فهرس تفسير بن كثير للسور

82 - تفسير بن كثير سورة الانفطار

التالي السابق

 

تفسير سورة الانفطار

 

وهي مكية.

قال النسائي:أخبرنا محمد بن قدامة، حدثنا جرير عن الأعمش، عن محارب بن دثَار، عن جابر قال:قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطوّل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أفتان يا معاذ؟! [ أفتان يا معاذ؟! ] أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت؟! » .

وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذُكَر « إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ » في أفراد النسائي. وتقدم من رواية عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من سَرَّه أن يَنْظُرَ إلى القيامة رأي عين فليقرأ: » إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ « و « إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ » و » إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ « » .

بسم الله الرحمن الرحيم

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ( 1 ) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( 4 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ( 6 ) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ( 7 ) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ( 8 ) كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ( 9 ) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ( 10 ) كِرَامًا كَاتِبِينَ ( 11 ) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( 12 )

يقول تعالى: ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) أي:انشقت. كما قال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [ المزمل:18 ] .

( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) أي:تساقطت.

( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن:فجر الله بعضها في بعض، فذهب ماؤها. وقال قتادة:اختلط مالحها بعذبها. وقال الكلبي:ملئت.

( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت ) قال ابن عباس:بُحِثَت. وقال السدي:تُبَعثر:تُحرّك فيخرج من فيها .

( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) أي:إذا كان هذا حَصَل هذا.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ؟:هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: ( الْكَرِيمِ ) حتى يقول قائلهم:غره كرمه. بل المعنى في هذه الآية:ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم- أي:العظيم- حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: « يقول الله يوم القيامة:ابن آدم، ما غرك بي؟ ابن آدم، ماذا أجبتَ المرسلين؟ » .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان:أن عمر سمع رجلا يقرأ: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) فقال عمر:الجهل .

وقال أيضا:حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا أبو خلف، حدثنا يحيى البكاء، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) قال ابن عمر:غره- والله- جهله.

قال:ورُوي عن ابن عباس، والربيع بن خُثَيم والحسن، مثل ذلك.

وقال قتادة: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) شيءٌ، ما غَرّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.

وقال الفضيل بن عياض:لو قال لي: « ما غرك بي لقلت:سُتُورك المُرخاة.»

وقال أبو بكر الوراق:لو قال لي: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) لقلت:غرني كرم الكريم.

قال البغوي:وقال بعض أهل الإشارة:إنما قال: ( بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) دون سائر أسمائه وصفاته، كأنه لقنه الإجابة .

وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل؛ لأنه إنما أتى باسمه ( الْكَرِيم ) ؛ لينبه على أنه لا ينبغي أن يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال السوء.

و [ قد ] حكى البغوي، عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا نـزلت هذه الآية في الأسود بن شَريق، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة، فأنـزل الله: ( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ؟ .

وقوله: ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) أي:ما غرك بالرب الكريم ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) أي:جعلك سَويا معتدل القامة منتصبها، في أحسن الهيئات والأشكال.

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر، حدثنا حَريزُ، حدثني عبد الرحمن بن مَيسرة، عن جُبير ابن نُفَير، عن بُسْر بن جحَاش القرشي:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: « قال اللَه عز وجل:ابن آدم أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سَوّيتك وعدلتك، مشيت بين بردين وللأرض منك وَئِيدٌ، فجَمَعت ومَنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ:أتصدقُ، وأنَّى أوانُ الصدقة » .

وكذا رواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن حَريز بن عثمان، به .

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي:وتابعه يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن عبد الرحمن بن ميسرة .

وقوله: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قال مجاهد:في أي شَبَه أب أو أم أو خال أو عم؟

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن سنان القزاز، حدثنا مُطَهَّر بن الهيثم، حدثنا موسى بنُ عُلَيِّ بن رَبَاح، حدثني أبي، عن جدي:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « ما ولد لك؟ » قال:يا رسول الله، ما عسى أن يُولَد لي؟ إما غلام وإما جارية. قال: « فمن يشبه؟ » . قال:يا رسول الله، من عسى أن يشبه؟ إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: « مه. لا تقولَنَّ هكذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) » قال:سَلَكك .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني، من حديث مُطهر بن الهيثم، به وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية، ولكن إسناده ليس بالثابت؛ لأن « مُطَهَّر بن الهيثم » قال فيه أبو سعيد بن يونس:كان متروك الحديث. وقال ابن حبان:يُرْوى عن موسى بن علي وغيره ما لا يُشبهُ حَديثَ الأثبات. ولكن في الصحيحين عن أبي هُرَيرة أن رَجُلا قال:يا رسول الله، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: « هل لك من إبل؟ » . قال:نعم. قال: « فما ألوانها؟ » قال:حُمر. قال: « فهل فيها من أورَق؟ » قال:نعم. قال: « فأنى أتاها ذلك؟ » قال:عسى أن يكون نـزعة عِرْق. قال: « وهذا عسى أن يكون نـزعة عرق » .

وقد قال عكرمة في قوله: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنـزير. وكذا قال أبو صالح:إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة خنـزير.

وقال قتادة: ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قال:قادر- والله - ربنا على ذلك. ومعنى هذا القول عند هؤلاء:أن الله، عز وجل، قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة الخلق، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام، حَسَن المنظر والهيئة .

وقوله: ( كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) أي:بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي، تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب .

وقوله تعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) يعني:وإن عليكم لملائكةً حَفَظَة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافِسِيّ، حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان ومِسْعَر، عن علقمة بن مَرْثَد، عن مجاهد قال::قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين:الجنابة والغائط. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بحرم حائط أو ببعيره، أو ليستره أخوه » .

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، فوصله بلفظ آخر، فقال:حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حفص بن سليمان، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ينهاكم عن التعرِّي، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم، الكرام الكاتبين، الذين لا يُفَارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات:الغائط، والجنابة، والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه، أو بحرم حائط، أو ببعيره » .

ثم قال:حفص بن سليمان لين الحديث، وقد روي عنه، واحتمل حديثه .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا مُبَشّر بن إسماعيل الحلبي، حدثنا تمام ابن نَجِيح، عن الحسن- يعني البصري- عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من حافظين يرفعان إلى الله، عز وجل، ما حفظا في يوم، فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفار إلا قال الله تعالى:قد غفرت لعبدي ما بين طرفى الصحيفة » .

ثم قال:تفرد به تمام بن نجيح، وهو صالح الحديث .

قلت:وثقه ابن معين وضعفه البخاري، وأبو زُرْعة، وابن أبي حاتم والنسائي، وابن عدي. ورماه ابن حبان بالوضع. وقال الإمام أحمد:لا أعرف حقيقة أمره .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقُلُوسِي حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام، عن منصور بن زاذان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هُرَيرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله ملائكة يعرفون بني آدم- وأحسبه قال:ويعرفون أعمالهم- فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسَمَّوه، وقالوا:أفلح الليلة فلان، نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله وذكروه بينهم وسموه، وقالوا:هلك الليلة فلان » .

ثم قال البزار:سلام هذا، أحسبه سلام المدائني، وهو لين الحديث .

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( 13 ) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( 14 ) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ( 15 ) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( 16 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( 17 ) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ( 18 ) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( 19 )

يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل، ولم يقابلوه بالمعاصي.

وقد روى ابن عساكر في ترجمة « موسى بن محمد » ، عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن عبيد الله، عن محارب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بَروا الآباء والأبناء » .

ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم؛ ولهذا قال: ( يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ) أي:يوم الحساب والجزاء والقيامة، ( وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ) أي:لا يغيبون عن العذاب ساعةً واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة، ولو يوما واحدا .

وقوله: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ) تعظيم لشأن يوم القيامة، ثم أكده بقوله: ( ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ) ثم فسره بقوله: ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) أي:لا يقدر واحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.

ونذكر هاهنا حديث: « يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئا » . وقد تقدم في آخر تفسير سورة « الشعراء » ؛ ولهذا قال: ( وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ غافر:16 ] ، وكقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [ الفرقان:26 ] ، وكقوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الفاتحة:4 ] .

قال قتادة: ( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) والأمر- والله- اليوم لله، ولكنه يومئذ لا ينازعه أحد.

آخر تفسير سورة « الانفطار » ولله الحمد.

 

أعلى