فهرس تفسير بن كثير للسور

7 - تفسير بن كثير سورة الأعراف

التالي السابق

 

تفسير سورة الأعراف

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المص ( 1 ) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 3 )

قد تقدم الكلام في أول « سورة البقرة » على ما يتعلق بالحروف وبسطه، واختلاف الناس فيه.

وقال ابن جرير:حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شَرِيك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: ( المص ) أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جُبَير.

[ قوله ] كِتَابٌ أُنـزلَ إِلَيْكَ ) أي:هذا كتاب أنـزل إليك، أي:من ربك، ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) قال مجاهد، [ وعطاء ] وقتادة والسُّدِّي:شَكٌّ منه.

وقيل:لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به [ واصبر ] كما صبر أولو العزم من الرسل؛ ولهذا قال: ( لِتُنْذِرَ بِهِ ) أي:أنـزل إليك لتنذر به الكافرين، ( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

ثم قال تعالى مخاطبًا للعالم: ( اتَّبِعُوا مَا أُنـزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنـزل إليكم من رب كلّ شيء ومليكه، ( وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) أي:لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره.

( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) كقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ يوسف:103 ] . وقوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ الأنعام:116 ] وقوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [ يوسف:106 ] .

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( 4 ) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 5 ) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( 6 ) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ( 7 )

يقول تعالى: ( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ) أي:بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خِزْيُ الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة، كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الأنعام:10 ] . وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحج:45 ] . وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [ القصص:58 ] .

وقوله: ( فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) أي:فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته ( بَيَاتًا ) أي:ليلا ( أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) من القيلولة، وهي:الاستراحة وسط النهار. وكلا الوقتين وقت غَفْلة ولَهْو كما قال [ تعالى ] أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [ الأعراف:97، 98 ] . وقال: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ النحل:45- 47 ] .

وقوله: ( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) أي:فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا. كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا ] خَامِدِينَ [ الأنبياء:11- 15 ] .

وقال ابن جرير:في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: « ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم » ، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد، حدثنا جرير، عن أبي سِنان، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال:قال عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم » . قال:قلت لعبد الملك:كيف يكون ذاك؟ قال:فقرأ هذه الآية: ( فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) .

وقوله: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ) الآية، كقوله [ تعالى ] وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [ القصص:65 ] وقوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ [ المائدة:109 ] فالرَّبُّ تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) قال:يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا.

وقال ابن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أبو سعيد الكنْدي، حدثنا المحاربي، عن لَيْث، عن نافع، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ، فالإمام يُسْأل عن الرجل والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده » . قال الليث:وحدثني ابن طاوس، مثله، ثم قرأ: ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين بدون هذه الزيادة

وقال ابن عباس: ( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون، ( وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ) يعني:أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا، من قليل وكثير، وجليل وحَقِير؛ لأنه تعالى شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 8 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ( 9 )

يقول [ تبارك و ] تعالى: ( وَالْوَزْن ) أي:للأعمال يوم القيامة ( الْحَق ) أي:لا يظلم تعالى أحدا، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الأنبياء:47 ] وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ النساء:40 ] وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [ القارعة:6- 11 ] وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [ المؤمنون:101 - 103 ] .

فصل:

والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل:الأعمال وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

قال البغوي:يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن « البقرة » و « آل عمران » يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو:غيَايَتان - أو فِرْقَان من طير صَوَافّ. من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون، فيقول:من أنت؟ فيقول:أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك وفي حديث البراء، في قصة سؤال القبر: « فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح، فيقول:من أنت؟ فيقول:أنا عملك الصالح » وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

وقيل:يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: « لا إله إلا الله » فيقول:يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى:إنك لا تُظلَم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فَطاشَت السجلات، وثَقُلَتِ البطاقة » .

رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه.

وقيل:يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: « يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة » ثم قرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [ الكهف:105 ] .

وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: « أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ، فوالذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ »

وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ( 10 )

يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جَعَل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباح منافعها، وسَخَّر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش، أي:مكاسب وأسبابًا يتجرون فيها، ويتسببون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ إبراهيم:34 ] .

وقد قرأ الجميع: ( مَعَايِش ) بلا همز، إلا عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج فإنه همزها. والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز؛ لأن معايش جمع معيشة، من عاش يعيش عيشا، ومعيشة أصلها « مَعْيِشَة » فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى العين فصارت مَعِيشة، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل:معايش. ووزنه مفاعل؛ لأن الياء أصلية في الكلمة. بخلاف مدائن وصحائف وبصائر، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من:مدن وصحف وأبصر، فإن الياء فيها زائدة، ولهذا تجمع على فعائل، وتهمز لذلك، والله أعلم.

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( 11 )

ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، فقال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [ فَسَجَدُوا ] ) وهذا كقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * [ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ] الآية [ الحجر:28 - 30 ] ، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم، عليه السلام، بيده من طين لازب، وصوره بشرًا [ سويا ] ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير « سورة البقرة » .

وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير:أن المراد بذلك كله آدم، عليه السلام.

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) قال:خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء.

رواه الحاكم، وقال:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه

ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا:أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم:الذرية.

وقال الربيع بن أنس، والسُّدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) أي:خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.

وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعده: ( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) دل على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى البقرة:57 ] والمراد:آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى [ عليه السلام ] ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء. وهذا بخلاف قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * [ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ] [ المؤمنون:12 - 13 ] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم.

 

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 )

قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: ( مَا [ مَنَعَكَ ] أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) لا هاهنا زائدة.

وقال بعضهم:زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله

فأدخل « إن » وهي للنفي، على « ما » النافية؛ لتأكيد النفي، قالوا:وكذلك هاهنا: ( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ) مع تقدم قوله: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ

حكاهما ابن جرير وردهما، واختار أن « منعك » تضمن معنى فعل آخر تقديره:ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك. وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.

وقول إبليس لعنه الله: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله:وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه، بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه، وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص:72 ] فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود؛ فلهذا أبلس من الرحمة، أي:أيس من الرحمة، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.

وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم » هكذا رواه مسلم .

وقال ابن مَرْدُوَيه:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا نُعَيم بن حماد، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلق الله الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من [ مارج من ] نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم » . قلت لنعيم بن حماد:أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال:باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح: « وخلقت الحور العين من الزعفران » .

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شَوْذَب، عن مطر الوَرَّاق، عن الحسن في قوله: ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال:قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.

وقال:حدثني عمرو بن مالك، حدثنى يحيى بن سليم الطائفي عن هشام، عن ابن سيرين قال:أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس إسناد صحيح أيضا.

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 13 ) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ( 14 ) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ( 15 )

يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني: ( فَاهْبِطْ مِنْهَا ) أي:بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبر فيها.

قال كثير من المفسرين:الضمير عائد إلى الجنة، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنـزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى.

( فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) أي:الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده، مكافأة لمراده بضده، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين، قال: ( أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين ) أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا مُعَقِّبَ لحكمه، وهو سريع الحساب.

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( 16 ) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( 17 )

يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: ( فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي:كما أغويتني.

قال ابن عباس:كما أضللتني. وقال غيره:كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على ( صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) أي:طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.

وقال بعض النحاة:الباء هاهنا قسمية، كأنه يقول:فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.

قال مجاهد: ( صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) يعني:الحق.

وقال محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله:يعني طريق مكة.

قال ابن جرير:والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك [ كله ] .

قلت:لما روى الإمام أحمد:

حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عَقِيل- يعني الثقفي عبد الله بن عقيل - حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال:أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ » . قال: « فعصاه وأسلم » . قال: « وقعد له بطريق الهجرة فقال:أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال:تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ » . قال: « فعصاه، فجاهد » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة » .

وقوله: ( ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ] ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) أشككهم في آخرتهم، ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) أرغبهم في دنياهم ( وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ) أشبَه عليهم أمر دينهم ( وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) أشهي لهم المعاصي.

وقال [ علي ] بن طلحة - في رواية - والعَوْفي، كلاهما عن ابن عباس:أما ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) فمن قبل دنياهم، وأما ( مِنْ خَلْفِهِمْ ) فأمر آخرتهم، وأما ( عَنْ أَيْمَانِهِمْ ) فمن قِبَل حسناتهم، وأما ( عَنْ شَمَائِلِهِمْ ) فمن قبل سيئاتهم.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة:أتاهم ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و ( عَنْ أَيْمَانِهِم ) من قبل حسناتهم بَطَّأهم عنها ( وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. آتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.

وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي، والحكم بن عتيبة والسدي، وابن جرير إلا أنهم قالوا: ( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ) الدنيا ( وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) الآخرة.

وقال مجاهد: « من بين أيديهم وعن أيمانهم » :حيث يبصرون، « ومن خلفهم وعن شمائلهم » :حيث لا يبصرون .

واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يُحببه لهم.

وقال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: ( ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) ولم يقل:من فوقهم؛ لأن الرحمة تنـزل من فوقهم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) قال:موحدين.

وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [ سبأ:20 ، 21 ] .

ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:

حدثنا نَصْر بن علي، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، عن يونس بن خَبَّاب، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم - يعني نافع بن جبير - عن ابن عباس - وحدثنا عمر بن الخطاب - يعني السجستاني - حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن يونس بن خباب - عن ابن جبير بن مطعم - عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي » . تفرد به البزار وحسنه.

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدثني جُبَير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم، سمعت عبد الله بن عمر يقول:لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: « اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فَوْقِي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي » . قال وكيع:يعني الخسف.

ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم، به وقال الحاكم:صحيح الإسناد.

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ( 18 )

أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: ( اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا )

قال ابن جرير:أما « المذءوُم » فهو المعيب، والذّأم غير مشدَّد:العيب. يقال: « ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم » . ويتركون الهمز فيقولون: « ذمْته أذيمه ذيما وذَاما، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم » .

قال: « والمدحور » :المُقْصَى. وهو المبعد المطرود.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:ما نعرف « المذءوم » و « المذموم » إلا واحدًا.

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: ( اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ) قال:مقيتا.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:صغيرا مقيتا. وقال السدي:مقيتا مطرودا. وقال قتادة:لعينا مقيتا. وقال مجاهد:منفيًا مطرودًا. وقال الربيع بن أنس:مذؤوما:منفيا، والمدحور:المصغر .

وقوله تعالى: ( لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ) كقوله قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا [ الإسراء:63 - 65 ] .

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 19 ) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( 20 ) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( 21 )

يذكر تعالى أنه أباح لآدم، عليه السلام، ولزوجته [ حواء ] الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة. وقد تقدم الكلام على ذلك في « سورة البقرة » ، فعند ذلك حسدهما الشيطان، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، وقال كذبا وافتراء:ما نهاكما ربكما عن أكل الشجرة إلا لتكونا ملكين أي:لئلا تكونا ملكين، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما كقوله: قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ طه:120 ] أي:لئلا تكونا ملكين، كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ النساء:176 ] أي:لئلا تضلوا، وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [ النحل:15 ] أي:لئلا تميد بكم.

وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن: ( إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ ) بكسر اللام. وقرأه الجمهور بفتحها.

( وَقَاسَمَهُمَا ) أي:حلف لهما بالله: ( إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فإني من قَبْلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان، وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين، كما قال خالد بن زهير، ابن عم أبي ذؤيب:

وقاسَــمَها باللــه جَــهْدا لأنتــمُ ألـذّ مـن السـلوى إذ مـا نشـورها

أي:حلف لهما بالله [ على ذلك ] حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال:إني خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: « من خادعنا بالله خُدعنا له » .

فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 22 )

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، رضي الله عنه، قال:كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق، كثير شعر الرأس. فلما وقع بما وقع به من الخطيئة، بَدَتْ له عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها:أرسليني. فقالت:إني غير مرسلتك. فناداه ربه، عز وجل:يا آدم، أمنّي تفر؟ قال:رب إني استحييتك.

وقد رواه ابن جرير، وابن مَرْدُويه من طُرُق، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصحّ إسنادا.

وقال عبد الرزاق:أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة. فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين، يلزقان بعضه إلى بعض. فانطلق آدم، عليه السلام، موليا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من الجنة، فناداه:يا آدم، أمني تفر؟ قال:لا ولكني استحييتك يا رب. قال:أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة، عما حرمت عليك. قال:بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال:وهو قوله، عز وجل وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ قال:فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كَدا. قال:فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان منها رَغَدًا، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعُلّم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسه، ثم ذَرّاه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ وقال الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) قال:ورق التين. صحيح إليه.

وقال مجاهد:جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب.

وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا قال:كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما. رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال:قال آدم:أي رب، أرأيت إن تبت واستغفرت؟ قال:إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأله النظرة، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:لما أكل آدم من الشجرة قيل له:لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. قال:حواء. أمرتني. قال:فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها، ولا تضع إلا كَرْها. قال:فرنَّت عند ذلك حواء. فقيل لها:الرنة عليك وعلى ولدك

 

قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )

وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله: ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه [ عز وجل ]

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 ) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 )

قيل:المراد بالخطاب في ( اهْبِطُوا ) آدم، وحواء، وإبليس، والحية. ومنهم من لم يذكر الحية، والله أعلم.

والعمدة في العداوة آدم وإبليس؛ ولهذا قال تعالى في سورة « طه » قال: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [ الآية:123 ] وحواء تبع لآدم. والحية - إن كان ذكرها صحيحا - فهي تبع لإبليس.

وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها. ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم، أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) أي:قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول. وقال ابن عباس: ( مُسْتَقَرٌّ ) القبور. وعنه:وجه الأرض وتحتها. رواهما ابن أبي حاتم.

وقوله: ( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) كقوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [ طه:55 ] يخبر تعالى أنه يجعل الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم، ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجازي كلا بعمله.

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 26 )

يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس المذكور هاهنا لستر العورات - وهي السوآت والرياش والريش:هو ما يتجمل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات.

قال ابن جرير: « الرياش » في كلام العرب:الأثاث، وما ظهر من الثياب.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - وحكاه البخاري - عنه:الرياش:المال. وكذا قال مجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، والسُّدِّي والضحاك

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: « الرياش » اللباس، والعيش، والنعيم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: « الرياش » :الجمال.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصْبَغُ، عن أبي العلاء الشامي قال:لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال:الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم قال:سمعت عمر بن الخطاب يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استجد ثوبًا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته:الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو:ألقى فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا، [ حيا وميتا، حيا وميتا ] » .

ورواه الترمذي، وابن ماجه، من رواية يزيد بن هارون، عن أصبغ - هو ابن زيد الجهني - وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره، وشيخه « أبو العلاء الشامي » لا يعرف إلا بهذا الحديث، ولكن لم يخرجه أحد، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع التمار، عن أبي مطر؛ أنه رأى عليا، رضي الله عنه، أتى غلامًا حدثًا، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه:الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل:هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة: « الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي »

وقوله تعالى: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) قرأ بعضهم: « ولباسَ التقوى » ، بالنصب. وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء، ( ذَلِكَ خَيْرٌ ) خبره.

واختلف المفسرون في معناه، فقال عكرمة:يقال:هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم.

وقال زيد بن علي، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جُريْج: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) الإيمان.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس [ رضي الله عنه: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) ] العمل الصالح.

وقال زياد بن عمرو، عن ابن عباس:هو السمت الحسن في الوجه.

وعن عُرْوَة بن الزبير: ( لِبَاسُ التَّقْوَى ) خشية الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( لِبَاسُ التَّقْوَى ) يتقي الله، فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.

وكل هذه متقاربة، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال:

حدثني المثنى، حدثنا إسحاق بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن قال:رأيت عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام. ثم قال:يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر » . ثم تلا هذه الآية: « ورياشًا » ولم يقرأ:وريشًا - ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) قال: « السمت الحسن » .

هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم وفيه ضعف. وقد روى الأئمة:الشافعي، وأحمد، والبخاري في كتاب « الأدب » من طرق صحيحة، عن الحسن البصري؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام، يوم الجمعة على المنبر.

وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا من وجه آخر، حيث قال:حدثنا....

يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 )

يقول تعالى محذرًا بني آدم من إبليس وقبيله، ومبينًا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم، عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم، إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ الكهف:50 ]

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )

قال مجاهد:كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون:نطوف كما ولدتنا أمهاتنا. فتضع المرأة على فرجها النسعة، أو الشيء وتقول:

اليــوم يبــدُو بعضُــه أو كلّــه ومــا بَــدا منــه فــلا أحلّــهُ

فأنـزل الله [ تعالى ] ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) الآية.

قلت:كانت العرب - ما عدا قريشًا - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش - وهم الحُمْس - يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبًا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمسي ثوبًا، طاف عريانًا. وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول:

اليــوم يبــدُو بعضُــه أو كلّــه ومــا بــدَا منــه فــلا أحلّــهُ

وأكثر ما كان النساء يطفن [ عراة ] بالليل، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال: ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) فقال تعالى ردًا عليهم: ( قُلْ ) أي:قل يا محمد لمن ادعى ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) أي:هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته.

وقوله: ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) أي:بالعدل والاستقامة، ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) أي:أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله [ تعالى ] وما جاءوا به [ عنه ] من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين:أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك.

وقوله تعالى: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون * [ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ] الضَّلالَة ) - اختلف في معنى [ قوله تعالى ] ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) فقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) يحييكم بعد موتكم.

وقال الحسن البصري:كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.

وقال قتادة: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) قال:بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا.

واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: « يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [ الأنبياء:104 ] . »

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين، من حديث شعبة، وفي حديث البخاري - أيضا - من حديث الثوري به.

وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد، عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) قال:يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا.

وقال أبو العالية: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) رُدُّوا إلى علمه فيهم.

وقال سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية:كما كنتم تكونون عليه تكونون.

وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتُدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، إن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه.

وقال السُّدِّي: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) يقول: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) كما خلقناكم، فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) قال:إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال [ تعالى ] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ التغابن:2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم مؤمنًا وكافرًا.

قلت:ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري « فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو:ذراع - فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو:ذراع - فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة »

وقال أبو القاسم البَغَوي:حدثنا علي بن الجَعْد، حدثنا أبو غَسَّان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار. وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم »

هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني، في قصة « قُزْمان » يوم أحد

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « :تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه » .

وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه، عن الأعمش، به. ولفظه: « يبعث كل عبد على ما مات عليه »

قلت:ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [ الروم:30 ] وما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه » وفي صحيح مسلم، عن عِياض بن حمَار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى:إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم » الحديث. ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر، في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن منهم شقيًا ومنهم سعيدًا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ التغابن:2 ] وفي الحديث: « كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا، أو مُوبِقها » وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [ الأعلى:3 ] و الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [ طه:50 ] وفي الصحيحين: « فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة » ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) ثم علل ذلك فقال: ( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ] )

قال ابن جرير:وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرق. وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية [ الكريمة ]

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير - واللفظ له - من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء:الرجال بالنهار، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول:

اليــومَ يبــدُو بعضُــه أو كُلّــه ومــا بَــدَا مِنْــه فــلا أحِلّــهُ

فقال الله تعالى: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ] ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) الآية، قال:كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة - والزينة:اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك، ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها:أنها أنـزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنـزلت في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر والله أعلم.

ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب البياض، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر » .

هذا حديث جيد الإسناد، رجاله على شرط مسلم. ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم »

وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين:أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه.

وقوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) الآية. قال بعض السلف:جمع الله الطب كله في نصف آية: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا )

وقال البخاري:قال ابن عباس:كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان:سرَف ومَخِيلة.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن

ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده صحيح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده »

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه » .

ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به وقال الترمذي:حسن - وفي نسخة:حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف بن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت » .

ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال:هذا حديث غريب تفرد به بقية.

وقال السُّدِّي:كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله [ تعالى ] لهم: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) يقول:لا تسرفوا في التحريم.

وقال مجاهد:أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( وَلا تُسْرِفُوا ) يقول:ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) في الطعام والشراب.

وقال ابن جرير:وقوله: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) يقول الله:إن الله [ تعالى ] لا يحب المتعدين حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )

يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله: ( قُلْ ) يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: ( مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] ) الآية، أي:هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.

قال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال:كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون. فأنـزل الله: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) فأمروا بالثياب.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله: ( وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قال السُّدِّي:أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.

وقال مجاهد:الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.

وحاصل ما فُسّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.

وقوله: ( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] الآية [ الحج:30 ، 31 ] .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 ) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 )

يقول تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) أي:قرن وجيل ( أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) أي:ميقاتهم المقدر لهم ( لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ) عن ذلك ( وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال: ( فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) أي:ترك المحرمات وفعل الطاعات ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) أي:كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )

يقول [ تعالى ] ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي:لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنـزلة.

( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس:ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول:نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به، ومن عمل شرًا جُزِي به.

وقال مجاهد:ما وعدوا فيه من خير وشر.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد. واختاره ابن جرير.

وقال محمد بن كعب القرظي: ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) قال:عمله ورزقه وعمره.

وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [ تعالى ] إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:69 ، 70 ] وقوله وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ] [ لقمان:23 ، 24 ] .

وقوله [ تعالى ] ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] ) الآية:يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه. قالوا: ( ضَلُّوا عَنَّا ) أي:ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم. ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي:أقروا واعترفوا على أنفسهم ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .

 

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 31 )

هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير - واللفظ له - من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء:الرجال بالنهار، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول:

اليــومَ يبــدُو بعضُــه أو كُلّــه ومــا بَــدَا مِنْــه فــلا أحِلّــهُ

فقال الله تعالى: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ] ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) الآية، قال:كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة - والزينة:اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.

وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك، ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها:أنها أنـزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.

وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنـزلت في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر والله أعلم.

ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب البياض، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر » .

هذا حديث جيد الإسناد، رجاله على شرط مسلم. ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم »

وروى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين:أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه.

وقوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) الآية. قال بعض السلف:جمع الله الطب كله في نصف آية: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا )

وقال البخاري:قال ابن عباس:كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان:سرَف ومَخِيلة.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن

ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال:أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده صحيح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده »

ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة »

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معديكرب الكندي قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه » .

ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به وقال الترمذي:حسن - وفي نسخة:حسن صحيح.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف بن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت » .

ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال:هذا حديث غريب تفرد به بقية.

وقال السُّدِّي:كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله [ تعالى ] لهم: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] ) يقول:لا تسرفوا في التحريم.

وقال مجاهد:أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( وَلا تُسْرِفُوا ) يقول:ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.

وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) في الطعام والشراب.

وقال ابن جرير:وقوله: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) يقول الله:إن الله [ تعالى ] لا يحب المتعدين حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 32 )

يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله: ( قُلْ ) يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: ( مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] ) الآية، أي:هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.

قال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال:كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون. فأنـزل الله: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) فأمروا بالثياب.

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 33 )

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقوله: ( وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قال السُّدِّي:أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.

وقال مجاهد:الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.

وحاصل ما فُسّر به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.

وقوله: ( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) أي:تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] الآية [ الحج:30 ، 31 ] .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 34 ) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 35 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 36 )

يقول تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ) أي:قرن وجيل ( أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) أي:ميقاتهم المقدر لهم ( لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ) عن ذلك ( وَلا يَسْتَقْدِمُونَ )

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال: ( فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ ) أي:ترك المحرمات وفعل الطاعات ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ) أي:كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 37 )

يقول [ تعالى ] ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) أي:لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنـزلة.

( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس:ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول:نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به، ومن عمل شرًا جُزِي به.

وقال مجاهد:ما وعدوا فيه من خير وشر.

وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد. واختاره ابن جرير.

وقال محمد بن كعب القرظي: ( أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ) قال:عمله ورزقه وعمره.

وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله: ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [ تعالى ] إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يونس:69 ، 70 ] وقوله وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ] [ لقمان:23 ، 24 ] .

وقوله [ تعالى ] ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] ) الآية:يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه. قالوا: ( ضَلُّوا عَنَّا ) أي:ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم. ( وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي:أقروا واعترفوا على أنفسهم ( أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) .

 

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 44 ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ( 45 )

يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ: ( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا [ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ] ) « أن » هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف، و « قد » للتحقيق، أي:قالوا لهم: ( قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ) كما أخبر تعالى في سورة « الصافات » عن الذي كان له قرين من الكفار: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [ الآيات:55- 59 ] أي:ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال، وكذا تقرعهم الملائكة يقولون لهم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطور:14- 16 ] وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر، فنادى: « يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة - وسمى رءوسهم- :هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا » . وقال عمر:يا رسول الله، تخاطب قومًا قد جَيفوا؟ فقال: « والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا » .

وقوله: ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) أي:أعلم معلم ونادى مُنَاد: ( أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أي:مستقرة عليهم.

ثم وصفهم بقوله: ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ) أي:وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي:جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه، ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا.

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ( 46 ) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 47 )

لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.

قال ابن جرير:وهو السور الذي قال الله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ الحديد:13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى: ( وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ )

ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله [ تعالى ] ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ) وهو « السور » ، وهو « الأعراف » .

وقال مجاهد:الأعراف:حجاب بين الجنة والنار، سور له باب.

قال ابن جرير:والأعراف جمع « عُرْف » ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى « عرفًا » ، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه.

وحدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن عيينة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول:الأعراف هو الشيء المشرف.

وقال الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:الأعراف:سور كعُرْف الديك.

وفي رواية عن ابن عباس:الأعراف، تل بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. وفي رواية عنه:هو سور بين الجنة والنار. وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير.

وقال السدي:إنما سمي « الأعراف » أعرافًا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.

واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله. وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه:

حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن الحسين، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا شيخ لنا يقال له:أبو عباد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته، فقال: « أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه من وجه آخر، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: « إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله »

وقال سعيد بن منصور:حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا يحيى بن شِبْل، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « أصحاب الأعراف » فقال: « هم ناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار قتلهم في سبيل الله » .

هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق، عن أبي معشر به وكذلك رواه ابنُ ماجه مرفوعًا، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري [ رضي الله عنهما ] والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال:فقال:هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار. قال:فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم.

وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال:

حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال:قال الشعبي:أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن - وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش - وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا، فقلت لهما:إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات. فقلت:إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال:هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فبينا هم كذلك، اطلع عليهم ربك فقال لهم:اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم.

وقال عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال:قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ] [ المؤمنون:102 ، 103 ] ثم قال:إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال:ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا:سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فتعوذوا بالله من منازلهم. قال:فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمة نورًا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [ التحريم:8 ] . وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم ينـزع، فهنالك يقول الله تعالى: ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) فكان الطمع دخولا. قال:وقال ابن مسعود:على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول:هلك من غلبت واحدته أعشاره.

رواه ابن جرير وقال أيضا:

حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: « الأعراف » :السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له: « الحياة » ، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال:تمنوا ما شئتم فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم:لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا. فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمون مساكين أهل الجنة.

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن يحيى بن المغيرة، عن جرير، به. وقد رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث، من قوله وهذا أصح، والله أعلم. وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.

وقال سُنَيْد بن داود:حدثني جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال « هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من فصله بين العباد قال:أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم » . وهذا مرسل حسن

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة « الوليد بن موسى » ، عن منبه بن عثمان عن عُرْوَة بن رُوَيْم، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم فقال: « على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم » . فسألناه:وما الأعراف؟ فقال: « حائط الجنة تجري فيها الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار » .

رواه البيهقي، عن ابن بشران، عن علي بن محمد المصري، عن يوسف بن يزيد، عن الوليد بن موسى، به

وقال سفيان الثوري، عن خُصَيف، عن مجاهد قال:أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء.

وقال ابن جرير:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى: ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) قال:هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا في النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ قال:فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .

وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق:وقول الجمهور مقدم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه. وكذا قول مجاهد:إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا. والله أعلم.

وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها:أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة، دخلوا يطلعون على أخبار الناس. وقيل:هم أنبياء. وقيل:ملائكة.

وقوله تعالى: ( يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه. وكذا روى الضحاك، عنه.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس أنـزلهم الله بتلك المنـزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين. وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله.

وكذا قال مجاهد، والضحاك، والسدي، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال مَعْمَر، عن الحسن:إنه تلا هذه الآية: ( لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) قال:والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.

وقال قتادة [ قد ] أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.

وقوله: ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) قال الضحاك، عن ابن عباس:إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )

وقال السُّدِّي:وإذا مروا بهم - يعني بأصحاب الأعراف - بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا: ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )

وقال عكرمة:تحدد وجوههم في النار، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ ) فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، ( قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )

وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ( 48 ) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ( 49 )

يقول الله تعالى مخبرًا عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم: ( مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ) أي:كثرتكم، ( وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) أي:لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله، بل صرتم إلى ما صرتم فيه من العذاب والنكال. ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني:أصحاب الأعراف ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ [ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ] ) الآية، قال:فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا - يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار- قال الله [ تعالى ] لأهل التكبر والأموال: ( أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )

وقال حذيفة:إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم، فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة،

وقصرت بهم سيئاتهم عن النار، فجُعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم، فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم فقالوا:يا آدم، أنت أبونا، فاشفع لنا عند ربك. فقال:هل تعلمون أن أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبَه، وسجدت له الملائكة غيري؟ فيقولون:لا. [ قال ] فيقول:ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم. فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم، فيقول: [ هل ] تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أن أحدًا أحرقه قومه بالنار في الله غيري؟ فيقولون:لا. فيقول:ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا ابني موسى. فيأتون موسى، عليه السلام، [ فيقولون:اشفع لنا عند ربك ] فيقول:هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا وقربه نجيًا غيري؟ فيقولون:لا فيقول:ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى. فيأتونه، عليه السلام، فيقولون له:اشفع لنا عند ربك. فيقول:هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب غيري؟ فيقولون:لا. فيقول:هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال:فيقولون:لا. فيقول:أنا حجيج نفسي. ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيأتونني فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول:أنا لها. ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فآتي ربي، عز وجل، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط، ثم أسجد فيقال لي:يا محمد، ارفع رأسك، وسل تُعط واشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأقول:ربي أمتي. فيقول:هم لك. فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا غبطني بذلك المقام، وهو المقام المحمود. فآتي بهم الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيذهب بهم إلى نهر يقال له:نهر الحيوان، حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت. فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة، وريح [ أهل الجنة ] فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم:مساكين أهل الجنة « »

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 51 )

يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.

قال السُّدِّي: ( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) يعني:الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:يستطعمونهم ويستسقونهم.

وقال الثوري، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال:ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول:قد احترقت، أفض علي من الماء. فيقال لهم:أجيبوهم. فيقولون: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )

وروي من وجه آخر عن سعيد، عن ابن عباس، مثله [ سواء ]

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعني:طعام الجنة وشرابها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، أخبرنا موسى بن المغيرة، حدثنا أبو موسى الصفَّار في دار عمرو بن مسلم قال:سألت ابن عباس - أو:سئل - :أي الصدقة أفضل؟ فقال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفضل الصدقة الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: ( أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) »

وقال أيضا:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال:لما مرض أبو طالب قالوا له:لو أرسلتَ إلى ابن أخيك هذا، فيرسل إليك بعنقود من الجنة لعله أن يشفيك به. فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر:إن الله حرمهما على الكافرين

ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا من اتخاذهم الدين لهوا ولعبا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للدار الآخرة.

قوله ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) أي:نعاملهم معاملة من نَسيهم؛ لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [ طه:52 ]

وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة، كما قال: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة:67 ] وقال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [ طه:126 ] وقال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [ الجاثية:34 ]

وقال العَوْفي، عن ابن عباس في [ قوله ] ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا ) قال:نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشر.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:نتركهم، كما تركوا لقاء يومهم هذا. وقال مجاهد:نتركهم في النار. وقال السُّدِّي:نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.

وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: « ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذَرْك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول:بلى. فيقول:أظننت أنك ملاقي؟ فيقول:لا. فيقول الله:فاليوم أنساك كما نسيتني »

 

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 52 ) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 53 )

يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] الآية [ هود:1 ] .

وقوله: ( فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ) أي:على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [ النساء:166 ]

قال ابن جرير:وهذه الآية مردودة على قوله: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ] [ الأعراف:2 ] ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ [ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ] ) الآية.

وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد طال الفصل، ولا دليل على ذلك، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا، بإرسال الرسل، وإنـزال الكتب، كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] ؛ ولهذا قال: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ ) أي:ما وُعِدَ من العذاب والنكال والجنة والنار. قاله مجاهد وغير واحد.

وقال مالك:ثوابه. وقال الربيع:لا يزال يجيء تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.

( يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) أي:يوم القيامة، قاله ابن عباس - ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ) أي:تركوا العمل به، وتناسوه في الدار الدنيا: ( قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) أي:في خلاصنا مما نحن فيه، ( أَوْ نُرَدُّ ) إلى الدار الدنيا ( فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الأنعام:27 ، 28 ] كما قال هاهنا: ( قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي: [ قد ] خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) أي:ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم مما هم فيه.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 54 )

يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم:سماواته وأرضه، وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة أيام هي:الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة - وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم، عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام:هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان ؟ أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:حدثنا حجاج، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - عن أبي هريرة قال:أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: « خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل » .

فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه، عن حجاج - وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم.

وأما قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح:مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشورى:11 ] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - : « من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر » . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى.

وقوله تعالى: ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) أي:يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، أي:سريعًا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس:37- 40 ] فقوله: وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ أي:لا يفوته بوقت يتأخر عنه، بل هو في أثره لا واسطة بينهما؛ ولهذا قال: ( يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ) - منهم من نصب، ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى، أي:الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ ولهذا قال منَبِّها: ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ ) ؟ أي:له الملك والتصرف، ( تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) كما قال [ تعالى ] تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] [ الفرقان:61 ] .

وقال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنـزل الله على أنبيائه؛ لقوله: ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) »

وفي الدعاء المأثور، عن أبي الدرداء - وروي مرفوعا - : « اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله »

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 55 ) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )

أرشد [ سبحانه و ] تعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال تعالى:

( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) [ قيل ] معناه:تذللا واستكانة، و ( خُفْيَة ) كما قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ] [ الأعراف:205 ] وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري [ رضي الله عنه ] قال:رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب » الحديث.

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: ( تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) قال:السر.

وقال ابن جرير: ( تَضَرُّعًا ) تذللا واستكانة لطاعته. ( وَخُفْيَة ) يقول:بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ومراءاة.

وقال عبد الله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال:إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقُه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزُّوَّر وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] ) وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا رَضِي فعله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [ مريم:3 ]

وقال ابن جُرَيْج:يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) في الدعاء ولا في غيره.

وقال أبو مِجْلِز: ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) لا يسأل منازل الأنبياء.

وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله:حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا شعبة، عن زياد بن مِخْراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد؛ أن سعدًا سمع ابنا له يدعو وهو يقول:اللهم، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال:لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء » . وقرأ هذه الآية: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] ) وإن بحسبك أن تقول: « اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل »

ورواه أبو داود، من حديث شعبة، عن زياد بن مخراق، عن أبي نَعَامة، عن ابن لسعد، عن سعد، فذكره والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفَّان، حدثنا حَمَّاد بن سلمة، أخبرنا الجريري، عن أبي نَعَامة:أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول:اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال:يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور » .

وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان به. وأخرجه أبو داود، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نَعَامة - واسمه:قيس بن عباية الحنفي البصري - وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ) ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى [ الله ] تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال: ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) أي:خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب.

ثم قال: ( إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أي:إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ] [ الأعراف:156 ، 157 ] .

وقال: ( قَرِيبٌ ) ولم يقل: « قريبة » ؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال:قريب من المحسنين.

وقال مطر الوراق:تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين، رواه ابن أبي حاتم.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 57 )

لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر - نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال: « وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا » أي:ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ ( بُشْرًا ) كقوله وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ الروم:46 ]

وقوله: ( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) أي:بين يدي المطر، كما قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [ الشورى:28 ] وقال فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الروم:50 ]

وقوله: ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا ) أي:حملت الرياح سحابًا ثقالا أي:من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله.

وأســلمتُ وجْــهِي لمـنْ أسْـلَمَتْ لَــهُ المُــزْنُ تَحْــمل عَذْبـا زُلالا

وأســلَمْتُ وَجْـهي لمـن أسـلَـمَتْ لــه الأرض تحـملُ صَخـرًا ثقـالا

وقوله: ( سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ) أي:إلى أرض ميتة، مجدبة لا نبات فيها، كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ] [ يس:33 ] ؛ ولهذا قال: ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى ) أي:كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رَمِيمًا يوم القيامة، ينـزل الله، سبحانه وتعالى، ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض. وهذا المعنى كثير في القرآن، يضرب الله مثلا للقيامة بإحياء الأرض بعد موتها؛ ولهذا قال: ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )

 

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 58 )

وقوله: ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) أي:والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا، كما قال: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [ آل عمران:37 ]

( وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا ) قال مجاهد وغيره:كالسباخ ونحوها.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية:هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.

وقال البخاري:حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة عن بُرَيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فَعَلم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا. ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به » .

رواه مسلم والنسائي من طرق، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 59 ) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 60 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 61 ) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 62 )

لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم السلام، الأول فالأولَ، فابتدأ بذكر نوح، عليه السلام، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم، عليه السلام، وهو:نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ - وهو إدريس [ النبي ] عليه السلام - فيما، يزعمون، وهو أول من خط بالقلم - ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليه السلام.

هكذا نسبه [ محمد ] بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب، قال محمد بن إسحاق:ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل.

وقال يزيد الرقاشي:إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه.

وقد كان بين آدم إلى زمن نوح، عليهما السلام، عشرة قرون، كلهم على الإسلام [ قاله عبد الله ابن عباس ]

قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير:وكان أول ما عبدت الأصنام، أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان، جعلوا تلك الصور أجسادًا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين « ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا » . فلما تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، فقال: ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) أي:من عذاب يوم القيامة إنْ لقيتم الله وأنتم مشركون به ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ ) أي:الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم: ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا . وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة، كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [ المطففين:32 ] ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [ الأحقاف:11 ] إلى غير ذلك من الآيات.

( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:ما أنا ضال، ولكن أنا رسول من رب كل شيء ومليكه، ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) وهذا شأن الرسول، أن يكون بليغا فصيحا ناصحا بالله، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: « أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ » قالوا:نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتُها عليهم ويقول: « اللهم اشهد، اللهم اشهد »

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 63 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ( 64 )

يقول تعالى إخبارًا عن نوح [ عليه السلام ] أنه قال لقومه: ( أَوَعَجِبْتُمْ [ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ] ) أي لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس يعجَب أن يوحي الله إلى رجل منكم، رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم، لإنذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به، ( وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

قال الله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ ) أي:فتمادوا على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه في موضع آخر، ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) وهي السفينة، كما قال: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [ العنكبوت:15 ] ( وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) كما قال: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [ نوح:25 ]

وقوله: ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ) أي:عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.

فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم من الكافرين، كما قال تعالى:إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ]

وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح [ عليه االسلام ] بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.

قال مالك، عن زيد بن أسلم:كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:ما عذب الله قوم نوح [ عليه السلام ] إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.

وقال ابن وَهْب:بلغني عن ابن عباس:أنه نجا مع نوح [ عليه السلام ] في السفينة ثمانون رجلا أحدهم « جُرْهم » ، وكان لسانه عربيا.

رواهن ابن أبي حاتم. وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس، رضي الله عنهما.

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 65 ) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 66 ) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 67 )

يقول تعالى:وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا.

قال محمد بن إسحاق:هم [ من ] ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.

قلت:وهؤلاء هم عاد الأولى، الذين ذكرهم الله [ تعالى ] وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر، كما قال تعالى:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [ الفجر:6- 8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [ فصلت:15 ] .

وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل.

قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، سمعت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] يقول لرجل من حضرموت:هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال:نعم يا أمير المؤمنين. والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه. قال:لا ولكني قد حدِّثتُ عنه. فقال الحضرمي:وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال:فيه قبرُ هود، عليه السلام.

رواه ابن جرير وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، وأن هودا، عليه السلام، دفن هناك، وقد كان من أشرف قومه نسبا؛ لأن الرسل [ صلوات الله عليهم ] إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم شُدِّد على قلوبهم، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق؛ ولهذا دعاهم هود، عليه السلام، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه.

( قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) - والملأ هم:الجمهور والسادة والقادة منهم - : ( إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أي:في ضلالة حيث دعوتنا إلى ترك عبادة الأصنام، والإقبال إلى عبادة الله وحده [ لا شريك له ] كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد ( فقالوا ) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ] [ ص:5 ] .

( قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:لست كما تزعمون، بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء، فهو رب كل شيء ومليكه

 

أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 )

( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ) وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة.

( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ ) أي:لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم، ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) أي:واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته، لما خالفوه وكذبوه، ( وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) أي:زاد طولكم على الناس بسطة، أي:جعلكم أطول من أبناء جنسكم، كما قال تعالى:في قصة طالوت: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ البقرة:247 ] ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ) أي:نعمه ومنَنه عليكم ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ وآلاء جمع ألى وقيل:إلى ]

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 ) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 ) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )

يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود، عليه السلام: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] ) كما قال الكفار من قريش: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ]

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره:أنهم كانوا يعبدون أصناما، فصنم يقال له:صُدَاء، وآخر يقال له:صمُود، وآخر يقال له:الهباء

ولهذا قال هود، عليه السلام: ( قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ) أي:قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [ وغضب ] قيل:هو مقلوب من رجز. وعن ابن عباس:معناه السخَط والغضب.

( أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ) أي:أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا؛ ولهذا قال: ( مَا نـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ )

وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه؛ ولهذا عقب بقوله: ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ )

وقد ذكر الله، سبحانه، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال في الآية الأخرى:وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [ الحاقة:6- 8 ] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته؛ ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ

وقال محمد بن إسحاق:كانوا يسكنون باليمن من عمان وحضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله، فبعث الله إليهم هودًا، عليه السلام، وهو من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا:من أشد منا قوة؟ واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال:أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ الشعراء:128- 131 ] قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ أي:بجنون قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود:53- 56 ]

مد بن إسحاق:فلما أبوا إلا الكفر به، أمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك، قال:وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج فيه، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته، وكان معروفا عند المِلَل وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له: « معاوية بن بكر » ، وكانت له أم من قوم عاد، واسمها كلهدة ابنة الخيبري، قال:فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم، ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنـزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنياهم به، فقال:

ألا يـا قيـل ويحــك قُـْـم فَهَيْـنم لـعــلّ اللــه يُصْبحُنَـا غَمَامـــا

فَيَسْــقـي أرضَ عـــادٍ إنّ عـادًا قَــد امْـسَــوا لا يُبِينُـونَ الكَلامـا

مــن العطش الشــديد فليس نَرجُـو بــه الشـيخَ الكبـيرَ ولا الغُلامـــا

وَقَـْـد كـانَت نســاؤهُم بخـــيرٍ فقـــد أمســـت نِسَاؤهم عَيَامى

وإنّ الوحــشَ تـأتيـهمْ جِهـــارا ولا تَخْـشَــى لعـــاديَ سِـهـَاما

وأنتــم هـاهُنَـا فيمــا اشـتَـهَيْتُمْ نهـــارَكُمُ وَلَيْـلَكُــمُ التـمامـــا

فقُبّــحَ وَفْـُـدكم مــن وَفْـدِ قَـوْمٍ ولا لُقُّـــوا التحـيَّـــةَ والسَّـلامـا

قال:فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم، وهو: « قيل بن عنـز » فأنشأ الله سحابات ثلاثا:بيضاء، وسوداء، وحمراء، ثم ناداه مناد من السماء: « اختر لنفسك - أو:- لقومك من هذا السحاب » ، فقال: « اخترت هذه السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء » فناداه مناد:اخترت رَمادا رِمْدَدًا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدًا تترك ولا ولدا، إلا جعلته هَمدا، إلا بني اللّوذيّة المهندًا قال:وبنو اللوذية:بطن من عاد مقيمون بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم - قال:وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة - قال:وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها « قيل بن عنـز » بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له: « المغيث » ، فلما رأوها استبشروا، وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا يقول:بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ الأحقاف:24 ، 25 ] أي:تهلك كل شيء مَرّت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها:مَهْدد فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صُعِقت. فلما أفاقت قالوا:ما رأيت يا مَهْدد ؟ قالت ريحا فيها شُهُب النار، أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، كما قال الله. و « الحسوم » :الدائمة - فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود، عليه السلام، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود، وتلْتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.

وذكر تمام القصة بطولها، وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [ هود:58 ]

وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله.

قال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال:خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي:يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال:فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:ما شأن الناس؟ فقالوا:يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال:فجلست، فدخل منـزله - أو قال:رحله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، قال:هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت:نعم، وكانت لنا الدّبَرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها، فدخلت، فقلت:يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء. فحميت العجوز واستوفزت، فقالت:يا رسول الله، فإلى أين يضطر مُضطَرُك ؟ قال:قلت:إن مثلي مثل ما قال الأول: « معْزَى حَمَلت حتفها » ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد! قال:هيه، وما وافد عاد؟ - وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه - قلت:إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له: « قيل » ، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال لهما: « الجرادتان » ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مَهْرة، فقال:اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سُودُ، فنودي:منها « اختر » . فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: « خذها رمادا رِمْدِدا، لا تبقي من عاد أحدا » . قال:فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى، هلكوا - قال أبو وائل:وصدق - قال:وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: « لا تكن كوافد عاد » .

هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به نحوه:ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر. عن عاصم - وهو ابن بَهْدَلة - ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان البكري، به. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب، به. ووقع عنده: « عن الحارث بن يزيد البكري » فذكره، ورواه أيضا عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره ولم أر في النسخة « أبا وائل » ، والله أعلم.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )

قال علماء التفسير والنسب:ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال:لما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نـزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نـزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: « إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم »

وقال [ الإمام ] أحمد أيضا:حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم »

وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري، عن أبيه قال:لما كان في غزوة تبوك، تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس: « الصلاة جامعة » . قال:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: « ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم » . فناداه رجل منهم:نعجبُ منهم يا رسول الله. قال: « أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك:رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وبما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسَدِّدوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا »

لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه:عمر بن سعد، ويقال:عامر بن سعد، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق:حدثنا مَعْمَر، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال:لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفَجّ، وتَصْدُر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله » . فقالوا:من هو يا رسول الله؟ قال: « أبو رِغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه »

وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.

فقوله تعالى: ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي:ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] وقال [ تعالى ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] .

وقوله: ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ) أي:قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به. وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها:الكَاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طُلْبتهم ليؤمنن به وليتبعنه؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح، عليه السلام، إلى صلاته ودعا الله، عز وجل، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَ‌اء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو: « جُندَع بن عمرو » ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم « ذُؤاب بن عمرو بن لبيد » « والحباب » صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان ل « جندع بن عمرو » ابن عم يقال له: « شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس » ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل، رحمه الله:

وكــانت عُصْبــةٌ مـن آل عَمْـرو إلــى ديـن النبـيّ دَعَـوا شِـهَابـا

عَزيــزَ ثَمُـودَ كُـلَّـهمُ جميعـــا فَهَــمّ بأن يُجِـــيبَ فلــو أجابا

لأصبــحَ صـالحٌ فيـنـا عَـزيـزًا ومــا عَدَلــوا بصـاحبهـم ذُؤابـا

ولكــنّ الغُــوَاة مــن آل حُـجْرٍ تَوَلَّــوْا بعـــد رُشْـدهـم ذئابــا

فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [ القمر:28 ] وقال تعالى: هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الشعراء:155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي، عليه السلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال:إنهم اتفقوا كلهم على قتلها .

 

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 ) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 ) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 )

قال قتادة:بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان [ أيضا ]

قلت:وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى يقول: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [ الشمس:14 ] وقال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [ الإسراء:59 ] وقال: ( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ) فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم.

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة:أن امرأة منهم يقال لها: « عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز » وتكنى أم غَنَمْ كانت عجوزا كافرة، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح، عليه السلام، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود، وامرأة أخرى يقال لها: « صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا » ذات حسب ومال وجمال، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود، ففارقته، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة، فدعت « صدوف » رجلا يقال له: « الحباب » وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، فأبى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له: « مصدع بن مهرج بن المحيا » ، فأجابها إلى ذلك - ودعت « عنيزة بنت غنم » قدار بن سالف بن جُنْدَع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنه كان ولد زَنية، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه، وهو سالف، وإنما هو من رجل يقال له: « صهياد » ولكن ولد على فراش « سالف » ، وقالت له:أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة! فعند ذلك، انطلق « قدار بن سالف » « ومصدع بن مهرج » ، فاستفزا غُواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [ النمل:48 ] وكانوا رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها، فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها « قدار » في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها « مصدع » في أصل أخرى، فمرت على « مصدع » فرماها بسهم، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت « أم غَنَمْ عنيزة » ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف، فكسفَ عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها، وانطلق سَقْبَها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعًا، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عمن سمع الحسن البصري أنه قال: يا رب أين أمي؟ ويقال:إنه رغا ثلاث مرات. وإنه دخل في صخرة فغاب فيها، ويقال:بل اتبعوه فعقروه مع أمه، فالله أعلم

فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة، بلغ الخبر صالحا، عليه السلام، فجاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى وقال: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ] [ هود:65 ] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح [ عليه السلام ] وقالوا:إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته ! قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا الآية. [ النمل:49- 52 ]

فلما عزموا على ذلك، وتواطؤوا عليه، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح، أرسل الله، سبحانه وتعالى، وله العزة ولرسوله، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح، عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت، ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب؟ و [ قد ] أشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة ( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) أي:صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى - قالوا:إلا جارية كانت مقعدة - واسمها « كلبة بنة السّلْق » ، ويقال لها: « الزريقة » - وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح، عليه السلام، فلما رأت ما رأت من العذاب، أُطلِقَت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها، ثم استسقتهم من الماء، فلما شربت، ماتت.

قال علماء التفسير:ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح، عليه السلام، ومن اتبعه، رضي الله عنهم، إلا أن رجلا يقال له: « أبو رِغال » ، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ، جاءه حجر من السماء فقتله.

وقد تقدم في أول القصة حديث « جابر بن عبد الله » في ذلك، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف « الذين كانوا يسكنون الطائف »

قال عبد الرزاق:قال مَعْمَر:أخبرني إسماعيل بن أمية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: « أتدرون من هذا؟ » فقالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرمُ الله عذاب الله. فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنـزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن » .

وقال عبد الرزاق:قال معمر:قال الزهري:أبو رغال:أبو ثقيف

هذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، كما قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بُجَير بن أبي بجير قال:سمعت عبد الله بن عمرو يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال: « هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم فدفع عنه، فلما خرج [ منه ] أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [ معه ] فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن » .

وهكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به

قال شيخنا أبو الحجاج المزي:وهو حديث حسن عزيز

قلت:تفرد بوصله « بُجَيْر بن أبي بجير » هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى بن معين:ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية.

قلت:وعلى هذا، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو، مما أخذه من الزاملتين.

قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك:وهذا محتمل، والله أعلم.

وقوله تعالى:

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )

هذا تقريع من صالح، عليه السلام، لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى - قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك، كما ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر، أقام هناك ثلاثًا، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها ثم سار حتى وقف على القليب، قليب بدر، فجعل يقول: « يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان:هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا » . فقال له عمر:يا رسول الله، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا؟ فقال: « والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون » .

وفي السيرة أنه، عليه السلام قال لهم: « بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم » .

وهكذا صالح، عليه السلام، قال لقومه: ( لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ) أي:فلم تنتفعوا بذلك، لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحا؛ ولهذا قال: ( وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ )

وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، فالله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا زَمْعَة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال: « يا أبا بكر، أيّ وادٍ هذا؟ » قال:هذا وادي عُسْفَان. قال: « لقد مر به هود وصالح، عليهما السلام، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف، أزُرُهم العبَاء، وأرديتهم النّمار، يلبون يحجون البيت العتيق » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 80 ) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )

يقول تعالى: ( وَ ) قَدْ أَرْسَلْنَا ( لُوطًا ) أو تقديره: ( وَ ) اذكر ( لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ )

ولوط هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم، عليه السلام، وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله [ تعالى ] إلى أهل « سَدُوم » وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور. وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل « سَدُوم » عليهم لعائن الله.

قال عمرو بن دينار:قوله: ( مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) قال:ما نـزا ذَكَر على ذَكَر، حتى كان قوم لوط.

وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، باني جامع دمشق:لولا أن الله، عز وجل، قص علينا خبر لوط، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.

ولهذا قال لهم لوط، عليه السلام: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ ) أي:عدلتم عن النساء، وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال، وهذا إسراف منكم وجهل؛ لأنه وضع الشيء في غير محله؛ ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: [ قَالَ ] هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [ الحجر:71 ] فأرشدهم إلى نسائهم، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن، قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [ هود:79 ] أي:لقد علمت أنه لا أرَبَ لنا في النساء، ولا إرادة، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك.

وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى بعضهن ببعض أيضًا.

 

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 82 )

أي:ما أجابوا لوطًا إلا أن هَموا بإخراجه ونفيه ومن معه [ من المؤمنين ] من بين أظهرهم، فأخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين.

وقوله تعالى: ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال قتادة، عابوهم بغير عيب.

وقال مجاهد: ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) من أدبار الرجال وأدبار النساء. ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا.

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 83 ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 84 )

يقول تعالى:فأنجينا لوطًا وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ الذاريات:35، 36 ] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتُعْلمهم بمن يَقْدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم؛ ولهذا لما أمر لوط، عليه السلام، أن يُسْري بأهله أمر ألا يعلم امرأته ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول:بل اتبعتهم، فلما جاء العذابُ التفتت هي فأصابها ما أصابهم. والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم؛ ولهذا قال هاهنا: ( إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) أي:الباقين. ومنهم من فسر ذلك ( مِنَ الْغَابِرِينَ ) [ من ] الهالكين، وهو تفسير باللازم.

وقوله: ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) مفسر بقوله: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ هود 82 ، 83 ] ولهذا قال: ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) أي:انظر - يا محمد - كيف كان عاقبة من تجهرم على معاصي الله وكذّب رسله

وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أن اللائط يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.

وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنًا أو غير محصن. وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله، والحجة ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث الدراوردي، عن عمرو بن أبي عَمْرو عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به »

وقال آخرون:هو كالزاني، فإن كان محصنًا رجم، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة. وهو القول الآخر للشافعي.

وأما إتيان النساء في الأدبار، فهو اللوطية الصغرى، وهو حرام بإجماع العلماء، إلا قولا [ واحدا ] شاذًا لبعض السلف، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 85 )

قال محمد بن إسحاق:هم من سلالة « مدين بن إبراهيم » . وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال:واسمه بالسريانية: « يثرون » .

قلت:وتطلق مدين على القبيلة، وعلى المدينة، وهي التي بقرب « مَعَان » من طريق الحجاز، قال الله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [ القصص:23 ] وهم أصحاب الأيكة، كما سنذكره إن شاء الله، وبه الثقة.

( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) هذه دعوة الرسل كلهم، ( قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به. ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، أي:لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفْية وتدليسًا، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ المطففين:1 - 6 ] . وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، نسأل الله العافية منه.

ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيب، الذي يقال له: « خطيب الأنبياء » ، لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته.

وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 86 ) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 87 )

ينهاهم شعيب، عليه السلام، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي، بقوله: ( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ) أي:توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم. قال السدي وغيره:كانوا عشارين. وعن ابن عباس [ رضي الله عنه ] ومجاهد وغير واحد: ( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ) أي:تتوعدون المؤمنين الآتين إِلى شعيب ليتبعوه. والأول أظهر؛ لأنه قال: ( بِكُلِّ صِرَاطٍ ) وهي الطرق، وهذا الثاني هو قوله: ( وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي:وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة. ( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ ) أي:كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك، ( وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) أي:من الأمم الخالية والقرون الماضية، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.

وقوله: ( وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ) أي: [ قد ] اختلفتم عليّ ( فاصبروا ) أي:انتظروا ( حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ) أي:يفصل، ( وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.

 

قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ( 88 ) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( 89 )

هذا إخبار من الله [ تعالى ] عما واجهت به الكفار نبي الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين، في توعدهم إياه ومن معه بالنفي من القرية، أو الإكراه على الرجوع في مِلَّتهم والدخول معهم فيما هم فيه. وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.

وقوله: ( أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) يقول:أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه؟ فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه، فقد أعظمنا الفِرْية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا. وهذا تعبير منه عن اتباعه. ( وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ) وهذا ردّ إلى المشيئة، فإنه يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علمًا، ( عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) أي:في أمورنا ما نأتي منها وما نذر، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ؛ أي:افصل بيننا وبين قومنا، وانصرنا عليهم، ( وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) أي:خير الحاكمين، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا.

وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ( 90 ) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 91 ) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ( 92 )

يخبر تعالى عن شدة كفر قوم شعيب وتمردهم وعتوهم، وما هم فيه من الضلال، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق، ولهذا أقسموا وقالوا:لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ، فلهذا عقب ذلك بقوله: ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) أخبر تعالى هاهنا أنهم أخذتهم الرجفة كما أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة « هود » فقال: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [ هود:94 ] والمناسبة في ذلك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في قولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [ هود:87 ] فجاءت الصيحة فأسكتتهم.

وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ الشعراء:189 ] وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] [ الشعراء:187 ] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة، وقد اجتمع عليهم ذلك كله:أصابهم عذاب يوم الظلة، « وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولَهَب ووهَج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد، ( فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) »

ثم قال تعالى: ( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) أي:كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.

ثم قال مقابلا لقيلهم: ( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ )

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 93 )

أي:فتولى عنهم « شعيب » عليه السلام بعد ما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال مقرعًا لهم وموبخًا: ( يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ) أي:قد أديتُ إليكم ما أُرْسِلْت به، فلا أسفة عليكم وقد كفرتم بما جئتم به، ولهذا قال: ( فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ) ؟.

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( 94 ) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 95 )

يقول تعالى مخبرًا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني ( بالْبَأْسَاءِ ) ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. ( وَالضَّرَّاءِ ) ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك، ( لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) أي:يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نـزل بهم.

وتقدير الكلام:أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ) أي:حولَّنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك، فما فعلوا.

وقوله: ( حَتَّى عَفَوْا ) أي:كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال:عفا الشيء إذا كثر، ( وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول تعالى:ابتلاهم بهذا وهذا ليتضرعوا ويُنيبوا إلى الله، فما نَجَع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا بل قالوا:قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين: « عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، وإن أصابته سَراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيرا له » فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء ؛ ولهذا جاء في الحديث: « لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نَقِيِّا من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه » ، أو كما قال. ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أي:أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي:على بغتة منهم، وعدم شعور منهم، أي:أخذناهم فجأة كما جاء في الحديث: « موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر » .

 

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 96 ) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ( 97 ) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( 98 ) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( 99 )

يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ يونس:98 ] أي:ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ الصافات:147 ، 148 ] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ] [ سبأ:34 ]

وقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ) أي:آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، ( لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي:قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى: ( وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) أي:ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.

ثم قال تعالى مخوفًا ومحذرًا من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره: ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ) أي:الكافرة ( أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ) أي:عذابنا ونكالنا، ( بياتا ) أي:ليلا ( وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) أي:في حال شغلهم وغفلتهم، ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ) أي:بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) ؛ ولهذا قال الحسن البصري، رحمه الله: « المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن » .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 100 )

قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله: ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ) أو لم نُبَيًن، [ وكذا قال مجاهد والسدي، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:أو لم نبين ] لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.

وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها:يقول تعالى:أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا على ربهم: ( أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) يقول:أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، ( وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول:ونختم على قلوبهم ( فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) موعظة ولا تذكيرًا.

قلت:وهكذا قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى [ طه:128 ] وقال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [ السجدة:26 ] وقال: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ] [ إبراهيم:44 ، 45 ] وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [ مريم:98 ] أي:هل ترى لهم شخصًا أو تسمع لهم صوتًا؟ وقال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [ الأنعام:6 ] وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأحقاف:25- 27 ] وقال تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [ سبأ:45 ] وقال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [ الملك:18 ] وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ الحج:45 ، 46 ] وقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الأنعام:10 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه، وحصول نعمه لأوليائه؛ ولهذا عقب ذلك بقوله، وهو أصدق القائلين ورب العالمين:

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ( 101 ) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ( 102 )

لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب [ عليهم الصلاة والسلام ] وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: ( تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ ) أي:يا محمد ( مِنْ أَنْبَائِهَا ) أي:من أخبارها، ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) أي:بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [ الإسراء:15 ] وقال تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ هود:100 ، 101 ]

وقوله تعالى: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) الباء سببية، أي:فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم. حكاه ابن عطية، رحمه الله، وهو متجه حسن، كقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ] [ الأنعام:110 ، 111 ] ؛ ولهذا قال هنا:كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ أي:لأكثر الأمم الماضية ( مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) أي:ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه [ عليهم ] هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى: « إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم » . وفي الصحيحين: « كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » الحديث. وقال تعالى في كتابه العزيز: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزخرف:45 ] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] إلى غير ذلك من الآيات.

وقد قيل في تفسير قوله تعالى: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) ما روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب في قوله: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) قال:كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق، أي:فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك، وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير.

وقال السدي: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) قال:ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها.

وقال مجاهد في قوله: ( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) هذا كقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ] [ الأنعام:28 ]

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 103 )

يقول تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي:الرسل المتقدم ذكرهم، كنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين. ( مُوسَى بِآيَاتِنَا ) أي:بحججنا ودلائلنا البينة إلى ( فِرْعَوْنَ ) وهو ملك مصر في زمن موسى، ( وَمَلَئِهِ ) أي:قومه، ( فَظَلَمُوا بِهَا ) أي:جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا، كقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النمل:14 ] أي:الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي:انظر - يا محمد - كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه. وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله - موسى وقومه - من المؤمنين به .

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 104 )

يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون، وإلجامه إياه بالحجة، وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر، فقال تعالى: ( وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي:أرسلني الذي هو خالقُ كل شيء وربه ومليكه.

 

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 105 ) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 106 ) .

( حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) فقال بعضهم:معناه:حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي:جدير بذلك وحري به.

وقالوا و « الباء » و « على » يتعاقبان، فيقال رميت بالقوس « و » على القوس « ، و » جاء على حال حسنة « و » بحال حسنة « . »

وقال بعض المفسرين:معناه:حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.

وقرأ آخرون من أهل المدينة: ( حَقِيقٌ عَلَيّ ) بمعنى:واجب وحق عَلَيّ ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه.

( قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي:بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما جئتكم به، ( فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أي:أطلقهم من أسْرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو:يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن [ عليهم صلوات الرحمن ]

( قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) أي:قال فرعون:لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها، إن كنت صادقًا فيما ادعيت.

فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ( 107 ) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ( 108 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) الحية الذكر. وكذا قال السدي، والضحاك.

وفي حديث « الفُتُون » ، من رواية يزيد بن هارون عن الأصْبَغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس قال ( فَأَلْقَى عَصَاهُ ) فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه، اقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها [ عنه ] ففعل.

وقال قتادة:تحولت حية عظيمة مثل المدينة.

وقال السدي في قوله: ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) والثعبان:الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لِحْيها، الأسفل في الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه. فلما رآها ذعر منها، ووثب وأحدث، ولم يكن يُحْدث قبل ذلك، وصاح:يا موسى، خذها وأنا أومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى، عليه السلام، فعادت عصا.

وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا.

وقال وَهْب بن مُنَبِّه:لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون:أعرفك؟ قال:نعم، قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [ الشعراء:18 ] ؟ قال:فرد إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون:خذوه، فبادره موسى ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ) فحملت على الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت.

رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه « الزهد » ، وابن أبي حاتم. وفيه غرابة في سياقه والله أعلم.

وقوله: ( وَنـزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ) أي:نـزع يده:أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير بَرَص ولا مرض، كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [ النمل:12 ]

وقال ابن عباس في حديث الفتون: [ أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء ] مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني:من غير برص، ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحد.

قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ( 109 ) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( 110 )

أي:قال الملأ - وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون - موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه رَوْعه، واستقر على سرير مملكته بعد ذلك، قال للملأ حوله - : ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) فوافقوه وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائهم، وتخوفوا من [ معرفته ] أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ القصص:6 ] فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى:

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ( 111 ) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 112 )

قال ابن عباس: ( أَرْجِهِ ) أخّره. وقال قتادة:احبسهُ. ( وَأَرْسِلْ ) أي:ابعث ( فِي الْمَدَائِنِ ) أي:في الأقاليم ومعاملة ملكك، ( حَاشِرِينَ ) أي:من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.

وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا. واعتقد من اعتقد منهم، وأوهم من أوهم منهم، أن ما جاء موسى، عليه السلام، من قبيل ما تشعبذه سحرتهم؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [ طه:57- 60 ] وقال تعالى هاهنا:

وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ( 113 ) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 114 )

يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى، عليه السلام:إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا. فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، ويجعلنهم من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله:

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ( 115 ) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( 116 )

هذه مبارزة من السحرة لموسى، عليه السلام، في قولهم: ( إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) أي:قَبْلك. كما قال في الآية الأخرى: وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [ طه:65 ] فقال لهم موسى، عليه السلام: ( أَلْقُوا ) أي:أنتم أولا قبلي. والحكمة في هذا - والله أعلم - ليري الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فُرغ من بهرجهم ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له والانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان. ولهذا قال تعالى: ( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) أي:خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه:66:69 ] .

قال سفيان بن عُيَيْنَة:حدثنا أبو سعيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس:ألقوا حبالا غلاظًا وخشبًا طوالا. قال:فأقبلت يُخَيل إليه من سحرهم أنها تسعى.

وقال محمد بن إسحاق:صَفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، عليه السلام، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ [ طه:65 ، 66 ] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.

وقال السُّدِّي:كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا، ( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) يقول:فَرَقوهم أي:من الفرَق.

وقال ابن جرير:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشام الدَّستَوَائي، حدثنا القاسم ابن أبي بَزَّة قال:جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ )

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ( 117 ) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 118 ) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ( 119 ) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ( 120 )

يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى، عليه السلام، في ذلك الموقف العظيم، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه، ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ ) أي:تأكل ( مَا يَأْفِكُونَ ) أي:ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.

 

قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 121 ) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ( 122 )

قال ابن عباس:فجعلت لا تَمُرّ بشيء من حبالهم ولا من خُشُبهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء، وليس هذا بسحر، فخروا سجدا وقالوا: ( آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ )

وقال محمد بن إسحاق:جعلت تبتلع تلك الحبال والعصي واحدة، واحدة حتى ما يُرَى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا ( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ) لو كان هذا ساحرا ما غُلبنا.

وقال القاسم بن أبي بَزَّة:أوحى الله إليه أن ألق عصاك، فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان فاغرٌ فَاهُ، يبتلع حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجدا، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 123 ) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( 124 ) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ( 125 ) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( 126 )

يخبر تعالى عما توعد به فرعون، لعنه الله، السحرة لما آمنوا بموسى، عليه السلام، وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله: ( إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ) أي:إن غَلَبَه لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [ طه:71 ] وهو يعلم وكلّ من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل؛ فإن موسى، عليه السلام، بمجرد ما جاء من « مَدْين » دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل. وقد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون، وموسى، عليه السلام، لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجَهَلتهم، كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [ الزخرف:54 ] فإن قوما صدّقوه في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [ النازعات:24 ] من أجْهَل خلق الله وأضلهم.

وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، في قوله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ) قالوا:التقى موسى، عليه السلام، وأميرُ السحرة، فقال له موسى:أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر:لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق. وفرعون ينظر إليهما، قالوا:فلهذا قال ما قال.

وقوله: ( لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ) أي:تجتمعوا أنتم وهو، وتكون لكم دولة وصولة، وتخرجوا

منها الأكابر والرؤساء، وتكون الدولة والتصرف لكم، ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) أي:ما أصنع بكم.

ثم فسر هذا الوعيد بقوله: ( لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) يعني:يقطع يد الرّجُل اليمنى ورجْله اليسرى أو بالعكس. و ( لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) وقال في الآية الأخرى: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ طه:71 ] أي:على الجذوع.

قال ابن عباس:وكان أولَ من صلب، وأولَ من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون.

وقول السحرة: ( إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ) أي:قد تحققنا أنا إليه راجعون، وعذابه أشد من عذابك، ونكاله ما تدعونا إليه، وما أكرهتنا عليه من السحر، أعظم من نكالك، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله، لما قالوا: ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ) أي:عمنا بالصبر على دينك، والثبات عليه، ( وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) أي:متابعين لنبيك موسى، عليه السلام. وقالوا لفرعون: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا [ طه:72- 75 ] فكانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة.

قال ابن عباس، وعُبَيد بن عُمَيْر، وقتادة، وابن جُرَيْج:كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء.

وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( 127 ) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 128 ) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 129 )

يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه، وما أظهروه لموسى، عليه السلام، وقومه من الأذى والبغضة: ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ) أي:لفرعون ( أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ ) أي:أتدعهم ليفسدوا في الأرض، أي:يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يالله للعجب ! صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون، ولكن لا يشعرون؛ ولهذا قالوا: ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) قال بعضهم: « الواو » هنا حالية، أي:أتذره وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك؟

وقرأ ذلك أُبيّ بن كعب: « وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك » ، حكاه ابن جرير.

وقال آخرون:هي عاطفة، أي:لا تدع موسى يصنع هو وقومه من الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى تركه آلهتك.

وقرأ بعضهم: « إلاهتك » أي:عبادتك، ورُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.

وعلى القراءة الأولى قال بعضهم:كان لفرعون إله يعبده. قال الحسن البصري:كان لفرعون إله يعبده في السر. وقال في رواية أخرى:كان له جُمَانة في عنقه معلقة يسجد لها.

وقال السدي في قوله تعالى: ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) وآلهته، فيما زعم ابن عباس، كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا جسدا.

فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله: ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) وهذا أمر ثان بهذا الصنيع، وقد كان نكل بهم به قبل ولادة موسى، عليه السلام، حذرا من وجوده، فكان خلاف ما رامه وضدّ ما قصده فرعون. وهكذا عومل في صنيعه [ هذا ] أيضا، إنما أراد قهر بني إسرائيل وإذلالهم، فجاء الأمر على خلاف ما أراد:نصرهم الله عليه وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده.

ولما صمم فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل، ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ) ووعدهم بالعاقبة، وأن الدار ستصير لهم في قوله: ( إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ) أي:قد جرى علينا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى، ومن بعد ذلك. فقال منبهًا لهم على حالهم الحاضرة وما يصيرون إليه في ثاني الحال: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ] ) ، وهذا تحضيض لهم على العزم على الشكر، عند حلول النعم وزوال النقم.

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 130 )

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ) أي:اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم ( بِالسِّنِينَ ) وهي سِنِي الجوع بسبب قلة الزروع ( وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) قال مجاهد:وهو دون ذلك.

وقال أبو إسحاق، عن رجاء بن حَيْوة:كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة.

( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

 

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 131 )

( فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ ) أي:من الخصب والرزق ( قَالُوا لَنَا هَذِهِ ) أي:هذا لنا بما نستحقه، ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) أي:جدب وقحط ( يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ) أي:هذا بسببهم وما جاؤوا به.

( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) يقول:مصائبهم عند الله، قال الله: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )

وقال ابن جُرَيْج، عن ابن عباس قال: ( أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ) قال:إلا من قِبَل الله.

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 132 ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 133 ) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 134 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 135 )

هذا إخبار من الله، عز وجل، عن تَمرد قوم فرعون وعتوهم، وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم: ( مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) يقولون:أيُّ آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها، رددناها فلا نقبلها منك، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، قال الله تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ )

اختلفوا في معناه، فعن ابن عباس في رواية:كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار. وبه قال الضحاك بن مُزَاحِم.

وقال ابن عباس في رواية أخرى:هو كثرة الموت. وكذا قال عطاء.

وقال مجاهد: ( الطُّوفَانَ ) الماء، والطاعون على كل حال.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا يحيى بن يَمان، حدثنا المِنْهَال بن خليفة، عن الحجاج، عن الحكم بن مِيناء، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الطوفان الموت » .

وكذا رواه ابن مردويه، من حديث يحيى بن يمان، به وهو حديث غريب.

وقال ابن عباس في رواية أخرى:هو أمر من الله طاف بهم، ثم قرأ: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * [ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ] [ القلم:19 ، 20 ]

وأما الجراد فمعروف مشهور، وهو مأكول؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفُور قال:سألت عبد الله بن أبي أَوْفَى عن الجراد، فقال:غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد

وروى الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أحلت لنا ميتتان ودمان:الحوت والجراد، والكبد والطحال »

ورواه أبو القاسم البغوي، عن داود بن رُشَيْد، عن سُوَيْد بن عبد العزيز، عن أبي تمام الأيليّ، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر مرفوعا مثله

وروى أبو داود، عن محمد بن الفرج، عن محمد بن الزِّبْرِقان الأهوازي، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: « أكثر جنود الله، لا آكله، ولا أحرمه »

وإنما تركه، عليه السلام لأنه كان يعافه، كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب، وأذن فيه.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد، من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي، حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد، حدثنا يحيى بن خالد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد، ولا الكلوتين، ولا الضب، من غير أن يحرمها. أما الجراد:فرجز وعذاب. وأما الكلوتان:فلقربهما من البول. وأما الضب فقال: « أتخوف أن يكون مسخا » ، ثم قال غريب، لم أكتبه إلا من هذا الوجه

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يشتهيه ويحبه، فروى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:أن عمر سُئل عن الجراد فقال:ليت أن عندنا منه قَفْعَة أو قفعتين نأكله

وروى ابن ماجة:حدثنا أحمد بن مَنِيع، عن سفيان بن عيينة، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال، سمع أنس بن مالك يقول:كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يَتَهادَيْن الجراد على الأطباق

وقال أبو القاسم البغوي:حدثنا داود بن رُشَيْد، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن نُمَيْر بن يزيد القَيْني حدثني أبي، عن صُدَيّ بن عَجْلان، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مريم بنت عمران، عليها السلام، سألت ربها [ عز وجل ] أن يطعمها لحما لا دم له، فأطعمها الجراد، فقالت:اللهم أعشه بغير رضاع، وتابع بَيْنَه بغير شياع » وقال نُمَير: « الشَيَاع » :الصوت.

وقال أبو بكر بن أبي داود:حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليَزَني حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن أبي زُهَيْر النميري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقاتلوا الجراد، فإنه جند الله الأعظم » . غريب جدًا

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، في قوله تعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ ) قال:كانت تأكل مسامير أبوابهم، وتَدَع الخشب.

وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي، عن محمد بن كثير، سمعت الأوزاعي يقول:خرجت إلى الصحراء، فإذا أنا برِجْل من جراد في السماء، وإذا برَجل راكب على جَرَادة منها، وهو شاك في الحديد، وكلما قال بيده هكذا، مال الجراد مع يده، وهو يقول:الدنيا باطل باطل ما فيها، الدنيا باطل باطل ما فيها، الدنيا باطل باطل ما فيها.

وروى الحافظ أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم، أخبرنا وَكِيع، عن الأعمش، أنبأنا عامر قال:سئل شُرَيْح القاضي عن الجراد، فقال:قبح الله الجرادة. فيها خلقة سبعة جبابرة:رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجلا جمل. وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب.

و [ قد ] قدمنا عند قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [ المائدة:96 ] حديث حماد بن سلمة، عن أبي المُهزَم، عن أبي هريرة، قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة، فاستقبلنا رجْلُ جراد، فجعلنا نضربه بالعِصِيِّ، ونحن محرمون، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عن ذلك ] فقال: « لا بأس بصيد البحر »

وروى ابن ماجه، عن هارون الحمال عن هاشم بن القاسم، عن زياد بن عبد الله بن عُلاثة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أنس وجابر [ رضي الله عنهما ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان إذا دعا على الجراد قال: « اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء » . فقال له جابر:يا رسول الله، أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال: « إنما هو نثرة حوت في البحر » قال هاشم أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت قال:من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس، أنه يفقس كله جرادًا طيارًا.

وقدمنا عند قوله: إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [ الأنعام:38 ] حديث عُمَر، رضي الله عنه: « إن الله خلق ألف أمة، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر، وإن أولها هلاكًا الجراد »

وقال أبو بكر بن أبي داود:حدثنا يزيد بن المبارك، حدثنا عبد الرحمن بن قَيْس، حدثنا سالم بن سالم، حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك، عن البراء بن عازب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا وَباء مع السيف، ولا نجاء مع الجراد » . حديث غريب

وأما ( الْقُمَّلَ ) فعن ابن عباس:هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وعنه أنه الدبى - وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له. وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة.

وعن الحسن وسعيد بن جبير: ( الْقُمَّلَ ) دواب سود صغار.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( الْقُمَّلَ ) البراغيث.

وقال ابن جرير ( الْقُمَّل ) جمع واحدتها « قُمَّلة » ، وهي دابة تشبه القَمْل، تأكلها الإبل، فيما بلغني، وهي التي عناها الأعشى بقوله:

قــــوم تعـــالج قُمَّلا أبناؤهم وسلاســلا أجُــدا وبابًـا مؤصـدا

قال:وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب « الحمنان » ، واحدتها « حمنانة » ، وهي صغار القردان فوق القمقامة.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:حدثنا ابن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال:لما أتى موسى، عليه السلام، فرعون قال له:أرسل معي بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئا، خافوا أن يكون عذابا، فقالوا لموسى:ادع لنا ربك يكشف عنا المطر، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ فقالوا:هذا ما كنا نتمنى. فأرسل الله عليهم الجراد، فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع، فقالوا:يا موسى، ادع لنا ربك ليكشف عنا الجراد فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فداسوا وأحرزوا في البيوت، فقالوا:قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل- وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى، فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا لموسى:ادع لنا ربك يكشف عنا القمل، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه، فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينما هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون:ما تلقى أنت وقومك من هذا. قال وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفدع في فيه. فقالوا لموسى:ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم فلم يؤمنوا. وأرسل الله عليهم الدم، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار، وما كان في أوعيتهم، وجدوه دمًا عبيطًا، فشكوا إلى فرعون، فقالوا:إنا قد ابتلينا بالدم، وليس لنا شراب. فقال:إنه قد سحركم !! فقالوا:من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دمًا عَبِيطًا؟ فأتوه وقالوا:يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل

وقد روي نحو هذا عن ابن عباس، والسدي، وقتادة وغير واحد من علماء السلف

وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله:فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه الآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات. فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعًا، فلما بلغهم ذلك ( قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) فدعا موسى ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر، فيما بلغني، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل، فذكر لي أن موسى، عليه السلام، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له، فدعا ربه، فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا. فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع، قد غلبت عليه. فلما جهدهم ذلك، قالوا له مثل ما قالوا، فسأل ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دمًا، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دما عبيطا

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور المروزي، أنبأنا النضر، أنبأنا إسرائيل، أنبأنا جابر ابن يزيد عن عكرمة، قال عبد الله بن عَمْرو:لا تقتلوا الضفادع، فإنها لما أرسلت على قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار، يطلب بذلك مرضات الله، فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء، وجعل نقيقهن التسبيح. وروي من طريق عكرمة، عن ابن عباس، نحوه

وقال زيد بن أسلم:يعني بالدم:الرعاف. رواه ابن أبي حاتم.

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 136 ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ( 137 )

يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا، مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة، [ أنه ] انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم، وهو البحر الذي فرقه لموسى، فجاوزه وبنو إسرائيل معه، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم، فغرقوا عن آخرهم، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها.

وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون - وهم بنو إسرائيل - ( مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا ) كما قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ القصص:5 ، 6 ] وقال تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدخان:25- 28 ]

وعن الحسن البصري وقتادة، في قوله: ( مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يعني:الشام.

وقوله: ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ) قال مجاهد وابن جرير:وهي قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ

وقوله: ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ) أي:وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع، ( وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) قال ابن عباس ومجاهد: ( يَعْرِشُونَ ) يبنون.

 

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( 138 ) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 139 )

يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى، عليه السلام، حين جاوزوا البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، ( فَأَتَوْا ) أي:فمروا ( عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ ) قال بعض المفسرين:كانوا من الكنعانيين. وقيل:كانوا من لخم.

قال ابن جريج:وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك، فقالوا: ( يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) أي:تجهلون عظمة الله وجلاله، وما يجب أن ينـزه عنه من الشريك والمثيل.

( إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ ) أي:هالك ( وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير [ رحمه الله ] تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعَقِيل، ومعمر كلهم، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي:أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال:وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: « ذات أنواط » ، قال:فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال:فقلنا:يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: « قلتم والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى: ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) »

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدِّيلي، عن أبي واقد الليثي قال:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت:يا نبي الله اجعل لنا هذه « ذات أنواط » ، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ] ) إنكم تركبون سنن من قبلكم »

ورواه ابن أبي حاتم، من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده مرفوعا

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 140 ) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 141 )

يذكِّرهم موسى، عليه السلام، بنعمة الله عليهم، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه، وغرقه ودماره. وقد تقدم تفسيرها في [ سورة ] البقرة.

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( 142 )

يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل، بما حصل لهم من الهداية، بتكليمه موسى، عليه السلام، وإعطائه التوراة، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة.

قال المفسرون:فصامها موسى، عليه السلام، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين.

وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي؟ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة، والعشر عشر ذي الحجة. قاله مجاهد، ومسروق، وابن جريج. وروي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر، وحصل فيه التكليم لموسى، عليه السلام، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [ المائدة:3 ]

فلما تم الميقات عزم موسى على الذهاب إلى الطور، كما قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ الآية [ طه:80 ] ، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد. وهذا تنبيه وتذكير، وإلا فهارون، عليه السلام، نبي شريف كريم على الله، له وجاهة وجلالة، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ( 143 )

يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله [ تعالى ] سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي )

وقد أشكل حرف « لن » هاهنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [ القيامة:22 ، 24 ] .

وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ المطففين:15 ]

وقيل:إنها لنفي التأبيد في الدنيا، جمعا بين هذه الآية، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة.

وقيل:إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وقد تقدم ذلك في الأنعام [ الآية:103 ] .

وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى، عليه السلام: « يا موسى، إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده » ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا )

قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية:حدثنا أحمد بن سُهَيْل الواسطي، حدثنا قُرَّة بن عيسى، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما تجلى ربه للجبل، أشار بإصبعه فجعله دكًا » وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة

هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم، ثم قال

حدثني المثنى، حدثنا حجَّاج بن مِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن لَيْث، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) قال: « هكذا بإصبعه - ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر- فساخ الجبل »

هكذا وقع في هذه الرواية « حماد بن سلمة، عن ليث، عن أنس » . والمشهور: « حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس » ، كما قال ابن جرير:

حدثني المثنى، حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:قال ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) قال:وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره، قال:فساخ الجبل - قال حميد لثابت:تقول هذا؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد، وقال:يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوله أنس وأنا أكتمه؟

وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده:حدثنا أبو المثنى، معاذ بن معاذ العنبري، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [ جَعَلَهُ دَكًّا ] ) قال:قال هكذا - يعني أنه خرج طرف الخنصر - قال أحمد:أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل:ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟ قال:فضرب صدره ضربة شديدة وقال:من أنت يا حميد؟! وما أنت يا حميد؟! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول أنت:ما تريد إليه؟!

وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق، عن معاذ بن معاذ به. وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن سليمان بن حرب، عن حماد [ بن سلمة ] به ثم قال:هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد.

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق، عن حماد بن سلمة، به. وقال:هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه

ورواه أبو محمد الحسن بن محمد الخلال، عن محمد بن علي بن سُوَيْد، عن أبي القاسم البغوي، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، فذكره وقال:هذا إسناد صحيح لا علة فيه.

وقد رواه داود بن المحبر، عن شعبة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا [ وهذا ليس بشيء، لأن داود ابن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر ] بنحوه

وأسنده ابن مردويه من طريقين، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أنس مرفوعا بنحوه، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيْلِمِاني، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا، ولا يصح أيضًا.

وقال السُّدِّي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) قال:ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ( جَعَلَهُ دَكًّا ) قال:ترابا ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) قال:مغشيًا عليه. رواه ابن جرير.

وقال قتادة: ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) قال:ميتًا.

وقال سفيان الثوري:ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه

وقال سُنَيْد، عن حجاج بن محمد الأعور، عن أبي بكر الهذلي: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ) انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.

وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة، رواه ابن مردويه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن معاوية بن عبد الله، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية بن قُرَّة، عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة:أحد، وورقان، ورضوى. ووقع بمكة:حراء، وثَبِير، وثور » .

وهذا حديث غريب، بل منكر

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا الهَيْثَم بن خارجة، حدثنا عثمان بن حُصَين بن عَلاق، عن عُرْوة بن رُوَيم قال:كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صُمًا مُلْسا، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف.

وقال الربيع بن أنس: ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور، صار مثل دك من الدكاك. وقال بعضهم: ( جَعَلَهُ دَكًّا ) أي:فتته.

وقال مجاهد في قوله: ( وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) فإنه أكبر منك وأشد خلقا، ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) فنظر إلى الجبل لا يتمالك، وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل، فخر صعقًا.

وقال عكرمة: ( جَعَلَهُ دَكًّا ) قال:نظر الله إلى الجبل، فصار صحراء ترابًا.

وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء، واختارها ابن جرير، وقد ورد فيها حديث مرفوع، رواه بن مردويه.

والمعروف أن « الصَّعْق » هو الغشي هاهنا، كما فسره ابن عباس وغيره، لا كما فسره قتادة بالموت، وإن كان ذلك صحيحًا في اللغة، كقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ الزمر:68 ] فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي، وهي قوله: ( فَلَمَّا أَفَاقَ ) والإفاقة إنما تكون من غشي.

( قَالَ سُبْحَانَكَ ) تنـزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات.

وقوله: ( تُبْتُ إِلَيْكَ ) قال مجاهد:أن أسألك الرؤية.

( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) قال ابن عباس ومجاهد:من بني إسرائيل. واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو العالية:قد كان قبله مؤمنون، ولكن يقول:أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.

وهذا قول حسن له اتجاه. وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرًا طويلا فيه غرائب وعجائب، عن محمد بن إسحاق بن يسار [ رحمه الله ] وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله [ تعالى ] أعلم.

وقوله: ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) فيه أبو سعيد وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد، فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا، فقال:

حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال:جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه، فقال:يا محمد، إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي. قال: « ادعوه » فدعوه، قال: « لم لطمت وجهه؟ » قال:يا رسول الله، إني مررت باليهودي فسمعته يقول:والذي اصطفى موسى على البشر.

قال:قلت:وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة فلطمته، قال: « لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور » .

وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه، ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه، وأبو داود في كتاب « السنة » من سننه من طرق، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني، عن أبيه، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري، به

وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده:

حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:استب رجلان:رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم:والذي اصطفى محمدًا على العالمين. وقال اليهودي:والذي اصطفى موسى على العالمين، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فأخبره، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترف بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تخيروني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى ممسكًا بجانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله، عز وجل » . أخرجاه في الصحيحين، من حديث الزهري، به

وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا، رحمه الله:أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق، رضي الله عنه ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار، وهذا هو أصح وأصرح، والله أعلم.

والكلام في قوله، عليه السلام: « لا تخيروني على موسى » ، كالكلام على قوله: « لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى » ، قيل:من باب التواضع. وقيل:قبل أن يعلم بذلك. وقيل:نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب. وقيل:على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي، والله أعلم.

وقوله: « فإن الناس يصعقون يوم القيامة » ، الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة، يحصل أمر يصعقون منه، والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، وتجلى للخلائق الملك الديان، كما صعق موسى من تجلي الرب، عز وجل، ولهذا قال، عليه السلام: « فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور » ؟

وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه « الشفاء » بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق:حدثنا قتادة، حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما تجلى الله لموسى، عليه السلام، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء، مسيرة عشرة فراسخ » ثم قال: « ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب، بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى. »

انتهى ما قاله، وكأنه صحح هذا الحديث، وفي صحته نظر، ولا يخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون، ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله، حتى ينتهي إلى منتهاه، والله أعلم.

 

 

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 144 ) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( 145 )

يذكر تعالى أنه خاطب موسى [ عليه السلام ] بأنه اصطفاه على عالمي زمانه برسالاته وبكلامه تعالى ولا شك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصه الله بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، التي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل، عليه السلام، ثم موسى [ بن عمران ] كليم الرحمن، عليه السلام؛ ولهذا قال الله تعالى له: ( فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ ) أي:من الكلام [ والوحي ] والمناجاة ( وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) أي:على ذلك، ولا تطلب ما لا طاقة لك به.

ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، قيل:كانت الألواح من جوهر، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [ تعالى ] فيها: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [ القصص:43 ]

وقيل:الألواح أعطيها موسى قبل التوراة، فالله أعلم. وعلى كل تقدير كانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه، والله أعلم.

وقوله: ( فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ) أي:بعزم على الطاعة ( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) قال سفيان بن عيينة:حدثنا أبو سعد عن عكرمة، عن ابن عباس قال:أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه.

وقوله: ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) أي:سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب؟

قال ابن جرير:وإنما قال: ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) كما يقول القائل لمن يخاطبه: « سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري » ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره.

ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد، والحسن البصري.

وقيل:معناه ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) أي:من أهل الشام، وأعطيكم إياها. وقيل:منازل قوم فرعون، والأول أولى، والله أعلم؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه، والله أعلم.

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 146 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 147 )

يقول تعالى: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي:سأمنع فهم الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي:كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الأنعام:110 ] وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ الصف:5 ]

وقال بعض السلف:لا ينال العلم حيي ولا مستكبر.

وقال آخر:من لم يصبر على ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدا.

وقال سفيان بن عُيَينة في قوله: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قال:أنـزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.

قال ابن جرير:وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة

قلت:ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم.

وقوله: ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] .

وقوله: ( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ) أي:وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي:طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا.

ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي:كذبت بها قلوبهم، ( وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) أي:لا يعلمون شيئًا مما فيها.

وقوله: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) أي:من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات، حبط عمله.

وقوله: ( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وكما تدين تدان.

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ( 148 ) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 149 )

يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل، عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار، و « الخوار » صوت البقر. وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى [ عليه السلام ] لميقات ربه تعالى، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [ طه:85 ]

وقد اختلف المفسرون في هذا العجل:هل صار لحما ودما له خوار؟ أو استمر على كونه من ذهب، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر؟ على قولين، والله أعلم. ويقال:إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [ طه:88 ] فقال الله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [ طه:89 ]

وقال في هذه الآية الكريمة: ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا ) ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه، أن عبدوا معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم، ولا يرشدهم إلى خير. ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم عَمَى الجهل والضلال، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حبك الشيء يُعْمي ويُصِم »

وقوله: ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي:ندموا على ما فعلوا، ( وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ) وقرأ بعضهم: « لئن لم ترحمنا » بالتاء المثناة من فوق، « ربنا » منادى، « وتَغْفِر لنا » ، ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي:من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.

 

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 144 ) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( 145 )

يذكر تعالى أنه خاطب موسى [ عليه السلام ] بأنه اصطفاه على عالمي زمانه برسالاته وبكلامه تعالى ولا شك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصه الله بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، التي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل، عليه السلام، ثم موسى [ بن عمران ] كليم الرحمن، عليه السلام؛ ولهذا قال الله تعالى له: ( فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ ) أي:من الكلام [ والوحي ] والمناجاة ( وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) أي:على ذلك، ولا تطلب ما لا طاقة لك به.

ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، قيل:كانت الألواح من جوهر، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [ تعالى ] فيها: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [ القصص:43 ]

وقيل:الألواح أعطيها موسى قبل التوراة، فالله أعلم. وعلى كل تقدير كانت كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه، والله أعلم.

وقوله: ( فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ) أي:بعزم على الطاعة ( وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) قال سفيان بن عيينة:حدثنا أبو سعد عن عكرمة، عن ابن عباس قال:أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه.

وقوله: ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) أي:سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب؟

قال ابن جرير:وإنما قال: ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) كما يقول القائل لمن يخاطبه: « سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري » ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره.

ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد، والحسن البصري.

وقيل:معناه ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) أي:من أهل الشام، وأعطيكم إياها. وقيل:منازل قوم فرعون، والأول أولى، والله أعلم؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه، والله أعلم.

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( 146 ) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 147 )

يقول تعالى: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) أي:سأمنع فهم الحجج والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي، ويتكبرون على الناس بغير حق، أي:كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ الأنعام:110 ] وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ الصف:5 ]

وقال بعض السلف:لا ينال العلم حيي ولا مستكبر.

وقال آخر:من لم يصبر على ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبدا.

وقال سفيان بن عُيَينة في قوله: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قال:أنـزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي.

قال ابن جرير:وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة

قلت:ليس هذا بلازم؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا، والله أعلم.

وقوله: ( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ) كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ يونس:96 ، 97 ] .

وقوله: ( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ) أي:وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي:طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا.

ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي:كذبت بها قلوبهم، ( وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) أي:لا يعلمون شيئًا مما فيها.

وقوله: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) أي:من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات، حبط عمله.

وقوله: ( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي:إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وكما تدين تدان.

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ( 148 ) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 149 )

يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل، عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار، و « الخوار » صوت البقر. وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى [ عليه السلام ] لميقات ربه تعالى، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [ طه:85 ]

وقد اختلف المفسرون في هذا العجل:هل صار لحما ودما له خوار؟ أو استمر على كونه من ذهب، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر؟ على قولين، والله أعلم. ويقال:إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به، فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [ طه:88 ] فقال الله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [ طه:89 ]

وقال في هذه الآية الكريمة: ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا ) ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه، أن عبدوا معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم، ولا يرشدهم إلى خير. ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم عَمَى الجهل والضلال، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حبك الشيء يُعْمي ويُصِم »

وقوله: ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ) أي:ندموا على ما فعلوا، ( وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ) وقرأ بعضهم: « لئن لم ترحمنا » بالتاء المثناة من فوق، « ربنا » منادى، « وتَغْفِر لنا » ، ( لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) أي:من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.

 

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( 156 )

( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) أي:أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة، وقد تقدم [ تفسير ] ذلك في سورة البقرة. [ الآية:201 ]

( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) أي:تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن عباس، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم التيمي، والسُّدِّي، وقتادة، وغير واحد. وهو كذلك لُغَة.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن نُجيَّ عن علي [ رضي الله عنه ] قال:إنما سميت اليهود لأنهم قالوا: ( إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ )

جابر - هو ابن يزيد الجُعْفي - ضعيف.

قال تعالى مجيبا لموسى في قوله: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] الآية: ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] ) أي:أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك، سبحانه لا إله إلا هو.

وقوله تعالى: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) آية عظيمة الشمول والعموم، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [ غافر:7 ]

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا الجُرَيري، عن أبي عبد الله الجُشَمي، حدثنا جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجَلي، رضي الله عنه - قال:جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثم ركبها، ثم نادى:اللهم، ارحمني ومحمدًا، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتقولون هذا أضل أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟ » قالوا:بلى. قال: « لقد حَظَرْت رحمةً واسعة؛ إن الله، عز وجل، خلق مائة رحمة، فأنـزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين رحمة، أتقولون هو أضل أم بعيره؟ » .

رواه أبو داود عن علي بن نصر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله عز وجل، مائة رحمة، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة » .

تفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث سُلَيمان - هو ابن طِرْخان - وداود بن أبي هند كلاهما، عن أبي عثمان - واسمه عبد الرحمن بن مل - عن سلمان، هو الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لله مائة رحمة، عنده تسعة وتسعون، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه » . تفرد به أحمد من هذا الوجه

وقال أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال:قال:رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لله مائة رحمة، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم الناس والوحش والطير » .

ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه » .

هذا حديث غريب جدا، « وسعد » هذا لا أعرفه

وقوله: ( فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الآية، يعني:فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم، كما قال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [ الأنعام:54 ]

وقوله: ( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) أي:سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون، أي:الشرك والعظائم من الذنوب.

( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) قيل:زكاة النفوس. وقيل: [ زكاة ] الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما؛ فإن الآية مكية ( وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) أي:يصدقون.

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 157 )

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ ) وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد:

حدثنا إسماعيل، عن الجُرَيري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب، قال:جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعتي قلت:لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال:فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنشدك بالذي أنـزل التوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ » فقال برأسه هكذا، أي:لا. فقال ابنه، إي:والذي أنـزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقال: « أقيموا اليهودي عن أخيكم » . ثم ولى كفنه والصلاة عليه

هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح، عن أنس.

وقال الحاكم صاحب المستدرك:أخبرنا أبو محمد - عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شُرَحْبِيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال:بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة - يعني غوطة دمشق - فنـزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا:والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال:فأذن لنا فقال:تكلموا فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ فقال له هشام:وما هذه التي عليك؟ فقال:لبستها وحلفت ألا أنـزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا:ومجلسك هذا، والله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. قال:لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سوادًا فقال:قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة، قال لنا الذي معنا:إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال؟ قلنا:والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك. فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا:لا إله إلا الله، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح، فأرسل إلينا:ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا:أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال:ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام، فقلنا:إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل لنا أن نحييك بها. قال:كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا:السلام عليك. قال:وكيف تحيون ملككم؟ قلنا:بها. قال:وكيف يرد عليكم؟ قلنا:بها. قال:فما أعظم كلامكم؟ قلنا:لا إله إلا الله، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم - لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها، قال:فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم؟ قلنا:لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال:لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا:لم؟ قال:لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأنها تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال:كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال:قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنـزل حسن ونـزل كَثير، فأقمنا ثلاثًا.

فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال:أتعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا آدم، عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا نوح، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صَلْت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا إبراهيم، عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا - والله - رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفون هذا؟ قلنا:نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:وبكينا. قال:والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال:والله إنه لهو؟ قلنا:نعم، إنه لهو، كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال:أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس متراكب الأسنان، مقلَّص الشفة كأنه غضبان، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا موسى عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مُدْهَان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا هارون بن عمران، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة، كأنه غضبان، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا لوط، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال هذا إسحاق، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته خال، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. [ قال ] هذا يعقوب، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا إسماعيل جد نبيكم، عليهما السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها آدم، عليه السلام، كأن وجهه الشمس، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا يوسف، عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين، أخفش العينين ضخم البطن، رَبْعة متقلد سيفا، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا داود، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرسًا، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا سليمان بن داود، عليه السلام.

ثم فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا شابٌّ شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال:هل تعرفون هذا؟ قلنا:لا. قال:هذا عيسى ابن مريم، عليه السلام.

قلنا:من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال:إن آدم، عليه السلام، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنـزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السلام، عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال:أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، فحدثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال:فبكى أبو بكر وقال:مسكين! لو أراد الله به خيرًا لفعل. ثم قال:أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.

هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، رحمه الله، في كتاب « دلائل النبوة » ، عن الحاكم إجازة، فذكره وإسناده لا بأس به.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا عثمان بن عُمَر، حدثنا فُلَيْح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، قال:لقيت عبد الله بن عمرو فقلت:أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال:أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن: « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا:لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا » قال عطاء:ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته، قال: « قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا » .

وقد رواه البخاري في صحيحه، عن محمد بن سِنَان، عن فُلَيْح، عن هلال بن علي - فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله: « ليس بفظ ولا غليظ » : « ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح » .

ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق « التوراة » على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم - من ولد جبير بن مطعم - قال:حدثتني أم عثمان بنت سعيد - وهي جدتي - عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه محمد بن جبير، عن أبيه جبير بن مطعم، قال:خرجت تاجرًا إلى الشام، فلما كنت بأدنى الشام، لقيني رجل من أهل الكتاب، فقال:هل عندكم رجل نبيًا؟ قلت:نعم. قال:هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت:نعم. فأدخلني بيتا فيه صور، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا، فقال:فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منـزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم، قلت:من هذا الرجل القابض على عقبه؟ قال:إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي، فإنه لا نبي بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكر، رضي الله عنه

وقال أبو داود:حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم، عن عبد الله بن شقيق العقيلي، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال:بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر:هل تجدني في الكتاب؟ قال:نعم. قال:كيف تجدني؟ قال:أجدك قَرْنا. قال:فرفع عمر الدرة وقال قرن مه؟ قال:قرن حديد، أمير شديد. قال:فكيف تجد الذي بعدي؟ قال:أجد خليفة صالحا، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر:يرحم الله عثمان، ثلاثا. قال:كيف تجد الذي بعده؟ قال:أجد صدأ حديد. قال:فوضع عمر يده على رأسه وقال:يا دفراه، يا دَفْراه! قال:يا أمير المؤمنين، إنه خليفة صالح، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول، والدم مهراق

وقوله تعالى ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهكذا كان حاله، عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، كما قال عبد الله بن مسعود:إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأرْعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه، ما بعثه الله [ تعالى ] به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرسل قبله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر - هو العقدي عبد الملك بن عمرو - حدثنا سليمان - هو ابن بلال - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه »

هذا [ حديث ] جيد الإسناد، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [ الستة ]

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، رضي الله عنه، قال:إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، [ والذي هو أنجي ] والذي هو أتقى

ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال:إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه

وقوله: ( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) أي:يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:كلحم الخنـزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.

وقال بعض العلماء:كل ما أحل الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه، فهو خبيث ضار في البدن والدين.

وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.

وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه كلام طويل أيضا.

وقوله: ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) أي:إنه جاء بالتيسير والسماحة، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « بعثت بالحنيفية السمحة » . وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري، لما بعثهما إلى اليمن: « بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا » . وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي:إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره.

وقد كانت الأمم الذين كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسع الله على هذه الأمة أمورها، وسهلها لهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل » وقال: « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ البقرة:286 ] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه:قد فعلت، قد فعلت

وقوله: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ) أي:عظموه ووقروه، ( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنـزلَ مَعَهُ ) أي:القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس، ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:في الدنيا والآخرة.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 158 )

يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( قُلْ ) يا محمد: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) وهذا خطاب للأحمر والأسود، والعربي والعجمي، ( إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) أي:جميعكم، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الأنعام:19 ] وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هود:17 ] وقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [ آل عمران:20 ] والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه، صلوات الله وسلامه عليه، رسول الله إلى الناس كلهم.

قال البخاري، رحمه الله، في تفسير هذه الآية:حدثنا عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر حدثني بسر ابن عبيد الله، حدثني أبو إدريس الخولاني قال:سمعت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يقول:كانت بين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عمر عنه مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أبو الدرداء:ونحن عنده - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أما صاحبكم هذا فقد غامر » - أي: غاضب وحاقد - قال:وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر - قال أبو الدرداء:وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول:والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت:يأيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم:كذبت وقال أبو بكر:صدقت » . انفرد به البخاري

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس [ رضي الله عنه ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي - ولا أقوله فخرًا:بعثت إلى الناس كافة:الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا » إسناده جيد، ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن أبي الهاد، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: « لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي:سل؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله » إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.

وقال أيضا:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي، لم يدخل الجنة »

وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر، عن أبي موسى قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة:يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار »

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس - وهو سليم بن جبير - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: « والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة:يهودي أو نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار » . تفرد به أحمد

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خمسًا:بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب شهرًا وأعطيت الشفاعة - وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة، وإني قد اختبأت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا »

وهذا أيضا إسناد صحيح، ولم أرهم خرجوه، والله أعلم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا، من حديث جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي:نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة »

وقوله: ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) صفة الله تعالى، في قوله ( رَسُولُ اللَّهِ ) أي:الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة، وله الحكم.

وقوله: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ ) أخبرهم أنه رسول الله إليهم، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به، ( النَّبِيِّ الأمِّيِّ ) أي:الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة، فإنه منعوت بذلك في كتبهم؛ ولهذا قال: ( النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ ) أي:يصدق قوله عمله، وهو يؤمن بما أنـزل إليه من ربه ( وَاتَّبِعُوهُ ) أي:اسلكوا طريقه واقتفوا أثره، ( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي:إلى الصراط المستقيم.

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 159 )

يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به، كما قال تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [ آل عمران:113 ] ، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ آل عمران:199 ] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ] [ القصص:52- 54 ] ، وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ الآية [ البقرة:121 ] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [ الإسراء:107- 109 ]

وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا، فقال:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال:بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم، وكفروا - وكانوا اثني عشر سبطا - تبرأ سبط منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله، عز وجل، أن يفرق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج:قال ابن عباس:فذلك قوله: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [ الإسراء:104 ] و وَعْدُ الآخِرَةِ :عيسى ابن مريم - قال ابن جريج:قال ابن عباس:ساروا في السرب سنة ونصفًا.

وقال ابن عيينة، عن صدقة أبي الهذيل، عن السُّدِّي: ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال:قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد

وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 160 ) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 161 ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 162 )

تقدم تفسير هذا كله في سورة « البقرة » ، وهي مدنية، وهذا السياق مكي، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 163 )

هذا السياق هو بسط لقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ البقرة:65 ] يقول [ الله ] تعالى، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: ( وَاسْأَلْهُمْ ) أي:واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم. وهذه القرية هي « أيلة » وهي على شاطئ بحر القلزم.

قال محمد بن إسحاق:عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ) قال:هي قرية يقال لها « أيلة » بين مدين والطور. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والسُّدِّي.

وقال عبد الله بن كثير القارئ، سمعنا أنها أيلة. وقيل:هي مدين، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد:هي قرية يقال لها. « مقنا » بين مدين وعَيدُوني.

وقوله: ( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) أي:يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك. ( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا ) قال الضحاك، عن ابن عباس:أي ظاهرة على الماء.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( شُرَّعًا ) من كل مكان.

قال ابن جرير:وقوله: ( وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ) أي:نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائه عنهم في اليوم المحلل لهم صيده ( كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ) نختبرهم ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) يقول:بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.

وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام.

وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة، رحمه الله:حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل »

وهذا إسناد جيد، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه، وباقي رجاله مشهورون ثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا.

 

وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 164 ) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 165 ) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 166 )

يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق:فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة. وفرقة نهت عن ذلك، [ وأنكرت ] واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) ؟ أي:لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة: ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره:هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب، أي:نفعل ذلك ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) أي:فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقولون:ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) أي:فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة، ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي:ارتكبوا المعصية ( بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم:هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين:

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) [ قال: ] هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة، يقال لها: « أيلة » ، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها. فمضى على ذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة وقالوا:تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غيًا وعتوًا، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة:تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ [ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ] ) وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى؟ فقالوا: ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) والذين قالوا: ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة.

وروى العوفي، عن ابن عباس قريبًا من هذا.

وقال حماد بن زيد، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) قال:ما أدري أنجا الذين قالوا: « أتعظون قوما الله مهلكهم » ، أم لا ؟ قال:فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم نجوا، فكساني حلة.

قال عبد الرزاق:أخبرنا ابن جُرَيْج، حدثني رجل، عن عكرمة قال:جئت ابن عباس يوما وهو يبكي، وإذا المصحف في حجره، فأعظمت أن أدنو، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت:ما يبكيك يا أبا عباس، جعلني الله فداك؟ قال:فقال:هؤلاء الورقات. قال:وإذا هو في « سورة الأعراف » ، قال:تعرف أيلة قلت:نعم. قال:فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضًا سمانًا كأنها الماخض، تتبطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال:إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت، فخذوها فيه، وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم، وقالت طائفة:بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك، حتى جاءت الجمعة المقبلة، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها، واعتزلت طائفة ذات اليمين، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون:ويلكم، الله، الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله. وقال الأيسرون: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) ؟ قال الأيمنون: ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة، وقال الأيمنون:فقد فعلتم، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم الليلة في مدينتكم، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا، فلم يجابوا، فوضعوا سلما، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال:أي عباد الله، قردة والله تعاوي لها أذناب. قال:ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فتقول:ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها، أي نعم. ثم قرأ ابن عباس: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) قال:فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها؟. قال:قلت:جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم وقالوا: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) ؟ قال:فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين

وكذا روى مجاهد، عنه.

وقال ابن جرير:حدثنا يونس، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز، عن مالك، قال:زعم ابن رومان أن قوله تعالى: تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ قال:كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر، فاتخذ - لذلك - رجل خيطًا ووتدًا، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد، أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه، فأتوه فسألوه عن ذلك، فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: « فإنه جلد حوت وجدناه » . فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك - ولا أدري لعله قال:ربط حوتين - فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجدوا رائحة، فجاءوا فسألوه فقال لهم:لو شئتم صنعتم كما أصنع. فقالوا له:وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدوا عليهم جيرانهم مما كانوا حولهم، يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم، فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك، ويدنو منه ويتمسح به

وقد قدمنا في سورة « البقرة » من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية، ولله الحمد والمنة.

القول الثاني:أن الساكتين كانوا من الهالكين.

قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنه قال:ابتدعوا السبت فابتلوا فيه، فحرمت عليهم فيه الحيتان، فكانوا إذا كان يوم السبت، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل، فإذا جاء السبت جاءت شرعا، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتًا فخزم أنفه ثم، ضرب له وتدًا في الساحل، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد، أخذه فشواه فأكله، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون، ولا ينهاه منهم أحد، إلا عصبة منهم نهوه، حتى ظهر ذلك في الأسواق، ففعل علانية. قال:فقالت طائفة للذين ينهونهم: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ) فقالوا:سخط أعمالهم ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ) إلى قوله: ( قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) قال ابن عباس:كانوا أثلاثًا:ثلث نهوا، وثلث قالوا: ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ) وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.

وهذا إسناد جيد عن ابن عباس، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين، أولى من القول بهذا؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا.

و ( بَئِيسٍ ) فيه قراءات كثيرة، ومعناه في قول مجاهد: « الشديد » ، وفي رواية: « أليم » . وقال قتادة:موجع. والكل متقارب، والله أعلم.

وقوله: ( خاسئين ) أي:ذليلين حقيرين مهانين.

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 167 )

( تَأَذَّنَ ) تَفَعَّل من الإذن أي:أعلم، قاله مجاهد. وقال غيره:أمر.

وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله: ( لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ) أي:على اليهود ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) أي:بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم.

ويقال:إن موسى، عليه السلام، ضرب عليهم الخراج سبع سنين - وقيل:ثلاث عشرة سنة، وكان أول من ضرب الخراج. ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم وإياهم، أخذهم منهم الجزية والخراج، ثم جاء الإسلام، ومحمد، عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا تحت صفاره وذمته يؤدون الخراج والجزى

قال العوفي، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال:هي المسكنة، وأخذ الجزية منهم.

وقال علي بن أبي طلحة، عنه:هي الجزية، والذين يسومهم سوء العذاب:محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، إلى يوم القيامة.

وكذا قال سعيد بن جبير، وابن جُرَيْج، والسُّدِّي، وقتادة.

وقال عبد الرزاق:عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب قال:يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية.

قلت:ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار الدجال، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم، عليه السلام، وذلك آخر الزمان.

وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ) أي:لمن عصاه وخالف [ أمره و ] شرعه، ( وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:لمن تاب إليه وأناب.

وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة، لئلا يحصل اليأس، فيقرن [ الله ] تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 168 ) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 169 ) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( 170 )

يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما، أي:طوائف وفرقًا، كما قال [ تعالى ] وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [ الإسراء:104 ]

( مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ) أي:فيهم الصالح وغير ذلك، كما قالت الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [ الجن:11 ] ، ( وَبَلَوْنَاهُمْ ) أي:اختبرناهم ( بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ) أي:بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء، ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )

ثم قال تعالى: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) يقول تعالى:فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح، خلف آخر لا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة [ هذا ] الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد:هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك، ( يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ) أي:يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه؛ ولهذا قال: ( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) كما قال سعيد بن جبير:يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله منه، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.

وقول مجاهد في قوله: ( يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى ) قال:لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حرامًا، ويتمنون المغفرة، ويقولون: ( سَيُغْفَرُ لَنَا ) وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه.

وقال قتادة في: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) أي:والله، لخلف سوء، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم، ورثهم الله وعهد إليهم، وقال الله في آية أخرى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [ مريم:59 ] ، قال ( يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) تمنوا على الله أماني، وغرَّة يغترون بها، ( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) لا يشغلهم شيء عن شيء، ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هف لهم شيء من [ أمر ] الدنيا أكلوه، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا.

وقال السُّدِّي [ في ] قوله: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ) إلى قوله: ( وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ) قال:كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى، فيقال له:ما شأنك ترتشي في الحكم، فيقول: « سيغفر لي » ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات، أو نـزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول:وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه.

قال الله تعالى: ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ) يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس، ولا يكتمونه كقوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [ آل عمران:187 ]

وقال ابن جُرَيْج:قال ابن عباس: ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) قال:فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها، ولا يتوبون منها.

وقوله تعالى: ( وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه، ويحذرهم من وبيل عقابه، أي:وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم، وترك هوى نفسه، وأقبل على طاعة ربه.

( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) يقول:أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير؟ ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ) أي:اعتصموا به واقتدوا بأوامره، وتركوا زواجره ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ )

 

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 171 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ) يقول:رفعناه، وهو قوله: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [ النساء:154 ]

وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رفعته الملائكة فوق رءوسهم.

وقال القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:ثم سار بهم موسى، عليه السلام، متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمره الله تعالى [ به ] - أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال:رفعته الملائكة فوق رءوسهم. رواه النسائي بطوله

وقال سنيد بن داود في تفسيره، عن حجاج بن محمد، عن أبي بكر بن عبد الله قال:هذا كتاب، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم؟ قالوا:انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة، وحدودها خفيفة قبلناها. قال:اقبلوها بما فيها. قالوا:لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها؟ فراجعوا موسى مرارا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى:ألا ترون ما يقول ربي، عز وجل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها، لأرمينكم بهذا الجبل. قال:فحدثني الحسن البصري قال:لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل، فرقًا من أن يسقط [ عليه ] فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون:هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة. قال أبو بكر:فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير، ولا كبير، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه. [ أي:حرك كما قال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ [ الإسراء:51 ] أي يحركونها ]

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( 172 ) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( 173 ) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 174 )

يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [ الروم:30 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية:على هذه الملة - فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء » وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله [ تعالى ] إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم »

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله:حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السري بن يحيى:أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد، قال:غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات، قال:فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد عليه، ثم قال: « ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ » قال رجل:يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال: « إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها » . قال الحسن:والله لقد قال الله في كتابه: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ] ) الآية

وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به. وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال:حدثنا الأسود ابن سَرِيع، فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك

وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم، عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و [ إلى ] أصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا حَجَّاج، حدثنا شُعْبة، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة:أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ » قال: « فيقول:نعم. فيقول:قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به

حديث آخر:وقال الإمام أحمد:حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن كلثوم بن جابر عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم، عليه السلام، بنعمان. يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا قال: ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) إلى قوله: ( الْمُبْطِلُونَ ) »

وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن محمد بن عبد الرحيم - صاعقة - عن حسين بن محمد المروزي، به. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به. إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا. وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جَبْر، به. وقال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال، وقد رواه عبد الوارث، عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبير، عن أبيه، به. وكذا رواه عطاء بن السائب، وحبيب بن أبي ثابت، وعلي بن بَذِيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت، والله أعلم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي جَمْرَة الضبعي، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال:أخرج الله ذرية آدم [ عليه السلام ] من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذى من الماء.

وقال أيضا:حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال:مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم، [ وهو ] ابن ستة أيام. قال:فقال:يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده، فأبرز وجهه، وحُلّ عنه عقده، فإن ابني مُجْلَس، ومسئول. ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت:يرحمك الله، عمّ يُسأل ابنك؟ من يسأله إياه؟ قال:يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم. قلت:يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟ قال:حدثني ابن عباس [ رضي الله عنه ] ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق:أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه. فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول. ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به، لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة

فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس، والله أعلم.

حديث آخر:وقال ابن جرير:حدثنا عبد الرحمن بن الوليد، حدثنا أحمد بن أبي طيبة، عن سفيان بن سعيد، عن الأجلح، عن الضحاك وعن - منصور، عن مجاهد - عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) قال: « أخذ من ظهره، كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: ( ألست بربكم قالوا بلى ) قَالَتِ الْمَلائِكَةُ ( شهدنا أن تقولوا ) يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين »

أحمد بن أبي طيبة هذا هو:أبو محمد الجرجاني قاضي قومس، كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي:يكتب حديثه. وقال ابن عَدِيّ:حدث بأحاديث أكثرها غرائب.

وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قوله، وكذا رواه جرير، عن منصور، به. وهذا أصح والله أعلم.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا روح - هو ابن عبادة - حدثنا مالك، وحدثنا إسحاق، أخبرنا مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ:أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أخبره، عن مسلم بن يَسار الجُهَني:أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) الآية، فقال عمر بن الخطاب:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئل عنها، فقال: « إن الله خلق آدم، عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، قال:خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال:خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون » . فقال رجل:يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بأعمال أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة. وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار » .

وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي - والنسائي عن قتيبة - والترمذي عن إسحاق بن موسى، عن مَعْن. وابن أبي حاتم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب. وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، من رواية أبي مصعب الزبيري، كلهم عن الإمام مالك بن أنس، به

قال الترمذي:وهذا حديث حسن، ومسلم بن يَسَار لم يسمع عُمَر. وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة. زاد أبو حاتم:وبينهما نُعَيْم بن ربيعة.

وهذا الذي قاله أبو حاتم، رواه أبو داود في سننه، عن محمد بن مصفى، عن بَقِيَّةَ، عن عمر ابن جُعْثُم القرشي، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يَسَار الجهني، عن نعيم بن ربيعة قال:كنت عند عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] وقد سئل عن هذه الآية: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) فذكره

وقال الحافظ الدارقطني:وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك، والله أعلم

قلت:الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر « نعيم بن ربيعة » عمدًا؛ لما جهل حاله ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات، ويقطع كثيرًا من الموصولات، والله أعلم.

حديث آخر:قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية:حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما خلق الله [ عز وجل ] آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال:أي رب، من هؤلاء؟ قال:هؤلاء ذرّيتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال:أي رب، من هذا؟ قال:هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك، يقال له:داود. قال:رب، وكم جعلت عمره؟ قال:ستين سنة. قال:أي رب، زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت قال:أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال:أوَ لم تعطها ابنك داود؟ قال:فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته » .

ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، به. وقال:صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه

ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، أنه حدثه عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال: « ثم عرضهم على آدم فقال:يا آدم، هؤلاء ذريتك. وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى، وأنواع الأسقام، فقال آدم:يا رب، لم فعلت هذا بذريتي؟ قال:كي تشكر نعمتي. وقال آدم:يا رب، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا؟ قال:هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك » . ثم ذكر قصة داود، كنحو ما تقدم

حديث آخر:قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري عن أبيه، عن هشام بن حكيم، رضي الله عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، أتبدأ الأعمال، أم قد قُضِي القضاء؟ قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه » ثم قال: « هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار » .

رواه ابن جرير، وابن مردويه من طرق عنه

حديث آخر:روى جعفر بن الزبير - وهو ضعيف - عن القاسم، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما خلق الله الخلق، وقضى القضية، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله، فقال:يا أصحاب اليمين. فقالوا:لبيك وسعديك. قال:ألست بربكم؟ قالوا:بلى. قال:يا أصحاب الشمال. قالوا:لبيك وسعديك. قال:ألست بربكم؟ قالوا:بلى ثم خلط بينهم، فقال قائل:يا رب، لم خلطت بينهم؟ قال:لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم [ عليه السلام ] » . رواه ابن مردويه

أثر آخر:قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب [ رضي الله عنه ] في قول الله تعالى ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية والتي بعدها، قال:فجمعهم له يومئذ جميعا، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا:بلى، الآية. قال:فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرَضِين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة:لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، فلا تشركوا بي شيئًا، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنـزل عليكم كتبي. قالوا:نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال:يا رب، لو سَويت بين عبادك؟ قال:إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ] [ الأحزاب:7 ] وهو الذي يقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] الآية [ الروم:30 ] ، ومن ذلك قال: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [ النجم:56 ] ومن ذلك قال: وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ] [ الأعراف:102 ] .

رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم، من رواية ابن جعفر الرازي، به. وروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد من علماء السلف، سياقات توافق هذه الأحاديث، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها، وبالله المستعان.

فهذه الأحاديث دالة على أن الله، عز وجل، استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] وفي حديث عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ] وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان، كما تقدم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف:إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع. وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك، قالوا:ولهذا قال: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ) ولم يقل: « من آدم » ، ( مِنْ ظُهُورِهِمْ ) ولم يقل: « من ظهره » ( ذُرِّيَّاتِهِمْ ) أي:جعل نسلهم جيلا بعد جيل، وقرنًا بعد قرن، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ [ الأنعام:165 ] وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [ النمل:62 ] وقال: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ الأنعام:133 ]

ثم قال: ( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) أي:أوجدهم شاهدين بذلك، قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول، كما قال [ تعالى ] قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [ الأنعام:130 ] الآية، وتارة تكون حالا كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ التوبة:17 ] أي:حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذلك قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ العاديات:7 ] كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كما في قوله: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [ إبراهيم:34 ] قالوا:ومما يدل على أن المراد بهذا هذا، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره، ليكون حجة عليه. فإن قيل:إخبار الرسول به كاف في وجوده، فالجواب:أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد؛ ولهذا قال: ( أَنْ يَقُولُوا ) أي:لئلا يقولوا يوم القيامة: ( إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا ) أي: [ عن ] التوحيد ( غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا ) الآية.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 175 ) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 176 ) سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 177 )

قال عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الأعمش ومنصور، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، في قوله تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] ) الآية، قال:هو رجل من بني إسرائيل، يقال له:بَلْعم بن أبَرَ. وكذا رواه شعبة وغير واحد، عن منصور، به.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] هو صيفي بن الراهب.

قال قتادة:وقال كعب:كان رجلا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] هو رجل من أهل اليمن، يقال له:بَلْعَم، آتاه الله آياته فتركها.

وقال مالك بن دينار:كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السلام.

وقال سفيان بن عيينة، عن حُصَين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] هو بلعم بن باعر. وكذا قال مجاهد وعكرمة.

وقال ابن جرير:حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال:هو بلعام - وقالت ثقيف:هو أمية بن أبي الصلت.

وقال شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ] في قوله: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] ) قال:هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت.

وقد روي من غير وجه، عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة، قبحه الله [ تعالى ] وقد جاء في بعض الأحاديث: « أنه ممن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه » ؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) قال:هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت:اجعل لي منها واحدة. قال: فلك واحدة، فما الذي تريدين؟ قالت:ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فدعا الله، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئًا آخر، فدعا الله أن يجعلها كلبة، فصارت كلبة، فذهبت دعوتان. فجاء بنوها فقالوا:ليس بنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله، فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث، وسميت البسوس. غريب.

وأما المشهور في سبب نـزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو رجل من مدينة الجبارين، يقال له: « بلعام » وكان يعلم اسم الله الأكبر.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره من علماء السلف:كان [ رجلا ] مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه.

وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال:كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير، عن بعضهم، ولا يصح

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لما نـزل موسى بهم - يعني بالجبارين - ومن معه، أتاه يعني بلعام - أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا:إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال:إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: ( فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] )

وقال السدي:إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [ المائدة:26 ] بعث يوشع بن نون نبيا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله [ قد ] أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: « بلعم » وكان عالمًا، يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم:لا ترهبوا بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء، يعظمهن فكان ينكح أتانا له، وهو الذي قال الله تعالى ( فَانْسَلَخَ مِنْهَا )

وقوله: ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) أي:استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: ( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) أي:من الهالكين الحائرين البائرين.

وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال:حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا محمد بن بكر، عن الصلت بن بَهْرام، حدثنا الحسن، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد؛ أن حذيفة - يعني بن اليمان، رضي الله عنه - حدثه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك » . قال:قلت:يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك:المرمي أو الرامي؟ قال: « بل الرامي » .

هذا إسناد جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهما.

وقوله تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) يقول تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي:لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، ( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ) أي:مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.

وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى: ( وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ) قال:تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة لله، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير، وغير واحد.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله:وكان من قصة هذا الرجل:ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه:أنه سُئل عن هذه الآية: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ] ) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة، قال:وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام - أو قال:الشام - قال فرُعب الناس منه رعبًا شديدًا، قال:فأتوا بلعام، فقالوا:ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال:حتى أوَامر ربي - أو:حتى أؤامر - قال:فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له:لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم. قال:فقال لقومه:إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقالوا:ادع عليهم. فقال:حتى أوامر. فوامر، فلم يَحُر إليه شيء. فقال:قد وامرت فلم يَحُر إلى شيء! فقالوا:لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال:فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه - أو نحوًا من ذا إن شاء الله. قال ما نراك تدعو إلا علينا. قال:ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء يَسْتقبلنهم ؛ فإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال:ففعلوا. قال:فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال:وكان للملك ابنة، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال:فقال أبوها - أو بلعام- :لا تمكني نفسك إلا من موسى! قال:ووقعوا في الزنا. قال:وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، قال:فأرادها على نفسه، فقالت:ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال:فقال:إن منـزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا. قال:فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال:فقال لها:فأمكنيه قال:ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال:وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا، ورفعهما على رمحه فرآهما الناس - أو كما حدَّث - قال:وسلط الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا.

قال أبو المعتمر:فحدثني سَيَّار:أن بلعامًا ركب حمارة له حتى أتى العلولي - أو قال:طريقا من العلولي - جعل يضربها ولا تُقْدم، وقامت عليه فقالت:علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه، قال:فنـزل وسجد له، قال الله تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) إلى قوله: ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

قال:فحدثني بهذا سيار، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.

قلت:هو بلعام - ويقال:بلعم - بن باعوراء، ابن أبر. ويقال:ابن باعور بن شهوم بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران - ويقال:ابن حران - بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء.

قال ابن عساكر:وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكر في القرآن. ثم أورد من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهب وغيره، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر؛ أنه حدث:أن موسى، عليه السلام، لما نـزل في أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له:هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منـزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم. قال:ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! قالوا له:ما لنا من منـزل! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه، حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسْبان، فلما سار عليها غير كثير، ربضت به، فنـزل عنها فضربها، حتى إذا أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه، فقالت:ويحك يا بلعم:أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينـزع عنها يضربها، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه:أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال:فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه! قال:واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم:قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جَمِّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم، ففعلوا. فلما دخل النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها « كسبي ابنة صور، رأس أمته » برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو « زمرى بن شلوم » ، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى، عليه السلام، فقال:إني أظنك ستقول هذا حرام عليك؟ قال:أجل، هي حرام عليك، لا تقربها. قال:فوالله لا نطيعك في هذا. ثم دخل بها قبته فوقع عليها. وأرسل الله، عز وجل، الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحب أمر موسى، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لَحْيَيْه - وكان بكر العيزار - وجعل يقول:اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا - والمقلل لهم يقول:عشرون ألفا - في ساعة من النهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللَّحَى - لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحييه - والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنـزل الله: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ] ) - إلى قوله: ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

وقوله تعالى: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) اختلف المفسرون في معناه فأما على سياق ابن إسحاق، عن سالم بن أبي النضر:أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل:معناه:فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهثه في حالتيه، إن حملت عليه وإن تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [ البقرة:6 ] ، اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [ التوبة:80 ] ونحو ذلك.

وقيل:معناه:أن قلب الكافر والمنافق والضال، ضعيف فارغ من الهدى، فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.

وقوله تعالى: ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ ) أي:لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران، [ عليه السلام ] ؛ ولهذا قال: ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) أي:فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا، وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.

وقوله: ( سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي:ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حَيِّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيها بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه »

وقوله: ( وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) أي:ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 178 )

يقول تعالى:من هداه الله فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود: « إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله » .

الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وغيرهم

 

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( 179 )

يقول تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ) أي:خلقنا وجعلنا ( لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) أي:هيأناهم لها، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق، علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ورد في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء »

وفي صحيح مسلم أيضا، من حديث عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أنها قالت:دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت:يا رسول الله طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم « »

وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [ رضي الله عنه ] ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب:رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد « . »

وتقدم أن الله [ تعالى ] لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين:أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال: « هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي » .

والأحاديث في هذا كثيرة، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها.

وقوله تعالى: ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ) يعني:ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [ سببا للهداية ] كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ] [ الأحقاف:26 ] وقال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [ البقرة:18 ] هذا في حق المنافقين، وقال في حق الكافرين: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ البقرة:171 ] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى، كما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ الأنفال:23 ] ، وقال: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ الحج:46 ] ، وقال: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [ الزخرف:36 ، 37 ] .

وقوله تعالى: ( أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ ) أي:هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ] [ البقرة:171 ] أي:ومثلهم - في حال دعائهم إلى الإيمان - كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته، ولا تفقه ما يقول؛ ولهذا قال في هؤلاء: ( بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) أي:من الدواب؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها، وإن لم تفقه كلامه، بخلاف هؤلاء؛ ولأن الدواب تفقه ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده، فكفر بالله وأشرك به؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده، ومن كفر به من البشر، كانت الدواب أتم منه؛ ولهذا قال تعالى: ( أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )

وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 180 )

عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر » .

أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه رواه البخاري، عن أبى اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد به وأخرجه الترمذي، عن الجوزجاني، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب فذكر بسنده مثله، وزاد بعد قوله: « يحب الوتر » :هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور

ثم قال الترمذي:هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.

ورواه ابن حبان في صحيحه، من طريق صفوان، به وقد رواه ابن ماجه في سننه، من طريق آخر عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعا فسرد الأسماء كنحو ما تقدم بزيادة ونقصان.

والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد:أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك، أي:أنهم جمعوها من القرآن كما رود عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي، والله أعلم.

ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن يزيد بن هارون، عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال:اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أعلمته أحدًا من خلقك، أو أنـزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا » . فقيل:يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: « بلى، ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها » .

وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله

وذكر الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه: « الأحوذي في شرح الترمذي » ؛ أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم، فالله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) قال:إلحاد الملحدين:أن دعوا « اللات في أسماء الله. »

وقال ابن جريج، عن مجاهد: ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) قال:اشتقوا « اللات » من الله، واشتقوا « العزى » من العزيز.

وقال قتادة: ( يُلْحِدُونَ ) يشركون. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الإلحاد:التكذيب. وأصل الإلحاد في كلام العرب:العدل عن القصد، والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر، لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 181 )

يقول تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا ) أي:ومن الأمم ( أُمًّةٌ ) قائمة بالحق، قولا وعملا ( يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) يقولونه ويدعون إليه، ( وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) يعملون ويقضون.

وقد جاء في الآثار:أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية، هي هذه الأمة المحمدية.

قال سعيد، عن قتادة في تفسير هذه الآية:بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: « هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ الأعراف:159 ] »

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من أمتي قومًا على الحق، حتى ينـزل عيسى ابن مريم متى ما نـزل » .

وفي الصحيحين، عن معاوية بن أبي سفيان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى تقوم الساعة - وفي رواية - :حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك - وفي رواية - :وهم بالشام »

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 182 ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 183 )

يقول تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ومعناه:أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الأنعام:44، 45 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَأُمْلِي لَهُمْ ) أي:وسأملي لهم، أطول لهم ما هم فيه ( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) أي:قوي شديد.

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 184 )

يقول تعالى: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ) هؤلاء المكذبون بآياتنا ( مَا بِصَاحِبِهِمْ ) يعني محمدًا - صلوات الله وسلامه عليه ( مِنْ جِنَّةٍ ) أي:ليس به جنون، بل هو رسول الله حقًا دعا إلى حق، ( إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي:ظاهر لمن كان له قلب ولب يعقل به ويعي به، كما قال تعالى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [ التكوير:22 ] ، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [ سبأ:46 ] يقول إنما أطلب منكم أن تقوموا لله قياما خالصا لله، ليس فيه تعصب ولا عناد، مَثْنَى وَفُرَادَى أي:مجتمعين ومتفرقين، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله:أبه جنون أم لا؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك، بان لكم وظهر أنه رسول [ الله ] حقًا وصدقًا.

وقال قتادة بن دعامة:ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصفا، فدعا قريشًا فجعل يُفَخِّذهم فَخِذًا فَخِذًا: « يا بني فلان، يا بني فلان » ، فحذرهم بأس الله ووقائع الله، فقال قائلهم:إن صاحبكم هذا لمجنون. بات يصوت إلى الصباح - أو:حتى أصبح، فأنـزل الله تعالى: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ )

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 185 )

يقول تعالى: ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ) - هؤلاء المكذبون بآياتنا - في ملك الله وسلطانه في السماوات والأرض، وفيما خلق [ الله ] من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه، ومِنْ فِعْل من لا ينبغي أن تكون العبادة. والدين الخالص إلا له. فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله، وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.

وقوله: ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ؟ يقول:فبأي تخويف وتحذير وترهيب - بعد تحذير محمد وترهيبه، الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه - يصدقون، إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله، عز وجل؟! .

وقد روى الإمام أحمد عن حسن بن موسى وعفان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جُدْعَان، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت ليلة أسري بي، لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوقي، فإذا أنا برعد وبرق وصواعق » ، قال: « وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، قلت:من هؤلاء يا جبريل؟ قال:هؤلاء أكلة الربا. فلما نـزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني، فإذا أنا برَهج ودخان وأصوات فقلت:ما هذا يا جبريل؟ قال:هذه الشياطين يُحَرِّفون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب » .

علي بن زيد بن جدعان له منكرات .

ثم قال تعالى:

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 186 )

يقول تعالى:من كُتِب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد، ولو نظر لنفسه فيما نظر، فإنه لا يجزي عنه شيئا، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [ المائدة:41 ] قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [ يونس:101 ]

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 187 )

يقول تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ ) كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ [ الأحزاب:63 ] قيل:نـزلت في قريش. وقيل:في نفر من اليهود. والأول أشبه؛ لأن الآية مكية، وكانوا يسألون عن وقت الساعة، استبعادًا لوقوعها، وتكذيبًا بوجودها؛ كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ الأنبياء:38 ] ، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [ الشورى:18 ]

وقوله: ( أَيَّانَ مُرْسَاهَا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « منتهاها » أي:متى محطها؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة؟

( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ) أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة، أن يرُدَّ علمها إلى الله تعالى؛ فإنه هو الذي يجليها لوقتها، أي:يعلم جلية أمرها، ومتى يكون على التحديد، [ أي ] لا يعلم ذلك [ أحد ] إلا هو تعالى؛ ولهذا قال: ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ )

قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال:ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون. قال معمر:قال الحسن:إذا جاءت، ثقلت على أهل السماوات والأرض، يقول:كَبُرَت عليهم .

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال:ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة.

وقال ابن جُرَيْج: ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال:إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم، وكورت الشمس، وسيرت الجبال، وكان ما قاله الله، عز وجل فذلك ثقلها.

واختار ابن جرير، رحمه الله:أن المراد:ثَقُلَ علم وقتها على أهل السماوات والأرض، كما قال قتادة.

وهو كما قالاه، كقوله تعالى: ( لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً ) ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض، والله أعلم.

وقال السدي [ في قوله تعالى ] ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول:خفيت في السماوات والأرض، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب، ولا نبي مرسل.

( لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً ) [ قال ] يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة.

وقال قتادة في قوله تعالى: ( لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً ) قضى الله أنها ( لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً ) قال:وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال « إن الساعة تهيج بالناس، والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه »

وقال البخاري:حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومَنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يَطْعَمُه. ولتقومَنّ الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه. ولتقومَنّ الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها »

وقال مسلم في صحيحه:حدثني زهير بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تقوم الساعة والرجل يحلب اللِّقْحَة، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة. والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم. والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم »

وقوله [ تعالى ] ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) اختلف المفسرون في معناه، فقيل:معناه:كما قال العوفي عن ابن عباس: ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) يقول:كأن بينك وبينهم مودة، كأنك صديق لهم. قال ابن عباس:لما سأل الناس محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم، فأوحى الله إليه:إنما علمها عنده، استأثر بعلمها، فلم يطلع الله عليها ملكًا مقربًا ولا رسولا.

وقال قتادة:قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم:إن بيننا وبينك قرابة، فأسرّ إلينا متى الساعة. فقال الله، عز وجل: ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا )

وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وأبي مالك، والسُّدِّي، وهذا قول. والصحيح عن مجاهد - من رواية ابن أبي نَجِيح وغيره - : ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) قال:استَحْفَيت عنها السؤال، حتى علمت وقتها.

وكذا قال الضحاك، عن ابن عباس: ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) يقول:كأنك عالم بها، لست تعلمها، ( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ )

وقال معمر، عن بعضهم: ( كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) كأنك عالم بها.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) كأنك عالم بها، وقد أخفى الله علمها على خلقه، وقرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية [ لقمان:34 ] .

ولهذا القول أرجح في المعنى من الأول، والله أعلم؛ ولهذا قال: ( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )

ولهذا لما جاء جبريل، عليه السلام، في صورة أعرابي، يعلم الناس أمر دينهم، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد، وسأله عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، ثم قال:فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما المسئول عنها بأعلم من السائل » أي:لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية

وفي رواية:فسأله عن أشراط الساعة، ثم قال: « في خمس لا يعلمهن إلا الله » . وقرأ هذه الآية، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب: « صدقت » ؛ ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم »

وفي رواية قال: « وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها، إلا صورته هذه » .

وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد، في أول شرح صحيح البخاري، ولله الحمد والمنة

ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال:يا محمد، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:هاء - على نحو من صوته - قال:يا محمد، متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ويحك إن الساعة آتية، فما أعددت لها؟ » قال:ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المرء مع من أحب » . فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث

وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: « المرء مع من أحب » وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين.

ففيه أنه، عليه السلام، كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه، أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم، وهو الاستعداد لوقوع ذلك، والتهيؤ له قبل نـزوله، وإن لم يعرفوا تعيين وقته.

ولهذا قال مسلم في صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألوه عن الساعة:متى الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: « إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم » يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة.

ثم قال مسلم:وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهَرَم حتى تقوم الساعة » . انفرد به مسلم

وحدثنا حجاج بن الشاعر، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنـزي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه؛ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال:متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هُنَيهة، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة، فقال: « إن عُمِّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة » - قال أنس:ذلك الغلام من أترابي

وقال:حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس قال:مر غلام للمغيرة بن شعبة - وكان من أقراني - فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: « إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة »

ورواه البخاري في كتاب « الأدب » من صحيحه، عن عمرو بن عاصم، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس؛ أن رجلا من أهل البادية قال:يا رسول الله، متى الساعة؟ فذكر الحديث، وفي آخره: « فمر غلام للمغيرة بن شعبة » ، وذكره

وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب « ساعتكم » في حديث عائشة، رضي الله عنها.

وقال ابن جُرَيْج:أخبرني أبو الزبير:أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر، قال: « تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله. وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة، تأتي عليها مائة سنة » رواه مسلم

وفي الصحيحين، عن ابن عمر مثله، قال ابن عمر:وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن.

وقال الإمام أحمد:حدثنا هشيم، أنبأنا العوام، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر بن عَفَازة عن ابن مسعود، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى » ، قال: « فتذاكروا أمر الساعة » ، قال: « فردوا أمرهم إلى إبراهيم، عليه السلام، فقال:لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى، فقال:لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال عيسى:أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، عز وجل، وفيما عهد إليَّ ربي، عز وجل، أن الدجال خارج » ، قال: « ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص » ، قال: « فيهلكه الله، عز وجل، إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر يقول:يا مسلم، إن تحتي كافرًا تعالى فاقتله » . قال: « فيهلكهم الله، عز وجل، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم » ، قال: « فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه » ، قال: « ثم يرجع الناس إليَّ فيشكونهم، فأدعو الله، عز وجل، عليهم فيهلكهم ويميتهم، حتى تَجْوَى الأرض من نتن ريحهم - أي:تُنْتِن - » قال: « فينـزل الله المطر، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر » .

قال أحمد:قال يزيد بن هارون:ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم - ثم رجع إلى حديث هشيم قال:ففيما عهد إلي ربي، عز وجل، أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا

ورواه ابن ماجه، عن بُنْدَار عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حَوْشَب بسنده، نحوه

فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين، ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين، وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام، فتكلم على أشراطها؛ لأنه ينـزل في آخر هذه الأمة منفذًا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتل المسيح الدجال، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر حدثنا عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط قال:سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: « علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو، ولكن سأخبركم بمشاريطها، وما يكون بين يديها:إن بين يديها فتنة وهرجًا » ، قالوا:يا رسول الله، الفتنة قد عرفناها، فالهرج ما هو؟ قال بلسان الحبشة: « القتل » . قال وَيُلقَى بين الناس التَّنَاكرُ، فلا يكاد أحد يعرف أحدًا « لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه. »

وقال وَكِيع:حدثنا ابن أبي خالد، عن طارق بن شهاب، قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نـزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا الآية [ النازعات:42 ] .

ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، به وهذا إسناد جيد قوي.

فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم [ محمد ] صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، والعاقب والمُقَفَّي، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد، رضي الله عنهما: « بعثت أنا والساعة كهاتين » وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها. ومع هذا كله، قد أمره الله تعالى أن يَرُد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها، فقال: ( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )

 

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 188 )

أمره الله تعالى أن يفوّض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * [ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ] [ الجن:26، 27 ]

وقوله: ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور، عن مجاهد. ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) قال:لو كنت أعلم متى أموت، لعملت عملا صالحا.

وكذلك روى ابن أبي نجِيح عن مجاهد:وقال مثله ابن جُرَيْج.

وفيه نظر؛ لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دَيمة. وفي رواية:كان إذا عمل عملا أثبته

فجميع عمله كان على منوال واحد، كأنه ينظر إلى الله، عز وجل، في جميع أحواله، اللهم إلا أن يكون المرادُ أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك، والله أعلم.

والأحسن في هذا ما رواه الضحاك، عن ابن عباس: ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) أي:من المال. وفي رواية:لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما أربح فيه، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه، وما مسني السوء، قال:ولا يصيبني الفقر.

وقال ابن جرير:وقال آخرون:معنى ذلك:لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولعرفت الغَلاء من الرخص، فاستعددت له من الرخص.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) قال:لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون، واتقيته.

ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير، أي:نذير من العذاب، وبشير للمؤمنين بالجنات، كما قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [ مريم:97 ]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 189 ) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 190 )

ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم، عليه السلام، وأنه خلق منه زوجه حواء، ثم انتشر الناس منهما، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ الحجرات:13 ] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ] الآية [ النساء:1 ] .

وقال في هذه الآية الكريمة: ( وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) أي:ليألفها ويسكن بها، كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [ الروم:21 ] فلا ألفة بين زَوْجين أعظم مما بين الزوجين؛ ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه.

( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) أي:وطئها ( حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا ) وذلك أول الحمل، لا تجد المرأة له ألما، إنما هي النُّطفة، ثم العَلَقة، ثم المُضغة.

وقوله: ( فَمَرَّتْ بِهِ ) قال مجاهد:استمرت بحمله. وروي عن الحسن، وإبراهيم النَّخَعَي، والسُّدِّي، نحوه.

وقال ميمون بن مهران:عن أبيه استخفته.

وقال أيوب:سألت الحسن عن قوله: ( فَمَرَّتْ بِهِ ) قال:لو كنت رجلا عربيًا لعرفت ما هي. إنما هي:فاستمرت به.

وقال قتادة: ( فَمَرَّتْ بِهِ ) واستبان حملها.

وقال ابن جرير: [ معناه ] استمرت بالماء، قامت به وقعدت.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس:استمرت به، فشكت:أحملت أم لا.

( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) أي:صارت ذات ثقل بحملها.

وقال السدي:كبر الولد في بطنها.

( دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا ) أي:بشرا سويا، كما قال الضحاك، عن ابن عباس:أشفقا أن يكون بهيمة.

وكذلك قال أبو البَخْتري وأبو مالك:أشفقا ألا يكون إنسانًا.

وقال الحسن البصري:لئن آتيتنا غلامًا.

( لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها، ثم نتبع ذلك بيان الصحيح في ذلك، إن شاء الله وبه الثقة.

قال الإمام أحمد في مسنده:حدثنا عبد الصمد، حدثنا عمر بن إبراهيم، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال:سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره » .

وهكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، بُنْدَار، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، به.

ورواه الترمذي في تفسيره هذه الآية عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد، به وقال:هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه.

ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عبد الصمد مرفوعًا ثم قال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره، عن أبي زُرْعَة الرازي، عن هلال بن فياض، عن عمر بن إبراهيم، به مرفوعًا.

وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض، عن عمر بن إبراهيم، به مرفوعا

قلت: « وشاذ » [ هذا ] هو:هلال، وشاذ لقبه. والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:

أحدها:أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي:لا يحتج به. ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة مرفوعا فالله أعلم.

الثاني:أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعًا، كما قال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه. وحدثنا ابن علية عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخير، عن سمرة بن جندب، قال:سمى آدم ابنه « عبد الحارث » .

الثالث:أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا، لما عدل عنه.

قال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: ( جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) قال:كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال:قال الحسن:عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده - يعني: [ قوله ] ( جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا )

وحدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:كان الحسن يقول:هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا، فهوّدوا ونَصَّروا

وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن، رحمه الله، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل:كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [ تعالى ] إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم.

فأما الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كانت حواء تلد لآدم، عليه السلام، أولادا فيعبدهم لله ويُسَمّيه: « عبد الله » و « عبيد الله » ، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وآدم فقال:إنكما لو تسميانه بغير الذي تُسميانه به لعاش قال:فولدت له رجلا فسماه « عبد الحارث » ، ففيه أنـزل الله، يقول الله: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إلى قوله: ( جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) إلى آخر الآية.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس قوله في آدم: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إلى قوله: ( فَمَرَّتْ بِهِ ) شَكَّت أحَبَلتْ أم لا؟ ( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) فأتاهما الشيطان، فقال:هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون؟ أبهيمة يكون أم لا ؟ وزيَّن لهما الباطل؛ إنه غوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان:إنكما إن لم تسمياه بي، لم يخرج سويا، ومات كما مات الأولان فسميا ولدهما « عبد الحارث » ، فذلك قول الله [ تعالى ] ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) الآية.

وقال عبد الله بن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) قال:قال الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) آدم ( حَمَلَتْ [ حَمْلا خَفِيفًا ] ) فأتاهما إبليس - لعنه الله - فقال:إنى صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لَتطيعُنِّي أو لأجعلنَّ قرني له أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ ولأفعلنَّ - يخوفهما - فسمِّياه « عبد الحارث » فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثانية، فأتاهما أيضا فقال:أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت، لتفعلُنَّ أو لأفعلَنَّ - يخوفهما - فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا، فذكر لهما، فأدركهما حبُّ الولد، فسمياه « عبد الحارث » ، فذلك قوله: ( جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) رواه ابن أبي حاتم.

وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة. ومن الطبقة الثانية:قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه - والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإن ابن عباس رواه عن أُبي بن كعب، كما رواه ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد - يعني ابن بشير - عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب قال:لما حملت حواء أتاها الشيطان، فقال لها:أتطيعيني ويَسْلَم لك ولدك؟ سميه « عبد الحارث » ، فلم تفعلْ، فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل. ثم حملت الثالث فجاءها فقال:إن تطيعيني يسلم، وإلا فإنه يكون بَهِيمة، فهيَّبهما فأطاعا.

وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا حَدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم » ، ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام:فمنها:ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله. ومنها ما علمنا كذبه، بما دُلَّ على خلافه من الكتاب والسنة أيضًا. ومنها:ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته، بقوله، عليه السلام: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حَرج » وهو الذي لا يصدَّق ولا يكذب، لقوله: « فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم » . وهذا الأثر: [ هل ] هو من القسم الثاني أو الثالث؟ فيه نظر. فأما من حدث به من صحَابي أو تابعي، فإنه يراه من القسم الثالث، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري، رحمه الله، في هذا [ والله أعلم ] وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته؛ ولهذا قال الله: ( فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ثم قال:

أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( 191 ) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ( 192 ) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ( 193 ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 194 ) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ( 195 )

هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، من الأنداد والأصنام والأوثان، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة، لا تملك شيئا من الأمر، ولا تضر ولا تنفع، [ ولا تنصر ] ولا تنتصر لعابديها، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم؛ ولهذا قال: ( أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) أي:أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ الحج:73 ، 74 ] أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها، ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو أستَلبتهم الذبابة شيئا من حَقير المطاعم وطارت، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمن هذه صفته وحاله، كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى: ( لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) أي:بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * [ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ] [ الصافات:95 ، 96 ]

ثم قال تعالى: ( وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ) أي:لعابديهم ( وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) يعني:ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء، كما كان الخليل، عليه الصلاة والسلام، يكسر أصنام قومه ويهينُها غاية الإهانة، كما أخبر تعالى عنه في قوله: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ [ الصافات:93 ] وقال تعالى: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [ الأنبياء:58 ] وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما - وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتئوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح - وكان سيدًا في قومه - كان له صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعَذِرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: « انتصر » . [ ثم ] يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا، حتى أخذاه مرة فقرنا معه جرو كلب ميت، ودلَّياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:

تَاللــه لــو كُــنتَ إِلَهـا مُسْـتَدن لـم تَـكُ والكَـلْبُ جَمِيعًـا فـي قَرنْ

ثم أسلم فَحسُن إسلامه، وقتل يوم أحد شهيدًا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه.

وقوله: ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ [ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ] ) يعني:أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها، كما قال إبراهيم: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مريم:42 ] ؟

ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها، أي:مخلوقات مثلهم، بل الأناسي أكمل منها، لأنها تسمع وتبصر وتبطش، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك.

وقوله: ( قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ) أي:استنصروا بها علي، فلا تؤخروني طرفة عين، واجهدوا جهدكم!

 

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( 196 ) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ( 197 ) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( 198 )

( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نـزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) أي:الله حسبي وكافىّ، وهو نصيري وعليه متكلي، وإليه ألجأ، وهو وليي في الدنيا والآخرة، وهو ولي كل صالح بعدي. وهذا كما قال هود، عليه السلام، لما قال له قومه: إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هود:54- 56 ] وكقول الخليل [ عليه السلام ] أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [ الشعراء:75- 80 ] الآيات، وكقوله لأبيه وقومه إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الزخرف:26- 28 ]

وقوله: ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) إلى آخر الآية، مؤكد لما تقدم، إلا أنه بصيغة الخطاب، وذلك بصيغة الغيبة؛ ولهذا قال: ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ )

وقوله: ( وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) كقوله تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ] [ فاطر:14 ]

وقوله: ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) إنما قال: ( يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) أي:يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة، وهي جماد؛ ولهذا عاملهم معاملة من يعقل؛ لأنها على صور مصورة كالإنسان، [ فقال ] ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ) فعبر عنها بضمير من يعقل.

وقال السدي:المراد بهذا المشركون وروي عن مجاهد نحوه. والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير، وقاله قتادة.

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( 199 ) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 200 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( خُذِ الْعَفْوَ ) يعني:خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه. وكان هذا قبل أن تنـزل « براءة » بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت إليه الصدقات. قاله السدي.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( خُذِ الْعَفْوَ ) أنفق الفضل. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس:قال الفضل.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( خُذِ الْعَفْوَ ) أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين، ثم أمره بالغلظة عليهم. واختار هذا القول ابن جرير.

وقال غير واحد، عن مجاهد في قوله تعالى: ( خُذِ الْعَفْوَ ) قال:من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس

وقال هشام بن عُرْوة، عن أبيه:أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وفي رواية قال:خذ ما عفي لك من أخلاقهم.

وفي صحيح البخاري، عن هشام، عن أبيه عروة، عن أخيه عبد الله بن الزبير قال:إنما أنـزل ( خُذِ الْعَفْوَ ) من أخلاق الناس وفي رواية لغيره:عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر. وفي رواية:عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك والله أعلم.

وفي رواية سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن ابن الزبير: ( خُذِ الْعَفْوَ ) قال:من أخلاق الناس، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم. وهذا أشهر الأقوال، ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا:حدثنا يونس حدثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن أمي قال:لما أنـزل الله، عز وجل، على نبيه صلى الله عليه وسلم: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما هذا يا جبريل؟ » قال:إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.

وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا، عن أبي يزيد القراطيسي كتابة، عن أصْبَغ بن الفرج، عن سفيان، عن أُمَيّ عن الشعبي. نحوه، وهذا - على كل حال - مرسل، وقد روي له شاهد من وجوه أخر، وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أسندهما ابن مردويه

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معاذ بن رفاعة، حدثني علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي، عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال:لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته، فأخذت بيده، فقلت:يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: « يا عقبة، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك » .

وروى الترمذي نحوه، من طريق عبيد الله بن زَحْر عن علي بن يزيد، به. وقال حسن

قلت:ولكن « علي بن يزيد » وشيخه « القاسم أبو عبد الرحمن » ، فيهما ضعف.

وقال البخاري قوله: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) « العرف » :المعروف. حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس قال:قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنـزل على ابن أخيه الحر بن قيس - وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته - كُهولا كانوا أو شبابا - فقال عيينة لابن أخيه:يابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال:سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس:فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر [ رضي الله عنه ] فلما دخل عليه قال:هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر:يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وَقَّافًا عند كتاب الله، عز وجل. انفرد بإخراجه البخاري

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع؛ أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال:إن هذا منهي عنه، فقالوا:نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجُلْجُل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به. فسكت سالم وقال: ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )

وقول البخاري: « العرف:المعروف » نص عليه عروة بن الزبير، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جرير، وغير واحد. وحكى ابن جرير أنه يقال:أوليته عرفًا، وعارفًا، وعارفة، كل ذلك بمعنى: « المعروف » . قال:وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب.

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) قال:هذه أخلاق أمر الله [ عز وجل ] بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ودله عليها.

وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى، فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال:

خُــذ العفــو وأمـر بعُـرفٍ كَمَـا أُمِــرتَ وأعْـرض عـن الجَـاهلينْ

وَلِــنْ فــي الكَـلام لكُـلِّ الأنـام فَمُسْتَحْسَــن مـن ذَوِي الجـاه ليـن

وقال بعض العلماء:الناس رجلان:فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ المؤمنون:96- 98 ]

وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا أي هذه الوصية إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ فصلت:34- 36 ] وقال في هذه السورة الكريمة أيضا: ( وَإِمَّا يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) فهذه الآيات الثلاث في « الأعراف » و « المؤمنون » و « حم السجدة » ، لا رابع لهن، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى؛ ولهذا قال: ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان، فإنه لا يكفه عنك الإحسان، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.

قال ابن جرير في تفسير قوله: ( وَإِمَّا يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ ) وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين ويحملك على مجازاتهم ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ) يقول:فاستجر بالله من نـزغه ( سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) يقول:إن الله الذي تستعيذ به من نـزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نـزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء، عليم بما يذهب عنك نـزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:لما نـزل: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا رب، كيف بالغضب؟ » فأنـزل الله: ( وَإِمَّا يَنـزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نـزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )

قلت:وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » . فقيل له، فقال:ما بي من جنون

وأصل « النـزغ » :الفساد، إما بالغضب أو غيره، قال الله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [ الإسراء:53 ] و « العياذ » :الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر، وأما « الملاذ » ففي طلب الخير، كما قال أبو الطيب [ الحسن بن هانئ ] المتنبي:

يَـا مَـنْ ألــوذُ بـه فيمَــا أؤمِّلُـه وَمَـنْ أعــوذُ بـه ممـا أحَــاذرُه

لا يَجْبـر النـاس عَظمًـا أنت كـاسرُه ولا يَهِيضُـون عَظمًـا أنـت جَـابِره

وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ( 201 ) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ( 202 )

يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر، أنهم ( إِذَا مَسَّهُمْ ) أي:أصابهم « طيف » وقرأ آخرون: « طائف » ، وقد جاء فيه حديث، وهما قراءتان مشهورتان، فقيل:بمعنى واحد. وقيل:بينهما فرق، ومنهم من فسر ذلك بالغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه، ومنهم من فسره بالهم بالذنب، ومنهم من فسره بإصابة الذنب.

وقوله: ( تَذَكَّرُوا ) أي:عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب. ( فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) أي:قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه.

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت:يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني. فقال: « إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك » . فقالت:بل أصبر، ولا حساب علي.

ورواه غير واحد من أهل السنن، وعندهم:قالت يا رسول الله، إني أصرع وأتكشف، فادع الله أن يشفيني. فقال إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؟ « فقالت:بل أصبر، ولي الجنة، ولكن ادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها، فكانت لا تتكشف. »

وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال:صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة « عمرو بن جامع » من تاريخه:أن شابًا كان يتعبد في المسجد، فهويته امرأة، فدعته إلى نفسها، وما زالت به حتى كاد يدخل معها المنـزل، فذكر هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) فخر مغشيًا عليه، ثم أفاق فأعادها، فمات. فجاء عمر فَعزَّى فيه أباه وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه، ثم ناداه عمر فقال:يا فتى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرحمن:46 ] وأجابه الفتى من داخل القبر:يا عمر، قد أعطانيهما ربي، عز وجل، في الجنة مرتين

وقوله: ( وَإِخْوَانِهِمْ ) أ:ي وإخوان الشياطين من الإنس، كقوله: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [ الإسراء:27 ] وهم أتباعهم والمستمعون لهم القابلون لأوامرهم ( يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ) أي:تساعدهم الشياطين على [ فعل ] المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.

وقال ابن كثير:المد:الزيادة. يعني:يزيدونهم في الغي، يعني:الجهل والسفه.

( ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) قيل:معناه إن الشياطين تمد، والإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك . كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) قال:لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم.

قيل:معناه كما رواه العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) قال:هم الجن، يوحون إلى أوليائهم من الإنس ( ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) يقول:لا يسأمون.

وكذا قال السُّدِّي وغيره:يعني إن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ولا تسأم من إمدادهم في الشر؛ لأن ذلك طبيعة لهم وسَجِيَّة، لا تفتر فيه ولا تبطل عنه، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ مريم:83 ] قال ابن عباس وغيره:تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 203 )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) يقول:لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى:لولا أحدثتها فأنشأتها.

وقال ابن جرير عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله [ تعالى ] ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) قال:لولا اقتضيتها، قالوا:تخرجها عن نفسك. وكذا قال قتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.

وقال العوفي، عن ابن عباس [ رضي الله عنه ] ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) يقول:تلقيتها من الله، عز وجل

وقال الضحاك: ( لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا ) يقول:لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.

ومعنى قوله تعالى: ( وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ) أي:معجزة، وخارق، كما قال تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [ الشعراء:4 ] يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم:ألا تجهد نفسك في طلب الآيات [ من الله ] حتى نراها ونؤمن بها، قال الله تعالى له: ( قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ) أي:أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء، وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي، فإن بعث آية قبلتها، وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها؛ إلا أن يأذن لي في ذلك، فإنه حكيم عليم.

ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال: ( هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 204 )

لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظامًا له واحترامًا، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ] [ فصلت:26 ] ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما ورد الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا » وكذلك رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة وصححه مسلم بن الحجاج أيضا، ولم يخرجه في كتابه وقال إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال:كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نـزلت هذه الآية: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [ وَأَنْصِتُوا ] ) والآية الأخرى، أمروا بالإنصات

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع، قال ابن مسعود:كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة:سلام على فلان، وسلام على فلان، فجاء القرآن ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

وقال أيضا:حدثنا أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال:صلى ابن مسعود، فسمع ناسًا يقرءون مع الإمام، فلما انصرف قال:أما آن لكم أن تفهموا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) كما أمركم الله

قال:وحدثني أبو السائب، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الزهري قال:نـزلت هذه الآية في فتى من الأنصار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه، فنـزلت: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا )

وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث الزهري، عن أبي أُكَيْمضة الليثي، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: « هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟ » قال رجل:نعم يا رسول الله. قال إني أقول:ما لي أنازع القرآن؟ « قال:فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم »

وقال الترمذي: « هذا حديث حسن » . وصححه أبو حاتم الرازي.

وقال عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري قال:لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته، ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سرًا في أنفسهم، ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًا ولا علانية، فإن الله تعالى قال: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

قلت:هذا مذهب طائفة من العلماء:أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها، وهو أحد قولي الشافعي، وهو القديم كمذهب مالك، ورواية عن أحمد بن حنبل، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة. وقال في الجديد:يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل:لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا الجهرية، لما ورد في الحديث: « من كان له إمام فقراءته له قراءة » . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعًا، وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان، عن جابر موقوفًا، وهذا أصح. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفًا على حدة واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضا، والله أعلم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) يعني:في الصلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد الله بن المغفل.

وقال ابن جرير:حدثنا حُمَيْد بن مَسْعَدة، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيزَ قال:رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان، والقاص يقص، فقلت:ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال:فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال:فأعدت فنظرا إلي، وأقبلا على حديثهما. قال:فأعدت الثالثة، قال:فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا )

وقال سفيان الثوري، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) قال:في الصلاة. وكذا رواه غير واحد عن مجاهد.

وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد قال:لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.

وكذا قال سعيد بن جبير، والضحاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والشعبي، والسدي، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم:أن المراد بذلك في الصلاة.

وقال شعبة، عن منصور، سمعت إبراهيم بن أبي حرة يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الآية: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) قال:في الصلاة والخطبة يوم الجمعة.

وكذا روى ابن جريج عن عطاء، مثله.

وقال هُشَيْم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن قال:في الصلاة وعند الذكر.

وقال ابن المبارك، عن بَقِيَّة:سمعت ثابت بن عجلان يقول:سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) قال:الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.

وهذا اختيار ابن جرير أن المراد بذلك [ الإنصات في الصلاة وفي الخطبة؛ لما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات ] خلف الإمام وحال الخطبة.

وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا، قال:السكوت.

وقال مبارك بن فَضَالة، عن الحسن:إذا جلست إلى القرآن، فأنصت له.

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن ميسرة، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة » . تفرد به أحمد رحمه الله.

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ( 205 ) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( 206 )

يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ ق:39 ] وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وهذه الآية مكية.

وقال هاهنا بالغدو - وهو أوائل النهار: ( وَالآصَالِ ) جمع أصيل، كما أن الأيمان جمع يمين.

وأما قوله: ( تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) أي:اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة، وبالقول لا جهرًا؛ ولهذا قال: ( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء و [ لا ] جهرًا بليغًا؛ ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنـزل الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ البقرة:186 ]

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال:رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا؛ إن الذي تدعونه سميع قريب »

وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا [ الإسراء:110 ] فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه، وسبوا من أنـزله، و [ سبوا ] من جاء به؛ فأمره الله تعالى ألا يجهر به، لئلا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، وليتخذ سبيلا بين الجهر والإسرار. وكذا قال في هذه الآية الكريمة: ( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ )

وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله:أن المراد بهذه الآية:أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به، ثم المراد بذلك في الصلاة، كما تقدم، أو الصلاة والخطبة، ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان، سواء كان سرًا أو جهرًا، فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال، لئلا يكونوا من الغافلين؛ ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ] ) وإنما ذكرهم بهذا ليتشبه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم؛ ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله، عز وجل، كما جاء في الحديث: « ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، يتمون الصفوف الأوَل، ويتَراصُّون في الصف »

وهذه أول سجدة في القرآن، مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع. وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن

آخر [ تفسير ] سورة الأعراف، ولله الحمد والمنة.

 

أعلى