فهرس السور

53 - تفسير القرطبي سورة النجم

التالي السابق

سورة النجم

مقدمة السورة

 

مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: « الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش » [ النجم: 32 ] الآية. وقيل: اثنتان وستون آية. وقيل: إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفي « البخاري » عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وعن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد؛ فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبدالله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، متفق عليه. الرجل يقال له أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة « والنجم إذا هوى » [ النجم : 1 ] فلم يسجد. وقد مضى في آخر « الأعراف » القول في هذا والحمد لله.

 

الآيات: 1 - 10 ( والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى )

 

قوله تعالى: « والنجم إذا هوى » قال ابن عباس ومجاهد: معنى « والنجم إذا هوى » والثريا إذا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما؛ يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم. وفي « الشفا » للقاضي عياض: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل؛ لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع؛ كقول الراعي :

فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين النساء

وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدي: إن النجم ههنا الزهرة لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين؛ وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها - وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقضى منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك؛ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: « والنجم إذا هوى » أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت. وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهوى أي سقط على الأرض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: « والنجم » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم « إذا هوى » إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه ابنته وطلقها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد؛ فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان:

من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع

وأصل النجم الطلوع؛ يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط؛ يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضى مضيا؛ قال زهير:

فشج بها الأماعز وهي تهوي هوي الدلو أسلمها الرشاء

وقال آخر:

بينما نحن بالبلاكث فالقا ع سراعا والعيس تهوي هويا

خطرت خطرة على القلب من ذكـ ـراك وهنا فما استطعت مضيا

الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك آنهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:

وكم منزل لولاي طحت كما هوى بأجرمه من قلة النيق منهوي

وقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى؛ أي أحب.

 

قوله تعالى: « ما ضل صاحبكم » هذا جواب القسم؛ أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه. « وما غوى » الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا. وقيل: أي ما تكلم بالباطل. وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة؛ قال الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم؛ أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في « الشورى » عند قوله: « ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان » [ الشورى: 52 ] .

 

قوله تعالى: « وما ينطق عن الهوى » قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه « إن هو إلا وحي يوحى » إليه. وقيل: « عن الهوى » أي بالهوى؛ قال أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: « فاسأل به خبيرا » [ الفرقان: 59 ] أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون « عن » على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: « إن هو إلا وحي يوحى » .

وقد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معد يكرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت « إن هو إلا وحي يوحى » من « ما ضل صاحبكم » قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن « إن » الخفيفة لا تكون مبدلة من « ما » الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد.

 

قوله تعالى: « علمه شديد القوى » يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين؛ سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: « ذو مرة » على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى؛ وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. « فاستوى » يعني الله عز وجل؛ أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: « فاستوى. وهو بالأفق الأعلى » أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ « هو » . وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه؛ فيقولون: استوى هو وفلان؛ وقلما يقولون استوى وفلان؛ وأنشد الفراء:

ألم تر أن النبع يصلب عوده ولا يستوي والخروع المتقصف

أي لا يستوي هو والخروع؛ ونظير هذا: « أإذا كنا ترابا وأباؤنا » [ النمل: 67 ] والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وأباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى. وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى « ذ ومرة » في وصفه ذو منطق حسن؛ قال ابن عباس. وقال قتادة: خلق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) . وقال امرؤ القيس :

كنت فيهم أبدا ذا حيلة محكم المرة مأمون العقد

وقد قيل: « ذو مرة » ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر:

قد كنت قبل لقاكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه

وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الأربع والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال :

ترى الرجل النحيف فتزدريه وحشو ثيابه أسد مرير

وقال لقيط :

حتى استمرت على شزر مريرته مر العزيمة لا رتا ولا ضرعا

وقال مجاهد وقتادة: « ذو مرة » ذو قوة؛ ومنه قول خفاف بن ندبة:

إني امرؤ ذو مرة فاستبقني فيما ينوب من الخطوب صليب

فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. « فاستوى » يعني جبريل على ما بينا؛ أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب وابن جبير. وقيل: « فاستوى » أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها؛ لأنه كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه؛ فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة ) . فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: ( إن هذا لعظيم ) فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها العصفور الصغير؛ دليله قوله تعالى: « ولقد رآه بالأفق المبين » [ التكوير: 23 ] وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى « فاستوى » أي استوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى « فاستوى » فاعتدل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي.

قلت: وعلى الأول يكون تمام الكلام « ذو مرة » ، وعلى الثاني « شديد القوى » . وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا أنفا. الثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج. وقول سادس « فاستوى » يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في « الأعراف » .

 

قوله تعالى: « وهو بالأفق الأعلى » جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وأفق مثل عسر وعسر. وقد مضى في « حم السجدة » . وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى؛ قال الشاعر:

أرجل لمتي وأجر ذيلي وتحمل شكتي أفق كميت

وقيل: « وهو » أي النبي صلى الله عليه وسلم « بالأفق الأعلى » يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف؛ لأنه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية؛ لأنه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. « ثم دنا فتدلى » أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض « فتدلى » فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده » يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل « قاب قوسين أو أدنى » قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: « ثم دنا فتدلى » أن معناه أن الله تبارك وتعالى « دنا » من محمد صلى الله عليه وسلم « فتدلى » . وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب؛ قال لبيد :

فتدليت عليه قافلا وعلى الأرض غيابات الطفل

وذهب الفراء إلى أن الفاء في « فتدلى » بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني؛ لأن الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى: « اقتربت الساعة وانشق القمر » [ القمر: 1 ] المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو. وقال ابن الأنباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل؛ كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد؛ لأن الدلال غير مرضي في صفة العبودية.

 

قوله تعالى: « فكان قاب قوسين أو أدنى » أي « كان » محمد من ربه أو من جبريل « قاب قوسين » أي قدر قوسين عربيتين. قال ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: « فكان قاب قوسين » قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبوعلي في قوله:

وقد جعلتني من حزيمة إصبعا

أي ذا مقدار مسافة إصبع « أو أدنى » أي على تقديركم؛ كقوله تعالى: « أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] . وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس؛ أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي « قاد » وقرئ « قيد » و « قدر » . ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: « قاب قوسين » أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها ) والقد السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها ) . وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: آعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: ( ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ) على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله؛ ويتأول في قوله عليه السلام: ( من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: « ثم دنا » جبريل من ربه « فكان قاب قوسين أو أدنى » قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: ( إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام ) . وقيل: ( أو ) بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: ( فكان قاب قوسين ) أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء، وهى لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا. وقال الكسائي: قوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » أراد قوسا واحدا؛ كقول الشاعر:

ومهمهين قذفين مرتين قطعته بالسمت لا بالسمتين

أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس؛ وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي قسي وأقواس وقياس؛ وأنشد أبو عبيدة:

ووتر الأساور القياسا

والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب؛ قال الشاعر وذكر امرأة:

لاستفتنتني وذا المسحين في القوس

 

قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده ما أوحى » تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل: المعنى « فأوحى إلى عبده » جبريل عليه السلام « ما أوحى » . وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالإيمان به على الجملة، أو هو معلوم مفسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال : أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فأويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! « ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك » [ الانشراح: 4 ] . وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

 

الآيات: 11 - 18 ( ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى )

 

قوله تعالى: « ما كذب الفؤاد ما رأى » أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج؛ وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية. وقيل: كانت رؤية حقيقة بالبصر. والأول مروي عن ابن عباس. وفي صحيح مسلم أنه رآه بقلبه. وهو قول أبي ذر وجماعة من الصحابة. والثاني قول أنس وجماعة. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: أما نحن بني هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. وقد مضى القول في هذا في « الأنعام » عند قوله: « لا تدركه » الأبصار وهو يدرك الأبصار « [ الأنعام: 103 ] . وروى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليك رأيت ربك؟ قال: ( رأيته بفؤادي مرتين ) ثم قرأ: « ما كذب الفؤاد ما رأى » . وقول: ثالث أنه رأى جلاله وعظمته؛ قال الحسن. وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: ( رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير ذلك ) . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: ( نور أني أراه ) المعنى غلبني من النور وبهرني منه ما منعني من رؤيته. ودل على هذا الرواية الأخرى ( رأيت نورا ) . وقال ابن مسعود: رأى جبريل على صورته مرتين. وقرأ هشام عن ابن عامر وأهل الشام » ما كذب « بالتشديد أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة بل صدقه. فـ » ما « مفعول بغير حرف مقدر؛ لأنه يتعدى مشددا بغير حرف. ويجوز أن تكون » ما « بمعنى الذي والعائد محذوف، ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. الباقون مخففا؛ أي ما كذب فؤاد محمد فيما رأى؛ فأسقط حرف الصفة. قال حسان رضي الله عنه:»

لوكنت صادقة الذي حدثتني لنجوت منجى الحارث بن هشام

أي في الذي حدثتني. ويجوز أن يكون مع الفعل مصدرا. ويجوز أن يكون بمعنى الذي؛ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى.

 

قوله تعالى: « أفتمارونه على ما يرى » قرأ حمزة والكسائي « أفتمرونه » بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه. واختاره أبو عبيد؛ لأنه قال: لم يماروه وإنما جحدوه. يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا؛ قال الشاعر:

لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا

أي جحدته. وقال المبرد: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال: ومثل على بمعنى عن قول بني كعب بن ربيعة: رضي الله عليك؛ أي رضي عنك. وقرأ الأعرج ومجاهد « أفتمرونه » بضم التاء من غير ألف من أمريت؛ أي تريبونه وتشككونه. الباقون « أفتمارونه » بألف، أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله؛ والمعنيان متداخلان؛ لأن مجادلتهم جحود. وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد؛ قالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا التي في طريق الشام. على ما تقدم.

 

قوله تعالى: « ولقد رآه نزلة أخرى » « نزلة » مصدر في موضع الحال كأنه قال: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. قال ابن عباس: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرة أخرى بقلبه. روى مسلم عن أبي العالية عنه ( قال: « ما كذب الفؤاد ما رأى » « ولقد رآه نزلة أخرى » قال: رآه بفؤاده مرتين؛ فقوله: « نزلة أخرى » يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان له صعود ونزول مرارا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة ) وعلى هذا قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » أي ومحمد صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: « ولقد رآه نزلة أخرى » أنه جبريل. ثبت هذا أيضا في صحيح مسلم. وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت ) ذكره المهدوي.

 

قوله تعالى: « عند سدرة المنتهى » « عند » من صلة « رآه » على ما بينا. والسدر شجر النبق وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة. والحديث بهذا في صحيح مسلم؛ الأول ما رواه مرة عن عبدالله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات. الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان قلت يا جبريل ما هذا قال أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ) لفظ الدارقطني. والنبق بكسر الباء: ثمر السدر الواحد نبقة. ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء؛ ذكرهما يعقوب في الإصلاح وهي لغة المصريين، والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد ذكر له سدرة المنتهى - قال: ( يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب - شك يحيى - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

قلت: وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس ( ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ) . واختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الأول: ما تقدم عن ابن مسعود أنه ينتهي إليها كلما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها. الثاني: أنه ينتهي علم الأنبياء إليها ويعزب علمهم عما وراءها؛ قاله ابن عباس. الثالث: أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها؛ قاله الضحاك. الرابع: لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها؛ قاله كعب. الخامس: سميت سدرة المنتهى لأنها ينتهي إليها أرواح الشهداء؛ قاله الربيع بن أنس. السادس: لأنه تنتهي إليها أرواح المؤمنين؛ قاله قتادة. السابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه؛ قاله علي رضي الله عنه والربيع بن أنس أيضا. الثامن: هي شجرة على رؤوس حملة العرش إليها ينتهي علم الخلائق؛ قاله كعب أيضا.

قلت: يريد - والله أعلم - أن ارتفاعها وأعالي أغصانها قد جاوزت رؤوس حملة العرش؛ ودليله على ما تقدم من أن أصلها في السماء السادسة وأعلاها في السماء السابعة، ثم علت فوق ذلك حتى جاوزت رؤوس حملة العرش. والله أعلم.

التاسع: سميت بذلك لأن من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة. وعن أبي هريرة لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فقيل له هذه سدرة المنتهى ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك؛ فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ! وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا هي شجرة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، والورقة منها تغطي الأمة كلها؛ ذكره الثعلبي.

 

قوله تعالى: « عندها جنة المأوى » تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى. وقرأ علي وأبو هريرة وأنس وأبو سبرة الجهني وعبدالله بن الزبير ومجاهد « عندها جنة المأوى » يعني جنه المبيت. قال مجاهد: يريد أجنه. والهاء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأخفش: أدركه كما تقول جنه الليل أي ستره وأدركه. وقراءة العامة « جنة المأوى » قال الحسن: هي التي يصير إليها المتقون. وقيل: إنها الجنة التي يصير إليها أرواح الشهداء؛ قال ابن عباس. وهى عن يمين العرش. وقيل: هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها وهي في السماء السابعة. وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى. وإنما قيل لها: جنة المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها. وقيل: لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها. والله أعلم.

 

قوله تعالى: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال ابن عباس والضحاك وابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب. ورواه مرفوعا ابن مسعود وابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم في صحيح مسلم عن ابن مسعود قوله. وقال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت. قال القشيري: وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غشيها؟ قال: ( فراش من ذهب ) . وفي خبر آخر ( غشيها نور من الله حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها ) . وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة تقع عليها كما يقع الغربان على الشجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى وذلك قوله: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » ) ذكره المهدوي والثعلبي. وقال أنس بن مالك: « إذ يغشى السدرة ما يغشى » قال جراد من ذهب وقد رواه مرفوعا. وقال مجاهد: إنه رفرف أخضر. وعنه عليه السلام: ( يغشاها رفرف من طير خضر ) . وعن ابن عباس: يغشاها رب العزة؛ أي أمره كما في صحيح مسلم مرفوعا: ( فلما غشيها من أمر الله ما غشي ) . وقيل: هو تعظيم الأمر؛ كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما أعلم الله به من دلائل ملكوته. وهكذا قوله تعالى: « فأوحى إلى عبده ما أوحى » « والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى » [ النجم: 53 ] ومثله: « الحاقة ما الحاقة » [ الحاقة: 1 ] . وقال الماوردي في معاني القرآن له: فإن قيل لم آختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختصى بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية؛ فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية؛ فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. وروى أبو داود في سننه قال: حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبو أسامة عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم عن عبدالله بن حبشي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار ) وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار.

 

قوله تعالى: « ما زاغ البصر وما طغى » قال ابن عباس: أي ما عدل يمينا ولا شمالا، ولا تجاوز الحد الذي رأى. وقيل: ما جاوز ما أمر به. وقيل: لم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات. وهذا وصف أدب للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام؛ إذ لم يلتفت يمينا ولا شمالا. « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » قال ابن عباس: رأى رفرفا سد الأفق. وذكر البيهقي عن عبدالله قال: ( « رأى من آيات ربه الكبرى » قال ابن عباس: رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء. وعنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة رفرف أخضر، قد ملأ ما بين السماء والأرض ) قال البيهقي: قوله في الحديث ( رأى رفرفا ) يريد جبريل عليه السلام في صورته في رفرف، والرفرف البساط. ويقال: فراش. ويقال: بل هو ثوب كان لباسا له؛ فقد روي أنه رآه في حلة رفرف.

قلت: خرجه الترمذي عن عبدالله قال: ( « ما كذب الفؤاد ما رأى » قال: رأى وسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ) قال: هذا حديث حسن صحيح.

قلت: وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: « دنا فتدلى » أنه على التقديم والتأخير؛ أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. قال: ( فارقني جبريل وانقطعت عني الأصوات وسمعت كلام ربي ) فعلى هذا الرفرف ما يقعد ويجلس عليه كالبساط وغيره. وهو بالمعنى الأول جبريل. قال عبدالرحمن بن زيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل عليه السلام في صورته التي يكون فيها في السموات؛ وكذا في صحيح مسلم عن عبدالله قال: « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. ولا يبعد مع هذا أن يكون في حلة رفرف وعلى رفرف. والله أعلم. وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى. وعن ابن مسعود: رأى ما غشي السدرة من فراش الذهب؛ حكاه الماوردي. وقيل: رأى المعراج. وقيل: هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ وهو أحسن؛ دليله: « لنريه من آياتنا » [ الإسراء: 1 ] و « من » يجوز أن تكون للتبعيض، وتكون « الكبرى » مفعولة لـ « رأى » وهي في الأصل صفة الآيات ووحدت لرؤوس الآيات. وأيضا يجوز نعت الجماعة بنعت الأنثى؛ كقوله تعالى: « ولي فيها مآرب أخرى » [ طه: 18 ] وقيل: « الكبرى » نعت لمحذوف؛ أي رأى من آيات ربه الكبرى. ويجوز أن تكون « من » زائدة؛ أي رأى آيات ربه الكبرى. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي رأى الكبرى من آيات ربه.

 

الآيات: 19 - 22 ( أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى )

 

قوله تعالى: « أفرأيتم اللات والعزى » لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من آثار قدرته ما ذكر، حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقال: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين إليكم شيئا كما أوحي إلى محمد. وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال هشام: فكانت مناة لهذيل وخزاعة؛ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها بناء، فكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات. وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى، فلم تزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى وهي أحدث من اللات، اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادي نخلة الشامية فوق ذات عرق، فبنوا عليها بيتا وكانوا يسمعون منها الصوت. قال ابن هشام: وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما أفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: ( ايت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى ) فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: ( هل رأيت شيئا ) قال: لا. قال: ( فأعضد الثانية ) فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( هل رأيت شيئا ) قال: لا. قال: ( فاعضد الثالثة ) فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها، وخلفها دبية السلمى وكان سادنها فقال:

يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك

ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ( تلك العزى ولن تعبد أبدا ) وقال ابن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه. قتادة: نبت كان ببطن نخلة. ومناة: صنم لخزاعة. وقيل: إن اللات فيما ذكر بعض المفسرين أخذه المشركون من لفظ الله، والعزى من العزيز، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح « اللات » بتشديد التاء وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج ذكر البخاري عن ابن عباس - فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. ابن عباس: كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويصبه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق. أبو صالح: إنما كان رجلا بالطائف فكان يقوم على ألهتهم ويلت لهم السويق فلما مات عبدوه. مجاهد: كان رجل في رأس جبل ل غنيمه يسلي منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها، ثم يتخذ منها حيسا فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات. وقال الكلبي كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. وقيل: إنه عامر بن ظرب العدواني. قال الشاعر:

لا تنصروا اللات إن الله مهلكها وكيف ينصركم من ليس ينتصر

والقراءة الصحيحة « اللات » بالتخفيف اسم صنم والوقوف عليها بالتاء وهو اختيار الفراء. قال الفراء: وقد رأيت الكسائي سأل أبا فقعس الأسدي فقال ذاه لذات ولاه للات وقرأ « أفرأيتم اللاه » وكذا قرأ الدوري عن الكسائي والبزي عن ابن كثير « اللاه » بالهاء في الوقف، ومن قال: إن « اللات » من الله وقف بالهاء أيضا. وقيل: أصلها لاهة مثل شاة أصلها شاهة وهي من لاهت أي آختفت؛ قال الشاعر:

لاهت فما عرفت يوما بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها

وفي الصحاح: اللات اسم صنم كان لثقيف وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء؛ قال الأخفش: سمعنا من العرب من يقول اللات والعزى، ويقول هي اللات فيجعلها تاء في السكوت وهي اللات فأعلم أنه جر في موضع الرفع؛ فهذا مثل أمس مكسور على كل حال وهو أجود منه؛ لأن الألف واللام اللتين في اللات لا تسقطان وإن كانتا زائدتين؛ وأما ما سمعنا من الأكثر في اللات والعزى في السكوت عليها فاللاه لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل كان من الأمر كيت وكيت، وكذلك هيهات في لغة من كسرها؛ إلا أنه يجوز في هيهات أن تكون جماعة ولا يجوز ذلك في اللات؛ لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، وإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد.

 

قوله تعالى: « ومناة الثالثة الأخرى » قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي والأعشى عن أبي بكر « ومناءة » بالمد والهمز. والباقون بترك الهمز لغتان. وقيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه. وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق فيها من الدماء. وكان الكسائي وابن كثير وابن محيصن يقفون بالهاء على الأصل. الباقون بالتاء اتباعا لخط المصحف. وفي الصحاح: ومناة اسم صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث ويسكت عليها بالتاء وهي لغة، والنسبة إليها منوي. وعبد مناة بن أد بن طابخة، وزيد مناة بن تميم بن مريمد ويقصر؛ قال هوبر الحارثي :

ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة على الشنء فيما بيننا ابن تميم

« الأخرى » العرب لا تقول للثالثة أخرى وإنما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي؛ كقوله: « مآرب أخرى » [ طه: 18 ] ولم يقل آخر. وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير مجازها أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة. وقيل: إنما قال « ومناة الثالثة الأخرى » لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى فالكلام على نسقه. وقد ذكرنا عن ابن هشام: أن مناة كانت أولا في التقديم، فلذلك كانت مقدمة عندهم في التعظيم؛ والله أعلم. وفي الآية حذف دل عليه الكلام؛ أي أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله. ثم قال على جهة التقريع والتوبيخ: « ألكم الذكر وله الأنثى » ردًّا عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله. « تلك إذا » يعني هذه القسمة « قسمة ضيزى » أي جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق. يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضاز حقه يضيزه ضيزا - عن الأخفش - أي نقصه وبخسه. قال: وقد يهمز فيقال ضأزه يضأزه ضأزا وأنشد :

فإن تنا عنا ننتقصك وإن تقم فقسمك مضؤوز وأنفك راغم

وقال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزا، وضاز يضوز، وضأز يضأز ضأزا إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص؛ قال الشاعر:

ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب

 

قوله تعالى: « قسمة ضيزى » أي جائرة، وهي فعلى مثل طوبى وحبلى؛ وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء؛ لأنه ليس في الكلام فعل صفة، وإنما هو من بناء الأسماء كالشعرى والدفلى. قال الفراء: وبعض العرب تقول ضوزى وضئزى بالهمز. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد: أنه. سمع العرب تهمز « ضيزى » . قال غيره: وبها قرأ ابن كثير؛ جعله مصدرا مثل ذكرى وليس بصفة؛ إذ ليس في الصفات فعلى ولا يكون أصلها فعلى؛ إذ ليس فيها ما يوجب القلب، وهي من قولهم ضأزته أي ظلمته. فالمعنى قسمة ذات ظلم. وقد قيل هما لغتان بمعنى. وحكى فيها أيضا سواهما ضيزى وضازى وضوزى وضؤزى. وقال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واوا وهي من بنات الواو؛ فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع أبيض بيض، والأصل بوض؛ مثل حمر وصفر وخضر. فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.

 

الآيات: 23 - 26 ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، أم للإنسان ما تمنى، فلله الآخرة والأولى، وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )

 

قوله تعالى: « إن هي إلا أسماء سميتموها » أي ما هي يعني هذه الأوثان « إلا أسماء سميتموها » يعني نحتموها وسميتموها آلهة. « أنتم وآباؤكم » أي قلدتموهم في ذلك. « ما أنزل الله بها من سلطان » أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان. « إن يتبعون إلا الظن » عاد من الخطاب إلى الخبر أي ما يتبع هؤلاء إلى الظن. « وما تهوى الأنفس » أي تميل إليه. وقراءة العامة « يتبعون » بالياء. وقرأ عيسى بن عمو وأيوب وابن السميقع « تتبعون » بالتاء على الخطاب. وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس. « ولقد جاءهم من ربهم الهدى » أي البيان من جهة الرسول أنها ليست، بآلهة. « أم للإنسان ما تمنى » أي اشتهى أي ليس ذلك له. وقيل: « للإنسان ما تمنى » من البنين؛ أي يكون له دون البنات. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من غير جزاء ليس الأمر كذلك. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من النبوة أن تكون فيه دون غيره. وقيل: « أم للإنسان ما تمنى » من شفاعة الأصنام؛ نزلت في النضر بن الحرث. وقيل: في الوليد بن المغيرة. وقيل: في سائر الكفار. « فلله الآخرة والأولى » يعطي من يشاء ويمنع من يشاء لا ما تمنى أحد.

 

قوله تعالى: « وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى » هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش: الملك واحد ومعناه جمع؛ وهو كقوله تعالى: « فما منكم من أحد عنه حاجزين » [ الحاقة: 47 ] . وقيل: إنما ذكر ملكا واحدا، لأن كم تدل على الجمع.

 

الآيات: 27 - 30 ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى )

 

قوله تعالى: « إن الذين لا يؤمنون بالآخرة » هم الكفار الذين قالوا الملائكة بنات الله والأصنام بنات الله. « ليسمون الملائكة تسمية الأنثى » أي كتسمية الأنثى، أي يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. « وما لهم به من علم » أي إنهم لم يشاهدوا خلقه الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب. « إن يتبعون » أي ما يتبعون « إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا » في أن الملائكة إناث. « فأعرض عمن تولى عن ذكرنا » يعني القرآن والإيمان. وهذا منسوخ بآية السيف. « ولم يرد إلا الحياة الدنيا » نزلت في النضر. وقيل: في الوليد. « ذلك مبلغهم من العلم » أي إنما يبصرون أمر دنياهم ويجهلون أمر دينهم. قال الفراء: صغرهم وازدرى بهم؛ أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: أن جعلوا الملائكة والأصنام بنات الله. « إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله » أي حاد عن دينه « وهو أعلم بمن اهتدى » فيجازي كلا بأعمالهم.

 

الآيات: 31 - 32 ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى )

 

قوله تعالى: « ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى » اللام متعلقة بالمعنى الذي دل عليه « ولله ما في السموات وما في الأرض » كأنه قال: هو مالك ذلك يهدي من يشاء ويضل من يشاء ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقيل: « لله ما في السموات وما في الأرض » معترض في الكلام؛ والمعنى: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن آهتدى ليجزي. وقيل: هي لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وما في الأرض؛ أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسيء ومحسن؛ فللمسيء السوءى وهي جهنم، وللمحسن الحسنى وهي الجنة.

 

قوله تعالى: « الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش » هذا نعت للمحسنين؛ أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك؛ لأنه أكبر الآثام. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي « كبير » على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك. « والفواحش » الزنى: وقال مقاتل: « كبائر الإثم » كل ذنب ختم بالنار. « والفواحش » كل ذنب فيه الحد. وقد مضى في « النساء » القول في هذا. ثم استثنى استئناء منقطعا فقال: « إلا اللمم » وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه. وقد اختلف في معناها؛ فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: « اللمم » كل ما دون الزنى. وذكر مقاتل بن سليمان: أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار؛ كان له حانوت يبيع فيه تمرا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع؛ فقال: ( لعل زوجها غاز ) فنزلت هذه الآية، وقد مضى في آخر « هود » وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج؛ فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم. والله أعلم. وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ) . خرجه مسلم. وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل، وزاد فيه بعد العينين واللسان: ( وزنى الشفتين القبلة ) . فهذا قول. وقال ابن عباس أيضا: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب. قال: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :

إن يغفر الله يغفر جما وأي عبد لك لا ألما

رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس. قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا. وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل « إلا اللمم » قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده؛ قال الشاعر:

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما

وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أويشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود. ودليل هذا التأويل قوله تعالى: « والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم » [ آل عمران : 135 ] الآية. ثم قال: « أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم » [ آل عمران: 136 ] فضمن لهم المغفرة؛ كما قال عقيب اللمم: « إن ربك واسع المغفرة » فعلى هذا التأويل يكون « إلا اللمم » استثناء متصل. قال عبدالله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقيل: اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة. ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس. وقال الكلبي : اللمم على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة؛ فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه. وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به. وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه؛ وهو كقوله تعالى: « وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف » [ النساء: 23 ] . وقيل: اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة؛ قال نفطويه. قال: والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما؛ أي في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل، لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله. وفي الصحاح: وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة. وأنشد غير الجوهري :

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل إن تملينا فما ملك القلب

أي آقرب. وقال عطاء بن أبي رباح: اللمم عادة النفس الحين بعد الحين. وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألم على القلب؛ أي خطر. وقال محمد ابن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم. ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن للشيطان لمة وللملك لمة ) الحديث. وقد مضى في « البقرة » عند قوله تعالى: « الشيطان يعدكم الفقر » . وقال أبو إسحاق الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه؛ يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلماما؛ أي الحين بعد الحين. وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال؛ قال الأعشى :

ألم خيال من قتيلة بعدما وهى حبلها من حبلنا فتصرما

وقيل: إلا بمعنى الواو. وأنكر هذا الفراء وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب. وقيل: اللمم النظرة التي تكون فجأة.

قلت: هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار، وقد مضى في « النور » بيانه. واللمم أيضا طرف من الجنون، ورجل ملموم أي به لمم. ويقال أيضا: أصابت فلانا لمة من الجن وهي المس والشيء القليل؛ قال الشاعر:

فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا كلمة حالم بخيال

 

قوله تعالى: « إن ربك واسع المغفرة » لمن تاب من ذنبه واستغفر؛ قاله ابن عباس. وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود: رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة. فقال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت. « هو أعلم بكم » من أنفسكم « إذ أنشأكم من الأرض » يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع. قال الترمذي أبو عبدالله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرو النفوس على آختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صلبها على آختلاف الهيئات؛ منهم كالدر يتلألأ، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحممة، وبعضهم أشد سوادا من بعض؛ فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه. حدثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة ) فقال قائل: يا رسول الله! ومن مضى من الخلق؟ قال: ( نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق أحد ) قالوا: ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات؟ قال: ( نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها ) .

قلت: وقد تقدم في أول « الأنعام » أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها. « وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم » جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن، سمي جنينا لاجتنابه واستتاره. قال عمرو بن كلثوم:

هجان اللون لم تقرأ جنينا

وقال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقى، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك، وكنا فيمن بقى ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخا لا أبالك - فما بعد هذا ننتظر؟!. وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صديق؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد ) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية: « هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض » إلى آخرها. ونحوه عن عائشة: ( كان اليهود ) . بمثله. « فلا تزكوا أنفسكم » أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع. « هو أعلم بمن اتقى » أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله؛ عن الحسن وغيره. قال الحسن: قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة، وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة. وقد مضى في « النساء » الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم » [ النساء: 49 ] فتأمله هناك. وقال ابن عباس: ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.

 

الآيات: 33 - 35 ( أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى )

 

قوله تعالى: « أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى » الآيات لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله؛ فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه فانزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: كال الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: « وأعطى قليلا » أي من الخير بلسانه « وأكدى » أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإيمان ثم تولى فنزلت: « أفرأيت الذي تولى » الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب ابن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبدالله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك ألا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبدالله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة فأنزل الله تعالى: « أفرأيت الذي تولى. وأعطى قليلا وأكدى » فعاد عثمان إلى أحسن ذلك وأجمله. ذكر ذلك الواحدي والثعلبي. وقال السدي أيضا: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق؛ فذلك قوله تعالى : - « وأعطى قليلا وأكدى » . وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه، وضمن له أن يتحمل عنه مأثم رجوعه. وأصل « أكدى » من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. وقال الحطيئة :

فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ومن يبذل المعروف في الناس يحمد

قال الكسائي وغيره: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر. وحفر فأكدى إذا بلغ إلى الصلب. ويقال: كديت أصابعه إذا كلت من الحفر. وكديت يده إذا كلت فلم تعمل شيئا. وأكدى النبت إذا قل ريعه، وكدت الأرض تكدو كدوا وكدوا فهي كادية إذا أبطأ نباتها؛ عن أبى زيد. وأكديت الرجل عن الشيء رددته عنه. وأكدى الرجل إذا قل خيره. وقوله: « وأعطى قليلا وأكدى » أي قطع القليل.

 

قوله تعالى: « أعنده علم الغيب فهو يرى » أي أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟. « فهو يرى » أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة، وما يكون من أمره حتى يضمن حمل العذاب عن غيره، وكفى بهذا جهلا وحمقا. وهذه الرؤية هي المتعدية إلى مفعولين والمفعولان محذوفان؛ كأنه قال: فهو يرى الغيب مثل الشهادة.

 

الآيات: 36 - 42 ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى )

 

قوله تعالى: « أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم » أي صحف « وإبراهيم الذي وفى » كما في سورة « الأعلى » « صحف إبراهيم وموسى » [ الأعلى: 19 ] أي لا تؤخذ نفس بدلا عن أخرى؛ كما قال « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر؛ لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه؛ قاله الهذيل بن شرحبيل. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة « وفى » خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة « وفي » بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا. وقد مضى في « البقرة » عند قوله تعالى: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » [ البقرة: 124 ] والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الوراق: قام بشرط ما آدعى؛ وذلك أن الله تعالى قال له: « أسلم قال أسلمت لرب العالمين » [ البقرة: 131 ] فطالبه الله بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافيا بذلك؛ فذلك قوله: « وإبراهيم الذي وفى » أي آدعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل: وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار؛ رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه ( ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم « الذي وفى » لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: « فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون » [ الروم: 17 ] ) الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: « وفى » أي وفى ما أرسل به، وهو قوله: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة؛ فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى « وفى » : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه. وهذا أحسن؛ لأنه عام. وكذا قال مجاهد: « وفى » بما فرض عليه. وقال أبو مالك الغفاري قوله تعالى: « أن لا تزر وازرة وزر أخرى » إلى قوله: « فبأي آلاء ربك تتمارى » [ النجم: 55 ] في صحف إبراهيم وموسى، وقد مضى في آخر « الأنعام » القول في « ولا تزر وازرة وزر أخرى » [ الأنعام: 164 ] مستوفى.

 

قوله تعالى: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: « والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم » [ الطور: 21 ] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء؛ يدل على ذلك قوله تعالى: « آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا » [ النساء: 11 ] . وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد. ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت، إلا أنه قال: إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبدالرحمن وأعتقت عنه. وروى أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: ( نعم ) قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ( سقي الماء ) . وقد مضى جميع هذا مستوفى في « البقرة » و « آل عمران » و « الأعراف » . وقد قيل: إن الله عز وجل إنما قال: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الأطفال بادخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره.

قلت: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها، وليس في الصدقة اختلاف، كما في صدر كتاب مسلم عن عبدالله بن المبارك. وفي الصحيح: ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ) وفيه ( أو ولد صالح يدعو له ) وهذا كله تفضل من الله عز وجل، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة؛ كما قيل لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة ) فقال سمعته يقول: ( إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) فهذا تفضل. وطريق العدل « أن ليس للإنسان إلا ما سعى » .

قلت: ويحتمل أن يكون قوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » خاص في السيئة؛ بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ) . وقال أبو بكر الوراق: « إلا ما سعى » إلا ما نوى؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: ( يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم ) .

 

قوله تعالى: « وأن سعيه سوف يرى » أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة « ثم يجزاه » أي يجزى به « الجزاء الأوفى » قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما قال الشاعر:

إن أجز علقمة بن سعد سعيه لم أجزه ببلاء يوم واحد

فجمع بين اللغتين.

 

قوله تعالى: « وأن إلى ربك المنتهى » أي المرجع والمراد والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان. وعن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وأن إلى ربك المنتهى » قال: ( لا فكرة في الرب ) . وعن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذ ذكر الله تعالى فانته ) . قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ) وقد تقدم في آخر ( الأعراف ) . ولقد أحسن من قال:

ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه فإنك تردى إن فعلت وتخذل

ودونك مصنوعاته فاعتبر بها وقل مثل ما قال الخليل المبجل

الآية [ 43 ] في الصفحة التالية ...

 

الآيات: 43 - 46 ( وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى )

 

قوله تعالى: « وأنه هو أضحك وأبكى » ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قط إن المت يعذب ببكاء أحد، ، ولكنه قال: ( إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى ) . وعنها قالت: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: « وأنه هو أضحك وأبكى » . فرجع إليهم فقال: ( ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: « هو أضحك وأبكى » أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدم هذا المعنى في، « النمل » و « التوبة » . قال الحسن: أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه. الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل : أضحك الأشجار بالنوار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبدالله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبدالله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد :

السن تضحك والأحشاء تحترق وإنما ضحكها زور ومختلق

يارب باك بعين لا دموع لها ورب ضاحك سن ما به رمق

وقيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم. « وأنه هو أمات وأحيا » أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال: « الذي خلق الموت والحياة » [ الملك: 2 ] قاله ابن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان؛ قال الله تعالى: « أومن كان ميتا فأحييناه » [ الأنعام : 122 ] الآية. وقال: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » على ما تقدم، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال: أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل: أمات النطفة وأحيا النسمة. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل: أنام وأيقظ. وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. « وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى » أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحواء بأنهما خلقا من نطفة. والنطفة الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. « تمنى » تصب في الرحم وتراق؛ قاله الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح. يقال: منى الرجل وأمنى من المني، وسميت منى بهذا الاسم لما يمنى فيها من الدماء أي يراق. وقيل: « تمنى » تقدر؛ قاله أبو عبيدة. يقال: منيت الشيء إذا قدرته، ومني له أي قدر له؛ قال الشاعر:

حتى تلاقي ما يَمني لك الماني

أي ما يقدر لك القادر.

 

الآيات: 47 - 55 ( وأن عليه النشأة الأخرى، وأنه هو أغنى وأقنى، وأنه هو رب الشعرى، وأنه أهلك عادا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى )

 

قوله تعالى: « وأن عليه النشأة الأخرى » أي إعادة الأرواح في الأشباح للبعث. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « النشأة » بفتح الشين والمد؛ أي وعد ذلك ووعده صدق. « وأنه هو أغنى وأقنى » قال ابن زيد: أغنى من شاء وأفقر من شاء ثم قرأ « يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » [ سبأ : 39 ] وقرأ « يقبض ويبسط » [ البقرة: 245 ] واختاره الطبري. وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن: « أغنى » مول « وأقنى » أخدم. وقيل: « أقنى » جعل لكم قنية تقتنونها، وهو معنى أخدم أيضا. وقيل: معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه؛ قاله ابن عباس. وقال الجوهري : قني الرجل يقنى قنى؛ مثل غني يغنى غنى، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القنية والنشب. وأقناه الله أيضا أي رضاه. والقنى الرضا، عن أبي زيد؛ قال وتقول العرب: من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القنى، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المنى. ويقال: أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه. وقيل: « أغنى وأقنى » أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه؛ قال سليمان التيمي. وقال سفيان: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا. وقال الأخفش: أقنى أفقر. قال ابن كيسان: أولد. وهذا راجع لما تقدم. « وأنه هو رب الشعرى » « الشعرى » الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، وهما الشعريان العبور التي في الجوزاء والشعرى الغميصاء التي في الذراع؛ وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان ربا لغيره؛ لأن العرب كانت تعبده؛ فأعلمهم الله جل وعز أن الشعرى مربوب ليس برب. واختلف فيمن كان يعبده؛ فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله وخالف أديانهم؛ وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر عليه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، قال الشاعر:

مضى أيلول وارتفع الحرور وأخبت نارها الشعرى العبور

وقيل: إن العرب تقول في خرافاتها: إن سهيلا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عيناها فسميت غميصاء لأنها أخفى من الأخرى.

 

قوله تعالى: « وأنه أهلك عادا الأولى » سماها الأولى لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل: إن ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح عليه السلام. وقال ابن إسحاق: هما عادان فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الأخرى فأهلكت بالصيحة. وقيل: عاد الأولى هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، وعاد الثانية من ولد عاد الأولى؛ والمعنى متقارب. وقيل: إن عاد الآخرة الجبارون وهم قوم هود. وقراءة العامة « عادا الأولى » ببيان التنوين والهمز. وقرأ نافع وابن محيصن وأبو عمرو « عادا الأولى » بنقل حركة الهمزة إلى اللام وإدغام التنوين فيها، إلا أن قالون والسوسي يظهران الهمزة الساكنة. وقلبها الباقون واوا على أصلها؛ والعرب تقلب هذا القلب فتقول: قم الان عنا وضمَّ لِثنين أي قم الآن وضم الاثنين. « وثمود فما أبقى » ثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة. قرئ « ثمودا » [ التوبة: 70 ] وقد تقدم. وانتصب على العطف على عاد. « وقوم نوح من قبل » أي وأهلك قوم نوج من قبل عاد وثمود « إنهم كانوا هم أظلم وأطغى » وذلك لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه فينطلق إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي مثل ما قلت لك؛ فيموت الكبير على الكفر، ومنشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل: إن الكناية ترجع لى كل من ذكر من عاد وثمود وقوم نوح؛ أي كانوا أكفر من مشركي العرب وأطغى. فيكون فيه تسلية وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكأنه يقول له: فاصبر أنت أيضا فالعاقبة الحميدة لك. « والمؤتفكة أهوى » يعني مدائن قوم لوط عليه السلام ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها. يقال: أفكته أي قلبته وصرفته. « أهوى » أي خسف بهم بعد رفعها إلى السماء؛ رفعها جبريل ثم أهوى بها إلى الأرض. وقال المبرد: جعلها تهوي. ويقال: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط و « أهوى » أي أسقط. « فغشاها ما غشى » أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة؛ قال الله تعالى: « فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل » [ الحجر: 74 ] وقيل: إن الكناية ترجع إلى جميع هذه الأمم؛ أي غشاها من العذاب ما غشاهم، وأبهم لأن كلا منهم أهلك بضرب غير ما أهلك به الآخر. وقيل: هذا تعظيم الأمر. « فبأي آلاء ربك تتمارى » أي فبأي نعم ربك تشك. والمخاطبة للإنسان المكذب. والآلاء النعم واحدها ألى وإلى وإلي. وقرأ يعقوب « تمارى » بإدغام إحدى التاءين في الأخرى والتشديد.

 

الآيات: 56 - 62 ( هذا نذير من النذر الأولى، أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا )

 

قوله تعالى: « هذا نذير من النذر الأولى » قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة. وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الأولى. وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر؛ والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنكر بمعنى الإنكار؛ أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: « أم لم ينبأ بما في صحف موسى. وإبراهيم » [ النجم: 37 ] إلى قوله: « هذا نذير من النذر الأولى » كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.

 

قوله تعالى: « أزفت الآزفة » أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده؛ كما قال: « يرونه بعيدا ونراه قريبا » [ المعارج: 6 - 7 ] . وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها؛ لأن كل ما هو آت قريب. قال:

ازف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد

وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد؛ ومنه قوله تعالى: « أزفت الآزفة » يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد : قلت لأعرابي ما المحبنطئ؟ قال: المتكأكئ. قلت: ما المتكأكئ؟ قال: المتآزف. قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر. « ليس لها من دون الله كاشفة » أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدمها. وقيل: كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله؛ فالكاشفة آسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية؛ كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل: أي لا أحد يرد ذلك؛ أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة علي هذا نعت مؤنث محذوف؛ أي نقس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل: إن « كاشفة » بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.

 

قوله تعالى: « أفمن هذا الحديث » يعني القرآن. وهذا استفهام توبيخ « تعجبون » تكذيبا به « وتضحكون » استهزاء « ولا تبكون » انزجارا وخوفا من الوعيد. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما. وقال أبو هريرة: لما نزلت « أفمن هذا الحديث تعجبون » قال أهل الصفة: « إنا لله وإنا إليه راجعون » ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم ) . وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان؛ فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم. « وأنتم سامدون » أي لاهون معرضون. عن ابن عباس؛ رواه الوالبي والعوفي عنه. وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير؛ يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد؛ قال :

سوامد الليل خفاف الأزواد

يقول: ليس في بطونها علف. وقال ابن الأعرابي: سمدت سمودا علوت. وسمدت الإبل في سيرها جدت. والسمود اللهو، والسامد اللاهي؛ يقال للقينه: أسمدينا؛ أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد. وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد. واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا. وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى « سامدون » أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظر بن الصلاة. وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام؛ ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: ( مالي أراكم سامدين ) حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ينتظرونه فقال: ( مالكم سامدون ) قال المهدوي. والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض. وقال المبرد: سامدون خامدون؛ قال الشاعر:

أتى الحدثان نسوة آل حرب بمقدور سمدن له سمودا

وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم « أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون » لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم ذكره النحاس.

 

قوله تعالى: « فاسجدوا لله واعبدوا » قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. و. هو قول ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدم أول السورة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل: إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله: « أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى » [ النجم: 19 ] وأنه قال: تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى. كذا في رواية سعيد بن جبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهن ترتضى، ومثلهن لا ينسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدم بيانه في « الحج » . فلما بلغ الخبر بالحبشة من كان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنا منهم أن أهل مكة آمنوا؛ فكان أهل مكة أشد عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر؛ كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. والأول أصح وقد مضى القول فيه آخر « الأعراف » مبينا والحمد لله رب العالمين.

الآية [ 1 ] في الصفحة التالية ...

 

أعلى