فهرس تفسير بن كثير للسور

70 - تفسير بن كثير سورة المعارج

التالي السابق

 

تفسير سورة سأل سائل

 

وهي مكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 )

( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) فيه تضمين دل عليه حرف « الباء » ، كأنه مُقَدر:يستعجل سائل بعذاب واقع. كقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي:وعذابه واقع لا محالة.

قال النسائي:حدثنا بشر بن خالد، حدثنا أبو أسامة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) قال:النضر بن الحارث بن كَلَدَة.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) قال:ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله:تعالى ( سَأَلَ سَائِلٌ ) دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة، قال:وهو قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ] .

وقال ابن زيد وغيره: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ) أي:واد في جهنم، يسيل يوم القيامة بالعذاب. وهذا القول ضعيف، بعيد عن المراد. والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.

وقوله: ( وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ ) أي:مُرصد مُعَدّ للكافرين.

وقال ابن عباس: ( وَاقِعٍ ) جاء ( لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) أي:لا دافع له إذا أراد الله كونه؛ ولهذا قال ( مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) قال الثوري، عن الأعمش، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( ذِي الْمَعَارِجِ ) قال:ذو الدرجات.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( ذِي الْمَعَارِجِ ) يعني:العلو والفواضل.

وقال مجاهد: ( ذِي الْمَعَارِجِ ) معارج السماء. وقال قتادة:ذي الفواضل والنعم.

وقوله: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة: ( تَعْرُجُ ) تصعد.

وأما الروح فقال أبو صالح:هم خلق من خلق الله. يشبهون الناس، وليسوا أناسا.

قلت:ويحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يُصعد بها إلى السماء، كما دل عليه حديث البراء. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المِنْهَال، عن زاذان، عن البراء مرفوعًا - الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة- قال فيه: « فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة » . والله أعلم بصحته، فقد تُكلم في بعض رواته، ولكنه مشهور، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عنه وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ إبراهيم:27 ] .

وقوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فيه أربعة أقوال:

أحدهما:أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة. وذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة، وأنه من ياقوتة حمراء، كما ذكره ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. وقد قال ابن أبي حاتم عند هذه الآية:

حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا حَكَّام، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السماوات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كان مقداره ألف سنة. يعني بذلك:تَنـزل الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مقدار مسيرة خمسمائة سنة.

وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد، عن حَكَّام بن سلم، عن عُمَر بن معروف، عن ليث، عن مجاهد قوله، لم يذكر ابن عباس .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنافِسيّ، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا نوح المؤدب، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس قال:غلظ كل أرض خمسمائة عام، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، فذلك سبعة آلاف عام. وغلظ كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام، فذلك أربعة عشر ألف عام، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام، فذلك قوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )

القول الثاني:أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو زُرْعَة، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:الدنيا عمرها خمسون ألف سنة. وذلك عمرها يوم سماها الله تعالى يوم، ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) قال:اليوم:الدنيا.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد - وعن الحكم بن أبان، عن عكرمة: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة، لا يدري أحدٌ كم مضى، ولا كم بقي إلا الله، عز وجل .

القول الثالث:أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو قول غريب جدًا. قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حدثنا بُهلول بن المورق حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني محمد بن كعب: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.

القول الرابع:أن المراد بذلك يوم القيامة، قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:يوم القيامة. هذا وإسناده صحيح. ورواه الثوري عن سماك بن حرب، عن عكرمة ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) يوم القيامة. وكذا قال الضحاك، وابن زيد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:فهذا يوم القيامة، جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.

وقد وردت أحاديث في معنى ذلك، قال الإمام أحمد:

حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال:قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا » .

ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به إلا أن دَرّاجا وشيخه ضعيفان، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي عمرو الغُداني قال:كنت عند أبي هُرَيرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له:هذا أكثر عامري مالا. فقال أبو هريرة:ردوه فقال:نبئت أنك ذو مال كثير؟ فقال العامري:أي والله، إن لي لمائة حُمْرًا و مائة أدمًا، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل فقال أبو هريرة:إياك وأخفاف الإبل وأظلافَ النعم - يُرَدّد ذلك عليه، حتى جعل لونُ العامري يتغير- فقال:ما ذاك يا أبا هُرَيرة؟ قال:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من كانت له إبلٌ لا يعطي حقها في نجدتها ورِسْلها - قلنا يا رسول الله:ما نجدتُها ورِسْلُها؟ قال: » في عُسرها ويسرها- « فإنها تأتي يوم القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه بأخفافها، فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ثم يبطح لها بقاع قَرقَر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها، وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله. وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره، حتى يبطح لها بقاع قَرقَر، فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها، ليس فيها عَقصاء ولا عضباء، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله » . قال العامري:وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال:أن تعطي الكريمة، وتمنح الغَزيرَة، وتفقر الظهر، وتَسقيَ اللبن وتُطرقَ الفحل.

وقد رواه أبو داود من حديث شعبة، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة، كلاهما عن قتادة، به .

طريق أخرى لهذا الحديث:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل، عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من صاحب كنـز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها بجهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار » . وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم، وفيه: « الخيل الثلاثة؛ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر » إلى آخره .

ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردًا به دون البخاري، من حديث سُهَيل عن أبيه، عن أبي هُرَيرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب الزكاة في « الأحكام » ، والغرض من إيراده هاهنا قوله: « حتى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » .

وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن عُلَيَّة وعبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكة قال:سأل رجل ابن عباس عن قوله: ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) قال:فاتهمه، فقيل له فيه، فقال:ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال:إنما سألتك لتحدثني. قال:هما يومان ذكرهما الله، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم .

وقوله: ( فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا ) أي:اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب استبعادًا لوقوعه، كقوله: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشورى:18 ] قال: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ) أي:وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى مستحيل الوقوع، ( وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) أي:المؤمنون يعتقدون كونه قريبا، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله، عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 )

يقول تعالى:العذابُ واقع بالكافرين ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وغير واحد، كدرْديّ الزيت، ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) أي:كالصوف المنفوش، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي. وهذه الآية كقوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ القارعة:5 ] .

وقوله: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا أي:لا يسأل القريب عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغله نفسه عن غيره.

 

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ( 14 ) كَلا إِنَّهَا لَظَى ( 15 ) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَى ( 18 )

قال العوفي عن ابن عباس:يعرف بعضهم بعضا، ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك، يقول: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ

وهذه الآية الكريمة كقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [ لقمان:33 ] . وكقوله: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [ فاطر:18 ] . وكقوله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] . وكقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [ عبس:34 - 37 ] .

وقوله: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا ) أي:لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، وبأعز ما يجده من المال، ولو بملء الأرض ذهبًا، أو من ولده الذي كان في الدنيا حُشَاشة كبده، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به، ولا يقبل منه. قال مجاهد والسدي: ( فَصِيلَتِهِ ) قبيلته وعشيرته. وقال عكرمة:فَخذه الذي هو منهم. وقال أشهب، عن مالك: ( فَصِيلَتِهِ ) أمه.

وقوله: ( إِنَّهَا لَظَى ) يصف النار وشدة حرها ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) قال ابن عباس، ومجاهد:جلدة الرأس. وقال العوفي، عن ابن عباس: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) الجلود والهام. وقال مجاهد:ما دون العظم من اللحم. وقال سعيد بن جبير:العصب. والعقب. وقال أبو صالح: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) يعني:أطراف اليدين والرجلين. وقال أيضا:نـزاعة لحم الساقين. وقال الحسن البصري، وثابت البناني: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) أي:مكارم وجهه. وقال الحسن أيضا:تحرق كل شيء فيه، ويبقى فؤاده يصيح. وقال قتادة: ( نـزاعَةً لِلشَّوَى ) أي:نـزاعة لهامته ومكارم وَجهه وخَلْقَه وأطرافه. وقال الضحاك:تبري اللحم والجلد عن العظم، حتى لا تترك منه شيئًا. وقال ابن زيد:الشوى:الآراب العظام. فقوله:نـزاعة، قال:تقطع عظامهم، ثم يُجَدد خلقهم وتبدل جلودهم.

وقوله: ( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) أي:تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، وقدر لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلق ذَلِق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب. وذلك أنهم - كما قال الله، عز وجل- كانوا ممن ( أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) أي:كذب بقلبه، وترك العمل بجوارحه ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) أي:جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أي:أوكاه ومنع حق الله منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة. وقد ورد في الحديث: « ولا تُوعي فَيُوعي الله عليك » وكان عبد الله بن عُكيم لا يربط له كيسا ويقول:سمعت الله يقول: ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى )

وقال الحسن البصري:يا ابن آدم، سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيتَ الدنيا.

وقال قتادة في قوله: ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) قال:كان جَمُوعًا قمُومًا للخَبيث.

إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ( 19 ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ( 20 ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( 21 ) إِلا الْمُصَلِّينَ ( 22 ) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ( 23 ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ( 24 ) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 25 ) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 26 ) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ( 27 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( 28 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 29 ) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 30 ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 31 ) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 32 ) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ( 33 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 34 ) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ( 35 )

يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة: ( إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) ثم فسره بقوله: ( إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ) أي:إذا أصابه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير.

( وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) أي:إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله فيها.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن عُلَيّ بنُ رَباح:سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال:سمعت أبا هُرَيرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شر ما في رجل شُحٌ هالع، وجبن خالع » .

ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح، عن أبي عبد الرحمن المقري، به وليس لعبد العزيز عنده سواه.

ثم قال: ( إِلا الْمُصَلِّينَ ) أي:الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه، وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه، وهم المصلون ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) قيل:معناه يحافظون على أوقاتهم وواجباتهم. قاله ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم النخعي.

وقيل:المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ المؤمنون:1، 2 ] . قاله عتبة بن عامر. ومنه الماء الدائم، أي:الساكن الراكد.

وقيل:المراد بذلك الذين إذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه، كما جاء في الصحيح عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ » . وفي لفظ: « ما داوم عليه صاحبه » ، قالت:وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا داوم عليه. وفي لفظ:أثبته .

وقال قتادة في قوله: ( الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ) ذُكر لنا أن دانيال، عليه السلام، نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال:يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة. فعليكم بالصلاة فإنها خُلُق للمؤمنين حسن.

وقوله: ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) أي:في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات. وقد تقدم الكلام على ذلك في « سورة الذاريات » .

وقوله: ( وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) أي:يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب؛ ولهذا قال: ( وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي:خائفون وجلون، ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) أي:لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى.

وقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) أي:يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله [ فيه ] ولهذا قال: ( إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) أي:من الإماء، ( فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) وقد تقدم تفسير ذلك في أول سورة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) بما أغنى عنى إعادته هاهنا.

وقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) أي:إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا. وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين، كما ورد في الحديث الصحيح: « آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان » . وفي رواية: « إذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فجر » .

وقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) أي:محافظون عليها لا يزيدون فيها، ولا ينقصون منها، ولا يكتمونها، وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ البقرة:283 ] .

ثم قال: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) أي:على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، كما تقدم في أول سورة: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ؛ سواء لهذا قال هناك: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ المؤمنون:10، 11 ] وقال هاهنا: ( أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) أي:مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ( 36 ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ( 37 ) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( 38 ) كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ( 39 )

يقول تعالى منكرًا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له، ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه، متفرقون عنه، شاردون يمينًا وشمالا فِرَقًا فِرَقًا، وشِيعًا شِيعًا، كما قال تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [ المدثر:49، 51 ] الآية وهذه مثلها؛ فإنه قال تعالى: ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) أي:فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد ( مُهْطِعِينَ ) أي مسرعين نافرين منك، كما قال الحسن البصري: ( مُهْطِعِينَ ) أي:منطلقين، ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) واحدها عزَةٌ، أي:متفرقين. وهو حال من مهطعين، أي:في حال تفرقهم واختلافهم، كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء:فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) قال:قبلك ينظرون، ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) قال:العزين:العُصَب من الناس، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار. حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة، عن الحسن في قوله: ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) متفرقين، يأخذون يمينًا وشمالا يقولون:ما قال هذا الرجل؟

وقال قتادة: ( مُهْطِعِينَ ) عامدين، ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) أي:فِرَقًا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقال الثوري، وشعبة، وعيسى بن يونس وعَبْثَر بن القاسم ومحمد بن فضيل، ووَكِيع، ويحيى القطان، وأبو معاوية، كلهم عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق، فقال: « ما لي أراكم عزين؟ »

رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، من حديث الأعمش، به

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق حِلق، فقال: « ما لي أراكم عزين؟ » .

وهذا إسناد جيد، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

وقوله: ( أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) أي:أيطمع هؤلاء - والحالة هذه- من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق - أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا بل مأواهم الجحيم.

ثم قال تعالى مقررًا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده، مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها، فقال ( إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) أي:من المني الضعيف، كما قال: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [ المرسلات:20 ] . وقال: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [ الطارق:5 - 10 ] .

 

فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ( 40 ) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 41 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 42 ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( 43 ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 44 )

ثم قال: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ) أي:الذي خلق السماوات والأرض، وجعل مشرقا ومغربا، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام:ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب، ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة. ولهذا أتى ب « لا » في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة، وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السماوات والأرض، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات، وسائر صنوف الموجودات؛ ولهذا قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [ غافر:57 ] وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الأحقاف:33 ] . وقال تعالى في الآية الأخرى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:81، 82 ] . وقال هاهنا: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ) أي:يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه، فإن قدرته صالحة لذلك، ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) أي:بعاجزين. كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [ القيامة:3، 4 ] . وقال تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ [ الواقعة:60، 61 ] .

واختار ابن جرير ( عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ) أي:أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها، كقوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد:38 ] . والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الأخر عليه، والله أعلم.

ثم قال تعالى: ( فَذَرْهُمْ ) أي:يا محمد ( يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ) أي:دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) أي:فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) أي:يقومون من القبور إذا دعاهم الرب، تبارك وتعالى، لموقف الحساب، ينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون.

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك:إلى عَلَم يسعون. وقال أبو العالية، ويحيى بن أبي كثير:إلى غاية يسعون إليها.

وقد قرأ الجمهور: « نَصْب » بفتح النون وإسكان الصاد، وهو مصدر بمعنى المنصوب. وقرأ الحسن البصري: ( نُصُبٍ ) بضم النون والصاد، وهو الصنم، أي:كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون، يبتدرون، أيهم يستلمه أول. وهذا مروي عن مجاهد، ويحيى بن أبي كثير، ومسلم البَطين وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وأبي صالح، وعاصم بن بَهْدَلة، وابن زيد، وغيرهم.

وقوله: ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) أي:خاضعة ( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) أي:في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة، ( ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ )

آخر تفسير سورة « سأل سائل » ولله الحمد والمنة.

 

أعلى