فهرس تفسير بن كثير للسور

49 - تفسير بن كثير سورة الحجرات

التالي السابق

 

تفسير سورة الحجرات

 

وهي مدنية .

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ( 2 ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 )

هذه آداب ، أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ] ) ، أي:لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي:قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ، [ إذ ] قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: « بم تحكم؟ » قال:بكتاب الله. قال: « فإن لم تجد؟ » قال:بسنة رسول الله. قال: « فإن لم تجد؟ » قال:أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: « الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله، لما يرضي رسول الله » .

وقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه . فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) :لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.

وقال العَوْفي عنه:نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه.

وقال مجاهد:لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، حتى يقضي الله على لسانه.

وقال الضحاك:لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم.

وقال سفيان الثوري: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) بقول ولا فعل.

وقال الحسن البصري: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قال:لا تدعوا قبل الإمام.

وقال قتادة:ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون:لو أنـزل في كذا كذا، وكذا لو صنع كذا، فكره الله ذلك، وتقدم فيه.

( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي:فيما أمركم به، ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) أي:لأقوالكم ( عَلِيمٌ ) بنياتكم.

وقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) :هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم [ فوق صوته ] . وقد روي أنها نـزلت في الشيخين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما.

وقال البخاري:حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال:كاد الخيِّران أن يهلكا، أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع:لا أحفظ اسمه- فقال أبو بكر لعمر:ما أردت إلا خلافي. قال:ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) الآية، قال ابن الزبير:فما كان عمر يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه:يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم .

ثم قال البخاري:حدثنا حسن بن محمد، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، حدثني ابن أبي مليكة:أن عبد الله بن الزبير أخبره:أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر:أمرّ القعقاعَ بن مَعْبد. وقال عمر:بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر:ما أردت إلى - أو:إلا- خلافي. فقال عمر:ما أردتُ خلافَك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنـزلت في ذلك: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ، حتى انقضت الآية، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ) الآية [ الحجرات:5 ] .

وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا .

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حصين بن عُمَر، عن مُخَارق، عن طارق بن شهاب، عن أبى بكر الصديق قال:لما نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) ، قلت:يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار .

حصين بن عمر هذا - وإن كان ضعيفًا- لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة [ رضي الله عنه ] بنحو ذلك، والله أعلم .

وقال البخاري:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا أزهر بن سعد، أخبرنا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل:يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه، فقال له:ما شأنك؟ فقال:شر، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، فهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى:فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: « اذهب إليه فقل له:إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة » تفرد به البخاري من هذا الوجه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال:لما نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) إلى: ( وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال:أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له:تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لك؟ قال:أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر له بالقول حبط عملي، أنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال: « لا بل هو من أهل الجنة » . قال أنس:فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال:بئسما تُعوّدون أقرانكم. فقاتلهم حتى قُتل .

وقال مسلم:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك قال:لما نـزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) إلى آخر الآية، جلس ثابت في بيته، قال:أنا من أهل النار. واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: « يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ أشتكى؟ » فقال سعد:إنه لجاري، وما علمت له بشكوى. قال:فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت:أُنـزلَت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بل، هو من أهل الجنة » .

ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدارمي، عن حَيَّان بن هلال، عن سليمان بن المغيرة، به، قال:ولم يذكر سعد بن معاذ. وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان ، عن ثابت، عن أنس بنحوه. وقال:ليس فيه ذكر سعد بن معاذ.

حدثنا هُرَيم بن عبد الأعلى الأسدي، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي يذكر، عن ثابت، عن أنس قال:لما نـزلت هذه الآية، واقتص الحديث، ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد:فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة. .

فهذه الطرق الثلاث مُعَلّلة لرواية حماد بن سلمة، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ. والصحيح:أن حال نـزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهذه الآية نـزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شـمَّاس، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، عن أبيه قال:لما نـزلت هذه الآية: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) قال:قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، قال:فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلان، فقال:ما يبكيك يا ثابت؟ قال:هذه الآية، أتخوف أن تكون نـزلت فيَّ وأنا صيت، رفيع الصوت. قال:فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:وغلبه البكاء، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها:إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عَلَيّ الضبَّة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه، وقال:لا أخرج حتى يتوفاني الله، عز وجل، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:وأتى عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، فقال: « اذهب فادعه لي » . فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفَرَس، فقال له:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال:اكسر الضبة. قال:فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما يبكيك يا ثابت؟ » . فقال:أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نـزلت في: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ) . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما ترضى أن تَعِيش حَميدًا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ » . فقال:رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم. قال:وأنـزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) .

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك، فقد نهى الله عز وجل، عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء، فقال:أتدريان أين أنتما؟ ثم قال:مِن أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. فقال:لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .

وقال العلماء:يكره رفع الصوت عند قبره، كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيا وفي قبره، صلوات الله وسلامه عليه ، دائما. ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم؛ ولهذا قال: ( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) ، كما قال: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [ النور:63 ] .

وقوله: ( أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) أي:إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله لغضبه، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري، كما جاء في الصحيح: « إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بَالا يكتب له بها الجنة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالا يَهْوِي بها في النار أبعد ما بين السموات والأرض » .

ثم ندب الله عز وجل ، إلى خفض الصوت عنده، وحَثّ على ذلك، وأرشد إليه، ورغَّب فيه، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) أي:أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد:حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال:كُتب إلى عمر يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها، أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر، رضي الله عنه:إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ( أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 4 )

ثم إنه تعالى ذَمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يصنع أجلاف الأعراب، فقال: ( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )

 

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 )

ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي: لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة.

ثم قال داعيا لهم إلى التوبة والإنابة: ( وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

وقد ذُكر أنها نـزلت في الأقرع بن حابس التميمي، فيما أورده غير واحد، قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا وُهَيْب، حدثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس؛ أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، فقال:يا محمد، يا محمد - وفي رواية:يا رسول الله- فلم يجبه. فقال:يا رسول الله، إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: « ذاك الله، عز وجل » .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو عمار الحسين بن حُرَيْث المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق ، عن البراء في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال:جاء رجل رسول الله فقال:يا محمد، إن حمدي زين، وذمي شين. فقال: « ذاك الله، عز وجل » .

وهكذا ذكره الحسن البصري، وقتادة مرسلا.

وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عَمْرَة قال:كان بِشْر بن غالب ولَبِيد بن عُطَارِد - أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب- وهما عند الحجاج جالسان- فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد:نـزلت في قومك بني تميم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ) قال:فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال:أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [ الحجرات:17 ] ، قالوا:أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عَمرو بن علي الباهلي، حدثنا المعتمر بن سليمان:سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي ، عن زيد بن أرقم قال:اجتمع أناس من العرب فقالوا:انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكا نعش بجناحه. قال:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه وهو في حجرته:يا محمد، يا محمد. فأنـزل الله [ عز وجل ] : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) قال:فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها، فجعل يقول: « لقد صدق الله قولك يا زيد، لقد صدق الله قولك يا زيد » .

ورواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، عن المعتمر بن سليمان، به .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( 6 ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( 7 ) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 8 ) .

يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له، لئلا يحكم بقوله فيكون - في نفس الأمر- كاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال. وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نـزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضِرَار، والد جُويرية بنت الحارث أم المؤمنين، رضي الله عنها، قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي يقول:قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت:يا رسول الله، أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، ويُرسل إليَّ رسول الله رسولا لإبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمَعتُ من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سُخْطة من الله ورسوله، فدعا بسَرَوات قومه، فقال لهم:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وَقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخُلْف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَق - أي:خاف- فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:يا رسول الله، إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفَصَل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا:هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم:إلى من بُعثتم؟ قالوا:إليك. قال:ولم؟ قالوا:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال:لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بَتَّةً ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ » . قال:لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله. قال:فنـزلت الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) إلى قوله: ( حكيم ) .

ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق، به ، غير أنه سماه الحارث بن سرار، والصواب:الحارث بن ضرار، كما تقدم.

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جعفر بن عَوْن، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة ، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت:فرجع إلى رسول الله فقال:إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قالت:فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا:نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلا مصدقًا، فسررنا بذلك، وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر، قالت:ونـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) .

وروى ابن جرير أيضا من طريق العَوْفي، عن ابن عباس في هذه الآية قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما حُدِّثَ الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا:يا رسول الله، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهمّ بهم، فأنـزل الله عذرهم في الكتاب، فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) إلى آخر الآية .

وقال مجاهد وقتادة:أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليُصدّقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال:إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك - زاد قتادة:وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام- فبعث رسول الله خالد بن الوليد إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنـزل الله هذه الآية. قال قتادة:فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « التَّبيُّن من الله، والعَجَلَة من الشيطان » .

وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم:ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حَيَّان، وغيرهم في هذه الآية:أنها نـزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم .

وقوله: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) أي:اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظِّموه ووقروه، وتأدبوا معه، وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتمّ من رأيكم لأنفسكم، كما قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ الأحزاب:6 ] .

ثم بَيَّن [ تعالى ] أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: ( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ) أي:لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحَرَجكم، كما قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [ المؤمنون:71 ] .

وقوله: ( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي:حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.

قال الإمام أحمد:حدثنا بَهْز، حدثنا علي بن مَسْعَدة، حدثنا قتادة، عن أنس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الإسلام علانية، والإيمان في القلب » قال:ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات، ثم يقول: « التقوى هاهنا، التقوى هاهنا » .

( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) أي:وبغض إليكم الكفر والفسوق، وهي:الذنوب الكبار. والعصيان وهي جميع المعاصي. وهذا تدريج لكمال النعمة.

وقوله: ( أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) أي:المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون، الذين قد آتاهم الله رشدهم.

قال الإمام أحمد:حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي، عن ابن رفاعة الزرقي، عن أبيه قال:لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « استووا حتى أثني على ربي، عز وجل » فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: « اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضل لمن هديت. ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت. ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم، إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيْلَة، والأمن يوم الخوف. اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم، توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم، قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق » .

ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب، عن مَرْوَان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عُبَيْد بن رِفاعة، عن أبيه، به .

وفي الحديث المرفوع: « من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن » .

ثم قال: ( فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ) أي:هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي:عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره.

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 9 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 10 )

يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المسلمين الباغين بعضهم على بعض: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم. وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: « إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » . فكان كما قال، صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة.

وقوله: ( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) أي:حتى ترجع إلى أمر الله وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « انصر أخاك ظالما أو مظلوما » . قلت:يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: « تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عارم، حدثنا معتمر قال:سمعت أبي يحدث:أن أنسًا قال:قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب حمارًا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك » فقال رجل من الأنصار:والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك. قال:فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال:فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنـزلت فيهم: ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .

ورواه البخاري في « الصلح » عن مُسَدَّد، ومسلم في « المغازي » عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، به نحوه .

وذكر سعيد بن جبير:أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنـزل الله هذه الآية، فأمر بالصلح بينهما.

وقال السدي:كان رجلا من الأنصار يقال له: « عمران » ، كانت له امرأة تدعى أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلَيَّة له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنـزلوها لينطلقوا بها، وإن الرجل قد كان خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنـزلت فيهم هذه الآية. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله.

وقوله: ( فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) أي:اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض، بالقسط، وهو العدل، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن، بما أقسطوا في الدنيا » .

ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى، به . وهذا إسناده جيد قوي، رجاله على شرط الصحيح.

وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما وَلُوا » .

ورواه مسلم والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به .

وقوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) أي:الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه » . وفي الصحيح: « والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه » . وفي الصحيح أيضا: « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك:آمين، ولك بمثله » . والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: « مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر » . وفي الصحيح أيضا: « المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا » وشبك بين أصابعه .

وقال أحمد:حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا عبد الله، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثني أبو حازم قال:سمعت سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن المؤمن من أهل الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس » . تفرد به ولا بأس بإسناده.

وقوله: ( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) يعني:الفئتين المقتتلتين، ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي:في جميع أموركم ( لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ، وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 11 )

ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس » ويروى: « وغمط الناس » والمراد من ذلك:احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ) ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء.

وقوله: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي:لا تلمزوا الناس . والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال [ تعالى ] : وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [ الهمزة:1 ] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [ القلم:11 ] أي:يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي:اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) ، كما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ النساء:29 ] أي:لا يقتل بعضكم بعضا .

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان: ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي:لا يطعن بعضكم على بعض.

وقوله: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) أي:لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها.

قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي قال:حدثني أبو جَبِيرة بن الضحاك قال:فينا نـزلت في بني سلمة: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ ) قال:قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا:يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فنـزلت: ( وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ )

ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن وُهَيْب، عن داود، به .

وقوله: ( بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ) أي:بئس الصفة والاسم الفسوق وهو:التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه، ( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ ) أي:من هذا ( فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ( 12 )

يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال:ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا .

وقال أبو عبد الله بن ماجه:حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحِمْصي، حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النَّضري، حدثنا عبد الله بن عمر قال:رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: « ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خير » . تفرد به ابن ماجه من هذا الوجه .

وقال مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا » .

رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن العتبي [ ثلاثتهم ] ، عن مالك، به .

وقال سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام » .

رواه مسلم والترمذي - وصححه- من حديث سفيان بن عيينة، به .

وقال الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله القِرْمِطي العدوي، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال، عن أبيه، عن جده حارثة بن النعمان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثلاث لازمات لأمتي:الطِّيَرَةُ، والحسد وسوء الظن » . فقال رجل:ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: « إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فَأمض » . وقال أبو داود:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد قال:أتي ابن مسعود، رضي الله عنه، برجل ، فقيل له:هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبد الله:إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .

سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هاشم، حدثنا لَيْث، عن إبراهيم بن نَشِيط الخَوْلاني، عن كعب بن علقمة، عن أبي الهيثم، عن دُخَيْن كاتب عقبة قال:قلت لعقبة:إن لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال:لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال:ففعل فلم ينتهوا. قال:فجاءه دُخَيْن فقال:إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال:لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال:ففعل فلم ينتهوا. قال:فجاءه دخين فقال:إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة:ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها » .

ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد، به نحوه .

وقال سفيان الثوري، عن ثور، عن راشد بن سعد، عن معاوية قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم » أو: « كدت أن تفسدهم » . فقال أبو الدرداء:كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفعه الله بها. رواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري، به .

وقال أبو داود أيضا:حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا ضَمْضَم بن زُرَعَة، عن شُرَيْح بن عبيد، عن جُبَيْر بن نُفَيْر، وكثير بن مُرَّة، وعمرو بن الأسود، والمقدام بن معد يكرب ، وأبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس، أفسدهم » .

[ وقوله ] : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) أي:على بعضكم بعضا. والتجسس غالبا يطلق في الشر، ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير، كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب [ عليه السلام ] أنه قال: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [ يوسف:87 ] ، وقد يستعمل كل منهما في الشر، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا » .

وقال الأوزاعي:التجسس:البحث عن الشيء. والتحسس:الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم. والتدابر:الصَّرْم. رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود:حدثنا القَعْنَبِي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال:قيل:يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: « ذكرك أخاك بما يكره » . قيل:أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: « إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » .

ورواه الترمذي عن قتيبة، عن الدَّرَاوَرْدي، به . وقال:حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن العلاء . وهكذا قال ابن عمر، ومسروق، وقتادة، وأبو إسحاق، ومعاوية بن قُرَّة.

وقال أبو داود:حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني علي بن الأقمر، عن أبي حذيفة، عن عائشة قالت:قلت للنبي صلى الله عليه وسلم:حسبك من صفية كذا وكذا! - قال غير مسدد:تعني قصيرة- فقال: « لقد قلت كلمة لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجته » . قالت:وحكيت له إنسانا، فقال صلى الله عليه وسلم: « ما أحب أني حكيت إنسانًا، وإن لي كذا وكذا » .

ورواه الترمذي من حديث يحيى القَطَّان، وعبد الرحمن بن مَهْدِيّ، ووَكِيع، ثلاثتهم عن سفيان الثوري، عن علي بن الأقمر، عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الأرحبي، عن عائشة، به. وقال:حسن صحيح .

وقال ابن جرير:حدثني ابن أبي الشوارب:حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا سليمان الشيباني، حدثنا حسان بن المخارق ؛ أن امرأة دخلت على عائشة، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أي:إنها قصيرة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اغتبتيها » .

والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: « ائذنوا له، بئس أخو العشيرة » ، وكقوله لفاطمة بنت قيس - وقد خطبها معاوية وأبو الجهم- : « أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه » . وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ؛ ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت، كما قال تعالى: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) ؟ أي:كما تكرهون هذا طبعا، فاكرهوا ذاك شرعا؛ فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، كما قال، عليه السلام، في العائد في هبته: « كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه » ، وقد قال: « ليس لنا مثل السوء » . وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه، عليه السلام، قال في خطبة [ حجة ] الوداع: « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا » .

وقال أبو داود:حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا أسباط بن محمد، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل المسلم على المسلم حرام:ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم » .

ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد، عن أبيه، به . وقال:حسن غريب.

وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن سعيد بن عبد الله بن جريج، عن أبي برزة الأسلمي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته » .

تفرد به أبو داود . وقد روي من حديث البراء بن عازب، فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده:حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا مصعب بن سلام، عن حمزة بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن البراء بن عازب قال:خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها - أو قال:في خدورها- فقال: « يا معشر من آمن بلسانه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته » .

طريق أخرى عن ابن عمر:قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي:أخبرنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يحيى بن أكثم، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني، عن الحسين بن واقد، عن أوفى بن دَلْهَم، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله » . قال:ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال:ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظمُ حرمة عند الله منك .

قال أبو داود:وحدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح، حدثنا بَقِيَّة، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن وقاص بن ربيعة، عن المستورد؛ أنه حدثه:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم ، ومن كُسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم. ومن قام برجل مقام سمعةٍ ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة » . تفرد به أبو داود .

وحدثنا ابن مصفى، حدثنا بقية وأبو المغيرة قالا حدثنا صفوان، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما عُرِج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت:من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال:هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم » .

تفرد به أبو داود، وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي، به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز ابن عبد الصمد العمي، حدثنا أبو هارون العَبْديّ، عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] قال:قلنا يا رسول الله، حدثنا ما رأيت ليلة أسريَ بك؟... قال: « ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال ونساء مُوَكَّل بهم رجال يعمدون إلى عُرْض جنَب أحدهم فَيَحْذُون منه الحُذْوَة من مثل النعل ثم يضعونه في فيّ أحدهم، فيقال له:كل كما أكلت » ، وهو يجد من أكله الموت - يا محمد- لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت:يا جبرائيل ، من هؤلاء:قال:هؤلاء الهمَّازون اللمَّازون أصحاب النميمة. فيقال : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) وهو يكره على أكل لحمه.

هكذا أورد هذا الحديث، وقد سقناه بطوله في أول تفسير « سورة سبحان » ولله الحمد .

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده:حدثنا الربيع، عن يزيد، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحدٌ حتى آذن له. فصام الناس، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:ظللت منذ اليوم صائما، فائذن لي. فأفطر فيأذن له، ويجيء الرجل فيقول ذلك، فيأذن له، حتى جاء رجل فقال:يا رسول الله، إن فتاتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين، فائذن لهما فَلْيفطرا فأعرض عنه، ثم أعاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما صامتا، وكيف صام من ظل يأكل لحوم الناس؟ اذهب، فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا » . ففعلتا، فقاءت كل واحدة منهما عَلَقةً علقَةً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار » .

إسناد ضعيف، ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون:حدثنا سليمان التيمي قال:سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النَّهْدِي عن عبيد - مولى رسول الله - أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رجلا أتى رسول الله فقال:يا رسول الله، إن هاهنا امرأتين صامتا، وإنهما كادتا تموتان من العطش - أرَاهُ قال:بالهاجرة- فأعرض عنه - أو:سكت عنه- فقال:يا نبي الله، إنهما - والله قد ماتتا أو كادتا تموتان . فقال:ادعهما. فجاءتا، قال:فجيء بقدح - أو عُسّ- فقال لإحداهما: « قيئي » فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى:قيئي فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح. فقال:إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس.

وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي، كلاهما عن سليمان بن طِرْخان التيمي، به مثله أو نحوه . ثم رواه أيضا من حديث مُسَدَّد، عن يحيى القَطَّان، عن عثمان بن غياث، حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان، عن سعد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنهم أمروا بصيام، فجاء رجل في نصف النهار فقال:يا رسول الله، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد. فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: « ادعهما » . فجاء بعُس - أو:قَدَح- فقال لإحداهما: « قيئي » ، فقاءت لَحْمًا ودمًا عبيطا وقيحا، وقال للأخرى مثل ذلك، فقال: « إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحا » .

وقال البيهقي:كذا قال « عن سعد » ، والأول - وهو عبيد- أصح.

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا عمرو بن الضحاك بن مَخْلَد، حدثنا أبي أبو عاصم، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني أبو الزبير عن ابن عَمّ لأبي هريرة أن ماعزًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إني قد زنيت فأعرض عنه - قالها أربعا- فلما كان في الخامسة قال: « زنيت » ؟ قال:نعم. قال: « وتدري ما الزنا؟ » قال:نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال: « ما تريد إلى هذا القول؟ » قال:أريد أن تطهرني. قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المِيل في المكحلة والرِّشاء في البئر؟ » . قال:نعم، يا رسول الله. قال:فأمر برجمه فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه:ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مَرّ بجيفة حمار فقال:أين فلان وفلان؟ أنـزلا فكلا من جيفة هذا الحمار « قالا غفر الله لك يا رسول، الله وهل يُؤكل هذا؟ » قال: « فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا من، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها » ] إسناده صحيح ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثني أبي، حدثنا واصل - مولى ابن عيينة- حدثني خالد بن عُرْفُطَة، عن طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين » .

طريق أخرى:قال عبد بن حُميد في مسنده:حدثنا إبراهيم بن الأشعث، حدثنا الفُضيل بن عياض، عن سليمان، عن أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع- عن جابر قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن نفرًا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين، فلذلك بعثت هذه الريح » وربما قال: « فلذلك هاجت هذه الريح » .

وقال السدي في قوله: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) :زعم أن سلمان الفارسي كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما، وينال من طعامهما، وأن سلمان لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان نائما، لم يسر معهم، فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه، فضربا الخِباء فقالا ما يريد سليمان - أو:هذا العبد- شيئا غير هذا:أن يجيء إلى طعام مقدور، وخباء مضروب! فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداما، فانطلق فأتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومعه قَدَح له، فقال:يا رسول الله، بعثني أصحابي لِتؤدِمَهم إن كان عندك؟ قال: « ما يصنع أصحابك بالأدْم؟ قد ائتدموا » . فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لا والذي بعثك بالحق، ما أصبنا طعاما منذ نـزلنا. قال: « إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما » .

قال:ونـزلت: ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) ، إنه كان نائما .

وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه « المختارة » من طريق حَبَّان بن هلال، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال:كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر ما رجل يخدمهما، فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما، فقالا إن هذا لنؤوم، فأيقظاه، فقالا له:ائت رسول الله فقل له:إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، ويستأدمانك.

فقال: « إنهما قد ائتدما » فجاءا فقالا يا رسول الله، بأي شيء ائتدمنا؟ فقال: « بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده، إني لأرى لحمه بين ثناياكما » . فقالا استغفر لنا يا رسول الله فقال: « مُرَاه فليستغفر لكما » .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا محمد بن مسلم، عن محمد بن إسحاق، عن عمه موسى بن يَسار، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أكل من لحم أخيه في الدنيا، قُرِّب له لحمه في الآخرة، فيقال له:كله مَيْتًا كما أكلته حَيًّا. قال:فيأكله ويَكْلَح ويصيح » . غريب جدا .

وقوله: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) أي:فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، ( إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) أي:تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه، واعتمد عليه.

قال الجمهور من العلماء:طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك، ويعزم على ألا يعود. وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نـزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون:لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون تلك بتلك، كما قال الإمام أحمد:

حدثنا أحمد بن الحجاج، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن سليمان؛ أن إسماعيل بن يحيى المعَافِريّ أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَنِيّ أخبره، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من حمى مؤمنا من منافق يعيبه ، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم. ومن رمى مؤمنا بشيء يريد شينه، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال » . وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله - وهو ابن المبارك- به بنحوه .

وقال أبو داود أيضا:حدثنا إسحاق بن الصباح، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا الليث:حدثني يحيى بن سليم؛ أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول:سمعت جابر بن عبد الله، وأبا طلحة بن سهل الأنصاري يقولان:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من امرىء يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في مواطن يحب فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في مواطن يحب فيها نصرته » . تفرد به أبو داود .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13 )

يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.

وقيل:المراد بالشعوب بطون العَجَم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل. وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب: « الإنباه » لأبي عمر بن عبد البر، ومن كتاب « القصد والأمم، في معرفة أنساب العرب والعجم » . فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا، منبها على تساويهم في البشرية: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) أي:ليحصل التعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته.

وقال مجاهد في قوله: ( لِتَعَارَفُوا ) ، كما يقال:فلان بن فلان من كذا وكذا، أي:من قبيلة كذا وكذا.

وقال سفيان الثوري:كانت حِمْير ينتسبون إلى مَخَاليفها، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.

وقد قال أبو عيسى الترمذي:حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الملك بن عيسى الثقفي، عن يزيد - مولى المنبعث- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر » . ثم قال:غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه .

وقوله: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) أي:إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال البخاري رحمه الله:حدثنا محمد بن سلام، حدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي الناس أكرم؟ قال: « أكرمهم عند الله أتقاهم » قالوا:ليس عن هذا نسألك. قال: « فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله » . قالوا:ليس عن هذا نسألك. قال: « فعن معادن العرب تسألوني؟ » قالوا:نعم. قال: « فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقِهُوا » .

وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان . ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله - وهو ابن عمر العمري- به .

حديث آخر:قال مسلم ، رحمه الله:حدثنا عمرو الناقد، حدثنا كَثِير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » .

ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنان، عن كَثِير بن هشام، به .

حديث آخر:وقال الإمام أحمد:حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن بكر، عن أبي ذر قال:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « انظر، فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى . تفرد به أحمد . »

حديث آخر:وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جَبَلة، حدثنا عبيد بن حنين الطائي، سمعت محمد بن حبيب بن خِرَاش العَصَرِيّ، يحدث عن أبيه:أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى « »

حديث آخر:قال أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي، حدثنا الحسن بن الحسين، حدثنا قيس - يعني ابن الربيع- عن شبيب بن غَرْقَدَة ، عن المستظل بن حصين، عن حذيفة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلكم بنو آدم. وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجِعْلان » .

ثم قال:لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه .

حديث آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى بن زكريا القطان، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتى نـزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: « يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان:رجل بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله. إن الله يقول: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) » ثم قال: « أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم » .

هكذا رواه عبد بن حميد، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخْلَد، عن موسى بن عبيدة، به .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم طَفَّ الصاع لم يملؤه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، وكفى بالرجل أن يكون بَذِيّا بخيلا فاحشًا » .

وقد رواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب، عن ابن لَهِيعة، به ولفظه: « الناس لآدم وحواء، طف الصاع لم يَمْلَئُوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم » .

وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا شريك، عن سِمَاك، عن عبد الله بن عَمِيرة زوج درة ابنة أبي لهب، عن درة بنت أبي لهب قالت:قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال:يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم لله عز وجل، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت:ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا، ولا أعجبه أحد قط، إلا ذو تقى. تفرد به أحمد رحمه الله .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) أي:عليم بكم، خبير بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله. وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة، من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين، لقوله: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في « كتاب الأحكام » ولله الحمد والمنة. وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول:أنا أولى الناس برسول الله. فقال:غيرك أولى به منك، ولك منه نسبه.

قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 14 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 15 ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 16 ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 17 ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )

يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: ( قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة:أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، عليه السلام، حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال:أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا، فقال سعد:يا رسول الله، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا، وهو مؤمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أو مسلم » حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « أو مسلم » ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم » .

أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، به .

فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام. وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من « صحيح البخاري » ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري، رحمه الله، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وابن زيد أنهم قالوا في قوله: ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) أي:استسلمنا خوف القتل والسباء. قال مجاهد:نـزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة:نـزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والصحيح الأول؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا، كما ذكر المنافقون في سورة براءة. وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا: ( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي:لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.

ثم قال: ( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [ شَيْئًا ] ) أي:لا ينقصكم من أجوركم شيئا، كقوله: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [ الطور:21 ] .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي:لمن تاب إليه وأناب.

وقوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ) أي:إنما المؤمنون الكُمَّل ( الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ) أي:لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، ( وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي:وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، ( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) أي:في قولهم إذا قالوا: « إنهم مؤمنون » ، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رِشْدين، حدثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال:إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: [ الذين ] آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه لله، عز وجل » .

وقوله: ( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ) أي:أتخبرونه بما في ضمائركم، ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي:لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

ثم قال [ تعالى ] : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) ، يعني:الأعراب [ الذين ] يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول، يقول الله ردًا عليهم: ( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) أي:في دعواكم ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: « يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ » كلما قال شيئًا قالوا:الله ورسوله أَمَنُّ .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن قيس، عن أبي عون، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال:جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم تقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم » . ونـزلت هذه الآية: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

ثم قال:لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله، عن سعيد بن جبير، غير هذا الحديث .

ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )

آخر تفسير الحجرات، ولله الحمد والمنة .

 

أعلى