدَّيْن، وهو قول مجاهد.

وقال أحمد:مُدّ من حنطة، أو مدان من غيره. فإن لم يجد، أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يومًا.

وقال ابن جرير:وقال آخرون:يصوم مكان كل صاع يومًا. كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه، فإن الشارع أمر كعب بن عُجْرَة أن يقسم فَرَقًا بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفَرَقُ ثلاثة آصع.

واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي:محله الحرم، وهو قول عطاء. وقال مالك:يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد، أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة:إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.

ذكر أقوال السلف في هذا المقام:

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس في قوله: ( فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) قال:إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد نظر كم ثمنه، ثم قُوّم ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا، قال: ( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) قال:إنما أريد بالطعام الصيام، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه.

ورواه ابن جرير، من طريق جرير.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل إبِلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا.

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد:والطعام مُدٌّ مُدّ تشبَعهم.

وقال جابر الجُعْفي، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد: ( أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) قالوا:إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي. رواه ابن جرير.

وكذا روى ابن جُرَيْج عن مجاهد، وأسباط عن السُّدِّي أنها على الترتيب.

وقال عطاء، وعكرمة، ومجاهد - في رواية الضحاك- وإبراهيم النَّخَعِي:هي على الخيار. وهو رواية الليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. واختار ذلك ابن جرير، رحمه الله تعالى.

وقوله: ( لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) أي:أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ) أي:في زمان الجاهلية، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية.

ثم قال: ( َ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ) أي:ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

قال ابن جُرَيْج، قلت لعطاء:ما ( عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ) قال:عما كان في الجاهلية. قال:قلت:وما ( َ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ) ؟ قال:ومن عاد في الإسلام، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة قال:قلت:فهل في العود حَدُّ تعلمه؟ قال:لا. قال:قلت:فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، عز وجل، ولكن يفتدي. رواه ابن جرير.

وقيل معناه:فينتقم الله منه بالكفارة. قاله سعيد بن جبير، وعطاء.

ثم الجمهور من السلف والخلف، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية وإن تكرر ما تكرر، سواء الخطأ في ذلك والعمد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:من قتل شيئًا من الصيد خطأ، وهو محرم، يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له:ينتقم الله منك كما قال الله، عز وجل.

وقال ابن جرير:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعًا، عن هشام - هو ابن حسان- عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس فيمن أصاب صيدًا فحُكم عليه ثم عاد، قال:لا يحكم عليه، ينتقم الله منه.

وهكذا قال شُرَيْح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخَعِي. رواهن ابن جرير، ثم اختار القول الأول.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا العباس بن يزيد العبدي، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان، عن زيد أبي المعلى، عن الحسن البصري؛ أن رجلا أصاب صيدًا، فتجوز عنه، ثم عاد فأصاب صيدًا آخر، فنـزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله: ( وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ )

وقال ابن جرير في قوله: ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) يقول عَزَّ ذكره:والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة.

وقوله: ( ذُو انْتِقَامٍ ) يعني:أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.

 

 

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 96 ) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 97 ) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 98 ) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( 99 )

قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس - في رواية عنه- وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيرهم في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) يعني:ما يصطاد منه طريًا ( وَطَعَامُهُ ) ما يتزود منه مليحًا يابسًا.

وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه:صيده ما أخذ منه حيًا ( وَطَعَامُهُ ) ما لفظه ميتًا.

وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وأبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنهم. وعكرمة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم النخَعي، والحسن البصري.

قال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن أبي بكر الصديق أنه قال: ( وَطَعَامُهُ ) كل ما فيه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سِمَاك قال:حُدِّثتُ عن ابن عباس قال:خطب أبو بكر الناس فقال: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ ) وطعامه ما قذف.

قال:وحدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَز، عن ابن عباس في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) قال ( وَطَعَامُهُ ) ما قذف.

وقال عكرمة، عن ابن عباس قال: ( وَطَعَامُهُ ) ما لفظ من ميتة. ورواه ابن جرير أيضًا.

وقال سعيد بن المسيب:طعامه ما لفظه حيًا، أو حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن نافع؛ أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال:إن البحر قد قذف حيتانًا كثيرًا مَيْتًا أفنأكله؟ فقال:لا تأكلوه. فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة، فأتى هذه الآية ( وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) فقال:اذهب فقل له فليأكله، فإنه طعامه.

وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه، قال:وقد روي في ذلك خبر، وإن بعضهم يرويه موقوفًا.

حدثنا هَنَّاد بن السُّرِّي قال:حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ ) قال: « طعامه ما لفظه ميتا » .

ثم قال:وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة:

حدثنا هناد، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة في قوله: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) قال:طعامه:ما لفظه ميتًا.

وقوله: ( ُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) أي:منفعة وقُوتًا لكم أيها المخاطبون ( وَلِلسَّيَّارَةِ ) وهو جمع سيَّار. قال عكرمة:لمن كان بحضرة البحر وللسيارة:السَفْر.

وقال غيره:الطريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر، و ( طَعَامُهُ ) ما مات فيه أو اصطيد منه ومُلِّح وَقُدِّدَ زادًا للمسافرين والنائين عن البحر.

وقد روي نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، والسُّدِّي وغيرهم. وقد استدل جمهور العلماء على حل ميتة البحر بهذه الآية الكريمة، وبما رواه الإمام مالك بن أنس، عن وَهْبِ بن كَيْسَان، عن جابر بن عبد الله قال:بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، قال:وأنا فيهم. قال:فخرجنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجُمع ذلك كله، فكان مَزْوَدَيْ تمر، قال:فكان يُقَوِّتُنَا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. فقلت:وما تغني تمرة؟ فقال:فقد وجدنا فقدها حين فنيت، قال:ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظَّرِب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ومرت تحتهما فلم تصبهما.

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله طرق عن جابر.

وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير، عن جابر:فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها:العنبر قال:قال أبو عبيدة:مَيْتة، ثم قال:لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا قال:فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. ولقد رأيتُنا نغترف من وَقْب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفِدْر كالثور، أو:كقَدْر الثور، قال:ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وَقْب عينه، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرنا ذلك له، فقال: « هو رزق أخرجه الله لكم، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ » قال:فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. وفي بعض روايات مسلم:أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة. فقال بعضهم:هي واقعة أخرى، وقال بعضهم:بل هي قضية واحدة، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة، والله أعلم.

وقال مالك، عن صفوان بن سُلَيم، عن سعيد بن سَلَمة - من آل ابن الأزرق:أن المغيرة بن أبي بردة- وهو من بني عبد الدار- أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول:سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هو الطَّهُور ماؤه الحِلّ ميتته » .

وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأهل السنن الأربعة، وصححه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حِبَّان، وغيرهم. وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من طرق، عن حماد بن سلمة:حدثنا أبو المُهَزّم - هو يزيد بن سفيان- سمعت أبا هريرة يقول:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج - أو عمرة- فاستقبلنا رِجْل جَراد، فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن، فأسقط في أيدينا، فقلنا:ما نصنع ونحن محرمون؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « لا بأس بصيد البحر »

أبو المُهَزّم ضعيف، والله أعلم.

وقال ابن ماجه:حدثنا هارون بن عبد الله الحَمَّال، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله عن عُلاثة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جابر وأنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال: « اللهم أهْلك كباره، واقتل صغاره، وأفسدْ بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء » . فقال خالد:يا رسول الله، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: « إن الجراد نَثْرَة الحوت في البحر » . قال هاشم:قال زياد:فحدثني من رأى الحوت ينثره. تفرد به ابن ماجه.

وقد روى الشافعي، عن سعيد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس:أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم.

وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر، ولم يستثن من ذلك شيئًا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال: ( طَعَامُهُ ) كل ما فيه.

وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها؛ لما رواه الإمام أحمد، وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « نهى عن قتل الضفدع » .

وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال:نَقِيقُها تسبيح.

وقال آخرون:يؤكل من صيد البحر السمك، ولا يؤكل الضفدع. واختلفوا فيما سواهما، فقيل:يؤكل سائر ذلك، وقيل:لا يؤكل. وقيل:ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي، رحمه الله.

قال أبو حنيفة، رحمه الله:لا يؤكل ما مات في البحر، كما لا يؤكل ما مات في البر؛ لعموم قوله: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) [ المائدة:3 ] .

وقد ورد حديث بنحو ذلك، فقال ابن مردويه:

حدثنا عبد الباقي - هو ابن قانع- حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيّ وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا الحسين بن زيد الطحان، حدثنا حفص بن غِياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما صِدْتُموه وهو حي فمات فكلوه، وما ألقى البحر ميتًا طافيًا فلا تأكلوه » .

ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية، ويحيى بن أبي أُنَيْسَة، عن أبي الزبير عن جابر به. وهو منكر.

وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، بحديث « العَنْبَر » المتقدم ذكره، وبحديث: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » ، وقد تقدم أيضًا.

وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحِلَّت لنا ميتتان ودَمَان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال » .

ورواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني والبيهقي. وله شواهد، وروي موقوفًا، والله أعلم.

وقوله: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) أي:في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد. ففيه دلالة على تحريم ذلك فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدًا أثمَ وغَرم، أو مخطئًا غرم وحرم عليه أكله؛ لأنه في حقه كالميتة، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي - في أحد قوليه- وبه يقول عطاء، والقاسم، وسالم، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وغيرهم. فإن أكله أو شيئًا منه، فهل يلزمه جزاء؟ فيه قولان للعلماء:

أحدهما:نعم، قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، قال:إن ذبحه ثم أكله فكفارتان، وإليه ذهب طائفة.

والثاني:لا جزاء عليه بأكله. نص عليه مالك بن أنس.

قال أبو عمر بن عبد البر:وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار، وجمهور العلماء. ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد، فإنما عليه حد واحد.

وقال أبو حنيفة:عليه قيمة ما أكل.

وقال أبو ثور:إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه، وحلال أكل ذلك الصيد، إلا أنني أكرهه للذي قتله، للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صَيْد البَرِّ لكم حلال، ما لم تُصِيدوه »

أو يُصَدْ لكم « . »

وهذا الحديث سيأتي بيانه. وقوله بإباحته للقاتل غريب، وأما لغيره ففيه خلاف. قد ذكرنا المنع عمن تقدم. وقال آخرون. بإباحته لغير القاتل، سواء المحرمون والمحلون؛ لهذا الحديث. والله أعلم.

وأما إذا صاد حَلال صيدًا فأهداه إلى محرم، فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقًا، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا. حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر، عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، والزبير بن العوام، وكعب الأحبار، ومجاهد وعطاء - في رواية- وسعيد بن جبير. قال:وبه قال الكوفيون.

قال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا بِشْر بن المفضل، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن سعيد بن المسيب حدثه، عن أبى هريرة؛ أنه سئل عن لحم صيد صاده حَلال، أيأكله المحرم؟ قال:فأفتاهم بأكله. ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره، فقال:لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك.

وقال آخرون:لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية، ومنعوا من ذلك مطلقًا؛ لعموم هذه الآية الكريمة.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة، عن طاوس، عن ابن عباس؛ أنه كره أكل لحم الصيد للمحرم. وقال:هي مبهمة. يعني قوله: ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ) .

قال:وأخبرني معمر، عن الزهري، عن ابن عمر؛ أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال.

قال معمر:وأخبرني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، مثله.

قال ابن عبد البر:وبه قال طاوس، وجابر بن زيد، وإليه ذهب الثوري، وإسحاق بن راهويه - في رواية- وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.

وقال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه - في رواية- والجمهور:إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد، لم يجز للمحرم أكله؛ لحديث الصعب بن جثامة:أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء - أو:بوَدّان- فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: « إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنّا حُرُم » .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، وله ألفاظ كثيرة قالوا:فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله، فرده لذلك. فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وَحْش، كان حلالا لم يحرم، وكان أصحابه محرمين، فتوقفوا في أكله. ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « هل كان منكم أحد أشار إليها، أو أعان في قتلها؟ » قالوا:لا. قال: « فكلوا » . وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال قتيبة في حديثه:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: « صيد البر لكم حلال - قال سعيد:وأنتم حرم- ما لم تُصِيدوه أو يُصَدْ لكم » .

وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعًا، عن قتيبة. وقال الترمذي:لا نعرف للمطلب سماعًا من جابر.

ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي، من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن مولاه المطلب، عن جابر ثم قال:وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس.

وقال مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال:رأيت عثمان بن عفان بالعَرْج، وهو محرم في يوم صائف، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه:كلوا، فقالوا:أوَلا تأكل أنت؟ فقال:إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي.

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 100 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 101 ) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ( 102 )

يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) يا محمد: ( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ ) أي:يا أيها الإنسان ( كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) يعني:أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، كما جاء في الحديث: « ما قَلَّ وكَفَى، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى » .

وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه:حدثنا أحمد بن زُهَيْر، حدثنا الحَوْطِي، حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا مُعان بن رِفاعة، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال:يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » .

( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ ) أي:يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه، واقنعوا بالحلال واكتفوا به ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي:في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هذا تأديب من الله [ تعالى ] لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا ( عَنْ أَشْيَاءَ ) مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » .

وقال البخاري:حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك قال:خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت مثلها قط، قال « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا » قال:فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين. فقال رجل:من أبي؟ قال: « فلان » ، فنـزلت هذه الآية: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )

رواه النَّضْر وروح بن عبادة، عن شعبة وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع، ومسلم، وأحمد، والترمذي، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج، به.

وقال ابن جرير:حدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) الآية، قال:فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر، فقال: « لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم » . فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال:يا نبي الله، من أبي؟ قال: « أبوك حذافة » . قال:ثم قام عمر - أو قال:فأنشأ عمر- فقال:رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا عائذًا بالله - أو قال:أعوذ بالله- من شر الفتن قال:وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لم أر في الخير والشر كاليوم قط، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط » . أخرجاه من طريق سعيد.

ورواه مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس بنحو ذلك - أو قريبًا منه- قال الزهري:فقالت أم عبد الله بن حذافة:ما رأيت ولدًا أعق منك قط، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس، فقال:والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا قَيْس، عن أبي حَصِين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل فقال:أين أبي ؟ فقال: « في النار » فقام آخر فقال:من أبي؟ فقال: « أبوك حذافة » ، فقام عمر بن الخطاب فقال:رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إمامًا، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك، والله أعلم من آباؤنا. قال:فسكن غضبه، ونـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إسناده جيد.

وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) قال:غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فقام خطيبًا فقال: « سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به » . فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له:عبد الله بن حُذَافة، وكان يُطْعَن فيه، فقال:يا رسول الله، من أبي؟ فقال: « أبوك فلان » ، فدعاه لأبيه، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله، وقال:يا رسول الله، رضينا بالله ربًّا، وبك نبيًا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي، فيومئذ قال: « الولد للفِرَاش وللعاهرِ الحَجَر » .

ثم قال البخاري:حدثنا الفَضْل بن سَهْل، حدثنا أبو النَّضْر، حدثنا أبو خَيْثَمَة، حدثنا أبو الجُويرية، عن ابن عباس قال:كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل:من أبي؟ ويقول الرجل تَضل ناقتُه:أين ناقتي؟ فأنـزل الله فيهم هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حتى فرغ من الآية كلها. تفرد به البخاري.

وقال الإمام أحمد:حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البَخْتَريّ - وهو سعيد بن فيروز- عن علي قال:لما نـزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [ آل عمران:97 ] قالوا:يا رسول الله، كل عام؟ فسكت. فقالوا:أفي كل عام؟ فسكت، قال:ثم قالوا:أفي كل عام؟ فقال: « لا ولو قلت:نعم لوجبت » ، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى آخر الآية.

وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق منصور بن وردان، به وقال الترمذي:غريب من هذا الوجه، وسمعت البخاري يقول:أبو البختري لم يدرك عليًّا.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله كتب عليكم الحج » فقال رجل:أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: « من السائل؟ » فقال:فلان. فقال: « والذي نفسي بيده، لو قلت:نعم لوَجَبَتْ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم » ، فأنـزل الله، عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حتى ختم الآية.

ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة - وقال:فقام مِحْصَن الأسدي- وفي رواية من هذه الطريق:عُكَاشة بن محْصن- وهو أشبه.

وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال:حدثنا أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى، عن صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال:سمعت أبا أمامة الباهلي يقول:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: « كتب عليكم الحج » . فقام رجل من الأعراب فقال:أفي كل عام؟ قال:فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكت واستغضب، ومكث طويلا ثم تكلم فقال: « من السائل؟ » فقال الأعرابي:أنا ذا، فقال: « ويحك، ماذا يؤمنك أن أقول:نعم، والله لو قلت:نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحَرَج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه » قال:فأنـزل الله عند ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى آخر الآية. في إسناده ضعف.

وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:

حدثنا حَجَّاج قال:سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » الحديث.

وقد رواه أبو داود والترمذي، من حديث إسرائيل - قال أبو داود:عن الوليد- وقال الترمذي:عن إسرائيل- عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم، به. ثم قال الترمذي:غريب من هذا الوجه.

وقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي:وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينـزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم، وذلك [ على الله ] يسير.

ثم قال ( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي:عما كان منكم قبل ذلك، ( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )

وقيل:المراد بقوله: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) أي:لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعلَّه قد ينـزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث: « أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته » ولكن إذا نـزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها.

( عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ) أي:ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ذروني ما تُرِكْتُم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم » .

وفي الحديث الصحيح أيضًا: « إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها » .

ثم قال: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) أي:قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي:بسببها، أي:بينت لهم ولم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد.

قال، العَوْفِي، عن ابن عباس قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال: « يا قوم كتب عليكم الحج » . فقام رجل من بني أسد فقال:يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغْضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فقال: « والذي نفسي بيده لو قلت:نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه » . فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله عن ذلك وقال:لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه رواه ابن جرير.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنـزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) قال:لما نـزلت آية الحج، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: « يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا » . فقالوا:يا رسول الله، أعامًا واحدًا أم كل عام؟ فقال: « لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت:كل عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم » . ثم قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ) إلى قوله: ( ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) رواه ابن جرير.

وقال خَصِيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ ) قال:هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك « ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا » ، قال:وأما عكرمة فقال:إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم قال: ( قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ) رواه ابن جرير.

يعني عكرمة رحمه الله:أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصَّفَا ذهبا وغير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينـزل عليهم كتابا من السماء، وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا [ الإسراء:59 ] وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [ الأنعام:109- 111 ] .

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 103 )

قال البخاري:حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب قال: « البحيرة » :التي يُمْنَعُ درّها للطواغيت، فلا يَحْلبها أحد من الناس. و « السائبة » :كانوا يسيبونَها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء - قال:وقال أبو هريرة:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت عمْرَو بن عامر الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيب السوائب » - و « الوصيلة » :الناقة البكر، تُبَكّر في أول نتاج الإبل، ثم تُثَنّي بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر. و « الحام » :فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت، وأعفوه عن الحَمْل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمّوه الحامي.

وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث إبراهيم بن سعد، به.

ثم قال البخاري:وقال لي أبو اليمان:أخبرنا شعيب، عن الزهري قال:سمعت سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه ابن الهاد، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحاكم:أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بُخْت، عن الزهري. كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في « الأطراف » وسكت ولم ينبه عليه. وفيما قاله الحاكم نظر، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن الزهري نفسه. والله أعلم.

ثم قال البخاري:حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عُرْوَة؛ أن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا، ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه، وهو أول من سيب السوائب » . تفرد به البخاري.

وقال ابن جرير:حدثنا هَنَّاد، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن: « يا أكثم، رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك » . فقال أكثم:تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غَيّر دين إبراهيم، وبحر البحيرة، وسيّب السائبة، وحمى الحامي » . ثم رواه عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه أو مثله.

ليس هذان الطريقان في الكتب.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، حدثنا إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أول من سَيَّب السوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار » . تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا مَعْمَر، عن زيد بن أسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام » . قالوا:من هو يا رسول الله؟ قال: « عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار، يُؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أول من بحر البحائر » . قالوا:من هو يا رسول الله؟ قال: « رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما » .

فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة، أحد رؤساء خزاعة، الذين ولَوا البيت بعد جَرْهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام، عند قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا [ الأنعام:136 ] إلى آخر الآيات في ذلك.

فأما البحيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هي الناقة إذا نتجت خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء. وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا:هذه بحيرة.

وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا.

وأما السائبة، فقال مجاهد:هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم.

وقال محمد بن إسحاق:السائبة:هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر، سُيّبت فلم تركب، ولم يُجَزّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلا الضيف.

وقال أبو روق:السائبة:كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها.

وقال السُّدِّي:كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة في الدنيا.

وأما الوصيلة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا:وصلته أخته فحرمته علينا. رواه ابن أبي حاتم.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: ( وَلا وَصِيلَةٍ ) قال:فالوصيلة من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى، ثم تثنى بأنثى، فسموها الوصيلة، ويقولون:وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم.

وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس، رحمه الله.

وقال محمد بن إسحاق:الوصيلة من الغنم:إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن، توأمين توأمين في كل بطن، سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى، جعلت للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.

وأما الحام، فقال العَوْفي، عن ابن عباس قال:كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.

وكذا قال أبو روق، وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:وأما الحام فالفحل من الإبل، إذا وُلد لولده قالوا:حَمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئًا، ولا يجزون له وبرًا، ولا يمنعونه من حمى رعي، ومن حوض يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.

وقال ابن وَهْب:سمعت مالكًا يقول:أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه.

وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي، عن أبي الأحوص الجُشَمي، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب، فقال لي: « هل لك من مال؟ » قلت نعم. قال: « من أيّ المال؟ » قال:فقلت:من كل المال، من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: « فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك » . ثم قال: « تنتج إبلك وافية آذانها؟ » قال:قلت:نعم. قال: « وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ » قال: « فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول:هذه بحير، وتشق آذان طائفة منها، وتقول:هذه حرم؟ » قلت:نعم. قال: « فلا تفعل، إن كل ما آتاك الله لك حل » ، ثم قال: ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ) أما البحيرة:فهي التي يجدعون آذانها، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة:فهي التي يسيبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة:فالشاة تلد ستة أبطن، فإذا ولدت السابع جدعت وقطع قرنها، فيقولون:قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالك، من قوله، وهو أشبه.

وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه، به. وليس فيه تفسير هذه والله أعلم.

وقوله: ( وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي:ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 104 )

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنـزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) أي:إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه، قالوا:يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك، قال الله تعالى ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا ) أي:لا يفهمون حقًا، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم، وأضل سبيلا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 )

يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا.

قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية:يقول تعالى:إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به.

وكذا روى الوالبي عنه. وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان. فقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) نصب على الإغراء ( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي:فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

وليس في الآية مسْتَدلٌّ على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله:

حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا زُهَيْر - يعني ابن معاوية- حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثنا قَيْس قال:قام أبو بكر، رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله، عز وجل، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه » . قال:وسمعت أبا بكر يقول:يا أيها الناس، إياكم والكَذِب، فإن الكذب مجانب الإيمان.

وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حِبَّان في صحيحه، وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد، به متصلا مرفوعًا، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق، رضي الله عنه.

وقال أبو عيسى الترمذي:حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني، وحدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا عتبة بن أبي حكيم، حدثنا عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشَّعْباني قال:أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له:كيف تصنع في هذه الآية؟ فقال:أيَّة آية؟ قلت:قوله [ تعالى ] ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فقال:أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا، وهَوًى مُتَّبعًا، ودنيا مُؤْثَرة، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصّة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم » - قال عبد الله بن المبارك:وزاد غير عتبة:قيل يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منهم أو منا؟ قال: « بل أجر خمسين منكم » .

ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب صحيح. وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عتبة بن أبي حكيم.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا مَعْمَر، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فقال:إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا - أو قال:فلا يقبل منكم- فحينئذ ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ )

ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية، عن ابن مسعود في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) الآية، قال:كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله:ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه:عليك بنفسك، فإن الله يقول: ( [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) الآية. قال:فسمعها ابن مسعود فقال:مَهْ، لم يجئ تأويل هذه بعد إن القرآن أنـزل حيث أنـزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينـزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبسْتُم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية. رواه ابن جرير.

وقال ابن جرير:حدثنا الحسن بن عَرفة، حدثنا شبابة بن سَوّار، حدثنا الربيع بن صُبَيْح، عن سفيان بن عقال قال:قيل لابن عمر:لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال: ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ؟ فقال ابن عمر:إنها ليست لي ولا لأصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا فليبلّغ الشاهد الغائب » . فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم.

وقال أيضًا:حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف، عن سوَّار بن شَبِيب قال:كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جَليد في العين، شديد اللسان، فقال:يا أبا عبد الرحمن، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم:وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟

فقال الرجل:إني لست إياك أسأل، إنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله:لعلك ترى، لا أبالك، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظْهم وانههم، فإن عصوك فعليك نَفْسك فإن الله، عز وجل يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) الآية.

وقال أيضًا:حدثني أحمد بن المقدام، حدثنا المعتَمِر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن أبي مازن قال:انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ ) فقال أكْبَرهم لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم.

وقال:حدثنا القاسم، حدثنا الحُسَين، حدثنا ابن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن جُبَير بن نُفير قال:كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأصغرُ القوم، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا:أليس الله يقول في كتابه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا:تنـزع آية من القرآن ولا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنّيت أني لم أكن تكلمتُ، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا:إنك غلام حَدَثُ السن، وإنك نـزعت بآية ولا تدري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا، وهَوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت.

وقال ابن جرير:حدثنا علي بن سَهْل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال:تلا الحسن هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فقال الحسن:الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.

وقال سعيد بن المسيب:إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت.

رواه ابن جرير، وكذا روي من طريق سفيان الثوري، عن أبي العُمَيْس، عن أبي البَخْتَري، عن حذيفة مثله، وكذا قال غير واحد من السلف.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كعب في قوله: ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال:إذا هدمت كنيسة دمشق، فجعلت مسجدًا، وظهر لبس العَصْب، فحينئذ تأويل هذه الآية.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ( 106 ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 107 ) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 108 )

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل:إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس. وقال حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم:إنها منسوخة. وقال آخرون - وهم الأكثرون، فيما قاله ابن جرير- :بل هو محكم؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان.

فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ) هذا هو الخبر؛ لقوله: ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ) فقيل تقديره: « شهادة اثنين » ، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مَقَامه. وقيل:دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان.

وقوله: ( ذَوَا عَدْلٍ ) وصف الاثنين، بأن يكونا عدلين.

وقوله: ( مِنْكُمْ ) أي:من المسلمين. قاله الجمهور. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قال:من المسلمين. رواه ابن أبي حاتم، ثم قال:رُوي عن عُبيدة، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، ويحيى بن يَعْمُر، والسُّدِّي، وقتادة، ومُقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.

قال ابن جرير:وقال آخرون:عني:ذلك ( ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي:من حَي الموصي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.

وقوله: ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن عَوْن، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير قال:قال ابن عباس في قوله: ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال:من غير المسلمين، يعني:أهل الكتاب.

ثم قال:وروي عن عبيدة، وشُرَيْح، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وأبي مِجْلزَ، والسُّديِّ، ومقاتل بن حيان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، نحو ذلك.

وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله: ( مِنْكُمْ ) أي:المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد هاهنا: ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) أي:من غير قبيلة الموصي. وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري، والزهري، رحمهما الله.

وقوله: ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي:سافرتم، ( فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين، أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما صرح بذلك شريح القاضي.

قال ابن جرير:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال:لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية.

ثم رواه عن أبي كُرَيْب، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال:قال شريح، فذكر مثله.

وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى. وهذه المسألة من إفراده، وخالفه الثلاثة فقالوا:لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.

وقال ابن جرير:حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو داود، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري قال:مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين.

وقال ابن زيد:نـزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل الناس بها.

رواه ابن جرير، وفي هذا نظر، والله أعلم.

وقال ابن جرير:اختلف في قوله: ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) هل المراد به أن يوصي إليهما، أو يشهدهما؟ على قولين:

أحدهما:أن يوصي إليهما، كما قال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال:سئل ابن مسعود، رضي الله عنه، عن هذه الآية قال هذا رجل سافر ومعه مال، فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين.

رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع.

والقول الثاني:أنهما يكونان شاهدين. وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان:الوصاية والشهادة، كما في قصة تَمِيم الداري، وعَدِيّ بن بَدَّاء، كما سيأتي ذكرها آنفًا، إن شاء الله وبه التوفيق.

وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين، قال:لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد. وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، وهو حكم مستقل بنفسه، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.

وقوله تعالى: ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) قال [ العوفي، عن ] ابن عباس:يعني صلاة العصر. وكذا قال سعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، وقتادة، وعِكْرِمة، ومحمد بن سيرين. وقال الزهري:يعني صلاة المسلمين، وقال السدي، عن ابن عباس:يعني صلاة أهل دينهما.

والمقصود:أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ ) أي:فيحلفان بالله ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أي:إن ظهرت لكم منهما ريبة، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله ( لا نَشْتَرِي بِهِ ) أي:بأيماننا. قاله مُقاتِل بن حيان ( ثَمَنًا ) أي:لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة، ( وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) أي:ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه، ( وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ) أضافها إلى الله تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرها.

وقرأ بعضهم: « ولا نكتم شهادة آلله » مجرورًا على القسم. رواها ابن جرير، عن عامر الشعبي. وحَكَي عن بعضهم أنه قرأ: « ولا نَكْتُمُ شهادةً الله » ، والقراءة الأولى هي المشهورة.

( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ) أي:إن فعلنا شيئًا من ذلك، من تحريف الشهادة، أو تبديلها، أو تغييرها أو كتمها بالكلية.

ثم قال تعالى: ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ) أي:فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين، أنهما خانا أو غَلا شيئًا من المال الموصى به إليهما، وظهر عليهما بذلك ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ ) هذه قراءة الجمهور: « اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان » . ورُوي عن علي، وأُبيّ، والحسن البصري أنهم قرؤوها: ( اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ ) .

وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ ) ثم قال:صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقرأ بعضهم، ومنهم ابن عباس: « من الذين استحق عليهم الأوَّلِين » . وقرأ الحسن: « من الذين استحق عليهم الأوَّلان » ، حكاه ابنُ جرير.

فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك:أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ) أي:لقولنا:إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة ( وَمَا اعْتَدَيْنَا ) أي:فيما قلنا من الخيانة ( إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي:إن كنا قد كذبنا عليهما.

وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لَوْث في جانب القاتل، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم، كما هو مقرر في باب « القسامة » من الأحكام.

وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن أبي النضر، عن باذان - يعني:أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب- عن ابن عباس، عن تميم الداري في هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) قال:بَرئ الناس منها غيري وغير عَديّ بن بَدَّاء. وكانا نصرانيين، يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم، يقال له:بُدَيْل بن أبي مريم، بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو عُظْم تجارته. فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله - قال تميم:فلما مات أخذنا ذلك الجام، فبعناه بألف درهم، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بدّاء. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا:ما ترك غير هذا، وما د فع إلينا غيره- قال تميم:فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا إليه أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف فأنـزل الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ) إلى قوله: ( فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنـزعتْ الخمسمائة من عَدي بن بَدَّاء.

وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحَرَّاني، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، به فذكره - وعنده:فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه، فحلف فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) إلى قوله: ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر، فحلفا. فَنـزعَتْ الخمسمائة من عدي بن بَدَّاء.

ثم قال:هذا حديث غريب، وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، وقد تركه أهل العلم بالحديث، وهو صاحب التفسير، سمعت محمد بن إسماعيل يقول:محمد بن السائب الكلبي، يكنى أبا النضر، ثم قال:ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ، وقد رُوي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.

حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جُبَير، عن أبيه، عن ابن عباس قال:خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بَدّاء، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جامًا من فضة مُخَوّصًا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدوا الجام بمكة، فقيل:اشتريناه من تميم وعديّ. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لِصَاحبهم. وفيهم نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ )

وكذا رواه أبو داود، عن الحسن بن علي، عن يحيى بن آدم، به. ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن غريب، وهو حديث ابن أبي زائدة.

ومحمد بن أبي القاسم، كوفي، قيل:إنه صالح الحديث، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غيرُ واحد من التابعين منهم:عكرمة، ومحمد بن سيرين، وقتادة. وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر، رواه ابن جرير. وكذا ذكرها مرسلة:مجاهد، والحسن، والضحاك. وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها.

ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير:

حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا زكريا، عن الشعبي؛ أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقا، قال:فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال:فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري - يعني:أبا موسى الأشعري، رضي الله عنه- فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري:هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال:فأحلفهما بعد العصر:بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال:فأمضى شهادتهما.

ثم رواه عن عمرو بن علي الفَلاس، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن مغيرة الأزرق، عن الشعبي؛ أن أبا موسى قضى بدقوقا.

وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي، عن أبي موسى الأشعري.

فقوله: « هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم » الظاهر - والله أعلم- أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعديّ بن بَدّاء، قد ذكروا أن إسلام تَمِيم بن أوْسٍ الداري، رضي الله عنه، كان في سنة تسع من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرًا، يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، والله أعلم.

وقال أسباط عن السُّدِّي: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قال:هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه، قال:هذا في الحضر، ( أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) في السفر، ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) هذا الرجل يدركه الموت في سفره، وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا [ مال صاحبهم ] تركوا الرجلين وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله تعالى: ( تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ) قال عبد الله بن عباس:كأني أنظر إلى العلْجين حين انتُهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخَوّنوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر، فقلت له:إنهما لا يباليان صلاة العصر، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما، فَيُوقَفُ الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان:بالله لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين:أن صاحبهم لبهذا أوصى، وإن هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا:إنكما إن كتمتما أو خُنْتُما فَضَحْتُكُما في قومكما، ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. رواه ابن جرير.

وقال ابن جرير:حدثنا الحسين، حدثنا هُشيْم، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم وسعيد بن جبير، أنهما قالا في هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ) الآية، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته، فإن صدقهما الورثة قُبل قولهما، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر:بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خُنَّا ولا غَيَّرنا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية:فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله:ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله:أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فذلك قوله: ( فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ) يقول:إن اطلع على أن الكافرين كذبا ( فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ) يقول:من الأولياء، فحلفا بالله:أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرَيْن، وتجوز شهادة الأولياء.

وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس. رواهما ابن جرير.

وهكذا قَرَّر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غيرُ واحد من أئمة التابعين والسلف، رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد، رحمه الله.

وقوله: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ) أي:شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي.

وقوله: ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ) أي:يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة على وجهها، هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة، فيحلفون ويستحقون ما يدعون، ولهذا قال: ( أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ )

ثم قال: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي:في جميع أموركم ( وَاسْمَعُوا ) أي:وأطيعوا ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) يعني:الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.

 

 

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 109 )

وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، كما قال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ الأعراف:6 ] وقال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر:92، 93 ] .

وقول الرسل: ( لا عِلْمَ لَنَا ) قال مجاهد، والحسن البصري، والسُّدِّي:إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم.

قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مجاهد: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ) فيفزعون فيقولون: ( لا عِلْمَ لَنَا ) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حَكَّام، حدثنا عَنْبَسَة قال:سمعت شيخًا يقول:سمعت الحسن يقول في قوله: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ) الآية، قال:من هول ذلك اليوم.

وقال أسباط، عن السُّدِّي: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا ) ذلك:أنهم نـزلوا منـزلا ذهلت فيه العقول، فلما سئلوا قالوا: ( لا عِلْمَ لَنَا ) ثم نـزلوا منـزلا آخر، فشهدوا على قومهم. رواه ابن جرير.

ثم قال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الحجاج، عن ابن جُرَيْج قوله: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ) ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ قالوا: ( لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ )

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ) يقولون للرب، عز وجل:لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منا.

رواه ابن جرير. ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب، عز وجل، أي:لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره، لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء. فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم، فإنك ( أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ )

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 110 ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( 111 )

يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات، فقال تعالى: ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ) أي:في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء ( وَعَلى وَالِدَتِكَ ) حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة، ( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) وهو جبريل، عليه السلام، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرًا، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي؛ ولهذا قال تعالى: ( تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا ) أي:تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن « تكلم » تدعو؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب.

وقوله: ( وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) أي:الخط والفهم ( وَالتَّوْرَاةَ ) وهي المنـزلة على موسى بن عمران الكليم، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك.

وقوله: ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) أي:تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرًا بإذني، أي:فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه.

وقوله: ( وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي ) قد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.

وقوله: ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ) أي:تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته، وإرادته ومشيئته.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مُصَرِّف- عن أبي بِشْر، عن أبي الهذيل قال:كان عيسى ابن مريم، عليه السلام، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين، يقرأ في الأولى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [ سورة الملك ] ، وفي الثانية: الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ [ سورة السجدة ] . فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه، ثم دعا بسبعة أسماء:يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر:يا حي، يا قيوم، يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، يا نور السموات والأرض، وما بينهما ورب العرش العظيم، يا رب.

وهذا أثر عجيب جدًا.

وقوله: ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) أي:واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إليَّ، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم. وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة. وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) وهذا أيضًا من الامتنان عليه، عليه السلام، بأن جعل له أصحابًا وأنصارًا. ثم قيل:المراد بهذا الوحي وحي إلهام، كما قال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية [ القصص:7 ] ، وهذا وحي إلهام بلا خوف، وكما قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا الآية [ النحل:68، 69 ] . وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا ) [ أي:بالله وبرسول الله ] ( وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) أي:ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا.

قال الحسن البصري:ألهمهم الله. عز وجل ذلك، وقال السُّدِّي:قذف في قلوبهم ذلك.

ويحتمل أن يكون المراد:وإذ أوحيت إليهم بواسطتك، فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك، فقالوا: ( آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 112 ) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 113 )

هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة فيقال: « سورة المائدة » . وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى، عليه السلام، لما أجاب دعاءه بنـزولها، فأنـزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة.

وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة ليست مذكورة في الإنجيل، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين، فالله أعلم.

فقوله تعالى: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ) وهم أتباع عيسى عليه السلام: ( يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) هذه قراءة كثيرين، وقرأ آخرون: « هل تَسْتَطيع رَبَّك » أي:هل تستطيع أن تسأل ربك ( أَنْ يُنـزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) .

والمائدة هي:الخوان عليه طعام. وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوا أن ينـزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها، ويتقوون بها على العبادة.

قال: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي:فأجابهم المسيح، عليه السلام، قائلا لهم:اتقوا الله، ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين.

( قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ) أي:نحن محتاجون إلى الأكل منها ( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ) إذا شاهدنا نـزولها رزقًا لنا من السماء ( وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا ) أي:ونـزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك، ( وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) أي:ونشهد أنها آية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به.

 

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 114 ) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( 115 )

( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنـزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا ) قال السُّدِّي:أي نتخذ ذلك اليوم الذي نـزلت فيه عيدًا نعظمه نحن وَمَنْ بعدنا، وقال سفيان الثوري:يعني يومًا نصلي فيه، وقال قتادة:أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم، وعن سلمان الفارسي:عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل:كافية لأولنا وآخرنا.

( وَآيَةً مِنْكَ ) أي:دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ( وَارْزُقْنَا ) أي:من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب ( وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنـزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ) أي:فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها ( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) أي:من عالمي زمانكم، كقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ غافر:46 ] ، وكقوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [ النساء:145 ] .

وقد روى ابن جرير، من طريق عَوْف الأعرابي، عن أبي المغيرة القوَّاس، عن عبد الله بن عمرو قال:إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة:المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.

ذكر أخبار رُوِيَت عن السلف في نـزول المائدة على الحواريين:

قال أبو جعفر بن جرير حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن لَيْث، عن عقيل، عن ابن عباس:أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل:هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له. ففعلوا، ثم قالوا:يا معلم الخير، قلت لنا:إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نَفْرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ قال:فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.

كذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وَهْبٍ، عن الليث، عن عُقَيْل، عن ابن شِهاب، قال:كان ابن عباس يحدث، فذكر نحوه.

وقال ابن أبي حاتم أيضًا:حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبو زُرْعَة وهب الله بن راشد، حدثنا عُقَيْل بن خالد، أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس؛ أن عيسى ابن مريم قالوا له:ادع الله أن ينـزل علينا مائدة من السماء، قال:فنـزلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أحوات، وسبعة أرغفة، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن قَزْعَة الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن خِلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « نـزلت المائدة من السماء، عليها خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير »

وكذا رواه ابن جرير، عن الحسن بن قَزْعَة ثم رواه ابن جرير، عن ابن بشار، عن ابن أبي عَدِيّ، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار، قال:نـزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة، فأمروا ألا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا. قال:فخان القوم وخَبئوا وادخروا، فمسخهم الله قردة وخنازير.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن سِمَاك بن حرب، عن رجل من بني عجل، قال:صليت إلى جنب عمار بن ياسر، فلما فرغ قال:هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال:قلت:لا قال:إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد، قال:فقيل لهم:فإنها مقيمة لكم ما لم تَخْبَؤوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإني معذبكم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، قال:فما مضى يومهم حتى خبَّؤوا ورفعوا وخانوا، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم - معشر العرب- كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم، ونهاكم أن تكتنـزوا الذهب والفضة. وأيم الله، لا يذهب الليل والنهار حتى تكنـزوهما ويعذبكم الله عذابًا أليمًا.

وقال:حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثني حجاج، عن أبي مَعْشَر، عن إسحاق بن عبد الله، أن المائدة نـزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال:فسرق بعضهم منها وقال: « لعلها لا تنـزل غدًا » . فرفعت.

وقال العَوْفِي، عن ابن عباس:نـزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نـزلوا إذا شاؤوا. وقال خَصِيف، عن عكرمة ومِقْسَم، عن ابن عباس:كانت المائدة سمكة وأرغفة. وقال مجاهد:هو طعام كان ينـزل عليهم حيث نـزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي:نـزلت المائدة خبزًا وسمكًا. وقال عطية العَوْفِي:المائدة سمك فيه طَعْمُ كل شيء.

وقال وَهْب بن مُنَبِّه:أنـزلها من السماء على بني إسرائيل، فكان ينـزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى، فكان يَقْعُدُ عليها أربعة آلاف، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك لمثلهم. فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل.

وقال وهب بن مُنَبِّه:نـزل عليهم قرصة من شعير وأحوات، وحشا الله بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.

وقال الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير:أنـزل عليها كل شيء إلا اللحم.

وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن زاذان ومَيْسَرَة، وجرير، عن عطاء، عن ميسرة قال:كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم.

وعن عكرمة:كان خبز المائدة من الأرز. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم:أخبرنا جعفر بن علي فيما كتب إليّ، حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْس، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مِرْدَاس العبدري - مولى بني عبد الدار- عن إبراهيم بن عمر، عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان النَّهْدِي، عن سلمان الخير؛ أنه قال:لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة، كره ذلك جدا وقال:اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء، فإنها إن نـزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية، فابتلوا بها حتى كان بَوَارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها، فلذلك قالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا الآية.

فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها، قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود، وجبة من شعر، وعباءة من شعر، ثم توضأ واغتسل، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعًا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله فقال: ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنـزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) فأنـزل الله عليهم سُفْرَة حمراء بين غمامتين:غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا للشروط التي اتخذها الله عليهم - فيها:أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نـزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين - وهو يدعو الله من مكانه ويقول:اللهم اجعلها رحمة،إلهي لا تجعلها عذابًا، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شَكَّارين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنـزلتها غضبًا وجزاء، إلهي اجعلها سلامة وعافية، ولا تجعلها فتنة ومثلة.

فما زال يدعو حتى استقرت السُّفْرة بين يدي عيسى، والحواريين وأصحابه حوله، يَجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخَرَّ عيسى والحواريون لله سجدًا شكرًا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا أورثهم كمدًا وغمًا، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى. والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليها منديل مغطى. قال عيسى:من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة، وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاء عند ربه؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر باسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا. فقال الحواريون:يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك، وأحقنا بالكشف عنها. فقام عيسى، عليه السلام، واستأنف وضوءًا جديدًا، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا. ثم انصرف فجلس إلى السفرة وتناول المنديل، وقال: « باسم الله خير الرازقين » ، وكشف عن السفرة، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الآخر ثمرات، وعلى الآخر خمس رمانات.

فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى:يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال:أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نـزول هذه الآية‍‍‍‍‍‍! فقال شمعون:وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصِّدِّيقة. فقال عيسى، عليه السلام:ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة، فقال له:كن. فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يُمدكم منه ويَزدكم، فإنه بديع قادر شاكر.

فقالوا:يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن تُرينا آية في هذه الآية. فقال عيسى:سبحان الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى، عليه السلام، على السمكة، فقال:يا سمكة، عودي بإذن الله حية كما كنت. فأحياها الله بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية، تَلَمَّظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلما رأى عيسى ذلك منهم قال:ما لكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة، عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.

فقالوا لعيسى:كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها، ثم نحن بعد فقال عيسى:معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها، خافوا أن يكون نـزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى، وقال:كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنـزلها لكم، فيكون مَهْنَؤُها لكم، وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله، واختموه بحمد الله، ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنـزلت من السماء، لم ينتقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، وبرئ كل زَمِنٍ أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صِحَاحًا حتى خرجوا من الدنيا.

وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة، سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات، قال:فكانت المائدة إذا نـزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا:الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضًا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب، تنـزل يومًا ولا تنـزل يومًا. فلبثوا في ذلك أربعين يومًا، تنـزل عليهم غِبًّا عند ارتفاع الضُحَى فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم. بإذن الله إلى جو السماء، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.

قال:فأوحى الله إلى نبيه عيسى، عليه السلام، أن اجعل رزقي المائدة لليتامى والفقراء والزَّمنَى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس، وغَمطُوا ذلك، حتى شَكُّوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين حتى قالوا لعيسى:أخبرنا عن المائدة، ونـزولها من السماء أحق، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير؟ فقال عيسى، عليه السلام:هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنـزلها عليكم رحمة ورزقًا، وأراكم فيها الآيات والعبَر كذَّبْتم بها، وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.

وأوحى الله إلى عيسى:إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نـزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين. قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.

هذا أثر غريب جدًا. قَطَّعَه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نـزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم: ( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنـزلُهَا عَلَيْكُمْ ) الآية.

وقد قال قائلون:إنها لم تنـزل. فروى لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد في قوله: ( أَنـزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ) قال:هو مثل ضُرب، ولم ينـزل شيء.

رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. ثم قال ابن جرير:حدثني الحارث، حدثنا القاسم - هو ابن سلام- حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد قال:مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنـزل عليهم.

وقال أيضًا:حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن؛ أنه قال في المائدة:لم تنـزل.

وحدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:كان الحسن يقول:لما قيل لهم: ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) قالوا:لا حاجة لنا فيها، فلم تنـزل.

وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نـزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم. ولكن الذي عليه الجمهور أنها نـزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، قال:لأنه تعالى أخبر بنـزولها بقوله تعالى: ( إِنِّي مُنـزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال:ووعد الله ووعيده حق وصدق.

وهذا القول هو - والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة. ويقال إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود، عليهما السلام، فالله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهَيْل، عن عمران بن الحكم، عن ابن عباس قال:قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم:ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك قال: « وتفعلون؟ » قالوا:نعم. قال:فدعا، فأتاه جبريل فقال:إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك:إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال: « بل باب التوبة والرحمة » .

ثم رواه أحمد، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من حديث سفيان الثوري، به.

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 116 ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 117 ) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 )

هذا أيضًا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ

وقال السُّدِّي:هذا الخطاب والجواب في الدنيا.

قال ابن جرير:هذا هو الصواب، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا. واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين:

أحدهما:أن الكلام لفظ المضي.

والثاني:قوله: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ) و ( إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ )

وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي، ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ) الآية:التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات.

والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم:أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله، مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة، قال:سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يُدْعَى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه، فيقِر بها، فيقولُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ الآية [ المائدة:110 ] ثم يقول: ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون:نعم، هو أمرنا بذلك، قال:فيطول شعر عيسى، عليه السلام، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده. فيجاثيهم بين يدي الله، عز وجل، مقدار ألف عام، حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار » ، وهذا حديث غريب عزيز.

وقوله: ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل، كما قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس، عن أبي هريرة قال:يلقى عيسى حجته، ولقَّاه الله في قوله: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ؟ قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله: ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) أي آخر الآية.

وقد رواه الثوري، عن مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن طاوس، بنحوه.

وقوله: ( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) أي:إن كان صَدَرَ مني هذا فقد علمته يا رب، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته؛ ولهذا قال: ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) بإبلاغه ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) أي:ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه: ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ) أي:هذا هو الذي قلت لهم، ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) أي:كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم، ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )

قال أبو داود الطيالسي:حدثنا شُعْبَة قال:انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان فأملاه علي سفيان وأنا معه، فلما قام انتسخت من سفيان، فحدثنا قال:سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال:قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال: « يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله، عز وجل، حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده، وإن أول الخلائق يُكْسى إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول:أصحابي. فيقال:إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فيقال:إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم » .

ورواه البخاري عند هذه الآية عن الوليد، عن أبي شعبة - وعن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، به.

وقوله: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن فُضَيْل، حدثني فُليَت العامري، عن جَسْرة العامرية، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فلما أصبح قلت:يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال: « إني سألت ربي، عز وجل، الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا » .

طريق أخرى وسياق آخر:قال أحمد:حدثنا يحيى، حدثنا قُدَامة بن عبد الله، حدثتني جَسْرة بنت دجاجة:أنها انطلقت معتمرة، فانتهت إلى الربذة، فسمعت أبا ذر يقول:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلي، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إليَّ بيمينه، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو. وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة. فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود:أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود بيده:لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت:بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: « دعوت لأمتي » . قلت:فماذا أَجِبْتَ؟ - أو ماذا رُدَّ عليك؟ - قال: « أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلْعة تركوا الصلاة » . قلت:أفلا أبشر الناس؟ قال: « بلى » . فانطلقتُ مُعْنقًا قريبًا من قَذْفة بحجر. فقال عمر:يا رسول الله، إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نَكَلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع فرجع، وتلك الآية: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى: ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فرفع يديه فقال: « اللهم أمتي » . وبكى، فقال الله:يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم- فاسأله:ما يبكيه؟ فأتاه جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله:يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا ابن هُبَيْرة أنه سمع أبا تميم الجَيْشاني يقول:حدثني سعيد بن المسيب، سمعت حذيفة بن اليمان يقول:غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نَفْسه قد قبضت فيها، فلما رفع رأسه قال: « إن ربي، عز وجل، استشارني في أمتي:ماذا أفعل بهم؟ فقلت:ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك. فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال:لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفًا، مع كل ألف سبعون ألفا، ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليّ فقال:ادع تُجب، وسل تُعْطَ » . فقلت لرسوله:أومعطي ربي سؤلي؟ قال:ما أرسلني إليك إلا ليعطيك، ولقد أعطاني ربي ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمشي حيًا صحيحًا، وأعطاني ألا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيّب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيرًا مما شُدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج « . »

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 119 ) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 120 )

يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين، الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه، عز وجل، فعند ذلك يقول تعالى: ( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )

قال الضحاك، عن ابن عباس يقول:يوم ينفع الموحدين توحيدهم.

( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) أي:ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون، رضي الله عنهم ورضوا عنه، كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [ التوبة:72 ] .

وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث.

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا فقال:حدثنا أبو سعيد الأشَجُّ، حدثنا المحاربي، عن لَيْث، عن عثمان - يعني ابن عُمَيْر أبو اليقظان - عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثم يتجلى لهم الرب تعالى فيقول:سلوني سلوني أعطكم » . قال: « فيسألونه الرضا، فيقول:رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني أعطكم. فيسألونه الرضا » ، قال: « فيشهدهم أنه قد رضي عنهم » .

وقوله: ( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) أي:هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [ الصافات:61 ] ، وكما قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [ المطففين:26 ] .

وقوله: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرف فيها القادر عليها، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير له ولا وزير، ولا عديل، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، فلا إله غيره ولا رب سواه.

قال ابن وَهْب:سمعت حُيَيّ بن عبد الله يحدث، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عَمْرو قال:آخر سورة أنـزلت سورة المائدة.

 

أعلى