فهرس تفسير بن كثير للسور

11 - تفسير بن كثير سورة هود

التالي السابق

 

تفسير سورة هود

 

[ وهي مكية ] .

قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عِكْرِمة قال:قال أبو بكر:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما شَيّبك؟ قال: « شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » .

وقال أبو عيسى الترمذي:حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال أبو بكر:يا رسول الله، قد شبت؟ قال: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » وفي رواية: « هود وأخواتها » .

وقال الطبراني:حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا حماد بن الحسن، حدثنا سعيد بن سلام، حدثنا عمر بن محمد، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شيبتني هود وأخواتها:الواقعة، والحاقة، وإذا الشمس كورت » وفي رواية: « هود وأخواتها » .

وقد روي من حديث ابن مسعود، فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق الرائشي ، حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه؛ أن أبا بكر قال:يا رسول الله، ما شيبك؟ قال: « هود، والواقعة » .

عمرو بن ثابت متروك، وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود. والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( 1 ) أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( 2 ) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( 3 ) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 4 )

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وبالله التوفيق.

وأما قوله: ( أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) أي:هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كامل صورة ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير.

وقوله: ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) أي:من عند الله الحكيم في أقواله، وأحكامه، الخبير بعواقب الأمور.

( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) أي:نـزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] ، قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

وقوله: ( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) أي:إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه، وبشير بالثواب إن أطعتموه، كما جاء في الحديث الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب، فاجتمعوا، فقال يا معشر قريش، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ، ألستم مصدقي؟ « فقالوا:ما جربنا عليك كذبا » . قال: « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » .

وقوله: ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) أي:وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه، وأن تستمروا على ذلك، ( يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ) أي:في الدنيا ( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) أي:في الدار الآخرة، قاله قتادة، كقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ النحل:97 ] ، وقد جاء في الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد: « وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجِرْت بها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك » .

وقال ابن جرير:حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن مسعود في قوله: ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) قال:من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول:هلك من غلب آحاده أعشاره .

وقوله: ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى، وكذب رسله، فإن العذاب يناله يوم معاده لا محالة، ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ) أي:معادكم يوم القيامة، ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي:وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه، وانتقامه من أعدائه، وإعادة الخلائق يوم القيامة، وهذا مقام الترهيب، كما أن الأول مقام ترغيب.

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 5 )

قال ابن عباس:كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم، وحال وقاعهم، فأنـزل الله هذه الآية. رواه البخاري من حديث ابن جُرَيْج، عن محمد بن عباد بن جعفر؛ أن ابن عباس قرأ: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورهُم » ، فقلت:يا أبا عباس، ما تثنوني صدورهم؟ قال:الرجل كان يجامع امرأته فيستحيي - أو:يتخلى فيستحيي فنـزلت: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورهُم » .

وفي لفظ آخر له:قال ابن عباس:أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا، فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنـزل ذلك فيهم.

ثم قال:حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال:قرأ ابن عباس « أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ ثِيَابَهُم » .

قال البخاري:وقال غيره، عن ابن عباس: ( يَسْتَغْشُونَ ) يغطون رءوسهم .

وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية:يعني به الشك في الله، وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وغيرهم:أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأعلمهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل، ( يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ) من القول: ( وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) أي:يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر. وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:

فَـلا تَكْـتُمُنَّ اللـه مـا فـي نفوسـكم ليخـفى, فمهمـا يُكـتم الله يَعْلم

يُؤخَـر فيـوضَع فـي كتـاب فَيُدخَــر ليوم حســاب, أو يُعَجـل فَيُنْقـمِ

فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات، وبالمعاد وبالجزاء، وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة.

وقال عبد الله بن شداد:كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وغطى رأسه فأنـزل الله ذلك.

وعود الضمير على الله أولى؛ لقوله: ( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) .

وقرأ ابن عباس: « أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني صُدُورُهُم » ، برفع الصدور على الفاعلية، وهو قريب المعنى.

 

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 6 )

أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات، من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها، بحريها، وبريها، وأنه ( يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) أي:يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض، وأين تأوي إليه من وكرها، وهو مستودعها.

وقال علي بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عباس: ( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ) أي:حيث تأوي، ( وَمُسْتَوْدَعَهَا ) حيث تموت.

وعن مجاهد: ( مُسْتَقَرَّهَا ) في الرحم، ( وَمُسْتَوْدَعَهَا ) في الصلب، كالتي في الأنعام:وكذا روي عن ابن عباس والضحاك، وجماعة. وذكر ابن أبي حاتم أقوال المفسرين هاهنا، كما ذكره عند تلك الآية: فالله أعلم، وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك، كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الانعام:38 ] ، وقوله : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 ) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 8 )

يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن جامع بن شَدَّاد، عن صفوان بن مُحْرِزْ، عن عمران بن حصين قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اقبلوا البشرى يا بني تميم » . قالوا:قد بشرتنا فأعطنا. قال: « اقبلوا البشرى يا أهل اليمن » . قالوا:قد قبلنا، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: « كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء » . قال:فأتاني آت فقال:يا عمران، انحلت ناقتك من عقالها. قال:فخرجت في إثرها، فلا أدري ما كان بعدي .

وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة ؛ فمنها:قالوا:جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال: « كان الله ولم يكن شيء قبله - وفي رواية:غيره - وفي رواية:معه - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كلّ شيء، ثم خلق السموات والأرض » .

وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء » .

وقال البخاري في تفسير هذه الآية:حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال الله عز وجل:أنفِق أُنفقْ عليك » . وقال: « يد الله ملأى لا يَغيضها نفقة، سحَّاءَ الليلَ والنهار » وقال « أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن يَعْلَى بن عَطَاء، عن وَكِيع بن عُدُس، عن عمه أبي رَزِين - واسمه لَقِيط بن عامر بن المنتفق العُقَيْلي - قال:قلت:يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: « كان في عَمَاء، ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق العرش بعد ذلك » .

وقد رواه الترمذي في التفسير، وابن ماجه في السنن من حديث يزيد بن هارون به وقال الترمذي:هذا حديث حسن.

وقال مجاهد: ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) قبل أن يخلق شيئا. وكذا قال وهب بن مُنبِّه، وضمرة بن حبيب، وقاله قتادة، وابن جرير، وغير واحد.

وقال قتادة في قوله: ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.

وقال الربيع بن أنس: ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فلما خلق السموات والأرض، قسم ذلك الماء قسمين، فجعل نصفا تحت العرش، وهو البحر المسجور.

وقال ابن عباس:إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه.

وقال إسماعيل بن أبي خالد، سمعت سعدا الطائي يقول:العرش ياقوتة حمراء.

وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فكان كما وصف نفسه تعالى، إذ ليس إلا الماء وعليه العرش، وعلى العرش ذو الجلال والإكرام، والعزة والسلطان، والملك والقدرة، والحلم والعلم، والرحمة والنعمة، الفعال لما يريد.

وقال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال:سئل ابن عباس عن قول الله: ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) على أي شيء كان الماء؟ قال:على متن الريح.

وقوله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) أي:خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه وحده لا شريك له، ولم يخلق ذلك عبثا، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ ص:27 ] ، وقال تعالى:أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ المؤمنون:115، 116 ] ، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [ الذاريات:56 ] .

وقوله: ( لِيَبْلُوكُمْ ) أي:ليختبركم ( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) ولم يقل:أكثر عملا بل ( أَحْسَنُ عَمَلا ) ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عز وجل، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين بطل وحبط.

وقوله: ( وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يقول تعالى:ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم، مع أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض، [ كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ الزخرف:87 ] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ] وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ العنكبوت:61 ] ، وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة، الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] ، وقال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ لقمان:28 ] وقولهم : ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) أي:يقولون كفرا وعنادا ما نصدقك على وقوع البعث، وما يذكر ذلك إلا من سحرته، فهو يتبعك على ما تقول.

وقوله: ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ) يقول تعالى:ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور، وأوعدناهم به إلى مدة مضروبة، ليقولن تكذيبا واستعجالا ( مَا يَحْبِسُهُ ) أي:يؤخر هذا العذاب عنا، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد.

و « الأمة » تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة، فيراد بها:الأمد، كقوله في هذه الآية: ( إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) وقوله في [ سورة ] يوسف: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [ يوسف:45 ] ، وتستعمل في الإمام المقتدى به، كقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ النحل:120 ] ، وتستعمل في الملة والدين، كقوله إخبارا عن المشركين أنهم قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ الزخرف:23 ] ، وتستعمل في الجماعة، كقوله: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [ القصص:23 ] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] ، وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [ يونس:47 ] .

والمراد من الأمة هاهنا:الذين يبعث فيهم الرسول مؤمنهم وكافرهم، كما [ جاء ] في صحيح مسلم: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .

وأما أمة الأتباع، فهم المصدقون للرسل، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران:110 ] وفي الصحيح: « فأقول:أمتي أمتي » .

وتستعمل الأمة في الفرقة والطائقة، كقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ الأعراف:159 ] ، وقال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [ آل عمران:113 ] .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ( 9 ) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( 10 ) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 11 )

يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، فإنه إذا أصابته شدة بعد نعمة، حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال، كأنه لم ير خيرا، ولم يَرْج بعد ذلك فرجا. وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة ( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ) أي:يقول:ما بقي ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء، ( إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) أي:فرح بما في يده، بطر فخور على غيره. قال الله تعالى: ( إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ) أي:في الشدائد والمكاره، ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي:في الرخاء والعافية، ( أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) أي:بما يصيبهم من الضراء، ( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) بما أسلفوه في زمن الرخاء، كما جاء في الحديث: « والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا غَمٌّ، ولا نَصَب ولا وَصَب، ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّرَ اللهُ عنه بها من خطاياه » ، وفي الصحيحين: « والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن » وهكذا قال الله تعالى:وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ سورة العصر ] ، وقال تعالى:إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ الآية [ المعارج:19 - 22 ] .

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 12 )

يقول تعالى مسليّا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم، عما كان يتعنت به المشركون، فيما كانوا يقولونه عن الرسول - كما أخبر تعالى عنهم - :وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا [ الفرقان:7، 8 ] . فأمر الله تعالى رسوله، صلوات الله تعالى وسلامه عليه، وأرشده إلى ألا يضيق بذلك منهم صَدْرُه، ولا يهيدنه ذلك ولا يُثْنينَّه عن دعائهم إلى الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ الحجر:97 - 99 ] ، وقال هاهنا: ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا ) أي:لقولهم ذلك، فإنما أنت نذير، ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك، فإنهم كُذبُوا وأوذُوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عز وجل.

 

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 13 ) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 14 )

ثم بين تعالى إعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، ولا بعشر سور [ من ] مثله، ولا بسورة من مثله؛ لأن كلام الرب لا يشبهه كلام المخلوقين، كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات ، وذاته لا يشبهها شيء، تعالى وتقدس وتنـزه، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

ثم قال تعالى: ( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ) أي:فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك، وأن هذا الكلام منـزل من عند الله، متضمن علمه وأمره ونهيه، ( وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) .

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ( 15 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 16 )

قال العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية:إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا، يقول:من عمل صالحا التماس الدنيا، صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله:أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.

وهكذا روي عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد.

وقال أنس بن مالك، والحسن:نـزلت في اليهود والنصارى. وقال مجاهد وغيره:نـزلت في أهل الرياء .

وقال قتادة:من كانت الدنيا همه وَسَدَمه وطَلِبَته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.

وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا .

وقال تعالى:مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا [ الإسراء:18 - 21 ] ، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [ الشورى:20 ] .

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 17 )

يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [ الروم:30 ] ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء؟ » . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يقول الله تعالى:إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم » . وفي المسند والسنن: « كل مولود يولد على هذه الملة، حتى يُعرِب عنه لسانه » الحديث، فالمؤمن باق على هذه الفطرة. [ وقوله: ( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) أي ] :وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء، من الشرائع المطهرَة المُكَمَّلَة المعظَّمة المُخْتَتَمَةِ بشريعة محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، والسُّدِّي، وغير واحد في قوله تعالى: ( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) إنه جبريل عليه السلام.

وعن علي، والحسن، وقتادة:هو محمد صلى الله عليه وسلم.

وكلاهما قريب في المعنى؛ لأن كلا من جبريل ومحمد، صلوات الله عليهما، بلَّغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة .

وقيل:هو عليّ. وهو ضعيف لا يثبت له قائل، والأول والثاني هو الحق؛ وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها؛ ولهذا قال تعالى: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) وهو القرآن، بلّغه جبريل إلى النبي [ محمد ] صلى الله عليه وسلم، وبلغه النبي محمد إلى أمته.

ثم قال تعالى: ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى ) أي:ومن قبل [ هذا ] القرآن كتاب موسى، وهو التوراة، ( إِمَامًا وَرَحْمَةً ) أي:أنـزل الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم، وقدوة يقتدون بها، ورحمة من الله بهم. فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن؛ ولهذا قال تعالى: ( أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) .

ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) أي:ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركيهم:أهل الكتاب وغيرهم، من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم، ممن بلغه القرآن، كما قال تعالى: لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الأنعام:19 ] ، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الأعراف:158 ] . وقال تعالى: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) وفي صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .

وقال أيوب السختياني، عن سعيد بن جبير قال:كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه - أو قال:تصديقه - في القرآن، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، فلا يؤمن بي إلا دخل النار » . فجعلت أقول:أين مصداقه في كتاب الله؟ قال:وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن، حتى وجدت هذه الآية: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) قال: « من الملل كلها » .

قوله: ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أي:القرآن حق من الله، لا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى:الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ السجدة:1 ، 2 ] ، وقال تعالى:الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ] [ البقرة:1، 2 ] .

وقوله: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] ، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ الأنعام:116 ] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سبأ:20 ] .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 18 ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 19 )

يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق؛ من الملائكة، والرسل، والأنبياء، وسائر البشر والجان، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا بَهْز وعفان قالا أخبرنا هَمَّام، حدثنا قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز قال:كنت آخذًا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل قال:كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:يقول: « إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنَفَه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له:أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قَرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال:فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول ( الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) »

أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، من حديث قتادة به .

وقوله: ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي يردُّون الناسَ عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عز وجل ويجنبونهم الجنة، ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:ويريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة، ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) أي:جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها.

 

أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ( 20 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 21 ) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 22 )

( أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) أي:بل كانوا تحت قهره وغلبته، وفي قبضته وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة، ولكن يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [ إبراهيم:42 ] ، وفي الصحيحين: « إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذَه لم يُفْلته » ؛ ولهذا قال تعالى: ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) أي:يضاعف عليهم العذاب، وذلك لأن الله تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم [ من شيء ] ، بل كانوا صُمَّا عن سماع الحق، عُميا عن اتباعه، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ الملك:10 ] ، وقال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [ النحل:88 ] ؛ ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه، وعلى كل نهي ارتكبوه؛ ولهذا كان أصحّ الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة.

وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:خسروا أنفسهم لأنهم دخلوا نارا حامية، فهم معذبون فيها لا يُفَتَّر عنهم من عذابها طرفة عين، كما قال تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الإسراء:97 ] .

و ( ضَلَّ عَنْهُمْ ) أي:ذهب عنهم ( مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) من دون الله من الأنداد والأصنام، فلم تُجْد عنهم شيئًا، بل ضرتهم كل الضرر، كما قال تعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:6 ] ، وقال تعالى:وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:81، 82 ] ، وقال الخليل لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [ العنكبوت:25 ] ، وقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [ البقرة:166 ] ؛ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم؛ ولهذا قال: ( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ) يخبر تعالى عن حالهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة؛ لأنهم استبدلوا بالدركات عن الدرجات، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن، وعن شرب الرحيق المختوم، بَسمُوم وحميم، وظِلٍّ من يحموم، وعن الحور العين بطعام من غِسْلين، وعن القصور العالية بالهاوية، وعن قرب الرحمن، ورؤيته بغضب الديان وعقوبته، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 23 ) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 24 )

لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثَنَّى بذكر السُّعَداء، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فآمنت قلوبهم وعَملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات، وبهذا ورثوا الجنات، المشتملة على الغرف العاليات، والسرر المصفوفات، والقطوف الدانيات، والفرش المرتفعات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات، والنظر إلى خالق الأرض والسموات، وهم في ذلك خالدون، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون، وينامون ولا يتغطَّون، ولا يبصقون ولا يتمخطون، إن هو إلا رَشْحُ مِسك يعرقون.

ثم ضرب [ الله ] تعالى مثل الكافرين والمؤمنين، فقال: ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ) أي:الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين السُّعَداء، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع. فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا، وفي الآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجَج، فلا يسمع ما ينتفع به، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ الأنفال:23 ] ، وأما المؤمن ففَطِن ذكي لبيب، بصير بالحق، يميز بينه وبين الباطل، فيتبعُ الخير ويترك الشر، سميع للحجة، يفرق بينها وبين الشبهة، فلا يَرُوج عليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا.

( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أفلا تعتبرون وتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، كما قال في الآية الأخرى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [ الحشر:20 ] وقال وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [ فاطر:19 - 24 ] .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 25 ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 26 ) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( 27 )

يخبر تعالى عن نوح، عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عَبَدة الأصنام أنه قال لقومه: ( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي:ظاهر النّذَارَة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله؛ ولهذا قال: ( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) وقوله ( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عَذَّبكم الله عذابا أليما مُوجعًا شاقًا في الدار الآخرة.

( فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) والملأ هم:السادة والكبراء من الكافرين منهم: ( مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا ) أي:لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلا أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء [ منا ] ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ؛ ولهذا قال: ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ) أي:في أول بادئ الرأي، ( وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) يقولون:ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق، ولا رزق ولا حال، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا، ( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) أي:فيما تَدَّعونه لكم من البر والصلاح والعبادة، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.

هذا اعتراض الكافرين على نوح، عليه السلام، وأتباعه، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل، ولو كانوا أغنياء. ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ الزخرف:23 ] ، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، قال له فيما قال:أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال:بل ضعفاؤهم. فقال هرقل:هم أتباع الرسل.

وقولهم ( بَادِيَ الرَّأْي ) ليس بمذمة ولا عيب؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي ولا للفكر مجال، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينـزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي . والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمر جلي واضح.

وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة، غير أبي بكر، فإنه لم يَتَلَعْثَم » أي:ما تردد ولا تروَّى، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع.

وقولهم: ( وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) هم لا يرون ذلك؛ لأنهم عُمْي عن الحق، لا يسمعون ولا يبصرون:بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون، الأقلون الأرذلون، وفي الآخرة هم الأخسرون.

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ( 28 )

يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك: ( أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي:على يقين وأمر جلي، ونبوة صادقة، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم، ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) أي:خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، ( أَنُلْزِمْكُمُوهَا ) أي:نَغْصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.

 

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 29 ) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 30 )

يقول لقومه:لا أسألكم على نصحي [ لكم ] مالا؛ أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر من الله عز وجل، ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ) كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه، احتشاما ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلسا خاصا، فأنـزل الله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ الأنعام:52 ] ، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [ الكهف:28 ] ، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الآيات [ الأنعام:53 ] .

وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 31 )

يخبرهم أنه رسول من الله، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، بإذن الله له في ذلك، ولا يسألهم على ذلك أجرا، بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع، فمن استجاب له فقد نجا. ويخبرهم أنه لا يَقدِر على التصرف في خزائن الله، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس هو بمَلك من الملائكة، بل بشر مرسل، مؤيد بالمعجزات. ولا أقولُ عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم :إنه ليس لهم عند الله ثواب على إيمانهم الله أعمل بما في أنفسهم، فإن كانوا مؤمنين باطنًا، كما هو الظاهر من حالهم، فلهم جزاء الحسنى، ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا، لكان ظالما قائلا ما لا علم له به.

قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 32 ) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 33 ) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 34 )

يقول تعالى مخبرًا عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق: ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ) أي:حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك ( فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) أي:من النقمة والعذاب، ادع علينا بما شئت، فليأتنا ما تدعو به ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي:إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يُعجِزُه شيء، ( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) أي:أي شيء يُجدِي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي، إن كان الله يريد إغواءكم ودماركم، ( هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) أي:هو مالك أزمة الأمور، والمتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر، وهو المبدئ المعيد، مالك الدنيا والآخرة.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ( 35 )

هذا كلام معترض في وسط هذه القصة، مؤكد لها ومقرر بشأنها . يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون:افترى هذا وافتعله من عنده ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ) أي:فإثم ذلك علي، ( وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) أي:ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى ، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 36 ) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ( 37 )

يخبر تعالى أنه أوحى إلى نُوح لما استعجل قومُه نقمة الله بهم وعذابه لهم، فدعا عليهم نوحُ دعوته التي قال الله تعالى مخبرًا عنه أنه قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نوح:26 ] ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ القمر:10 ] ، فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه: ( أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ ) فلا تحزن عليهم ولا يَهُمَّنك أمرهم.

( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ ) يعني:السفينة ( بِأَعْيُنِنَا ) أي:بمرأى منا، ( وَوَحْيِنَا ) أي:وتعليمنا لك ماذا تصنعه، ( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) .

فقال بعض السلف:أمره الله تعالى أن يغرِز الخشب ويقطِّعه وييبسه، فكان ذلك في مائة سنة، ونَجَرها في مائة سنة أخرى، وقيل:في أربعين سنة، فالله أعلم.

وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة:أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا.

وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء. وقال قتادة:كان طولها ثلاثمائة ذراع، في عرض خمسين.

وعن الحسن:طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلاثمائة ذراع.

وعنه مع ابن عباس:طولها ألف ومائتا ذراع، في عرض ستمائة.

وقيل:طولها ألفا ذراع، وعرضها مائة ذراع، فالله أعلم.

قالوا كلهم:وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا، ثلاث طبقات، كل طبقة عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش:والوسطى للإنس:والعليا للطيور. وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.

وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثرا غريبا، من حديث علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْران، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قال:قال الحواريون لعيسى ابن مريم:لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدّثنا عنها. قال:فانطلق بهم حتى أتى إلى كَثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا:الله ورسوله أعلم، قال:هذا كعب حام بن نوح. قال:وضرب الكثيب بعصاه، قال:قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفُض التراب عن رأسه، قد شاب. قال له عيسى، عليه السلام:هكذا هلكت؟ قال:لا. ولكني متّ وأنا شابّ، ولكنني ظننت أنها الساعة، فمن ثمَّ شبت. قال:حدِّثنا عن سفينة نوح؟ قال:كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب، أوحى الله عز وجل إلى نوح، عليه السلام، أن اغمز ذَنَب الفيل، فغمزه، فوقع منه خنـزير وخنـزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفأر بخَرَزِ السفينة يقرضه وحبالها، أوحى إلى نوح؛ أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سنَّور وسنورة، فأقبلا على الفأر. فقال له عيسى، عليه السلام:كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال:بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت قال:ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها، وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غَرِقت. قال:فطوّقَها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت. قال:فقلنا:يا رسول الله، ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال:كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال:فقال له:عد بإذن الله، فعاد ترابا

 

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ( 38 ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 39 )

وقوله: ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) أي:يَطْنـزون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق، ( قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) وعيد شديد، وتهديد أكيد، ( مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) أي:يهنه في الدنيا، ( وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) أي:دائم مستمر أبدا.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ( 40 )

هذه مُواعدة من الله تعالى لنوح، عليه السلام، إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة، والهَتَّان الذي لا يُقْلع ولا يَفتُر، بل هو كما قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [ القمر:11 - 14 ] .

وأما قوله: ( وَفَارَ التَّنُّورُ ) فعن ابن عباس:التنور:وجه الأرض، أي:صارت الأرض عيونا تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار، صارت تفور ماء، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف.

وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:التنور:فَلَق الصبح، وتنوير الفجر، وهو ضياؤه وإشراقه.

والأول أظهر.

وقال مجاهد والشعبي:كان هذا التنور بالكوفة، وعن ابن عباس:عين بالهند. وعن قتادة:عين بالجزيرة، يقال لها:عين الوردة.

وهذه أقوال غريبة.

فحينئذ أمر الله نوحا، عليه السلام، أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين - من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، قيل:وغيرها من النباتات - اثنين. ذكرا وأنثى، فقيل:كان أول من أدخل من الطيور الدرة، وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار، فدخل إبليس متعلقًا بذنبه، فدخل بيده ، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه، فجعل يقول له نوح:ما لك؟ ويحك. ادخل. فينهض ولا يقدر، فقال:ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة.

وذكر أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد، حتى ألقيت عليه الحمى.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم. عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه:وكيف يطمئن أو:تطمئن - المواشي ومعها الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حُمَّى نـزلت الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا:الفُوَيسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله إلى الأسد، فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها » .

وقوله: ( وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) أي: « واحمل فيها أهلك، وهم أهل بيته وقرابته » إلا من سبق عليه القول منهم، ممن لم يؤمن بالله، فكان منهم ابنه « يام » الذي انعزل وحده، وامرأة نوح وكانت كافرة بالله ورسوله.

وقوله: ( وَمَنْ آمَنَ ) أي:من قومك، ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ) أي:نـزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فعن ابن عباس:كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار:كانوا اثنين وسبعين نفسا. وقيل:كانوا عشرة. وقيل:إنما كانوا نوح وبنوه الثلاثة سام، وحام، ويافث، وكنائِنِه الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام. وقيل:بل امرأةُ نوح كانت معهم في السفينة، وهذا فيه نَظَرٌ، بل الظاهر أنها هلكت؛ لأنها كانت على دين قومها، فأصابها ما أصابهم، كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قَومها، والله أعلم وأحكم.

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 41 ) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ( 42 ) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ( 43 )

يقول تعالى إخبارًا عن نوح، عليه السلام، أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة: ( ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) أي:بسم الله يكون جَرْيُها على وجه الماء، وبسم الله يكون منتهى سيرها، وهو رُسُوها.

وقرأ أبو رجاء العَطاردي: « بسْمِ اللهِ مُجْرِيَها ومُرْسِيهَا » .

وقال الله تعالى :فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [ المؤمنون:28، 29 ] ؛ ؛ ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور:عند الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما قال تعالى:وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [ الزخرف:12 - 14 ] ، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه، كما سيأتي في سورة « الزخرف » ، إن شاء الله وبه الثقة.

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي - وحدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا محمد بن موسى الحَرشي - قالا حدثنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي، عن نَهْشل بن سعيد، عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا:بسم الله الملك، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ الزمر:67 ] ، ( بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) » .

وقوله: ( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين ذكْرُ أنه غفور رحيم، كما قال: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ الأعراف:167 ] ، وقال:

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [ الرعد:6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات التي يقرن فيها بين انتقامه ورحمته.

وقوله: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ) أي:السفينة سائرة بهم على وجه الماء، الذي قد طَبَّق جميع الأرض، حتى طفت على رءوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا، وقيل:بثمانين ميلا وهذه السفينة على وجه الماء سائرة بإذن الله وتحت كَنَفه وعنايته وحراسته وامتنانه كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [ الحاقة:11، 12 ] ، وقال تعالى: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ القمر:13 - 15 ] .

وقوله: ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ) هذا هو الابن الرابع، واسمه « يام » ، وكان كافرا، دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ) وقيل:إنه اتخذ له مركبا من زُجاج، وهذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحته. والذي نص عليه القرآن أنه قال: ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ) اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجّاه ذلك من الغرق، فقال له أبوه نوح، عليه السلام: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ ) أي:ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله. وقيل:إن عاصما بمعنى معصوم، كما يقال: « طاعم وكاس » ، بمعنى مطعوم ومكسُوّ، ( وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) .

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 44 )

يخبر تعالى أنه لما غرق أهل الأرض إلا أصحاب السفينة، أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تُقلعَ عن المطر، ( وَغِيضَ الْمَاءُ ) أي:شرع في النقص، ( وَقُضِيَ الأمْرُ ) أي:فُرغَ من أهل الأرض قاطبة، ممن كفر بالله، لم يبق منهم دَيّار، ( وَاسْتَوَتْ ) السفينة بمن فيها ( عَلَى الْجُودِيِّ ) قال مجاهد:وهو جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت، وتواضع هو لله عز وجل، فلم يغرق، وأرست عليه سفينة نوح عليه السلام.

وقال قتادة:استوت عليه شهرا حتى نـزلوا منها، قال قتادة:قد أبقى الله سفينة نوح، عليه السلام، على الجُودي من أرض الجزيرة عِبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رمادًا .

وقال الضحاك:الجُوديّ:جبل بالموصل:وقال بعضهم:هو الطور.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن رافع، حدثنا محمد بن عبيد، عن توبة بن سالم قال:رأيت زِرّ بن حُبَيش يصلي في الزاوية حين يُدخل من أبواب كِندة على يمينك فسألته إنك لكثير الصلاة هاهنا يوم الجمعة:! قال:بلغني أن سفينة نوح أرْسَتْ من هاهنا.

وقال عِلْباء بن أحمد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما، وإن الله وجّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما، ثم وجهها الله إلى الجُودِيّ فاستقرت عليه، فبعث نوح الغرابَ ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح، عليه السلام، أن الماء قد نضب، فهبط إلى أسفل الجُودِيّ، فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي. فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، وكان نوح عليه السلام يُعبّر عنهم.

وقال كعب الأحبار:إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجوديّ.

وقال قتادة وغيره:ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين واستقرت بهم على الجودي شهرًا، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم. وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير . وأنهم صاموا يومهم ذاك ، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو جعفر، حدثنا عبد الصمد بن حَبِيب الأزدي، عن أبيه حبيب بن عبد الله، عن شُبَيل، عن أبي هريرة قال:مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود، وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال:ما هذا الصوم؟ قالوا:هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجُودِيّ، فصامه نوح وموسى، عليهما السلام، شكرًا لله عز وجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم » . فصام، وقال لأصحابه: « من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه، ومن كان أصاب من غَذاء أهله، فليتم بقية يومه »

وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ولبعضه شاهدٌ في الصحيح .

وقوله: ( وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) أي:هلاكًا وخسارًا لهم وبعدا من رحمة الله، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم، فلم يبق لهم بقية.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث موسى بن يعقوب الزمعي، عن قائد - مولى عبيد الله بن أبي رافع - أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره:أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان نوح، عليه السلام، مكث في قومه ألف سنة [ إلا خمسين عاما ] ، يعني وغرس مائة سنة الشجر، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون:تعمل سفينة في البَرّ، فكيف تجري؟ قال:سوف تعلمون. فلما فرغ ونَبَع الماء، وصار في السكك خشِيت أمّ الصبي عليه، وكانت تحبه حبا شديدًا، فخرجت إلى الجبل، حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء [ ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء ] خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ رقبتها رفعته بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روي عن كعب الأحبار، ومجاهد بن جبر قصةُ هذا الصبي وأمه بنحو من هذا.

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ( 45 )

هذا سؤال استعلام وكشف من نوح، عليه السلام، عن حال ولده الذي غرق، ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) أي:وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدُك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟

 

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 46 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 47 )

( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي:الذين وعدت إنجاءهم ؛ لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك؛ ولهذا قال: وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [ هود:40 ] ، فكان هذا الولد ممن سَبَق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا، عليه السلام.

وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه، وإنما كان ابن زِنْية ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه، وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد، والحسن، وعُبَيد بن عُمَير، وأبي جعفر الباقر، وابن جُرَيج، واحتج بعضهم بقوله: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) وبقوله: فَخَانَتَاهُمَا [ التحريم:10 ] ، فممن قاله الحسن البصري، احتج بهاتين الآيتين. وبعضهم يقول:كان ابن امرأته. وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن، أو أراد أنه نسب إليه مجازا، لكونه كان ربيبًا عنده، فالله أعلم.

وقال ابن عباس، وغير واحد من السلف:ما زنت امرأة نبي قط، قال:وقوله: ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي:الذين وعدتك نجاتهم .

وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه، فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلى قوله إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [ النور:11- 15 ] .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة وغيره، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية. قال عكرمة:في بعض الحروف: « إنه عَمِل عملا غير صالح » ، والخيانة تكون على غير باب.

وقد ورد في الحديث أن رسول الله قرأ بذلك، فقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: « إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِح » ، وسمعته يقول : يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزمر:53 ] .

وقال أحمد أيضا:حدثنا وَكِيع، حدثنا هارون النحوي، عن ثابت البُنَاني، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أم سلمة أن رسول الله قرأها: « إنه عَمِل غَيْرَ صَالِح » .

أعاده أحمد أيضا في مسنده .

أم سلمة هي أم المؤمنين والظاهر - والله أعلم - أنها أسماء بنت يزيد، فإنها تكنى بذلك أيضا .

وقال عبد الرزاق أيضًا:أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قَتَّة قال:سمعت ابن عباس - سُئِل - وهو إلى جَنْب الكعبة - عن قول الله: فَخَانَتَاهُمَا [ التحريم:10 ] ، قال:أما وإنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل على الأضياف. ثم قرأ: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) قال ابن عيينة:وأخبرني عمار الدُهْبِي أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال:كان ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ قال:وقال بعض العلماء:ما فجرت امرأة نبي قط .

وكذا روي عن مجاهد أيضًا، وعكرمة، والضحاك، وميمون بن مِهْران وثابت بن الحجاج، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير، وهو الصواب [ الذي ] لا شك فيه.

[ وقوله ] :

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 48 )

يخبر تعالى عما قيل لنوح، عليه السلام، حين أرست السفينة على الجوديّ، من السلام عليه، وعلى من معه من المؤمنين، وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب:دخل في هذا السلام كلّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.

وقال محمد بن إسحاق:ولما أراد أن يكف الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض، فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر وأبواب السماء، يقول الله تعالى : وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] فجعل الماء ينقص ويَغيض ويُدْبِرُ، وكان استواء الفلك على الجودي، فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر، رُئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا، فتح نوح كُوّة الفُلْك التي ركب فيها، ثم أرسل الغرابَ لينظر له ما صنع الماء، فلم يرجع إليه. فأرسل الحمامة فرجعت إليه، لم تجد لرجليها موضعا، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها. ثم مضى سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له. فرجعت حين أمست، وفي فيها وَرَق زيتون فعلم نوح أن الماء قد قَلّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام، فلم ترجع، فعلم نوح أن الأرض قد بَرَزَت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين، برز وجه الأرض، وظهر اليَبَس وكشف نوح غطاء الفلك ورأى وجه الأرض، وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين، في سبع وعشرين ليلة منه ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ] ) [ إلى آخر ] الآية .

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( 49 )

يقول تعالى لنبيه [ ورسوله محمد ] صلى الله عليه وسلم . هذه القصة وأشباههَا ( مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ) يعني:من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها [ وجليتها ] ، كأنك شاهدها ، ( نُوحِيهَا إِلَيْكَ ) أي:نعلمك بها وحيا منا إليك، ( مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) أي:لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها، حتى يقول من يكذبك:إنك تعلمتها منه، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك، وأذاهم لك، فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا [ بإخوانك ] بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ] [ غافر:51- 52 ] وقال تعالى:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * [ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ] [ الصافات:171 - 173 ] ، وقال تعالى: ( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) .

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ( 50 ) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 51 ) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ( 52 )

يقول تعالى:ولقد أرسلنا، ( إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ) آمرا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيا لهم عن [ عبادة ] الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة، وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله، إنما يبغي ثوابه [ على ذلك وأجره ] من الله الذي فطره ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة .

ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة، وبالتوبة عما يستقبلون [ من الأعمال السابقة ] ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره وحفظ [ عليه ] شأنه [ وقوته ] ؛ ولهذا قال: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [ نوح:11 ] ، و [ كما جاء ] وفي الحديث: « من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب » .

قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 53 )

يخبر تعالى [ إخبارًا عن قوم هود ] أنهم قالوا لنبيهم: ( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) أي:بحجة [ ولا دلالة ] [ ولا ] وبرهان على ما تدعيه، ( وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ) أي:بمجرد قولك: « اتركوهم » نتركهم، ( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) [ أي ] بمصدقين،

إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 54 ) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ( 55 ) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 56 )

( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) يقولون:ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبَل في عقلك بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا ) [ أي أنتم أيضا ] ( أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ ) . يقول:إني بريء من جميع الأنداد والأصنام، ( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ) أي:أنتم وآلهتكم إن كانت حقا، [ فذروها تكيدني ] ، ( ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) أي:طرفة عين [ واحدة ] .

وقوله: ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) أي: [ هي ] تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه، فإنه على صراط مستقيم.

قال الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى: ( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال:فيأخذ بنواصي عباده فيلقى المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده ويقال للكافر: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [ الانفطار:6 ] .

وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جَمَاد لا تسمع ولا تبصر، ولا تُوالي ولا تُعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له، الذي بيده الملك، وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 57 ) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 58 ) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 59 ) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( 60 )

يقول لهم [ رسولهم ] هود:فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها، ( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) يعبدونه وحده لا يشركون به [ شيئًا ] ولا يبالي بكم:فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وَبَال ذلك عليكم، ( إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) أي:شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) وهو [ ما أرسل الله عليهم من ] الريح العقيم [ التي لا تمر بشيء إلا جعلته كالرميم ] فأهلكهم الله عن آخرهم، ونجى [ من بينهم رسولهم ] هودا وأتباعه [ المؤمنين ] من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه.

( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ) [ أي ] كفروا بها، وعَصَوا رسل الله، وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به، فعاد كفروا بهود، فنـزل كفرهم [ به ] منـزلة من كفر بجميع الرسل، ( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) تركوا اتباع رسولهم الرشيد، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. فلهذا أتبعوا في هذه الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد ، ( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ [ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ] ) .

قال السُّدِّي:ما بُعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ( 61 )

يقول تعالى:ولقد أرسلنا ( إِلَى ثَمُودَ ) وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد، فبعث الله منهم ( أَخَاهُمْ صَالِحًا ) فأمرهم بعبادة الله وحده [ لا شريك له الخالق الرازق ] ؛ ولهذا قال: ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) أي:ابتدأ خلقكم منها، [ من الأرض التي ] خلق منها أباكم آدم، ( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) أي:جعلكم [ فيها ] عُمَّارا تعمرونها وتستغلونها، لسالف ذنوبكم، ( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فيما تستقبلونه؛ ( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ الآية [ البقرة:186 ] .

قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 62 )

يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح، عليه السلام، وبين قومه، وما كان عليه قومه من الجهل والعناد في قولهم: ( قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ) أي:كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت! ( أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) وما كان عليه أسلافنا، ( وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) أي: [ في ] شك كثير .

 

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ( 63 )

( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان [ من الله ] ، ( وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ) وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني ( غَيْرَ تَخْسِيرٍ ) أي:خسارة.

وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( 64 ) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( 65 ) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 66 ) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 67 ) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ ( 68 )

وتقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة « الأعراف » بما أغنى عن إعادته ها هنا، وبالله التوفيق .

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( 69 ) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( 70 ) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( 71 )

يقول تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا وهم الملائكة، إبراهيم بالبشرى، قيل:تبشره بإسحاق، وقيل:بهلاك قوم لوط. ويشهد للأول قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [ هود:74 ] ، ( قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) أي:عليكم.

قال علماء البيان:هذا أحسن مما حَيّوه به؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام .

( فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ) أي:ذهب سريعا، فأتاهم بالضيافة، وهو عجل:فتى البقر، حَنِيذ: [ وهو ] مَشْوي [ شيًا ناضجًا ] على الرّضْف، وهي الحجارة المُحْماة.

هذا معنى ما روي عن ابن عباس [ ومجاهد ] وقتادة [ والضحاك، والسدي ] وغير واحد، كما قال في الآية الأخرى:فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [ الذاريات:26، 27 ] .

وقد تضمَّنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة.

وقوله: ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) تَنَكرهم، ( وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه؛ فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نَكرهم، ( وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ) .

قال السدّي:لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صُور رجال شبان حتى نـزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم [ إبراهيم ] أجَلَّهم، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فذبحه ثم شواه في الرضف . [ فهو الحنيذ حين شواه ] وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم فذلك حين يقول: « وامرأته قائمة وهو جالس » في قراءة ابن مسعود: « فلما قَربه إليهم قال ألا تأكلون قالوا:يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن. قال فإن لهذا ثمنا. قالوا وما ثمنه؟ قال:تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال:حُق لهذا أن يتخذه ربه خليلا » ، ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) يقول:فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم، وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت:عجبا لأضيافنا هؤلاء، [ إنا ] نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا نصر بن علي، [ حدثنا ] نوح بن قيس، عن عثمان بن مِحْصن في ضيف إبراهيم قال:كانوا أربعة:جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورفائيل. قال نوح بن قيس:فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم، فقرب إليهم العجل، مسحه جبريل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه، وأم العجل في الدار.

وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة: ( قَالُوا لا تَخَفْ [ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ] ) أي قالوا:لا تخف منا، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم . فضحكت سارة استبشارًا [ منها ] بهلاكهم، لكثرة فسادهم، وغِلَظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارة بالولد بعد الإياس.

وقال قتادة:ضحكت [ امرأته ] وعجبت [ من ] أن قوما يأتيهم العذاب وهم في غفلة [ فضحكت من ذلك وعجبت فبشرناها بإسحاق ] .

وقوله: ( وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) قال العوفي، عن ابن عباس: ( فَضَحِكَتْ ) أي:حاضت.

وقول محمد بن قيس:إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم - ضعيفان جدا، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما، فلا يلتفت إلى ذلك، والله أعلم.

وقال وهب بن مُنَبِّه:إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق. وهذا مخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مُرتبة على .

( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) أي:بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل؛ فإن يعقوب ولد إسحاق، كما قال في آية البقرة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ البقرة:133 ] .

ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق؛ لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده. ووعد الله حق لا خُلْفَ فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه، ولله الحمد.

 

قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( 72 ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ( 73 )

( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ] ) حكى قولها في هذه الآية، كما حكى فعلها في الآية الأخرى، فإنها: ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ) وفي الذاريات: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [ الذاريات:29 ] ، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب. ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) أي:قالت الملائكة لها، لا تعجبي من أمر الله، فإنه إذا أراد شيئًا أن يقول له: « كن » فيكون، فلا تعجبي من هذا، وإن كنت عجوزا [ كبيرة ] عقيما، وبعلك [ وهو زوجها الخليل عليه السلام، وإن كان ] شيخا كبيرا، فإن الله على ما يشاء قدير.

( رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) أي:هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود، ممجد في صفاته وذاته؛ ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا:قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال:قولوا: « اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على [ إبراهيم و ] آل إبراهيم، إنك حميد مجيد » .

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( 74 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ( 75 ) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( 76 )

يخبر تعالى عن [ خليله ] إبراهيم، عليه السلام، أنه لما ذهب عنه الروع، وهو ما أوْجَس من الملائكة خيفة، حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد [ وطابت نفسه ] وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يقول كما قال [ عنه ] سعيد بن جبير في الآية قال:لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ] [ العنكبوت:31 ] ، قال لهم [ إبراهيم ] أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا:لا. قال:أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا:لا. قال:أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا:لا. قال:ثلاثون؟ قالوا لا حتى بلغ خمسة قالوا:لا. قال:أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا:لا. فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ الآية [ العنكبوت:32 ] ، فسكت عنهم واطمأنت نفسه.

وقال قتادة وغيره قريبا من هذا - زاد ابن إسحاق:أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا:لا. قال:فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب، قالوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا [ لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ] [ العنكبوت:32 ] .

وقوله: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) مدح إبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها [ في سورة براءة ] .

وقوله: ( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ [ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ] ) أي:إنه قد نفذ فيهم القضاء، وحَقَّت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( 77 ) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( 78 ) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 )

يخبر تعالى عن قُدوم رسله من الملائكة بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم، وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة. فانطلقوا من عنده، فأتوا لوطا عليه السلام، وهو - على ما قيل - في أرض له [ يعمرها ] وقيل: [ بل كان ] في منـزله، ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون، على هيئة شبان حسان الوجوه، ابتلاء من الله [ واختبارا ] وله الحكمة والحجة البالغة، [ فنـزلوا عليه ] فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم، وخشي إن لم يُضِفْهم أن يضيفهم أحد من قومه، فينالهم بسوء، ( وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) .

قال ابن عباس [ ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق ] وغير واحد [ من الأئمة ] شديد بلاؤه وذلك أنه علم أنه سيدافع [ قومه ] عنهم، ويشق عليه ذلك.

وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له [ يعمل فيها ] فتضيّفوه فاستحيا منهم، فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق، كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه:إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء. ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم، حتى كرره أربع مرات قال قتادة:وقد كانوا أمروا ألا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.

وقال السدي:خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدون نصف النهار، ولقوا بنت لوط تستقي [ من الماء لأهلها وكانت له ابنتان اسم الكبرى رثيا والصغرى زغرتا ] فقالوا [ لها ] يا جارية، هل من منـزل؟ فقالت [ لهم ] مكانكم حتى آتيكم، وفَرقت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت:يا أبتاه، أدرك فتيانا على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم [ هي ] أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم، و [ قد ] كان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا:خل عنا فلْنُضِف الرجال. فجاء بهم، فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته فأخبرت قومها [ فقالت:إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط ] ، فجاءوا يهرعون إليه.

وقوله: ( يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) أي:يسرعون ويهرولون [ في مشيتهم ويجمرون ] من فرحهم بذلك [ وروي في هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة وشمر بن عطية وسفيان بن عيينة ] .

وقوله: ( وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) أي:لم يزل هذا من سجيتهم [ إلى وقت آخر ] حتى أخذوا وهم على ذلك الحال.

وقوله: ( قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبي للأمة بمنـزلة الوالد [ للرجال والنساء ] ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى:أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [ الشعراء:165، 166 ] ، وقوله في الآية الأخرى: قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ [ الحجر:70 ] أي:ألم ننهك عن ضيافة الرجال قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الحجر:71، 72 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة: ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) قال مجاهد:لم يكن بناته، ولكن كن من أمَّتِهِ، وكل نبي أبو أمَّتِه.

وكذا روي عن قتادة، وغير واحد.

وقال ابن جُرَيْج:أمرهم أن يتزوجوا النساء، ولم يعرض عليهم سفاحا.

وقال سعيد بن جبير:يعني نساءهم، هن بَنَاته، وهو أب لهم ويقال في بعض القراءات النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم.

وكذا روي عن الربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.

وقوله: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ) أي:اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم ، ( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) أي: [ ليس منكم رجل ] فيه خير، يقبل ما آمره به، ويترك ما أنهاه عنه؟

( قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ) أي:إنك تعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن، ( وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) أي:ليس لنا غرض إلا في الذكور، وأنت تعلم ذلك، فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك؟

قال السدي: ( وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) إنما نريد الرجال.

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 ) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ( 81 )

يقول تعالى مخبرًا عن نبيه لوط، عليه السلام:إن لوطا توعدهم بقوله : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ] ) أي:لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل [ من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم ] بنفسي وعشيرتي، ولهذا ورد في الحديث، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني:الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه » .

[ وروي من حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به، ومن حديث ابن لهيعة عن أبي يونس سمع أبا هريرة به وأرسله الحسن وقتادة ] .

فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رُسل الله إليه، و [ وبشروه ] أنهم لا وصول لهم إليه [ ولا خلوص ] ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل، وأن يتَّبع أدبارهم، أي:يكون ساقة لأهله، ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) أي:إذا سمعت ما نـزل بهم، ولا تهولنَّكم تلك الأصوات المزعجة، ولكن استمروا ذاهبين [ كما أنتم ] .

( إِلا امْرَأَتَكَ ) قال الأكثرون:هو استثناء من المثبت وهو قوله: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ) تقديره ( إِلا امْرَأَتَكَ ) وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك؛ لأنه من مثبت ، فوجب نصبه عندهم.

وقال آخرون من القراء والنحاة:هو استثناء من قوله: ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ ) فجَّوزوا الرفع والنصب، وذكر هؤلاء [ وغيرهم من الإسرائيليات ] أنها خرجت معهم، وأنها لما سمعت الوَجْبَة التفتت وقالت واقوماه. فجاءها حجر من السماء فقتلها .

ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرًا له؛ لأنه قال لهم: « أهلكوهم الساعة » ، فقالوا: ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) هذا وقومُ لُوطِ وقُوف على الباب وعُكوف قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب، ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه، وهم لا يقبلون منه، بل يتوعدونه، فعند ذلك خرج عليهم جبريل، عليه السلام، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق، كما قال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * [ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ] [ القمر:37 - 39 ] .

وقال مَعْمَر، عن قتادة، عن حذيفة بن اليمان قال:كان إبراهيم، عليه السلام، يأتي قوم لوط، فيقول:أنَهاكم الله أن تَعَرّضوا لعقوبته؟ فلم يطيعوه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله [ لمحل عذابهم وسطوات الرب بهم قال ] انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة فقالوا:إنا ضيوفك الليلة، وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شَهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشر [ والدواهي العظام ] ، فمشى معهم ساعة، ثم التفت إليهم فقال:أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم. أين أذهب بكم؟ إلى قومي وهم [ من ] أشر خلق الله، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال:احفظوها هذه واحدة. ثم مشى معهم ساعة، فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال:أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم، إن قومي أشر خلق الله. فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال:احفظوا، هاتان اثنتان، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال إن قومي أشر من خلق الله؟ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرًا منهم. فقال جبريل للملائكة:احفظوا، هذه ثلاث، قد حق العذاب. فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يُهرَعون سراعا، قالوا:ما عندك؟ قالت:ضَيَّف لوطًا قوم ما رأيت قط أحسن وجوها منهم، ولا أطيب ريحًا منهم. فهُرعوا يسارعون إلى الباب، فعالجهم لوط على الباب، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول: ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) فقام الملك فَلَزّ بالباب - يقول فسده - واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه. ولجبريل جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا، أجلى الجبين، ورأسه حُبُكٌ حُبُك مثل المرجان وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، ورجلاه إلى الخضرة. فقال يا لوط: ( إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم، فتنحى لوط عن الباب، فخرج إليهم، فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربة شدخ أعينهم، فصاروا عُمْيًا لا يعرفون الطريق [ ولا يهتدون بيوتهم ] ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) .

وروي عن محمد بن كعب [ القرظي ] وقتادة، والسدي نحو هذا.

 

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ( 82 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( 83 )

يقول تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) وكان ذلك عند طلوع الشمس، ( جَعَلْنَا عَالِيَهَا ) وهي [ قريتهم العظيمة وهي ] سَدُوم [ ومعاملتها ] ( سَافِلَهَا ) كقوله [ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ] * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [ النجم:53، 54 ] أي:أمطرنا عليها حجارة من « سجيل » وهي بالفارسية:حجارة من طين، قاله ابن عباس وغيره.

وقال بعضهم:أي من « سنك » وهو الحجر، و « كل » وهو الطين، وقد قال في الآية الأخرى: حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [ الذاريات:33 ] أي:مستحجرة قوية شديدة. وقال بعضهم:مشوية، [ وقال بعضهم:مطبوخة قوية صلبة ] وقال البخاري. « سِجيل » :الشديد الكبير. سجيل وسجين واحد، اللام والنون أختان، وقال تميم بن مُقبِل:

وَرَجْلَـةٍ يَضْربُـون البَيْـضَ ضَاحِيـةٌ ضَرْبًــا تــواصَت بــه الأبطـال سِجّينا

وقوله: ( مَنْضُودٍ ) قال بعضهم:منضودة في السماء، أي:معدة لذلك.

وقال آخرون: ( مَنْضُودٍ ) أي:يتبع بعضها بعضا في نـزولها عليهم.

وقوله: ( مُسَوَّمَةً ) أي مُعْلمَة مختومة، عليها أسماء أصحابها، كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينـزل عليه.

وقال قتادة وعِكْرِمة: ( مُسَوَّمَةً ) [ أي ] مُطَوّقة، بها نَضْحٌ من حُمّرٍة.

وذكروا أنها نـزلت على أهل البلد، وعلى المتفرقين في القرى مما حولها، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدّث، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس، فدّمره، فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد، حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد.

وقال مجاهد:أخذ جبريلُ قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نُباح كلابهم ثم أكفأهم [ وقال ] وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن. قال:ولما قلبها كان أول ما سقط منها شُذانها .

وقال قتادة:بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى، ثم ألوَى بها إلى جو السماء، حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض، ثم أتبع شُذّاذ القوم سُخْرًا - قال:وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى، في كل قرية مائة ألف - وفي رواية: [ كانوا ] ثلاث قرى، الكبرى منها سَدُوم. قال:وبلغنا أن إبراهيم، عليه السلام، كان يشرف على سدوم، ويقول:سدوم، يومٌ، ما لَك؟.

وفي رواية عن قتادة وغيره:بلغنا أن جبريل عليه السلام، لما أصبح نشر جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصُورها ودوابها وحجارتها وشجرها، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها، فأرسلها إلى الأرض منكوسة، وَدَمْدَم بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل.

وقال محمد بن كعب القُرَظي:كانت قرى قوم لوط خمس قريات: « سدوم » ، وهي العظمى، و « صعبة » و « صعوة » و « عثرة » و « دوما » ، احتملها جبريل بجناحه، ثم صعد بها، حتى إنّ أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها، وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها، ثم أتبعها الله بالحجارة، يقول الله تعالى: ( جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات.

وقال السدي:لما أصبح قوم لوط، نـزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ بها السماء، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم، فذلك قوله وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [ النجم:53 ] ، ومن لم يمت حين سقط للأرض، أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله، فذلك قوله عز وجل: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ أي:في القرى حجارة من سجيل. هكذا قال السدي.

وقوله: ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) أي:وما هذه النقمة ممن تَشَبَّه بهم في ظلمهم، ببعيد عنه.

وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعًا « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به » .

وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل، سواء كان محصنًا أو غير محصن، عملا بهذا الحديث.

وذهب الإمام أبو حنيفة [ رحمه الله إلى ] أنه يلقى من شاهق، ويُتبَع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ( 84 )

يقول تعالى:ولقد أرسلنا إلى مدين - وهم قبيلة من العرب، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام، قريبًا من بلاد معان، في بلد يعرف بهم، يقال لها « مدين » فأرسل الله إليهم شعيبا، وكان من أشرفهم نسبًا. ولهذا قال: ( أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان ( إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) أي:في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله، ( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) أي:في الدار الآخرة.

وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 85 ) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 86 )

ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين، ونهاهم عن العيث في الأرض بالفساد، وقد كانوا يقطعون الطريق.

وقوله: ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ) قال ابن عباس:رزق الله خَيْر لكم.

وقال الحسن:رزق الله خير [ لكم ] من بخسكم الناس.

وقال الربيع بن أنس:وصية الله خير لكم.

وقال مجاهد:طاعة الله [ خير لكم ] .

وقال قتادة:حظكم من الله خير لكم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: « الهلاك » في العذاب، و « البقية » في الرحمة.

وقال أبو جعفر بن جرير: ( بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ) أي:ما يفضُل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان ( خَيْرٌ لَكُمْ ) أي:من أخذ أموال الناس قال:وقد روي هذا عن ابن عباس.

قلت:ويشبه قوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [ المائدة:100 ] .

وقوله: ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) أي:برقيب ولا حفيظ، أي:افعلوا ذلك لله عز وجل. لا تفعلوه ليراكم الناس، بل لله عز وجل.

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( 87 )

يقولون له على سبيل التهكم، قَبَّحهم الله: ( أَصَلاتُكَ ) ، قال الأعمش:أي:قرآنك ( تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) أي:الأوثان والأصنام، ( أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) فنترك التطفيف على قولك، هي أموالنا نفعل فيها ما نريد.

[ قال الحسن ] في قوله: ( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إيْ والله، إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم.

وقال الثوري في قوله: ( أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) يعنون الزكاة.

وقولهم: ( إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) قال ابن عباس، وميمون بن مِهْرَان، وابن جُرَيْج، وابن أسلم، وابن جرير:يقولون ذلك - أعداء الله - على سبيل الاستهزاء، قبحهم الله ولعنهم عن رحمته، وقد فَعَلْ.

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 88 )

يقول لهم أرأيتم يا قوم ( إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي:على بصيرة فيما أدعو إليه، ( وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) قيل:أراد النبوة. وقيل:أراد الرزق الحلال، ويحتمل الأمرين.

وقال الثوري: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) أي:لا أنهاكم عن شيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، كما قال قتادة في قوله: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) يقول:لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركَبَه ( إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) أي:فيما آمركم وأنهاكم، إنما مرادي إصلاحكم جهدي وطاقتي، ( وَمَا تَوْفِيقِي ) أي:في إصابة الحق فيما أريده ( إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) في جميع أموري، ( وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) أي:أرجع، قاله مجاهد وغيره.

قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو قَزْعَةَ سُوَيد بن حُجَير الباهلي، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه:أن أخاه مالكًا قال:يا معاوية، إن محمدًا أخذ جيراني، فانطَلق إليه، فإنه قد كلمك وعرفك، فانطلقت معه فقال:دع لي جيراني، فقد كانوا أسلموا. فأعرض عنه. [ فقام مُتَمَعطًا ] فقال:أما والله لئن فَعلتَ إن الناس يزعمون أنك تأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. وجعلت أجرّه وهو يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما تقول؟ » فقال:إنك والله لئن فعلت ذلك. إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. قال:فقال: « أوَ قد قالوها - أو قائلهم - ولئن فعلت ذلك ما ذاك إلا عليّ، وما عليهم من ذلك من شيء، أرسلوا له جيرانه » .

وقال أحمد أيضا:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال:أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا من قومي في تُهَمة فحبسهم، فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال:يا محمد، علام تحبس جيرتي؟ فصَمت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عنه ] فقال:إن ناسًا ليقولون:إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما يقول؟ » قال:فجعلت أعرض بينهما الكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دَعوة لا يفلحون بعدها أبدًا، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها، فقال: « أو قد قالوها - أو:قائلها منهم - والله لو فعلتُ لكان عليّ وما كان عليهم، خلوا له عن جيرانه » .

ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر، حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال:سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تُنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه » .

هذا إسناد صحيح، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل:اللهم، افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل:اللهم، إني أسألك من فضلك » .

ومعناه - والله أعلم - :مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه، ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ [ عَنْهُ ] ) .

وقال قتادة، عن عَزْرَة عن الحسن العُرَني، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق، أن امرأة جاءت ابن مسعود قالت أتنهى عن الواصلة؟ قال:نعم. فقالت [ المرأة ] فلعله في بعض نسائك؟ فقال:ما حفظت إذا وصية العبد الصالح: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) .

وقال عثمان بن أبي شيبة:حدثنا جرير، عن أبي سليمان العتبي قال:كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي، فيكتب في آخرها:وما كانت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح: ( وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ( 89 ) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ( 90 )

يقول لهم: ( وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ) أي:لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط من النقمة والعذاب.

قال قتادة: ( وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ) يقول:لا يحملنكم فراقي.

وقال السدي:عداوتي، على أن تتمادوا في الضلال والكفر، فيصيبكم من العذاب ما أصابهم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، حدثنا ابن أبي غَنيَّة، حدثني عبد الملك بن أبي سليمان، عن أبي ليلى الكندي قال:كنت مع مولاي أمسك دابته، وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان؛ إذ أشرف علينا من داره فقال: ( وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ) يا قوم، لا تقتلوني، إنكم إن تقتلوني كنتم هكذا، وشَبَّك بين أصابعه.

وقوله: ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) [ قيل:المراد في الزمان، كما قال قتادة في قوله: ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) يعني ] إنما أهلكوا بين أيديكم بالأمس، وقيل:في المكان، ويحتمل الأمران، ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي:استغفروه من سالف الذنوب، وتوبوا فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) أي:لمن تاب وأناب.

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ( 91 ) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( 92 )

يقولون: ( يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ) أي:ما نفهم ولا نعقل كثيرًا من قولك، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب. ( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) .

قال سعيد بن جبير، والثوري:كان ضرير البصر. قال الثوري:وكان يقال له:خطيب الأنبياء.

[ وقال السدي: ( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) قال:أنت واحد ] .

[ وقال أبو روق: ( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) يعنون:ذليلا؛ لأن عشيرتك ليسوا على دينك، فأنت ذليل ضعيف ] .

( وَلَوْلا رَهْطُكَ ) أي:قومك وعشيرتك؛ لولا معزة قومك علينا لرجمناك، قيل بالحجارة، وقيل:لسبَبْنَاك، ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) أي:ليس لك عندنا معزة.

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ) يقول:أتتركوني لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاما لجناب الله أن تنالوا نبيه بمساءة. وقد اتخذتم جانب الله ( وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) أي:نبذتموه خلفكم، لا تطيعونه ولا تعظمونه، ( إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) أي:هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها.

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ( 93 ) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 94 ) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ( 95 )

لما يئس نبيّ الله شعيب من استجابة قومه له، قال:يا قوم، ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي:على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد شديد، ( إِنِّي عَامِلٌ ) على طريقتي ومنهجي ( سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) أي:في الدار الآخرة، ( وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ) أي:مني ومنكم، ( وَارْتَقِبُوا ) أي:انتظروا ( إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

قال الله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) وهم قومه، ( الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) وقوله ( جَاثمِيِنَ ) أي:هامدين لا حِرَاك بهم. وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقَمُ كلها. وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، ففي الأعراف لما قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا [ الأعراف:88 ] ، ناسب أن يذكر هناك الرجفة، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها، وأرادوا إخراج نبيهم منها، وهاهنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسب ذكر الصيحة التي أسكتتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ الشعراء:187 ] ، قال فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ الشعراء:189 ] ، وهذا من الأسرار الغريبة الدقيقة، ولله الحمد والمنة كثيرًا دائمًا.

وقوله: ( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) أي:يعيشوا في دارهم قبل ذلك، ( أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) وكانوا جيرانهم قريبًا منهم في الدار، وشبيهًا بهم في الكفر وقَطْع الطريق، وكانوا عرَبا شبههم.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 96 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( 97 )

يقول تعالى مخبرًا عن إرسال موسى، عليه السلام، بآياته وبيناته، وحججه ودلائله الباهرة القاطعة إلى فرعون لعنه الله، وهو ملك ديار مصر على أمة القبط، ( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) أي:مسلكه ومنهجه وطريقته في الغي والضلال، ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) أي:ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال، وكفر وعناد، وكما أنهم اتبعوه في الدنيا، وكان مُقَدمهم ورئيسهم، كذلك هو يُقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم، فأوردهم إياها، وشربوا من حياض رَدَاها، وله في ذلك الحظ الأوفر، من العذاب الأكبر، كما قال تعالى: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [ المزمل:16 ] ، وقال تعالى: فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [ النازعات:21 - 26 ] ،

 

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ( 98 ) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ( 99 )

وقال تعالى: ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) وكذلك شأن المتبوعين يكونون مُوفرين في العذاب يوم المعاد، كما قال تعالى: [ قَالَ ] لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:38 ] ، وقال تعالى إخبارًا عن الكَفَرة أنهم يقولون في النار: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [ الأحزاب:67، 68 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار » .

وقوله: ( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي:أتبعناهم زيادة على ما جازيناهم من عذاب النار لعنة في هذه الحياة الدنيا، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) .

قال مجاهد:زيدوا لعنة يوم القيامة، فتلك لعنتان.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) قال:لعنة الدنيا والآخرة، وكذا قال الضحاك، وقتادة، وهكذا قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [ القصص:41، 42 ] ، وقال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ غافر:46 ] .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ( 100 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( 101 )

لما ذكر تعالى خبر هؤلاء الأنبياء، وما جرى لهم مع أممهم، وكيف أهلك الكافرين ونَجّى المؤمنين قال: ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى ) أي:من أخبارها ( نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ ) أي:عامر، ( وَحَصِيدٌ ) أي:هالك دائر، ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ) أي:إذ أهلكناهم، ( وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي:بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم، ( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ) أي:أصنامهم وأوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها، ( مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) أي:ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم، ( وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) .

قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما:أي غير تخسير، وذلك أن سبب هلاكهم ودَمَارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة وعبادتهم إياها فبهذا أصابهم ما أصابهم، وخسروا بهم، في الدنيا والآخرة.

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( 102 )

يقول تعالى:وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم وأشباههم وأمثالهم، ( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ( 103 ) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( 104 ) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ( 105 )

واعتبارا على صدق موعُودنا في الدار الآخرة، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ غافر:51 ] ، وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [ إبراهيم:13، 14 ] .

وقال تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي:أولهم وآخرهم، فلا يبقى منهم أحد، كما قال: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ] .

( وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) أي:يوم عظيم تحضره الملائكة كلهم، ويجتمع فيه الرسل جميعهم، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيهم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها.

وقوله: ( وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ ) أي:ما نؤخر إقامة يوم القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله وقضاؤه وقدره، في وجود أناس معدودين من ذرية آدم، وضرب مدة معينة إذا انقضت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم من ذرية آدم، أقام الله الساعة؛ ولهذا قال: ( وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ ) أي:لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها، ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ) يقول:يوم يأتي هذا اليوم وهو يوم القيامة، لا يتكلم أحد [ يومئذ ] إلا بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ النبأ:38 ] ، وقال تعالى: وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا [ طه:108 ] ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: « ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ:اللهُم سَلّم سلّم » .

وقوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) أي:فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد، كما قال: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [ الشورى:7 ] .

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده:حدثنا موسى بن حيان، حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا سليمان بن سفيان، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنه، قال:لما نـزلت ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) سألت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، علام نعمل ؟ على شيء قد فُرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: « على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام، ولكن كل ميسر لما خلق له » .

ثم بين تعالى حال الأشقياء وحال السعداء، فقال:

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( 106 ) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ( 107 )

يقول تعالى: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) قال ابن عباس:الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر أي:تنفسهم زفير، وأخذهم النفس شهيق، لما هم فيه من العذاب، عياذا بالله من ذلك.

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ ) قال الإمام أبو جعفر بن جرير:من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: « هذا دائم دوامَ السموات والأرض » ، وكذلك يقولون:هو باق ما اختلف الليلُ والنهار، وما سمر ابنا سَمير، وما لألأت العُفْر بأذنابها. يعنون بذلك كلمة: « أبدا » ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم، فقال: ( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ ) .

قلت:ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض:الجنس؛ لأنه لا بدّ في عالم الآخرة من سموات وأرض، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [ إبراهيم:48 ] ؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله: ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ ) قال:تبدل سماء غير هذه السماء، وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ ) قال:لكل جنة سماء وأرض.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:ما دامت الأرض أرضًا، والسماء سماءً.

وقوله: ( إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) كقوله تعالى: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ الأنعام:128 ] .

وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء، على أقوال كثيرة، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه « زاد المسير » وغيره من علماء التفسير، ونقل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن مَعْدَان، والضحاك، وقتادة، وأبي سِنَان، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا:أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، من الملائكة والنبيين والمؤمنين، حين يشفعون في أصحاب الكبائر، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط، وقال يوما من الدهر:لا إله إلا الله. كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها. وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن مسعود ، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وأبي سعيد، من الصحابة. وعن أبي مِجْلَز، والشعبي، وغيرهما من التابعين. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة - أقوال غريبة. وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير، عن أبي أمامة صُدَىّ بن عَجْلان الباهلي، ولكن سنده ضعيف، والله أعلم.

وقال قتادة:الله أعلم بثنياه.

وقال السدي:هي منسوخة بقوله: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [ النساء:57 ] .

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( 108 )

يقول تعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ) وهم أتباع الرسل، ( فَفِي الْجَنَّةِ ) أي:فمأواهم الجنة، ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:ماكثين مقيمين فيها أبدا، ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) معنى الاستثناء هاهنا:أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم، ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فله المنة عليهم [ دائمًا ] ، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفس.

وقال الضحاك، والحسن البصري:هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار، ثم أخرجوا منها. وعقب ذلك بقوله: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي:غير مقطوع - قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية وغير واحد، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعًا، أو لبسا، أو شيئًا بل ختم له بالدوام وعدم الانقطاع. كما بين هنا أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته، وأنه بعَدْله وحكمته عذبهم؛ ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [ هود:107 ] كَمَا قَالَ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ الأنبياء:23 ] ، وهنا طيب القلوب وثَبَّت المقصود بقوله: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ )

يا أهل الجنة، خُلُود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت .

وفي الصحيحين أيضا: « فيقال يا أهل الجنة، إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهْرَموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبَأسوا أبدا » .

 

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ( 109 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 110 ) وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 111 )

يقول تعالى: ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ ) المشركون، إنه باطل وجَهل وضلال، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، أي:ليس لهم مُستَنَد فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات، وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء فيعذب كافرهم عذابًا لا يعذبه أحدا من العالمين، وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة.

قال سفيان الثوري، عن جابر الجُعْفي، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ) قال:ما وعدوا فيه من خير أو شر.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص. ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب، فاختلف الناس فيه، فمن مؤمن به، ومن كافر به فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة، فلا يغيظنك تكذيبهم لك، ولا يهيدنَّك ذلك.

( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) قال ابن جرير:لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم، لقضى الله بينهم.

ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة، أنه لا يعذب أحدا إلا بعدم قيام الحجة عليه، وإرسال الرسول إليه، كما قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] ؛ فإنه قد قال في الآية الأخرى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ طه:129، 130 ] .

ثم أخبر أن الكافرين في شك - مما جاءهم به الرسول - قوي، فقال ( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) .

ثم أخبرنا تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم، ويجزيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فقال: ( وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:عليم بأعمالهم جميعها، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها.

وفي هذه الآية قراءات كثيرة، ويرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه، كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [ يس:32 ] .

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 112 ) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 113 )

يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مَصرَعة حتى ولو كان على مشرك. وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء.

وقوله: ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لا تُدهنُوا وقال العوفي، عن ابن عباس:هو الركون إلى الشرك.

وقال أبو العالية:لا ترضوا أعمالهم.

وقال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس:ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن، أي:لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم، ( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) أي:ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه.

وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ( 114 ) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 115 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) قال:يعني الصبح والمغرب وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال الحسن - في رواية - وقتادة، والضحاك، وغيرهم:هي الصبح والعصر.

وقال مجاهد:هي الصبح في أول النهار، والظهر والعصر من آخره. وكذا قال محمد بن كعب القُرَظي، والضحاك في رواية عنه.

وقوله: ( وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغيرهم:يعني صلاة العشاء.

وقال الحسن - في رواية ابن المبارك، عن مبارك بن فَضَالة، عنه: ( وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) يعني المغرب والعشاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هما زُلْفَتَا الليل:المغرب والعشاء » . وكذا قال مجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة، والضحاك:إنها صلاة المغرب والعشاء.

وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نـزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء؛ فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان:صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة، ثم نسخ في حق الأمة، وثبت وجوبه عليه، ثم نسخ عنه أيضًا، في قول، والله أعلم.

وقوله: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) يقول:إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال:كنت إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني عنه أحد استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من مسلم يذنب ذنبا، فيتوضأ ويصلي ركعتين، إلا غفر له » .

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان:أنه توضأ لهم كوضُوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:هكذا رأيتُ رسول الله يتوضأ، وقال: « من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه » .

وروى الإمام أحمد، وأبو جعفر بن جرير، من حديث أبي عَقِيل زُهْرَة بن مَعْبَد:أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول:جلس عثمان يوما وجلسنا معه، فجاءه المؤذن فدعا عثمان بماء في إناء أظنه سيكون فيه قدر مُدّ، فتوضأ، ثم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: « من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلى صلاة الظهر، غُفِر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات » .

وفي الصحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرًا غَمْرًا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يُبقي من درنه شيئا؟ » قالوا:لا يا رسول الله:قال: « وكذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الذنوب والخطايا » .

وقال مسلم في صحيحه:حدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد قالا حدثنا ابن وَهْب، عن أبي صخر:أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حَدَثه عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفِّرَات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا الحَكَم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، أن أبا رُهْم السمعي كان يحدّث:أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « إن كل صلاة تحطّ ما بين يديها من خطيئة »

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبي، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « جعلت الصلوات كفارات لما بينهن؛ فإن الله قال: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) » .

وقال البخاري:حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود؛ أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنـزل الله: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) فقال الرجل:إلى هذا يا رسول الله؟ قال: « لجميع أمتي كلهم » .

هكذا رواه في كتاب الصلاة، وأخرجه في التفسير عن مُسَدَّد، عن يزيد بن زُرَيع، بنحوه ورواه مسلم، وأحمد، وأهل السنن إلا أبا داود، من طرق عن أبي عثمان النهدي، واسمه عبد الرحمن بن مُلّ، به .

وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير - وهذا لفظه - من طُرُق:عن سِمَاك بن حرب:أنه سمع إبراهيم بن يزيد يُحدِّث عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قَبَّلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فذهب الرجل، فقال عمر:لقد ستر الله عليه، لو ستر على نفسه. فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرَه ثم قال: « ردوه عليّ » . فردّوه عليه، فقرأ عليه: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فقال معاذ - وفي رواية عمر - :يا رسول الله، أله وحده، أم للناس كافة؟ فقال: « بل للناس كافة » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مُرّة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه » . قال:قلنا:وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال: « غشه وظلمه، ولا يكسِبُ عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زادَه إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث » .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو السائب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال:كان فلان ابن معتب رجلا من الأنصار، فقال:يا رسول الله، دخلت على امرأة فنِلْتُ منها ما ينال الرجل من أهله، إلا أني لم أجامعها فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه، حتى نـزلت هذه الآية: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فدعاه رسول الله، فقرأها عليه .

وعن ابن عباس:أنه عمرو بن غَزِيَّة الأنصاري التمار. وقال مقاتل:هو أبو نفيل عامر بن قيس الأنصاري، وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليَسر:كعب بن عمرو.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يونس وعفان قالا حدثنا حماد - يعني:ابن سلمة - عن علي بن زيد - قال عفان:أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مٍهْران، عن ابن عباس؛ أن رجلا أتى عمر قال امرأة جاءت تبايعه، فأدخلتها الدولج، فأصبت منها ما دون الجماع، فقال:ويحك. لعلها مُغِيبة في سبيل الله؟ قال:أجل. قال:فائت أبا بكر فاسأله قال:فأتاه فسأله، فقال:لعلها مُغيبة في سبيل الله؟ فقال مثل قول عمر، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ذلك، قال: « فلعلها مُغيبة في سبيل الله » . ونـزل القرآن: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) إلى آخر الآية، فقال:يا رسول الله، ألي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب - يعني:عمر - صدره بيده وقال:لا ولا نُعمَة عين، بل للناس عامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « صدق عمر » .

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير من حديث قيس بن الربيع، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال:أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرا، فقلت:إن في البيت تمرا أطيب وأجود من هذا، فدخلت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت عمر فسألته، فقال:اتق الله، واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحدا. فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر فسألته، فقال:اتق الله، واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحدا. قال:فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: « أخَلَفتَ رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟ » حتى ظننت أني من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ. فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، فنـزل جبريل، فقال: « [ أين ] أبو اليسر؟ » . فجئت، فقرأ علي: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) إلى ( ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) فقال إنسان:يا رسول الله، أله خاصة أم للناس عامة؟ قال « لِلنَّاس عامة » .

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني:حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل؛ أنه كان قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال:يا رسول الله، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له، فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته إلا قد أصاب منها، غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « توضأ وضوءا حَسَنا، ثم قم فصل » قال:فأنـزل الله عز وجل هذه الآية، يعني قوله: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) فقال معاذ:أهي له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: « بل للمسلمين عامة » .

ورواه ابن جرير من طرق، عن عبد الملك بن عمير، به .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة؛ أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه لحاجة، فأذن له، فذهب يطلبها فلم يجدها، فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر، فوجد المرأة جالسة على غدير، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها، فصار ذكره مثل الهُدْبة، فقام نادما حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال له: « استغفر ربك، وصلّ أربع ركعات » . قال:وتلا عليه: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) الآية .

وقال ابن جرير:حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبّويه، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، عن سليم بن عامر؛ أنه سمع أبا أمامة يقول:إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله ، أقم فيّ حد الله - مرة أو ثنْتِين - فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقيمت الصلاة، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: « أين هذا الرجل القائل:أقم فيّ حد الله؟ » قال:أنا ذا:قال: « أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ » قال:نعم. قال: « فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك، ولا تعد » . وأنـزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد، عن أبي عثمان قال:كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة، فأخذ منها غُصْنا يابسا فهزّه حتى تحاتَّ ورقة ، ثم قال:يا أبا عثمان، ألا تسألني لم أفعل هذا؟ فقلت:لم تفعله ؟ قال:هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه تحت شجرة، فأخذ منها يابسا فهزه حتى تحات ورقة، فقال: « يا سلمان، ألا تسألني:لم أفعل هذا؟ » . قلت:ولم تفعله؟ فقال: « إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس، تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق » . وقال: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ )

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: « يا معاذ، أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » .

وقال الإمام أحمد، رضي الله عنه:حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » .

وقال أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَمْر بن عطية، عن أشياخه، عن أبي ذر قال:قلت:يا رسول الله، أوصني. قال: « إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها » . قال:قلت:يا رسول الله، أمن الحسنات:لا إله إلا الله؟ قال: « هي أفضل الحسنات » .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا هذيل بن إبراهيم الجُمَّاني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الزهري، من ولد سعد بن أبي وقاص، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما قال عَبْد:لا إله إلا الله، في ساعة من ليل أو نهار، إلا طَلَست ما في الصحيفة من السيئات، حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات » .

عثمان بن عبد الرحمن، يقال له:الوقاصي. فيه ضعف.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا بشر بن آدم وزيد بن أخرم قالا حدثنا الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا مستور بن عباد، عن ثابت، عن أنس؛ أن رجلا قال:يا رسول الله، ما تركت من حاجة ولا داجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ » . قال:بلى. قال: « فإن هذا يأتي على ذلك » .

تفرد به من هذا الوجه مستور.

فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ( 116 ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( 117 )

يقول تعالى:فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض.

وقوله: ( إِلا قَلِيلا ) أي:قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، لم يكونوا كثيرا، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَره، وفجأة نِقَمه؛ ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ آل عمران:104 ] . وفي الحديث: « إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه، أوشك أن يَعُمَّهُم الله بعقاب » ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ) .

وقوله: ( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ) أي:استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك، حتى فَجَأهم العذابُ، ( وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ) .

ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة [ لنفسها ] ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين، كما قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ هود:101 ] ، وقال وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [ فصلت:46 ] .

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( 118 ) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 119 )

يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [ يونس:99 ] .

وقوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) أي:ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم.

قال عكرمة: ( مُخْتَلِفِينَ ) في الهدى . وقال الحسن البصري: ( مُخْتَلِفِينَ ) في الرزق، يُسخّر بعضهم بعضا، والمشهورُ الصحيح الأول.

وقوله: ( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) أي:إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين . أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا: « إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة » . قالوا:ومن هم يا رسول الله؟ قال: « ما أنا عليه وأصحابي » .

رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة

وقال عطاء: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) يعني:اليهود والنصارى والمجوس ( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) يعني:الحنَيفيَّة.

وقال قتادة:أهلُ رحمة الله أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم.

وقوله: ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال الحسن البصري - في رواية عنه - :وللاختلاف خَلَقهم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:خلقهم فريقين، كقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [ هود:105 ] .

وقيل:للرحمة خلقهم. قال ابن وهب:أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجِيح، عن طاوس؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس:اختلفتما فأكثرتما ! فقال أحد الرجلين:لذلك خلقنا. فقال طاوس:كذبت. فقال:أليس الله يقول: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال:لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة. كما قال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة. ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [ الذاريات:56 ] .

وقيل:بل المراد:وللرحمة والاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال:الناس مختلفون على أديان شتى، ( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) فمن رحم ربك غير مختلف. قيل له:فلذلك خلقهم؟ [ قال ] خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.

وكذا قال عطاء بن أبي رَبَاح، والأعمش.

وقال ابن وَهْب:سألت مالكا عن قوله تعالى: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال:فريق في الجنة وفريق في السعير.

وقد اختار هذا القول ابن جرير، وأبو عبيدة والفراء.

وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير: ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال:للرحمة، وقال قوم:للاختلاف.

وقوله: ( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره، لعلمه التام وحكمته النافذة، أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة والحكمة التامة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة:ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم؟ وقالت النار:أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. فقال الله عز وجل للجنة، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار:أنت عذابي، أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة فلا يزال فيها فضل، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول:هل من مزيد؟ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه، فتقول:قَطْ قط، وعزتك » .

وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 120 )

يقول تعالى:وكل أخبار نقصها عليك، من أنباء الرسل المتقدمين قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين - كل هذا مما نثبت به فؤادك - يا محمد - أي:قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسْوةً.

وقوله: ( وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ) أي: [ في ] هذه السورة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وجماعة من السلف. وعن الحسن - في رواية عنه - وقتادة:في هذه الدنيا.

والصحيح:في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نَجّاهم الله والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قَصَصُ حق، ونبأ صدق، وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتوقر بها المؤمنون.

وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ( 121 ) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 122 )

يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد: ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي:على طريقتكم ومنهجكم، ( إِنَّا عَامِلُونَ ) أي:على طريقتنا ومنهجنا، ( وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) أي:فستعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون.

وقد أنجز الله لرسوله وعده، ونصره وأيده، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 123 )

يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض، وأنه إليه المرجع والمآب، وَسيُوَفِّى كل عامل عمله يوم الحساب، فله الخلق والأمر. فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه؛ فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه.

وقوله: ( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي:ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد، بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين. وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال:خاتمة « التوراة » خاتمة « هود » [ والله أعلم ] تم تفسير سورة هود.

 

أعلى