فهرس تفسير بن كثير للسور

36 - تفسير بن كثير سورة يس

التالي السابق

 

تفسير سورة يس

 

[ وهي ] مكية.

قال أبو عيسى الترمذي:حدثنا قتيبة وسفيان بن وَكِيع، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن هارون أبي محمد، عن مقاتل بن حيان، عن قتادة ، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس. ومَنْ قرأ يس كَتَبَ الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات » .

ثم قال:هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حُميد بن عبد الرحمن. وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ولا يصح لضعف إسناده، وعن أبي هريرة منظور فيه .

أما حديث الصديق فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول. وأما حديث أبي هريرة فقال أبو بكر البزار:حدثنا عبد الرحمن بن الفضل، حدثنا زيد - هو ابن الحباب- حدثنا حُميد - هو المكي، مولى آل علقمة- عن عطاء - هو ابن أبي رباح- عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس » .

ثم قال:لا نعلم رواه إلا زيد، عن حميد .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا حجاج بن محمد، عن هشام بن زياد، عن الحسن قال:سمعت أبا هريرة يقول :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورًا له. ومن قرأ: » حم « التي فيها الدخان أصبح مغفورًا له » . إسناد جيد .

وقال ابن حبان في صحيحه:حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم - مولى ثقيف- حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني، حدثنا أبي، حدثنا زياد بن خَيْثَمة، حدثنا محمد بن جُحَادة، عن الحسن، عن جُنْدَب بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله، غفر له » .

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يَسَار، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « البقرة سِنام القرآن وذِرْوَته، نـزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ البقرة:255 ] من تحت العرش فوصلت بها - أو:فوصلت بسورة البقرة- ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة، إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم » .

وكذا رواه النسائي في « اليوم والليلة » عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر بن سليمان، به .

ثم قال الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا ابن المبارك، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي- عن أبيه، عن مَعْقِل بن يَسَار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقرؤوها على موتاكم » - يعني:يس.

ورواه أبو داود، والنسائي في « اليوم والليلة » وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك، به إلا أن في رواية النسائي:عن أبي عثمان، عن معقل بن يسار.

ولهذا قال بعض العلماء:من خصائص هذه السورة:أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله. وكأن قراءتها عند الميت لتنـزل الرحمة والبركة، وليسهل عليه خروج الروح، والله أعلم.

قال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان قال:كان المشيخة يقولون:إذا قرئت - يعني يس- عند الميت خُفِّف عنه بها .

وقال البزار:حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي » - يعني:يس .

بسم الله الرحمن الرحيم

يس ( 1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ( 2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 3 ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 4 ) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( 5 ) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( 6 ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 7 ) .

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول « سورة البقرة » ، ورُوي عن ابن عباس وعِكْرِمَة، والضحاك، والحسن وسفيان بن عُيَيْنَة أن « يس » بمعنى:يا إنسان.

وقال سعيد بن جبير:هو كذلك في لغة الحبشة.

وقال مالك، عن زيد بن أسلم:هو اسم من أسماء الله تعالى.

( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) أي:المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

( إِنَّكَ ) يا محمد ( لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم.

( تَنـزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) أي:هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به مُنـزل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [ الشورى:52 ، 53 ] .

وقوله تعالى: ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) يعني بهم:العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي مَنْ عداهم [ كما زعمه بعض النصارى ] ، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، عند قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] .

قوله: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ) :قال ابن جرير:لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن [ الله قد ] حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، ( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) بالله، ولا يصدقون رسله.

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( 8 ) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 9 ) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 10 ) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( 11 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ( 12 )

يقول تعالى:إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غل، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسُه، فصار مقمَحا؛ ولهذا قال: ( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) والمقمح:هو الرافع رأسه، كما قالت أم زَرْع في كلامها: « وأشرب فأتقمَّح » أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّيا. واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، كما قال الشاعر :

فَمَـــا أدْري إذَا يَمَّمْــتُ أرْضًــا أريـــد الخَــيْرَ أيّهمــا يَلينــي

أالْخَــيْرُ الـــذي أنَـــا أبْتَغيـه أم الشَّـــرّ الـــذي لا يَــأتَليني

فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لَمّا دل السياق والكلام عليه، وكذا هذا، لما كان الغُلّ إنما يعرف فيما جَمَع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.

قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال:هو كقول الله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [ الإسراء:29 ] يعني بذلك:أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير.

وقال مجاهد: ( فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) قال:رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) :قال مجاهد:عن الحق، ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) قال مجاهد:عن الحق، فهم يترددون. وقال قتادة:في الضلالات.

وقوله: ( فَأَغْشَيْنَاهُمْ ) أي:أغشينا أبصارهم عن الحق، ( فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) أي:لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه.

قال ابن جرير:وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: « فأعشيناهم » بالعين المهملة، من العشا وهو داء في العين.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] ثم قال:من منعه الله لا يستطيع.

وقال عكرمة:قال أبو جهل:لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنـزلت: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا ) إلى قوله: ( [ فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ ) ، قال:وكانوا يقولون:هذا محمد. فيقول:أين هو أين هو؟ لا يبصره. رواه ابن جرير.

وقال محمد بن إسحاق:حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب قال:قال أبو جهل وهم جلوس:إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها. وخرج [ عليهم ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ الله على أعينهم دونه، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم، ويقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حتى انتهى إلى قوله: ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وباتوا رُصَدَاء على بابه، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال:ما لكم؟ قالوا:ننتظر محمدًا. قال قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا [ قد ] وضع على رأسه ترابا، ثم ذهب لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال:وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: « وأنا أقول ذلك:إن لهم مني لذبحا، وإنه أحدهم » .

وقوله: ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) أي:قد ختم الله عليهم بالضلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به.

وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة، وكما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] .

( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ) أي:إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر، وهو القرآن العظيم، ( وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ ) أي:حيث لا يراه أحد إلا الله، يعلم أن الله مطلع عليه، وعالم بما يفعله، ( فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ) أي:لذنوبه، ( وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) أي:كبير واسع حسن جميل، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ الملك:12 ] .

ثم قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى ) أي:يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب مَنْ يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [ الحديد:17 ] .

وقوله: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ) أي:من الأعمال.

وفي قوله: ( وَآثَارَهُمْ ) قولان:

أحدهما:نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كقوله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَنْ سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزرُ مَنْ عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا » .

رواه مسلم، من رواية شعبة، عن عون بن أبي جُحَيْفة، عن المنذر بن جرير، عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، وفيه قصة مُجْتَابِي النَّمَّار المُضريَّين . ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه، عن يحيى بن سليمان الجعفي، عن أبي المحياة يحيى بن يَعْلَى، عن عبد الملك بن عمير، عن جرير بن عبد الله، فذكر الحديث بطوله، ثم تلا هذه الآية: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) .

وقد رواه مسلم من رواية أبي عَوَانة، عن عبد الملك بن عمير، عن المنذر بن جرير، عن أبيه، فذكره .

وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث:من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده » .

وقال سفيان الثوري، عن أبي سعيد قال:سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) قال:ما أورثوا من الضلالة.

وقال ابن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يعني:ما أثروا. يقول:ما سنوا من سنة، فعمل بها قوم من بعد موتهم، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم، لا ينقص من أجر مَنْ عمله شيئا، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا. ذكرهما ابن أبي حاتم.

وهذا القول هو اختيار البَغَوِيّ .

والقول الثاني:أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية.

قال ابن أبي نَجِيح وغيره، عن مجاهد: ( مَا قَدَّمُوا ) :أعمالهم. ( وَآثَارَهُمْ ) قال:خطاهم بأرجلهم. وكذا قال الحسن وقتادة: ( وَآثَارَهُمْ ) يعني:خطاهم. قال قتادة:لو كان الله تعالى مُغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.

وقد وَرَدَت في هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيْري، عن أبي نَضْرَة، عن جابر بن عبد الله قال:خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: « إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد » . قالوا:نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: « يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم » .

وهكذا رواه مسلم، من حديث سعيد الجريري وكَهْمس بن الحسن، كلاهما عن أبي نضرة - واسمه:المنذر بن مالك بن قطْعَة العَبْدِي- عن جابر.

الحديث الثاني:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن الوزير الواسطي، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان الثوري، عن أبي سفيان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:كانت بنو سلَمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد، فنـزلت: ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « إن آثاركم تُكْتبُ » . فلم ينتقلوا.

انفرد بإخراجه الترمذي عند تفسير هذه الآية الكريمة، عن محمد بن الوزير، به . ثم قال: « حسن غريب من حديث الثوري » .

ورواه ابن جرير، عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي، عن ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن طريف - وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي- عن أبي نضرة، به .

وقد رُوِيَ من غير طريق الثوري، فقال الحافظ أبو بكر البزار:

حدثنا عباد بن زياد الساجي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن سعيد الجُرَيري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال:إن بني سَلَمة شَكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فنـزلت: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) ، فأقاموا في مكانهم.

وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

وفيه غرابة من حيث ذكْرُ نـزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية، فالله أعلم.

الحديث الثالث:قال ابن جرير:

حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنـزلت: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فقالوا:نثبت مكاننا. هكذا رواه وليس فيه شيء مرفوع .

ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد، فنـزلت: ( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) فثبتوا في منازلهم .

الحديث الرابع:قال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثني حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال:توفي رجل بالمدينة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: « يا ليته مات في غير مولده » . فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل إذا توفي في غير مولده، قِيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة » .

ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى، وابن ماجه عن حرملة، كلاهما عن ابن وهب، عن حيي بن عبد الله، به .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا أبو تُمَيْلَةَ، حدثنا الحسين، عن ثابت قال:مشيت مع أنس فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا، فلما قضينا الصلاة قال أنس:مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال:يا أنس، أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب؟ أما شَعَرْتَ أن الآثار تكتب؟ .

وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتَب، فلأن تُكْتَبَ تلك التي فيها قُدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم.

وقوله: ( وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) أي:جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب. قاله مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكذا في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [ الإسراء:71 ] أي:بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ الزمر:69 ] ، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] .

 

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( 13 ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( 14 ) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ( 15 ) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( 16 ) وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 17 ) .

يقول تعالى:واضرب - يا محمد- لقومك الذين كذبوك ( مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ) .

قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه- :إنها مدينة أنطاكية، وكان بها ملك يقال له:أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس، وكان يعبد الأصنام، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل، وهم:صادق وصدوق وشلوم، فكذبهم.

وهكذا رُوي عن بُرَيدة بن الحُصَيب، وعِكْرِمَة، وقتادة، والزهري:أنها أنطاكية.

وقد استشكل بعض الأئمة كونَها أنطاكية، بما سنذكره بعد تمام القصة، إن شاء الله تعالى.

وقوله: ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا ) أي:بادروهما بالتكذيب، ( فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ) أي:قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث.

قال ابن جُرَيْج، عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي قال:كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا، واسم الثالث بولص، والقرية أنطاكية.

( فَقَالُوا ) أي:لأهل تلك القرية: ( إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ) أي:من ربكم الذي خلقكم، نأمركم بعبادته وحده لا شريك له. قاله أبو العالية.

وزعم قتادة بن دعامة:أنهم كانوا رسل المسيح، عليه السلام، إلى أهل أنطاكية. ( قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) أي:فكيف أوحيَ إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لا أوحيَ إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة. وهذه شبه كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [ التغابن:6 ] ، فاستعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [ إبراهيم:10 ] . وقوله حكاية عنهم في قوله: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [ المؤمنون:34 ] ، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا ؟ [ الإسراء:94 ] . ولهذا قال هؤلاء: ( مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنـزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ) أي:أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين:الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كَذَبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار، كقوله تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ العنكبوت:52 ] .

( وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تجيبوا فستعلمون غِبَّ ذلك ،والله أعلم.

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 18 ) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 19 )

فعند ذلك قال لهم أهل القرية: ( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) أي:لم نرَ على وجوهكم خيرًا في عيشنا.

وقال قتادة:يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم.

وقال مجاهد:يقولون:لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها.

( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) :قال قتادة:بالحجارة. وقال مجاهد:بالشتم.

( وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:عقوبة شديدة. فقالت لهم رسلهم: ( طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي:مردود عليكم، كقوله تعالى في قوم فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ الأعراف:131 ] ، وقال قوم صالح: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ النمل:47 ] . وقال قتادة، ووهب بن منبه:أي أعمالكم معكم. وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [ النساء:78 ] .

وقوله: ( أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) أي:من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا وتهددتمونا؟ بل أنتم قوم مسرفون.

وقال قتادة:أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا، بل أنتم قوم مسرفون.

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( 20 ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 21 ) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 22 ) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( 23 ) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 24 ) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ( 25 ) .

قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه- :إن أهل القرية هَمّوا بقتل رسلهم فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى، أي:لينصرهم من قومه - قالوا:وهو حبيب، وكان يعمل الجرير - وهو الحبال- وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم النظرة .

وقال ابن إسحاق عن رجل سماه، عن الحكم، عن مِقْسَم - أو:عن مجاهد- عن ابن عباس قال: [ كان ] اسم صاحب يس حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه.

وقال الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مجْلَز:كان اسمه حبيب بن مري.

وقال شبيب بن بشر، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس [ أيضا ] قال:اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه.

وقال السدي:كان قَصَّارا. وقال عمر بن الحكم:كان إسكافا. وقال قتادة:كان يتعبد في غار هناك.

( قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) :يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم، ( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا ) أي:على إبلاغ الرسالة، ( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) فيما يدعونكم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له.

( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) أي:وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، ( إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ) أي:هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئا. فإن الله لو أرادني بسوء، فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ [ يونس:107 ] وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذونني مما أنا فيه، ( إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:إن اتخذتها آلهة من دون الله.

وقوله: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) :قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب- يقول لقومه: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) الذي كفرتم به، ( فَاسْمَعُونِ ) أي:فاسمعوا قولي.

ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ ) أي:الذي أرسلكم، ( فَاسْمَعُونِ ) أي:فاشهدوا لي بذلك عنده. وقد حكاه ابن جرير فقال:وقال آخرون:بل خاطب بذلك الرسل، وقال لهم:اسمعوا قولي، لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي، إني [ قد ] آمنت بربكم واتبعتكم .

وهذا [ القول ] الذي حكاه هؤلاء أظهر في المعنى، والله أعلم.

قال ابن إسحاق - فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب- :فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه.

وقال قتادة:جعلوا يرجمونه بالحجارة، وهو يقول: « اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون » . فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول كذلك، فقتلوه، رحمه الله.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( 26 ) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( 27 )

قال محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود:إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره وقال الله له: ( ادْخُلِ الْجَنَّةَ ) ، فدخلها فهو يرزق منها، قد أذهب الله عنه سُقْم الدنيا وحزنها ونَصَبها.

وقال مجاهد:قيل لحبيب النجار:ادخل الجنة. وذلك أنه قُتل فوجبت له ، فلما رأى الثواب ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

قال قتادة:لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا؛ لَمَّا عاين [ ما عاين ] من كرامة الله ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) . تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله [ له ] ، وما هجم عليه.

وقال ابن عباس:نصح قومه في حياته بقوله: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [ يس:20 ] ، وبعد مماته في قوله: ( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مِجْلَز: ( بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) بإيماني بربي وتصديقي المرسلين.

ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا ابن جابر - وهو محمد- عن عبد الملك - يعني:ابن عمير- قال:قال عروة بن مسعود الثقفي للنبي صلى الله عليه وسلم:ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أخاف أن يقتلوك » . فقال:لو وجدوني نائما ما أيقظوني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انطلق » . فانطلق فمر على اللات والعزى، فقال:لأصبحَنَّك غدًا بما يسوءك. فغضبت ثقيف، فقال:يا معشر ثقيف، إن اللات لا لات، وإن العُزى لا عُزى، أسلموا تسلموا. يا معشر الأحلاف، إن العزى لا عزى، وإن اللات لا لات، أسلموا تسلموا. قال ذلك ثلاث مرات، فرماه رجل فأصاب أكْحَله فقتله، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: « هذا مثله كمثل صاحب يس، ( قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) »

وقال محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم:أنه حدث عن كعب الأحبار:أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم - أخو بني مازن بن النجار- الذي كان مسيلمة الكذاب قَطَّعه باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول:أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول:نعم. ثم يقول:أتشهد أني رسول الله؟ فيقول:لا أسمع. فيقول له مسيلمة:أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول:نعم. فجعل يُقَطِّعه عضوا عضوا، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه. فقال كعب حين قيل له:اسمه حبيب، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب .

 

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ( 28 ) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( 29 ) .

وقوله: ( وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزلِينَ ) :يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه، غضبًا منه تعالى عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه. ويذكر تعالى:أنه ما أنـزل عليهم، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنـزال جند من الملائكة عليهم، بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود، فيما رواه ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، عنه أنه قال في قوله: ( وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنـزلِينَ ) أي:ما كاثرناهم بالجموع الأمر كان أيسر علينا من ذلك، ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) قال:فأهلك الله ذلك الملك، وأهلك أهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية.

وقيل: ( وَمَا كُنَّا مُنـزلِينَ ) أي:وما كنا ننـزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم، بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم.

وقيل:المعنى في قوله: ( وَمَا أَنـزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ) أي:من رسالة أخرى إليهم. قاله مجاهد وقتادة. قال قتادة:فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله، ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ) .

قال ابن جرير:والأول أصح؛ لأن الرسالة لا تسمى جندًا.

قال المفسرون:بعث الله إليهم جبريل، عليه السلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم، لم يبق فيهم روح تتردد في جسد.

وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح، عليه السلام، كما نص عليه قتادة وغيره، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره، وفي ذلك نظر من وجوه:

أحدها:أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله، عز وجل، لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ إلى أن قالوا: رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [ يس:14- 17 ] . ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح، عليه السلام، والله أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم: مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا [ يس:15 ] .

الثاني:أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح؛ ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتَاركة، وهن القدس لأنها بلد المسيح، وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين. ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطَّدَه. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية قد ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم ، فالله أعلم.

الثالث:أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نـزول التوراة، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف:أن الله تعالى بعد إنـزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [ القصص:43 ] . فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن [ العظيم ] قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله، سبحانه وتعالى، أعلم.

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتري، حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني، حدثنا حُسَين الأشقر، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « السُّبَّق ثلاثة:فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب يس، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب » , فإنه حديث منكر، لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر، وهو شيعي متروك، [ والله أعلم ] .

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 30 ) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ( 31 ) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 32 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) أي:يا ويل العباد.

وقال قتادة: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ) :أي يا حسرة العباد على أنفسها، على ما ضيعت من أمر الله، فرطت في جنب الله. قال:وفي بعض القراءة: « يا حسرة العباد على أنفسها » .

ومعنى هذا:يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل الله، وخالفوا أمر الله، فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم.

( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) أي:يكذبونه ويستهزئون به، ويجحدون ما أرسل به من الحق.

ثم قال تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) أي:ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفَجَرتهم من قولهم: إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [ المؤمنون:37 ] ، وهم القائلون بالدور من الدهرية، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، فرد الله تعالى عليهم باطلهم، فقال: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) .

وقوله: ( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) أي:وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيام بين يدي الله، عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعنى هذه كقوله تعالى: وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ [ هود:111 ] .

وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف؛ فمنهم مَنْ قرأ: « وَإن كل لَمَا » بالتخفيف، فعنده أن « إن » للإثبات، ومنهم مَنْ شدد « لَمَّا » ، وجعل « إن » نافية، و « لمَّا » بمعنى « إلا » تقديره:وما كل إلا جميع لدينا محضرون، ومعنى القراءتين واحد، والله أعلم.

وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( 33 ) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( 34 ) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 35 ) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ( 36 ) .

يقول تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ ) أي:دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى ( الأرْضُ الْمَيْتَةُ ) أي:إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات، فإذا أنـزل الله عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: ( أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) أي:جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم، ( وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ) أي:جعلنا فيها أنهارًا سارحة في أمكنة، يحتاجون إليها ليأكلوا من ثمره. لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم عَطَف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها.

وقوله: ( وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) أي:وما ذاك كله إلا من رحمة الله بهم، لا بسعيهم ولا كدهم، ولا بحولهم وقوتهم. قاله ابن عباس وقتادة؛ ولهذا قال: ( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) ؟ أي:فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟ واختار ابن جرير - بل جزم به، ولم يحك غيره إلا احتمالا- أن « ما » في قوله: ( وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) بمعنى: « الذي » ، تقديره:ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم، أي:غرسوه ونصبوه، قال:وهي كذلك في قراءة ابن مسعود ( لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ) .

ثم قال: ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ ) أي:من زروع وثمار ونبات. ( وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فجعلهم ذكرًا وأنثى، ( وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) أي:من مخلوقات شتى لا يعرفونها، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ الذاريات:49 ] .

وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ( 37 ) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 38 ) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( 39 ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 40 )

يقول تعالى:ومن الدلالة لهم على قدرته تعالى العظيمة خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [ الأعراف:54 ] ؛ ولهذا قال عز وجل هاهنا: ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ) أي:نصرمه منه فيذهب، فيقبل الليل؛ ولهذا قال: ( فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ) كما جاء في الحديث: « إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم » .

هذا هو الظاهر من الآية، وزعم قتادة أنها كقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [ الحج:61 ] وقد ضعف ابن جرير قولَ قتادة هاهنا، وقال:إنما معنى الإيلاج:الأخذ من هذا في هذا، وليس هذا مرادًا في هذه الآية. وهذا الذي قاله ابن جرير حق.

وقوله: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ، في معنى قوله: ( لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) قولان:

أحدهما:أن المراد:مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة، وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون من العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام، وهو وقت نصف الليل، صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع، كما جاءت بذلك الأحاديث.

قال البخاري:حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم [ التيمي ] ، عن أبيه، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس، فقال: « يا أبا ذر، أتدري أين تغربُ الشمس؟ » قلت:الله ورسوله أعلم. قال: « فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) » .

حدثنا عبد الله بن الزبير الحُميديّ، حدثنا وَكِيع عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) ، قال: « مستقرها تحت العرش » .

كذا أورده هاهنا. وقد أخرجه في أماكن متعددة ، ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من طرق، عن الأعمش، به.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال:كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين وجبت الشمس، فقال: « يا أبا ذر، أتدري أين تذهب الشمس؟ » قلت:الله ورسوله أعلم. قال: « فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها:ارجعي من حيث جئت. فترجع إلى مطلعها، وذلك مستقرها، ثم قرأ: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) »

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: « أتدري أين هذا؟ » قلت:الله ورسوله أعلم. قال: « فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها:ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها، فذلك قوله: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) » .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو قال في قوله: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) ، قال:إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم، حتى إذا غربت سلَّمت وسجدت واستأذنت فيؤذن لها، حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت، واستأذنت فلا يؤذن لها، فتقول:إن المسير بعيد وإني إلا يؤذن لي لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله أن تحبس، ثم يقال لها: « اطلعي من حيث غربت » . قال: « فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

وقيل:المراد بقوله: ( لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) هو انتهاء سيرها وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها، ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض.

والقول الثاني:أن المراد بمستقرها هو:منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني.

قال قتادة: ( لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) أي:لوقتها ولأجل لا تعدوه.

وقيل:المراد:أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، يروى هذا عن عبد الله بن عمرو.

وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: « وَالشَّمْسُ تَجْرِي لا مُسْتَقَرَّ لَهَا » أي:لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلا ونهارًا، لا تفتر ولا تقف. كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ [ إبراهيم:33 ] أي:لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة.

( ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ ) أي:الذي لا يخالَف ولا يُمانَع، ( الْعَلِيم ) بجميع الحركات والسكنات، وقد قدر ذلك وقَنَّنَه على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس، كما قال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الأنعام:96 ] . وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فصلت:12 ] . ثم قال: ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) أي:جعلناه يسير سيرًا آخر يستدل به على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ البقرة:189 ] ، وقال هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ الآية [ يونس:5 ] ، وقال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا [ الإسراء:12 ] ، فجعل الشمس لها ضوء يخصها، والقمر له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفًا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانها بالنهار، فهي كوكب نهاري. وأما القمر، فقدره منازل، يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية، ويرتفع منـزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبسًا من الشمس، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم.

قال ابن عباس:وهو أصل العِذْق.

وقال مجاهد:العرجون القديم:أي العذق اليابس.

يعني ابن عباس:أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، وكذا قال غيرهما. ثم بعد هذا يبديه الله جديدًا في أول الشهر الآخر، والعرب تسمي كل ثلاث ليال من الشهر باسم باعتبار القمر، فيسمون الثلاث الأول « غُرَر » واللواتي بعدها « نفل » ، واللواتي بعدها « تُسع » ؛ لأن أخراهن التاسعة، واللواتي بعدها « عُشَر » ؛ لأن أولاهن العاشرة، واللواتي بعدها « البيض » ؛ لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن، واللواتي بعدهن « دُرَع » جمع دَرْعاء؛ لأن أولهن سُود ؛ لتأخر القمر في أولهن، ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود. وبعدهن ثلاث « ظُلم » ثم ثلاث « حَنَادس » ، وثلاث « دآدئ » وثلاث « مَحاق » ؛ لانمحاق القمر أواخر الشهر فيهن. وكان أبو عُبيد ينكر التُّسع والعشَر. كذا قال في كتاب « غريب المصنف » .

وقوله: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) :قال مجاهد:لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الحسن في قوله: ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) قال:ذلك ليلة الهلال.

وروى ابن أبي حاتم هاهنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال:إن للريح جناحًا، وإن القمر يأوي إلى غلاف من الماء.

وقال الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح:لا يدرك هذا ضوء هذا، ولا هذا ضوء هذا .

وقال عكرمة في قوله ( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) :يعني:أن لكل منهما سلطانا، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.

وقوله: ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) :يقول:لا ينبغي إذا كان الليلُ أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل.

وقال الضحاك:لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجيء النهار من هاهنا. وأومأ بيده إلى المشرق.

وقال مجاهد: ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ) يطلبان حثيثين، ينسلخ أحدهما من الآخر.

والمعنى في هذا:أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ؛ لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثِيثًا.

وقوله: ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) يعني:الليل والنهار، والشمس والقمر، كلهم يسبحون، أي:يدورون في فلك السماء. قاله ابن عباس، وعِكْرِمة، والضحاك، والحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:في فلك بين السماء والأرض. رواه ابن أبي حاتم، وهو غريب جدًّا، بل منكر.

قال ابن عباس وغير واحد من السلف:في فَلْكَةٍ كفَلْكَة المغْزَل.

وقال مجاهد:الفَلَك كحديد الرَّحَى، أو كفلكة المغزل، لا يدور المغزل إلا بها، ولا تدور إلا به.

 

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( 41 ) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( 42 ) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ( 43 ) إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( 44 )

يقول تعالى:ودلالة لهم أيضًا على قدرته تعالى:تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن ذلك - بل أوله- سفينة نوح، عليه السلام، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم؛ ولهذا قال: ( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ) أي:آباءهم، ( فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) أي:في السفينة [ الموقرة ] المملوءة من الأمتعة والحيوانات، التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.

قال ابن عباس:المشحون:المُوقَر. وكذا قال سعيد بن جبير، والشعبي، وقتادة، [ والضحاك ] والسدي.

وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد:وهي سفينة نوح، عليه السلام.

وقوله: ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) :قال العَوْفي، عن ابن عباس:يعني بذلك:الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة - في رواية- عبد الله بن شَداد، وغيرهم .

وقال السدي - في رواية- :هي الأنعام.

وقال ابن جرير:حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال:تدرون ما ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) ؟ قلنا:لا. قال:هي السفن، جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها.

وكذا قال [ غير واحد و ] أبو مالك، والضحاك، وقتادة، وأبو صالح، والسدي أيضًا:المراد بقوله: ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) :أي السفن.

ويُقَوِّي هذا المذهب في المعنى قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [ الحاقة:11 ، 12 ] .

وقوله: ( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ) يعني:الذين في السفن، ( فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ) أي:فلا مغيث لهم مما هم فيه، ( وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ) أي:مما أصابهم. ( إِلا رَحْمَةً مِنَّا ) وهذا استثناء منقطع، تقديره:ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونُسَلِّمكم إلى أجل مسمى؛ ولهذا قال: ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) أي:إلى وقت معلوم عند الله.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 45 ) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 46 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 47 )

يقول تعالى مخبرًا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها، وما هم يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ) قال مجاهد:من الذنوب. وقال غيره بالعكس، ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) أي:لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه. وتقدير كلامه:أنهم لا يجيبون إلى ذلك ويعرضون عنه. واكتفى عن ذلك بقوله: ( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) أي:على التوحيد وصدق الرسل ( إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) أي:لا يتأملونها ولا ينتفعون بها.

وقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) أي:وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين ( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا ) أي:عن الذين آمنوا من الفقراء، أي:قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به: ( أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ) أي:وهؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم، ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:في أمركم لنا بذلك.

قال ابن جرير:ويحتمل أن يكون من قول الله للكفار حين ناظروا المسلمين وردوا عليهم، فقال لهم: ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، وفي هذا نظر.

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( 49 ) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ( 50 )

يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: ( مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ] ) ؟ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا [ الشورى:18 ] ، قال الله تعالى: ( مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) أي:ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهذه - والله أعلم- نفخة الفزع، ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذ أمر الله تعالى إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يُطَوِّلُها ويَمُدُّها، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتًا، ورفع ليتًا - وهي صفحة العنق- يتسمع الصوت من قبل السماء. ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار، تحيط بهم من جوانبهم؛ ولهذا قال: ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ) أي:على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك، ( وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق، التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم، ثم بعد ذلك نفخة البعث.

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( 51 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( 52 ) إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( 53 ) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 54 )

هذه هي النفخة الثالثة ، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور؛ ولهذا قال: ( فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) والنَّسلان هو:المشي السريع، كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [ المعارج:43 ] .

( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) ؟ يعنون: [ من ] قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) ، وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.

وقال أُبَيّ بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة:ينامون نومة قبل البعث.

قال قتادة:وذلك بين النفختين.

فلذلك يقولون: ( مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) ، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون - قاله غير واحد من السلف- : ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) . وقال الحسن:إنما يجيبهم بذلك الملائكة.

ولا منافاة إذ الجمع ممكن، والله أعلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد:الجميع من قول الكفار: ( يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

نقله ابن جرير، واختار الأول، وهو أصح، وذلك كقوله تعالى في الصافات: وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [ الصافات:20 ، 21 ] ، وقال [ الله ] تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ الروم:55 ، 56 ] .

وقوله: ( إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) ، كقوله: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [ النازعات:13 ، 14 ] . وقال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [ النحل:77 ] ، وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:52 ] .

أي:إنما نأمرهم أمرًا واحدًا، فإذا الجميع محضرون، ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) أي:من عملها، ( وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )

 

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( 55 ) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( 56 ) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( 57 ) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ( 58 )

يخبر تعالى عن أهل الجنة:أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات فنـزلوا في روضات الجنات:أنهم ( فِي شُغُلٍ [ فَاكِهُونَ ) أي:في شغل ] عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم.

قال الحسن البصري:وإسماعيل بن أبي خالد: ( فِي شُغُلٍ ) عما فيه أهل النار من العذاب.

وقال مجاهد: ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي:في نعيم معجبون، أي:به. وكذا قال قتادة.

وقال ابن عباس: ( فَاكِهُونَ ) أي فرحون.

قال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيّب، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والأعمش، وسليمان التيمي، والأوزاعي في قوله: ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) قالوا:شغلهم افتضاض الأبكار.

وقال ابن عباس - في رواية عنه - : ( فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ) أي بسماع الأوتار.

وقال أبو حاتم:لعله غلط من المستمع، وإنما هو افتضاض الأبكار.

وقوله: ( هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ) قال مجاهد:وحلائلهم ( فِي ظِلالٍ ) أي:في ظلال الأشجار ( عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ) .

قال ابن عباس، ومجاهد وعكرمة، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف : ( الأرَائِكِ ) هي السرر تحت الحجال.

قلت:نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين، والله أعلم.

وقوله: ( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ) أي:من جميع أنواعها، ( وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ) أي:مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا محمد بن مهاجر، عن الضحاك المَعَافري، عن سليمان بن موسى، حدثني كُرَيْب؛ أنه سمع أسامة بن زيد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا هل مُشَمِّر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خَطر لها هي - ورب الكعبة- نور كلها يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مَشيد، ونهر مُطَّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سلامة، وفاكهة خضرة وحَبْرَة ونعمة، ومحلة عالية بَهيَّة » . قالوا:نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها. قال: « قولوا:إن شاء الله » . قال القوم:إن شاء الله.

وكذا رواه ابن ماجه في « كتاب الزهد » من سننه، من حديث الوليد بن مسلم، عن محمد بن مُهَاجر، به .

وقوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال ابن جريج:قال ابن عباس في قوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) فإن الله نفسه سلام على أهل الجنة.

وهذا الذي قاله ابن عباس كقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [ الأحزاب:44 ]

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر، فإنه قال:حدثنا موسى بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصم العَبَّاداني، حدثنا الفضل الرَّقاشيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال:السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله: ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) » . قال: « فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم » .

ورواه ابن ماجه في « كتاب السنة » من سننه ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، به.

وقال ابن جرير:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا حَرْمَلة، عن سليمان بن حُمَيد قال:سمعت محمد بن كعب القُرَظِي يحدّث عن عمر بن عبد العزيز قال:إذا فرغ الله من أهل الجنة والنار، أقبل في ظُلَل من الغمام والملائكة، قال:فيسلم على أهل الجنة، فيردون عليه السلام - قال القرظي:وهذا في كتاب الله ( سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) - فيقول:سلوني. فيقولون:ماذا نسألك أيْ ربّ؟ قال:بلى سلوني. قالوا:نسألك - أيْ رب- رضاك. قال:رضائي أحلكم دار كرامتي. قالوا:يا رب، فما الذي نسألك، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك، لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم، لا ينقصنا ذلك شيئًا. قال:إن لديَّ مزيدًا. قال فيفعل ذلك بهم في درجهم، حتى يستوي في مجلسه. قال:ثم تأتيهم التحف من الله، عز وجل، تحملها إليهم الملائكة. ثم ذكر نحوه.

وهذا أثر غريب، أورده ابن جرير من طرق.

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 59 ) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 ) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 ) .

يقول تعالى مخبرًا عمّا يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا، بمعنى: يتميزون عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [ يونس:28 ] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم:14 ] ، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم:43 ] أي:يصيرون صدْعَين فرقتين، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ الصافات:22 ، 23 ] .

وقوله تعالى: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) :هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: ( وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) أي:قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به؛ ولهذا قال: ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا ) ، يقال: « جِبِلا » بكسر الجيم، وتشديد اللام. ويقال: « جُبُلا » بضم الجيم والباء، وتخفيف اللام. ومنهم من يسكن الباء. والمراد بذلك الخلق الكثير، قاله مجاهد، والسُّدِّيّ، وقتادة، وسفيان بن عيينة.

وقوله: ( أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) ؟ أي:أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له، وعُدُولُكم إلى اتباع الشيطان؟!

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم فيخرج منها عُنق ساطع مظلم، يقول: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) امتازوا اليوم أيها المجرمون. فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الجاثية:28 ] . »

هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 63 ) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 64 ) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 65 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( 66 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ( 67 )

يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة، وقد برزَت الجحيم لهم تقريعًا وتوبيخًا: ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) أي:هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم، ( اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) ، كما قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [ الطور:13- 15 ] .

وقوله تعالى: ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) :هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي، حدثنا أبو عامر الأسدي، حدثنا سفيان، عن عبيد المُكتب، عن الفُضَيْل بن عمرو، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال:كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: « أتدرون مم أضحك؟ » قلنا:الله ورسوله أعلم. قال: « من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول:رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول:بلى. فيقول:لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي. فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودا. فيختم على فيه، ويُقال لأركانه:انطقي. فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول:بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل » .

وقد رواه مسلم والنسائي، كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبي النضر، عن عُبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي، عن سفيان - هو الثوري- به. ثم قال النسائي: [ لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله تعالى أعلم.

كذا قال، وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي - وهو العَقَدِيّ- عن سفيان.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن بَهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة أفواهكم بالفِدَام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه » . رواه النسائي ] عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، به .

وقال سفيان بن عيينة، عن سُهَيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل، قال فيه: « ثم يلقى الثالث فيقول:ما أنت؟ فيقول:أنا عبدك، آمنت بك وبنبيك وبكتابك، وصمت وصليت وتصدقت - ويثني بخير ما استطاع- قال:فيقال له:ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ قال:فيفكر في نفسه، من الذي يشهد عليه، فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه:انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه. وذلك الذي سخط الله عليه » .

ورواه مسلم وأبو داود، من حديث سفيان بن عيينة، به بطوله .

ثم قال ابن أبي حاتم، رحمه الله:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة عن شُرَيْح بن عبيد، عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذُه من الرِّجل اليسرى » . .

ورواه ابن جرير عن محمد بن عوف، عن عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل بن عياش، به مثله .

وقد جَوَّد إسناده الإمام أحمد، رحمه الله، فقال:حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عُبَيد الحضرمي، عمن حَدَّثه عن عقبة بن عامر؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذه من الرجل الشمال » .

وقال ابن جرير:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا يونس بن عُبَيد، عن حُمَيد بن هلال قال:قال أبو بردة:قال أبو موسى هو الأشعري، رضي الله عنه- :يُدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فَيَعْرضُ عليه رَبُّه عملَه فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول:نعم أيْ رب، عملتُ عملتُ عملت. قال:فيغفر الله له ذنوبه، ويستره منها. قال:فما على الأرض خَليقة ترى من تلك الذنوب شيئًا، وتبدو حسناته، فَوَدَّ أن الناس كلهم يرونها، ويُدعى الكافر والمنافق للحساب، فَيَعرضُ رَبُّه عليه عمله، فيجحد وفيقول:أي رب، وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل. فيقول له الملك:أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول:لا وعزتك أيْ رب ما عملتُه. فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه. قال أبو موسى الأشعري:فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى، ثم تلا ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) :قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسيرها:يقول:ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى، فكيف يهتدون؟ وقال مرة :أعميناهم.

وقال الحسن البصري:لو شاء الله لطمس على أعينهم، فجعلهم عُميًا يترددون.

وقال السدي:لو شِئْنا أعمينا أبصارهم.

وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والسدي: ( فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ) يعني:الطريق.

وقال ابن زيد:يعني بالصراط هاهنا:الحق، ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) وقد طمسنا على أعينهم؟

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ) ] يقول ] :لا يبصرون الحق.

وقوله: ( وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِم ) قال العوفي عن ابن عباس:أهلكناهم.

وقال السدي:يعني:لَغَيَّرْنَا خَلْقَهم.

وقال أبو صالح:لجعلناهم حجارة.

وقال الحسن البصري، وقتادة:لأقعدهم على أرجلهم.

ولهذا قال تعالى: ( فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا ) أي:إلى أمام، ( وَلا يَرْجِعُونَ ) أي:إلى وراء، بل يلزمون حالا واحدًا، لا يتقدمون ولا يتأخرون.

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( 68 ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 70 )

يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره ردّ إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [ الروم:54 ] . وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [ الحج:5 ] .

والمراد من هذا - والله أعلم- الإخبارُ عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: ( أَفَلا يَعْقِلُونَ ) أي:يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى [ نفس ] الشَّبيبَة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خُلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة.

وقوله: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) :يقول تعالى مخبرًا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم :أنه ما علمه الشعر، ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي:وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جِبِلَّته؛ ولهذا وَرَدَ أنه، عليه الصلاة والسلام، كان لا يحفظ بيتًا على وزنٍ منتظم، بل إن أنشده زَحَّفه أو لم يتمه.

وقال أبو زُرْعة الرازي:حُدِّثت عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن الشعبي أنه قال:ما وَلَد عبد المطلب ذكرًا ولا أنثى إلا يقول الشِّعر، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره ابن عساكر في ترجمة « عتبة بن أبي لهب » الذي أكله السَّبُع بالزرقاء .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن - هو البصري- قال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:

كَفَى بالإسْلام والشيْب للمرْء نَاهيًا

فقال أبو بكر:يا رسول الله:

كَفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا

قال أبو بكر، أو عمر:أشهد أنك رسول الله، يقول الله: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) .

وهكذا روى البيهقي في الدلائل:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:للعباس بن مرداس السلمي: « أنت القائل:»

أتجعل نَهبي ونَهْب العُبَيد بين الأقرع وعيينة « . »

فقال:إنما هو: « بين عيينة والأقرع » فقال: « الكل سواء » .

يعني:في المعنى، صلوات الله وسلامه عليه.

وقد ذكر السهيلي في « الروض الأنف » لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه، عليه السلام، في هذا البيت مناسبة أغرب فيها، حاصلها شَرَفُ الأقرع بن حابس على عُيَيْنَة بن بدر الفزاري؛ لأنه ارتد أيام الصديق، بخلاف ذاك، والله أعلم.

وهكذا روى الأموي في مغازيه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر، وهو يقول: « نُفلق هَامًا.................................. » .

فيقول الصديق، رضي الله عنه، متمما للبيت:

..... مِـــنْ رجَـــال أعـــزَّةٍ عَلَيْنَــا وَهُـم كَـانُوا أعَـقَّ وَأظلمـا

وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له، وهي في الحماسة .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، حدثنا مغيرة، عن الشعبي، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر، تمثل فيه ببيت طَرَفَة:

ويَأْتِيكَ بالأخْبار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

وهكذا رواه النسائي في « اليوم والليلة » من طريق إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضًا من حديث المقدام بن شُرَيْح بن هانئ، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، كذلك. ثم قال الترمذي. هذا حديث حسن صحيح .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أسامة، عن زائدة، عن سِمَاك، عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار:

وَيَأتيكَ بالأخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ

ثم قال:رواه غير زائدة، عن سِمَاك، عن عِكرمة، عن عائشة.

وهذا في شعر طرفة بن العبد، في معلقته المشهورة، وهذا المذكور [ هو عجز بيت ] منها، أوله:

سَـتُبْدي لـكَ الأيـامُ مَـا كُنْتَ جَاهلا وَيَـأتيك بالأخْبَــارِ مَـنْ لَـمْ تُـزَوِّدِ

وَيَـأتيكَ بالأخْبَـار مَـنْ لَـمْ تَبِـع لهُ بَتَاتـا ولـم تَضـرب لـه وَقْتَ مَوْعِدِ

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الحافظ، حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم - وكيل المتقي ببغداد- حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير، حدثنا علي بن عمرو الأنصاري، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط، إلا بيتا واحدًا.

تَفَــاءلْ بمـا تَهْـوَى يَكُـنْ فَلَقَلَّمَـا يُقَــالُ لِشَــيْءٍ كَــانَ إلا تَحَقَّقَـا

سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزّي عن هذا الحديث، فقال:هو منكر. ولم يعرف شيخ الحاكم، ولا الضرير.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة:قيل لعائشة:هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت:كان أبغضَ الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، وآخره أوله. فقال أبو بكر ليس هكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي » . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذا لفظه.

وقال معمر عن قتادة:بلغنى أن عائشة سُئلت:هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت:لا إلا بيت طَرَفَة:

سَـتُبْدي لـكَ الأيـامُ مَـا كُنْتَ جَاهلا وَيَــأْتيك بالأخبـارِ مَـنْ لَـمْ تُـزَوِّدِ

فجعل يقول: « مَن لم تُزَوّد بالأخبار » . فقال أبو بكر:ليس هذا هكذا. فقال: « إني لست بشاعر، ولا ينبغي لي »

وثبت في الصحيحين أنه، عليه الصلاة والسلام، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة، ولكن تبعًا لقول أصحابه، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون:

لاهُـمَّ لوْلا أنت مَا اهْتَدَيْنَا مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْــنَــــا وَلا صَلَّيْنَـــا

فَــأَنـزلَـنْ سَــكِينَــةً عَـلَيْنَـا وَثَبِّـــت الأقْــــدَامَ إنْ لاقَيْنَــا

إنّ الألــى قَــدْ بَغَــوا عَلــيْنَـا إذَا أرَادُوا فِتْـــنَــــةً أَبَيْنَـــا

ويرفع صوته بقوله: « أبينا » ويمدها . وقد روي هذا بزحاف في الصحيح أيضًا. وكذلك ثبت أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة، يُقدم بها في نحور العدو:

أنــــا النَّبِــــيّ لا كَــــذِبْ أنَـــا ابْـــنُ عُبْــد المُطَّلِــبْ

لكن قالوا:هذا وقع اتفاقًا من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه.

وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جُنْدَب بن عبد الله قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فَنَكِبت أصبعه، فقال:

هَــلْ أنْــت إلا إصْبَــعٌ دَمِيــت وفــي سَــبيل اللــه مَـا لَقِيـت

وسيأتي عند قوله تعالى: إِلا اللَّمَمَ [ النجم:32 ] إنشاد

إنْ تَغْفــر اللَّهُــمَّ تَغْفِــرْ جَمَّــا وَأيُّ عَبْـــدٍ لـــكَ مَــا ألَمَّــا

وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما عُلِّم شعرًا ولا ينبغي له؛ فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم،الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فصلت:42 ] . وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يُؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضُّلال وآراء الجُهَّال. وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعًا وشرعًا، كما رواه أبو داود قال:

حدثنا عبيد الله بن عُمَر، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا شرحبيل بن يزيد المَعَافري، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال:سمعت عبد الله بن عمرو يقول: [ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ] : « ما أبالي ما أوتيت إن أنا شَربت ترياقًا، أو تعلقت تميمة، أو قلت الشعر من قبل نفسي » . تفرد به أبو داود .

وقال الإمام أحمد، رحمه الله:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل قال:سألتُ عائشة:أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر؟ فقالت:كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك .

وقال أبو داود:حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا » . تفرد به من هذا الوجه، وإسناده على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا بريد، حدثنا قَزَعةُ بن سُوَيْد الباهلي، عن عاصم بن مَخْلَد، عن أبي الأشعث، الصنعاني ( ح ) وحدثنا الأشيب فقال:عن ابن عاصم، عن [ أبي ] الأشعث عن شَدَّاد بن أوس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة، لم تقبل له صلاة تلك الليلة » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. والمراد بذلك نظمه لا إنشاده، والله أعلم. على أن الشعر فيه ما هو مشروع، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رَوَاحة، وأمثالهم وأضرابهم، رضي الله عنهم أجمعين. ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي الله صلى الله عليه وسلم: « آمن شعره وكفر قلبه » . وقد أنشد بعض الصحابة منه للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت، يقول عقب كل بيت: « هيه » . يعني يستطعمه، فيزيده من ذلك .

وقد روى أبو داود من حديث أُبي بن كعب، وبُريدة بن الحُصَيْب ، وعبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكما » .

ولهذا قال تعالى: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) يعني:محمدًا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله شعرًا، ( وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ) أي:وما يصلح له، ( إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي:ما هذا الذي علمناه، ( إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) أي:بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره. ولهذا قال: ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ) أي:لينذر هذا القرآن البيّن كلّ حي على وجه الأرض، كقوله: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الأنعام:19 ] ، وقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود:17 ] . وإنما ينتفع بنذارته من هو حَيّ القلب، مستنير البصيرة، كما قال قتادة:حي القلب، حي البصر. وقال الضحاك:يعني:عاقلا ( وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) أي:هو رحمة للمؤمن، وحجة على الكافر.

 

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( 71 ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( 72 ) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( 73 )

يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم، ( فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) :قال قتادة:مطيقون أي:جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه، وذاك ذليل منقاد معه. وكذا لو كان القطَارُ مائة بعير أو أكثر، لسار الجميع بسيرِ صغيرٍ.

وقوله: ( فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) أي:منها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال، إلى سائر الجهات والأقطار. ( وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ) إذا شاؤوا نحروا واجتزروا .

( وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) أي:من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، ( وَمَشَارِبُ ) أي:من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى، ونحو ذلك. ( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) ؟ أي:أفلا يُوَحِّدُون خالق ذلك ومسخره، ولا يشركون به غيره؟

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ( 74 ) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ( 75 ) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 76 )

يقول تعالى منكرًا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.

قال الله تعالى: ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ) أي:لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل وأحقر وأدخر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.

وقوله: ( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) :قال مجاهد:يعني:عند الحساب، يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة، محضرة عند حساب عابديها؛ ليكون ذلك أبلغ في خِزْيهم، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم.

وقال قتادة: ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ) يعني:الآلهة، ( وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ) ، والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا وهي لا تسوق إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم سوءا، إنما هي أصنام.

وهكذا قال الحسن البصري. وهذا القول حسن، وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله.

وقوله: ( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ) أي:تكذيبهم لك وكفرهم بالله، ( إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) أي:نحن نعلم جميع ما هم عليه، وسنجزيهم وصْفَهم ونعاملهم على ذلك، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلا ولا حقيرًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديمًا وحديثًا.

أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 77 ) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( 78 ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( 79 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ( 80 )

قال مجاهد، وعِكْرِمَة، وعروة بن الزبير، والسُّدِّي. وقتادة:جاء أُبي بن خلف [ لعنه الله ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يُفَتِّتُه ويذريه في الهواء، وهو يقول:يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال: « نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار » . ونـزلت هذه الآيات من آخر « يس » : ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ) ، إلى آخرهن.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا عثمان بن سعيد الزيات، عن هُشَيْم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس، أن العاصى بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم » . قال: ونـزلت الآيات من آخر « يس » .

ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم، عن هُشَيْمٍ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، فذكره ولم يذكر « ابن عباس » .

وروي من طريق العوفي، عن ابن عباس قال:جاء عبد الله بن أبي بعظم ففَتَّه وذكر نحو ما تقدم.

وهذا منكر؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة. وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نـزلت في أُبي بن خلف، أو [ في ] العاص [ بن وائل ] ، أو فيهما، فهي عامة في كل مَنْ أنكر البعث. والألف واللام في قوله: ( أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ ) للجنس، يعم كل منكر للبعث.

( أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) أي:أولم يستدل مَنْ أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين، كما قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [ المرسلات:20- 22 ] . وقال إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [ الإنسان:2 ] أي:من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟ كما قال الإمام أحمد في مسنده:

حدثنا أبو المغيرة، حدثنا حَريز، حدثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة، عن جُبَيْر بن نفير، عن بُسْر ابن جَحَّاش؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصق يوما في كفِّه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: « قال الله تعالى:ابن آدم، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك، مشيت بين بردَيك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت:أتصدقُ وأنَّى أوان الصدقة؟ » .

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن جَرير بن عثمان، به . ولهذا قال: ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ؟ أي:استبعد إعادة الله تعالى - ذي القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض- للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله خلقه من العدم، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده؛ ولهذا قال تعالى: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) أي:يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت، وأين تفرقت وتمزقت.

قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، عن عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيّ قال:قال عقبة بن عمرو لحذيفة:ألا تحدثُنا ما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:سمعته يقول: « إن رجلا حضره الموت، فلما أيس من الحياة أوصى أهله:إذا أنا متّ فاجمعوا لي حَطَبا كثيرًا جزَلا ثم أوقدوا فيه نارًا، حتى إذا [ أكلت ] لحمي وخلَصت إلى عظمي فامتُحِشْتُ، فخذوها فدقوها فَذَروها في اليم. ففعلوا، فجمعه الله إليه فقال له:لم فعلت ذلك؟ قال:من خشيتك. فغفر الله له » . فقال عقبة بن عمرو:وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نبَّاشا .

وقد أخرجاه في الصحيحين، من حديث عبد الملك بن عمير، بألفاظ كثيرة منها: « أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يَذْروا نصفه في البر ونصفه في البحر، في يوم رائح، أي:كثير الهواء - ففعلوا ذلك. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له:كن. فإذا هو رجل قائم. فقال له:ما حملك على ما صنعت؟ فقال:مخافتك وأنت أعلم. فما تلافاه أن غفر له » .

وقوله: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) أي:الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خَضرًا نَضرًا ذا ثمر ويَنْع، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا، توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء.

قال قتادة في قوله: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) يقول:الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه.

وقيل:المراد بذلك سَرْح المرخ والعَفَار، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قَدْح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس، رضي الله عنهما . وفي المثل: لكل شجر نار، واستمجد المَرْخُ والعَفَار. وقال الحكماء:في كل شجر نار إلا الغاب.

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ( 81 ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 82 ) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 83 )

يقول تعالى منبهًا على قدرته العظيمة في خلق السموات السبع، بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت، والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال، وبحار وقفار، وما بين ذلك، ومرشدًا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة، كقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [ غافر:57 ] . وقال هاهنا: ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) أي:مثل البشر، فيعيدهم كما بدأهم. قاله ابن جرير .

وهذه الآية كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الأحقاف:33 ] ، وقال: ( بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) أي:يأمر بالشيء أمرًا واحدًا، لا يحتاج إلى تكرار:

إذَا مَــا أَرَادَ اللــهُ أَمْــرًا فَإِنَّمَـا يَقُــولُ لَــهُ « كُنْ » قَوْلَــة فَيَكُـونُ

وقال الإمام أحمد:حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا موسى بن المسَيَّب، عن شَهْر، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذَر، رضي الله عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يقول:يا عبادي، كلكم مذنب إلا من عافيت، فاستغفروني أغفر لكم. وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئًا فإنما أقول له كن فيكون » .

وقوله: ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:تنـزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم، الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وله الخلق والأمر، وإليه ترجع العباد يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المتفضل.

ومعنى قوله: ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) كقوله عز وجل: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [ المؤمنون:88 ] ، وكقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [ الملك:1 ] ، فالملك والملكوت واحد في المعنى، كرحمة ورَحَمُوت، ورَهْبَة ورَهَبُوت، وجَبْر وجَبَرُوت. ومن الناس من زعم أن المُلْك هو عالم الأجساد ‌‌ والملكوت هو عالم الأرواح، والأول هو الصحيح، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا حماد، عن عبد الملك بن عمير، حدثني ابن عم لحذيفة، عن حذيفة - وهو ابن اليمان- رضي الله عنه، قال:قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ السبع الطُّوَل في سبع ركعات، وكان إذا رفع رأسه من الركوع قال: « سمع الله لمن حمده » . ثم قال: « الحمد لذي ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة » وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فأنصرف وقد كادت تنكسر رجلاي .

وقد روى أبو داود، والترمذي في الشمائل، والنسائي، من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرة، عن أبي حَمْزة - مولى الأنصار- عن رجل من بني عَبْس، عن حذيفة؛ أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، وكان يقول: « الله أكبر - ثلاثًا - ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة » . ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: « سبحان ربي العظيم » . ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: [ « لربي الحمد » . ثم سجد، فكان سجوده نحوا من ] قيامه، وكان يقول في سجوده: « سبحان ربي الأعلى » . ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: « رب، اغفر لي، رب اغفر لي » . فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة - أو الأنعام - - شك شعبة- هذا لفظ أبي داود .

وقال النسائي: « أبو حمزة عندنا:طلحة بن يزيد، وهذا الرجل يشبه أن يكون صلة » . كذا قال. والأشبه أن يكون ابن عم حذيفة، كما تقدم في رواية الإمام أحمد، [ والله أعلم ] . فأما رواية صلة بن زفر، عن حذيفة، فإنها في صحيح مسلم، ولكن ليس فيها ذكر الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة.

وقال أبو داود:حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عمرو بن قيس، عن عاصم بن حُمَيْد، عن عوف بن مالك الأشجعي قال:قمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ. قال:ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: « سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة » . ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة.

ورواه الترمذي في الشمائل، والنسائي، من حديث معاوية بن صالح، به .

[ آخر تفسير سورة « يس » ولله الحمد أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ]

 

أعلى