فهرس تفسير بن كثير للسور

4 - تفسير بن كثير سورة النساء

التالي السابق

 

تفسير سورة النسَاء

 

[ وهي مدنية ] قال العَوْفِي عن ابن عباس:نزلت سورةُ النساء بالمدينة. وكذا رَوَى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، ورَوَى من طريق عبد الله بن لَهِيعة، عن أخيه عيسى، عن عِكْرمة عن ابن عباس قال:لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حَبْس » .

وقال الحاكم في مستدركه:حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو البَخْتَرِي عبد الله بن محمد شاكر، حدثنا محمد بن بِشْر العَبْدي، حدثنا مِسْعَر بن كِدَام، عن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال:إن في سورة النساء لخمسُ آيات ما يَسُرّني أن لي بها الدنيا وما فيها: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الآية، و إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية، و إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ و وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ الآية، و وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ثم قال:هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف في ذلك .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن رجل، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من النساء:لهن أحب إلَيّ من الدنيا جَميعًا: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا رواه ابن جرير:ثم روى من طريق صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس قال:ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طَلَعت عليه الشمس وغربت، أولاهن: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا والثالثة: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا .

ثم ذكر قول ابن مسعود سواء، يعني في الخمسة. الباقية.

وروى الحاكم من طريق أبي نُعَيم، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ سمعت ابن عباس يقول:سلوني عن سورة النساء، فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال:هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( 1 )

يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم، عليه السلام ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) وهي حواء، عليها السلام، خلقت من ضِلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، عن ابن عباس قال:خُلقَت المرأة من الرجل، فجعل نَهْمَتَها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.

وفي الحديث الصحيح: « إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج » .

وقوله: ( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ) أي:وذَرَأ منهما، أي:من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.

ثم قال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ ) أي:واتقوا الله بطاعتكم إياه، قال إبراهيم ومجاهد والحسن: ( الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ) أي:كما يقال:أسألك بالله وبالرَّحِم. وقال الضحاك:واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصِلُوها، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والربيع وغير واحد.

وقرأ بعضهم: ( والأرحام ) بالخفض على العطف على الضمير في به، أي:تساءلون بالله وبالأرحام، كما قال مجاهد وغيره.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) أي:هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ البروج:9 ] .

وفي الحديث الصحيح: « اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ] وأم واحدة؛ ليعطفَ بعضهم على بعض، ويحننهم على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث جَرِير بن عبد الله البَجَلي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مُضَر - وهم مُجْتابو النِّمار - أي من عُريِّهم وفَقْرهم - قام فَخَطَب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) حتى ختم الآية وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ] [ الحشر:18 ] ثم حَضَّهم على الصدقة فقال: « تَصَدَّقَ رجُلٌ من دِينَاره، من دِرْهَمِه، من صَاعِ بُرِّه، صَاعِ تَمْره ... » وذكر تمام الحديث .

وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خُطْبَة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ] ) الآية.

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ( 2 ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ( 3 ) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ( 4 )

يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضَمِّها إلى أموالهم؛ ولهذا قال: ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) قال سفيان الثوري، عن أبي صالح:لا تعْجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك.

وقال سعيد بن جبير:لا تبَدَّلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول:لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام.

وقال سعيد بن المسيّب والزهري:لا تُعْط مهزولا وتأخذ سمينا.

وقال إبراهيم النَّخَعِي والضحاك:لا تعط زائفًا وتأخذ جيدًا.

وقال السُّدِّي:كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غَنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، ويقول شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجَيِّد ويطرح مكانه الزّيْف، ويقول:درهم بدرهم.

وقوله: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ) قال مجاهد، وسعيد بن جبَيْر، ومقاتل بن حَيَّان، والسّدي، وسفيان بن حُسَين:أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا.

وقوله: ( إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) قال ابن عباس:أي إثمًا كبيرًا عظيما.

وقد رواه ابن مَرْدُويه، عن أبي هريرة قال:سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( حُوبًا كَبِيرًا ) قال: « إثما كبيرًا » . ولكن في إسناده محمد بن يونس الكُدَيْمي وهو ضعيف وهكذا رُوي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وأبي مالك، وزيد بن أسلم، وأبي سِنَان مثل قول ابن عباس.

وفي الحديث المروي في سنن أبي داود: « اغفر لنا حوبنا وخطايانا » .

وروى ابن مَرْدويه بإسناده إلى واصل، مولى أبي عيينة، عن محمد بن سِيرِين، عن ابن عباس:أن أبا أيوب طَلَّق امرأته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أبا أيوب، إن طلاق أم أيوب كان حوبا » قال ابن سيرين:الحوب الإثم .

ثم قال ابن مردويه:حدثنا عبد الباقي، حدثنا بشر بن موسى، أخبرنا هَوْذَة بن خليفة، أخبرنا عَوْف، عن أنس:أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها » ثم رواه ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم، عن حُمَيد الطويل، سمعت أنس بن مالك يقول:أراد أبو طلحة أن يطلق أم سُليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن طلاق أم سليم لحوب » فكف .

والمعنى:إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.

وقوله: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى ) أي:إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه.

وقال البخاري:حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن ابن جُرَيج، أخبرني هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة؛ أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق. وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا [ فِي الْيَتَامَى ] ) أحسبه قال:كانت شريكَتَه في ذلك العَذْق وفي ماله.

ثم قال البخاري:حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب قال:أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) قالت:يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تَشْرَكه في ماله ويعجبُه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يَقْسِط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغُوا بهنَّ أعلى سُنتهنَّ في الصداق، وأمِروا أن ينكحُوا ما طاب لهم من النساء سواهُنَّ. قال عروة:قالت عائشة:وإن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله [ تعالى ] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قالت عائشة:وقولُ الله في الآية الأخرى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [ النساء:127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كُن قليلات المال والجمال .

وقوله: مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [ فاطر:1 ] أي:انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين، [ وإن شاء ثلاثا ] وإن شاء أربعا، كما قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [ فاطر:1 ] أي:منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع، فمن هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء؛ لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.

قال الشافعي:وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.

وهذا الذي قاله الشافعي، رحمه الله، مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حُكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم:بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين، وإما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري. وقد علقه البخاري، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع . وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع.

ذكر الأحاديث في ذلك:

قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر، عن الزهري. قال ابن جعفر في حديثه:أنبأنا ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه:أن غيلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:اختر منهن أربعا. فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال:إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعنَّ نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثُهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم، كما رجم قبرُ أبي رِغَال .

وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغُنْدَر ويزيد بن زُرَيع وسعيد بن أبي عَرُوبة، وسفيان الثوري، وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ، عن مَعْمَر - بإسناده - مثله إلى قوله:اختر منهن أربعا. وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي، حيث قال بعد روايته له:سمعتُ البخاري يقول:هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شُعَيْب وغيره، عن الزهري، حُدّثتُ عن محمد بن سُوَيد الثقفي أنّ غيلان بن سلمة، فذكره. قال البخاري:وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه:أن رجلا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر:لتراجعَنَّ نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغَال.

وهذا التعليل فيه نظر، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق، عن مَعمر، عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك، عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة:وهو أصح .

قال البيهقي:ورواه عقيل، عن الزهري:بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد.

قال أبو حاتم:وهذا وَهْم، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره .

قال البيهقي:ورواه يونس وابن عُيَيْنَةَ، عن الزهري، عن محمد بن أبي سويد.

وهذا كما علله البخاري. وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصحيحين ثم قد رُوي من غير طريق مَعْمَر، بل والزهري قال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو علي الحافظ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا أبو بُرَيد عَمْرو بن يزيد الجرمي أخبرنا سيف بن عُبَيد حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر:أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. هكذا أخرجه النسائي في سننه. قال أبو علي بن السكن:تفرد به سرار بنُ مُجَشر وهو ثقة، وكذا وثقه ابن معين. قال أبو علي:وكذلك رواه السَّمَيْدع بن واهب عن سرار.

قال البيهقي:وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس، وعروة بن مسعود الثقفي، وصفوان بن أمية - يعني حديث غيلان بن سلمة .

فوجهُ الدلالة أنَّه لو كان يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع لسوغَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع بحال، وإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

حديث آخر في ذلك:روى أبو داود وابن ماجة في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن حُمَيضة بن الشَّمَرْدَل - وعند ابن ماجة:بنت الشمردل، وحكى أبو داود أن منهم من يقول:الشمرذل بالذال المعجمة - عن قيس بن الحارث. وعند أبي داود في رواية:الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال:أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اختر منهن أربعا » .

وهذا الإسناد حسن، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثلُه، لما للحديث من الشواهد .

حديث آخر في ذلك:قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، في مسنده:أخبرني من سمع ابن أبي الزِّناد يقول:أخبرني عبد المجيد بن سُهَيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الديلي، رضي الله عنه، قال:أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اختر أربعا أيتهن شئت، وفارق الأخرى » ، فَعَمَدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة، فطلقتها .

فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غَيْلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي، رحمه الله .

وقوله: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي:فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [ النساء:129 ] فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج.

وقوله: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) قال بعضهم: [ أي ] أدنى ألا تكثر عائلتكم. قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي، رحمهم الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرًا فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ التوبة:28 ] وقال الشاعر

فمــا يَــدري الفقـير متـى غنـاه ومَــا يَــدرِي الغَنـيُّ متـى يعيـل

وتقول العرب:عال الرجل يعيل عَيْلة، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا. والصحيح قول الجمهور: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) أي:لا تجوروا. يقال:عال في الحكم:إذا قَسَط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:

بميــزان قسطٍ لا يَخيـس شعيرة له شــاهد من نفسه غيـر عـائل

وقال هُشَيم:عن أبي إسحاق قال:كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه:إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير.

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن مَرْدويه، وأبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم، حدثنا محمد بن شعيب، عن عمر بن محمد بن زيد، عن عبد الله بن عمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا ) قال: « لا تجوروا » .

قال ابن أبي حاتم:قال أبي:هذا حديث خطأ، والصحيح:عن عائشة. موقوف .

وقال ابن أبي حاتم:وروى عن ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وأبي مالك وأبي رَزِين والنَّخعي، والشَّعْبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، وقتادة، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حَيَّان:أنهم قالوا:لا تميلوا وقد استشهد عِكْرمة، رحمه الله، ببيت أبي طالب الذي قدمناه، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة، وقد رواه ابن جرير، ثم أنشده جيدا، واختار ذلك.

وقوله: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:النحلة:المهر.

وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة:نحلة:فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج:نحلة:أي فريضة. زاد ابن جريج:مسماه. وقال ابن زيد:النحلة في كلام العرب:الواجب، يقول:لا تنكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق.

ومضمون كلامهم:أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حَتمًا، وأن يكون طيب النفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبًا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبًا؛ ولهذا قال [ تعالى ] ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، عن سفيان، عن السدي، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة، عن علي قال:إذا اشتكى أحدكم شيئًا، فَلْيسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئًا مريئًا شفاء مباركا.

وقال هُشَيم، عن سيار، عن أبي صالح قال:كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، ونزل: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان عن عمير الخثعمي، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، عن عبد الرحمن بن البَيْلَمَاني قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) قالوا:يا رسول الله، فما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهْلوهُم » .

وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق حَجَّاج بن أرْطاة، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البَيْلمَاني عن عمر بن الخطاب قال:خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « أنكحوا الأيامى » ثلاثا، فقام إليه رجل فقال:يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهلوهم » .

ابن البَيْلمَاني ضعيف، ثم فيه انقطاع أيضًا .

وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 5 ) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 6 )

ينهى تعالى عن تَمْكين السفهاء من التصرّف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما، أي:تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها. ومن هاهنا يُؤْخَذُ الحجر على السفهاء، وهم أقسام:فتارة يكون الحَجْرُ للصغر؛ فإن الصغير مسلوب العبارة. وتارة يكون الحجرُ للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفَلَس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاقَ ماله عن وفائها، فإذا سأل الغُرَماء الحاكم الحَجْرَ عليه حَجَرَ عليه.

وقد قال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) قال:هم بَنُوك والنساء، وكذا قال ابن مسعود، والحكم بن عُتَيبة والحسن، والضحاك:هم النساء والصبيان.

وقال سعيد بن جُبَير:هم اليتامى. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة:هم النساء.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عَمّار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عثمان بن أبي العائكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وإن النساء السُّفَهاء إلا التي أطاعت قَيِّمَها » .

ورواه ابن مَرْدُويه مطولا .

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن مسلم بن إبراهيم، حدثنا حَرْب بن سُرَيج عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) قال:الخدم، وهم شياطين الإنس وهم الخدم.

وقوله: ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول [ تعالى ] لا تَعْمَد إلى مالك وما خَوَّلك الله، وجعله معيشة، فتعطيَه امرأتك أو بَنيكَ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمْسكْ مالك وأصلحْه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسْوتهم ومؤنتهم ورزقهم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن المثنى:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن فرَاس، عن الشعبي، عن أبي بُرْدة، عن أبي موسى قال:ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم:رجل كانت له امرأة سَيّئة الخُلُق فلم يُطَلقها، ورجل أعطى ماله سفيها، وقد قال: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه.

وقال مجاهد: ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ) يعني في البر والصلة.

وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة، ومَنْ تحت الحَجْر بالفعل، من الإنفاق في الكساوي والإنفاق والكلام الطيب، وتحسين الأخلاق.

وقوله تعالى: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ) قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسدي، ومقاتل بن حيان:أي اختبروهم ( حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ) قال مجاهد:يعني:الحُلُم. قال الجمهور من العلماء:البلوغ في الغلام تارة يكون بالحُلُم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد. وقد روى أبو داود في سننه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال:حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يُتْم بعد احتلام ولا صُمَات يوم إلى الليل » .

وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة، رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة:عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتلمَ، وعن النائم حتى يَسْتيقظ، وعن المجنون حتى يُفِيق » أو يستكمل خمس عشرة سنة، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال:عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير .

واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج، وهو الشِّعْرة، هل تَدُل على بلوغ أم لا؟ على ثلاثة أقوال، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين، فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم؛ لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه، فلا يعالجها. والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جِبِلِّيٌّ يستوي فيه الناس، واحتمال المعالجة بعيد، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن عَطيَّةَ القُرَظيّ، رضي الله عنه قال:عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظة فكان من أنْبَتَ قُتل، ومن لم يُنْبت خَلّي سبيله، فكنت فيمن لم يُنْبِت، فخلي سبيلي.

وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي:حسن صحيح. وإنما كان كذلك؛ لأن سعد بن معاذ، رضي الله عنه، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسَبْي الذرية.

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب « الغريب » :حدثنا ابن علية، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يحيى بن حيان، عن عمر:أن غلاما ابتهر جارية في شعره، فقال عمر، رضي الله عنه:انظروا إليه. فلم يوجد أنبت، فَدَرَأَ عنه الحَد. قال أبو عُبَيد:ابتهرها:أي قذفها، والابتهار أن يقول:فعلت بها وهو كاذب فإن كان صادقا فهو الابتيار، قال الكميت في شعره.

قبيـــح بمثــلي نعــتُ الفَتَــاة إمَّـــا ابتهـــارًا وإمَّــا ابتيــارا

وقوله: ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) قال سعيد بن جبير:يعني:صَلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس، والحسن البصري، وغير واحد من الأئمة. وهكذا قال الفقهاء متَى بلغَ الغلام مُصْلحًا لدينه وماله، انفك الحجر عنه، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه.

وقوله: ( وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ) ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرةً قبل بلوغهم.

ثم قال تعالى: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) [ أي ] من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئا. قال الشعبي:هو عليه كالميتة والدم.

( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا الأشج، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) نزلت في مال اليتيم.

وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن، قالت:نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه.

وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) بقدر قيامه عليه.

ورواه البخاري عن إسحاق عَنْ عبد الله بن نُمَير، عن هشام، به.

قال الفقهاء:له أن يأكل أقل الأمرين:أجْرَةَ مثله أو قدر حاجته. واختلفوا:هل يرد إذا أيسر، على قولين:أحدهما:لا؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا. وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الوهاب، حدثنا حسين، عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده:أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: « كُلْ من مال يتيمك غير مُسْرِف ولا مُبذر ولا متأثِّل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال:تفدي مالك - بماله » شك حسين .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، حدثنا حسين المكتب، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله؟ قال: « بالمعروف غير مُسرف » .

ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من حديث حسين المعلم به.

وروى أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عامر الخَزّاز، عن عمرو بن دينار، عن جابر:أن رجلا قال:يا رسول الله، فيم أضرب يتيمي؟ قال:ما كنتَ ضاربا منه ولدك، غير واق مالك بماله، ولا متأثل منه مالا .

وقال ابن جرير:حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال:جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال:إن في حجري أيتاما، وإن لهم إبلا ولي إبل، وأنا أمنح في إبلي وأفْقر فماذا يحل لي من ألبانها؟ فقال:إن كنت تبغي ضالتها وتهْنَأ جرباها، وتلوط حوضها، وتسقى عليها، فاشرب غير مُضر بنسل، ولا ناهك في الحلب.

ورواه مالك في موطئه، عن يحيى بن سعيد به.

وبهذا القول - وهو عدمُ أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وإبراهيم النخعيّ، وعطية العوْفي، والحسن البصري.

والثاني:نعم؛ لأن مال اليتيم على الحظْر، وإنما أبيح للحاجة، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا:حدثنا ابن خيثمة، حدثنا وَكِيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرَب قال:قال عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه:إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرتُ قضيت .

طريق أخرى:قال سعيد بن منصور:حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:قال لي عمر، رضي الله عنه:إني أنزلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احْتَجْتُ أخذت منه، فإذا أيسَرت رَدَدْتُه، وإن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ.

إسناد صحيح وروَى البيهقي عن ابن عباس نحوَ ذلك. وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) يعني:القرض. قال:ورُوي عن عُبَيدة، وأبي العالية، وأبي وائل، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - ومجاهد، والضحاك، والسّدي نحو ذلك. وروي من طريق السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال:يأكل بثلاث أصابع.

ثم قال:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا ابن مَهْديّ، حدثنا سفيانُ، عن الحكم، عن مقْسم، عن ابن عباس: ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال:يأكل من ماله، يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. قال:ورُوي عن مجاهد وميمون بن مِهْران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك.

وقال عامر الشَّعْبِيّ:لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه، كما يضطر إلى [ أكل ] الميتة، فإن أكل منه قضاه. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن وهب:حدثني نافع بن أبي نُعَيْم القَارئ قال:سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله: ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) فقالا ذلك في اليتيم، إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء.

وهذا بعيد من السياق؛ لأنه قال: ( وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) يعني:من الأولياء ( وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:منهم ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:بالتي هي أحسن، كما قال في الآية الأخرى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [ الإسراء:34 ] أي:لا تقربوه إلا مصلحين له، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.

وقوله: ( فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) يعني:بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ] فحينئذ سلموهم أموالهم، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ( فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) وهذا أمر الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم؛ لئلا يقع من بعضهم جُحُود وإنكار لما قبضه وتسلمه.

ثم قال: ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) أي:وكفى بالله محاسبا وشهيدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال:هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله. ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَن على اثنين، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم » .

 

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( 7 ) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ( 8 ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ( 9 ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ( 10 )

قال سعيد بن جبير وقتادة:كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنـزل الله: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ [ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ] ) أي:الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله [ تعالى ] لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة، أو زوجية، أو ولاء. فإنه لُحْمَة كَلُحمة النسب. وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هَرَاسة عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال:جاءت أم كُجَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، إن لي ابنتين، وقد مات أبوهما، وليس لهما شيء، فأنـزل الله تعالى: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) الآية، وسيأتي هذا الحديثُ عند آيتي الميراث بسياق آخر، والله أعلم.

وقوله: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا ] ) قيل:المراد:وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث واليتامى والمساكين فَلْيَرْضَخْ لهم من التركة نصيب، وأن ذلك كان واجبا في ابتداء الإسلام. وقيل:يستحب واختلفوا:هل هو منسوخ أم لا؟ على قولين، فقال البخاري:حدثنا أحمد بن حُمَيد أخبرنا عُبَيدُ الله الأشجعي، عن سُفْيان، عن الشَّيْباني، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ) قال:هي مُحْكَمَة، وليست بمنسوخة. تابعه سَعيد عن ابن عباس.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن الحجاج، عن الحَكَم، عن مِقْسم، عن ابن عباس قال:هي قائمة يعمل بها.

وقال الثوري، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في هذه الآية، قال:هي واجبة على أهل الميراث، ما طابت به أنفسهم. وهكذا روي عن ابن مسعود، وأبي موسى، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأبي العالية، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جُبَير، ومكحول، وإبراهيم النَّخَعي، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، ويحيى بن يَعْمَرَ:إنها واجبة.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ، عن يونس بن عُبَيد، عن محمد بن سيرين قال:ولي عبيدة وصية، فأمر بشاة فذبحت، فأطعم أصحاب هذه الآية، وقال:لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.

وقال مالك، فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع، عن الزهري:أن عروة أعْطى من مال مصعب حين قسم ماله. وقال الزهري:وهي محكمة.

وقال مالك، عن عبد الكريم، عن مجاهد قال:هو حق واجب ما طابت به الأنفس.

ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم:

قال عبد الرزاق:أخبرنا ابن جُرَيج أخبرني ابن أبي مُلَيكة:أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والقاسم بن محمد أخبراه:أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حَية قالا فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه. قالا وتلا ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) قال القاسم:فذكرت ذلك لابن عباس فقال:ما أصاب، ليس ذلك له، إنما ذلك إلى الوصية، وإنما هذه الآية في الوصية يزيد الميت [ أن ] يوصي لهم. رواه ابن أبي حاتم .

ذكر من قال:إن هذه الآية منسوخة بالكلية:

قال سفيان الثوري، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) قال:منسوخة.

وقال إسماعيل بن مسلم المكي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال في هذه الآية: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) نسختها الآية التي بعدها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ

وقال العَوْفي، عن ابن عَبَّاس في هذه الآية: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) كان ذلك قبل أن تَنـزل الفرائض، فأنـزل الله بعد ذلك الفرائض، فأعطى كل ذي حق حقه، فجعلت الصدقة فيما سَمى المتوفى. رواهن ابن مَرْدُويه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصبَّاح، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيج وعثمان بن عطاء عن عَطاء، عن ابن عباس قوله: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ ) نسختها آية الميراث، فجعل لكل إنسان نصيبه مما تَرك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر - [ نصيبا مفروضا ]

وحدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا سعيد بن عامر، عن همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال:إنها منسوخة، كانت قبل الفرائض، كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حَضروا القسمة، ثم نسخ بعد ذلك، نسختها المواريث، فألحق الله بكل ذي حَق حقه، وصارت الوصية من ماله، يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء.

وقال مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:هي منسوخة، نسختها المواريث والوصية.

وهكذا روي عن عكرمة، وأبي الشعثاء، والقاسم بن محمد، وأبي صالح، وأبي مالك، وزيد ابن أسلم، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان، وربيعة بن أبي عبد الرحمن:أنهم قالوا:إنها منسوخة. وهذا مذهب جُمْهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم.

وقد اختار ابن جرير هاهنا قولا غريبا جدًا، وحاصله:أن معنى الآية عنده ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) أي:وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت ( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ ) لليتامى والمساكين إذا حضروا ( قَوْلا مَعْرُوفًا ) هذا مضمون ما حاوله بعد طُول العبارة والتكرار، وفيه نظر، والله أعلم.

وقد قال العَوْفي عن ابن عباس: ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) وهي قسمة الميراث. وهكذا قال غير واحد، والمعنى على هذا لا على ما سلكه أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، بل المعنى:أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يَرثون، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهذا يأخذ، وهم يائسون لا شيء يعطون، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يُرضَخ لهم شيء من الوسَط يكون برا بهم وصدقة عليهم، وإحسانا إليهم، وجبرا لكسرهم. كما قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [ الأنعام:141 ] وذم الذين ينقلون المال خفية؛ خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة، كما أخبر عن أصحاب الجنة إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [ القلم:17 ] أي:بليل. وقال: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ [ القلم:23، 24 ] دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [ محمد:10 ] فمن جَحَد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه؛ ولهذا جاء في الحديث: « ما خالطت الصَّدَقَةُ مالا إلا أفسدته » أي:منعها يكون سبب محاق ذلك المال بالكلية

وقوله: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ] ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هذا في الرجل يَحْضُره الموت، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ.

وهكذا قال مجاهد وغير واحد، وثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال:يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: « لا » . قال:فالشَّطْر؟ قال: « لا » . قال:فالثلث؟ قال: « الثلث، والثلث كثير » . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس » .

وفي الصحيح أن ابن عباس قال:لو أن الناس غَضّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الثلث، والثلث كثير » .

قال الفقهاء:إن كان ورثة الميت أغنياء استُحب للميت أن يَسْتَوفي الثلث في وصيته وإن كانوا فقراء استُحب أن يَنْقُص الثلث.

وقيل:المراد بقوله: ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ) [ أي ] في مباشرة أموال اليتامى ( وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا )

حكاه ابن جرير من طريق العَوْفي، عن ابن عباس:وهو قول حسن، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما، أي:كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك، فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم.

ثم أعلمهم أن من أكل مال يتيم ظلما فإنما يأكل في بطنه نارًا؛ ولهذا قال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) أي:إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب، فإنما يأكلون نارًا تَأجَّج في بطونهم يوم القيامة. وثبت في الصحيحين من حديث سليمان ابن بلال، عن ثَوْر بن زيد عن سالم أبي الغَيْث، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات » قيل:يا رسول الله، وما هن؟ قال: « الشِّرْكُ بالله، والسِّحْر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزَّحْفِ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبيدة أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّى، حدثنا أبو هاروي العَبْدي عن أبي سعيد الخدري قال:قلنا:يا رسول الله، ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال: « انطَلَق بي إلى خَلْقٍ من خَلْقِ الله كثير، رِجَال، كل رجل له مِشْفَران كمشفري البعير، وهو موَكَّل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم، ثم يُجَاءُ بِصَخْرَةٍ من نار فَتُقْذَف في فِي أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم خُوار وصُرَاخ. قلت يا جبريل، من هؤلاء؟ قال:هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسَيَصْلَوْن سَعِيرًا » .

وقال السدي:يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فِيهِ ومن مسامعه وأنفه وعينيه، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم.

وقال أبو بكر ابن مردويه:حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بُكَير، حدثنا زياد بن المنذر، عن نافع بن الحارث عن أبي برزة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تَأَجَّج أفواههم نارا » قيل:يا رسول الله، من هم؟ قال: « ألم تر أن الله قال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ] ) » الآية.

رواه ابن أبي حاتم، عن أبي زُرْعة، عن عُقْبة بن مكرم وأخرجه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه، عن أحمد بن علي بن المثنى، عن عقبة بن مكرم .

وقال ابن مَردويه:حدثنا عبد الله بن جعفر، أحمد بن عصام حدثنا أبو عامر العبدي، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عثمان بن محمد، عن المقبرِيّ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أُحَرِّجُ مال الضَّعِيفيْن:المرأة واليتيم » أي أوصيكم باجتناب مالهما.

وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:لما أنـزل الله: ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ] ) انطلق من كان عنده يتيم، فَعَزَل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فَيُحْبَس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ] [ البقرة:220 ] .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 11 )

هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك وَلنذْكُرْ منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة، والحجاج بين الأئمة، فموضعه كتاب « الأحكام » فالله المستعان .

وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك. وقد روى أبو داود وابن ماجة، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « العِلْمُ ثلاثة، وما سِوَى ذلك فهو فَضْلٌ:آية مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فَريضةٌ عَادَلةٌ » .

وعن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا هريرة، تَعلَّمُوا الفرائِضَ وعلِّموهُ فإنه نصْف العلم، وهو يُنْسَى، وهو أول شيء يُنْتزَع من أمتي » .

رواه ابن ماجة، وفي إسناده ضعف .

وقد رُوي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر. قال [ سفيان ] ابن عيينة:إنما سَمَّى الفرائض نصفَ العلم؛ لأنه يبتلى به الناس كلهم.

وقال البخاري عند تفسير هذه الآية:حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام:أن ابن جُرَيج أخبرهم قال:أخبرني ابن المُنْكدِر، عن جابر بن عبد الله قال:عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سَلمَةَ ماشيين، فوجَدَني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه، ثم رَش عَلَيَّ، فأفقت، فقلت:ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنـزلت: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) .

وكذا رواه مسلم والنسائي، من حديث حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج به، ورواه الجماعةُ كُلّهم من حديث سفيان بن عُيَينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر .

حديث آخر عن جابر في سبب نـزول الآية:قال الإمام أحمد:حَدّثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله - هو ابن عَمْرو الرقيّ - عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن جابر قال:جاءت امرأة سعد بن الرَّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتل أبوهما معك في أحُد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يَدَعْ لهما مالا ولا يُنْكَحَان إلا ولهما مال. قال:فقال: « يَقْضِي اللَّهُ في ذلك » . قال:فنـزلت آية الميراث، فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: « أعْطِ ابْنَتي سعد الثلثين، وأُمُّهُمَا الثُّمُنَ، وما بقي فهو لك » .

وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، من طرق، عن عبد الله بن محمد بن عُقَيل، به. قال الترمذي:ولا يعرف إلا من حديثه .

والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نـزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما كان يورث كلالة، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري، رحمه الله، فإنه ذكره هاهنا. والحديث الثاني عن جابر أشبه بنـزول هذه الآية، والله أعلم.

فقوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) أي:يأمركم بالعدل فيهم، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصنفين، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة، فناسب أن يُعْطَى ضعْفَيْ ما تأخذه الأنثى.

وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنه أرحم بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح.

وقد رأى امرأة من السَّبْي تدور على ولدها ، فلما وجدته أخذته فألْصَقَتْه بصَدْرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أتَروْن هذهِ طارحةَ ولدها في النار وهي تَقْدِرُ على ذلك؟ » قالوا:لا يا رسول الله:قال: « فَوَاللهِ للَّهُ أًرْحَمُ بعبادِهِ من هذه بِوَلَدِهَا » .

وقال البخاري هاهنا:حدثنا محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن عَطاء، عن ابن عباس قال:كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنَسَخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث، وجعل للزوجة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع .

وقال العَوفي، عن ابن عباس قوله: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) وذلك أنه لما نـزلت الفرائض التي فَرَضَ الله فيها ما فرض، للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا:تُعطَى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف. ويعطى الغلام الصغير. وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم، ولا يحوز الغنيمة.. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه، أو نقول له فيغير، فقال بعضهم:يا رسول الله، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفَرَس، ولا تقاتل القوم ونُعطِي الصبي الميراث وليس يُغني شيئا.. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم، ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا.

وقوله: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ) قال بعض الناس:قوله: ( فوق ) زائدة وتقديره:فإن كنّ نساء اثنتين كما في قوله [ تعالى ] فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [ الأنفال:12 ] وهذا غير مُسَلَّم لا هنا ولا هناك؛ فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع، ثم قوله: ( فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ) لو كان المراد ما قالوه لقال:فلهما ثلثا ما ترك. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين، فدل الكتاب والسنة على ذلك، وأيضا فإنه قال: ( وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) فلو كان للبنتين النصف [ أيضا ] لنص عليه، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم.

وقوله: ( وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ] ) إلى آخره، الأبوان لهما في الميراث أحوال:

أحدها:أن يجتمعا مع الأولاد، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدس، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب، فيجمع له - والحالة هذه - بين هذه الفرض والتعصيب.

الحال الثاني:أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم - والحالة هذه - الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم، وهو الثلثان، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع. ثم اختلف العلماء:ما تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال:

أحدها:أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه وهو قول عمر وعثمان، وأصح الروايتين عن علي. وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور العلماء - رحمهم الله.

والقول الثاني:أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله: ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ ) فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا. وهو قول ابن عباس. وروي عن علي، ومعاذ بن جبل، نحوه. وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه « الإيجاز في علم الفرائض » .

وهذا فيه نظر، بل هو ضعيف؛ لأن ظاهر الآية إنما هو [ ما ] إذا استبد بجميع التركة، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة، فتأخذ ثلثه، كما تقدم.

والقول الثالث:أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب. وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي؛ لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة:للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث ما بقي وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان. ويحكى هذا عن محمد بن سيرين، رحمه الله، وهو مركب من القولين الأولين، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا. والصحيح الأول، والله أعلم.

والحال الثالث من أحوال الأبوين:وهو اجتماعهما مع الإخوة، وسواء كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، فيفرض لها مع وجودهم السدس، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي.

وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شُعْبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال:إن الأخوين لا يَردان الأم عن الثلث، قال الله تعالى: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة. فقال عثمان:لا أستطيع تغيير ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس.

وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شُعْبَة هذا تكلَّم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه.

وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه أنه قال:الأخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه المسألة جُزءًا على حدة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة قوله: ( فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ ) أضروا بالأم ولا يرثون، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك، وكان أهل العلم يَرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم.

وهذا كلام حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم، وهذا قول شاذ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال:

حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ابن طاوس، عن أبيه عن ابن عباس، قال:السدس الذي حَجَبَتْه الإخوة لأم لهم، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم.

ثم قال ابن جرير:وهذا قول مخالف لجميع الأمة، وقد حدثني يونس، أخبرنا سفيان، أخبرنا عَمْرو، عن الحسن بن محمد، عن ابن عباس أنه قال:الكلالة من لا ولد له ولا والد.

وقوله: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) أجمع العلماء سلفًا وخلفًا:أن الدَّيْن مقدم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فَحْوَى الآية الكريمة. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير، من حديث أبي إسحاق، عن الحارث بن عبد الله الأعور، عن علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال:إنكم تقرءون ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العَلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي:لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم .

قلت:لكن كان حافظًا للفرائض معتنياً بها وبالحساب فالله أعلم.

وقوله: ( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) أي:إنما فرضنا للآباء وللأبناء، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين الوصية، كما تقدم عن ابن عباس، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم؛ لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي - أو الأخروي أو هما - من أبيه ما لا يأتيه من ابنه، وقد يكون بالعكس؛ فلهذا قال: ( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ) أي:كأن النفع متوقع ومرجو من هذا، كما هو متوقع ومرجو من الآخر؛ فلهذا فرضنا لهذا ولهذا، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث، والله أعلم.

وقوله: ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ) أي: [ من ] هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض - هو فرض من الله حكم به وقضاه، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا )

 

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 12 )

يقول تعالى:ولكم - أيها الرجال- نصف ما ترك أزواجكم إذا مُتْن عن غير ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [ وصية ] يوصين بها أو دين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب.

ثم قال: ( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ] ) إلخ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه.

وقوله: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ) إلخ، الكلام عليه كما تقدم.

وقوله: ( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) الكلالة:مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق:أنه سئل عن الكلالة، فقال:أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه:الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر بن الخطاب قال:إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. رواه ابن جرير وغيره .

وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله، في تفسيره:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس قال:سمعت عبد الله بن عباس يقول:كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب، فسمعته يقول:القول ما قلت، وما قلت وما قلت. قال:الكلالة من لا ولد له ولا والد .

وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود، وصح عن غير وجه عن عبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبي والنخعي، والحسن البصري، وقتادة، وجابر بن زيد، والحكم. وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم. وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان:وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه لا ولد له. والصحيح عنه الأول، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.

وقوله: ( وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ) أي:من أم، كما هو في قراءة بعض السلف، منهم سعد بن أبي وقاص، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه، ( فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ )

وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه، أحدها:أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم. الثاني:أن ذكرهم وأنثاهم سواء. الثالث:أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة، فلا يرثون مع أب، ولا جد، ولا ولد، ولا ولد ابن. الرابع:أنهم لا يزادون على الثلث، وإن كثر ذكورهم وإناثهم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس، حدثنا ابن وَهْب، أخبرنا يونس، عن الزهري قال:قضى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم، للذكر مثل الأنثى قال محمد بن شهاب الزهري:ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذه الآية التي قال الله تعالى: ( فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ )

واختلف العلماء في المسألة المشتركة، وهي:زوج، وأم أو جدة، واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين. فعلى قول الجمهور:للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوةُ الأم.

وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأعطى الزوج النصف، والأم السدس، وجعل الثلث لأولاد الأم، فقال له أولاد الأبوين:يا أمير المؤمنين، هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم.

وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، رضي الله عنهم. وبه يقول سعيد بن المسيب، وشريح القاضي، ومسروق، وطاوس، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي، وإسحاق بن راهويه.

وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم، بل يجعل الثلث لأولاد الأم، ولا شيء لأولاد الأبوين، والحالة هذه، لأنهم عصبة. وقال وَكِيع بن الجراح:لم يختلف عنه في ذلك، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري، وهو المشهور عن ابن عباس، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وزُفَر بن الهُذيل، والإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد، وأبي ثور، وداود بن علي الظاهري، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي، رحمه الله، في كتابه « الإيجاز » .

وقوله: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) أي:لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة، أو ينقصه، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي، حدثنا عُمَر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الإضرار في الوصية من الكبائر » .

وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة، قال أبو القاسم ابن عساكر:ويعرف بمفتي المساكين. وروى عنه غير واحد من الأئمة. وقال فيه أبو حاتم الرازي:هو شيخ. وقال علي بن المديني:هو مجهول لا أعرفه. لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر، عن علي بن مُسْهِر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، موقوفًا: « الإضرار في الوصية من الكبائر » . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن عائذ بن حبيب، عن داود بن أبي هند. ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفا وفي بعضها:ويقرأ ابن عباس: ( غَيْرَ مُضَارٍّ )

قال ابن جريج والصحيح الموقوف.

ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث:هل هو صحيح أم لا؟ على قولين:أحدهما:لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله قد أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه، فلا وَصِيَّة لِوَارِثٍ » . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وأحمد بن حنبل، والقول القديم للشافعي، رحمهم الله، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاوس، وعطاء، والحسن، وعمر بن عبد العزيز.

وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه. واحتج بأنّ رَافع بن خديج أوصى ألا تُكْشَف الفَزَارية عما أغْلقَ عليه بابها قال:وقال بعض الناس:لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إياكم والظنَّ، فإن الظَّنَّ أكذبُ الحديث » . وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ النساء:58 ] فلم يخص وارثًا ولا غيره. انتهى ما ذكره.

فمتى كان الإقرارُ صحيحًا مطابقًا لما في نفس الأمر جَرَى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة ( غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) [ ثم قال الله ]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 13 ) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 14 )

أي:هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قُربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها؛ ولهذا قال: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي:فيها، فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته ( يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي، لكونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن أشعث بن عبد الله، عن شَهْر ابن حَوْشَب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرَّجُلَ لَيَعْمَل بعمل أهل الخير سبعين سَنةً، فإذا أوْصَى حَافَ في وصيته، فيختم بشر عمله، فيدخل النار؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة » . قال:ثم يقول أبو هريرة:اقرءوا إن شئتم ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) إلى قوله: ( عَذَابٌ مُهِينٌ ) .

[ و ] قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه:حدثنا عَبْدَة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد، حدثنا [ نصر ] بن علي الحُدَّاني، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحُدَّاني، حدثني شَهْرُ بن حَوشَب:أن أبا هريرة حدثه:أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فَيُضَاران في الوصية، فتجب لهما النار » وقال:قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ حتى بلغ: ( [ وَ ] ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحُدَّاني به، وقال الترمذي:حسن غريب، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل .

 

وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ( 15 ) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 16 )

كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: ( وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ ) يعني:الزنا ( مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ) فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.

قال ابن عباس:كان الحكم كذلك، حتى أنـزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم.

وكذا رُوي عن عِكْرِمة، وسَعيد بن جُبَيْر، والحسن، وعَطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك:أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه.

قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي، عن عبادة بن الصامت قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه، فأنـزل الله عز وجل عليه ذات يوم، فلما سُرِّيَ عنه قال: « خُذُوا عَنِّي، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب، والبِكْرُ بالبكرِ، الثيب جَلْدُ مائة، ورَجْمٌ بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ » .

وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: « خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » . وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن مبارك بن فَضَالة، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة:أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نـزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه، فلما أنـزلت: ( أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا ) [ و ] ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُذُوا خذوا، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة » .

وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا الفضل بن دَلْهَم، عن الحسن، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث، عن سلمة بن المُحَبَّق قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خُذُوا عَنِّي، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » .

وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم، ثم قال:وليس هو بالحافظ، كان قصابًا بواسط .

حديث آخر:قال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا عباس بن حمدان، حدثنا أحمد بن داود، حدثنا عمرو بن عبد الغفار، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن أبي بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ، والشَّيْخانِ يُرجَمان » . هذا حديث غريب من هذا الوجه .

وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة، عن أخيه عيسى بن لهيعة، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:لما نـزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حبس بعد سورة النساء » .

وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد، قالوا:لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين، ولم يجلدهم قبل ذلك، فدل على أن الجلد ليس بحتم، بل هو منسوخ على قولهم، والله أعلم.

وقوله: ( وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا ) أي:واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما. قال ابن عباس، وسعيد بن جبير وغيرهما:أي بالشتم والتعيير، والضرب بالنعال، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم.

وقال عكرمة، وعطاء، والحسن، وعبد الله بن كثير:نـزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا.

وقال السدي:نـزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا.

وقال مجاهد:نـزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى، وكأنه يريد اللواط، والله أعلم.

وقد روى أهل السنن، من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ »

وقوله: ( فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا ) أي:أقلعا ونـزعا عما كانا عليه، وصَلُحت أعمالهما وحسنت ( فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ) أي:لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) وقد ثبت في الصحيحين « إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها » أي:ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ.

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 17 ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 18 )

يقول تعالى:إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [ لقبض ] روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة.

قال مجاهد وغير واحد:كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينـزع عن الذنب.

وقال قتادة عن أبي العالية:أنه كان يحدث:أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون:كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. رواه ابن جرير.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال:اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره .

وقال ابن جُرَيْج:أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال:كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها. قال ابن جريج:وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه.

وقال أبو صالح عن ابن عباس:مِنْ جَهالته عمل السوء.

وقال علي بن أبي طَلْحَة، عن ابن عباس ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) قال:ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت، وقال الضحاك:ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي:ما دام في صحته. وهو مروى عن ابن عباس. وقال الحسن البصري: ( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) ما لم يُغَرْغر. وقال عكرمة:الدنيا كلها قريب.

ذكر الأحاديث في ذلك:

قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عَيَّاش وعصام بن خالد، قالا حدثنا ابن ثَوْبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جُبَير بن نُفَيْر عن ابن عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر » .

[ و ] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، به وقال الترمذي:حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجه:عن عبد الله بن عَمْرو. وهو وَهْم، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب.

حديث آخر عن ابن عُمَر:قال أبو بكر بن مردويه:حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال:سمعت عطاء بن أبي رباح قال:سمعت عبد الله بن عُمَر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه، وأدْنَى من ذلك، وقَبْل موته بيوم وساعة، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه » .

حديث آخر:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا شعبة، أخبرنا إبراهيم بن ميمون، أخبرني رجل من مِلْحَان يقال له:أيوب - قال:سمعت عبد الله بن عمر يقول:من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. فقلت له:إنما قال الله: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) فقال:إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي، وأبو عمر الحَوْضي، وأبو عامر العَقدي، عن شعبة.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا حُسين بن محمد، حدثنا محمد بن مطَرَّف، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني قال:اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ » . فقال الآخر:أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. قال:وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم » فقال الثالث:أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. قال:وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو » . قال الرابع:أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم. قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله [ تعالى ] يقبل توبة العبد ما لم يُغَرغر بنفسه » . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني فذكر قريبًا منه .

حديث آخر:قال أبو بكر بن مردويه:حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا عمران بن عبد الرحيم، حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عَوْف، عن محمد بن سِيرِين، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ » .

أحاديث في ذلك مرسلة:

قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن عَوْف، عن الحسن قال:

بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ » هذا مرسل حسن . عن الحسن البصري، رحمه الله.

آخر:قال ابن جرير أيضًا، رحمه الله:حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بشير بن كعب؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ » .

وحدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر مثله .

أثر آخر:قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا عمران، عن قتادة قال:كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قِلابة، فحدث أبو قِلابة فقال:إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال:وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح. فقال الله:وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح.

وقد ورد هذا في حديث مرفوع، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « قال إبليس:وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم. فقال الله عز وجل:وعزتي وجلالي، لا أزال أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني » .

فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة، فإن توبته مقبولة [ منه ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) فأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ، ولات حين مناص؛ ولهذا قال [ تعالى ] وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) وهذا كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ] الآيتين، [ غافر:84 ، 85 ] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [ تعالى ] يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا الآية [ الأنعام:158 ] .

وقوله: ( وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) [ الآية ] يعني:أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ ذهبا ] .

قال ابن عباس، وأبو العالية، والربيع بن أنس: ( وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) قالوا:نـزلت في أهل الشرك.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، قال:حدثني أبي، عن مكحول:أن عُمَرَ بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان:أن أبا ذر حدثهم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يقبل تَوْبَةَ عَبْدِه - أو يغفر لعبده- ما لم يَقَعِ الحِجَاب » . قيل:وما وُقُوع الحجاب؟ قال: « أن تَخرجَ النَّفْسُ وهي مُشْرِكة » ؛ ولهذا قال [ تعالى ] أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) أي:موجعا شديدا مقيما.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( 19 )

قال البخاري:حدثنا محمد بن مُقَاتل، حدثنا أسْبَاط بن محمد، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة، عن ابن عباس - قال الشيباني:وذكره أبو الحسن السَّوَائي، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس- : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) قال:كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضُهم تزوجها، وإن شاءوا زَوَّجُوها، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنـزلت هذه الآية في ذلك.

هكذا رواه البخاري وأبو داود، والنسائي، وابن مَرْدُويه، وابن أبي حاتم، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان- عن عكرمة، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء، كوفي أعمى- كلاهما عن ابن عباس بما تقدم .

وقال أبو داود:حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي، حدثني علي بن حُسَين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك، أي نهى عن ذلك.

تفرد به أبو داود وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو ذلك، فقال وَكِيع عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مِقْسم، عن ابن عباس:كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا، كان أحق بها، فنـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) .

وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) قال:كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها.

وروى العوفي عنه:كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ:فأنـزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

وقال زيد بن أسلم في الآية [ ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) ] كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله، وكان يعضُلها حتى يرثها، أو يزوجها من أراد، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. رواه ابن أبي حاتم.

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق، حدثنا علي بن المنذر، حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال:لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنـزل الله: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل، به. ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال:أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم، فنـزلت: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) الآية.

قال ابن جريج:وقال مجاهد:كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته، ينكحها إن شاء، إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه.

قال ابن جريج:وقال عكرمة:نـزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت، فجنَحَ عليها ابنُه، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:يا رسول الله، لا أنا وَرِثْتُ زوجي، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح، فنـزلت هذه الآية.

وقال السدي عن أبي مالك:كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب أو تموت فيرثها، فإن هي انفلتت فأتت أهلها، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ، فأنـزل الله: [ تعالى ] ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا )

وقال مجاهد في الآية:كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته، فيتزوجها أو يزوجها ابنه. رواه ابن أبي حاتم. ثم قال:ورُوِيَ عن الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وأبي مِجْلَز، والضحاك، والزهري، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك.

قلت:فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما ذكره مجاهد ومن وافقه، وكل ما كان فيه نوع من ذلك، والله أعلم.

وقوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) أي:لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) يقول:ولا تقهروهن ( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) يعني:الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها لتفتدي.

وكذا قال الضحاك، وقتادة [ وغير واحد ] واختاره ابن جرير.

وقال ابن المبارك وعبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَرٌ قال:أخبرني سِمَاك بن الفضل، عن ابن البَيْلمَاني قال:نـزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمرالإسلام. قال عبد الله بن المبارك:يعني قوله: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ) في الجاهلية ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) في الإسلام.

وقوله: ( إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والشَّعْبِيُّ، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جُبَيْرٍ، ومجاهد، وعِكْرَمَة، وعَطاء الخراسانيّ، والضَّحَّاك، وأبو قِلابةَ، وأبو صالح، والسُّدِّي، وزيد بن أسلم، وسعيد بن أبي هلال:يعني بذلك الزنا، يعني:إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ] الآية [ البقرة:229 ] .

وقال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك:الفاحشة المبينة:النُّشوز والعِصْيان.

واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه:الزنا، والعصيان، والنشوز، وبَذاء اللسان، وغير ذلك.

يعني:أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها، وهذا جيد، والله أعلم، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] في قوله: ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) قال:وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي نهى عن ذلك.

قال عكرمة والحسن البصري:وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام.

قال عبد الرحمن بن زيد:كان العَضْل في قريش بمكة، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تُزوّج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عَضلها. قال:فهذا قوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) الآية.

وقال مجاهد في قوله: ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ ) هو كالعضل في سورة البقرة.

وقوله: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ البقرة:228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي » وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت:سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: « هذِهِ بتلْك » ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منـزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منـزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب:21 ] .

وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب « الأحكام » ، ولله الحمد.

وقوله تعالى: ( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [ وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ] ) أي:فعَسَى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة. كما قال ابن عباس في هذه الآية:هو أن يَعْطف عليها، فيرزقَ منها ولدًا. ويكون في ذلك الولد خير كثير وفي الحديث الصحيح: « لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر » .

 

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 20 ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 21 ) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ( 22 )

وقوله: ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) أي:إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئاً، ولو كان قنطارا من مال.

وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا.

وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل، حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سِيرين، قال:نُبِّئْت عن أبي العَجْفَاء السُّلميِّ قال:سمعت عمر بن الخطاب يقول:ألا لا تُغْلُوا في صَداق النساء، فإنها لو كانت مَكْرُمَةً في الدنيا أو تَقْوَى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصْدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة، وإن كان الرجل ليُبْتَلَى بصَدُقَةِ امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول:كَلِفْتُ إليك عَلَق القِرْبة، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق، عن محمد بن سيرين، عن أبي العجفاء - واسمه هرم ابن مُسَيب البصري- وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح .

طريق أخرى عن عمر:قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو خَيْثَمَةَ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، قال:ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال:أيها الناس، ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنماالصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فَلا أعرفَنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال:ثم نـزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين، نَهَيْتَ الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم؟ قال:نعم. فقالت:أما سمعت ما أنـزل الله في القرآن؟ قال:وأي ذلك؟ فقالت:أما سمعت الله يقول: ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ] ) [ النساء:20 ] قال:فقال: اللهم غَفْرًا، كُلُّ الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال:إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى:وأظنه قال:فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي .

طريق أخرى:قال ابن المنذر:حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، عن قيس بن ربيع، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:قال عمر بن الخطاب:لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة:ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: « وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب » . قال:وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: « فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا » فقال عمر:إن امرأة خاصمت عمر فخصمته .

طريق أخرى:عن عمر فيها انقطاع:قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال:قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة - يعني يزيد ابن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة- من صُفَّة النساء طويلة، في أنفها فَطَس - :ما ذاك لك. قال:ولم؟ قالت:لأن الله [ تعالى ] قال: ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ) الآية. فقال عمر:امرأة أصابت ورجل أخطأ .

ولهذا قال [ الله ] منكرا: ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ) أي:وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضَتْ إليك.

قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وغير واحد:يعني بذلك الجماع.

وقد ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما: « الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب » ثلاثًا. فقال الرجل:يا رسول الله، مالي - يعني:ما أصدقها - قال: « لا مال لك إن كنت صدَقْت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها » .

وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرًا في خدرها، فإذا هي حامل من الزنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقضى لها بالصداق وفرَّق بينهما، وأمر بجلدها، وقال: « الولد عبد لك » .

فالصداق في مقابلة البُضْع، ولهذا قال تعالى: ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ )

وقوله: ( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) روي عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير:أن المراد بذلك العَقْد.

وقال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله: ( وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا [ غَلِيظًا ] ) قال:قوله:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

قال ابن أبي حاتم:وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي العالية، والحسن، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، والضحاك والسدي- نحو ذلك.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في الآية هو قوله:أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فإن « كلمة الله » هي التشهد في الخطبة. قال:وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به قال له:جعلت أمتك لا تجوز لهم خُطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي. رواه ابن أبي حاتم.

وفي صحيح مسلم، عن جابر في خُطبة حِجة الوداع:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها: « واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فُروجهن بِكَلِمَة الله » .

وقوله تعالى: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ] ) يُحَرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم، وإعظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سَوَّار، عن عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار قال:لما توفي أبو قَيْس - يعني ابن الأسلت- وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنَه قيس امرأته، فقالت:إنما أعُدُّكَّ ولدا وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:إن أبا قيس تُوفِّي. فقال: « خيرا » . ثم قالت:إن ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولدًا، فما ترى؟ فقال لها: « ارجعي إلى بيتك » . قال:فنـزلت هذه الآية ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ] ) الآية.

وقال ابن جرير:حدثنا القاسم، حدثنا، حسين، حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، عن عِكْرمة في قوله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) [ الآية ] قال:نـزلت في أبي قيس ابن الأسلت، خُلِّفَ على أم عبيد الله بنت صخر وكانت تحت الأسلت أبيه، وفي الأسود بن خَلَفَ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار، وكانت عند أبيه خَلَف، وفي فاخِتَة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، كانت عند أمية بن خَلَف، فخُلِّف عليها صفوان ابن أمية .

وقد زعم السُّهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية؛ ولهذا قال: ( إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) كما قال وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ قال:وقد فعل ذلك كِنَانة بن خزيمة، تزوج بامرأة أبيه، فأولدها ابنه النضْر بن كنانة قال:وقد قال صلى الله عليه وسلم: « وُلِدتُ من نِكاحٍ لا من سِفَاحٍ » . قال:فدل على أنَّه كان سائغًا لهم ذلك، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحًا فيما بينهم، فقد قال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا قُرَاد، حدثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنـزل الله: ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ وهكذا قال عطاء وقتادة. ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، والله أعلم. على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة، مُبَشَّع غاية التبشع ولهذا قال: ( إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا ) ولهذا قال [ تعالى ] وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [ الأنعام:151 ] وقال وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [ الإسراء:32 ] فزاد هاهنا: ( وَمَقْتًا ) أي:بُغْضًا، أي هو أمر كبير في نفسه، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة؛ لأنهن أمهات، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كالأب [ للأمة ] بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه.

وقال عَطاء بن أبي رَباح في قوله: ( ومقتا ) أي:يمقت الله عليه ( وَسَاءَ سَبِيلا ) أي:وبئس طريقا لمن سلكه من الناس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل، ويصير ماله فيئا لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من طرق، عن البراء بن عازب، عن خاله أبي بردة - وفي رواية:ابن عمر- وفي رواية:عن عمه:أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله.

وقال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، حدثنا أشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له:أي عم، أين بعثك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ قال:بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه .

مسألة:

وقد أجمع العلماءُ على تحريم من وطئها الأبُ بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضًا، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية. فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك. قد روى [ الحافظ ] ابن عساكر في ترجمة خُدَيْج الحِصْنِيّ مولى معاوية قال:اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب. فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول:هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية. ثم قال:لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرَشِي - وكان فقيها- فلما دخل عليه قال:إن هذه أتيت بها مجردة، فرأيت منها ذاك وذاك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال:لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له. ثم قال:نعم ما رأيت. ثم قال:ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري، فدعوته، وكان آدم شديد الأدمة، فقال:دونك هذه، بَيض بها ولدك. قال:و [ قد ] كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس عَلَى عَلِي [ بن أبي طالب ] رضي الله عنه.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 23 )

هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر، كما قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أحمد بن سِنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:حُرمت عليكم سبع نَسَبًا، وسبع صِهْرًا، وقرأ: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) الآية.

وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء عن عُمَير مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال:يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، ثم قرأ: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ ) فهن النسب.

وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى: ( وبناتكم ) ؛ فإنها بنت فتدخل في العموم، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل. وقد حُكيَ عن الشافعي شيء في إباحتها؛ لأنها ليست بنتًا شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية. والله أعلم.

وقوله: ( وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ) أي كما تحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك؛ ولهذا روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة » ، وفي لفظ لمسلم: « يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب » .

وقد قال بعض الفقهاء:كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور. وقال بعضهم:ست صور، هي مذكورة في كتب الفروع. والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يرد على الحديث شيء أصلا البتة، ولله الحمد.

ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية. وهذا قول مالك، ويحكى عن ابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المُسَيَّب، وعُرْوَة بن الزبير، والزُّهْرِي.

وقال آخرون:لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم، من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تُحرِّم المصةُ والمصتان » .

وقال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تُحرم الرَّضْعَة ولا الرضعتان، والمصَّة ولا المصتان » ، وفي لفظ آخر: « لا تحرم الإمْلاجَة ولا الإملاجتان » رواه مسلم .

وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وأبو ثور. ويحكى عن علي، وعائشة، وأم الفضل، وابن الزبير، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، رحمهم الله.

وقال آخرون:لا يحرم أقل من خمس رضعات، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عَمْرة عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:كان فيما أنـزل [ الله ] من القرآن:عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة نحو ذلك .

وفي حديث سَهْلة بنت سهيل:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُرضِع مولى أبي حذيفة خمس رضعات وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يُرْضع خمس رضعات. وبهذا قال الشافعي، رحمه الله [ تعالى ] وأصحابه. ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة، عند قوله: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [ الآية:233 ] .

واختلفوا:هل يحرم لبن الفَحْل، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم؟ وإنما يختص الرضاع بالأم فقط، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف؟ على قولين، تحرير هذا كله في كتاب « الأحكام الكبير » .

وقوله: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل. وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل بها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها، ولهذا قال: ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) [ أي ] في تزويجهن، فهذا خاص بالربائب وحدهن.

وقد فهم بعضُهم عود الضمير إلى الأمهات [ و ] الربائب فقال:لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها؛ لقوله: ( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ )

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد عن قتادة، عن خِلاس بن عَمْرو، عن علي، رضي الله عنه، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، أيتزوج أمها؟ قال:هي بمنـزلة الربيبة.

وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال:إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها.

وفي رواية عن قتادة، عن سعيد، عن زيد بن ثابت؛ أنه كان يقول:إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كُره أن يخلف على أمها، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل.

وقال ابن المنذر:حدثنا إسحاق، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال:أخبرني أبو بكر بن حفص، عن مسلم بن عويمر الأجدع أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال:فلم أجامعها حتى توفي عَمي عن أمها، وأمها ذات مال كثير، فقال أبي:هل لك في أمها؟ قال:فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر فقال:انكح أمها. قال:فسألت ابن عمر فقال:لا تنكحها. فأخبرت أبي ما قال ابن عباس وما قال ابن عمر، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عُمَر وابن عباس فكتب معاوية:إني لا أحلّ ما حَرم الله، ولا أحرم ما أحل [ الله ] وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن سِمَاك بن الفضل، عن رجل، عن عبد الله بن الزبير قال:الربيبة والأم سواء، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة. وفي إسناده رجل مبهم لم يسم.

وقال ابن جريج أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدًا قال له: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) أراد بهما الدخول جميعًا فهذا القول مروى كما ترى عن علي، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، ومجاهد، وابن جبير وابن عباس، وقد توقف فيه معاوية، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني، فيما نقله الرافعي عن العبادي. [ وقد خالفه جمهور العلماء من السلف والخلف، فرأوا أن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على الأم،وإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على الربيبة ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عَزْرة حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس:أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها، أنه قال:إنها مبهمة، فكرهها.

ثم قال:ورُويَ عن ابن مسعود، وعمران بن حُصَين، ومسروق، وطاوس، وعكرمة، وعطاء، والحسن، ومكحول، وابن سيرين، وقتادة، والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، وجمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا، ولله الحمد والمنة.

قال ابن جرير:والصواب، أعنى قَوْلَ من قال: « الأم من المبهمات » ؛ لأن الله لم يشرط معهن الدخول كما شرط ذلك مع أمهات الربائب، مع أن ذلك أيضًا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر، غير أنَّ في إسناده نظرًا، وهو ما حدثني به المثنى، حدثنا حبان بن موسى، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عن النبي صلىالله عليه وسلم قال:إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها، فإن شاء تزوج الابنة .

ثم قال:وهذا الخبر، وإن كان في إسناده ما فيه، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مُسْتَغْنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.

وأما قوله: ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) فجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا:وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ النور:33 ]

وفي الصحيحين أن أم حَبيبة قالت:يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان - وفي لفظ لمسلم:عزة بنت أبي سفيان- قال: « أو تحبين ذلك؟ » قالت:نعم، لَسْتُ لك بمُخْليَة، وأحب من شاركني في خير أختي. قال: « فإن ذلك لا يَحل لي » . قالت:فإنا نُحَدثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال « بنْتَ أم سلمة؟ » قالت نعم. قال: « إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّتْ لي، إنها لبنت أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة فلا تَعْرضْن علي بناتكن ولا أخواتكن » . وفي رواية للبخاري: « إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي » .

فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف. وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف- عن ابن جريج، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال:كانت عندي امرأة فتوفيت، وقد ولدت لي، فوجِدْت عليها، فلقيني علي بن أبي طالب فقال:مالك؟ فقلت:توفيت المرأة. فقال علي:لها ابنة؟ قلت:نعم، وهي بالطائف. قال:كانت في حجرك؟ قلت:لا هي بالطائف قال:فانكحها. قلت:فأين قول الله [ عز وجل ] ( وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) قال:إنها لم تكن في حجْرك، إنما ذلك إذا كانت في حجرك.

هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم، وهو قول غريب جدًّا، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك، رحمه الله، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عَرَض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية، رحمه الله، فاستشكله، وتوقف في ذلك، والله أعلم .

وقال ابن المنذر:حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا الأثرم، عن أبي عبيدة قوله: ( اللاتِي فِي حُجُورِكُم ) قال:في بيوتكم.

وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس، عن ابن شهاب:أن عمر بن الخطاب سُئلَ عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى؟ فقال عمر:ما أحب أن أخبرهما جميعًا. يريد أن أطَأهُمَا جميعا بملك يميني. وهذا منقطع.

وقال سُنَيد بن داود في تفسيره:حدثنا أبو الأحوص، عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال:قلت لابن عباس:أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال:أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولم أكن لأفعله.

قال الشيخ أبو عُمَر بن عبد البر، رحمه الله:لا خلاف بين العلماء أنَّه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين، لأن الله حرم ذلك في النكاح، قال: ( وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ ) وملك اليمين هم تبع للنكاح، إلا ما روي عن عُمَر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشام عن قتادة:بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة. وكذا قال قتادة عن أبي العالية.

ومعنى قوله تعالى: ( اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) أي:نكحتموهن. قاله ابن عباس وغير واحد.

وقال ابن جريج عن عطاء:هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. قلت:أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها. قال:هو سواء، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها.

وقال ابن جرير:وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يُحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومُبَاشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.

وقوله: ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) أي:وحُرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يَتَبَنَونهم في الجاهلية، كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ] الآية [ الأحزاب:37 ] .

وقال ابن جُرَيْج:سألت عطاء عن قوله: ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) قال:كنا نُحَدِّث، والله أعلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد، قال المشركون بمكة في ذلك، فأنـزل الله [ عز وجل ] ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) ونـزلت: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [ الأحزاب:4 ] . ونـزلت: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الأحزاب:40 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا الجرح بن الحارث، عن الأشعث، عن الحسن بن محمد أن هؤلاء الآيات مبهمات: ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ ) ( أُمَّهَاتُ نِسَائِكُم ) ثم قال:وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك.

قلت:معنى مبهمات:أي عامة في المدخول بها وغير المدخول، فتحرم بمجرد العقد عليها، وهذا متفق عليه. فإن قيل:فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة، كما هو قول الجمهور، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم: « يَحْرُم من الرّضاع ما يحرم من النسب » .

وقوله: ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ] ) أي:وحرم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف، كما قال: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى [ الدخان:56 ] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا. وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح، ومن أسلم وتحته أختان خير، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة.

قال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لَهِيعة عن أبي وهْب الجيْشاني عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال:أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمَرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما .

ثم رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، من حديث ابن لهيعة. وأخرجه أبو داود والترمذي أيضًا من حديث يزيد بن أبي حبيب، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني. قال الترمذي:واسمه ديلم بن الهُوشَع، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه، به وفي لفظ للترمذي:فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اختر أيتهما شئت » . ثم قال الترمذي:هذا حديث حسن .

وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرُّعَيْني قال:قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تَزَوجْتُهما في الجاهلية، فقال: « إذا رَجَعْتَ فَطلقْ إحداهما » .

قلت:فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز، ويحتمل أن يكون غيره، فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين، عن فيروز الديلمي، والله أعلم.

وقال ابن مَرْدويه:حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني حدثنا هيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن إسحاق، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة عن رُزَيق بن حكيم، عن كثير بن مرة، عن الديلمي قال:قلت:يا رسول الله، إن تحتي أختين؟ قال: « طَلق أيهما شئت » .

فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي [ رضي الله عنه ] قال أبو زرعة الدمشقي:كان يصحب عبد الملك بن مروان، والثاني هو أبو فيروز الديلمي، رضي الله عنه، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي المتنبئ لعنه الله.

وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية، وقال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة عن ابن مسعود:أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين، فكرهه، فقال له- يعني السائل- :يقول الله عز وجل: إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فقال له ابن مسعود:وبعيرك مما ملكت يمينك.

وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن قَبيصة بن ذُؤيب:أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان:أحلتهما آية وحَرمتهما آية، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك فقال:لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. قال مالك:قال ابن شهاب:أرَاه علي بن أبي طالب:قال:وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك.

قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري، رحمه الله، في كتابه « الاستذكار » :إنما كني قبيصة بن ذُؤيب عن علي بن أبي طالب، لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

ثم قال أبو عمر، رحمه الله:حدثني خلف بن أحمد، رحمه الله، قراءة عليه:أن خلف بن مطرف حدثهم:حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا:حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي، حدثني عمي إياس بن عامر قال:سألت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] فقلت:إن لي أختين مما ملكت يميني، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادًا، ثم رغبت في الأخرى، فما أصنع؟ فقال علي، رضي الله عنه:تعتق التي كنت تطَأُ ثم تطأ الأخرى. قلت:فإن ناسًا يقولون:بل تَزَوّجها ثم تطأ الأخرى. فقال علي:أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي:إنه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد - أو قال:إلا الأربع- ويَحْرُم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب.

ثم قال أبو عمر:هذا الحديث رحلة لو لم يصب الرجل من أقصى المشرق أو المغرب إلى مكة غيره لما خابت رحلته .

قلت:وقد روي عن علي نحو ما تقدم عن عثمان، وقال أبو بكر بن مردويه:

حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن العباس، حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك المخرّمي حدثنا عبد الرحمن بن غَزْوان، حدثنا سفيان، عن عَمْرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال لي علي بن أبي طالب:حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين- قال ابن عباس:يحرمهن علي قرابتي منهن، ولا يحرمهن على قرابة بعضهن من بعض - يعني الإماء- وكانت الجاهلية يحرمون ما تُحَرَّمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلما جاء الإسلام أنـزل الله [ عز وجل ] ( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ ) يعني:في النكاح.

ثم قال أبو عمر:روى الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا محمد بن سلمة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود قال:يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد. وعن ابن سيرين والشعبي مثل ذلك.

قال أبو عمر، رحمه الله:وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف، منهم:ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونَفْي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله [ تعالى ] ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ] ) إلى آخر الآية:أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون نظرًا وقياسًا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها، والله المحمود .

 

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 24 )

وقوله [ تعالى ] ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي:وحرم عليكم الأجنبيات المحصنات وَهُنَّ المزوجات ( إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) يعني:إلا ما ملكتموهن بالسبي، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن، فإن الآية نـزلت في ذلك.

قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان - هو الثوري- عن عثمان البَتِّي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري قال:أصبنا نساء من سبي أوطاس، ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنـزلت هذه الآية: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) [ قال ] فاستحللنا فروجهن.

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن هُشَيم، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، ثلاثتهم عن عثمان البتي، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سواري عن عثمان البتي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيد الخدري، فذكره، وهكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة عن أبي الخليل، عن أبي سعيد، به .

وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل، عن أبي عَلْقَمَةَ الهاشمي، عن أبي سعيد قال الإمام أحمد:

حدثنا ابن أبي عَدِيّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي عَلْقَمَةَ، عن أبي سعيد الخدري؛ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس، لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال:فنـزلت هذه الآية في ذلك: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )

وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة - زاد مسلم:وشعبة- ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، بإسناده نحوه. وقال الترمذي:هذا حديث حسن، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة. كذا قال. وقد تابعه سعيد وشعبة، والله أعلم .

وقد روى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس:أنها نـزلت في سبايا خيبر، وذكر مثل حديث أبي سعيد، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها، أخذا بعموم هذه الآية. قال ابن جرير:حدثنا ابن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم:أنه سُئل عن الأمة تباع ولها زوج؟ قال:كان عبد الله يقول:بيعها طلاقها، ويتلو هذه الآية ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )

وكذا رواه سفيان عن منصور، ومغيرة والأعمش عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال:بيعها طلاقها. وهو منقطع.

وقال سفيان الثوري، عن خالد، عن أبي قِلابة، عن ابن مسعود قال:إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها.

ورواه سعيد، عن قتادة قال:إن أبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس قالوا:بيعها طلاقها.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، [ حدثنا ] ابن علية، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:طلاق الأمة ست بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب قوله: ( وَالْمُحْصَناَتُ مِنَ النِّسَاءِ ) قال:هُن ذوات الأزواج، حرّم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر:وقال الحسن مثل ذلك.

وهكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قال:إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها.

وقال عوف، عن الحسن:بيع الأمة طلاقها وبيعُه طلاقُها.

فهذا قول هؤلاء من السلف [ رحمهم الله ] وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقها ؛ لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما؛ فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وَنَجَّزَتْ عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصتها مشهورة، فلو كان بيع الأمة طلاقها - كما قال هؤلاء لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط، والله أعلم.

وقد قيل:المراد بقوله: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) يعني:العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعا. حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عُمَر وعبيدة: ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ) ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.

وقوله: ( كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) أي:هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه.

وقد قال عبيدة وعطاء والسّدّي في قوله: ( كِتَابَ الله عَلَيْكُم ) يعني الأربع. وقال إبراهيم: ( كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ) يعني:ما حرم عليكم.

وقوله: ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) أي:ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال، قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي: ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) ما دون الأربع، وهذا بعيد، والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) يعني:ما ملكت أيمانكم.

وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال:أحلتهما آية وحرمتهما آية .

وقوله: ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) أي:تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي؛ ولهذا قال: ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ )

وقوله: ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) أي:كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك، كقوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [ النساء:21 ] وكقوله وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً وكقوله [ النساء:4 ] وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ البقرة:229 ]

وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، مرتين. وقال آخرون أكثر من ذلك، وقال آخرون:إنما أبيح مرة، ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك.

وقد رُويَ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القولُ بإباحتها للضرورة، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى. وكان ابن عباس، وأبيّ بن كعب، وسعيد بن جُبَيْر، والسُّدِّي يقرءون: « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة » . وقال مجاهد:نـزلت في نكاح المتعة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصحيحين، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال:نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب « الأحكام » .

وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سَبْرَة بن معبد الجهني، عن أبيه:أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، فقال: « يأيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حَرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا » وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب « الأحكام » .

وقوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال:فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به وزيادة للجعل .

قال السدي:إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها- قبل انقضاء الأجل بينهما فقال:أتمتع منك أيضا بكذا وكذا، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة، وهو قوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) .

قال السدي:إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، فلا يرث واحد منهما صاحبه.

ومن قال بالقول الأول جعل معناه كقوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ] [ النساء:4 ] أي:إذا فرضت لها صداقًا فأبرأتك منه، أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال:زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) أيها الناس ( فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرَيضَةِ ) يعني:إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ، واختار هذا القول ابن جرير، وقال [ علي ] بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ) والتراضي أن يُوَفيها صداقها ثم يخيرها، ويعني في المقام أو الفراق.

وقوله: ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [ العظيمة ] .

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 25 )

يقول [ تعالى ] ومن لم يجد ( طَوْلا ) أي:سعة وقدرة ( أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ) أي الحرائر.

وقال ابن وَهْب:أخبرني عبد الجبار، عن ربيعة: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ) قال ربيعة الطوْل الهوى، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ثم شرع يشنع على هذا القول ويَرُدّه ( فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) أي:فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون، ولهذا قال: ( مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات ) قال ابن عباس وغيره:فلينكح من إماء المؤمنين، وكذا قال السدي ومقاتل بن حَيَّان.

ثم اعترض بقوله: ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) أي:هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور.

ثم قال: ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) فدلَّ على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك هو ولي عبده، ليس لعبده أن يتزوج إلا بإذنه، كما جاء في الحديث: « أيما عبد تَزَوّج بغير إذن مَوَاليه فهو عَاهِر » أي زان.

فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها؛ لما جاء في الحديث: « لا تُزَوِّجُ المرأةُ [ المرأةَ، ولا المرأةُ نفسها ] فإن الزانية هي التي تزوج نفسها » .

وقوله: ( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي:وادفعوا مهورهن بالمعروف، أي:عن طيب نفس منكم، ولا تبخسوا منه شيئًا استهانة بهن؛ لكونهن إماء مملوكات.

وقوله: ( مُحْصَنَاتٍ ) أي:عفائف عن الزنا لا يتعاطينه؛ ولهذا قال: ( غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ) وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة.

وقوله: ( ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) قال ابن عباس:المسافحات، هن الزواني المعالنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة. ( ومتخذات أخدان ) يعني:أخلاء.

وكذا روي عن أبي هريرة، ومجاهد والشعبي، والضحاك، وعطاء الخراساني، ويحيى بن أبي كثير، ومقاتل بن حيان، والسدي، قالوا:أخلاء. وقال الحسن البصري:يعني:الصديق. وقال الضحاك أيضا: ( وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) ذات الخليل الواحد [ المسيس ] المقرة به، نهى الله عن ذلك، يعني [ عن ] تزويجها ما دامت كذلك.

وقوله: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) اختلف القراءُ في ( أُحْصِنَّ ) فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد، مبني لما لم يسم فاعله، وقُرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل:معنى القراءتين واحد. واختلفوا فيه على قولين:

أحدهما:أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام. رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأنس، والأسود بن يزيد، وزِرّ بن حُبَيْش، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، إبراهيم النَّخعي، والشعبي، والسُّدِّي. وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب، وهو منقطع. وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ] في رواية الربيع، قال:وإنما قلنا [ ذلك ] استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم.

وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا مرفوعًا، قال:حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقى ] حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبي حمزة، عن جابر، عن رجل، عن أبي عبد الرحمن، عن علي قال:قال رسول الله صلى عليه وسلم: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) قال: « إحصانها إسلامها وعفافها » . وقال المراد به هاهنا التزويج، قال:وقال علي:اجلدوهن.

[ ثم ] قال ابن أبي حاتم:وهو حديث منكر.

قلت:وفي إسناده ضعف، ومنهم من لم يسم، و [ مثله ] لا تقوم به حجة .

وقال القاسم وسالم:إحصانها:إسلامها وعفافها.

وقيل:المراد به هاهنا:التزويج. وهو قولُ ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وطاوس، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه « الإيضاح » عن الشافعي، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد أنه قال:إحصان الأمة أن ينكحها الحر، وإحصان العبد أن ينكح الحرة. وكذا رَوَى ابن أبي طلحة عن ابن عباس، رواهما ابن جرير في تفسيره، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي.

وقيل معنى القراءتين متباين فمن قرأ ( أُحْصِنَّ ) بضم الهمزة، فمراده التزويج، ومن قرأ « أحصن » بفتحها، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسيره، وقرره ونصره.

والأظهر - والله أعلم- أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج؛ لأن سياق الآية يدل عليه، حيث يقول سبحانه وتعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ ) والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله: ( فَإِذَا أُحْصِنَّ ) أي:تزوجن، كما فسره ابن عباس ومن تبعه.

وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور؛ وذلك أنهم يقولون:إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة، سواء كانت مسلمة أو كافرة، مزوجة أو بكرا، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك، فأما الجمهور فقالوا:لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء، فقدمناها على مفهوم الآية، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه، عن علي، رضي الله عنه، أنه خطب فقال:يا أيها الناس، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « أحْسَنْتَ، اتركها حتى تَماثَل » .

وعند عبد الله بن أحمد، عن غير أبيه: « فإذا تَعالتْ من نَفْسِها حدَّها خمسين » .

وعن أبي هريرة قال:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر » ولمسلم إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة « . »

وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يَسار، عن عبد الله بن عيَّاش بن أبي ربيعة المخزومي قال:أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.

الجواب الثاني:جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، وإنما تضرب تأديبا، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، وإليه ذهب طاوس، وسعيد بن جُبَير، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه. وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ؟ قال: « إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير » قال ابن شهاب:لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة.

أخرجاه في الصحيحين وعند مسلم:قال ابن شهاب:الضفير الحبل .

قالوا:فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم.

وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور، عن سفيان، عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس على أمة حد حتى تحصن - أو حتى تزوج- فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات » .

وقد رواه ابن خزيمة، عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا. وقال:رفعه خطأ، إنما هو من قول ابن عباس، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة .

قالوا:وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ] قضايا أعيان، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة:

أحدها:أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث.

الثاني:أن لفظ الحد في قوله:فليجلدها الحد، لفظ مقحم من بعض الرواة، بدليل الجواب الثالث وهو:

أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم من رواية واحد، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، من حديث عَبَّاد بن تميم، عن عمه - وكان قد شهد بدرًا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير » .

الرابع:أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة، ورجم الثيب أو اللائط، والله أعلم.

وقد روى ابن جرير في تفسيره:حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول:لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج .

وهذا إسناد صحيح عنه، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا، ولا ينفي ضربها تأديبا، فهو كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك، والله أعلم.

الجواب الثالث:أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة، كقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [ النور:2 ] وكحديث عبادة بن الصامت: « خُذوا عَنِّي، خذوا عني، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة » والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث.

وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري، وهو في غاية الضعف؛ لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان. وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: « اجلدوها » ولم يقل مائة، فلو كان حكمها كما قال داود لوجب بيان ذلك لهم؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء، وإلا فما الفائدة في قولهم: « ولم تحصن » لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نـزلت، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر، فبينه لهم. كما [ ثبت ] في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه، فذكرها لهم ثم قال: « والسلام ما قد علمتم » وفي لفظ:لما أنـزل الله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ الأحزاب:56 ] قالوا:هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ وذكر الحديث، وهكذا هذا السؤال .

الجواب الرابع - عن مفهوم الآية- :جواب أبي ثور، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه، ذلك أنه يقول فإذا أحْصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم، وهو لا يتناصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين. فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي، رحمه الله:ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، والألف واللام في المحصنات للعهد، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية: ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ) والمراد بهن الحرائر فقط، من غير تعرض لتزويج غيره، وقوله: ( نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ) يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم، والله أعلم.

ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ] نَصا في رَدِّ مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية كانت قد زنت برجل من الحمس، فولدت غلاما، فادعاه الزاني، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ] فرفعهما إلى علي بن أبي طالب، فقال علي:أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر » وجلدهما خمسين خمسين .

وقيل:بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى، أي:أن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة. قال ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي، فيما رواه ابن عبد الحكم، عنه. وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار، وهو بعيد عن لفظ الآية؛ لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها، وقال:بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله- فأما قبل الإحصان فله ذلك، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة. وهذا أيضا بعيد؛ لأنه ليس في لفظ الآية ما يدل عليه.

ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام في التنصيف، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة أو رجمهن، كما أثبت في الدليل عليه، وقد تقدم عن علي أنه قال:أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور: « إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فتبين زِناهَا فَليجْلِدها الحدَّ ولا يثرب عَلَيْها » .

ملخص الآية:أنها إذا زنت أقوال:أحدها:أنها بجلد خمسين قبل الإحصان وبعده، وهل تنفى؟ فيه ثلاثة أقوال:

[ أحدها ] أنها تنفى عنه والثاني:لا تنفى عنه مطلقًا. [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ] والثالث:أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف الحرة. وهذا الخلاف في مذهب الشافعي، وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد، وإنما هو رأي الإمام، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال، وأما النساء فلا ؛ لأن ذلك مضاد لصيانتهن، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عُبَادَة وحديث أبي هريرة ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه، رواه البخاري، و [ كل ] ذلك مخصوص بالمعنى، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم.

والثاني:أن الأمة إذا زنت تُجلد خمسين بعد الإحصان، وتضرب [ قبله ] تأديبا غير محدود بعدد محصور، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير:أنها لا تضرب قبل الإحصان، وإن أراد نفيه فيكون مذهبًا بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني.

القول الآخر:أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين، كما هو المشهور عن داود، و [ هو ] أضعف الأقوال:أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده، وهو قول أبي ثور، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقوله: ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) أي:إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا، وشق عليه الصبر عن الجماع، وعنت بسبب ذلك [ كله، فحينئذ يتزوج الأمة، وإن ترك تزوج الأمة ] وجاهد نفسه في الكف عن الزنا، فهو خير له؛ لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي، ولهذا قال: ( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )

ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهورُ العلماء في جواز نكاح الإماء، على أنه لا بد من عدم الطَّوْل لنكاح الحرائر ومن خوف العنت؛ لما في نكاحهن من مفْسَدة رق الأولاد، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن. وخالف الجمهورَ أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين، فقالوا:متى لم يكن الرجل مزوجا بحرّة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا، سواء كان واجدًا الطول لحرة أم لا وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه [ عموم ] قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ المائدة:5 ] أي:العفائف، وهو يعم الحرائر والإماء، وهذه الآية عامة، وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 26 )

يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون- ما أحل لكم وحرم عليكم، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها، ( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يعني:طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها ( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) أي من الإثم والمحارم، ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله.

 

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ( 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( 28 )

وقوله: ( [ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ] وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا ) أي:يُريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة ( أَنْ تَمِيلُوا ) يعني:عن الحق إلى الباطل ( مَيْلا عَظِيمًا* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) أي:في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم، ولهذا أباح [ نكاح ] الإماء بشروطه، كما قال مجاهد وغيره: ( خُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) فناسبه التخفيف؛ لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل [ الأحمسي ] حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه: ( خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا ) أي:في أمر النساء، وقال وكيع:يذهب عقله عندهن.

وقال موسى الكليم عليه الصلاة والسلام لنبينا صلوات الله وسلامه عليه ليلة الإسراء حِينَ مر عليه راجعا من عند سدْرة المنتهى، فقال له:ماذا فرض عليكم ؟ فقال: « أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة » فقال له:ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا، فرجع فوضع عشرا، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسًا [ قال الله عز وجل: « هن خمس وهن خمسون، الحسنة بعشر أمثالها » ] الحديث .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ( 31 )

نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل، أي:بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا، حتى قال ابن جرير:

حدثني ابن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول:إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما- قال:هو الذي قال الله عز وجل: ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، عن داود الأودي عن عامر، عن علقمة، عن عبد الله [ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) ] قال:إنها [ كلمة ] محكمة، ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:لما أنزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) قال المسلمون:إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكيف للناس ! فأنزل الله بعد ذلك: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ [ النور:61 ] الآية، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ] .

وقوله: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) قرئ:تجارة بالرفع وبالنصب، وهو استثناء منقطع، كأنه يقول:لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال. كما قال [ الله ] تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [ الأنعام:151 ] ، وكقوله لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى [ الدخان:56 ] .

ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ] على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول؛ لأنه يدل على التراضي نَصا، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد، وخالف الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا، ومنهم من قال:يصح في المحقَّرات، وفيما يعده الناس بيعا، وهو احتياط نظر من محققي المذهب، والله أعلم.

قال مجاهد: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) بيعا أو عطاء يعطيه أحد أحدًا. ورواه ابن جرير [ ثم ] قال:

وحدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجُعْفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلمًا » . هذا حديث مرسل .

ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس، كما ثبت في الصحيحين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا » وفي لفظ البخاري: « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » .

وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي، وأحمد [ بن حنبل ] وأصحابهما، وجمهورُ السلف والخلف. ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ] بحسب ما يتبين فيه مال البيع، ولو إلى سنة في القرية ونحوها، كما هو المشهور عن مالك، رحمه الله. وصححوا بيع المعاطاة مطلقا، وهو قول في مذهب الشافعي، ومنهم من قال:يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا، وهو اختيار طائفة من الأصحاب.

وقوله: ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) أي:بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) أي:فيما أمركم به، ونهاكم عنه.

قال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عمْران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال:احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال:فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: « يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ! » قال:قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فذكرت قول الله [ عز وجل ] ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.

وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، به. ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عنه، فذكر نحوه. وهذا، والله أعلم، أشبه بالصواب .

وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه:حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي، حدثنا عُبَيد عبد الله بن عمر القواريري، حدثنا يوسف بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس:أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فدعاه فسأله عن ذلك، فقال:يا رسول الله، خفْتُ أن يقتلني البرد، وقد قال الله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ] ) قال:فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .

ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مُتَرد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا » .

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وعن أبي قِلابة، عن ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة » . وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة وفي الصحيحين من حديث الحسن، عن جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان رَجُلٌ ممن كان قبلكم وكان به جُرْح، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ، قال الله عز وجل:عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه، حرَّمت عليه الْجَنَّة » .

ولهذا قال الله تعالى: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا ) أي:ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما في تعاطيه، أي:عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه ( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فَلْيحذَرْ منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد.

وقوله: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) . أي:إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة؛ ولهذا قال: ( وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ) .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا مؤمل بن هشام، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا خالد بن أيوب، عن معاوية بن قرة، عن أنس [ يرفعه ] : « الذي بلغنا عن ربنا، عز وجل، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر، يقول الله [ تعالى ] ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) » .

وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر:

قال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيم عن مُغِيرة، عن أبي مَعْشَر، عن إبراهيم، عن قَرْثَع الضَّبِّي، عن سلمان الفارسي قال:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: « أتدري ما يوم الجمعة؟ » قلت:هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم. قال: « لكن أدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ، لا يتطهر الرجل فيُحسِنُ طُهُوره، ثم يأتي الجُمُعة فيُنصِت حتى يقضي الإمام صلاته، إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة، ما اجْتُنبت المقتلة وقد رَوَى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه . »

وقال أبو جعفر بن جرير:حدثني المثنى [ بن إبراهيم ] حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المُجْمر، أخبرني صهيب مولى العُتْوارِي، أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد يقولان:خَطَبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: « والذي نَفْسي بِيَدِهِ » - ثلاث مرات- ثم أكَبَّ، فأكب كل رجل منا يبكي، لا ندري على ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حُمْر النَّعَم، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] ما من عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَواتِ الخمسَ، ويَصُومُ رمضانَ، ويُخرِج الزكاة، ويَجْتنبُ الكبائر السَّبعَ، إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجَنَّةِ، ثم قيل له:ادْخُل بسَلامٍ « . »

وهكذا رواه النسائي، والحاكم في مستدركه، من حديث الليث بن سعد، رواه الحاكم أيضا وابن حِبَّان في صحيحه، من حديث عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، به. ثم قال الحاكم:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .

تفسير هذه السبع:

وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال، عن ثَوْر بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجْتَنِبُوا السبعَ المُوبِقَاتِ » قيل:يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: « الشِّركُ بالله، وقَتْلُ النَّفْس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق، والسِّحرُ، وأكْلُ الربا، وأكل مال اليتيم، والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف، وقَذْفُ المحصنَات المؤمنات الغافلات » .

طريق أخرى عنه:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا فَهْد بن عَوْف، حدثنا أبو عَوَانة، عن عَمْرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الكبائر سَبْعٌ، أولها الإشراكُ بالله، ثم قَتْل النَّفْس بغير حقها، وأكْلُ الرِّبَا، وأَكْلُ مال اليتيمِ إلى أن يكبر، والفِرَارُ من الزَّحْفِ، ورَميُ المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بَعْدَ الهِجْرَةِ » .

فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب، وهو ضعيف عند عدم القرينة، ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال:

حدثنا أحمد بن كامل القاضي، إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد، حدثنا معاذ بن هانئ، حدثنا حَرْب بن شَدَّاد، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سِنَان، عن عبيد بن عُمَيْر، عن أبيه - يعني عُمَير بن قتادة- رضي الله عنه أنه حدثه - وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: « ألا إن أولياء الله المُصَلُّون من يُقِيم الصلواتِ الخمسَ التي كُتبت عليه، ويَصومُ رمضان ويَحتسبُ صومَهُ، يرى أنه عليه حق، ويُعطي زكاةَ ماله يَحْتسِبها، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها » . ثم إن رجلا سأله فقال:يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال: « تسع:الشِّركُ بالله، وقَتْلُ نَفْسِ مؤمن بغير حق وفِرارُ يوم الزّحْفِ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرِّبا، وقذفُ المُحصنَة وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا، ثم قال:لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر، ويقيم الصلاة، ويُؤتِي الزكاة، إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذَهَبٍ » .

وهكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا من حديث معاذ بن هانئ، به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطًا ثم قال الحاكم:رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان .

قلت:وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث، وقد ذكره ابن حِبَّان في كتاب الثقات، وقال البخاري:في حديثه نظر.

وقد رواه ابن جرير، عن سليمان بن ثابت الجحدري، عن سلم بن سلام، عن أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبيد بن عُمَير، عن أبيه، فذكره. ولم يذكر في الإسناد:عبد الحميد بن سنان، فالله أعلم .

حديث آخر في معنى ما تقدم:قال ابن مَرْدُويه:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد، عن المطلب عن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال:صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: « لا أقْسِمُ، لا أقْسِمُ » . ثم نزل فقال: « أبْشِرُوا، أبْشِرُوا، من صَلَّى الصلوات الخمس، واجْتَنَبَ الكبائر السَّبعَ، نُودِيَ من أبواب الجنة:ادخُل » . قال عبد العزيز:لا أعلمه إلا قال: « بسلام » . قال المطلب:سمعت من سأل عبد الله بن عَمْرو:أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن؟ قال:نعم: « عقوق الوالدين، وإشْرَاكٌ بالله، وقَتْلُ النفس، وقَذْفُ المُحْصنات، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، والفِرارُ من الزَّحفِ، وأكْلُ الرِّبَا » .

حديث آخر في معناه:قال أبو جعفر بن جرير في التفسير:حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا زياد بن مِخْرَاق عن طيسلة بن مياس قال:كنت مع النَّجدات، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر، فلقيت ابن عُمَر فقلت له:إني أصبت ذُنُوبا لا أراها إلا من الكبائر قال:ما هي؟ قلت:أصبت كذا وكذا. قال:ليس من الكبائر. قلت:وأصبت كذا وكذا. قال:ليس من الكبائر قال - بشيء لم يسمه طَيْسَلَة- قال:هي تسع وسأعدهن عليك:الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلما، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر وبكاء الوالدين من العقوق. قال زياد:وقال طيسلة لما رأى ابن عمر:فَرَقي. قال:أتخاف النار أن تدخلها؟ قلت:نعم. قال:وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت:نعم. قال:أحيّ والداك؟ قلت:عندي أمي. قال:فوالله لئن أنت ألَنْتَ لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثنا سليمان بن ثابت الْجَحْدَرِي الواسطي، حدثنا سلم بن سلام، حدثنا أيوب بن عتبة، عن طَيْسَلة بن علي النهدي قال:أتيت ابن عمر وهو في ظل أرَاك يوم عَرَفة، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت أخبرني عن الكبائر؟ قال:هي تسع. قلت:ما هي؟ قال:الإشراك بالله، وقذف المحصنة - قال:قلت:قبل القتل ؟ قال:نعم وَرَغْمَا - وقتل النفس المؤمنة، والفِرارُ من الزَّحْفِ، والسِّحْرُ، وأكْلُ الربا، وأكل مال اليتيم، وعُقوق الوالدين المسلمين، وإلْحاد بالبيت الحرام، قبْلَتكم أحياء وأمواتا .

هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا، وقد رواه علي بن الجَعْدِ، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي [ النهدي ] قال:أتيت ابن عمر عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وهو تحت ظلِّ أرَاكة، وهو يَصُبُّ الماء على رأسه، فسألته عن الكبائر، فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « هُنّ سبع » . قال:قلت:وما هُنّ؟ قال: « الإشراك بالله، وقذف المحصنة - قال:قلت:قبل الدم؟ قال:نعم ورغما - وقتلُ النفس المؤمنة، والفرار من الزَّحفِ، والسِّحرُ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعُقوق الوالدين، وإلحاد بالبيت الحرامِ قِبْلَتَكُم أحياء وأمواتا » .

وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب، عن أيوب بن عتبة اليماني - وفيه ضعف - والله أعلم.

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا زكريا بن عَديّ، حدثنا بَقِيَّة، عن بَحير بن سعد عن خالد بن مَعْدان:أن أبا رُهْم السمعي حدثهم، عن أبي أيوب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من عَبَدَ الله لا يُشرِكُ به شيئا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجْتَنَبَ الكبائر، فله الجنة - أو دخل الجنة » فسأله رجل:ما الكبائر؟ فقال الشرك بالله، وقَتْلُ نفس مسلمة، والفِرار يوم الزَّحْف « . »

ورواه أحمد أيضًا والنسائي، من غير وجه، عن بقية .

حديث آخر:روى الحافظ أبو بكر ابن مردويه في تفسيره، من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف- عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم، عن أبيه، عن جده قال:كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، قال:وكان في الكتاب: « إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة:إشْراكٌ باللهِ وقَتْل النفْسِ المؤمنة بغير حَقٍّ، والفِرارُ في سبيل الله يوم الزَّحْفِ، وعُقوق الوالدين، ورَمْي المحصنة، وتَعَلُّم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم » .

حديث آخر:فيه ذكر شهادة الزور؛ قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني عُبَيد الله بن أبي بكر قال:سمعت أنس بن مالك قال:ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر - أو سئل عن الكبائر- فقال: « الشِّرْكُ بالله، وقَتْلُ النفْسِ، وعُقوق الوالدين » . وقال: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » قال: « قول الزور - أو شهادة الزور » . قال شعبة:أكبر ظنى أنه قال « » شهادة الزور « . »

أخرجاه من حديث شعبة به. وقد رواه ابن مَرْدُويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس، بنحوه .

حديث آخر:أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بَكْرة، عن أبيه قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » ، قلنا:بلى يا رسول الله، قال: « الإشراك بالله، وعقوق الوالدين » وكان متكئا فجلس فقال: « ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور » . فما زال يكررها حتى قلنا:ليته سكت .

حديث آخر:فيه ذكر قتل الولد، وهو ثابت في الصحيحين، عن عبد الله بن مسعود قال:قلت:يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ - وفي رواية:أكبر- قال: « أن تجعل لله نِدا وهو خَلَقكَ » قلت:ثم أيّ؟ قال: « أن تَقْتُلَ ولدك خَشْيَةَ أن يَطْعَم معك » . قلت:ثم أيّ؟ قال: « أن تُزاني حَلِيلَةَ جارِك » ثم قرأ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] إلى قوله: إِلا مَنْ تَابَ [ الفرقان:68- 70 ] .

حديث آخر فيه ذكر شرب الخمر. قال ابن أبي حاتم:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثني أبو صخر:أن رجلا حَدّثه عن عمرة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عَمْرو بن العاص وهو بالحِجْر بمكة وسُئل عن الخمر، فقال:والله إنَّ عظيمًا عند الله الشيخُ مثلي يكذبُ في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب فسأله ثم رجع فقال:سألته عن الخمر فقال: « هي أكبر الكبائر، وأم الفواحش، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته » غريب من هذا الوجه.

طريق أخرى:رواها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن داود بن صالح، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه:أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وعُمَر بن الخطاب وأناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين، جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه، فأرسلوني إلى عبد الله بن عَمْرو بن العاص أسأله عن ذلك، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَلِكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيَّره بين أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسا، أو يزاني أو يأكل لحم خنزير، أو يقتله فاختار شُرْبَ الخمر وإنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أراده منه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا: « ما من أحد يشرب خمرًا إلا لم تُقْبَلْ له صَلاةٌ أربعين ليلة، ولا يموت أحد في مَثَانَتِهِ منها شيء إلا حَرَّم الله عليه الجنة فإنْ مات في أربعين ليلة مات ميتَةً جاهلية » .

هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا، وداود بن صالح هو التَّمار المدني مولى الأنصار، قال الإمام أحمد:لا أرى به بأسا. وذكره ابن حبان في الثقات، ولم أر أحدًا جرحه .

حديث آخر:عن عبد الله بن عَمْرو وفيه ذكْرُ اليمين الغَمُوس. قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شُعْبة، عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعُقُوق الوالدين، أو قَتْل النَّفْس - شعبة الشاك- واليمين الغَمُوس » . ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة:زاد البخاري وشيبان، كلاهما عن فراس، به .

حديث آخر:في اليمين الغموس: « قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قُنْفُذ التيمي، عن أبي أمامة الأنصاري، عن عبد الله بن أنيس الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أكبر الكبائر الشرك بالله، وعُقوق الوالدين، واليمين الغَمُوس، وما حَلَفَ حالف بالله يمين صَبْر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة، إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة » . وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، وعبد بن حميد في تفسيره، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدّب، عن الليث بن سعد، به. وأخرجه الترمذي [ في تفسيره ] عن عبد بن حميد [ به ] ثم قال:وهذا حديث حسن غريب، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة، ولا يعرف اسمه. وقد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث .

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي:وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني، عن محمد بن زيد، عن عبد الله بن أبي أمامة، عن أبيه عن عبد الله بن أنيس. فزاد عبد الله بن أبي أمامة.

قلت:هكذا وقع في تفسير ابن مَرْدُويه وصحيح ابن حبّان، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا، فسَح اللهُ في أجله .

حديث آخر:عن عبد الله بن عمرو، في التسبب إلى شتم الوالدين. قال ابن أبي حاتم:حدثنا عَمْرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن مِسْعر وسفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن حُمَيد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو - رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو - قال: « من الكبائر أن يَشْتُم الرجلُ والديه » :قالوا:وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: « يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه » .

وقد أخر هذا الحديث البخاري عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن عَمْرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن من أكبر الكبائر أن يَلْعَن الرجلُ والديه » . قالوا:وكيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديه؟‍‍‍! قال: « يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه » .

وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم، به مرفوعا بنحوه. وقال الترمذي:صحيح .

وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سِبابُ المسلم فُسُوقٌ، وقِتاله كُفْر » .

حديث آخر في ذلك:قال ابن أبي حاتم:حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا زهير بن محمد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من أكبر الكبائر عِرْضُ الرجل المسلم، والسَّبَّتَان والسَّبَّة » .

هكذا روي هذا الحديث، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه، عن جعفر بن مسافر، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من أكبر الكبائر استطالةُ المرْءِ في عِرْضِ رجلٍ مسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة » .

وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زَيْر عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله .

حديث آخر:في ذكْرُ الجمع بين الصلاتين من غير عذر؛ قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نُعَيم بن حماد، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان، عن أبيه، عن حَنَش عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من جمع بين الصَّلاتين من غير عُذْرٍ، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر » . وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف، عن المعتمر بن سليمان، به ثم قال:حَنَش هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره .

وقد روى ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة - يعنى العدوي- قال:قرئ علينا كتابُ عمر:من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير عذر- والفِرَار من الزَّحْفِ، والنُّهْبَة.

وهذا إسناد صحيح:والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرًا، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة، فما ظنك بمن ترك الصلاةِ بالكلية؟ ولهذا روى مسلم في صحيحه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة » وفي السنن عنه، عليه السلام، أنه قال: « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تَرَكَها فقد كَفر » وقال: « من ترك صلاةَ العَصْرِ فقد حبطَ عَمَلُه » وقال: « من فاتته صَلاةُ الْعَصْرِ فكأنما وَتِرَ أهله وماله » .

حديث آخر:فيه اليأسُ من رَوْح الله، والأمنُ من مَكْر الله. قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل، حدثنا أبي، حدثنا شَبِيب بن بِشْر، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال:ما الكبائر؟ فقال: « الشِّرْكُ بالله، واليأس من رَوْح الله، والقُنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، وهذا أكبر الكبائر » .

وقد رواه البزار، عن عبد الله بن إسحاق العطار، عن أبي عاصم النبيل، عن شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رجلا قال:يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: « الإشراك بالله، واليأس من رَوْح الله، والقُنوط من رحمة الله عز وجل » .

وفي إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفا، فقد روي عن ابن مسعود نحوُ ذلك قال ابن جرير:

حدثنى يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيم، أخبرنا مطرف، عن وَبْرة بن عبد الرحمن، عن أبي الطفيل قال:قال ابن مسعود:أكبر الكبائر الإشراك بالله والإياس من رَوْح الله، والقُنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.

وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق، عن وَبْرة، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود، به ثم رواه من طُرُق عدة، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود. وهو صحيح إليه بلا شك.

حديث آخر:فيه سوء الظن بالله؛ قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن إبراهيم بن بُنْدار، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان، حدثنا محمد بن مهاجر حدثنا أبو حذيفة البخاري، عن محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل » . حديث غريب جدًّا.

حديث آخر:فيه التعرب بعد الهجرة، قد تقدم في رواية عَمْرو بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا، قال أبو بكر بن مرْدويه:حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن رشدين، حدثنا عَمْرو بن خالد الحراني، حدثنا ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن سهل ابن أبي حَثْمة عن أبيه قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الكبائر سبع، ألا تسألوني عنهن؟ الشِّركُ بالله، وقَتْلُ النفْسِ، والفِرارُ يوم الزَّحْفِ، وأكْلُ مال اليتيم، وأكل الربا، وقَذْفُ المحصَنَة، والتعرب بعد الهجرة » .

وفي إسناده نظر، ورفعه غلط فاحش والصواب ما رواه ابن جرير:حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن سهيل بن أبي حثْمة عن أبيه قال:إني لفي هذا المسجد - مسجد الكوفة- وعلي، رضي الله عنه، يَخْطُب الناسَ على المنبر، فقال:يا أيها الناس، الكبائر سبع فأصاخ الناسُ، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال:لم لا تسألوني عنها؟ قالوا:يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال:الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي:يا أبت، التعرب بعد الهجرة، كيف لحق هاهنا؟ قال:يا بني، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سهمه في الفيء، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيًا كما كان .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا هاشم، حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان- عن منصور، عن هلال بن يسَاف، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: « ألا إنما هن أربع:ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفْسَ التي حَرَّمَ الله إلا بالحق، ولا تَزْنُوا، ولا تسرقوا » . قال:فما أنا بأشح عليهن منى، إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه، من حديث منصور، بإسناده مثله .

حديث آخر:تقدم من رواية عُمَر بن المغيرة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ من الكبائر » . والصحيح ما رواه غيره، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس [ قوله ] قال ابن أبي حاتم:وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله.

حديث آخر في ذلك: « قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ، فقالوا:الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغلول، والسحر، وأكل الربا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » فأين تجعلون الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ آل عمران:77 ] ؟! إلى آخر الآية. في إسناده ضعف، وهو حسن .

ذكر أقوال السلف في ذلك:

قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي، رضي الله عنهما، في ضمن الأحاديث المذكورة. وقال ابن جرير:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُليَّة، عن ابن عَوْن، عن الحسن:أن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا:نرى أشياء من كتاب الله، أمَرَ أن يُعمل بها فلا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر، رضي الله عنه، فقال:متى قدمت؟ فقال:منذ كذا وكذا قال:أبإذن قدمت؟ قال:فلا أدري كيف رد عليه. فقال:يا أمير المؤمنين، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا:إنا نرى أشياء من كتاب الله، أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال:اجمعهم لي. قال:فجمعتهم له - قال ابن عون:أظنه قال:في بَهْو- فأخذ أدناهم رجلا فقال:نشدتك بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال:نعم قال فهل أحصيته في نفسك؟ قال اللهم لا. قال:ولو قال:نعم لخصمه. قال:فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم. قال:فثكلت عمر أمه. أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟! قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات. قال:وتلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) ثم قال:هل علم أهل المدينة - أو قال:هل علم أحد- بما قدمتم؟ قالوا:لا. قال:لو علموا لوعظت بكم.

إسناد حسن ومتن حسن، وإن كان من رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري- حدثنا علي بن صالح، عن عثمان بن المغيرة، عن مالك بن جوين، عن علي، رضي الله عنه، قال:الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنَة، والفرار من الزَّحْف، والتعرب بعد الهجرة، والسِّحْر، وعُقوق الوالدين، وأكل الربا، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة.

وتقدم عن ابن مسعود أنه قال:أكبر الكبائر الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، عز وجل.

وروى ابن جرير، من حديث الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، كلاهما عن ابن مسعود قال:الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. ومن حديث سفيان الثوري وشعبة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ بن حُبيشِ، عن ابن مسعود قال:الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال:أكبر الكبائر:الشرك بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضول الماء بعد الري، ومنع طروق الفحل إلا بجُعْلٍ.

وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ » وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم:رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه ابن السَّبيل » ، وذكر الحديث بتمامه .

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعا: « من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم القيامة » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة الواسطي، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت:ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر. قال ابن أبي حاتم:يعني قوله: عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ ] الآية [ الممتحنة:12 ] .

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا زياد بن مِخْراق، عن معاوية بن قُرَّة قال:أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا قال:لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال. ثم سكت هُنية ثم قال:والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر، فما لنا ولها، ثم تلا ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] ) .

أقوال ابن عباس في ذلك:

روى ابن جرير، من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن طاوس قال:ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا:هي سبع، فقال:هي أكثر من سبع وسبع. قال سليمان:فما أدري كم قالها من مرة.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا قُبَيْصَة، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس قال:قلت لابن عباس:ما السبع الكبائر؟ قال:هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.

ورواه ابن جرير، عن ابن حميد، عن ليث، عن طاوس قال:جاء رجل إلى ابن عباس فقال:أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله؟ ما هن؟ قال:هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر عن طاوس، عن أبيه قال:قيل لابن عباس:الكبائر سبع؟ قال:هن إلى السبعين أقرب، وكذا قال أبو العالية الرياحي، رحمه الله.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شِبْل، عن قيس عن سعد، عن سعيد بن جُبير؛ أن رجلا قال لابن عباس:كم الكبائر؟ سبع؟ قال:هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث شبل، به.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) قال:الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. ورواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:الكبائر:كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري.

وقال ابن جرير:حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال:نبئت أن ابن عباس كان يقول:كل ما نهى الله عنه كبيرة. وقد ذكرت الطَّرْفة [ فيه ] قال:هي النظرة.

وقال أيضا:حدثنا أحمد بن حازم، أخبرنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن معدان، عن أبي الوليد قال:سألت ابن عباس عن الكبائر فقال هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة.

أقوال التابعين

قال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيّة، عن ابن عَوْن، عن محمد قال:سألت عَبِيدة عن الكبائر، فقال:الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرار يوم الزَّحْف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال:ويقولون:أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون:فقلت لمحمد:فالسحر؟ قال:إن البهتان يجمع شرا كبيرا .

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق، عن عُبيد بن عُمَير قال:الكبائر سبع، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله:الإشراك بالله منهن: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ [ الحج:31 ] و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [ النساء:10 ] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ البقرة:275 ] و إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [ النور:23 ] والفرار من الزحف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [ فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ] [ الأنفال:15 ] ، والتعرب بعد الهجرة: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [ محمد:25 ] ، وقتل المؤمن: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا الآية [ النساء:93 ] .

وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق، عن عُبَيد، بنحوه.

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء - يعني ابن أبي رباح- قال:الكبائر سبع:قتل النَّفْسِ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقُوق الوالدين، والفِرَار من الزَّحْف.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن مغيرة قال:كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، من الكبائر.

قلت:وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة، وهو رواية عن مالك بن أنس، رحمه الله:وقال محمد بن سيرين:ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر، وعمر، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي.

وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عبد الله بن عيَّاش، قال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) من الكبائر:الشرك، والكفر بآيات الله ورسوله، والسحر، وقتل الأولاد، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة، ومثل ذلك من الأعمال، والقول الذي لا يصلح معه عمل، وأما كل ذنب يصلح معه دين، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات.

وقال ابن جرير:حدثنا بِشْر بن معاذ، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية:إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجْتَنِبُوا الْكَبائر، وسَدِّدُوا، وأبْشِرُوا » .

وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس، وعن جابر مرفوعا: « شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي » ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف، إلا ما رواه عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شَفاعتي لأهْلِ الكبائرِ من أمتي » . فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه، عن عباس العَنْبري، عن عبد الرزاق ثم قال:هذا حديث حسن صحيح وفي الصحيح شاهد لمعناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة: « أترَوْنَها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ » .

وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل:هي ما عليه حدٌّ في الشرع.

ومنهم من قال:هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة. وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، في كتابه الشرح الكبير الشهير، في كتاب الشهادات منه:ثم اختلف الصحابة، رضي الله [ تعالى ] عنهم، فمن بعدهم في الكبائر، وفي الفرق بينها وبين الصغائر، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه:

أحدها:أنها المعصية الموجبة للحد.

والثاني:أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة. وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهو وإلى الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر.

والثالث:قال إمام الحرمين في « الإرشاد » وغيره:كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة.

والرابع:ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة:كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه، وكل معصية توجب في جنسها حدًّا من قتل أو غيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة، والرواية، واليمين.

هذا ما ذكره على سبيل الضبط.

ثم قال:وفصل القاضي الروياني فقال:الكبائر سبع:قتل النفس بغير الحق، والزنا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف. وزاد في « الشامل » على السبع المذكورة:شهادة الزور. وأضاف إليها صاحب العدة:أكل الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها، بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا، وسب أصحابه، وكتمان الشهادة بلا عذر، وأخذ الرشوة، والقيادة بين الرجال والنساء، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن بعد تعلمه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله ويقال:الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما يعد من الكبائر:الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.

ثم قال الرافعي:وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال.

قلت:وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة، وإذا قيل:إن الكبيرة [ هى ] ما توعد الشارع عليها بالنار بخصوصها، كما قال ابن عباس، وغيره، وتتبع ذلك، اجتمع منه شيء كثير، وإذا قيل:كل ما نهى الله [ تعالى ] عنه فكثير جدًّا، والله [ تعالى ] أعلم.

وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 32 )

قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ )

ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أمّ سلمة أنها قالت:قلت:يا رسول الله... فذكره، وقال:غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن أم سلمة قالت...

ورواه ابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من حديث الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:قالت أم سلمة:يا رسول الله، لا نقاتل فنستشهد، ولا نقطع الميراث! فنزلت: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) ثم نزلت: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [ آل عمران:195 ] .

ثم قال ابن أبي حاتم:وكذا روى سفيان بن عيينة، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ. وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة قالت:قلت:يا رسول الله... وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك.

وروى ابن جرير من حديث ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن شيخ من أهل مكة قال:نزلت هذه الآية في قول النساء:ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل .

وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، حدثنا الأشعث بن إسحاق، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في [ قوله ] ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) قال:أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت:يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، فنحن في العمل هكذا، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية: ( وَلا تَتَمَنَّوْا ) فإنه عدل مني، وأنا صنعته.

وقال السدي:قوله:في الآية ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) فإن الرجال قالوا:نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء:نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم:سلوني من فضلي قال:ليس بعرض الدنيا.

وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:قوله: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) قال ولا يتمنى الرجل فيقول: « ليت لو أن لي مال فلان وأهله! » فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله.

وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح: « لا حَسَد إلا في اثنتين:رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق، فيقول رجل:لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء » فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا، فقال: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي:في الأمور الدنيوية، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة، وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح:نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون. رواه ابن جرير.

ثم قال: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) أي:كل له جزاء على عمله بحسبه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهو قول ابن جرير.

وقيل:المراد بذلك في الميراث، أي:كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس:

ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) [ أي ] لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض، فإن هذا أمر محتوم، والتمني لا يجدي شيئًا، ولكن سلوني من فضلي أعطكم؛ فإني كريم وهاب.

وقد روى الترمذي، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد:سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سلُوا الله من فَضْلِه؛ فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج » .

ثم قال الترمذي:كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو نُعَيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح

وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جُبَير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله: « سَلُوا الله من فَضْلِه، فإن الله يحب أن يُسأل، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج » .

ثم قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي:هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 33 )

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبو صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والسدي، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في قوله: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) أي:ورثة. وعن ابن عباس في رواية:أي عَصَبة. قال ابن جرير:والعرب تسمي ابن العم مولى، كما قال الفضل بن عباس:

مَهْــلا بنـي عَمّنـا مَهْـلا مَوالينـا لا تُظْهـِرَن لنا مــا كــان مـدفُـونا

قال:ويعني بقوله: ( مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) من تركة والديه وأقربيه من الميراث، فتأويل الكلام:ولكلكم - أيها الناس- جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.

وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة - أنتم وهم- فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.

قال البخاري:حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) قال:ورثة، ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ) نُسخت، ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويُوصي له.

ثم قال البخاري:سمع أبو أسامة إدريس، وسمع إدريس عن طلحة .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأوديّ، أخبرني طلحة بن مُصَرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ] ) الآية، قال:كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت هذه الآية: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) نُسخت. ثم قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) .

وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حَجّاج، عن ابن جُرَيْج - وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل، يقول:ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ، فلا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شدَّةً، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ » . فنسختها هذه الآية: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ الأنفال:75 ] .

ثم قال:وروي عن سعيد بن المُسَيَّب، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح، والشَّعْبِي، وسليمان بن يَسار، وعكرمة، والسُّدِّي، والضَّحَّاك، وقتادة، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا:هم الحلفاء.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا شَريك، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس - ورفعه- قال: « ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا حدة وشدة » .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شريك، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل عن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حِلْفَ في الإسلام، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شِدَّة، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة » هذا لفظ ابن جرير .

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « شهِدتُ حِلْف المُطيَّبين، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا أنكثُهُ » . قال الزهري:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لم يُصب الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً » . قال: « ولا حِلْف في الإسلام » . وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، بتمامه .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرني مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم:أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال:فقال: « ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفٍ في الإسلام » .

وكذا رواه أحمد عن هشيم .

وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جُدْعان، عن جدته، عن أم سلمة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حِلْف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّةً » .

وحدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال:لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال: « يا أيها الناس، ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً، ولا حِلْفَ في الإسلامِ » .

ثم رواه من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عَمْرو بن شعيب، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا حِلْفَ في الإسْلامِ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً » .

وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد، وهو أبو بكر بن أبي شيبة، بإسناده، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة، ثلاثتهم عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة - بإسناده، مثله.

ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر، به. ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، عن زكريا، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هشيم، قال:مغيرة أخبرنى، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم:أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، فقال: « ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ » .

وكذا رواه شعبة، عن مغيرة - وهو ابن مِقْسَم- عن أبيه، به.

وقال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين قال:كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع، مع ابن ابنها موسى بن سعد - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر - فقرأت عليها ( وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) فقالت:لا ولكن: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) قالت:إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن، حين أبى أن يسلم، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه.

رواه ابن أبي حاتم، وهذا قول غريب، والصحيح الأول، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك، وإن كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود والعهود، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة:لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة.

وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن أحمد بن حنبل،رحمه الله.

والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) أي:ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه، وهم يرثونه دون سائر الناس، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ » أي:اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة، وقوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ) أي:قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم، أي من الميراث، فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له.

وقد قيل:إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل، وحكم الماضي أيضا، فلا توارث به، كما قال ابن أبي حاتم.

حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إدريس الأودي، أخبرني طلحة بن مُصَرّف، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) قال:من النصرة والنصيحة والرّفادة، ويوصي له، وقد ذهب الميراث.

ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد، وأبي مالك، نحو ذلك.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( وَالَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ ) قال:كان الرجل يعاقد الرجل، أيهما مات ورثه الآخر، فأنزل الله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [ الأحزاب:6 ] . يقول:إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وذلك هو المعروف.

وهذا نص غير واحد من السلف:أنها منسوخة بقوله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا

وقال سعيد بن جبير: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:من الميراث. قال:وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير.

وقال الزهري عن سعيد بن المسيب:أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير.

وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ( فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) أي:من النصرة والنصيحة والمعونة، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث - حتى تكون الآية منسوخة، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط، فهي محكمة لا منسوخة.

وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف، وكما قال ابن عباس:كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك, فكيف يقول:إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟! والله أعلم.

 

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ( 34 )

يقول تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) أي:الرجل قَيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت ( بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) أي:لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة؛ ولهذَا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك المُلْك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « لن يُفلِح قومٌ وَلَّوا أمْرَهُم امرأة » رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك.

( وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) أي:من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قَيّما عليها، كما قال [ الله ] تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ الآية [ البقرة:228 ] .

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) يعني:أمراء عليها أي تطيعه فيما أمرها به من طاعته، وطاعتُه:أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل، والسدي، والضحاك.

وقال الحسن البصري:جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعديه على زوجها أنه لَطَمَها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « القِصَاص » ، فأنـزل الله عز وجل: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) الآية، فرجعت بغير قصاص.

رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من طرق، عنه. وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة، وابن جُرَيج والسدي، أورد ذلك كله ابن جرير. وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال:

حدثنا أحمد بن علي النسائي، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي، حدثنا محمد بن محمد الأشعث، حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد، حدثني أبي، عن جدي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال:أتى النبي رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت:يا رسول الله، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري، وإنه ضربها فأثر في وجهها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليْسَ ذَلِكَ لَه » . فأنـزل الله: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] ) أي:قوامون على النساء في الأدب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَرَدْتُ أمْرًا وأرَادَ الله غَيْرَه » .

وقال الشعبي في هذه الآية: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) قال:الصداق الذي أعطاها، ألا ترى أنه لو قَذَفَها لاعنَها، ولو قذفته جُلِدت.

وقوله: ( فَالصَّالِحَاتُ ) أي:من النساء ( قانِتَاتٌ ) قال ابن عباس وغير واحد:يعني مطيعات لأزواجهن ( حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ ) .

قال السدي وغيره:أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله.

وقوله: ( بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) أي:المحفوظ من حفظه.

قال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا سعيد بن أبي سعيد الْمقبري، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خَيرُ النساءِ امرأةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ وإذا أمَرْتَها أطاعتكَ وإذا غِبْتَ عنها حَفِظتْكَ في نَفْسِها ومالِكَ » . قال:ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) إلى آخرها.

ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، به مثله سواء .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عُبيد الله بن أبي جعفر:أن ابن قارظ أخبره:أن عبد الرحمن بن عوف قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا صَلَّت المرأة خَمسها، وصامت شهرها وحفظت فَرْجَها؛ وأطاعت زوجها قِيلَ لها:ادخُلِي الجنة من أيِّ أبواب الجنة شِئْتِ » .

تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف .

وقوله تعالى ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) أي:والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن. والنشوز:هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المُعْرِضَة عنه، المُبْغِضَة له. فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظْها وليخوّفها عقابَ الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تَسْجُدَ لزوجها، من عِظَم حَقِّه عليها » وروى البخاري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إلى فِرَاشِه فأبَتْ عليه، لَعَنَتْهَا الملائكة حتى تُصْبِح » ورواه مسلم، ولفظه: « إذا باتت المرأة هَاجرة فِراش زَوْجِها، لعنتها الملائكة حتى تُصبِح » ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ) .

وقوله: ( وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الهجران هو أن لا يجامعها، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره. وكذا قال غير واحد، وزاد آخرون - منهم:السدي، والضحاك، وعكرمة، وابن عباس في رواية- :ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها.

وقال علي بن أبي طلحة أيضا، عن ابن عباس:يعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد.

وقال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم، ومحمد بن كعب، ومِقْسم، وقتادة:الهجر:هو أن لا يضاجعها.

وقد قال أبو داود:حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي حرّة الرقاشي، عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فَإِن خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ » قال حماد: يعني النكاح .

وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال:يا رسول الله، ما حق امرأة أحدنا؟ قال: « أن تُطعمها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكْتَسَيْتَ، ولا تَضْرِب الوَجْهَ ولا تُقَبِّح، ولا تَهْجُر إلا في البَيْتِ » .

وقوله: ( وَاضْرِبُوهُنَّ ) أي:إذا لم يَرْتَدِعْن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه قال في حجة الوداع: « واتَّقُوا اللهَ في النِّساءِ، فإنهن عندكم عَوَانٌ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشكم أحدا تكرهونه، فإن فَعَلْن فاضربوهن ضَرْبا غير مُبَرِّح، ولهن رزْقُهنَّ وكِسْوتهن بالمعروف » .

وكذا قال ابن عباس وغير واحد:ضربا غير مبرح. قال الحسن البصري:يعني غير مؤثر. قال الفقهاء:هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:يهجرها في المضجع، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضرب ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما، فإن أقبلت وإلا فقد حَل لك منها الفدية.

وقال سفيان بن عُيَينة، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تَضْرِبوا إماءَ اللهِ » . فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:ذئِرَت النساء على أزواجهن. فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد أطافَ بآل محمد نِسَاءٌ كثير يَشْكُونَ أزواجهن، ليس أولئك بخياركم » رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود - يعني أبا داود الطيالسي- حدثنا أبو عوانة، عن داود الأوْدِيِّ، عن عبد الرحمن المُسْلي عن الأشعث بن قيس، قال ضفْتُ عمر، فتناول امرأته فضربها، وقال:يا أشعث، احفظ عني ثلاثا حَفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:لا تَسألِ الرَّجُلَ فِيمَ ضَرَبَ امرَأَتَهُ، ولا تَنَم إلا على وِتْر... ونسي الثالثة.

وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن داود الأوديّ، به .

وقوله: ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا ) أي:فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها، مما أباحه الله له منها، فلا سبيل له عليها بعد ذلك، وليس له ضربها ولا هجرانها.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ( 35 )

ذكر [ تعالى ] الحال الأول، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني وهو:إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا )

قال الفقهاء:إذا وقع الشقاق بين الزوجين، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة، ينظر في أمرهما، ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة، وثقة من قوم الرجل، ليجتمعا وينظرا في أمرهما، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق وتَشَوف الشارع إلى التوفيق؛ ولهذا قال: ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أمر الله عز وجل، أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل، ورجلا مثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء، فإن كان الرجل هو المسيء، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال:بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر:بلغني أن عثمان بعثهما، وقال لهما:إن رأيتما أن تُجْمَعا جُمِعْتُما، وإن رأيتما أن تُفَرَّقا فُرَّقْتما .

وقال:أنبأنا ابن جريج، حدثني ابن أبي مليكة، أن عَقيل بن أبي طالب تَزَوَّج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت:تصير إليَّ وأنفق عليك. فكان إذا دخل عليها قالت:أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ قال:على يسارك في النار إذا دخلت. فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان، فذكرت له ذلك فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس:لأفرِّقَن بينهما. فقال معاوية:ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال:شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها، مع كل واحد منهما فِئَام من الناس، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما، فقال علي للحَكَمَين:أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا، جمعتما. فقالت المرأة:رضيت بكتاب الله لي وعَليّ. وقال الزوج:أما الفرقة فلا. فقال علي:كذبت، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله، عز وجل، لك وعليك.

رواه ابن أبي حاتم، ورواه ابن جرير، عن يعقوب، عن ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، مثله. ورواه من وجه آخر، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي، به .

وهذا مذهب جمهور العلماء:أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة، حتى قال إبراهيم النخعي:إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا. وهو رواية عن مالك.

وقال الحسن البصري:الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق، وكذا قال قتادة، وزيد بن أسلم. وبه قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود، ومأخذهم قوله تعالى: ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) ولم يذكر التفريق.

وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين، فإنه يُنَفَّذُ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف.

وقد اختلف الأئمة في الحكمين:هل هما منصوبان من عند الحاكم، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان، أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين:فالجمهور على الأول؛ لقوله تعالى: ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ) فسماهما حكمين، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية، والجديدُ من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

الثاني منهما، بقول علي، رضي الله عنه، للزوج - حين قال:أما الفرقة فلا- قال:كذبت، حتى تقر بما أقرت به، قالوا:فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج، والله أعلم.

قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر:وأجمع العلماء على أن الحكمين - إذا اختلف قولهما- فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا:هل ينفذ قولهما في التفرقة؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ( 36 )

يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: « أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد ؟ » قال:الله ورسوله أعلم. قال: « أن يَعْبدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئا » ، ثم قال: « أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك؟ ألا يُعَذِّبَهُم » ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن الله، سبحانه، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرا ما يقرنُ الله، سبحانه، بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [ لقمان:14 ] وكقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ الإسراء:23 ] .

ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، كما جاء في الحديث: « الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ » .

ثم قال: ( وَالْيَتَامَى ) وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم.

ثم قال: ( وَالْمَسَاكِينِ ) وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم. وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.

وقوله: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) قال علي بن أبي طَلْحَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) يعني الذي بينك وبينه قرابة، ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) الذي ليس بينك وبينه قرابة. وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ، ومُجَاهد، وميمون بنِ مهْرانَ، والضحاك، وزيد بْنِ أَسْلَمَ، ومقاتل بن حيَّان، وقتادة.

وقال أبو إسحاق عن نَوْف البِكَالِي في قوله: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) يعني المسلم ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) يعني اليهودي والنصراني رواه ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي حَاتم.

وقال جَابِرٌ الْجُعْفِيّ، عن الشعبي، عن علي وابنِ مسعود: ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ) يعني المرأة. وقال مُجَاهِد أيضا في قوله: ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) يعني الرفيق في السفر.

وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فنذكر منها ما تيسر، والله المستعان:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمر بن محمد بن زيد:أنه سمع أباه محمدًا يحدث، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما زال جِبرِيل يوصيني بالْجَارِ حَتِّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه » .

أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، به .

الحديث الثاني:قال الإمامُ أحمدُ:حدثنا سُفْيَانُ، عن داودَ بنِ شَابُورٍ، عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمْرٍو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالْجَارِ حتى ظننْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ » .

وروى أبو داود والترمذي نحوه، من حديث سفيان بن عيينة، عن بَشِيرِ أبي إسْمَاعيلَ - زاد الترمذي:وداود بن شابور - كلاهما عن مجاهد، به ثم قال الترمذي:حسن غريب من هذا الوجه وقد رُوي عن مجاهد عن عائشةَ وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الثالث عنه:قال أحمد أيضا:حدثنا عبد الله بن يَزِيد، أخبرنا حَيْوةُ، أخبرنا شَرْحَبِيلُ بنُ شُرَيكٍ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خَيْرُ الأصْحَابِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرانِ عند اللهِ خيرهم لِجَارِهِ » .

ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح - به، وقال: [ حديث ] حسن غريب .

الحديث الرابع:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عن عُمَر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يَشْبَعُ الرجل دون جَارِهِ » . تفرد به أحمد .

الحديث الخامس:قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا ظَبْية الكَلاعِيّ، سمعت المقدادَ بن الأسود يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [ « ما تقولون في الزنا؟ » قالوا:حرام حَرَّمَهُ اللهُ ورسُولُه، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال:رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ] لأنْ يَزني الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَة، أَيْسَرُ عليه من أَن يزنيَ بامرَأَةِ جَارِهِ « . قال:ما تقولون في السَّرِقَة؟ قالوا:حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فهي حرام. قَالَ » لأن يَسْرِقَ الرجل مِن عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرِقَ مِنْ جَارِهِ « . »

تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ:قلت:يا رسول الله، أيُّ الذَّنْب أَعْظَمُ؟ قَالَ: « أن تجعل لله نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ » . قُلْتُ:ثُمَّ أَيُّ؟ قال: « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَن يُطْعَم معك » . قُلتُ:ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: « أَنْ تُزَاني حَليلةَ جَارِكَ » .

الحديث السادس:قال الإمامُ أحمد:حدثنا يَزِيدُ، أخبرنا هِشَامُ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أبِي الْعَالية، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار قال:خَرَجْتُ من أهلي أريدُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذَا به قَائِمٌ ورجل مَعَهُ مُقْبِل عَليه، فَظَنَنْتُ أَنَّ لهما حَاجة - قَالَ الأنْصَارِيُّ:لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أَرْثِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من طُولِ الْقِيَامِ، فَلمَّا انْصَرفَ قُلْتُ:يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرَّجُلُ حتى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك من طُولِ الْقِيَامِ. قال: « وَلَقَدْ رَأَيتَه؟ » قُلتُ:نعم. قَالَ: « أَتَدْرِي مَن هُوَ؟ » قُلْتُ:لا. قَال: « ذَاكَ جِبْرِيِلُ، ما زال يُوصِينِي بِالجِارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُورثُه. ثُمَّ قال:أَمَا إِنَّك لَو سَلَّمْتَ عليه، رد عليك السلام » .

الحديث السابع:قال عبد بن حُمَيْدٍ في مسنده:حدثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْد، حدثنا أَبُو بَكْرٍ - يعني الْمدَنيّ- عن جابر بن عبد الله قال:جاء رجل من الْعَوَالِي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجِبْرِيلُ عليه السلام يُصَلِّيانِ حَيْثُ يُصَلَّى على الْجَنائِز، فلما انصرف قال الرجل:يا رسولَ الله، من هذا الرجل الذي رأيت معك؟ قال: « وقد رأيْتَه؟ » قال:نعم. قال: « لقد رأَيْتَ خَيْرًا كثيرًا، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بالجار حتى رُئِيت أَنَّه سَيُورثُه » .

تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.

الحديث الثامن:قال أبو بكر البزار:حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الرَّبِيعِ الْحَارِثِيّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي فُدَيْك، أخبرني عبد الرَّحمن بنُ الْفَضل عن عَطَاء الخَراساني، عن الحسن، عن جابر بنِ عَبْدِ الله قال:قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « الجِيرانُ ثَلاثَةٌ:جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا، وجار له حقَّان، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ » .

قال البَزَّارُ:لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك .

الحديث التاسع:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عِمْرَانَ، عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْد اللهِ، عن عائشة؛ أنها سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: « إنَّ لي جَارَيْنِ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: » إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا « . »

ورواه البخاري من حديث شعبة، به .

وقوله: ( وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ ) قال الثوريُّ، عن جابر الْجُعْفِي، عن الشَّعبي، عن علي وابنِ مسعودٍ قالا هي المرأة.

وقال ابن أبي حاتم:ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات- نحوُ ذلك.

وقال ابن عباس ومجاهدٌ، وعِكْرِمَةُ، وقَتَادةُ:هو الرفيق في السفر. وقال سعيد بن جُبَيْرٍ:هو الرفيق الصالح. وقال زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ:هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر.

وأما ( ابْنِ السَّبِيلِ ) فعن ابن عباس وجماعة هو:الضيف.

وقال مجاهد، وأبو جَعْفَرٍ الباقرُ، والحسنُ، والضحاكُ، ومقاتلُ:هو الذي يمر عليك مجتازًا في السفر.

وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضيف:المار في الطريق، فهما سواء. وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة، وبالله الثقة وعليه التكلان.

وقوله: ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) وصية بالأرقاء؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يُوصِي أُمَّتَه في مرضِ الموت يقول: « الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم » . فجعل يُرَدِّدُها حتى ما يَفِيضُ بها لسانه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بَقِيّة، حدثنا بَحِيرُ بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن الْمِقْدَامِ بن مَعْدِ يكَرِب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أطعمت نَفْسَك فهو لك صدقةٌ، وما أطعمتَ وَلَدَكَ فهو لك صدقة، وما أطعمت زَوْجَتَكَ فهو لك صَدَقَةٌ، ومَا أطعَمْتَ خَادِمَكَ فهو لَك صَدَقَهٌ » .

ورواه النسائي من حديث بَقِيَّة، وإسناده صحيح ولله الحمد.

وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لِقَهْرَمَانَ له:هل أعطيت الرقيق قُوتَهم؟ قال:لا. قال:فانطلق فأعطهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم » رواه مسلم .

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « للمملوك طعامه وكِسْوتُه، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يُطيق » . رواه مسلم أيضا .

وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكْلَةً أو أكْلَتين، فإنه وَليَ حَرّه وعلاجه » .

أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مَشْفُوها قليلا فَلْيضع في يده أكلة أو أكلتين « . »

وعن أبي ذر، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « هم إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم » . أخرجاه .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ) أي:مختالا في نفسه، معجبا متكبرا، فخورا على الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض.

قال مجاهد في قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا ) يعني:متكبرا ( فَخُورًا ) يعني:يَعُد ما أعطي، وهو لا يشكر الله، عز وجل. يعني:يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كَثيرٍ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال:لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا - وتلا ( وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ] ) ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا - وتلا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [ مريم:32 ] .

وروى ابن أبي حاتم، عن العوام بن حَوْشَبٍ، مثله في المختال الفخور. وقال:

حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأسود بن شَيْبَان، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال:قال مُطَرِّف:كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت:يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: « إن الله يحب ثلاثة ويُبْغض ثلاثة » ؟ قال:أجل، فلا إخالنى أكذب على خليلي، ثلاثا. قلت:من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال:المختال الفخور، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنـزل؟ ثم قرأ الآية: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ) [ النساء:36 ] .

وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْبُ عن خالد، عن أبي تَمِيمَةَ عن رجل من بَلْهُجَيم قال:قلت يا رسول الله، أوصني. قال: « إياك وإسبالَ الإزار، فإن إسبال الإزار من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المَخِيلة » .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 37 )

يقول تعالى ذامًّا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجُنُب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء - ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وأي داء أَدْوَأ من البخل؟ » . وقال: « إياكم والشّحَ، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا » .

وقوله: ( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) فالبخيل جَحُود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين، لا في أكله ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى: إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ العاديات:6 ، 7 ] أي:بحاله وشمائله، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ العاديات:8 ] وقال هاهنا: ( وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) ولهذا توعَّدهم بقوله: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه.

وفي الحديث: « إن الله إذا أنعم نعمةً على عبدٍ أحبَّ أن يَظْهَرَ أثرُها عليه » وفي الدعاء النبوي: « واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها - ويروى:قائليها- وأتممها علينا » .

وقد حمل بعضُ السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك؛ ولهذا قال: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) رواه ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس. وقاله مجاهد وغير واحد.

ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء، وكذا الآية التي بعدها ، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ .

 

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ( 38 ) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ( 39 )

فَذَكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار، وهم:العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال:ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله:كذبت؛ إنما أردت أن يقال:جواد فقد قيل. أي:فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك.

وفي الحديث:أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ: « إن أباك رامَ أمرًا فبلغه » .

وفي حديث آخر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جُدعان:هل ينفعه إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فقال: « لا إنه لم يقل يوما من الدهر:رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » .

ولهذا قال: ( وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ] ) أي:إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح ( وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ) ولهذا قال الشاعر عَـن المَـرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه فكـلُّ قــرين بـالمقـارن يَقْتَــدي

ثم قال تعالى: ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ] ) أي:وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة، وعَدَلُوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها.

وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ) أي:وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة، عياذا بالله من ذلك [ بلطفه الجزيل ] .

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( 40 ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ( 41 ) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ( 42 )

يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ] [ الأنبياء:47 ] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ] [ لقمان:16 ] وقال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .

وفي الصحيحين، من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ، وفيه:فيقول الله عز وجل: « ارْجِعُوا، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة خردل من إيمان، فأخرجوه من النار » . وفي لفظ: « أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا » ثم يقول أبو سعيد:اقرؤوا إن شئتم: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ] ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا عيسى بن يُونُس، عن هارونَ بن عنترة عن عبد الله بن السائب، عن زَاذَانَ قال:قال عبدُ الله بن مَسْعُود:يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخِرين:هذا فلانُ بنُ فلانٍ، من كان له حق فليأت إلى حقه. فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها. ثم قرأ: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101 ] فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا، فينصَب للناس فينادَي:هذا فلانُ بن فلانٍ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه. فيقول:رَبّ، فَنِيَت الدنيا، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم؟ قال:خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله ففَضَلَ له مثقالُ ذرة، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة، ثم قرأ علينا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) قال:ادخل الجنة؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك:ربِّ فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير؟ فيقول:خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار.

ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر، عن زاذان - به نحوه. ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثتا أبو نُعَيْمٍ، حدثنا فُضَيلٌ - يعني ابن مرزوق- عن عطيَّة العَوْفي، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال:نزلت هذه الآية في الأعراب: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [ الأنعام:160 ] قال رجل:فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن؟ قال:ما هو أفضلُ من ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .

وحدثنا أبو زُرْعَةَ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ، حدثني عبد الله بن لَهِيعَةَ، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله ( وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة، ولا يخرج من النار أبدا. وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال:يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء؟ قال: « نعم هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار » .

وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه حدثنا عِمْرَانُ، حدثنا قتادة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة » .

وقال أبو هريرة، وعِكْرِمَةُ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، في قوله: ( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني:الجنة.

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا سُلَيْمانُ - يعني ابن الْمُغَيْرَةِ- عن علي بن زَيْدٍ، عن أبي عثمان قال:بلغني عن أبي هريرة أنه قال:بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال:فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا، فلقيته فقلت:بلغني عنك حديث أنك تقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة » قال أبو هريرة:لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة » ثم تلا ( يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) فمن يقدره قدره .

رواه الإمام أحمد فقال:حدثنا يَزِيدُ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال:أتيت أبا هريرة فقلت له:بلغنى أنك تقول:إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة؟ قال:وما أعجبك من ذلك؟ فوالله لقد سمعت - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم- كذا قال أبي - يقول: « إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة » .

علي بن زيد في أحاديثه نكارة، فالله أعلم.

وقوله: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) يقول تعالى - مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه:فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام؟ كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ] [ الزمر:69 ] وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ] [ النحل:89 ] .

قال البخاري:حدثنا محمد بن يُوسُفَ، حدثنا سفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن إبراهيمَ، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم « اقرأ علي » قلت:يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: « نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري » فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) قال: « حسبك الآن » فإذا عيناه تَذْرِفَان.

ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش، به وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود، فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رَزِين، عنه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ، فأتى على هذه الآية: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه، فقال: « يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه، فكيف بمن لم أره؟ » .

وقال ابن جرير:حدثني عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود- ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « شهيد عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم » .

وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في « التذكرة » حيث قال:باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته:قال:أخبرنا ابن المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول:ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول الله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) فإنه أثر، وفيه انقطاع، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه. وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده: [ قد تقدم ] أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة. قال:ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم، ويوم الجمعة مع الأنبياء، عليهم السلام.

وقوله ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ ) أي:لو انشقت وبلعتهم، مما يرون من أهوال الموقف، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ] وقوله ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئا.

قال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا حكَّام، حدثنا عمرو، عن مُطرِّف، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال:أتى رجل ابن عباس فقال:سمعتُ الله، عز وجل، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا- : وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [ الأنعام:23 ] وقال في الآية الأخرى: ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) فقال ابنُ العباس:أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا:تعالوا فَلْنَجْحَدْ، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )

وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر قال:جاء رجل إلى ابن عباس فقال:أشياء تختلف علي في القرآن. قال:ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال:ليس هو بالشك. ولكن اختلاف. قال:فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال:أسمع الله يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [ الأنعام:23 ] وقال ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) ؛ فقد كتموا! فقال ابن عباس:أما قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحد المشركون، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك: ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا )

وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك:إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس فقال:يا ابن عباس، قول الله: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) وقوله وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ؟ فقال له ابن عباس:إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون:إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده، فيقولون:تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ قال:فَيُخْتَم على أفواههم، وتُسْتَنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تَمَنَّوْا لو أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم ( وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) رواه ابن جرير.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ( 43 )

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محلها - وهي المساجد- للجُنُب، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة، عند قوله [ تعالى ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ] الآية [ البقرة:219 ] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر، فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية، تلاها عليه، فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله [ تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ المائدة:90، 91 ] فقال عمر:انتهينا، انتهينا.

وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو - وهو ابن شُرَحبيل- عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه:فنزلت الآية التي في [ سورة النساء ] : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي:ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران. لفظ أبي داود.

وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم .

حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شُعْبَة، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال:سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال:نزلت في أربعُ آيات:صنع رجل من الأنصار طعاما، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر بها أنف سعد، فكان سعد مَفْزور الأنف، وذلك قبل أن تحرم الخمر، فنزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية.

والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة. ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه، من طُرُق عن سِماكٍ به .

سبب آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمَّار، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي، عن علي بن أبي طالب قال:صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا - قال:فقرأ:قل يا أيها الكافرون، ما أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون. [ قال ] فأنزل الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )

هكذا رواه ابن أبي حاتم، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيْدٍ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، به، وقال:حسن صحيح .

وقد رواه ابن جرير، عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سفيانَ الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: ( قُلْ [ يَا ] أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فخلط فيها، فنزلت: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) .

وهكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث الثوري، به.

ورواه ابن جَرِير أيضا، عن ابن حُمَيْدٍ، عن جَرِيرٍ، عن عطاء، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال:كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها، وذلك قبل أن يحرم الخمر، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فلم يقرأها كما ينبغي، فأنزل الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )

ثم قال:حدثني المُثَنَّى، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال، حدثنا حَمَّاد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب - وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب، فقرأ:قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله، عز وجل، هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) .

وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ] ) وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى، قبل أن تحرم الخمر، فقال الله: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) الآية. رواه ابن جرير. وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ. وقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة:كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.

وقال الضَّحَّاكُ في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) لم يعن بها سُكْرَ الخمر، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ثم قال ابن جرير:والصواب أن المراد سُكْر الشراب. قال:ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب؛ لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف .

وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له؛ فإن الفهم شرط التكليف. وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما، والله أعلم. وعلى هذا فيكون كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ آل عمران:102 ] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.

وقوله: ( حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) هذا أحسن ما يقال في حد السكران:إنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا أيوب، عن أبي قِلابةَ، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب، به وفي بعض ألفاظ الحديث فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه.

وقوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) قال:لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال:تمر به مرًّا ولا تجلس. ثم قال:ورُوي عن عبد الله بن مسعود، وأنس، وأبي عُبَيْدَةَ، وسعيد بن المُسَيَّبِ، وأبي الضُّحَى، وعطاء، ومُجَاهد، ومسروق، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم، وأبي مالك، وعَمْرو بن دينار، والحكم بن عُتَيْبَة وعِكْرِمَة، والحسن البصري، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وابن شهاب، وقتادَة، نحوُ ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني المُثَنَّى، حدثنا أبو صالح، حدثني اللَّيْثُ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ )

ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ، رحمه اللهُ، ما ثبت في صحيح البخاري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر » .

وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، علما منه أن أبا بكر، رضي الله عنه، سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه، رضي الله عنه. ومن روى: « إلا باب علي » كما وقع في بعض السنن، فهو خطأ، والصحيح. ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه؛ إلا أن بعضهم قال:يمنع مرورهما لاحتمال التلويث. ومنهم من قال:إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، رضي الله عنها قالت:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ناوليني الخُمْرة من المسجد » فقلت:إني حائض. فقال: « إن حيضتك ليست في يدك » . وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم.

وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة العامري، عن جَسْرة بنت دجاجة، عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ » قال أبو مسلم الخَطَّابي:ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا:أفلت مجهول. لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري، عن مَحْدوج الذهلي، عن جَسْرة، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، به. قال أبو زرعة الرازي:يقولون:جسْرة عن أم سلمة. والصحيح جسرة عن عائشة.

فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي، من حديث سالم بن أبي حفصة، عن عطية، عن أبي سعيد الخُدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا علي، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك. إنه حديث ضعيف لا يثبت؛ فإن سالما هذا متروك، وشيخه عطية ضعيف والله أعلم.

قول آخر في معنى الآية:قال ابن أبي حاتم:حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن زِرّ بن حُبَيش، عن علي: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) قال:لا يقرب الصلاة، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء.

ثم رواه من وجه آخر، عن المنهال بن عمرو، عن زِرّ، عن علي بن أبي طالب، فذكره. قال:ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير، والضحاك، نحو ذلك.

وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن المِنْهال، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش - عن علي فذكره. ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ، عن ابن عباس، فذكره. ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وعن مجاهد، والحسن بن مُسْلِمٍ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ، مثل ذلك، وروي من طريق ابن جُرَيْج، عن عبد الله بن كَثِير قال:كنَّا نسمع أنه في السفر.

ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي قِلابة، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حججٍ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير » .

ثم قال ابن جرير - بعد حكايته القولين- :والأوْلَى قول من قال: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ ) إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله:أو وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ المائدة:6 ] إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله: ( وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) لو كان معنيا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ) معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل. قال:والعابر السبيل:المجتاز مَرّا وقطعا. يقال منه: « عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا » ومنه قيل: « عبر فلان النهر » إذا قطعه وجاوزه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار:هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار؛ لقوتها على قطع الأسفار.

وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا، والله أعلم .

وقوله: ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة:أبو حنيفة ومالك والشافعي:أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم، إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح:أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك؛ قال سعيد بن منصور:

حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدرَاوَرْدِي- عن هِشَام بنِ سَعْدٍ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار قال:رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، فالله أعلم.

وقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) أما المرض المبيح للتيمم، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء. ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل، حدثنا قيس عن خَصِيف عن مجاهد في قوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى ) قال:نزلت في رجل من الأنصار، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.

هذا مرسل. والسفر معروف، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير.

وقوله: ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ) الغائط:هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر.

وأما قوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) فقرئ: « لَمَسْتم » و « لامستم » واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك، على قولين:

أحدهما: « أن ذلك كناية عن الجماع » لقوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [ البقرة:237 ] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ الأحزاب:49 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) قال:الجماع. ورُوي عن علي، وأبيّ بن كعب، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وعُبَيد بن عمير، وسعيد بن جبير، والشَّعْبي، وقتادة، ومقاتل بن حيَّان - نحوُ ذلك.

وقال ابن جرير:حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ، حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا شُعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير قال:ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي:ليس بالجماع. وقال ناس من العرب:اللمس الجماع:قال:فأتيت ابن عباس فقلت له:إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي. ليس بالجماع. وقالت العرب:الجماع. قال:من أيّ الفريقين كنت؟ قلت:كنت من الموالي. قال:غُلب فريقُ الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة:الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء.

ثم رواه عن ابن بشَّار، عن غُنْدَر، عن شعبة - به نحوه. ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير، نحوه.

ومثله قال:حدثني يعقوب، حدثنا هشيم قال:حدثنا أبو بشر، أخبرنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:اللمس والمس والمباشرة:الجماع، ولكن الله يكني بما يشاء.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، أنبأنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال:الملامسة:الجماع، ولكن الله كريم يكني بما يشاء.

وقد صح من غير وجه، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك. ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم.

ثم قال ابن جرير:وقال آخرون:عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه.

ثم قال:حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ، عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال:اللمس ما دون الجماع.

وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله. وروي من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:القبلة من المس، وفيها الوضوء.

وقال:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عُبَيد الله بن عمر، عن نافع:أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول:هي من اللماس.

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال:اللمس ما دون الجماع.

ثم قال ابن أبي حاتم:ورُوي عن ابن عمر، وعبيدة، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود- وعامر الشَّعْبي، وثابت بن الحجَّاج، وإبراهيم النَّخَعي، وزيد بن أسلم نحو ذلك.

قلت:وروى مالك، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه كان يقول:قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده، فعليه الوضوء.

وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني [ في سننه ] عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك. ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر:أنه كان يقبل امرأته، ثم يصلي ولا يتوضأ. فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب، والله أعلم.

والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل، رحمهم الله، قال ناصر هذه المقالة:قد قرئ في هذه الآية ( لامَسْتُمُ ) ( ولمستم ) واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال [ الله ] تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [ الأنعام:7 ] ، أي جسوه وقال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم لماعز - حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار- : « أنك قبلت أو لمست » وفي الحديث الصحيح: « واليد زناها اللمس » وقالت عائشة، رضي الله عنها:قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا، فيقبّل ويلمس. ومنه ما ثبت في الصحيحين:أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا:ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر:

وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى

واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة، عن عبد الملك بن عمير - وقال أبو سعيد:حدثنا عبد الملك بن عُمَير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال:يا رسول الله، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها، غير أنه لم يجامعها؟ قال:فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [ هود:114 ] قال:فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « توضأ ثم صَلِّ » . قال معاذ:فقلت:يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: « بل للمؤمنين عامة » .

ورواه الترمذي من حديث زائدة به، وقال:ليس بمتصل. وأخرجه النسائي من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا .

قالوا:فأمره بالوضوء؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها. وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ، فإنه لم يلقه، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة، كما تقدم في حديث الصدِّيق [ رضي الله عنه ] « ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له » الحديث، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ ] الآية [ آل عمران:135 ] .

ثم قال ابن جرير:وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:عنى الله بقوله: ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ) الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ثم قال:حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال:أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن عائشة قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ .

ثم قال:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت:من هي إلا أنت؟ فضحكت.

وهكذا رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم، عن وكيع، به .

ثم قال أبو داود:روي عن الثوري أنه قال:ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ، وقال يحيى القطَّان لرجل:احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء.

وقال الترمذي:سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال:حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة.

وقد وقع في رواية ابن ماجه:عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة.

وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة وهذا نص في كونه عروة بن الزبير، ويشهد له قوله:من هي إلا أنت، فضحكت .

لكن روى أبو داود، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني، عن عبد الرحمن بن مَغْراء، عن الأعمش قال:حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة فذكره، والله أعلم.

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ، عن شهاب بن عبَّاد، حدثنا مَنْدَل بن علي، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة - وعن أبي رَوْق، عن إبراهيم التَّيمي، عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي روق الهمْدَاني، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ.

[ و ] رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان - زاد أبو داود:وابن مهدي- كلاهما عن سفيان الثوري به. ثم قال أبو داود، والنسائي:لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة.

وقال ابن جرير أيضا:حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن سِنَان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءًا .

وقال أيضا:حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن غِياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ.

وقد رواه الإمام أحمد، عن محمد بن فُضَيل، عن حجاج بن أَرْطَاة، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، به .

وقوله: ( فلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية:أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع، كما هو مقرر في موضعه، كما هو في الصحيحين، من حديث عِمران بن حصين:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال: « يا فلان، ما منعك أن تصلي مع القوم؟ ألست برجل مسلم؟ » قال:بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء. قال: « عليك بالصعيد، فإنه يكفيك » .

ولهذا قال تعالى: ( فلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) فالتيمم في اللغة هو:القصد. تقول العرب:تيممك الله بحفظه، أي:قصدك. ومنه قول امرئ القيس

وَلَمَّـــا رَأتْ أنَّ المَــنِية ورِدُها وأن الحـصَى مـن تحـت أقدامها دَامِ

تيممـت العيـن التـي عنــد ضـارج يفـيء عليهـا الفـيء عَرْمَضها طام

والصعيد قيل:هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب، والرمل، والشجر، والحجر، والنبات، وهو قول مالك. وقيل:ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ، والنورة، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل:هو التراب فقط، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، واحتجوا بقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [ الكهف:40 ] أي:ترابا أملس طيبا، وبما ثبت في صحيح مسلم، عن حذيفة بن اليمان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فضلنا على الناس بثلاث:جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء » وفي لفظ: « وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء » . قالوا:فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.

والطيب هاهنا قيل:الحلال. وقيل:الذي ليس بنجس. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان عن أبي ذر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده، فليمسه بَشرته، فإن ذلك خير له » .

وقال الترمذي:حسن صحيح:وصححه ابن حبان أيضا ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان. وقال ابن عباس:أطيب الصعيد تراب الحرث. رواه ابن أبي حاتم، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره .

وقوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال.

أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد- :أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [ المائدة:38 ] قالوا:وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية. وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « التيمم ضربتان:ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين » . ولكن لا يصح؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم وروى أبو داود عن ابن عمر - في حديث- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه.

ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي، وقد ضعفه بعض الحفاظ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي:هو الصواب. وقال البيهقي:رفع هذا الحديث منكر .

واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصَّمَّة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه.

وقال ابن جرير:حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا نعيم بن حَمَّاد، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عُقْبة، عن الأعرج، عن أبي جُهيم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلمت عليه، فلم يرد علي حتى فرغ، ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد علي السلام .

والقول الثاني:إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو القول القديم للشافعي.

والثالث:أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة؛ قال الإمام أحمد:

حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن الحكم، عن ذَرّ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه؛ أن رجلا أتى عمر فقال:إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال عمر:لا تصل. فقال عمار:أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: « إنما كان يكفيك » . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه .

وقال أحمد أيضا:حدثنا عفَّان، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن عَزْرَة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى، عن أبيه، عن عمار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: « ضربة للوجه والكفين » .

طريق أخرى:قال أحمد:حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال:كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله:لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل؟ فقال عبد الله:لا. فقال أبو موسى:أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر:ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل، فأصابتني جنابة، فتمرغت في التراب؟ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فضحك وقال: « إنما كان يكفيك أن تقول هكذا » ، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة؟ فقال عبد الله:لا جرم، ما رأيت عمر قنع بذاك قال:فقال له أبو موسى:فكيف بهذه الآية في سورة النساء: ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا ) ؟ قال:فما درى عبد الله ما يقول، وقال:لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم .

وقال تعالى في آية المائدة: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [ المائدة:6 ] ،استدل بذلك الشافعي، رحمه الله تعالى، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة:أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم عليه فلم يرد عليه، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه.

وقوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي:في الدين الذي شَرَعه لكم وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ:فعنده طَهُورُه مسجده- وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » .

وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم: « فضلنا على الناس بثلاث:جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا، وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء » .

وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) أي:ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء، فإن الله، عز وجل، قد أرخص في التيمم والحالة هذه، رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة.

ذكر سبب نزول مشروعية التيمم:

وإنما ذكرنا ذلك هاهنا؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أحد، يقال:في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل، ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هاهنا، وبالله الثقة.

قال الإمام أحمد:حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة:أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوها بغير وضوء، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير لعائشة:جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا .

طريق أخرى:قال البخاري:حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا في البيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا:ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال:حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! قالت عائشة:فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير:ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر. قالت:فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته.

وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل. ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح قال:قال ابن شهاب:حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار، فحبس الناس ابتغاء عقدها، وذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط .

وقد رواه ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا صيفى، عن ابن أبي ذئب، [ عن الزُّهْرى ] عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر فتغيّظ أبو بكر على عائشة [ رضي الله عنها ] فنزلت عليه الرخصة:المسح بالصعيد الطيب. فدخل أبو بكر فقال لها:إنك لمباركة! نزلت فيك رخصة! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.

حديث آخر:قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا العلاء بن أبي سوية، حدثني الهيثم عن زُرَيق المالكي - من بني مالك بن كعب بن سعد، وعاش مائة وسبع عشرة سنة- عن أبيه، عن الأسلع بن شريك قال:كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت. ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: « يا أسلع، مالي أرى رحلتك تغيرت؟ » قلت:يا رسول الله، لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: « ولم ؟ » قلت:إني أصابتني جنابة، فخشيت القُرَّ على نفسي، فأمرته أن يرحلها، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى: ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم ] إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) وقد روي من وجه آخر عنه .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ( 44 ) .

يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا ( وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُوا السَّبِيلَ ) أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع.

 

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ( 45 ) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ( 46 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ( 47 ) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( 48 )

( وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ) أي:هو يعلم بهم ويحذركم منهم ( وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا ) أي:كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن استنصره.

ثم قال تعالى: ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ) « من » هذه لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ

وقوله: ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) أي:يتأولون على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله، عز وجل، قصدا منهم وافتراء ( وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) أي يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه. هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم، أنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.

وقوله ( وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي:اسمع ما نقول، لا سمعت. رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد والحسن:واسمع غير مقبول منك.

قال ابن جرير:والأول أصح. وهو كما قال. وهذا استهزاء منهم واستهتار، عليهم لعنة الله [ والملائكةالناس أجمعين ] .

( وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) أي:يوهمون أنهم يقولون:راعنا سمعك بقولهم: « راعنا » وإنما يريدون الرعونة. وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا [ البقرة:104 ] .

ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه: ( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) يعني:بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ) أي:قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ [ البقرة:88 ] والمقصود:أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا.

يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نـزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهددا لهم أن يفعلوا، بقوله: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) قال بعضهم:معناه:من قبل أن نطمس وجوها. طمسها هو ردها إلى الأدبار، وجعل أبصارهم من ورائهم. ويحتمل أن يكون المراد:من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقى لها سمع ولا بصر ولا أثر، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار.

قال العوفي عن ابن عباس: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ) وطمسها أن تعمى ( فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) يقول:نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه.

وكذا قال قتادة، وعطية العوفي. وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ] [ يس 8 ، 9 ] إن هذا مثل [ سوء ] ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.

قال مجاهد: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا ) يقول:عن صراط الحق، فنردها على أدبارهم، أي:في الضلالة.

قال ابن أبي حاتم:وروي عن ابن عباس، والحسن نحو هذا.

قال السدي: ( فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) فنمنعها عن الحق، قال:نرجعها كفارا ونردهم قردة.

وقال ابن زيد نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز.

وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، قال ابن جرير:

حدثنا أبو كريب، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة قال:تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب، فقال:أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر فقال:يا كعب، أسلم، قال:ألستم تقرءون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ ] أَسْفَارًا وأنا قد حملت التوراة. قال:فتركه عمر. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلا من أهلها حزينا، وهو يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نـزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) الآية. قال كعب:يا رب آمنت، يا رب، أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين .

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر، فقال:حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال:كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعب:فركبت حتى أتيت المدينة، فإذا تال يقرأ القرآن، يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نـزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت .

وقوله: ( أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ) يعني:الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا قردة وخنازير، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف.

وقوله: ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) أي:إذا أمر بأمر، فإنه لا يخالف ولا يمانع.

ثم أخبر تعالى:أنه ( لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) أي:لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ) أي:من الذنوب ( لِمَنْ يَشَاءُ ) أي:من عباده.

وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، فلنذكر منها ما تيسر:

الحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا صدقة بن موسى، حدثنا أبو عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الدواوين عند الله ثلاثة؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله، فالشرك بالله، قال الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [ المائدة:72 ] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها؛ فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا، فظلم العباد بعضهم بعضا؛ القصاص لا محالة » .

تفرد به أحمد .

الحديث الثاني:قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا أحمد بن مالك، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النمري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله:فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان:13 ] وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يدين لبعضهم من بعض » .

الحديث الثالث:قال الإمام أحمد:حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون، عن أبي إدريس قال:سمعت معاوية يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا » .

رواه النسائي، عن محمد بن مثنى، عن صفوان بن عيسى، به .

الحديث الرابع:قال الإمام أحمد:حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يقول:يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك، يا عبدي، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة » .

تفرد به أحمد من هذا الوجه .

الحديث الخامس:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبي، حدثنا حسين، عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه، أن أبا الأسود الديلي حدثه، أن أبا ذر حدثه قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ما من عبد قال:لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة » قلت:وإن زنى وإن سرق؟ قال: « وإن زنى وإن سرق » قلت:وإن زنى وإن سرق؟ قال: « وإن زنى وإن سرق » . ثلاثا، ثم قال في الرابعة: « على رغم أنف أبي ذر » ‍! قال:فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: « وإن رغم أنف أبي ذر » . وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول:وإن رغم أنف أبي ذر.

أخرجاه من حديث حسين، به .

طريق أخرى عنه:قال [ الإمام ] أحمد:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال:كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء، ونحن ننظر إلى أحد، فقال: « يا أبا ذر » . فقلت:لبيك يا رسول الله، [ قال ] « ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار، إلا دينارا أرصده - يعني لدين- إلا أن أقول به في عباد الله هكذا » . وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره. قال:ثم مشينا فقال: « يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا » . فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره. قال:ثم مشينا فقال: « يا أبا ذر، كما أنت حتى آتيك » . قال:فانطلق حتى توارى عني. قال:فسمعت لغطا فقلت:لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال فهممت أن أتبعه، ثم ذكرت قوله: « لا تبرح حتى آتيك » فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال: « ذاك جبريل أتاني فقال:من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » . قلت:وإن زنى وإن سرق؟ قال: « وإن زنى وإن سرق » .

أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به.

وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما، عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال:خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، ليس معه إنسان، قال:فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال:فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: « من هذا؟ » فقلت:أبو ذر، جعلني الله فداك. قال: « يا أبا ذر، تعال » . قال:فمشيت معه ساعة فقال: « إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه وورائه، وعمل فيه خيرا » . قال:فمشيت معه ساعة فقال لي: « اجلس هاهنا » ، قال:فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: « اجلس هاهنا حتى أرجع إليك » . قال:فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل، وهو يقول: « وإن سرق وإن زنى » . قال:فلما جاء لم أصبر حتى قلت:يا نبي الله، جعلني الله فداءك، من تكلم في جانب الحرة؟ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا. قال: « ذاك جبريل، عرض لي من جانب الحرة فقال:بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت:يا جبريل، وإن سرق وإن زنى؟ قال:نعم قلت:وإن سرق وإن زنى؟ قال:نعم. قلت:وإن سرق وإن زنى؟ قال:نعم، وإن شرب الخمر » .

الحديث السادس:قال عبد بن حميد في مسنده:أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، ما الموجبتان ؟ قال: « من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار » . وذكر تمام الحديث. تفرد به من هذا الوجه .

طريق أخرى:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي، حدثنا موسى بن عبيدة، الربذي، أخبر عبد الله بن عبيدة، عن جابر بن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئا، إلا حلت لها المغفرة، إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) . »

ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من حديث موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن جابر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب » . قيل:يا نبي الله، وما الحجاب؟ قال: « الإشراك بالله » . قال: « ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى، إن يشأ أن يعذبها، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها » . ثم قرأ نبي الله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) .

الحديث السابع:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة » .

تفرد به من هذا الوجه .

الحديث الثامن:قال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو قبيل، عن عبد الله بن ناشر من بني سريع قال:سمعت أبا رهم قاصن أهل الشام يقول:سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم، فقال لهم: « إن ربكم، عز وجل، خيرني بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا بغير حساب، وبين الخبيئة عنده لأمتي » . فقال له بعض أصحابه:يا رسول الله، أيخبأ ذلك ربك؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر، فقال: « إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده » قال أبو رهم:يا أبا أيوب، وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكله الناس بأفواههم فقالوا:وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟‍! فقال أبو أيوب:دعوا الرجل عنكم، أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن، بل كالمستيقن. إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة » .

الحديث التاسع:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني، حدثنا عيسى بن يونس ( ح ) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني - فيما كتب إلي- قال:حدثنا عيسى بن يونس نفسه، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب، عن أبي أيوب الأنصاري قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال: « وما دينه؟ » قال:يصلي ويوحد الله تعالى. قال « استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه » . فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:وجدته شحيحا في دينه. قال:فنـزلت: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) .

الحديث العاشر:قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا عمرو بن الضحاك، حدثنا أبي، حدثنا مستور أبو همام الهنائي، حدثنا ثابت عن أنس قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت. قال: « أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ » ثلاث مرات. قال:نعم. قال: « فإن ذلك يأتي على ذلك كله » .

الحديث الحادي عشر:قال الإمام أحمد:حدثنا أبو عامر، حدثنا عكرمة بن عمار، عن ضمضم بن جوس اليمامي قال:قال لي أبو هريرة:يا يمامي لا تقولن لرجل:والله لا يغفر الله لك. أو لا يدخلك الجنة أبدا. قلت:يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال:لا تقلها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة، وكان الآخر مسرفا على نفسه، وكانا متآخيين وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول:يا هذا أقصر. فيقول:خلني وربي! أبعثت علي رقيبا؟ قال:إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه، فقال له:ويحك! أقصر! قال:خلني وربي! أبعثت علي رقيبا؟ فقال:والله لا يغفر الله لك - أو لا يدخلك الجنة أبدا- قال:فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب:اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر:أكنت بي عالما؟ أكنت على ما في يدي قادرا؟ اذهبوا به إلى النار. قال:فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته » .

ورواه أبو داود، من حديث عكرمة بن عمار، حدثني ضمضم بن جوش، به .

الحديث الثاني عشر:قال الطبراني:حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال الله عز وجل:من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئا » .

الحديث الثالث عشر:قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى [ الموصلي ] حدثنا هدبة - هو ابن خالد- حدثنا سهل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار » . تفردا به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا بحر بن نصر الخولاني، حدثنا خالد - يعني ابن عبد الرحمن الخراساني- حدثنا الهيثم بن جمار عن سلام بن أبي مطيع، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال:كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور، حتى نـزلت هذه الآية: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة.

ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به .

وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري حدثنا عبد الله بن عاصم، حدثنا صالح - يعني المري أبو بشر- عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب، حتى نـزلت علينا هذه الآية: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) قال:فلما سمعناها كففنا عن الشهادة، وأرجينا الأمور إلى الله، عز وجل .

وقال البزار:حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا حرب بن سُرَيج، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال:كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) وقال: « أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة » .

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، أخبرني مجبر، عن عبد الله بن عمر أنه قال:لما نـزلت: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] [ الزمر:53 ] ، قام رجل فقال:والشرك بالله يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا )

رواه ابن جرير. وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر .

وهذه الآية التي في سورة « تنـزيل » مشروطة بالتوبة، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه؛ ولهذا قال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزمر:53 ] أي:بشرط التوبة، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه، ولا يصح ذلك، لأنه، تعالى، قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء، أي:وإن لم يتب صاحبه، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه، والله أعلم.

وقوله: ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) كقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان:13 ] ، وثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود أنه قال:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: « أن تجعل لله ندا وهو خلقك... » وذكر تمام الحديث.

وقال ابن مردويه:حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن، حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين؛ أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: « أخبركم بأكبر الكبائر:الشرك بالله ثم قرأ: ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ) وعقوق الوالدين. ثم قرأ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . »

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ( 49 ) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ( 50 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ( 51 ) .

قال الحسن وقتادة:نـزلت هذه الآية، وهي قوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) في اليهود والنصارى، حين قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ

وقال ابن زيد:نـزلت في قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [ المائدة:18 ] ، وفي قولهم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة:111 ] .

وقال مجاهد:كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم، ويزعمون أنهم لا ذنب لهم .

وكذا قال عكرمة، وأبو مالك. روى ذلك ابن جرير.

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم ) وذلك أن اليهود قالوا:إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة، وسيشفعون لنا ويزكوننا، فأنـزل الله على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا ابن حمير، عن ابن لهيعة، عن بشر بن أبي عمرو عن عكرمة، عن ابن عباس قال:كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب. وكذبوا. قال الله [ تعالى ] « إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له » وأنـزل الله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ )

ثم قال:وروى عن مجاهد، وأبي مالك، والسدي، وعكرمة، والضحاك - نحو ذلك.

وقال الضحاك:قالوا:ليس لنا ذنوب، كما ليس لأبنائنا ذنوب. فأنـزل الله ذلك فيهم.

وقيل:نـزلت في ذم التمادح والتزكية.

وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم، عن المقداد بن الأسود قال:أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب .

وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل، فقال: « ويحك. قطعت عنق صاحبك » . ثم قال: « إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل:أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا معتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند قال:قال عمر بن الخطاب:من قال:أنا مؤمن، فهو كافر. ومن قال:هو عالم، فهو جاهل. ومن قال:هو في الجنة، فهو في النار .

ورواه ابن مردويه، من طريق موسى بن عبيدة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، عن عمر أنه قال:إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال:إنه مؤمن، فهو كافر، ومن قال:إنه عالم فهو جاهل، ومن قال:إنه في الجنة، فهو في النار .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، أنبأنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن معبد الجهني قال:كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح » .

وروى ابن ماجه منه: « إياكم والتمادح فإنه الذبح » عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة به .

ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري.

وقال ابن جرير:حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال:قال عبد الله بن مسعود:إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له:والله إنك كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله. ثم قرأ ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) الآية.

وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [ النجم:32 ] . ولهذا قال تعالى: ( بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) أي:المرجع في ذلك إلى الله، عز وجل لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامضها.

ثم قال تعالى: ( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ) أي:ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل.

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف:هو ما يكون في شق النواة.

وعن ابن عباس أيضا:هو ما فتلت بين أصابعك. وكلا القولين متقارب.

وقوله: ( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) أي:في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة:111 ] وقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [ البقرة:80 ] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا، في قوله: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] [ البقرة:141 ] .

ثم قال: ( وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ) أي:وكفى بصنعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا.

وقوله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ) أما « الجبت » فقال محمد بن إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر بن الخطاب أنه قال: « الجبت » :السحر، و « الطاغوت » :الشيطان.

وهكذا روي عن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، والضحاك، والسدي.

وعن ابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، [ وأبي مالك ] وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن، وعطية: « الجبت » الشيطان - زاد ابن عباس:بالحبشية. وعن ابن عباس أيضا: « الجبت » :الشرك. وعنه: « الجبت » :الأصنام.

وعن الشعبي: « الجبت » :الكاهن. وعن ابن عباس: « الجبت » :حيي بن أخطب. وعن مجاهد: « الجبت » :كعب بن الأشرف.

وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه « الصحاح » : « الجبت » كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، وفي الحديث: « الطيرة والعيافة والطرق من الجبت » قال:وهذا ليس من محض العربية، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي.

وهذا الحديث الذي ذكره، رواه الإمام أحمد في مسنده فقال:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا، عوف عن حيان أبي العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه - وهو قبيصة بن مخارق- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت » وقال عوف: « العيافة » :زجر الطير، و « الطرق » :الخط، يخط في الأرض، و « الجبت » قال الحسن:إنه الشيطان.

وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي، به

وقد تقدم الكلام على « الطاغوت » في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن « الطواغيت » فقال:هم كهان تنـزل عليهم الشياطين.

وقال مجاهد: « الطاغوت » :الشيطان في صورة إنسان، يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.

وقال الإمام مالك: « الطاغوت » :هو كل ما يعبد من دون الله، عز وجل.

وقوله: ( وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ) أي:يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم.

وقد روى ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال:جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم:أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا:ما أنتم وما محمد. فقالوا:نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج - ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا:أنتم خير وأهدى سبيلا.فأنـزل الله ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ] ) .

وقد روي هذا من غير وجه، عن ابن عباس وجماعة من السلف.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش:ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية‍! قال:أنتم خير. قال فنـزلت إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [ الكوثر:3 ] ونـزل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ) إلى ( نَصِيرًا ) .

وقال ابن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وأبو عمار، ووحوح بن عامر، وهوذة بن قيس. فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فسلوهم:أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا:بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنـزل الله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا. أُولَئِك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ] ) إلى قوله عز وجل: وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا .

 

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( 52 ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ( 53 ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ( 54 ) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( 55 ) .

وهذا لعن لهم، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، فكفى الله شرهم وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الأحزاب:25 ] .

يقول تعالى: ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ؟‍! وهذا استفهام إنكار، أي:ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل فقال: ( فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ) أي:لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس - ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ولا ما يملأ « النقير » ، وهو النقطة التي في النواة، في قول ابن عباس والأكثرين.

وهذه الآية كقوله تعالى قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ [ الإسراء:100 ] أي:خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم؛ ولهذا قال: وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [ الإسراء:100 ] أي:بخيلا.

ثم قال: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) يعني بذلك:حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل.

قال الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا قيس بن الربيع، عن السدي، عن عطاء، عن ابن عباس قوله: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه ] ) الآية، قال ابن عباس:نحن الناس دون الناس، قال الله تعالى: ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) أي:فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل - الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوة، وأنـزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن - وهي الحكمة- وجعلنا فيهم الملوك، ومع هذا ( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ) أي:بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ( وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) أي:كفر به وأعرض عنه، وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل، فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟.

وقال مجاهد: ( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ) أي:بمحمد صلى الله عليه وسلم ( وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين.

ولهذا قال متوعدا لهم: ( وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ) أي:وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 56 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا ( 57 ) .

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا [ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ] ) الآية، أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم. ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، فقال: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) قال [ الأعمش، عن ابن عمر ] إذا أحرقت جلودهم بدلوا جلودًا بيضا أمثال القراطيس. رواه ابن أبي حاتم.

وقال يحيى بن يزيد الحضرمي إنه بلغه في قول الله: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) قال:يجعل للكافر مائة جلد، بين كل جلدين لون من العذاب. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن هشام، عن الحسن قوله: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ] ) الآية. قال:تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين:وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن:كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم:عودوا فعادوا.

وقال أيضا:ذكر عن هشام بن عمار:حدثنا سعيد بن يحيى - يعني سعدان- حدثنا نافع، مولى يوسف السلمي البصري، عن نافع، عن ابن عمر قال:قرأ رجل عند عمر هذه الآية: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ) فقال عمر:أعدها علي فأعادها، فقال معاذ بن جبل:عندي تفسيرها:تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر:هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه ابن مردويه، عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، عن عبدان بن محمد المروزي، عن هشام بن عمار، به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال:حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمران، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا نافع أبو هرمز، حدثنا نافع، عن ابن عمر قال:تلا رجل عند عمر هذه الآية: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ] ) الآية، قال:فقال عمر:أعدها علي - وثم كعب- فقال:يا أمير المؤمنين، أنا عندي تفسير هذه الآية، قرأتها قبل الإسلام، قال:فقال:هاتها يا كعب، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك، وإلا لم ننظر إليها. فقال:إني قرأتها قبل الإسلام: « كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة » . فقال عمر:هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الربيع بن أنس:مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا، وسنه تسعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها.

وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال الإمام أحمد:حدثنا وكيع، حدثنا أبو يحيى الطويل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يعظم أهل النار في النار، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا، وإن ضرسه مثل أحد » .

تفرد به أحمد من هذا الوجه .

وقيل:المراد بقوله: ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ) أي:سرابيلهم. حكاه ابن جرير، وهو ضعيف؛ لأنه خلاف الظاهر.

وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن، التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبدا، لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا.

وقوله: ( لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) أي:من الحيض والنفاس والأذى. والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة، كما قال ابن عباس:مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء، والحسن، والضحاك، والنخعي، وأبو صالح، وعطية، والسدي.

وقال مجاهد:مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد.

وقال قتادة:مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف.

وقوله: ( وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا ) أي:ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا.

قال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن جعفر - قالا حدثنا شعبة قال:سمعت أبا الضحاك يحدث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجرة الخلد » .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 )

يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك » . رواه الإمام أحمد وأهل السنن وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله، عز وجل، على عباده، من الصلوات والزكوات، والكفارات والنذور والصيام، وغير ذلك، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك. فأمر الله، عز وجل، بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال:إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة - وإن كان قد قتل في سبيل الله- فيقال:أد أمانتك. فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه. قال:فتنـزل عن عاتقه، فيهوي على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان:فأتيت البراء فحدثته فقال:صدق أخي: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) .

وقال:سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى عن رجل، عن ابن عباس قوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) قال:هي مبهمة للبر والفاجر. وقال محمد بن الحنفية:هي مسجلة للبر والفاجر. وقال أبو العالية:الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال:قال أبي بن كعب:من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها.

وقال الربيع بن أنس:هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) قال: قال:يدخل فيه وعظ السلطان النساء. يعني يوم العيد. وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نـزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة، عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري، حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة، فكان معه لواء المشركين يوم أحد، وقتل يومئذ كافرا. وإنما نبهنا على هذا النسب؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا، وسبب نـزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح، ثم رده عليه.

وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح:حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزل بمكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.

قال ابن إسحاق:فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانه البيت وسقاية الحاج » . وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، إلى أن قال:ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال:يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أين عثمان بن طلحة؟ » فدعي له، فقال له: « هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر » .

قال ابن جرير:حدثني القاسم حدثنا الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج [ قوله: ( إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ] قال:نـزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه فدعا عثمان إليه، فدفع إليه المفتاح، قال:وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية:فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.

حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال:دفعه إليه وقال:أعينوه .

وروى ابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) قال:لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة، فلما أتاه قال: « أرني المفتاح » . فأتاه به، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال:يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية. فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أرني المفتاح يا عثمان » . فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عثمان، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح » . فقال:هاك بأمانة الله. قال:فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما للمشركين قاتلهم الله. وما شأن إبراهيم وشأن القداح » . ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه، ثم غمس به تلك التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم، وكان في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال: « يا أيها الناس، هذه القبلة » . قال:ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نـزل عليه جبريل، فيما ذكر لنا برد المفتاح، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) حتى فرغ من الآية .

وهذا من المشهورات أن هذه الآية نـزلت في ذلك، وسواء كانت نـزلت في ذلك أو لا فحكمها عام؛ ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية:هي للبر والفاجر، أي:هي أمر لكل أحد.

وقوله: ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس؛ ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب:إنما نـزلت في الأمراء، يعني الحكام بين الناس.

وفي الحديث: « إن الله مع الحاكم ما لم يَجُرْ، فإذا جار وكله إلى نفسه » وفي الأثر:عدل يوم كعبادة أربعين سنة.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) أي:يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) أي:سميعا لأقوالكم، بصيرا بأفعالكم، كما قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ هذه الآية ( سَمِيعًا بَصِيرًا ) يقول:بكل شيء بصير .

وقد قال ابن أبي حاتم:أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني، أنبأنا المقرئ - يعني أبا عبد الرحمن- عبد الله بن يزيد، حدثنا حرملة - يعني ابن عمران التجيبي المصري- حدثنا أبو يونس، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) إلى قوله: ( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول:هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعيه. قال أبو زكريا:وصفه لنا المقري، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى، والتي تليها على الأذن اليمنى، وأرانا فقال:هكذا وهكذا .

رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه في تفسيره، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده - نحوه وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة، واسمه سُلَيْم بن جُبَير.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ( 59 )

قال البخاري:حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) قال:نـزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي؛ إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.

وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث حجاج بن محمد الأعور، به. وقال الترمذي:حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج .

وقال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء. قال:فقال لهم:أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا:بلى، قال:اجمعوا لي حطبا. ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال:عزمت عليكم لتدخلنها. [ قال:فهم القوم أن يدخلوها ] قال:فقال لهم شاب منهم:إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال:فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: « لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا؛ إنما الطاعة في المعروف » . أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش، به .

وقال أبو داود:حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، حدثنا نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » .

وأخرجاه من حديث يحيى القطان .

وعن عبادة بن الصامت قال:بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: « إلا أن تروا كفرا بَوَاحا، عندكم فيه من الله برهان » أخرجاه .

وفي الحديث الآخر، عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » . رواه البخاري .

وعن أبي هريرة قال:أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا حبشيًا مُجَدَّع الأطراف. رواه مسلم .

وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: « ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا له وأطيعوا » رواه مسلم وفي لفظ له: « عبدا حبشيًا مجدوعا » .

وقال ابن جرير:حدثني علي بن مسلم الطوسي، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم » .

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون » . قالوا:يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: « أوفوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم » أخرجاه .

وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية » . أخرجاه .

وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » . رواه مسلم .

وروى مسلم أيضا، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال:دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنـزلنا منـزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يَنْتَضل، ومنا من هو في جَشَره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم:الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يَدُل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تُنْكرونها، وتجيء فتن يَرفُق بعضُها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن:هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن:هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صَفْقَة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عُنُق الآخر » . قال:فدنوت منه فقلت:أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال:سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له:هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [ النساء:29 ] قال:فسكت ساعة ثم قال:أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله .

والأحاديث في هذا كثيرة.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا أسباط، عن السدي: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبا منهم عَرَّسوا، وأتاهم ذو العُيَيْنَتَين فأخبرهم، فأصبحوا قد هربوا غير رجل. فأمر أهله فجمعوا متاعهم، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل، حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال:يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدا، وإلا هربت؟ قال عمار:بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر، فأتى خالدا فقال:خل عن الرجل، فإنه قد أسلم، وإنه في أمان مني. فقال خالد:وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد:يا رسول الله، أتترك هذا العبد الأجدع يَسُبُّني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا خالد، لا تسب عمارًا، فإنه من يسب عمارا يسبه الله، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله » فغضب عمار فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنـزل الله عز وجل قوله: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ )

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من طريق عن السدي، مرسلا. ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فذكره بنحوه والله أعلم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) يعني:أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: ( وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) يعني:العلماء. والظاهر - والله أعلم- أن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء، كما تقدم. وقد قال تعالى: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [ المائدة:63 ] وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ النحل:43 ] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أميري فقد عصاني » .

فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ ) أي:اتبعوا كتابه ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) أي:خذوا بسنته ( وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ ) أي:فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما تقدم في الحديث الصحيح: « إنما الطاعة في المعروف » . وقال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرحمن، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أبي مرابة، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا طاعة في معصية الله » .

وقوله: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) قال مجاهد وغير واحد من السلف:أي:إلى كتاب الله وسنة رسوله.

وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ الشورى:10 ] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) أي:ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )

فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النـزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.

وقوله: ( ذَلِكَ خَيْرٌ ) أي:التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النـزاع إليهما خير ( وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ) أي:وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد:وأحسن جزاء. وهو قريب.

 

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ( 60 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ( 61 ) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ( 63 ) .

هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية:أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول:بيني وبينك محمد. وذاك يقول:بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل:في جماعة من المنافقين، ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا؛ ولهذا قال: ( يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ] ) .

وقوله: ( يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) أي:يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك، كما قال تعالى عن المشركين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [ لقمان:21 ] هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين، الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [ وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ] [ النور:51 ] .

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ( 62 )

ثم قال تعالى في ذم المنافقين: ( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) أي:فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك، ( ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) أي:يعتذرون إليك ويحلفون:ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق، أي:المداراة والمصانعة، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى [ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ] فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [ المائدة:52 ] .

وقد قال الطبراني:حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحَوْطِيّ، حدثنا أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال:كان أبو بَرْزَة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ] إلى قوله: ( إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا )

ثم قال تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) [ أي ] هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإن الله عالم بظواهرهم وبواطنهم؛ ولهذا قال له: ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) أي:لا تعنفهم على ما في قلوبهم ( وَعِظْهُمْ ) أي:وانههم على ما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ) أي:وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ( 64 ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( 65 )

يقول تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ ) أي:فرضت طاعته على من أرسله إليهم وقوله: ( بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال مجاهد:أي لا يطيع أحد إلا بإذني. يعني:لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [ آل عمران:152 ] أي:عن أمره وقدره ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.

وقوله: ( وَلَوْ أَنْهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا )

وقد ذكر جماعة منهم:الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه « الشامل » الحكاية المشهورة عن العُتْبي، قال:كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال:السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:

يا خيـرَ من دُفنَت بالقـاع أعظُمُــه فطـاب مـنْ طيبهـنّ القـاعُ والأكَـمُ

نَفْســي الفـداءُ لقـبرٍ أنـت ســاكنُه فيـه العفـافُ وفيـه الجـودُ والكـرمُ

ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال:يا عُتْبى، الحقْ الأعرابيّ فبشره أن الله قد غفر له .

وقوله: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة:أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) أي:إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » .

وقال البخاري:حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة قال:خاصم الزبير رجلا في شُرَيج من الحَرَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك » فقال الأنصاري:يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك ؟ فَتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: « اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك » واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه في صريح الحكم، حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير:فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) الآية.

وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب: « التفسير » من صحيحه من حديث معمر:وفي كتاب: « الشرب » من حديث ابن جُرَيْج ومعمر أيضا، وفي كتاب: « الصلح » من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة، فذكره وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى.

وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال:حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير:أن الزبير كان يحدث:أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: « اسق ثم أرسل إلى جارك » فغضب الأنصاري وقال:يا رسول الله، أن كان ابن عمتك ؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: « اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر » فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة:فقال الزبير:والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )

هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير؛ فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال:

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا الليث ويونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام:أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحَرة، كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري:سَرِّح الماء يَمُر. فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك » فغضب الأنصاري وقال:يا رسول الله، أن كان ابن عَمَّتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: « اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر » واستوعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير:ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يَؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )

وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب، به ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث، به وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير، والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير فذكره، ثم قال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير، غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف.

وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه:حدثنا محمد بن علي أبو دُحَيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا الفضل بن دُكَين، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة - رجل من آل أبي سلمة- قال: خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل:إنما قضى له لأنه ابن عمته. فنزلت: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ) الآية .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو حيوة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب في قوله: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ] ) [ الآية ] قال:نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري .

ذكر سبب آخر غريب جدا:

قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن لَهِيعة، عن أبي الأسود قال:اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه:ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انطلقا إليه » فلما أتيا إليه قال الرجل:يا ابن الخطاب، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال:ردنا إلى عمر. فردنا إليك. فقال:أكذاك؟ فقال:نعم فقال عمر:مَكَانَكُمَا حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليهما مشتملا على سيفه، فضرب الذي قال رُدَّنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله قتل عُمَر والله صاحبي، ولولا أني أعجزتُه لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما كنت أظن أن يجترئ عُمَر على قتل مؤمن » فأنزل الله: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) الآية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر من قتله، فكره الله أن يسن ذلك بعد، فقال: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [ النساء:66 ] .

وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود به.

وهو أثر غريب، وهو مرسل، وابن لهيعة ضعيف والله أعلم .

طريق أخرى:قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره:حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة، حدثني أبي:أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه:لا أرضى. فقال صاحبه:فما تريد؟ قال:أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له:قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر:فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال:نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضي له:قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، [ ثم أتينا أبا بكر، فقال:أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرضى ] فسأله عمر، فقال:كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) [ إلى آخر ] الآية .

 

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ( 66 ) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ( 67 ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 68 ) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( 69 ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ( 70 )

يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه - تبارك وتعالى- بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ )

قال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثني إسحاق، حدثنا أبو زهير عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي، قال:لما نـزلت: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ [ مِنْهُمْ ] ) الآية، قال رجل:لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا جعفر بن منير، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن الحسن قال:لما نـزلت هذه الآية: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) الآية. قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:لو فعل ربنا لفعلنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « لَلإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي » .

وقال السدي:افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود، فقال اليهودي:والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت:والله لو كتب علينا: ( أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) لقتلنا. فأنـزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غَيْلان، حدثنا بشر بن السَّرِي، حدثنا مصعب بن ثابت، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير، قال:لما نـزلت [ ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال أبو بكر:يا رسول الله، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، قال: « صدقت يا أبا بكر » .

حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال:سئل سفيان عن قوله ] ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو نـزلت لكان ابن أم عبد منهم » .

وحدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال:لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ] ) الآية، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة، فقال: « لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل » يعني:ابن رواحة.

ولهذا قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ ) أي:ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، وتركوا ما ينهون عنه ( لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) أي:من مخالفة الأمر وارتكاب النهي ( وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) قال السدي:أي:وأشد تصديقا.

( وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا ) أي:من عندنا، ( أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني:الجنة. ( وَلَهَدَيناهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) أي في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) أي:من عمل بما أمره الله ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.

ثم أثنى عليهم تعالى فقال: ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )

وقال البخاري:حدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من نبي يَمْرَضُ إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة » وكان في شكواه التي قبض فيه، فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) فعلمت أنه خُيِّر.

وكذا رواه مسلم من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم به .

وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: « اللهم في الرفيق الأعلى » ثلاثا ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم .

ذكر سبب نـزول هذه الآية الكريمة:

قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القُمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير قال:جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟ » قال:يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: « ما هو؟ » قال:نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ] ) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.

قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندًا.

قال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ [ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ ] ) الآية، قال:إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا:قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنـزل الله في ذلك - يعني هذه الآية- فقال:يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الأعْلَيْنَ ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينـزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهُون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه » .

وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال أبو بكر بن مردويه:حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله:إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نـزلت عليه: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )

وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: « صفة الجنة » ، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به. ثم قال:لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم.

وقال ابن مردويه أيضًا:حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري حدثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن عامر الشعبي، عن ابن عباس، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنـزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأنـزل الله عز وجل [ ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وِالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ] .

وقد رواه ابن جرير، عن ابن حُمَيْد، عن جرير، عن عطاء، عن الشعبي، مرسلا . وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال:كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: « سَلْ » . فقلت:يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: « أوغَيْرَ ذلك؟ » قلت:هو ذاك. قال: « فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه- ما لم يعق والديه » تفرد به أحمد .

قال الإمام أحمد أيضا:حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم، حدثنا ابن لهيعة، عن زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله » .

وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري، عن أبي حمزة، عن الحسن البصري، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء » .

ثم قال:هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري .

وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: « المرء مع من أحب » قال أنس:فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث .

وفي رواية عن أنس أنه قال:إني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما وأرجو أن الله يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم .

وقال الإمام مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم » . قالوا:يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: « بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » .

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ولفظه لمسلم.

وقال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا فزارة، أخبرني فُلَيْح، عن هلال - يعني ابن علي- عن عطاء، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون - أو تَرون- الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات » . قالوا:يا رسول الله، أولئك النبيون؟ قال: « بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » .

قال الحافظ الضياء المقدسي:هذا الحديث على شرط البخاري والله أعلم.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير:حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عُفَيْف بن سالم، عن أيوب بن عُتْبة عن عطاء، عن ابن عمر قال:أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سَلْ واسْتَفْهِمْ » . فقال:يا رسول الله، فُضِّلتُم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنتَ به، وعملتُ مثلَ ما عملتَ به، إني لكائن معك في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام » قال:ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قال:لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال:سبحان الله وبحمده، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة » فقال رجل:كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته » ونـزلت هذه الآيات هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إلى قوله: نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [ الإنسان:1- 20 ] فقال الحبشي:وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعم » . فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر:لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه.

فيه غرابة ونكارة، وسنده ضعيف .

ولهذا قال تعالى: ( ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ) أي:من عند الله برحمته، هو الذي أهلهم لذلك، لا بأعمالهم. ( وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ) أي:هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ( 71 ) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ( 72 ) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 73 ) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 74 )

يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله.

( ثُبَاتٍ ) أي:جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، والثبات:جمع ثُبَة، وقد تجمع الثبة على ثُبين.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ ) أي:عُصبا يعني:سرايا متفرقين ( أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) يعني:كلكم.

وكذا رُوي عن مجاهد، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، ومُقاتل بن حَيَّان، وخُصَيف الجَزَري.

وقوله: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) قال مجاهد وغير واحد:نـزلت في المنافقين، وقال مقاتل بن حيان: ( ليبطئن ) أي:ليتخلفن عن الجهاد.

ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه، ويبطئ غيره عن الجهاد، كما كان عبد الله بن أبي ابن سلول - قبحه الله- يفعل، يتأخر عن الجهاد، ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه. وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد: ( فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ) أي:قتل وشهادة وغلب العدو لكم، لما لله في ذلك من الحكمة ( قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ) أي:إذ لم أحضر معهم وقعة القتال، يعد ذلك من نعم الله عليه، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل.

( وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ) أي:نصر وظفر وغنيمة ( لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَه مَوَدَّةٌ ) أي: كأنه ليس من أهل دينكم ( يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أي:بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه. وهو أكبر قصده وغاية مراده.

ثم قال تعالى: ( فَلْيُقَاتِلْ ) أي:المؤمن النافر ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) أي:يبيعون دينهم بعَرَض قليل من الدنيا، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم.

ثم قال تعالى: ( وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) أي:كل من قاتل في سبيل الله - سواء قتل أو غَلَب وسَلَب- فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله، إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.

 

وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ( 75 ) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ( 76 )

يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين بالمقام بها؛ ولهذا قال تعالى: ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ) يعني:مكة، كقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [ محمد:13 ] .

ثم وصفها بقوله: ( الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ) أي:سخر لنا من عندك وليا وناصرا.

قال البخاري:حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عبيد الله قال:سمعت ابن عباس قال:كنت أنا وأمي من المستضعفين.

حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن [ أبي ] مُلَيْكَة أن ابن عباس تلا إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ قال:كنت أنا وأمي ممن عَذَرَ الله عز وجل .

ثم قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) أي:المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان.

ثم هَيَّجَ تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله: ( فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا )

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ( 77 ) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( 78 ) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 79 )

كان المؤمنون في ابتداء الإسلام - وهم بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُّصُب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة، منها:قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا. فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جَزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا ( وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) أي:لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى، فإن فيه سفك الدماء، ويُتْم الأبناء، وتأيّم النساء، وهذه الآية في معنى قوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ [ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ] [ محمد:20، 21 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة وعلي بن زنجة قالا حدثنا علي بن الحسن، عن الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس:أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا:يا نبي الله، كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة:قال: « إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم » . فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال، فكفوا. فأنزل الله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ] ) الآية.

ورواه النسائي، والحاكم، وابن مَرْدُويه، من حديث علي بن الحسن بن شَقِيق، به .

وقال أسباط، عن السدي:لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال: ( إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) وهو الموت، قال الله تعالى: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى )

وعن مجاهد:إن هذه الآيات نزلت في اليهود. رواه ابن جرير.

وقوله: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ) أي:آخرة المتقي خير من دنياه.

( وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ) أي:من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء. وهذه تسلية لهم عن الدنيا. وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن هشام قال:قرأ الحسن: ( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ) قال:رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك، ما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة، فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه.

وقال ابن مَعين:كان أبو مُسْهِر ينشد:

ولا خـير فـي الدنيـا لمن لم يكن له مِـنَ اللـه فـي دار المقـام نَصيـبُ

فــإن تُعْجـب الدنيـا رجَـالا فإنهـا مَتَــاع قليــل والــزّوَال قــريبُ

وقوله: ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) أي:أنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد منكم، كما قال تعالى: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ ] ) [ الرحمن:26، 27 ] وقال تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [ آل عمران:185 ] وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [ الأنبياء:34 ] والمقصود:أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة، ولا ينجيه من ذلك شيء، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما، وأمدا مقسوما، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه:لقد شهدت كذا وكذا موقفا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء .

وقوله: ( وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) أي:حصينة منيعة عالية رفيعة. وقيل:هي بروج في السماء. قاله السدي، وهو ضعيف. والصحيح:أنها المنيعة. أي:لا يغني حذر وتحصن من الموت، كما قال زهير بن أبي سلمى:

وَمَـن خَـاف أسـبابَ المَنيّـة يَلْقَهَـا ولو رَامَ أسبـابَ السمـــاء بسُلَّـم

ثم قيل: « المشَيَّدَة » هي المَشِيدَة كما قال: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحج:45 ] وقيل:بل بينهما فرق، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد، هي:المطولة، وبالتخفيف هي:المزينة بالشيد وهو الجص.

وقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد:أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار، فخرج، فإذا هو برجل واقف على الباب، فقال:ما ولدت المرأة؟ فقال:جارية، فقال:أما إنها ستزني بمائة رجل، ثم يتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال:فَكَرَّ راجعا، فبعج الجارية بسكين في بطنها، فشقه، ثم ذهب هاربا، وظن أنها قد ماتت، فخاطت أمها بطنها، فبرئت وشبت وترعرعت، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها فذهب ذاك [ الأجير ] ما ذهب، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج، فقال لعجوز:أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة. فقالت له:ليس هنا أحسن من فلانة. فقال:اخطبيها علي. فذهبت إليها فأجابت، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ؟ فأخبرها خبره، وما كان من أمره في هربه. فقالت:أنا هي. وأرته مكان السكين، فتحقق ذلك فقال:لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما، إحداهما:أنك قد زنيت بمائة رجل. فقالت:لقد كان شيء من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم؟ فقال:هم مائة. والثانية:أنك تموتين بالعنكبوت. فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا، ليحرزها من ذلك، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف، فأراها إياها، فقالت:أهذه التي تحذرها علي، والله لا يقتلها إلا أنا، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها .

ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر، وهو « الساطرون » لما احتال عليه « سابور » حتى حصره فيه، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها:

وأخــو الحَـــضْر إذ بنـاه وإذ دجـ لـــة تُجْــبَى إليــه والخــابورُ

شـــاده مَرْمَــرا وجللــه كــلْ ســا فللطــير فــي ذُرَاه وُكُــور

لــم تَهَبْـهُ أيـدي المنـون فبـاد الـ مُلْـــكُ عنــه فبابُــه مَهْجــور

ولما دخل على عثمان جعل يقول:اللهم اجمع أمة محمد، ثم تمثل بقول الشاعر:

أرى المـوتَ لا يُبقـي عَزيزا ولم يَدَعْ لعــاد مـلاذَّا فـي البـلاد ومَرْبَعـا

يُبَيَّـتُ أهـلُ الحِـصْن والحصنُ مغلقٌ ويأتـي الجبالَ في شَماريخهـا معــا

وقوله: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ) أي:خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي ( يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) أي:قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك. كما يقوله أبو العالية والسدي. ( يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) أي:من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك. كما قال تعالى عن قوم فرعون: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [ الأعراف:131 ] وكما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ] الآية [ الحج:11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال السدي: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ) قال:والحسنة الخصب، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا: ( هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ) والسيئة:الجدْب والضرر في أموالهم، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: ( هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) يقولون:بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء، فأنزل الله عز وجل: ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) فقوله ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البَرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) أي:الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري.

ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب. وقلة فهم وعلم، وكثرة جهل وظلم: ( فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا )

ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى: ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )

قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا السَّكن بن سعيد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا إسماعيل بن حماد، عن مقاتل بن حَيَّان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لم ارتفعت أصواتكما؟ » فقال رجل:يا رسول الله، قال أبو بكر:الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فما قلت يا عمر؟ » قال:قلت:الحسنات والسيئات من الله. تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال:نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض. فتحاكما إلى إسرافيل، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله » . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال « احفظا قضائي بينكما، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس » .

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة:هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة .

ثم قال تعالى - مخاطبًا - للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) أي:من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته ( وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي:فمن قبلك، ومن عملك أنت كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ الشورى:30 ] .

قال السدي، والحسن البصري، وابن جُريج، وابن زيد: ( فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي:بذنبك.

وقال قتادة: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) عقوبة يا ابن آدم بذنبك. قال:وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق، إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر » .

وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح: « والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه » .

وقال أبو صالح: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) أي:بذنبك، وأنا الذي قدرتها عليك. رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عمار، حدثنا سهل - يعني ابن بَكَّار - حدثنا الأسود بن شيبان، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال:ما تريدون من القدر، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) أي:من نفسك، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون.

وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا، ولبسطه موضع آخر.

وقوله تعالى: ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا ) أي:تبلغهم شرائع الله، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه.

( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) أي:على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا.

 

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ( 80 ) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 81 )

يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله ، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني » .

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، عن الأعمش به

وقوله: ( وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) أي:لا عليك منه، إن عليك إلا البلاغ فمن تَبِعك سَعِد ونجا، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له، ومن تولى عنك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، كما جاء في الحديث: « من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه » .

وقوله: ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ) يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ( فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ ) أي:خرجوا وتواروا عنك ( بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) أي:استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه. فقال تعالى: ( وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) أي:يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين، الذين هم موكلون بالعباد. يعلمون ما يفعلون. والمعنى في هذا التهديد، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك. كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ] [ النور:47 ] .

وقوله: ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) أي:اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تَخَفْ منهم أيضا ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) أي:كفى به وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ( 82 ) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ( 83 )

يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضادّ ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق؛ ولهذا قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ] [ محمد:24 ] ثم قال: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ ) أي:لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ( لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) أي:اضطرابا وتضادًّا كثيرًا. أي:وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله. كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [ آل عمران:7 ] أي:محكمة ومتشابهة حق؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين.

قال الإمام أحمد:حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حُمر النَّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرَة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا حتى احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: « مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدّق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمِه » .

وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حب الرُّمان من الغضب، فقال لهم: « ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم » . قال:فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده.

ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند، به نحوه .

وقال أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي عمْران الجَوْني قال:كتب إلي عبد الله بن رَبَاح، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال:هَجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية، فارتفعت أصواتهما فقال: « إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب » ورواه مسلم والنسائي، من حديث حماد بن زيد، به .

وقوله: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة.

وقد قال مسلم في « مقدمة صحيحه » حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن حفص، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع » وكذا رواه أبو داود في كتاب « الأدب » من سننه، عن محمد بن الحسين بن إشكاب، عن علي بن حفص، عن شعبة مسندًا ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري، وعبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري، ثلاثتهم عن شعبة، عن خُبَيب عن حفص بن عاصم، به مرسلا .

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي:الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت، ولا تَدبُّر، ولا تبَيُّن .

وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه » .

وفي الصحيح: « من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن » . ويذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه:أطلقت نساءك؟ قال: « لا » . فقلت الله أكبر . وذكر الحديث بطوله.

وعند مسلم:فقلت:أطلقتهن؟ فقال: « لا » فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي:لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.

ومعنى قوله: ( يستنبطونه ) أي:يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه، يقال:استنبط الرجل العين، إذا حفرها واستخرجها من قعورها .

ومعنى قوله: ( لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني المؤمنين.

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ) يعني:كلكم. واستشهد من نصر هذا القول. بقول الطرماح بن حكيم، في مدح يزيد بن المُهَلَّب:

أشَـمَّ كثيـر يَدى النـوال قليـل المَثَـالب والقَادحـة

يعني:لا مثالب له، ولا قادحة فيه.

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا ( 84 ) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ( 85 ) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ( 86 )

يأمر تعالى عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يباشر القتال بنفسه، ومن نكل عليه فلا عليه منه؛ ولهذا قال: ( لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمرو بن نُبَيْح، حدثنا حَكَّام، حدثنا الجراح الكندي، عن أبي إسحاق قال:سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من العدو، فيقاتل، أيكون ممن يقول الله: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [ البقرة:195 ] قال:قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ )

ورواه الإمام أحمد، عن سليمان بن داود، عن أبي بكر بن عيَّاش، عن أبي إسحاق قال:قلت للبراء:الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال:لا؛ لأن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ ) إنما ذلك في النفقة.

وكذا رواه ابن مردُويه، من طريق أبي بكر بن عياش، وعلي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن البراء به.

ثم قال ابن مردويه:حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن النضر العسكري، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الْجَرْمِيّ، حدثنا محمد بن حِمْيَر، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:لما نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ] ) الآية، قال لأصحابه: « قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا » حديث غريب .

وقوله: ( وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وهو يسوي الصفوف: « قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض » .

وقد وردت أحاديثُ كثيرة في الترغيب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها » قالوا:يا رسول الله، أفلا نبشر الناسَ بذلك؟ فقال: « إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة. وأعلى الجنة،وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة » .

ورُوي من حديث معاذ وأبي الدرداء وعُبادة نحو ذلك.

وعن أبي سعيد الخدْري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيًا، وجبت له الجنة » قال:فعجب لها أبو سعيد فقال:أعدها عليَّ يا رسول الله. ففعل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » قال:وما هي يا رسول الله؟ قال: « الجهاد في سبيل الله » رواه مسلم .

وقوله: ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.

وقوله: ( وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا ) أي:هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال [ تعالى ] ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ] [ محمد:4 ] .

وقوله: ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) أي:من سعى في أمر، فترتب عليه خير، كان له نصيب من ذلك ( وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ) أي:يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء » .

وقال مجاهد بن جَبْر:نـزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.

وقال الحسن البصري:قال الله تعالى: ( مَنْ يَشْفَعْ ) ولم يقل:من يُشَفَّع.

وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ) قال ابن عباس، وعطاء، وعطية، وقتادة، ومطر الوراق: ( مُقِيتًا ) أي:حفيظا. وقال مجاهد:شهيدا. وفي رواية عنه:حسيبا. وقال سعيد بن جبير، والسدي، وابن زيد:قديرا. وقال عبد الله بن كثير:المقيت:الواصب وقال الضحاك:المقيت:الرزاق.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف، حدثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل، عن رجل، عن عبد الله بن رواحة، وسأله رجل عن قول الله: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ) قال:يُقيت كلّ إنسان على قدر عمله .

وقوله: ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) أي:إذا سلم عليكم المسلم، فردوا عليه أفضل مما سلم، أو ردوا عليه بمثل ما سلم [ به ] فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة.

قال ابن جرير:حدثني موسى بن سهل الرملي، حدثنا عبد الله بن السَّري الأنطاكي، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن سلمان الفارسي قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:السلام عليك يا رسول الله. فقال: « وعليك السلام ورحمة الله » . ثم أتى آخر فقال:السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وعليك السلام ورحمة الله وبركاته » . ثم جاء آخر فقال:السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له: « وعليك » فقال له الرجل:يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي. فقال: « إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى: ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) فرددناها عليك » .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال:ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي، حدثنا عبد الله بن السري - أبو محمد الأنطاكي - قال أبو الحسن:وكان رجلا صالحا - حدثنا هشام بن لاحق، فذكر بإسناده مثله.

ورواه أبو بكر بن مردويه:حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان، فذكره بمثله، ولم أره في المسند والله أعلم.

وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك، لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن كثير - أخو سليمان بن كثير - حدثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن أبي رجاء العُطَاردي، عن عمران بن حُصَين؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:السلام عليكم فرد عليه ثم جلس، فقال: « عَشْرٌ » . ثم جاء آخر فقال: « السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه، ثم جلس، فقال: » عشرون « . ثم جاء آخر فقال:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد عليه، ثم جلس، فقال: » ثلاثون « . »

وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير، وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه، ثم قال الترمذي:حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حُنَيف [ رضي الله عنهم ] .

وقال البزَّار:قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه، هذا أحسنها إسنادا وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح، عن سِمَاك، عن عكرمة عن ابن عباس قال:من يسلم عليك من خلق الله، فاردد عليه وإن كان مجوسيا؛ ذلك بأن الله يقول: ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا )

وقال قتادة: ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ) يعني:للمسلمين ( أَوْ رُدُّوهَا ) يعني:لأهل الذمة.

وهذا التنـزيل فيه نظر، بل كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به، فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام؛ رد عليه مثل ما قال، فأما أهل الذمة فلا يُبْدؤون بالسلام ولا يزادون، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم:السام عليك فقل:وعليك » .

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه » .

وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري قال:السلام تطوع، والرد فريضة.

وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة:أن الرد واجب على من سلم عليه، فيأثم إن لم يفعل؛ لأنه خالف أمر الله في قوله: ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) وقد جاء في الحديث الذي رواه .

 

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ( 87 )

وقوله: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات، وتضمَّن قسما، لقوله: ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ) وهذه اللام موطئة للقسم، فقوله: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) خبر وقَسَم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله.

وقوله تعالى: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) أي:لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ( 88 ) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 89 ) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ( 90 ) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 91 )

يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد:

حدثنا بَهْز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت:أخبرني عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين:فرقة تقول:نقتلهم. وفرقة تقول:لا فأنـزل الله: ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنها طَيْبة، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة » .

أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة .

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.

وقال العوفي، عن ابن عباس:نـزلت في قوم كانوا بمكة، قد تكلموا بالإسلام، كانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا:إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين:اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين:سبحان الله! أو كما قالوا:أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم. فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فأنـزل الله: ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ )

رواه ابن أبي حاتم، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا.

وقال زيد بن أسلم، عن ابنٍ لسعد بن معاذ:أنها نـزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك.

وهذا غريب، وقيل غير ذلك.

وقوله: ( وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ) أي:ردهم وأوقعهم في الخطأ.

قال ابن عباس: ( أَرْكَسَهُمْ ) أي:أوقعهم. وقال قتادة:أهلكهم. وقال السدي:أضلهم.

وقوله: ( بِمَا كَسَبُوا ) أي:بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل.

( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ) أي:لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه.

ثم قال: ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) أي:هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم؛ ولهذا قال: ( فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي:تركوا الهجرة، قاله العوفي عن ابن عباس. وقال السدي:أظهروا كفرهم ( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) أي:لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على الأعداء ما داموا كذلك.

ثم استثنى الله، سبحانه من هؤلاء فقال: ( إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي:إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم كحكمهم. وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير .

وقد روى ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان، عن الحسن:أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال:لما ظهر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأُحُد، وأسلم من حولهم قال سراقة:بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مُدْلج - فأتيته فقلت:أَنْشُدُك النعمة. فقالوا:صه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « دعوه، ما تريد؟ » . قال:بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن قلوب قومك عليهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال: « اذهب معه فافعل ما يريد » . فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، [ ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم ] فأنـزل الله: ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ )

ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة، وقال فأنـزل الله: ( إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام.

وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال:نسخها قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ] [ التوبة:5 ] .

وقوله: ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ] ) الآية، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي:ضيقة صدورهم مُبْغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم. ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ) أي:من لطفه بكم أن كفهم عنكم ( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) أي:المسالمة ( فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ) أي:فليس لكم أن تقتلوهم، ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر بأسره.

وقوله: ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ] ) الآية، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ] [ البقرة:14 ] وقال هاهنا: ( كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ) أي:انهمكوا فيها.

وقال السدّي:الفتنة هاهنا:الشرك. وحكى ابن جرير، عن مجاهد:أنها نـزلت في قوم من أهل مكة، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) أي:عن القتال ( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) أي:أين لقيتموهم ( وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ) أي:بيِّنا واضحا.

 

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 92 ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( 93 )

يقول تعالى:ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث:النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة » .

ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه.

وقوله: ( إِلا خَطَأً ) قالوا:هو استثناء منقطع، كقول الشاعر

مـن البيـض لـم تَظْعن بعيدا ولم تَطَأ علـى الأرض إلا رَيْطَ بُــرْد مُــرَحَّل

.

ولهذا شواهد كثيرة.

واختلف في سبب نزول هذه [ الآية ] فقال مجاهد وغير واحد:نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه - وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد العامري، فأضمر له عَيّاش السوء، فأسلم ذلك الرجل وهاجر، وعياش لا يشعر، فلما كان يوم الفتح رآه، فظن أنه على دينه، فحمل عليه فقتله. فأنزل الله هذه الآية .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:نزلت في أبي الدرداء؛ لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام حين رفع السيف، فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:إنما قالها متعوذا. فقال له: « هل شققت عن قلبه » [ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء ] .

وقوله: ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ] ) هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما:الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم، وإن كان خطأ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة.

وحكى ابن جرير، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري أنهم قالوا:لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدًا للإيمان. وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة قال:في حرف، أبي: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) لا يجزئ فيها صبي.

واختار ابن جرير إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين أجزأ، وإلا فلا. والذي عليه الجمهور:أنه متى كان مسلمًا صح عتقه عن الكفارة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا.

وقال الإمام أحمد:أنبأنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزُّهري، عن عبد الله بن عبد الله، عن رجل من الأنصار؛ أنه جاء بِأَمَةٍ سوداء، فقال:يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ » قالت:نعم. قال: « أتشهدين أني رسول الله؟ » قالت نعم. قال: « أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ » قالت:نعم، قال: « أعتقها » .

وهذا إسناد صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر .

وفي موطأ [ الإمام ] مالك ومسندي الشافعي وأحمد، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي، من طريق هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أين الله؟ » قالت:في السماء. قال: « من أنا » قالت:أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أعتقها فإنها مؤمنة » .

وقوله: ( وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ) هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم. وهذه الدية إنما تجب أخماسا، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث الحجاج بن أرطأة، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن ابن مسعود قال:قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة وعشرين حِقَّة.

لفظ النسائي، وقال الترمذي:لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد الله موقوفا .

وكذا روي عن [ علي و ] طائفة.

وقيل:تجب أرباعا. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل، لا في ماله، قال الشافعي، رحمه الله:لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهو أكثر من حديث الخاصة وهذا الذي أشار إليه، رحمه الله، قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال:اقتتلت امرأتان من هُذَيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غُرَّة عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها .

وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد، لشبهه به.

وفي صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر قال:بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا:أسلمنا. فجعلوا يقولون:صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال: « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد » . وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم، حتى مِيلَغة الكلب .

وهذا [ الحديث ] يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.

وقوله: ( إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا ) أي:فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب.

وقوله: ( فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) أي:إذا كان القتيل مؤمنا، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب، فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير.

وقوله: ( وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ] ) الآية، أي:فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة، فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنا فدية كاملة، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء. وقيل:يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل:ثلثها، كما هو مفصل في [ كتاب الأحكام ] ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة.

( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) أي:لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر، من مرض أو حيض أو نفاس، استأنف. واختلفوا في السفر:هل يقطع أم لا؟ على قولين.

وقوله: ( تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي:هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين.

واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام:هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا، كما في كفارة الظهار؟ على قولين؛ أحدهما:نعم. كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر هاهنا؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص. القول الثاني:لا يعدل إلى الإطعام؛ لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة.

( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) قد تقدم تفسيره غير مرة.

ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [ وَلا يَزْنُونَ ] الآية [ الفرقان:68 ] وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [ إلى أن قال:

وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ] [ الأنعام:151 ] .

والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء » وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري، عن عبادة بن الصامت قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يزال المؤمن مُعنقا صالحا ما لم يصب دما حراما، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح » وفي حديث آخر: « لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم » وفي الحديث الآخر: « لو أجمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم، لأكبهم الله في النار » وفي الحديث الآخر: « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه:آيس من رحمة الله » .

وقد كان ابن عباس، رضي الله عنهما، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن.

وقال البخاري:حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا مغيرة بن النعمان قال:سمعت ابن جبير قال:اختلف فيها أهل الكوفة، فَرَحَلْتُ إلى ابن عباس فسألته عنها فقال:نزلت هذه الآية: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [ خَالِدًا ] ) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.

وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق، عن شعبة، به ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا ) فقال:لم ينسخها شيء.

[ وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال:قال عبد الرحمن بن أبزة:سئل ابن عباس عن قوله: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا ) فقال:لم ينسخها شيء ] وقال في هذه الآية: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] [ الفرقان:68 ] قال نزلت في أهل الشرك .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثنى الحكم، عن سعيد بن جبير- قال:سألت ابن عباس عن قوله [ تعالى ] ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) قال:إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد فقال:إلا من ندم.

حدثنا ابن حميد، وابن وَكِيع قالا حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجَعْد قال:كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره، فأتاه رجل فناداه:يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: ( جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) قال:أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس:ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: « ثكلته أمه، قاتل مؤمن متعمدا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى، يقول:سل هذا فيم قتلني » ؟ وأيم الذي نفس عبد الله بيده! لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان.

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت يحيى بن المُجَبَّر يحدث عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس؛ أن رجلا أتاه فقال:أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا؟ فقال: ( جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ] ) قال:لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال:وأنى له بالتوبة. وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: « ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله- تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول:يا رب، سل عبدك فيم قتلني؟ » .

وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن عمار الدُّهني، ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، فذكره وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة.

وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف:زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد بن عمر، والحسن، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم.

وفي الباب أحاديث كثيرة:من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره:حدثنا دَعْلَج بن أحمد، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجي وحدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة، حدثنا مُعْتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي عمرو بن شُرَحْبِيل، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول:يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ » قال: « فيقول:قتلته لتكون العزة لك. فيقول:فإنها لي » . قال: « ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول:رب، سل هذا فيم قتلني؟ » قال: « فيقول قتلته لتكون العزة لفلان » . قال: « فإنها ليست له بؤْ بإثمه » . قال: « فيهوي في النار سبعين خريفا » .

وقد رواه عن النسائي، عن إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ العَوْفي، عن عمرو بن عاصم، عن معتمر بن سليمان، به

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ثور بن يزيد، عن أبي عون، عن أبي إدريس قال:سمعت معاوية، رضي الله عنه، يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا » .

وكذا رواه النسائي، عن محمد بن المثنى، عن صفوان بن عيسى، به .

وقال ابن مردويه:حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا سَمُّوَيْه، حدثنا عبد الأعلى بن مُسْهِر، حدثنا صَدَقَةُ بن خالد، حدثنا خالد بن دِهْقان، حدثنا ابن أبي زكريا قال:سمعت أم الدرداء تقول:سمعت أبا الدرداء يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا، أو من قتل مؤمنا متعمدا » .

وهذا غريب جدا من هذا الوجه. والمحفوظ حديث معاوية المتقدم فالله أعلم.

ثم روى ابن مَردويه من طريق بَقَيَّةَ بن الوليد، عن نافع بن يزيد، حدثني ابن جبير الأنصاري، عن داود بن الحُصَين، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل » .

وهذا حديث منكر أيضا، وإسناده تُكُلم فيه جدا .

وقال الإمام أحمد:حدثنا النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد قال:أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي، فقال لنا:هلما فأنتما أشب شيئًا مني، وأوعى للحديث مني، فانطلق بنا إلى بِشْر بن عاصم - فقال له أبو العالية:حدث هؤلاء حديثك. فقال:حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال:بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فأغارت على قوم، فشد من القوم رجل، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم:إني مسلم. فلم ينظر فيما قال، فضربه فقتله، فَنَمَى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا، فبلغ القاتلَ. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ قال القاتلُ:والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل. قال:فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته، ثم قال أيضا:يا رسول الله، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس، وأخذ في خطبته، ثم لم يصبر، فقال الثالثة:والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعْرف المساءةُ في وجهه، فقال: « إن الله أبى على من قتل مؤمنا » ثلاثًا.

ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة

والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها:أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.

قال الله تعالى:وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ] * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ] [ الفرقان:68- 70 ] وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.

وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ] [ الزمر:53 ] وهذا عام في جميع الذنوب، من كفر وشرك، وشك ونفاق، وقتل وفسق، وغير ذلك:كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه.

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النساء:48 ] . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرجاء، والله أعلم.

وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما:هل لي من توبة؟ فقال:ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يَعْبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. كما ذكرناه غير مرة، إن كان هذا في بني إسرائيل فَلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ] فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف:هذا جزاؤه إن جازاه، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا، من طريق محمد بن جامع العطار، عن العلاء بن ميمون العنبري، عن حجاج الأسود، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا، ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة:أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كل وعيد على ذنب، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول القاتل إلى النار، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به، فليس يخلد فيها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطويل. وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان. وأما حديث معاوية: « كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا » : « عسى » للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما، وهو القتل؛ لما ذكرنا من الأدلة. وأما من مات كافرا؛ فالنص أنه لا يغفر له البتة، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغضوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول من فضله بمايشاء، من قصور الجنة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك، والله أعلم.

ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة أما [ في ] الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه، قال الله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ] [ الإسراء:33 ] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا:ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذْعَة، وأربعون خَلِفَه كما هو مقرر في كتب الأحكام.

واختلف الأئمة:هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام؟ على أحد القولين، كما تقدم في كفارة الخطأ، على قولين:فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون:نعم، يجب عليه؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى. وطردوا هذا في كفارة اليمين الغَمُوس، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ.

قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون:قتل العمد أعظم من أن يكفر، فلا كفارة فيه، وكذا اليمين الغموس، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا، فإنهم يقولون:بوجوب قضائها وإن تركت عمدًا.

وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال:حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة، عن الغَرِيف بن عياش، عن واثلة بن الأسقع قال:أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا:إن صاحبا لنا قد أوجب. قال: « فليعتق رقبة، يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار » .

وقال أحمد:حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغَريف الديلمي قال:أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا:حدثنا حديثا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال: « أعتقوا عنه، يُعْتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار » .

وكذا رواه أبو داود والنسائي، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة، به ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال:أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا:حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب فقال:إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص، قلنا:إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار- بالقتل، فقال: « أعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار » .

[ قوله عز وجل ]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 94 )

قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، وحسين بن محمد، وخلف بن الوليد، قالوا:حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال:مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم فقالوا:ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ] ) إلى آخرها.

ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حميد، عن عبد العزيز بن أبي رِزْمَة، عن إسرائيل، به. وقال:هذا حديث حسن، وفي الباب عن أسامة بن زيد. ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، به. ثم قال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان، كلاهما عن إسرائيل، به وقال في بعض كتبه غير التفسير - وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط- :وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما، لعلل منها:أنه لا يعرف له مخرج عن سِمَاك إلا من هذا الوجه، ومنها:أن عكرمة في روايته عندهم نظر، ومنها:أن الذي أنزلت فيه الآية مختلف فيه، فقال بعضهم:أنزلت في مُحَلِّم بن جَثَّامَةَ، وقال بعضهم:أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك.

قلت:وهذا كلام غريب، وهو مردود من وجوه أحدها:أنه ثابت عن سِمَاك، حدث به عنه غير واحد من الكبار. الثاني:أن عكرمة محتج به في الصحيح. الثالث:أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس، كما قال البخاري:حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمِنًا ) قال:قال ابن عباس:كان رجل في غُنَيْمَة له، فلحقه المسلمون، فقال:السلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غُنَيمته [ فأنزل الله ذلك إلى قوله: ( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تلك الغنيمة. قرأ ابن عباس ( السلام ) وقال سعيد بن منصور:حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال:لحق المسلمون رجلا في غُنَيْمَة فقال:السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَته ] فنزلت: ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمِنًا )

ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من طريق سفيان بن عيينه، به

وأما قصة محلم بن جَثَّامة فقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله ابن أبي حدرد، رضي الله عنه، قال:بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَم، فخرجت في نفر من المسلمين، فيهم:أبو قتادة الحارث بن رِبْعي، ومحلم بن جَثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، على قَعُود له، معه مُتَيَّع ووَطْب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، بشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره مُتَيَّعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ ] خَبِيرًا ) .

تفرد به أحمد

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع؛ أن ابن عمر قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَلِّم بن جَثَّامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم حسنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع:يا رسول الله، سن اليوم وغير غدا. فقال عيينة:لا والله، حتى تذوق نساؤه من الثُّكل ما ذاق نسائي. فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا غَفَرَ الله لك » . فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات، ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: « إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن يعظكم من جرمتكم » ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة، ونزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِيَن آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ) الآية .

وقال البخاري:قال حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد، عن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: « إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلتَه، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل » .

هكذا ذكر البخاري هذا الحديث معلقا مختصرا وقد روي مطولا موصولا فقال الحافظ أبو بكر البزار:

حدثنا حماد بن علي البغدادي، حدثنا جعفر بن سلمة، حدثنا أبو بكر بن علي بن مُقَدَّم، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال:أشهد أن لا إله إلا الله. وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه:أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرَن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:يا رسول الله، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد. فقال: « ادعوا لي المقداد. يا مقداد، أقتلت رجلا يقول:لا إله إلا الله، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟ » . قال:فأنزل الله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: « كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه، فقتلْتَه، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل » .

وقوله: ( فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) أي:خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، وأظهر إليكم الإيمان، فتغافلتم عنه، واتهمتموه بالمصانعة والتقية؛ لتبتغوا عَرَضَ الحياة الدنيا، فما عند الله من المغانم الحلال خير لكم من مال هذا.

وقوله: ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) أي:قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يُسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا، وكما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ [ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ] الآية [ الأنفال:26 ] ، وهذا هو مذهب سعيد بن جبير، كما رواه الثوري، عن حبيب بن أبي عَمْرَة، عن سعيد بن جبير في قوله: ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) تخفون إيمانكم في المشركين.

ورواه عبد الرزاق، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله: ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) تستخفون بإيمانكم، كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.

وهذا اختيار ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم:وذُكر عن قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قوله: ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) [ تورعون عن مثل هذا، وقال الثوري عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: ( كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) ] لم تكونوا مؤمنين ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [ فَتَبَيَّنُوا ) وقال السدي: ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) ] أي:تاب عليكم، فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول: « لا إله إلا الله » بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.

وقوله: ( فَتَبَيَّنُوا ) تأكيد لما تقدم. وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) قال سعيد بن جبير:هذا تهديد ووعيد.

 

لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 95 ) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 96 )

قال البخاري:حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:لما نزلت: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [ عز وجل ] ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ )

حدثنا محمد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:لما نزلت: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ادع فلانا » فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال: « اكتب:لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله » وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم، فقال:يا رسول الله، أنا ضرير فنزلت مكانها: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ )

وقال البخاري أيضا:حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسان، عن ابن شهاب، حدثني سهل بن سعد الساعدي:أنه رأى مَروان بن الحكم في المسجد، قال:فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عَلَيّ: « لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله » . فجاءه ابن أم مكتوم، وهو يمليها عليَّ، قال:يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى- فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفَخِذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله: ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ )

انفرد به البخاري دون مسلم، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد:

حدثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد قال:قال زيد بن ثابت:إني قاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أُوحِي إليه، قال:وغشيته السكينة، قال:فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة. قال زيد:فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سري عنه فقال: « اكتب يا زيد » . فأخذت كتفا فقال: « اكتب: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ ) إلى قوله ( أَجْرًا عَظِيمًا ) فكتبت ذاك في كتف، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال:يا رسول الله، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى، وأشباه ذلك؟ قال زيد:فوالله ما مضى كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عنه فقال: » اقرأ « . فقرأت عليه: » لا يستوِي القاعدون من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ « فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) قال زيد:فألحقتها، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقها عند صدع كان في الكتف. »

ورواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، به نحوه .

وقال عبد الرزاق:أنبأنا معمر، عن الزهري، عن قَبيصة بن ذُؤَيب، عن زيد بن ثابت، قال:كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله » فجاء عبد الله ابن أم مكتوم فقال:يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيد:فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، حتى خشيت أن ترضها ثم سُرِّي عنه، ثم قال: « اكتب: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) »

ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق:أخبرني ابن جُرَيْج، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجَزري - أن مِقْسما مولى عبد الله بن الحارث - أخبره أن ابن عباس أخبره:لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر، والخارجون إلى بدر.

انفرد به البخاري دون مسلم. وقد رواه الترمذي من طريق حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عبد الكريم، عن مِقْسم، عن ابن عباس قال:لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر، والخارجون إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم:إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت: ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.

هذا لفظ الترمذي، ثم قال:هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

فقوله [ تعالى ] ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) كان مطلقا، فلما نزل بوحي سريع: ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) صار ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد - من الْعَمَى والعَرَج والمرض- عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.

ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عباس: ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية، عن حُمَيْد، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مَسِير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه » قالوا:وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال: « نعم حبسهم العذر » .

وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عَدِيّ عن حُمَيد، عن أنس، به وعلقه البخاري مجزوما. ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن موسى بن أنس بن مالك، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه » . قالوا:يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: « حبسهم العذر » .

لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشاعر:

يـا راحـلين إلـى البَيـت العتيـق لَقَدْ سـرْتُم جُسُـوما وسـرْنا نحنُ أرواحا

إنَّـا أقَمنـا عـلى عُـذْرٍ وعَـنْ قَــدَرٍ ومَـنْ أقـامَ عـلى عـذْرٍ فقـد راحا

وقوله: ( وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) أي:الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية.

ثم قال تعالى: ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات، في غرف الجِنَان العاليات، ومغفرة الذنوب والزلات، وحلول الرحمة والبركات، إحسانا منه وتكريما؛ ولهذا قال تعالى: ( دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » .

وقال الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من بلغ بسهم فله أجره درجة » فقال رجل:يا رسول الله، وما الدرجة ؟ فقال: « أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام » .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 97 ) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ( 98 ) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ( 99 ) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 100 )

قال البخاري:حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حَيْوَة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال:قطع على أهل المدينة بعْثٌ، فاكتتبت فيه، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال:أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فَيُرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل، فأنزل الله [ عز وجل ] ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) رواه الليث عن أبي الأسود .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور الرَّمَادِي، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري- حدثنا محمد بن شَرِيك المكي، حدثنا عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس قال:كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم بفعل بعض قال المسلمون:كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستَغْفَروا لهم، فنزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) إلى آخر ] الآية، قال:فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية:لا عذر لهم. قال:فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية [ البقرة:8 ] .

وقال عكرمة:نزلت هذه الآية في شباب من قريش، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة، منهم:علي بن أمية بن خَلَف، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زَمْعة.

وقال الضحاك:نزلت في ناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) أي:بترك الهجرة ( قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) أي:لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ ( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ ) أي:لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض ( قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ] ) .

وقال أبو داود:حدثنا محمد بن داود بن سفيان، حدثني يحيى بن حسان، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سليمان، عن أبيه سليمان بن سمرة، عن سمرة بن جندب:أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله » .

وقال السدي:لما أسر العباس وَعقِيل ونَوْفَل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: « افد نفسك وابن أخيك » قال:يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: « يا عباس، إنكم خاصمتم فخُصمتم » . ثم تلا عليه هذه الآية: ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ] ) رواه ابن أبي حاتم.

وقوله: ( إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ [ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ] ) هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا قال: ( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ) قال مجاهد وعكرمة، والسدي:يعني طريقا.

وقوله تعالى: ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) أي:يتجاوز عنهم بترك الهجرة، وعسى من الله موجبة ( وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) .

قال البخاري:حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا شَيْبَان، عن يَحْيَى، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة قال:بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: « سمع الله لمن حمده » ثم قال قبل أن يسجد « اللهم نَج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نَج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم اجعلها سنين كسِنِيِّ يوسف » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو معمر المقري حدثنا عبد الوارث، حدثنا علي بن زيد، عن سعيد بن المسَّيب، عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعدما سلم، وهو مستقبل القبلة فقال: « اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسَلَمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار » .

وقال ابن جرير:حدثنا المثنى، حدثنا حجاج، حدثنا حماد، عن علي بن زيد عن عبد الله - أو إبراهيم بن عبد الله القرشي- عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دُبُرِ صلاة الظهر: « اللهم خَلِّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا » .

ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم .

وقال عبد الرزاق:أنبأنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال:سمعت ابن عباس يقول:كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان

وقال البخاري:أنبأنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس: ( إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ ) قال:كانت أمي ممن عَذَر الله عز وجل .

وقوله: ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ) هذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه، و « المراغم » مصدر، تقول العرب:راغم فلان قومه مراغما ومراغمة، قال نابغة بني جعدة .

كَطَــــوْدٍ يُـــلاذُ بأرْكَانِـــه عَزيـــز المُـــرَاغَم وَالْمَهْــربِ

وقال ابن عباس: « المراغَم » :التحول من أرض إلى أرض . وكذا رُوي عن الضحاك والربيع بن أنس، الثوري، وقال مجاهد: ( مُرَاغَمًا كَثِيرًا ) يعني:متزحزحا عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: ( مُرَاغَمًا كَثِيرًا ) يعني:بروجا.

والظاهر - والله أعلم- أنه التمنّع الذي يُتَحصَّن به، ويراغم به الأعداء.

قوله: ( وَسَعَةً ) يعني:الرزق. قاله غير واحد، منهم:قتادة، حيث قال في قوله: ( يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ) إي، والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.

وقوله: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) أي:ومن خرج من منزله بنية الهجرة، فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له من الله ثواب من هاجر، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وَقّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه » .

وهذا عام في الهجرة وفي كل الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نَفْسًا. ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالما:هل له من توبة؟ فقال:ومن يَحُول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر، أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء:إنه جاء تائبا. وقال هؤلاء:إنه لم يَصِلْ بَعْدُ. فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب كان منها، فأمر الله هذه أن يُقرب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بِشِبْر، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية:أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن محمد بن عبد الله بن عَتِيك، عن أبيه عبد الله بن عَتِيك قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله- ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث:الوسطى والسبابة والإبهام، فجمعهن وقال:وأين المجاهدون- ؟ فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله أو مات حَتْف أنفه، فقد وقع أجره على الله - والله! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومن قتل قَعْصًا فقد استوجب المآب . »

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن المنذر بن عبد الله، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه؛ أن الزبير بن العوام قال:هاجر خالد بن حِزَام إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق فمات، فنزلت فيه: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) قال الزبير:فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني؛ لأنه قَلّ أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى، ولا أرجو غيره.

وهذا الأثر غريب جدا فإن هذه القصة مكية، ونزول هذه الآية مدنية، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن الأشعث - هو ابن سَوَّار- عن عكرمة، عن ابن عباس قال:خرج ضَمْرَةُ بن جُنْدُب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ] ) .

وحدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رَجَاء، أنبأنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزُّرَقِي، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة فلما نزلت: ( إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ) فقلت:إني لغني، وإني لذو حيلة، [ قال ] فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتَّنْعِيم، فنزلت هذه الآية: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ] )

قال الحافظ أبو يعلى:حدثنا إبراهيم بن زياد سَبَلانُ، حدثنا أبو معاوية، حدثنا محمد بن إسحاق، عن حميد بن أبي حميد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من خرج حاجا فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ( 101 )

يقول تعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ) أي:سافرتم في البلاد، كما قال تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] الآية [ المزمل:20 ] .

وقوله: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) أي:تخَفّفوا فيها، إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية، كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر، على اختلافهم في ذلك:فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة، من جهاد، أو حج، أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة، وغير ذلك، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه، لظاهر قوله: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا )

ومن قائل لا يشترط سفر القربة، بل لا بد أن يكون مباحا، لقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ [ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] [ المائدة:3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره. وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة.

وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة:حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال:جاء رجل فقال:يا رسول الله، إني رجل تاجر، أختلف إلى البحرين « فأمره أن يصلي ركعتين » وهذا مرسل .

ومن قائل:يكفي مطلق السفر، سواء كان مباحا أو محظورا، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل، تَرَخَّص، لوجود مطلق السفر. وهذا قول أبي حنيفة، رحمه الله، والثوري وداود، لعموم الآية وخالفهم الجمهور. وأما قوله: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له، كقوله وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [ النور:33 ] ، وكقوله: وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ الآية [ النساء:23 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا ابن إدريس، حدثنا ابن جُرَيْج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابَيْه، عن يعلى بن أمية قال:سألت عمر بن الخطاب قلت: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وقد أمَّن الله الناس ؟ فقال لي عمر:عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: « صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته » .

وهكذا رواه مسلم وأهل السنن، من حديث ابن جريج، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، به. وقال الترمذي:هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني:هذا حديث صحيح من حديث عمر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه، ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة:حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك بن مِغْول، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال:سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال:ركعتان. فقلت:أين قوله تعالى: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ونحن آمنون؟ فقال:سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن مَرْدُويه:حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى، حدثنا علي بن محمد بن سعيد، حدثنا مِنْجَاب، حدثنا شُرَيْك، عن قيس بن وهب، عن أبي الودَّاك:سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر؟ فقال:هي رخصة، نزلت من السماء، فإن شئتم فردوها.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة:حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ابن عَوْن، عن ابن سِيرِين، عن ابن عباس قال:صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، ونحن آمنون، لا نخاف بينهما، ركعتين ركعتين.

وكذا رواه النسائي، عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد الحذَّاء عن عبد الله بن عون، به قال أبو عمر بن عبد البر:وهكذا رواه أيوب، وهشام، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.

قلت:وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن هُشَيم، عن منصور بن زَاذَان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة، لا يخاف إلا ربَّ العالمين، فصلى ركعتين، ثم قال الترمذي:صحيح .

وقال البخاري:حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال:سمعت أنسا يقول:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قلت:أقمتم بمكة شيئا؟ قال:أقمنا بها عَشْرًا.

وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا سُفْيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال:صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين.

ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عنه، به ولفظ البخاري:حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت حارثة بن وهب قال:صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.

وقال البخاري:حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، حدثنا عبيد الله، أخبرنا نافع، عن عبد الله بن عمر قال:صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، وأبي بكر وعمر، ومع عثمان صدرا من إمارته، ثم أتمها.

وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ] به .

وقال البخاري:حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد، عن الأعمش، حدثنا إبراهيم، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول:صلى بنا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بمنى أربع ركعات، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع، ثم قال:صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي مع أربع ركعات ركعتان متقبلتان.

ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري، عن الأعمش، به. وأخرجه مسلم من طرق، عنه. منها عن قتيبة كما تقدم .

فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف؛ ولهذا قال من قال من العلماء:إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية. وهو قول مجاهد، والضحاك، والسدي كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت:فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر، فَأقرَّت صلاة السفر؛ وَزِيد في صلاة الحضر.

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي، ومسلم عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القَعْنَبي، والنَّسائي عن قتيبةَ، أربعتهم عن مالك، به .

قالوا:فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) ؟

وأصرح من ذلك دلالة على هذا، ما رواه الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زُبَيْد اليامي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر، رضي الله عنه، قال:صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

وهكذا رواه النسائي وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، من طرق عن زُبَيْد اليامي به .

وهذا إسناد على شرط مسلم. وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى، عن عمر. وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره، وهو الصواب إن شاء الله. وإن كان يحيى بن مَعين، وأبو حاتم، والنسائي قد قالوا:إنه لم يسمع منه. وعلى هذا أيضا، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي، من طريق الثوري، عن زُبَيد، عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ] عن الثقة، عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن زبيد، عن عبد الرحمن، عن كعب بن عُجْرَة، عن عمر، به. ، فالله أعلم .

وقد روى مسلم في صحيحه، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري - زاد مسلم والنسائي:وأيوب بن عائد - كلاهما عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس قال:فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي:حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال:فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين ] فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها، فكذلك يصلى في السفر .

ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد، عن طاوس نفسه .

فهذا ثابت عن ابن عباس، رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر، فلما استقر ذلك صح أن يقال:إن فرض صلاة الحضر أربع، كما قاله ابن عباس، والله أعلم. لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان، وأنها تامة غير مقصورة، كما هو مصرح به في حديث عمر، رضي الله عنه، وإذا كان كذلك، فيكون المراد بقوله تعالى: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) قصر الكيفية كما في صلاة الخوف؛ ولهذا قال: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ] ) .

ولهذا قال بعدها: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ] الآية فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته؛ ولهذا لما اعتضد البخاري

« كتاب صلاة الخوف » صدره بقوله تعالى: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا

وهكذا قال جُوَيبر، عن الضحاك في قوله: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) قال:ذاك عند القتال، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.

وقال أسباط، عن السدي في قوله: ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ) الآية:إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام، التقصير لا يحل، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة، فالتقصير ركعة.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسفان والمشركون بضجْنان، فتوافقوا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا، فَهَمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم.

روى ذلك ابن أبي حاتم. ورواه ابن جرير، عن مجاهد والسدي، وعن جابر وابن عمر، واختار ذلك أيضا، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك:وهو الصواب. وقال ابن جرير:حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد:أنه قال لعبد الله بن عمر:إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله:إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به.

فقد سمى صلاة الخوف مقصورة، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن.

وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا:حدثني أحمد بن الوليد القرشي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سِمَاك الحنفي:سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال:ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة. فقلت:وما صلاة المخافة؟ فقال:يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة .

 

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 102 )

صلاة الخوف أنواع كثيرة، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة، وتارة يكون في غير صَوْبها، والصلاة تارة تكون رباعية، وتارة ثلاثية كالمغرب، وتارة ثنائية، كالصبح وصلاة السفر، ثم تارة يصلون جماعة، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا وركبانا، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة.

ومن العلماء من قال:يصلون والحالة هذه ركعة واحدة؛ لحديث ابن عباس المتقدم، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي:وبه قال عطاء، وجابر، والحسن، ومجاهد، والحكم، وقتادة، وحماد. وإليه ذهب طاوس والضحاك.

وقد حكى أبو عاصم العَبَّادي عن محمد بن نصر المروزي؛ أنه يرى رَدَّ الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا.

وقال إسحاق بن راهويه:أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة، تومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة؛ لأنها ذكر الله.

وقال آخرون:تكفي تكبيرة واحدة. فلعله أراد ركعة واحدة، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بُخْت المكي، حتى قال:فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه، يعني بالنية، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عَيَّاش، عن شعيب بن دينار، عنه، فالله أعلم.

ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر، قيل:والظهر، فصلاهما بعد الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء. وكما قال بعدها - يوم بني قريظة، حين جهز إليهم الجيش - : « لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة » ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق، فقال منهم قائلون:لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيلَ المسير، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق. وأخَّر آخرون منهم العصر، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب، ولم يُعَنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة، وبَيَّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود. وأما الجمهور فقالوا:هذا كله منسوخ بصلاة الخوف، فإنها لم تكن نـزلت بعد، فلما نـزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري، الذي رواه الشافعي وأهل السنن، ولكن يشكل على هذا ما حكاه البخاري رحمه الله، في صحيحه، حيث قال:

« باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو » :قال الأوزاعي:إن كان تَهَيَّأ الفتحُ ولم يقدروا على الصلاة، صَلُّوا إيماء، كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين. فإن لم يقدروا صَلُّوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير، ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول، وقال أنس بن مالك:حضرت مناهضة حصن تُسْتر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نُصَلِّ إلا بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، فَفُتح لنا، قال أنس:وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.

انتهى ما ذكره، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب، ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وكأنه كالمختار لذلك، والله أعلم.

ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب، ولم ينقل أنه أنكر عليهم، ولا أحد من الصحابة، والله أعلم.

[ و ] قال هؤلاء:وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق؛ لأن ذات الرِّقَاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي. وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقدي، ومحمد بن سعد كاتبه، وخليفة بن خَيَّاط وغيرهم وقال البخاري وغيره:كانت ذات الرقاع بعد الخندق، لحديث أبي موسى وما قَدم إلا في خيبر، والله أعلم. والعجب - كل العجب - أن المُزْني، وأبا يوسف القاضي، وإبراهيم بن إسماعيل ابن عُلَيَّة ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره، عليه السلام، الصلاة يوم الخندق. وهذا غريب جدًّا، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب، والله أعلم.

فقوله تعالى: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) أي:إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف، وهذه حالة غير الأولى، فإن تلك قصرها إلى ركعة، كما دل عليه الحديث، فرادى ورجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد. وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ ) فبعده تفوت هذه الصفة، فإنه استدلال ضعيف، ويُرَدُّ عليه مثل قول مانعي الزكاة، الذين احتجوا بقوله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [ التوبة:103 ] قالوا:فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد، بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه، ولا ندفعها إلى من صلاته، أي:دعاؤه، سكن لنا، ومع هذا ردَّ عليهم الصحابة وأبَوْا عليهم هذا الاستدلال، وأجبروهم على أداء الزكاة، وقاتلوا من منعها منهم.

ولنذكر سبب نـزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها:

قال ابن جرير:حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الله بن هاشم، أنبأنا سيف عن أبي رَوْق، عن أبي أيوب، عن علي، رضي الله عنه، قال:سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنـزل الله عز وجل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظّهر، فقال المشركون:لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم:إن لهم أخرى مثلها في إثرها. قال:فأنـزل الله عز وجل بين الصلاتين: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا . ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) إلى قوله: ( أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) ] فنـزلت صلاة الخوف.

وهذا سياق غريب جدا ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزُّرَقي، واسمه زيد بن الصامت، رضي الله عنه، قال الإمام أحمد:

حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش قال:كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا:لقد كانوا على حال لو أصبنا غُرَّتَهم. ثم قالوا:تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. قال:فنـزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) قال:فحضرت، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، [ قال ] فصفنا خلفه صفين، قال:ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم، ثم انصرف. قال:فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين:مرة بعسفان، ومرة بأرض بني سليم.

ثم رواه أحمد ، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن منصور، به نحوه. وهكذا رواه أبو داود، عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبد الحميد، والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد، كلهم عن منصور، به .

وهذا إسناد صحيح، وله شواهد كثيرة، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال:حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح، حدثنا محمد بن حرب، عن الزُّبيدي، عن الزُّهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال:قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوا معه، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا، وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في الصلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضًا .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن سليمان اليَشْكُري:أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة:أي يوم أنـزل؟ أو:أي يوم هو؟ فقال جابر:انطلقنا نتلقي عِيرَ قريش آتية من الشام، حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا محمد. قال: « نعم » ، قال:هل تخافني؟ قال: « لا » . قال:فما يمنعك مني؟ قال: « الله يمنعني منك » . قال:فَسلَّ السيف ثم تهدده وأوعده، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم. فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، والقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنـزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.

وقال الإمام أحمد:حدثنا سُرَيج حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس اليَشْكُري، عن جابر بن عبد الله قال:قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خَصَفَة فجاء رجل منهم يقال له: « غورث بن الحارث » حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال:من يمنعك مني؟ قال: « الله » ، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ومن يمنعك مني » ؟ قال:كن خير آخذ. قال: « أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ » قال:لا ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى قومه فقال:جئتكم من عند خير الناس. فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين:طائفة بإزاء العدو، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين، وانصرفوا، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم. وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين.

تفرد به من هذا الوجه .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنَان، حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم، حدثنا المسعودي، عن يزيد الفقير قال:سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر:أقصرهما؟ قال:الركعتان في السفر تمام، إنما القصر واحدة عند القتال، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذْ أقيمت الصلاة، فقام رسول الله صلى فصف طائفة، وطائفة وجهها قِبَل العدو، فصلَّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم، وسلم الذين خلفه، وسلم أولئك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، وللقوم ركعة ركعة، ثم قرأ: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صفٌّ بين يديه، وصفٌّ خلفه، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة.

ورواه النسائي من حديث شعبة، ولهذا الحديث طرق عن جابر وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا نُعَيْم بن حمَّاد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا مَعْمَر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) قال:هي صلاة الخوف، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى، ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة. وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر، به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في سرد طُرُقه وألفاظه، وكذا ابن جرير، ولنحرره في كتاب « الأحكام الكبير » إن شاء الله، وبه الثقة.

وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف، فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله: ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ) أي:بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة: ( إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا )

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ( 103 ) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 104 )

يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك، مما ليس يوجد في غيرها، كما قال تعالى في الأشهر الحرم: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ التوبة:36 ] ، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها؛ ولهذا قال تعالى: ( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ) أي في سائر أحوالكم.

ثم قال: ( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أي:فإذا أمنتم وذهب الخوف، وحصلت الطمأنينة ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) أي:فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها، وخشوعها، وسجودها وركوعها، وجميع شئونها.

وقوله: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) قال ابن عباس:أي مفروضا. وكذا روي عن مجاهد، وسالم بن عبد الله، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، والحسن، ومقاتل، والسدي، وعطية العوفي.

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) قال ابن مسعود:إن للصلاة وقتا كوقت الحج.

وقال زيد بن أسلم: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) قال:منجما، كلما مضى نجم، جاءتهم يعني:كلما مضى وقت جاء وقت.

وقوله: ( وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ) أي:لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدوا فيهم وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد: ( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ) أي:كما يصيبكم الجراح والقتل، كذلك يحصل لهم، كما قال إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [ آل عمران:140 ] .

ثم قال: ( وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ) أي:أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة في إقامة كلمة الله وإعلائها.

( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي:هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه، وينفذه ويمضيه، من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل حال.

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ( 105 )

يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ( إِنّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) أي:هو حق من الله، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه.

وقوله: ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان، عليه السلام، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع حَلَبَةَ خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: « ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة قالت:جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألْحَن بحُجَّتِه من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة » . فبكى الرجلان وقال كل منهما:حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليُحْللْ كل واحد منكما صاحبه » .

وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد، به. وزاد: « إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينـزل عليّ فيه » .

وقد روى ابن مَرْدُويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال:إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته:إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا:يا نبي الله، إن صاحبنا بريء. وإن صاحب الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه. فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذرَه على رءوس الناس، فأنـزل الله: ( إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) [ يقول:احكم بما أنـزل الله إليك في الكتاب ]

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 106 ) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ( 107 ) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ( 108 ) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ( 109 )

( وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ] ) ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفين بالكذب: ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ] ) يعني:الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ] يعني:الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب، ثم قال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا يعني:السارق والذين جادلوا عن السارق. وهذا سياق غريب وكذا ذكر مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدى، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنـزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم، وهي متقاربة.

وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه، وابن جرير في تفسيره:

حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قَتَادة بن النعمان، رضي الله عنه، قال:كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أُبَيْرق:بِشْر وبشير ومُبَشّر، وكان بُشَير رجلا منافقًا، يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول:قال فلان كذا وكذا، وقال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا:والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا ابن الأبيرق قالها. قالوا:وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدَّرْمَك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضَافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مَشْربة له، وفي المشربة سلاح:درع وسيف، فَعُدى عليه من تحت البيت، فَنقّبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال:يا ابن أخي، إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه. فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا. قال:فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا:قد رأينا بني أُبَيْرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم.

قال:وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - :والله ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال:أنا أسرق؟ والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة. قالوا:إليك عنا أيها الرجل، فما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها.

فقال لي عمي:يا ابن أخي، لو أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة:فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنَقَبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه. فَلْيردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم « سآمُرُ في ذلك » .

فلما سمع بنو أُبَيْرق أتوا رجلا منهم يقال له:أُسَير بن عمْرو فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا:يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة:فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: « عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثَبَت ولا بينة؟ ؟ »

قال:فرجعت ولَوَدِدت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال:يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:الله المستعان. فلم نلبث أن نـزل القرآن: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا بني أبيرق ( وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ) مما قلت لقتادة ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ] ) إلى قوله: ( رَحِيمًا ) أي:لو استغفروا الله لغفر لهم وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ إلى قوله: إِثْمًا مُبِينًا قولهم للبيد: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ إلى قوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا

فلما نـزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة.

فقال قتادة:لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا، قد عشا أو عسا - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال:يا ابن أخي، هو في سبيل الله. فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا، فلما نـزل القرآن لحق بُشَيرٌ بالمشركين، فنـزل على سُلافةَ بنت سعد بن سُمَية، فأنـزل الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا فلما نـزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعره، فأخذت رَحْلَهُ فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فَرَمَتْ به في الأبطح، ثم قالت:أهديتَ لي شِعْر حسان؟ ما كنتَ تأتيني بخير.

لفظ الترمذي، ثم قال الترمذي:هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني:وروى يونس بن بُكَير وغير واحد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده.

ورواه ابن حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني، عن محمد بن سلمة، به ببعضه.

ورواه ابن المنذر في تفسيره:حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني الصائغ - حدثنا الحسن بن أحمد ابن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة - فذكره بطوله.

ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد بن سلمة، به. ثم قال في آخره:قال محمد بن سلمة:سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إسرائيل .

وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري هذا الحديث في كتابه « المستدرك » عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي، عن يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق - بمعناه أتم منه، وفيه الشعر، ثم قال:وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه .

وقوله: ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ] ) الآية، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم؛ ولهذا قال: ( وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) تهديد لهم ووعيد.

ثم قال: ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ] ) أي:هَبْ أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر - وهم مُتَعَبدون بذلك - فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله، عز وجل، الذي يعلم السر وأخفى؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ في ترويج دعواهم؟ أي:لا أحد يكون يومئذ لهم وكيلا ولهذا قال: ( أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا )

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 110 ) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 111 ) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 112 ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ( 113 )

يخبر، تعالى، عن كرمه وجوده:أن كل من تاب إليه تاب عليه من أيّ ذنب كان.

فقال تعالى: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا )

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، أنه قال في هذه الآية:أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وَسَعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرًا ( ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. رواه ابن جرير.

وقال ابن جرير أيضًا:حدثنا محمد بن مُثَنَّى، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال:قال عبد الله:كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم ذنبًا أصبح قد كُتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئًا منه قرضه بالمقراض فقال رجل:لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا - فقال عبد الله:ما آتاكم الله خيرا مما آتاهم، جعل الماء لكم طهورًا، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [ آل عمران:135 ] وقال ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا )

وقال أيضًا:حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، حدثنا ابن عَوْن، عن حبيب بن أبي ثابت قال:جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفَّل فسألته عن امرأة فَجَرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها؟ قال عبد الله بن مغفل:ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال:ما أرى أمرك إلا أحد أمرين: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) قال:فمسحت عينها، ثم مضت .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن عثمان بن المغيرة قال:سمعت علي بن ربيعة من بني أسد، يحدث عن أسماء - أو ابن أسماء من بني فزارة - قال:قال علي، رضي الله عنه:كنت إذا سمعت من رسول الله شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له » . وقرأ هاتين الآيتين: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ] ) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية .

وقد تكلما على هذا الحديث، وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق، رضي الله عنه. وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضًا.

وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال:حدثنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا داود بن مِهْران الدباغ، حدثنا عمر بن يزيد، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي قال:سمعت أبا بكر - هو الصديق - يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه، إلا كان حقا على الله أن يغفر له؛ لأنه يقول: ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ] ) . »

ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن الحارث، عن علي، عن الصديق - بنحوه. وهذا إسناد لا يصح .

وقال ابن مردويه:حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا موسى بن مروان الرَّقِّي، حدثنا مُبَشِّر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نَجِيح، حدثني كعب بن ذُهْل الأزدي قال:سمعت أبا الدرداء يحدث قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه، وإنه قام فترك نعليه. قال أبو الدرداء:فأخذ رَكْوَة من ماء فاتبعته، فمضى ساعة، ثم رجع ولم يقض حاجته، فقال: « إنه أتاني آت من ربي فقال:إنه: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) فأردت أن أبشر أصحابي » . قال أبو الدرداء:وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فقلت:يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق، ثم استغفر ربه، غفر له؟ قال: « نعم » قلت الثانية، قال: « نعم » ، ثم قلت الثالثة، قال: « نعم، وإن زنى وإن سرق، ثم استغفر الله غفر له على رغم أنف عويمر » . قال:فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه.

هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه بهذا السياق، وفي إسناده ضعف .

وقوله: ( وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ] ) كقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ] الآية: [ فاطر:18 ] يعني أنه لا يجني أحد على أحد، وإنما على كل نفس ما عملت، لا يحمل عنها غيرها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي:من علمه وحكمته، وعدله ورحمته كان ذلك.

ثم قال: ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ] ) يعني:كما اتهم بنو أُبَيْرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح، وهو لَبِيد بن سهل، كما تقدم في الحديث، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون، وقد كان بريئًا وهم الظلمة الخونة، كما أطلعَ الله على ذلك رسولَه صلى الله عليه وسلم. ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف مثل صفتهم وارتكب مثل خطيئتهم، فعليه مثل عقوبتهم.

وقوله: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ) قال الإمام ابن أبي حاتم:أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليَّ، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق. عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان - وذكر قصة بني أبيرق، فأنـزل الله: ( لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ) يعني:أُسَيْر بن عروة وأصحابه. يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم، وهم صلحاء برآء، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا أنـزل الله فصل القضية وجلاءها لرسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال، وعصمته له، وما أنـزل عليه من الكتاب، وهو القرآن، والحكمة، وهي السنة: ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) أي: [ من ] قبل نـزول ذلك عليك، كقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ] [ الشورى:52، 53 ] وقال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ القصص:86 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا )

 

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 114 ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 115 )

يقول تعالى: ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ) يعني:كلام الناس ( إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) أي:إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه:

حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس قال:دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري:الحديث الذي كنت حدثتني به عن أم صالح اردُدْه علي. فقال:حدثتني أم صالح، عن صَفية بنت شَيْبة، عن أم حَبيبَة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلام ابن آدم كله عليه لا له ما خلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر [ أو ذكر الله عز وجل » ، قال سفيان:فناشدته ] فقال محمد بن يزيد:ما أشد هذا الحديث؟ فقال سفيان:وما شدة هذا الحديث؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه: ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ النبأ:38 ] فهو هذا بعينه، أو ما سمعت الله يقول في كتابه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [ سورة العصر ] ، فهو هذا بعينه .

وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس عن سعيد بن حسان، به. ولم يذكرا أقوال الثوري إلى آخرها، ثم قال الترمذي:غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا صالح بن كَيْسان، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب:أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته:أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا - أو يقول خيرًا » وقالت:لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث:في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. قال:وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه الجماعة، سوى ابن ماجه، من طرق، عن الزهري، به نحوه .

قال الإمام أحمد:حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرة عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة؟ » قالوا:بلى. قال: « إصلاح ذات البين » قال: « وفساد ذات البين هي الحالقة » .

ورواه أبو داود والترمذي، من حديث أبي معاوية، وقال الترمذي:حسن صحيح .

وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سُرَيج بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، حدثنا أبي، عن حميد، عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: « ألا أدلك على تجارة؟ » قال:بلى:قال: « تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا » ثم قال البزار:وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها .

ولهذا قال: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ) أي:مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل ( فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) أي:ثوابًا كثيرًا واسعًا.

وقوله: ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ) أي:ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق والشرع في شق، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له. وقوله: ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم [ صلى الله عليه وسلم ] . وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة، قد ذكرنا منها طرفًا صالحًا في كتاب « أحاديث الأصول » ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها، والذي عول عليه الشافعي، رحمه الله، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك .

ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: ( نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) أي:إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك، بأن نحسنها في صدره ونـزينها له - استدراجًا له - كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [ القلم:44 ] . وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ الصف:5 ] . وقوله وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الأنعام:110 ] .

وجعل النار مصيره في الآخرة، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ الصافات:22، 23 ] . وقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [ الكهف:53 ] .

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ( 116 ) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا ( 117 ) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( 118 ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ( 119 ) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ( 120 ) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ( 121 )

قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة، وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [ لِمَنْ يَشَاءُ ] الآية [ النساء:48 ] ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة.

وقد روى الترمذي حديث ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة سعيد بن عَلاقَةَ، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه قال:ما في القرآن آية أحب إليَّ من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ] الآية، ثم قال:حسن غريب .

وقوله: ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ) أي:فقد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة.

وقوله: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غَيْلان، أنبأنا الفضل بن موسى، أخبرنا الحسن بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) قال:مع كل صنم جنيَّة.

وحدثنا أبي، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي، عن عبد العزيز بن محمد، عن هشام - يعني ابن عروة - عن أبيه عن عائشة: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) قالت:أوثانا.

وروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وأبي مالك، والسدي، ومقاتل بن حيان نحو ذلك.

وقال جُوَيْبر عن الضحاك في [ قوله ] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) قال المشركون:إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال:اتخذوها أربابا وصوروهن صور الجواري، فحكموا وقلدوا، وقالوا:هؤلاء يُشْبهن بنات الله الذي نعبده، يعنون الملائكة.

وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى :أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * [ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ] [ النجم:19- 23 ] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ] [ الزخرف:19 ] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [ الصافات:158، 159 ] .

وقال علي بن أبي طلحة والضحاك، عن ابن عباس: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) قال:يعني موتى.

وقال مبارك - يعني ابن فَضَالة - عن الحسن: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا ) قال الحسن:الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وهو غريب.

وقوله: ( وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا ) أي:هو الذي أمرهم بذلك وحسنه لهم وزينه، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر، كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ] [ يس:60 ] وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [ سبأ:41 ] .

وقوله: ( لَعَنَهُ اللَّهُ ) أي:طرده وأبعده من رحمته، وأخرجه من جواره.

وقال: ( لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ) أي:مُعَيَّنا مقدَّرًا معلومًا. قال مقاتل بن حيان:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة.

وَلأضِلَّنَّهُمْ ) أي:عن الحق ( وَلأمَنِّيَنَّهُمْ ) أي:أزين لهم ترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغرهم من أنفسهم.

وقوله: ( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ ) قال قتادة والسدي وغيرهما:يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة.

وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ) قال ابن عباس:يعني بذلك خصاء الدواب. وكذا روى عن ابن عمر، وأنس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وأبي عياض، وأبي صالح، وقتادة، والثوري. وقد وَرَدَ في حديث النهي عن ذلك .

وقال الحسن ابن أبي الحسن البصري:يعني بذلك الوَشْم. وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه وفي لفظٍ: « لعن الله من فعل ذلك » . وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال:لعن الله الواشمات والمستوشِمات، والنامصات والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن المغيّرات خَلْقَ الله، عز وجل، ثم قال:ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، عز وجل، يعني قوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الحشر:7 ] .

وقال ابن عباس في رواية عنه، ومجاهد، وعكرمة أيضا وإبراهيم النخَعي، والحسن، وقتادة، والحكم، والسدّي، والضحاك، وعطاء الخُراساني في قوله: ( وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ) يعني:دين الله، عز وجل. وهذا كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [ الروم:30 ] على قول من جعل ذلك أمرا، أي:لا تبدلوا فطرة الله، ودعوا الناس على فطرتهم، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كل مولود يولد على الفِطْرَة، فأبواه يُهَوِّدانه، ويُنَصِّرَانه، ويُمَجِّسَانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء، هل يَحُسّون فيها من جدعاء؟ » وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حِمَار قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال الله عز وجل:إني خلقتُ عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فْاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم » .

وقوله تعالى: ( وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ) أي:فقد خسر الدنيا والآخرة، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها.

وقوله: ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) وهذا إخبار عن الواقع؛ لأن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك؛ ولهذا قال: ( وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ) كما قال تعالى مخبرًا عن إبليس يوم المعاد: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ] إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ إبراهيم:22 ] .

وقوله:أي:المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم ( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) أي:مصيرهم ومآلهم يوم حسابهم ( وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ) أي:ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص ولا مناص.

 

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا ( 122 )

ثم ذكر حال السعداء الأتقياء وما لهم في مآلهم من الكرامة التامة، فقال: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي:صَدّقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات ( سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي:يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) أي:بلا زوال ولا انتقال ( وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ) أي:هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله: ( حقا ) ثُمَّ قَال ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا ) أي:لا أحد أصدق منه قولا وخبرًا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: « إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور مُحْدَثاتها، وكل مُحْدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار » .

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 123 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( 124 ) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ( 125 ) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ( 126 )

قال قتادة:ذُكرَ لنا أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب:نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون:نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنـزل الله: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ] ) الآية. فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.

وكذا روي عن السّدي، ومسروق، والضحاك وأبي صالح، وغيرهم وكذا رَوَى العَوْفيّ عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:تخاصَمَ أهل الأديان فقال أهل التوراة:كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال أهل الإسلام:لا دين إلا الإسلام. وكتابنا نَسَخَ كلّ كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأُمرْتُم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) وخَيَّر بين الأديان فقال: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ] ) إلى قوله: ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا )

وقال مجاهد:قالت العرب:لن نبْعث ولن نُعذَّب. وقالت اليهود والنصارى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة:111 ] وقالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [ البقرة:80 ] .

والمعنى في هذه الآية:أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: « إنه هو المُحق » سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) أي:ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) كقوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزلزلة:7، 8 ] .

وقد روي أن هذه الآية لما نـزلت شق ذلك على كثير من الصحابة. قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير قال:أخْبرْتُ أن أبا بكر قال:يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) فَكُل سوء عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « غَفَر اللَّهُ لكَ يا أبا بكر، ألستَ تَمْرضُ؟ ألستَ تَنْصَب؟ ألست تَحْزَن؟ ألست تُصيبك اللأواء ؟ » قال:بلى. قال: « فهو ما تُجْزَوْنَ به » .

ورواه سعيد بن منصور، عن خلف بن خليفة، عن إسماعيل بن أبي خالد، به. ورواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يَعلى، عن أبي خَيْثَمة، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، به. ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري، عن إسماعيل به .

وقال الإمام أحمد:حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال:سمعت أبا بكر يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يعمل سُوءًا يُجْزَ بِهِ في الدنيا » .

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا أحمد بن هُشَيْم بن جُهَيْمَة، حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال:قال عبد الله بن عمر:انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا ولا تمرُّنَّ عليه. قال:فسها الغلام، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال:يغفر الله لك ثلاثًا، أما والله ما علمتك إلا صوّامًا قوّامًا وصّالا للرحم، أما والله إني لأرجو مع متساوى ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها. قال:ثم التفت إلي فقال:سمعت أبا بكر الصديق يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به » .

ورواه أبو بكر البزار في مسنده، عن الفضل بن سهل، عن عبد الوهاب بن عطاء، به مختصرا. وقد قال في مسند ابن الزبير:حدثنا إبراهيم بن المستمر العُروفي حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حَيّان، حدثني أبي، عن جدي حيان بن بسطام، قال:كنت مع ابن عمر، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال:رحمك الله أبا خُبيب، سمعت أباك - يعني الزبير- يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يعمل سوءًا يُجْزَ به في الدنيا والأخرى » ثم قال:لا نعلمه يروي عن الزبير إلا من هذا الوجه.

وقال أبو بكر بن مردويه:حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني مولى بن سِبَاع قال:سمعت ابن عمر يحدث، عن أبي بكر الصديق قال:كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنـزلت هذه الآية: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا بكر، هل أقرئك آية نـزلت علي؟ » قال:قلت:بلى يا رسول الله. فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصَامًا في ظهري حتى تمطأت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مالك يا أبا بكر؟ » قلت:بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجْزيُّون بكل سوء عملناه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فَتُجْزَوْنَ بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله، وليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة » .

وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى، وعبد بن حميد، عن روح بن عبادة، به. ثم قال:وموسى بن عبيدة يضعف، ومولى بن سباع مجهول .

[ وقال ابن جرير:حدثنا الغلام، حدثنا الحسين، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال:لمَّا نـزلت قال أبو بكر:يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما هي المصائب في الدنيا » ] .

طريق أخرى عن الصديق:قال ابن مردويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، حدثنا محمد بن عامر السعدي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا فضيل بن عياض، عن سليمان بن مهران، عن مسلم بن صُبَيح، عن مسروق قال:قال أبو بكر [ الصديق ] يا رسول الله، ما أشد هذه الآية: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء » .

طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي، حدثنا محمد بن زيد بن قُنْفُذ عن عائشة، عن أبي بكر قال:لما نـزلت: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) قال أبو بكر:يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال: « يا أبا بكر، أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارة » .

حديث آخر:قال سعيد بن منصور:أنبأنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه، عن عبيد بن عمير، عن عائشة:أن رجلا تلا هذه الآية: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) فقال:إنا لنُجْزَى بكل عَمَل ؟ هلكنا إذًا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « نعم، يجزى به المؤمن في الدنيا، في نفسه، في جسده، فيما يؤذيه » .

طريق أخرى:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سلمة بن بشير، حدثنا هُشَيْم، عن أبي عامر، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشة قالت:قلت:يا رسول الله، إني لأعلم أشد آية في القرآن. فقال: « ما هي يا عائشة؟ » قلت: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) فقال: « هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها » .

رواه ابن جرير من حديث هشيم، به. ورواه أبو داود، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به .

طريق أخرى:قال أبو داود الطيالسي:حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) فقالت:ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « يا عائشة، هذه مبايعة الله للعبد، مما يصيبه من الحمى والنَّكْبَة والشوكة، حتى البضاعة فيضعها في كُمِّه فيفزع لها، فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير » .

طريق أخرى:قال ابن مَرْدُويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو القاسم، حدثنا سُرَيج بن يونس، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن عائشة قالت:سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) قال: « إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفَيْظ عند الموت » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحَزَن ليُكَفِّرها عنه » .

حديث آخر:قال سعيد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن عمر بن عبد الرحمن بن مُحَيْصِن، سمع محمد بن قيس بن مَخْرَمَة، يخبر أن أبا هريرة، رضي الله عنه، قال:لما نـزلت: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) شَقّ ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سَدِّدوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يُشَاكها، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا » .

وهكذا رواه أحمد، عن سفيان بن عيينة، ومسلم والترمذي والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به ورواه ابن مَردُويه من حديث روح ومعتمر كلاهما، عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الله بن إبراهيم، سمعت أبا هريرة يقول:لما نـزلت هذه الآية: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) بكينا وحزنا وقلنا:يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء. قال: « أما والذي نفسي بيده إنّها لكما نـزلت، ولكن أبشروا وقاربوا وسَدِّدوا؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم في الدنيا إلا كفَّر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يُشَاكها أحدكم في قدمه » .

وقال عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وأبي هريرة:إنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما يصيب المؤمن من نَصب ولا وَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن، حتى الهم يُهَمّه، إلا كُفّر به من سيئاته » أخرجاه .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى، عن سعد بن إسحاق، حدثتني زينب بنت كعب بنُ عُجْرَة، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا؟ ما لنا بها؟ قال: « كفارات » . قال أبي:وإن قَلَّتْ؟ قال: « وإن شوكة فما فوقها » قال:فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الْوَعْك حتى يموت، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حره، حتى مات، رضي الله عنه. تفرد به أحمد .

حديث آخر:روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال:قيل:يا رسول الله: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) ؟ قال: « نعم، ومن يعمل حسنة يُجزَ بها عشرا. فهلك من غلب واحدته عشرًا » .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) قال:الكافر، ثم قرأ: وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ [ سبأ:17 ] .

وهكذا رُوي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير:أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا.

وقوله: ( وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. رواه ابن أبي حاتم.

والصحيح أن ذلك عامٌّ في جميع الأعمال، لما تقدم من الأحاديث، وهذا اختيار ابن جرير، والله أعلم.

وقوله: ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ] ) لما ذكر الجزاء على السيئات، وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا - وهو الأجود له - وإما في الآخرة - والعياذ بالله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة - شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذُكْرَانهم وإناثهم، بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو:النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير وهما في نواة التمرة، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة، الثلاثة في القرآن.

ثم قال تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) أخلص العمل لربه، عز وجل، فعمل إيمانًا واحتساباً ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي:اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي:يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمن فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا. ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين: الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ] [ الأحقاف:16 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ] [ آل عمران:68 ] وقال تعالى: [ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ] [ الأنعام:161 ] و ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ النحل:123 ] والحنيف:هو المائل عن الشرك قصدا، أي تاركًا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد.

وقوله: ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ) وهذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النجم:37 ] قال كثيرون من السلف:أي قام بجميع ما أمر به ووفَّى كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير. وقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ] الآية [ البقرة:124 ] . وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * [ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ] [ النحل:120- 122 ] .

وقال البخاري:حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال:إن معاذًا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم:فقرأ: ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ) فقال رجل من القوم:لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم.

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْب، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل - وقال بعضهم:من أهل مصر - ليمتار طعامًا لأهله من قِبَله، فلم يصب عنده حاجته. فلما قَرُب من أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل، فقال:لو ملأت غَرَائري من هذا الرمل، لئلا أغُمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون. ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منـزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا:من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال:نعم، هو من خليلي الله. فسماه الله بذلك خليلا.

وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، وإنما سُمّي خليل الله لشدة محبة ربه، عز وجل، له، لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين، من حديث أبي سعيد الخدري:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: « أما بعد، أيها الناس، فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله » .

وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي، وعبد الله بن عَمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا » .

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه:حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أُسَيْد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزجاني بمكة، حدثنا عُبَيد الله الحَنَفي، حدثنا زَمْعة بن صالح، عن سلمة بن وَهْرَام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول:عجبًا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله! وقال آخر:ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما! وقال آخر:فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر:آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال: « قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشَفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر » .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.

وقال قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:أتعجبون من أن تكون الخُلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

رواه الحاكم في مستدركه وقال:صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. وكذا روى عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن عاصم، عن أبي راشد، عن عُبَيْد بن عُمَير قال:كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائمًا، فقال:يا عبد الله، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال:دخلتها بإذن ربها. قال:ومن أنت؟ قال:أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا. قال:من هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينّه ثم لا أبرح له جارًا حتى يفرق بيننا الموت. قال:ذلك العبد أنت. قال:أنا؟ قال:نعم. قال:فيم اتخذني الله خليلا؟ قال:إنك تعطي الناس ولا تسألهم .

وحدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد السلمي، حدثنا الوليد، عن إسحاق بن يسار قال:لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوَجَل، حتى إن كان خفقانُ قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنه كان يسمع لصدره أَزِيزٌ كأزيز المرْجل من البكاء.

وقوله: ( وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ) أي:الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل، لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته.

وقوله: ( وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ) أي:علمه نافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعْزُب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى.

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ( 127 )

قال البخاري:حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة قال:حدثنا هشام بن عروة، أخبرني أبي عن عائشة: ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ) إلى قوله: ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) قالت:هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها قد شَرِكته في ماله، حتى في العَذْق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوِّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنـزلت هذه الآية.

وكذلك رواه مسلم، عن أبي كُرَيب، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي أسامة .

وقال ابن أبي حاتم:قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، قالت عائشة:ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنـزل الله: ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ) الآية، قالت:والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله [ تعالى ] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [ النساء:3 ] .

وبهذا الإسناد، عن عائشة قالت:وقول الله عز وجل: ( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن.

وأصله ثابت في الصحيحين، من طريق يونس بن يزيد الأيْلي، به .

والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل. وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة. وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يُعضِلها عن الأزواج خشية أن يَشْركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( فِي يَتَامَى النِّسَاء [ اللاتي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ] ) الآية، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة، فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك [ بها ] لم يقدر أحد أن يتَزَوّجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهويها تَزَوَّجَها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها. فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه.

وقال في قوله: ( وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ) كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله: ( لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ) فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه، فقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ [ النساء:11 ] صغيرًا أو كبيرًا.

وكذا قال سعيد بن جبير وغيره، قال سعيد بن جبير في قوله: ( وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ) كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فأنكحها واستأثر بها.

وقوله: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ) تهييجًا على فعل الخيرات وامتثال الأمر وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.

 

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 128 ) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 129 ) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ( 130 )

يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين:تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.

فالحالة الأولى:ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط حقها أو بعضه، من نفقة أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى: ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ) ثُمَّ قَالَ ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) أي:من الفراق. وقوله: ( وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ ) أي الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زَمْعَة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها، وتترك يومها لعائشة، فَقَبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك.

ذكر الرواية بذلك:

قال أبو داود الطيالسي:حدثنا سليمان بن معاذ، عن سِمَاك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:خَشيت سَوْدَة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة. ففعل، ونـزلت هذه الآية: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) الآية، قال ابن عباس:فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.

ورواه الترمذي، عن محمد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسي، به. وقال:حسن غريب

وقال الشافعي أخبرنا مسلم، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة، وكان يقسم لثمان .

وفي الصحيحين، من حديث هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة قالت:لما كَبرْت سودةُ بنتُ زَمعة وهبَتْ يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة .

وفي صحيح البخاري، من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، نحوه.

وقال سعيد بن منصور:أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام، عن أبيه عروة قال:أنـزل الله تعالى في سودة وأشباهها: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) وذلك أن سودة كانت امرأة قد أَسَنَّتْ، ففزعت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وضنَّت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنـزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

قال البيهقي:وقد رواه أحمد بن يونس:عن ابن أبي الزِّناد موصولا. وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال:

حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:أنها قالت له:يا ابن أختي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زَمْعة - حين أسنت وفَرِقت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم- :يا رسول الله، يومي هذا لعائشة. فَقَبِل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة:ففي ذلك أنـزل الله: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا )

وكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن يونس، به. ثم قال الحاكم:صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وقد رواه [ الحافظ أبو بكر ] بن مَرْدُويه من طريق أبي بلال الأشعري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، به نحوه. ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن هشام بن عروة، بنحوه مختصرا، والله أعلم.

وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولي في أول معجمه:حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي، حدثنا القاسم بن أبي بَزّة قال:بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زَمْعة بطلاقها، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة، فلما رأته قالت له:أنشدك بالذي أنـزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لمَّا راجعتني، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة. فراجعها فقالت:إني جعلت يومي وليلتي لِحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا غريب مرسل .

وقد قال البخاري:حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) قالت الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول:أجعلك من شأني في حل. فنـزلت هذه الآية.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) قالت:هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يكون يستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ولها صحبة فتقول:لا تطلقني وأنت في حل من شأني.

حدثني المثنى، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن هشام، عن عروة، عن عائشة في قوله: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) قالت:هو الرجل يكون له المرأتان:إحداهما قد كبرت، أو هي دَمِيمة وهو لا يستكثر منها فتقول:لا تطلقني، وأنت في حل من شأني.

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، من غير وجه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحو ما تقدم، ولله الحمد والمنة.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حُمَيد وابنُ وكيع قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين قال:جاء رجل إلى عمر، رضي الله عنه، فسأله عن آية، فكَرِه ذلك وضربه بالدرّة، فسأله آخر عن هذه الآية: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) فقال:عن مثل هذا فسلوا. ثم قال:هذه المرأة تكون عند الرجل، قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجاني، حدثنا مُسَدَّد، حدثنا أبو الأحوص، عن سِمَاك بن حرب، عن خالد بن عَرْعَرَة قال:جاء رجل إلى علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] فسأله عن قول الله عز وجل: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) قال علي:يكون الرجل عنده المرأة، فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.

وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص. ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سِمَاك، به وكذا فسرها ابن عباس، وعَبِيدَةَ السَّلْمَاني، ومجاهد بن جَبْر، والشُّعَبِي، وسعيد بن جبَيْر، وعطاء، وعطية العوْفي ومكحول، والحكم بن عتبة، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف والأئمة، ولا أعلم [ في ذلك ] خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم.

وقال الشافعي:أنبأنا ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيَّب:أن ابنة محمد بن مَسْلَمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كِبَرًا أو غيره فأراد طلاقها فقالت:لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك. فأنـزل الله عز وجل: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) الآية.

وقد رواه الحاكم في مستدركه، من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق .

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المُزَني، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يَسَار:أن السُّنَّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ) إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القَسْم من ماله ونفسه، فإن استقرت عنده على ذلك، وكرهت أن يطلقها، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك، فإن لم يعرض عليها الطلاق، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القَسْم من ماله ونفسه، صلح له ذلك، وجاز صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيَّب وسليمان الصُّلحَ الذي قال الله عز وجل ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر ) .

وقد ذكر لي أن رافع بن خَدِيج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة، وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحلّ راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدنه الطلاق فقال لها:ما شئتِ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئتِ استقررتِ على ما تَريْن من الأثرة، وإن شئت فارقتك، فقالت:لا بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك، فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها.

وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، فذكره بطوله، والله أعلم

وقوله: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني التخيير، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها.

والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك، خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة، رضي الله عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام. ولما كان الوفاق أحب إلى الله [ عز وجل ] من الفراق قال: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) بل الطلاق بغيض إليه، سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعًا، عن كثير بن عبيد، عن محمد بن خالد، عن مُعَرِّف بن واصل، عن محارب بن دِثَار، عن عبد الله بن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أبغض الحلال إلى الله الطلاق » .

ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن مُعَرِّف، بن محارب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر معناه مرسلا .

وقوله: ( وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) [ أي ] وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.

وقوله تعالى: ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) أي:لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسْم الصوري:ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس، وعُبَيْدة السَّلْمَاني، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك بن مزاحم.

وقد قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا حسين الجُعَفِي، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن ابن أبي مُلَيكة قال:نـزلت هذه الآية: ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) في عائشة. يعني:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث حمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: « اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » يعني:القلب.

لفظ أبي داود، وهذا إسناد صحيح، لكن قال الترمذي:رواه حماد بن زيد وغير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلا قال:وهذا أصح .

وقوله ( فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ) أي:فإذا ملتم إلى واحدة منهم فلا تبالغوا في الميل بالكلية ( فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ) أي:فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة.

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان:معناه لا ذات زوج ولا مطلقة.

وقد قال أبو داود الطيالسي:أنبأنا هَمَّام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شِقَّيْهِ ساقط » .

وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث همَّام بن يحيى، عن قتادة، به. وقال الترمذي:إنما أسنده همَّام، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة - قال: « كان يقال » . ولا نعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همَّام .

وقوله: ( وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي:وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض.

ثم قال تعالى: ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) وهذه هي الحالة الثالثة، وهي حالة الفراق، وقد أخبر تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه بها من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه: ( وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) أي:واسع الفضل عظيم المن، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ( 131 ) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 132 ) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ( 133 ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 134 )

يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الحاكم فيهما؛ ولهذا قال: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ) أي:وصيناكم بما وصيناهم به، من تقوى الله، عز وجل، بعبادته وحده لا شريك له.

ثم قال: ( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وِمَا فِي الأرْضِ [ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ] ) كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ إبراهيم:8 ] ، وقال فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [ التغابن:6 ] أي:غني عن عباده، ( حَمِيدٌ ) أي:محمود في جميع ما يقدره ويشرعه.

وقوله: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) أي:هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء.

وقوله: ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ) أي:هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، وكما قال [ تعالى ] وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد:38 ] . وقال بعض السلف:ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره! وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [ إبراهيم:19، 20 ] أي:ما هو عليه بممتنع.

وقوله: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) أي:يا من ليس هَمُّه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك، كما قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ] [ البقرة:200- 202 ] ، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ] [ الشورى:20 ] ، وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ] [ الإسراء:18- 21 ] .

وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا ) أي:من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك، ( فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا ) وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين. وقوله: ( وَالآخِرَةِ ) أي:وعند الله ثواب الآخرة، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم. وجعلها كقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ] وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ هود:15، 16 ] .

ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر؛ فإن قوله ( فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة، أي:بيده هذا وهذا، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس، وعدل بينهم فيما علمه فيهم، ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا؛ ولهذا قال: ( وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 135 )

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.

وقوله: ( شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) كَمَا قَالَ ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ) أي:ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: ( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) أي:اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه،وإن كان مَضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه.

وقوله: ( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) أي:وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تُراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدم على كل أحد.

وقوله: ( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ) أي:لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما.

وقوله ( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ) أي:فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [ المائدة:8 ]

ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم، فقال:والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم. فقالوا: « بهذا قامت السماوات والأرض » . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة، إن شاء الله [ تعالى ] .

وقوله: ( وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ) قال مجاهد وغير واحد من السلف: ( تَلْوُوا ) أي:تحرفوا الشهادة وتغيروها، « واللّي » هو:التحريف وتعمد الكذب، قال الله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] [ آل عمران:78 ] . و « الإعراض » هو:كتمان الشهادة وتركها، قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [ البقرة:283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها » . ولهذا توعدهم الله بقوله: ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) أي:وسيجازيكم بذلك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ( 136 )

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه. كما يقول المؤمن في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [ الفاتحة:6 ] أي:بَصِّرنا فيه، وزدنا هدى، وثبتنا عليه. فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [ الحديد:28 ] .

وقوله: ( وَالْكِتَابِ الَّذِي نـزلَ عَلَى رَسُولِهِ ) يعني:القرآن ( وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنـزلَ مِنْ قَبْلُ ) وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن: ( نـزلَ ) ؛ لأنه نـزل مفرقا منجما على الوقائع، بحسب ما يحتاج إليه العباد إليه في معادهم ومعاشهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنـزل جملة واحدة؛ ولهذا قال: ( وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنـزلَ مِنْ قَبْلُ ) ثُمَّ قَالَ ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ) أي:فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ( 137 ) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 138 ) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ( 139 ) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ( 140 )

يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد فيه ثم رجع، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات، فإنه لا توبة بعد موته، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا، ولا طريقا إلى الهدى؛ ولهذا قال: ( لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جُمَيع، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ) قال:تَمَّمُوا على كفرهم حتى ماتوا. وكذا قال مجاهد.

وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى، عن عامر الشّعْبي، عن علي، رضي الله عنه، أنه قال:يستتاب المرتد، ثلاثًا، ثم تلا هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا )

ثم قال: ( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) يعنى:أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا، فطبع على قلوبهم، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم:إنما نحن معكم، إنما نحن مستهزئون. أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة. قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين: ( أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ) ؟

ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها لله وحده لا شريك له، ولمن جعلها له. كما قال في الآية الأخرى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [ فاطر:10 ] ، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [ المنافقون:8 ] .

والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله، والالتجاء إلى عبوديته، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

ويُنَاسبُ أن يُذْكَرَ هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد:

حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حُمَيْد الكندي، عن عبادة بن نُسَيِّ، عن أبي ريحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزًّا وفخرًا، فهو عاشرهم في النار » .

تفرد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو أزدي، ويقال:أنصاري. اسمه شمعون بالمعجمة، فيما قاله البخاري، وقال غيره:بالمهملة، والله أعلم.

وقوله [ تعالى ] وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) أي:إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه. فلهذا قال تعالى: ( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) [ أي ] في المأثم، كما جاء في الحديث: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر » .

والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك، هو قوله تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] [ الأنعام:68 ] قال مقاتل بن حيان:نَسَخَت هذه الآية التي في الأنعام. يعني نُسخَ قوله: ( إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) لقوله وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأنعام:69 ] .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) أي:كما أشركوهم في الكفر، كذلك شارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا، وجمع بينهم في دار العقوبة والنكال، والقيود والأغلال وشراب الحميم والغِسْلين لا الزّلال.

 

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ( 141 )

يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكفر عليهم، وذهاب ملتهم ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ) أي:نصر وتأييد وظَفَر وغنيمة ( قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) ؟ أي:يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ( وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ) أي:إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان، كما وقع يوم أحد، فإنّ الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ( قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ؟ أي:ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم.

وقال السدي: ( نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ) نغلب عليكم، كقوله: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [ المجادلة:19 ] وهذا أيضًا تودد منهم إليهم، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء؛ ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم، وقلة إيقانهم.

قال الله تعالى: ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي:بما يعلمه منكم - أيها المنافقون- من البواطن الرديئة، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرًا في الحياة الدنيا، لما له [ تعالى ] في ذلك من الحكمة، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويُحَصَّل ما في الصدور.

وقوله: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ) قال عبد الرزاق:أنبأنا الثوري، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يُسَيْع الكندي قال:جاء رجل إلى علي بن أبي طالب، فقال:كيف هذه الآية: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ) ؟ فقال علي، رضي الله عنه:ادْنُه ادنه، ثم قال: ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا )

وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ) قال:ذاك يوم القيامة. وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي:يعني يوم القيامة. وقال السدي: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ) أي:حجة.

ويحتمل أن يكون المراد: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ) أي:في الدنيا، بأن يُسَلَّطُوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ] [ غافر:51، 52 ] . وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم، كما قال تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ ] نَادِمِينَ [ المائدة:52 ] .

وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال؛ لقوله تعالى: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا )

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ( 142 ) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ( 143 )

قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [ البقرة:9 ] وقال هاهنا: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) ولا شك أن الله تعالى لا يخادع، فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجَرَت عليهم أحكامُ الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم يوم القيامة عند الله، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر عنهم تعالى أنهم يوم القيامة يحلفون له:أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده، فقال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ] [ المجادلة:18 ] .

وقوله: ( وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) أي:هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ] وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . [ الحديد:13- 15 ] وقد ورد في الحديث: « من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به » وفي حديث آخر: « إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس، ويعدل به إلى النار » عياذًا بالله من ذلك.

وقوله: ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إَلا قَلِيلا ] ) هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة. إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها، ولا إيمانَ لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه، من طريق عُبَيد الله بن زَحْر، عن خالد بن أبي عِمْران، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال:يكرَه أن يقوم الرجلُ إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله [ تعالى ] وإن الله أمامه يغفر له ويجيبه إذا دعاه، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية: ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى )

وروي من غير هذا الوجه، عن ابن عباس، نحوه.

فقوله تعالى: ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ) هذه صفة ظواهرهم، كما قال: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى [ التوبة:54 ] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: ( يُرَاءُونَ النَّاسَ ) أي:لا إخلاص لهم [ ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية من الناس ومصانعة لهم ] ؛ ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يُرَون غالبًا فيها كصلاة العشاء وقت العَتَمَة، وصلاة الصبح في وقت الغَلَس، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار » .

وفي رواية: « والذي نفسي بيده، لو علم أحدهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا أو مَرْمَاتين حسنتين، لشهد الصلاة، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار » .

وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا محمد - هو بن أبي بكر المقدمي - حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهَجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أحْسَنَ الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة، استهان بها ربه عز وجل » .

وقوله: ( وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ) أي:في صلاتهم لا يخشعُون [ فيها ] ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير معرضون.

وقد روى الإمام مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق:يجلس يَرْقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْنَي الشيطان، قام فَنَقَر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا » .

وكذا رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث إسماعيل بن جعفر المدني، عن العلاء بن عبد الرحمن، به. وقال الترمذي:حسن صحيح .

وقوله: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) يعني:المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكافرين ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك، فتارة يميل إلى هؤلاء، وتارة يميل إلى أولئك كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا الآية [ البقرة:20 ] .

قال مجاهد: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) يعني:أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ( وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) يعني:اليهود.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تَعِيرُ إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيتهما تتبع » .

تفرد به مسلم. وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب، فوقف به على ابن عمر، ولم يرفعه، قال:حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك .

قلت:وقد رواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف بن عبيد الله، به مرفوعًا. وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة، عن عبدة، عن عبد الله، به مرفوعا. ورواه حماد بن سلمة، عن عبيد الله - أو عبد الله بن عمر- عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. ورواه أيضًا صخر بن جُوَيْرِية، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله .

وقال الإمام أحمد:حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا الهُذَيل بن بلال، عن ابن عبيد، عن أبيه:أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه، فقال أبي:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الرّبضَين من الغنم، إن أتت هؤلاء نطحتها، وإن أتت هؤلاء نطحتها » فقال له ابن عمر:كذبت. فأثنى القوم على أبي خيرا - أو معروفا- فقال ابن عمر:لا أظن صاحبكم إلا كما تقولون، ولكني شاهد نبي الله إذ قال:كالشاة بين الغنمين. فقال:هو سواء. فقال:هكذا سمعته .

وقال أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا المسعودي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال:بينما عبيد بن عُمير يقص، وعنده عبد الله بن عمر، فقال عبيد بن عمير:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل المنافق كالشاة بين ربضين، إذا أتت هؤلاء نطحتها، وإذا أتت هؤلاء نطحتها » . فقال ابن عمر:ليس كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كشاة بين غنمين » . قال:فاحتفظ الشيخ وغضب، فلما رأى ذلك ابن عمر قال:أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك .

طريق أخرى:عن ابن عمر، قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن عثمان بن بُودِويه، عن يَعْفُر بن زُوذي قال:سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين » . فقال ابن عمر:ويلكم. لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما قال صلى الله عليه وسلم: « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله - هو ابن مسعود- قال:مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد، فدفع أحدهم فعبر، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي:ويلك. أين تذهب؟ إلى الهلكة؟ ارجع عودك على بدئك، وناداه الذي عبر:هَلُمّ إلى النجاة. فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة، قال:فجاءه سيل فأغرقه، فالذي عبر المؤمن، والذي غرق المنافق: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) والذي مكث الكافر وقال ابن جرير:حدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا شعبة عن قتادة: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) يقول:ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك. قال:وذُكرَ لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر، كمثل رهط ثلاثة دَفَعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر:أن هَلُمّ إليّ، فإني أخشى عليك. وناداه المؤمن:أن هَلُمّ إليّ، فإني عندي وعندي؛ يُحصى له ما عنده. فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرّقه. وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال:وذُكرَ لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين، رأت غنمًا على نَشَزٍ فأتتها وشامتها فلم تعرف، ثم رأت غنمًا على نَشَز فأتتها وشامتها فلم تعرف » .

ولهذا قال تعالى: ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ) أي:ومن صرفه عن طريق الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا فإنه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم، ولا منقذ لهم مما هم فيه، فإنه تعالى لا مُعَقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 144 ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ( 145 ) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 146 ) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ( 147 )

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [ آل عمران:28 ] أي:يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه. ولهذا قال هاهنا: ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ) أي:حجة عليكم في عقوبته إياكم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس قوله: ( سُلْطَانًا مُبِينًا ) [ قال ] كل سلطان في القرآن حجة.

وهذا إسناد صحيح. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القُرَظي، والضحاك، والسدي والنضر بن عَرَبي.

ثم أخبر تعالى: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أي:يوم القيامة، جزاء على كفرهم الغليظ. قال الوالبي عن ابن عباس: ( فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أي:في أسفل النار. وقال غيره:النار دركات، كما أن الجنة درجات. « وقال سفيان الثوري، عن عاصم، عن ذَكْوان أبي صالح، عن أبي هريرة: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قال:في توابيت ترتج عليهم. كذا رواه ابن جرير، عن ابن وَكِيع، عن يحيى بن يمان، عن سفيان، به. ورواه ابن أبي حاتم، عن المنذر بن شاذان، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قال:الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم. »

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهَيْل، عن خَيْثَمَة، عن عبد الله - يعني ابن مسعود: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قال:في توابيت من نار تطبق عليهم. ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، عن وكيع، عن سفيان، عن سلمة، عن خيثمة، عن ابن مسعود: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) قال:في توابيت من حديد مبهمة عليهم، ومعنى قوله: ( مبهمة ) أي:مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن:أن ابن مسعود سئل عن المنافقين، فقال:يجعلون في توابيت من نار، فتطبق عليهم في أسفل درك من النار.

( وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) أي:ينقذهم مما هم فيه، ويخرجهم من أليم العذاب.

ثم أخبر تعالى أن من تاب [ منهم ] في الدنيا تاب عليه وقَبِلَ ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله، واعتصم بربه في جميع أمره، فقال: ( إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) أي:بَدَّلوا الرياء بالإخلاص، فينفعهم العمل الصالح وإن قل.

قال ابن أبي حاتم:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن خالد بن أبي عِمْران، عن عمرو بن مرة، عن معاذ بن جبل:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أخلص دينك، يكفك القليل من العمل » .

( فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:في زمرتهم يوم القيامة ( وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا )

ثم قال مخبرًا عن غناه عما سواه، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم، فقال: ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ) أي:أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله، ( وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) أي:من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه، وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.

 

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ( 148 ) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ( 149 )

قال [ علي ] بن أبي طلحة عن ابن عباس: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ) يقول:لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: ( إِلا مَنْ ظُلِمَ ) وإن صبر فهو خير له.

وقال أبو داود:حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن عطاء، عن عائشة قالت:سُرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم « لا تُسَبّخي عنه » .

وقال الحسن البصري:لا يدع عليه، وليقل:اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه. وفي رواية عنه قال:قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.

وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية:هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه؛ لقوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [ الشورى:41 ] .

وقال أبو داود:حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما، ما لم يعتد المظلوم » .

وقال عبد الرزاق:أنبأنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ ) قال:ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال: « ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي » . فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته.

وقال محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ ) قال:قال هو الرجل ينـزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: « أساء ضيافتي، ولم يحسن » . وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.

وكذا روي عن غير واحد، عن مجاهد، نحو هذا. وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي، من طريق الليث بن سعد - والترمذي من حديث ابن لَهِيعة- كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله، عن عقبة بن عامر قال:قلنا يا رسول الله، إنك تبعثنا فننـزل بقوم فلا يَقْرُونا، فما ترى في ذلك؟ قال: « إذا نـزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت أبا الجودي يحدث، عن سعيد بن المهاجر، عن المقدام أبي كريمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أيما مسلمٍ ضاف قومًا، فأصبح الضيف محرومًا، فإن حقًا على كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله » .

تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد أيضًا:حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة، حدثني منصور، عن الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له عليه، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه » .

ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله البكَّائي. عن وَكِيع، وأبي نُعَيْم، عن سفيان الثوري - ثلاثتهم عن منصور، به. وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة، عن منصور، به .

ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار.

حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا محمد بن عَجْلان، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:إن لي جارا يؤذيني، فقال له: « أخرج متاعك فضعه على الطريق » . فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فجعل كل من مر به قال:مالك؟ قال:جاري يؤذيني. فيقول:اللهم العنه، اللهم أخزه! قال:فقال الرجل:ارجع إلى منـزلك، وقال لا أوذيك أبدًا « . »

وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر، عن محمد بن عجلان به .

ثم قال البزار:لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، ورواه أبو جُحَيفة وهب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقوله: ( إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) أي:إن تظهروا - أيها الناس- خيرًا، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم. ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ؛ ولهذا ورد في الأثر:أن حملة العرش يسبحون الله، فيقول بعضهم:سبحانك على حلمك بعد علمك. ويقول بعضهم:سبحانك على عفوك بعد قدرتك. وفي الحديث الصحيح: « ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، ومن تواضع لله رفعه الله » .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ( 150 ) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ( 151 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 152 )

يتوعد [ تبارك و ] تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى، حيث فَرّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، بمجرد التشهي والعادة، وما ألفوا عليه آباءهم، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية. فاليهود - عليهم لعائن الله- آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال:إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت، ثم كفروا بشرعه، فرفع من بين أظهرهم، والله أعلم.

والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء، فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًّا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله ( وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أي:في الإيمان ( وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ) أي:طريقًا ومسلكًا.

ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: ( أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) أي:كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به؛ لأنه ليس شرعيًّا، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانًا منه، لو نظروا حق النظر في نبوته.

وقوله: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ) أي:كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله، وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [ البقرة:61 ] في الدنيا والآخرة.

وقوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) يعني بذلك:أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنـزله الله وبكل نبي بعثه الله، كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ] [ البقرة:285 ] .

ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل، فقال: ( أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ) على ما آمنوا بالله ورسله ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) أي:لذنوبهم أي:إن كان لبعضهم ذنوب.

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ( 153 ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 154 )

قال محمد بن كعب القرظي، والسدي، وقتادة:سأل اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينـزل عليهم كتابًا من السماء. كما نـزلت التوراة على موسى مكتوبة.

قال ابن جُرَيج:سألوه أن ينـزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان، بتصديقه فيما جاءهم به. وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة « سبحان » : وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [ الإسراء:90، 93 ] الآيات. ولهذا قال تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) أي:بطغيانهم وبغيهم، وعتوهم وعنادهم. وهذا مفسر في سورة « البقرة » حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ البقرة:55، 56 ] .

وقوله تعالى: ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) أي:من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى، عليه السلام، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده في اليمّ، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] [ الأعراف:138، 139 ] . ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة « الأعراف » ، وفي سورة « طه » بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله، عز وجل، ثم لما رجع وكان ما كان، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه:أن يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله، عز وجل، فقال الله عز وجل ( فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا )

ثم قال تعالى: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ) وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى، عليه السلام، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] [ الأعراف:171 ] .

( وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) أي:فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا، وهم يقولون:حطة. أي:اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه، حتى تهنا في التيه أربعين سنة. فدخلوا يزحفون على أستاههم، وهم يقولون:حنطة في شعرة.

( وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ) أي:وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرّم الله عليهم، ما دام مشروعًا لهم ( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) أي:شديدا، فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب مناهى الله، عز وجل، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ] [ الأعراف:163- 166 ] الآيات، وسيأتي حديث صفوان بن عسال، في سورة « سبحان » عند قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [ الإسراء:101 ] ، وفيه: « وعليكم - خاصة يهود- أن لا تعدوا في السبت » .

 

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ( 155 ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( 156 ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 ) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 ) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( 159 )

وهذه من الذنوب التي ارتكبوها، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم، وكفرهم بآيات الله، أي:حججه وبراهينه، والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء، عليهم السلام.

قوله ( وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله، فإنهم قتلوا جمّا غفيرًا من الأنبياء [ بغير حق ] عليهم السلام.

وقولهم: ( قُلُوبُنَا غُلْفٌ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة، والسّدّي، وقتادة، وغير واحد:أي في غطاء. وهذا كقول المشركين: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ] [ فصلت:5 ] . وقيل:معناه أنهم ادعَوْا أن قلوبهم غُلُف للعلم، أي:أوعية للعلم قد حوته وحصلته. رواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. وقد تقدم نظيره في سورة البقرة.

قال الله تعالى: ( بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ) فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول؛ لأنها في غلف وفي أكنة، قال الله [ تعالى ] بل هو مطبوع عليها بكفرهم. وعلى القول الثاني عكس عليهم ما ادَّعَوْه من كل وجه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة.

( فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ) أي:مَرَدت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الإيمان.

( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « يعني أنهم رموها بالزنا » . وكذا قال السدي، وجُوَيْبِر، ومحمد بن إسحاق وغير واحد. وهو ظاهر من الآية:أنهم رموها وابنها بالعظائم، فجعلوها زانية، وقد حملت بولدها من ذلك - زاد بعضهم:وهي حائض - فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

وقولهم: ( إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ) أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه. وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء، كقول المشركين: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [ الحجر:6 ] .

وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه- أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائرًا ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا يشاهَدُ طيرانه بإذن الله، عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه وخالفوه، وسَعَوْا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي الله عيسى، عليه السلام، لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السياحة هو وأمه، عليهما السلام، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان - وكان رجلا مشركًا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته:اليونان- وأنهوا إليه:أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه. فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه على الناس. فلما وصل الكتاب امتثل مُتَولِّي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى، عليه السلام، وهو في جماعة من أصحابه، اثنا عشر أو ثلاثة عشر - وقيل:سبعة عشر نفرًا- وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه، أو خروجه عليهم قال لأصحابه:أيكم يُلْقَى عليه شبهي، وهو رفيقي في الجنة؟ فانتَدَب لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا يَنْتَدبُ إلا ذلك الشاب - فقال:أنت هو- وألقى اللهُ عليه شبه عيسى، حتى كأنه هو، وفُتحَت رَوْزَنَة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السلام سِنةٌ من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك، كما قال [ الله ] تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ] الآية [ آل عمران:55 ] .

فلما رفع خرج أولئك النفر فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى، فأخذوه في الليل وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، فأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح، فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت، ويقال:إنه خاطبها، والله أعلم.

وهذا كله من امتحان الله عباده؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم، الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى - وهو أصدق القائلين، ورب العالمين، المطلع على السرائر والضمائر، الذي يعلم السر في السموات والأرض، العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون- : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) أي:رأوا شبهه فظنوه إياه؛ ولهذا قال: ( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) [ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ] يعني بذلك:من ادعى قتله من اليهود، ومن سَلَّمه من جهال النصارى، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسُعُر. ولهذا قال: ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ) أي:وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين. ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) أي منيع الجناب لا يرام جنابه، ولا يضام من لاذ ببابه ( حَكِيمًا ) أي:في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، والسلطان العظيم، والأمر القديم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه - وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين- يعني:فخرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال:إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن بي. ثم قال:أيكم يُلْقَى عليه شبهي، فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا، فقال له:اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال:اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال:أنا. فقال:أنت هو ذاك. فألقي عليه شَبَه عيسى ورفع عيسى من رَوْزَنَة في البيت إلى السماء. قال:وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت طائفة:كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة:كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة:كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كُرَيب، عن أبي معاوية، بنحوه وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم:أيكم يلقى عليه شبهي فيقتلَ مكاني، وهو رفيقي في الجنة؟

وقال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القُمّي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن مُنَبِّه قال:أتى عيسى وعنده سبعة عشر من الحواريين في بيت وأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليه صَوَّرهم الله، عز وجل، كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم:سحرتمونا. ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا. فقال عيسى لأصحابه:من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم:أنا. فخرج إليهم وقال:أنا عيسى - وقد صوره الله على صورة عيسى- فأخذوه وقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ شُبّه لهم، فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وهذا سياق غريب جدًّا .قال ابن جرير:وقد روي عن وهب نحو هذا القول، وهو ما حدثني به المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن مِعْقَل:أنه سمع وهبًا يقول:إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا، جزع من الموت وشَقَّ عليه، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما، فقال:احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل عَشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال:ألا من رد عليَّ شيئا الليلة مما أصنع، فليس مني ولا أنا منه. فأقرّوه، حتى إذا فرغ من ذلك قال:أمّا ما صنعت بكم الليلة، مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، فلا يتعظَّم بعضكم على بعض، وليبذلْ بعضكم نفسه لبعض، كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها فتدعون لي الله، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي. فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول:سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينونني فيها؟ قالوا:والله ما ندري ما لنا. لقد كنا نَسْمُر فنكثر السَّمَرَ، وما نطيق الليلة سَمَرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه. فقال:يُذْهَب بالراعي وتفرق الغنمُ. وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعِي به نفسه. ثم قال:الحقَّ، ليَكْفُرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنّي أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، وأخذوا شمعون أحد الحواريين، وقالوا:هذا من أصحابه. فجحد وقال:ما أنا بصاحبه فتركوه، ثم أخذه آخرون، فجحد كذلك. ثم سَمعَ صوتَ ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال:ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكُمْ على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلَّهم عليه، وكان شُبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون، له:أنت كنت تحيي الموتى، وتنهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شُبِّه لهم فمكث سبعًا.

ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام، فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب، فجاءهما عيسى فقال:علام تبكيان؟ فقالتا:عليك. فقال:إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شُبِّه لهم فَأمُرَا الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقدوا الذي كان باعه ودل عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقال:إنه ندم على ما صنع فاختنق، وقتل نفسه فقال:لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام كاد يتبعهم، يقال له:يحيى، قال:هو معكم، فانطلقوا، فإنه سيصبح كل إنسان يحدّثُ بلغة قومه، فلينذرهم وليدعهم. سياق غريب جدًّا .

ثم قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلا منهم، يقال له:داود، فلما أجمعوا لذلك منه، لم يفْظع عبد من عباد الله بالموت - فيما ذكر لي- فَظَعَه ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه، حتى إنه ليقول - فيما يزعمون- « اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني » وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصَّد دما. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يَدْخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى، عليه السلام، فلما أيقن أنهم داخلون عليه قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلا فطرس ويعقوب بن زبدي ويحنس أخو يعقوب، وأنداربيس، وفيلبس، وأبرثلما ومنى وتوماس، ويعقوب بن حلفيا، وتداوسيس، وقثانيا ويودس زكريا يوطا.

قال ابن حميد:قال سلمة، قال ابن إسحاق:وكان [ فيهم فيما ] ذكر لي رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى، عليه السلام، جحدته النصارى، وذلك أنه هو الذي شُبّه لليهود مكان عيسى [ عليه السلام ] قال:فلا أدري ما هو؟ من هؤلاء الاثني عشر، أو كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر، فإنهم دخلوا المدخل [ حين دخلوا ] وهم ثلاثة عشر.

قال ابن إسحاق:وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم:أن عيسى حين جاءه من الله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ قال:يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يشبه للقوم في صورتي، فيقتلوه في مكاني؟ فقال سرجس:أنا، يا روح الله. قال:فاجلس في مجلسي. فجلس فيه، ورفِع عيسى، عليه السلام، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبّه لهم به، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم وأحصوا عدتهم. فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى، فيما يُرَون وأصحابه، وفقدوا رجلا من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه وكانوا لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه، فقال لهم:إذا دخلتم عليه فإني سَأقَبلهُ، وهو الذي أقبل، فخذوه. فلما دخلوا وقد رفع عيسى، ورأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشكل أنه عيسى، فأكب عليه فقبله فأخذوه فصلبوه.

ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه، وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه، وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم، فصلبوه وهو يقول: « إني لست بصاحبكم. أنا الذي دللتكم عليه » . والله أعلم أي ذلك كان .

وقال ابن جرير، عن مجاهد:صلبوا رجلا شبهوه بعيسى، ورفع الله، عز وجل، عيسى إلى السماء حيا.

واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه.

وقوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )

قال ابن جرير:اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم:معنى ذلك: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) يعني بعيسى ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يعنى:قبل موت عيسى- يُوَجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية، دين إبراهيم، عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي حُصَين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال:قبل موت عيسى ابن مريم. وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك .

وقال أبو مالك في قوله: ( إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال:ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، عليه السلام، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) يعني:اليهود خاصة. وقال الحسن البصري:يعني النجاشي وأصحابه. ورواهما ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير:وحدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا أبو رجاء، عن الحسن: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال:قبل موت عيسى. والله إنه الآن حي عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن عثمان اللاحقي، حدثنا جويرية بن بشر قال:سمعت رجلا قال للحسن:يا أبا سعيد، قول الله، [ عز وجل ] ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال: « قبل موت عيسى. إن الله رفع إليه عيسى [ إليه ] وهو باعثه قبل يوم القيامة مقامًا يؤمن به البر والفاجر » .

وكذا قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد. وهذا القول هو الحق، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع، إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

قال ابن جرير:وقال آخرون:معنى ذلك: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) قبل موت الكتابي. ذكرَ من كان يُوَجه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل؛ لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.

حدثني المثنى، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: ( إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته - قبل موت صاحب الكتاب- وقال ابن عباس:لو ضربت عنقه لم تخرج نَفْسُه حتى يؤمن بعيسى.

حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا أبو نُمَيْلة يحيى بن واضح، حدثنا حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل عليه بالسلاح.

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا عتَّاب بن بَشِير عن خُصَيْف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال:هي في قراءة أبي: ( قَبْلَ مَوْتِهِمْ ) ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن عباس:أرأيت إن خَرّ من فوق بيت؟ قال:يتكلم به في الهُوِيّ. فقيل:أرأيت إن ضربت عنق أحد منهم؟ قال:يُلَجْلج بها لسانه.

وكذا رَوَى سفيان الثوري عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال:لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى، عليه السلام، وإن ضرب بالسيف تكلم به، قال:وإن هَوَى تكلم [ به ] وهو يَهْوي.

وكذا روى أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي هارون الغَنَوي عن عكرمة، عن ابن عباس. فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس، وكذا صَحّ عن مجاهد، وعكرمة، ومحمد بن سيرين. وبه يقول الضحاك وجُوَيْبر، والسدي، وحكاه عن ابن عباس، ونَقل قراءة أبيّ بن كعب: « قبل موتهم » .

وقال عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: ( إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) قال:لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت.

وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء

قال ابن جرير:وقال آخرون:معنى ذلك:وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن المثنى، حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا حماد، عن حميد قال:قال عكرمة:لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ )

ثم قال ابن جرير:وأولى هذه الأقوال بالصحة القولُ الأولُ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى، عليه السلام، إلا آمن به قبل موته، أي قبل موت عيسى، عليه السلام، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير، رحمه [ الله ] هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة - التي سنوردها إن شاء الله قريبا- فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية - يعني:لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف- فأخبرت هذه الآية الكريمة أن يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم؛ ولهذا قال: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) أي:قبل موت عيسى، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب.

( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) أي:بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى:أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد، عليهما [ الصلاة و ] والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يَتَجَلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في [ أول ] هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ] الآية [ النساء:18 ] وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ] ) الآيتين [ غافر:84، 85 ] وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد هذا القول، حيث قال:ولو كان المراد بهذه الآية هذا، لكان كل من آمن بمحمد أو بالمسيح، ممن كفر بهما - يكون على دينهما، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه؛ لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته. فهذا ليس بجيد؛ إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلمًا، ألا ترى إلى قول ابن عباس:ولو تردى من شاهق أو ضُرب بسيف أو افترسه سَبُع، فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى « فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافع، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه، والله أعلم. »

ومن تأهل هذا جيدًا وأمعن النظر، اتضح له أن هذا، وإن كان هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المرادُ بهذه الآية هذا، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى، عليه السلام، وبقاء حياته في السماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة؛ ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادّت وتعاكست وتناقضت، وخلت عن الحق، ففرّط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى:تَنَقَّصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا، وتنزه وتَقَدّس لا إله إلا هو.

ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له:

قال البخاري، رحمه الله، في كتاب ذكر الأنبياء، من صحيحه المتلقى بالقبول: ( نزول عيسى ابن مريم- عليه السلام ) :حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها » . ثم يقول أبو هريرة:اقرؤوا إن شئتم: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )

وكذا رواه مسلم عن الحسن الحُلْواني وعبد بن حميد كلاهما، عن يعقوب، به وأخرجه البخاري ومسلم، أيضًا، من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، به وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوشك أن يكون فيكم ابنُ مريم حكمًا عدلا يقتل الدجال، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين » . قال أبو هريرة:اقرؤوا إن شئتم: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ ) موت عيسى ابن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات .

طريق أخرى عن أبي هريرة:قال الإمام أحمد:حدثنا رَوْحٌ، حدثنا محمد بن أبي حَفْصَة، عن الزُّهْري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لَيُهِلَّن عيسى ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحَاء بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعًا » .

وكذا رواه مسلم منفردًا به من حديث سفيان بن عيينة، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد، ثلاثتهم عن الزهري به .

وقال أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا سفيان - هو ابن حسين- عن الزهري، عن حنظلة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة، ويعطي المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما » قال:وتلا أبو هريرة: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ] ) فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال:يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة.

وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين عن الزهري، به .

طريق أخرى:قال البخاري:حدثنا ابن بُكَير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري؛ أن أبا هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كيف أنتم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم، وإمامكم منكم؟ » تابعه عقيل والأوزاعي.

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، وعن عثمان بن عمر، عن ابن أبي ذئب، كلاهما عن الزهري، به. وأخرجه مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب، به .

طريق أخرى:قال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا همَّام، أنبأنا قتادة، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الأنبياء إخوة لِعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه:رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان مُمَصّرَان، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلَل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنّمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتَوَفى ويصلي عليه المسلمون » .

وكذا رواه أبو داود، عن هُدْبَة بن خالد، عن همام بن يحيى. رواه ابن جرير - ولم يورد عند هذه الآية سواه- عن بِشْر بن معاذ، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عَروبة - كلاهما عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم- وهو مولى أمّ بُرْثُن - صاحب السقاية، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وقال:فيقاتل الناس على الإسلام .

وقد روى البخاري، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي » .

ثم روى عن محمد بن سِنَان:عن فُلَيْح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد » وقال إبراهيم بن طَهْمَان، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. .

حديث آخر:قال مسلم في صحيحه:حدثني زُهَير بن حرب، حدثنا مُعَلى بن منصور، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو بدابق- فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافّوا قال الروم:خلوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون:لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويُقْتَلُ ثلثه أفضل الشهداء عند الله [ عز وجل ] ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون، إذْ صاح فيهم الشيطان:إن المسيح قد خلفكم في أهليكم. فيخرجون، وذلك باطل. فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينما هم يُعدّون للقتال:يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم فأمَّهم فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حَرْبته » .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيْم، عن العَوَّام بن حَوْشَب، عن جَبَلة بن سُحَيْم، عن مُؤثر بن عَفَازَة، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، عليه السلام، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال:لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى، فقال:لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال:أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي - عز وجل- أن الدجال خارج قال:ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال:فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول:يا مسلم، إن تحتي كافرًا فتعالَ فاقتله:قال:فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حَدَب ينسلون، فيطؤون بلادهم، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال:ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم، فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم، حتى تَجْوَى الأرضُ من نَتْن ريحهم، وينزل الله المطر، فيجترف أجسادهم حتى نقذفهم في البحر، ففيما عهد إلي ربي - عز وجل- أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتِمّ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارا. »

رواه ابن ماجه، عن محمد بن بشَّار، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حَوْشَب، به نحوه .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي نَضرة قال:أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة؛ لنعرض عليه مصحفًا لنا على مصحفه، فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا، ثم أتينا بطيب فتطيبنا، ثم جئنا المسجد فجلسنا إلى رجل، فحدثنا عن الدجال، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه، فجلسنا فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون للمسلمين ثلاثة أمصار:مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام. فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيخرج الدجال في أعراض الناس، فيهزم من قبل المشرق، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهلهم ثلاث فرق:فرقة تُقيم تقول:نُشَامه ننظر ما هو؟ وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم. ومع الدجال سبعون ألفًا عليهم السيجان وأكثر من معه اليهود والنساء، ثم يأتي المصر الذي يليه، فيصير أهله ثلاث فرق:فرقة تقول:نشامه وننظر ما هو؟ وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغرب الشام وينحاز المسلمون إلى عقبة أَفِيق فيبعثون سَرْحًا لهم، فيصاب سَرْحهم، فيشتد ذلك عليهم وتصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد، حتى إن أحدهم ليحرقُ وتَرَ قَوْسه فيأكله، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السَّحَر: » يا أيها الناس، أتاكم الغوث ثلاثا « فيقول بعضهم لبعض:إن هذا لَصَوْت رجل شبعان، وينزل عيسى ابن مريم، عليه السلام، عند صلاة الفجر، فيقول له أميرهم:رُوح الله، تَقَدَّمْ صَلِّ. فيقول:هذه الأمة أمراء، بعضهم على بعض. فيتقدم أميرهم فيصلي، فإذا قضى صلاته أخذ عيسى حَرْبَته، فيذهب نحو الدَّجال، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص، فيضع حَرْبته بين ثَنْدوَته فيقتله وينهزم أصحابه، فليس يومئذ شيء يواري أحدًا، حتى إن الشجرة لتقول:يا مؤمن، هذا كافر. ويقول الحجر:يا مؤمن، هذا كافر » . تفرد به أحمد من هذا الوجه .

حديث آخر:قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه المشهورة:حدثنا علي بن محمد، حدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن إسماعيل بن رافع أبي رافع، عن أبي زُرْعَة الشيباني يحيى بن أبي عمرو، عن أبي أُمَامة الباهلي قال:خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثرُ خطبته حديثًا حدثناه عن الدجال، وحذرناه، فكان من قوله أن قال:

« لم تكن فتنة في الأرض، منذ ذرأ الله ذُرِّية آدم، عليه السلام، أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيًا إلا حَذَّر أُمَّته الدجال. وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظَهْرَانيكم، فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يَخْرُجُ من بعدي فكل [ امرئ ] حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من خَلّة بين الشام والعراق، فيعيث يمينًا ويعيث شمالا » .

« [ ألا ] يا عباد الله، أيها الناس، فاثبتوا. وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي:إنه يبدأ فيقول أنا نبي » فلا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: « أنا ربكم » ، ولا ترون ربكم حتى تموتوا. وإنه أعور وإن ربكم، عز وجل، ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه:كافر، يقرؤه كلّ مؤمن، كاتب وغير كاتب. وإن من فتنته أن معه جنة ونارا، فناره جنة وجنته نار. فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه بردًا وسلاما، كما كانت النار على إبراهيم [ عليه السلام ] وإن من فتنته أن يقول لأعرابيّ:أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول:نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان:يا بني، اتبعه، فإنه ربك. وإن من فتنته أن يُسَلّط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار، حتى يُلْقَى شقين ثم يقول:انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربًّا غيري. فيبعثه الله، فيقول له الخبيث:من ربك، فيقول:ربي الله. وأنت عدو الله، الدجال، والله ما كنتُ بعدُ أشدّ بصيرة بك مني اليوم « . قال أبو حسن الطَّنَافِسيّ:فحدثنا المحاربي، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصّافي، عن عطية، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة « . »

قال:قال أبو سعيد:والله ما كنا نُرَى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب، حتى مضى لسبيله .

قال المحاربي:ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع قال:وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تُمْطر، فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت، [ وإن من فتنته أن يَمُر بالحي فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ] وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر، فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت. حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه، وأمَدّه خواصر، وأدره ضُروعا، وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، فإنه لا يأتيهما من نَقْب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صَلتة، حتى ينزل عند الظّرَيب الأحمر، عند مُنْقَطع السَّبخَة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فَتَنْفي الخَبَثَ منها كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد، ويُدعى ذلك اليوم يوم الخلاص.

فقالت أم شَرِيك بنت أبي العَكَر يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: « هم قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يُصلي بهم الصبح إذ نزل [ عليهم ] عيسى [ ابن مريم ] عليه السلام، الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص، يمشي القهقرى؛ ليقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى، عليه السلام، يده بين كتفيه ثم يقول:تقدم فصل، فإنها لك أقيمت. فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى، عليه السلام:افتحوا الباب. فيفتح، ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربًا، ويقول عيسى [ عليه السلام ] إن لي فيك ضَرْبَة لن تستبقني بها. فيدركه عند باب لُدّ الشرقي، فيقتله، ويهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى يتوارى به اليهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر، ولا شجر، ولا حائط، ولا دابة - إلا الغَرْقدة فإنها من شجرهم لا تنطق- إلا قال:يا عبد الله المسلم، هذا يهودي، فتعال اقتله. »

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وإن أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي » . فقيل له:يا نبي الله كيف نصلي، في تلك الأيام القصار؟ قال: « تقدرون فيها الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال. ثم صَلّوا » .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مُقْسطا، يَدُقُّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يُسْعَى على شاة ولا بعير، وترتفع الشحناء والتباغض، وتُنزع حُمَة كل ذات حمة، حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتُفرُّ الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرضُ من السّلم كما يُمْلأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها كعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القِطْف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا، من المال، ويَكون الفرس بالدريهمات. »

قيل:يا رسول الله، وما يرخص الفرس؟ قال: « لا تركب لحرب أبدًا » قيل له:فما يُغلي الثور؟ قال: « تُحْرث الأرض كلها » .

وإن قَبْلَ خروج [ الدجال ] ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة [ الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة ] الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تَقْطر قطرة، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله، فلا تُنْبتُ خضراء، فلا تبقى ذات ظلْف إلا هلكت، إلا ما شاء الله « . »

فقيل:فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: « التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، ويجرى ذلك عليهم مجرى الطعام » .

قال ابن ماجه:سمعت أبا الحسن الطَّنَافِسي يقول:سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول:ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب، حتى يعلمه الصبيان في الكتاب.

هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد من أحاديث أخر؛ ولنذكر حديث النواس بن سمعان هاهنا لشبهه بسياقه هذا الحديث، قال مسلم بن الحجاج في صحيحه:

حدثنا أبو خَيْثَمَةَ زُهَير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نُفَير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ( ح ) وحدثنا محمد بن مِهْران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه جُبَيْر، بن نُفَيْر، عن النوّاس بن سَمْعان قال:ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفَّض فيه ورَفَّع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: « ما شأنكم؟ » قلنا:يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: « غير الدجال أخْوَفُني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجيجه دونكم، وإن يَخْرُجْ ولست فيكم فامرؤ حَجيجُ نفسه، والله خليفتي على كل مسلم:إنه شابٌّ قَططُ عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارجُ خَلَّة بين الشام والعراق، فعاثَ يمينًا وعاثَ شمالا. يا عباد الله، فاثبتوا » :قلنا:يا رسول الله، وما لَبْثَتَه في الأرض؟ قال: « أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم » .

قلنا:يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: « لا اقدروا له قدره » . قلنا:يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على قوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماءَ فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتُهم أطول ما كانت ذُرَي، وأسبغه ضُروعا، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون مُمْحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم. ويمر بالخَرِبة فيقول لها:أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزْلتين رَمْيَةَ الغرض، ثم يدعوه فيُقْبلُ ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مَهْرودَتَيْنِ، واضعًا كفيه على أجنحة مَلَكين، إذا طأطأ رأسه قَطَر، وإذا رفعه تَحدّر منه جُمَان كاللؤلؤ، ولا يَحل لكافر يجد ريح نَفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طَرفه، فيطليه حتى يدركه بباب لُدّ فيقتله.

ثم يأتي عيسى، عليه السلام، قومًا قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدِّثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله، عز وجل، إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يَدَانِ لأحد بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور.

ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنْسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طَبَرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون:لقد كان بهذه مَرّة ماء. ويُحْصَر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة.

ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهُمْ ونَتْنُهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيرًا كأعناق البُخْت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله.

ثم يرسل الله مطرا لا يكُن منه بيت مَدَر ولا وَبَر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلَفَة، ثم يقال للأرض:أخرجي ثَمَرَك ورُدّي بركتك. فيومئذ تأكل العُصَابة من الرمانة، ويستظلون بقَحْفِها، ويبارك الله في الرَّسْل حتى إن اللَّقْحَة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من الفَم لتكفى الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يَتَهَارَجُون فيها تهارُجَ الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة « . »

ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به. وسنذكره أيضًا من طريق أحمد، عند قوله تعالى في سورة الأنبياء: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ] [ الأنبياء:96 ] .

حديث آخر:قال مسلم في صحيحه أيضًا:حدثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ العَنْبِريّ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم قال:سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول:سمعت عبد الله بن عمرو - وجاءه رجل فقال- :ما هذا الحديث الذي تُحدث به تقول:إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال:سبحان الله؟! - أو:لا إله إلا الله، أو كلمة نحوها- لقد هممتُ ألا أحدث أحدا شيئا أبدا، إنما قلت:إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا:يُحرِّق البيت، ويكون ويكون. ثم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يخرج الدجال في أمتي، فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان- إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كَبَد جبل لَدَخَلَتْه عليه حتى تَقْبضَه » قال:سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فيبقى شرار الناس في خفَّة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول:ألا تستجيبون؟ فيقولون:فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم، حسن عيشهم. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا، ورفع لِيتًا، قال:وأول من يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله، قال:فَيَصْعَقُ ويَصعَقُ الناس. ثم يرسل الله - أو قال:ينزل الله- مطرًا كأنه الطَّل - أو قال:الظل- نُعْمَان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس، ثم يَنْفُخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال:يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [ الصافات:24 ] قال: » ثم يقال:أخرجوا بَعْثَ النار. فيقال:من كم؟ فيقال:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين « . قال يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [ المزمل:17 ] وذلك يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [ القلم:42 ] . »

ثم رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعًا عن محمد بن بشار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، به .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة الأنصاري، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري، عن مُجَمِّع بن جارية قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لُدّ - أو:إلى جانب لُدّ » .

ورواه أحمد أيضا، عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي، ثلاثتهم عن الزُّهري، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مُجَمِّع ابن جارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يقتل ابن مريم الدجال بباب لُد » .

وكذا رواه الترمذي، عن قتيبة، عن الليث، به. وقال:هذا حديث صحيح. قال:وفي الباب عن عمران بن حصين، ونافع بن عتبة، وأبي بَرْزَة، وحذيفة بن أسيد، وأبي هريرة. وكَيْسان، وعثمان بن أبي العاص، وجابر، وأبي أمامة، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسَمُرة بن جُنْدب، والنواس بن سمعان، وعمرو بن عوف، وحذيفة بن اليمان، رضي الله عنهم .

ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال. وقتل عيسى ابن مريم، عليه السلام، له. فأما أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جدًّا، وهي أكثر من أن تحصر؛ لانتشارها وكثرة رواتها في الصحاح والحسان والمسانيد، وغير ذلك .

حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن فُرَات، عن أبي الطُّفَيل، عن حذيفة بن أسيد الغِفَاري قال:أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: « لا تقوم الساعة حتى ترون عشر آيات:طلوع الشمس من مغربها، والدُّخَان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خُسوف:خَسْف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. ونار تخرج من قعر عَدَن، تسوق - أو تحشر- الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتَقيل معهم حيث قالوا » .

وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فُرَات القزاز به. ورواه مسلم أيضًا من رواية عبد العزيز بن رُفَيع عن أبي الطفيل عن أبي سَريحَة حذيفة بن أُسَيد الغفاري، موقوفًا والله أعلم.

فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة، وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومُجَمِّع بن جارية وأبي سَرِيحة وحذيفة بن أُسَيْد، رضي الله عنهم.

وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه، من أنه بالشام، بل بدمشق، عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة الصلاة للصبح وقد بنيت في هذه الأعصار، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأمَويّ بيضاء، من حجارة منحوتة، عِوَضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها [ المسيح ] عيسى ابن مريم، عليه السلام، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان، حيث تنزاح عللهم، وترتفع شبههم من أنفسهم؛ ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام مُتَابَعَة لعيسى، عليه السلام، وعلى يديه؛ ولهذا قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ] ) .

وهذه الآية كقوله [ تعالى ] وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [ الزخرف:61 ] وقرئ: « عَلَم » بالتحريك، أي إشارة ودليل على اقتراب الساعة، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال، فيقتله الله على يديه، كما ثبت في الصحيح: « إن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء » ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج، فيهلكهم الله [ به ] ببركة دعائه، وقد قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ الآية [ الأنبياء:96، 97 ] .

صفة عيسى عليه السلام:

قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] فإذا رأيتموه فاعرفوه:رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل « . وفي حديث النواس بن سمعان: » فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مَهْرُودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه مثل جُمَان اللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهى طَرْفُه « . »

وروى البخاري ومسلم، من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليلة أسري بي لقيت موسى » ، قال:فَنَعَتَه « فإذا رجل - حسبته قال:- مضطرب رجْلُ الرأس، كأنه من رجال شنوءة » . قال: « ولقيت عيسى » فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « رَبْعَة أحمر، كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام- ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به » الحديث.

وروى البخاري، من حديث مجاهد، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت موسى وعيسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جَعْدُ عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط، كأنه من رجال الزّط » .

وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة، عن نافع قال:قال عبد الله بن عمر:ذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظَهْرَاني الناس المسيح الدجال فقال: « إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنَبَةٌ طافية وأراني الله عند الكعبة في المنام، فإذا رجل آدَم، كأحسن ما ترى من أدم الرجال، تضرب لمَّته بين منكبيه، رَجْل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت:من هذا؟ فقالوا:المسيح ابن مريم ثم رأيت وراءه رجلا جَعْدًا قَطَطًا، أعور عين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قَطَن، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت:من هذا؟ قالوا:المسيح الدجال » . تابعه عبيد الله عن نافع .

ثم رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكِّي، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال:لا والله ما قال النبي صلى الله عليه سلم لعيسى [ عليه السلام ] أحمر، ولكن قال: « بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سَبْط الشعر، يتهادى بين رجلين يَنْطف رأسه ماء - أو يُهرَاق رأسه ماء- فقلت:من هذا؟ فقالوا:ابن مريم. فذهبت ألتفت، فإذا رجل أحمر جسيم، جَعْد الرأس، أعور عينه اليمنى، كأن عينه عنبة طافية. قلت:من هذا؟ قالوا:الدجال. وأقرب الناس به شبها ابن قَطَن » ( . قال الزهري:رجل من خزاعة هلك في الجاهلية .

هذه كلها ألفاظ البخاري، رحمه الله، وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة:أن عيسى، عليه السلام، يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة، ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون.

وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم:أنه يمكث سبع سنين، فيحتمل - والله أعلم- أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة، مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة:أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة. وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رُفع وله مائة وخمسون سنة، فشاذ غريب بعيد. وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم من تاريخه، عن بعض السلف:أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، فالله أعلم .

وقوله تعالى:وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا قال قتادة:يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله، وأقر بالعبودية لله عز وجل، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ ] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ المائدة:116 - 118 ] .

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( 160 ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 161 ) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ( 162 )

يخبر، تعالى، أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم، كما قال ابن أبي حاتم:

حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عَمْرو، وقال:قرأ ابن عباس: « طيبات كانت أحلت لهم » .

وهذا التحريم قد يكون قدريا، بمعنى:أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم، فحرموها على أنفسهم، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى:أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [ آل عمران:93 ] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد:أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [ الأنعام:146 ] أي:إنما حرمنا عليهم ذلك؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه. ولهذا قال: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ) أي:صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق. وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء، وكذَبوا عيسى ومحمدًا، صلوات الله وسلامه عليهما.

وقوله: ( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) أي:أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه، واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه، وأكلوا أموال الناس بالباطل. قال تعالى: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )

ثم قال تعالى: ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ) أي:الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران.

( وَالْمُؤْمِنُونَ ) عطف على الراسخين، وخبره ( يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ )

قال ابن عباس:أنزلت في عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية. وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد، الذين دخلوا في الإسلام، وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بن كعب. وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود: « والمقيمون الصلاة » ، قال:والصحيح قراءة الجميع. ثم رَدّ على من زعم أن ذلك من غلط الكُتَّاب ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم:هو منصوب على المدح، كما جاء في قوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [ البقرة:177 ] ، قالوا:وهذا سائغ في كلام العرب، كما قال الشاعر :

لا يَبْعَــدَن قــومي الـذين همُـو سُــمّ العـداة وآفــة الجُــزرِ

النـــازلين بكـــل مُعَْـــتركٍ والطَّيّبُــــــونَ مَعَــــاقِدَ الأزْرِ

وقال آخرون:هو مخفوض عطفا على قوله: ( بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) يعني:وبالمقيمين الصلاة.

وكأنه يقول:وبإقامة الصلاة، أي:يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة، وهذا اختيار ابن جرير، يعني:يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالملائكة. وفي هذا نظر والله أعلم.

وقوله: ( وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين، والله أعلم.

وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) أي:يصدقون بأنه لا إله إلا الله، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

وقوله: ( أُولَئِكَ ) هو الخبر عما تقدم ( سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ) يعني:الجنة.

 

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ( 163 ) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 ) رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 )

قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال سُكَين وعَديّ بن زيد:يا محمد، ما نعلم أن الله أنـزل على بشر من شيء بعد موسى. فأنـزل الله في ذلك من قولهما: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلى آخر الآيات.

وقال ابن جرير:حدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا أبو مَعْشر، عن محمد بن كعب القرظي قال:أنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ إلى قوله وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا فلما تلاها عليهم - يعني على اليهود- وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنـزل الله وقالوا:ما أنـزل الله على بشر من شيء، ولا موسى ولا عيسى، ولا على نبي من شيء. قال:فحَلّ حُبْوته، وقال:ولا على أحد.. فأنـزل الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [ الأنعام:91 ] .

وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر؛ فإن هذه الآية مكية في سورة الأنعام، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينـزل عليهم كتابًا من السماء، قال الله تعالى فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [ النساء:153 ] ، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء. ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فقال: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا )

والزبور:اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود، عليه السلام، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء، عليهم من الله [ أفضل ] الصلاة والسلام، عند قصصهم في السور الآتية، إن شاء الله، وبه الثقة، وعليه التكلان.

وقوله ( وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) أي:من قبل هذه الآية، يعني:في السور المكية وغيرها.

وهذه تسمية الأنبياء الذين نُصَّ على أسمائهم في القرآن، وهم:آدم وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، والْيَسَع، وزكريا، ويحيى، وعيسى [ عليهم الصلاة والسلام ] وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله وعليه وسلم.

وقوله: ( وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) أي:خلقا آخرين لم يذكروا في القرآن، وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مَرْدُويه، رحمه الله، في تفسيره، حيث قال:حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن، والحسين بن عبد الله بن يزيد قالا حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن أبي ذر قال:قلت:يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا » . قلت:يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: « ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمّ غَفِير » . قلت:يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: « آدم » . قلت:يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: « نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سَوَّاه قِبَلا » . ثم قال: « يا أبا ذر، أربعة سريانيون:آدم، وشيث، ونوح، وخَنُوخ - وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم- وأربعة من العرب:هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى. وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك » .

قد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه: « الأنواع والتقاسيم » وقد وَسَمَه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي، فذكر هذا الحديث في كتابه « الموضوعات » ، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث فالله أعلم.

وقد روي الحديث من وجه آخر، عن صحابي آخر، فقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا مُعَان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمَامة قال:قلت:يا نبي الله، كم الأنبياء؟ قال: « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غَفِيرًا » .

مُعَان بن رفاعة السَّلامي ضعيف، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضا .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي:حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة الرَّبَذي، عن يزيد الرَّقَاشي، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس » .

وهذا أيضا إسناد ضعيف فيه الربذي ضعيف، وشيخه الرَّقَاشي أضعف منه أيضا والله أعلم.

وقال أبو يعلى:حدثنا أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العَبْدِي، حدثنا محمد بن خالد الأنصاري، عن يزيد الرَّقَاشي، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا » .

وقد رويناه عن أنس من وجه آخر، فأخبرني الحافظ أبو عبد الله الذهبي، أخبرنا أبو الفضل بن عساكر، أنبأنا الإمام أبو بكر القاسم بن أبي سعيد الصفار، أخبرتنا عمة أبي، عائشة بنت أحمد بن منصور بن الصفار، أخبرنا الشريف أبو السنابك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القُرَشِي، حدثنا الإمام الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَراييني قال:أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن صفوان بن سُلَيْم، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بعثت على إثر من ثلاثة آلاف نبي من بني إسرائيل » . وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به، رجاله كلهم معروفون إلا أحمد بن طارق هذا، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح والله أعلم.

حديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام:

قال محمد بن الحسين الآجري:حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفِرْيابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسَّاني، حدثنا أبي، عن جده عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر قال:دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه فقلت:يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة. قال: « الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل » . قال:قلت:يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل؟ قال: « إيمان بالله، وجهاد في سبيله » . قلت:يا رسول الله، فأي المؤمنين أفضل؟ قال: « أحسنهم خلقا » . قلت:يا رسول الله، فأي المسلمين أسلم؟ قال: « من سَلِمُ الناسُ من لسانه ويده » . قلت:يا رسول الله، فأي الهجرة أفضل؟ قال: « من هَجَر السيئات » . قلت:يا رسول الله، أيّ الصلاة أفضل؟ قال: « طول القنوت » . قلت:يا رسول الله، فأي الصيام أفضل؟ قال: « فَرْضٌ مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة » . قلت:يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: « من عُقِر جَواده وأهرِيق دَمُه » . قلت:يا رسول الله، فأيّ الرقاب أفضل؟ قال: « أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها » . قلت:يا رسول الله فأيّ الصدقة أفضل؟ قال: « جَهْد من مُقِلٍّ، وسر إلى فقير » . قلت:يا رسول الله، فأيّ آية ما أنـزل عليك أعظم [ منها ] ؟ قال: « آية الكرسي » . ثم قال: « يا أبا ذر، وما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة » . قال:قلت:يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا » قال:قلت:يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: « ثلاثمائة، وثلاثة عشر جمٌّ غَفيرٌ كثير طيب » . قلت:فمن كان أولهم؟ قال: « آدم » . قلت:أنبي مرسل؟ قال: « نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسَوَّاه قَبِيلا ثم قال: » يا أبا ذر، أربعة سريانيون:آدم، وشيث، وخَنُوخ - وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم- ونوح. وأربعة من العرب:هود، وشعيب، وصالح، ونبيك يا أبا ذر. وأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى. وأول الرسل آدم، وآخرهم محمد « . قال:قلت:يا رسول الله، كم كتابًا أنـزله الله؟ قال: » مائة كتاب وأربعة كتب، وأنـزل الله على شيث خمسين، صحيفة، وعلى خَنُوخ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وأنـزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف والإنجيل والزبور والفرقان « . قال:قلت:يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: » كانت كلها:يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وكان فيها مثال:وعلى العاقل أن يكون له ساعات:ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ضاغنا إلا لثلاث:تزود لمعاد، أو مَرَمَّة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظًا للسانه، ومَنْ حَسِب كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه « . قال:قلت:يا رسول الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: » كانت عِبَرًا كلها:عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالقَدَر ثم هو يَنْصب، وعجبت لمن يرى الدنيا وتَقَلُّبَهَا بأهلها ثم يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل « قال:قلت:يا رسول الله، فهل في أيدينا شيء مما في أيدي إبراهيم وموسى، وما أنـزل الله عليك؟ قال: » نعم، اقرأ يا أبا ذر: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [ الأعلى:14- 19 ] .

قال:قلت يا رسول الله، فأوصني. قال: « أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك » .

قال:قلت يا رسول الله، زدْني. قال: « عليك بتلاوة القرآن، وذِكْر الله، فإنه ذكرٌ لك في السماء، ونورٌ لك في الأرض » .

قال:قلت:يا رسول الله، زدني. قال: « إياك وكثرة الضحك. فإنه يميت القلب، ويُذْهِبُ بنور الوجه » . قلت:زدني. قال: « عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي » . قلت:زدني. قال: « عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مَطْرَدَةٌ للشيطان وعون لك على أمر دينك » .

قلت:زدني. قال: « انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك » .

قلت:زدني. قال: « أحبب المساكين وجالسهم، فإنه أَجْدرُ أن لا تزدري نعمة الله عليك » . قلت:زدني. قال: « صل قرابتك وإن قطَعوك » . قلت:زدني. قال: « قل الحق وإن كان مرا » .

قلت:زدني. قال: « لا تخف في الله لومة لائم » .

قلت:زدني. قال: « يَرُدَّك عن الناس ما تعرف عن نفسك، ولا تَجِدُ عليهم فيما تحب، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك. أو تجد عليهم فيما تحب » .

ثم ضرب بيده صدري، فقال: « يا أبا ذر، لا عَقْل كالتدبير، ولا وَرَع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق »

وروى الإمام أحمد، عن أبي المغيرة، عن مُعَان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة:أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أمر الصلاة، والصيام، والصَدقة، وفَضْلَ آية الكرسي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضلَ الشهداءِ، وأفضلَ الرقاب، ونبوة آدم، وأنه مُكَلَّم، وعددَ الأنبياء والمرسلين، كنحو ما تقدم .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد:وجدت في كتاب أبي بخطه:حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأمَوي، حدثنا مُجَالِد عن أبي الوَدَّاك قال:قال أبو سعيد:هل تقول الخوارج بالدجال؟ قال:قلت:لا. فقال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني خاتمُ ألفِ نبيّ أو أكثرَ، وما بُعِثَ نبيٌّ يُتَّبعُ إلا وقد حذر أمته منه، وإني قد بُيِّنَ لي ما لم يُبَيَّن [ لأحد ] وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى، كأنها نخامة في حائط مُجَصَّص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تَدْخُن » .

وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي، عن يحيى بن مَعين، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا مُجَالِد، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أختم ألفَ ألفَ نبيٍّ أو أكثرَ، ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذَّرهم الدجالَ.... » وذكر تمام الحديث، هذا لفظه بزيادة « ألْف » وقد تكون مُقْحَمة والله أعلم. وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم، وروي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال الحافظ أبو بكر البزار:

حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مُجَالد، عن الشَّعبي، عن جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لخاتمُ ألف نبيٍّ أو أكثر، وإنه ليس منهم نبيٌّ إلا وقد أنذر قومه الدَّجالَ، وإني قد بُيِّن لي ما لم يُبَيَّن لأحد منهم وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعورَ » .

وقوله: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) وهذا تشريف لموسى، عليه السلام، بهذه الصفة؛ ولهذا يقال له:الكليم. وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه:حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي، حدثنا مَسيحُ بن حاتم، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال:جاء رجل إلى أبي بكر بن عيَّاش فقال:سمعت رجلا يقرأ: « وكلم الله موسى تكليما » فقال أبو بكر:ما قرأ هذا إلا كافر، قرأتُ على الأعمش، وقرأ الأعمش على [ يحيى ] بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثَّاب على أبي عبد الرحمن السَّلْمِيّ، وقرأ أبو عبد الرحمن، عَلَى عَلِيِّ بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) .

وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش، رحمه الله، على مَن قرأ كذلك؛ لأنه حَرّف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن [ يكون ] الله كلَّم موسى، عليه السلام، أو يكلم أحدًا من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: « وكلم الله موسى تكليما » فقال له:يا ابن اللَّخْنَاء، فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [ الأعراف:143 ] ، يعني:أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.

وقال ابن مَرْدُوَية:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن الحسين بن بَهْرَام، حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا هانئ بن يحيى، عن الحسن بن أبي جعفر، عن قتادة عن يحيى بن وَثَّاب، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَما كلم الله موسى كان يُبْصِرُ دبيبَ النمل على الصفا في الليلة الظلماء » . وهذا حديث غريب، وإسناده لا يصح، وإذا صح موقوفًا كان جيدًا .

وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه، من حديث حميد بن قيس الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كان على موسى يوم كلمه ربُّه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي » .

وقال ابن مردويه بإسناده عن جُوَيْبر، عن الضَّحاك عن ابن عباس قال:إن الله ناجَى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة، في ثلاثة أيام، وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مَقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب، عز وجل.

وهذا أيضًا إسناد ضعيف، فإن جُوَيْبِرًا ضعيف، والضَّحاك لم يدرك ابنَ عباس، رضي الله عنه. فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرَّقَاشي، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال:لما كلم الله موسى يوم الطورِ، كلَّمه بغير الكلام الذي كلَّمه يوم ناداه، فقال له موسى:يا رب، هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال:لا يا موسى، أنا كلمتك بقوة عَشَرةِ آلاف لسان، ولي قوةُ الألْسِنة كلها، وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا:يا موسى، صِفْ لنا كلام الرحمن. قال:لا أستطيعه. قالوا:فشبه لنا. قال:ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنها قريب منه، وليس به. وهذا إسناد ضعيف، فإن الفضلَ هذا الرقاشي ضعيف بمرة.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن جَزْء بن جابر الخَثْعَمي، عن كعب قال:إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها سِوَى كلامه، فقال له موسى يا رب، هذا كلامك؟ قال:لا ولو كلمتك بكلامي لم تَستَقِمْ له. قال:يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال:لا وأشد خلقي شبها بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق.

فهذا موقوف على كعب الأحبار، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل، وفيها الغَثُّ والسَّمِين.

وقوله: ( رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ) أي:يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب.

وقوله: ( لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) أي:أنه تعالى أنـزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه؛ لئلا يبقى لمعتذر عذر، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [ طه:134 ] ، وكذا قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ] [ القصص:47 ] .

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، [ رضي الله عنه ] قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا أحَدَ أغَيْرُ من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظَهَر منها وما بطن، ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحدَ أحَبُّ إليه العُذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين » وفي لفظ: « من أجل ذلك أرسل رسله، وأنـزل كتبه » .

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 166 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا ( 167 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ( 168 ) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 169 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 170 )

لما تضمن قوله تعالى: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلى آخر السياق، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب، قال الله تعالى: ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنـزلَ إِلَيْكَ ) أي:وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنـزل عليه الكتاب، وهو:القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فصلت:42 ] ؛ ولهذا قال: ( أَنـزلَهُ بِعِلْمِهِ ) أي:فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة، التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب، إلا أن يُعْلِمَه الله به، كما قال [ تعالى ] وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ [ البقرة:255 ] ، وقال وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ طه:110 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الحسن بن سَهْل الجعفري وخَزَزُ بن المبارك قالا حدثنا عمران بن عيينة، حدثنا عطاء بن السائب قال:أقرأني أبو عبد الرحمن السَّلمي القرآنَ، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال:قد أخذتَ علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضلَ منك إلا بعمل، ثم يقرأ: ( أَنـزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) وقوله ( وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) أي:بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنـزل عليك، مع شهادة الله تعالى لك بذلك ( وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )

وقد قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من اليهود، فقال لهم: « إني لأعلم - والله- إنكم لتعلمون أني رسول الله » . فقالوا:ما نعلم ذلك. فأنـزل الله عز وجل: ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنـزلَ إِلَيْكَ أَنـزلَهُ بِعِلْمِهِ [ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ] .

وقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا ) أي:كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق، وسَعوْا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه، وبَعُدُوا منه بعدًا عظيما شاسعًا.

ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك، وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، بأنه لا يغفر لهم ( وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ) أي:سبيلا إلى الخير ( إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) وهذا استثناء منقطع ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ] ) .

ثم قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ ) أي:قد جاءكم محمد - صلوات الله وسلامه عليه- بالهدى ودين الحق، والبيان الشافي من الله، عز وجل، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيرًا لكم.

ثم قال: ( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:فهو غني عنكم وعن إيمانكم، ولا يتضرر بكفرانكم، كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ إبراهيم:8 ] وقال هاهنا: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي:بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغَوَاية فيغويه ( حَكِيمًا ) أي:في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

 

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ( 171 )

ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى، حتى رفعوه فوق المنـزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه، ممن زعم أنه على دينه، فادَّعوْا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقًا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا؛ ولهذا قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ التوبة:31 ] .

وقال الإمام أحمد:حدثنا هُشَيم قال:زعم الزُّهْرِي، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله » .

ثم رواه هو وعلي بن المديني، عن سفيان بن عُيَيْنة، عن الزُّهري كذلك. وقال علي بن المديني:هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري، عن الحُميدي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، به. ولفظه: « فإنما أنا عبد، فقولوا:عبد الله ورسوله » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حمَّاد بن سَلَمَة، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك:أن رجلا قال:محمد يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا أيها الناس، عليكم بقولكم، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ، أنا محمدُ بنُ عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منـزلتي التي أنـزلني اللَّهُ عز وجل » . تفرد به من هذا الوجه .

وقوله: ( وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) أي:لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وتنـزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ ولهذا قال: ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) أي:إنما هو عبد من عباد الله وخَلق من خلقه، قال له:كن فكان، ورسول من رسله، وكلمته ألقاها إلى مريم، أي:خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل، عليه السلام، إلى مريم، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه، عز وجل، فكان عيسى بإذن الله، عز وجل، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جَيْب درعها، فنـزلت حتى وَلَجت فرجها بمنـزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله، عز وجل؛ ولهذا قيل لعيسى:إنه كلمة الله وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها:كن، فكان. والروح التي أرسل بها جبريل، قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [ المائدة:75 ] . وقال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آل عمران:59 ] . وقال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [ الأنبياء:91 ] وقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ] [ التحريم:12 ] . وقال تعالى إخبارا عن المسيح: إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ] [ الزخرف:59 ] .

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) هو كقوله: كُنْ [ آل عمران:59 ] فكان وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال:سمعت شَاذَّ بن يحيى يقول:في قول الله: ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) قال:ليس الكلمةُ صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.

وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: ( أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) أي:أعلمها بها، كما زعمه في قوله: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [ آل عمران:45 ] أي:يعلمك بكلمة منه، ويجعل ذلك كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ القصص:86 ] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى، عليه السلام.

وقال البخاري:حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عُمَيْر بن هانئ، حدثني جُنَادةُ بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنةَ حق، والنارَ حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » . قال الوليد:فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عُمير بن هانئ، عن جُنَادة زاد: « من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء » .

وكذا رواه مسلم، عن داود بن رُشَيد، عن الوليد، عن ابن جابر، به ومن وجه آخر، عن الأوزاعي، به .

فقوله في الآية والحديث: ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) كقوله وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [ الجاثية:13 ] أي:مِنْ خَلْقه ومن عنده، وليست « مِنْ » للتبعيض، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة- بل هي لابتداء الغاية، كما في الآية الأخرى.

وقد قال مجاهد في قوله: ( وَرُوحٌ مِنْهُ ) أي:ورسول منه. وقال غيره. ومحبة منه. والأظهر الأول أنَّه مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله، في قوله: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ [ هود:64 ] . وفي قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [ الحج:26 ] ، وكما ورد في الحديث الصحيح: « فأدخل على رَبِّي في داره » أضافها إليه إضافة تشريف لها، وهذا كله من قبيل واحد ونمَط واحد.

وقوله: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أي:فصدقوا بأن الله واحد أحد، لا صاحبة له ولا ولد، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله؛ ولهذا قال: ( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ) أي:لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ [ المائدة:73 ] . وكما قال في آخر السورة المذكورة: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [ وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ] الآية [ المائدة:116 ] ، وقال في أولها: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية [ المائدة:17 ] ، فالنصارى - عليهم لعنة الله- من جهلهم ليس لهم ضابط، ولا لكفرهم حد، بل أقوالهم وضلالهم منتشر، فمنهم من يعتقده إلهًا، ومنهم من يعتقده شريكا، ومنهم من يعتقده ولدًا. وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة، وأقوال غير مؤتلفة، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال:لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا. ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير، وهو سعيد بن بَطْرِيق - بتْرَكُ الإسكندرية- في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر، فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا، فكانوا أحزابًا كثيرة، كل خمسين منهم على مقالة، وعشرون على مقالة، ومائة على مقالة، وسبعون على مقالة، وأزيد من ذلك وأنقص. فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا، وقد توافقوا على مقالة، فأخذها الملك ونصرها وأيدها - وكان فيلسوفًا ذا هيئة - ومَحَقَ ما عداها من الأقوال، وانتظم دَسْتُ أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر، وبنيت لهم الكنائس، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار - ليعتقدوها- ويُعَمّدونهم عليها، وأتباع هؤلاء هم الملكية. ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية. وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم‌‍‍‍! هل اتحدا، أو ما اتحدا، بل امتزجا أو حل فيه؟ على ثلاث مقالات، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى، ونحن نكفر الثلاثة؛ ولهذا قال تعالى: ( انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ) أي:يكن خيرا لكم ( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) أي:تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) أي:الجميع ملكه وخلقه، وجميع ما فيها عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد؟ كما قال في الآية الأخرى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الأنعام:101 ] ، وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * [ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ] [ مريم:88- 95 ]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ( 172 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ( 173 )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس قوله: ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ) لن يستكبر.

وقال قتادة:لن يحتشم ( الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال: ( وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) وليس له في ذلك دلالة؛ لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح؛ لأن الاستنكاف هو الامتناع، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح؛ فلهذا قال: ( وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل.

وقيل:إنما ذكروا؛ لأنهم اتّخذُوا آلهة مع الله، كما اتخذ المسيح، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عبيده وخَلْق من خلقه، كما قال الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * [ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ] الأنبياء: [ 26- 29 ] .

ثم قال: ( وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) أي:فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل، الذي لا يجور فيه ولا يَحِيف؛ ولهذا قال: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) يعني:فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسَعَة رحمته وامتنانه.

وقد روى ابن مَرْدُوَيه من طريق بَقِيَّة، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي، عن الأعمش، عن سفيان عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) قال: أجورهم:أدخلهم الجنة « . ( وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) قال: » الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم « . »

وهذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفًا فهو جيد .

( وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا ) أي:امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك ( فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [ غافر:60 ] أي:صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ( 174 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 175 )

يقول تعالى مخاطبًا جميع الناس ومخبرا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القاطع للعُذْر، والحجة المزيلة للشبهة؛ ولهذا قال: ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ) أي:ضياء واضحا على الحق، قال ابن جُرَيج وغيره:وهو القرآن .

( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ) أي:جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم. وقال ابن جريج:آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن . رواه ابن جرير.

( فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ) أي:يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم، من فضله عليهم وإحسانه إليهم، ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي:طريقا واضحا قَصْدا قَوَاما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات . وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القرآن صراطُ اللهِ المستقيمُ وحبلُ الله المتين » . وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة .

 

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 176 ) .

قال البخاري:حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال:سمعت البراء قال:آخر سورة نـزلت: « براءة » ، وآخر آية نـزلت: ( يَسْتَفْتُونَكَ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر قال:سمعت جابر بن عبد الله قال:دخل عَلَيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض لا أَعْقِل، قال:فتوضأ، ثم صَبَّ عَلَيّ - أو قال صبوا عليه - فَعَقَلْتُ فَقُلت:إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث ؟ قال:فنـزلت آية الفرائض.

أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عُيَيْنة، عن محمد بن المُنْكَدر، عن جابر، به . وفي بعض الألفاظ:فنـزلت آية الميراث: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان وقال ابن الزبير قال - يعني جابرا - :نـزلت في: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) .

وكأن معنى الكلام - والله أعلم- ( يَسْتَفْتُونَكَ ) :عن الكلالة قل:الله يفتيكم فيها، فدل المذكور على المتروك.

وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه؛ ولهذا فسرها أكثر العلماء:بمن يموت وليس له ولد ولا والد، ومن الناس من يقول:الكلالة من لا ولد له، كما دلت عليه هذه الآية: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ) [ أي مات ] ( لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) .

وقد أُشْكِل حُكْم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال:ثلاث وَدِدْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه:الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا.

وقال الإمام أحمد:حدثنا إسماعيل، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتَادة، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن مَعْدان بن أبي طلحة قال:قال عمر بن الخطاب:ما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأُصْبُعِه في صدري وقال: « يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء » .

هكذا رواه مختصرًا وقد أخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا .

طريق أخرى:قال [ الإمام ] أحمد:حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا مالك - يعني ابن مِغْل- سمعت الفضل بن عمرو، عن إبراهيم، عن عمر قال:سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: « يكفيك آية الصيف » . فقال:لأن أكون سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها أحبَّ إليّ من أن يكونَ لي حُمْر النَّعم. وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعًا بين إبراهيم وبين عُمَر، فإنه لم يدركه .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو بكر، عن أبي إسحاق، عن البَراءِ بن عازبٍ قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة، فقال: « يكفيك آية الصيف » . وهذا إسناد جيد، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عيَّاش، به . وكأن المراد بآية الصيف:أنها نـزلت في فصل الصيف، والله أعلم.

ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها - فإن فيها كفاية- نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها؛ ولهذا قال:فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إليّ من أن يكون لي حُمْر النَّعَم.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع، حدثنا جرير عن الشيباني، عن عمرو بن مُرة، عن سعيد بن المسيَّب قال:سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: « أليس قد بين الله ذلك؟ » فنـزلت: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ ] ) الآية . وقال قتادة:ذُكر لنا أن أبا بكر الصديق [ رضي الله عنه ] قال في خطبته:ألا إن الآية التي أنـزلت في أول « سورة النساء » في شأن الفرائض، أنـزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنـزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها « سورة النساء » أنـزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها « سورة الأنفال » أنـزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، مما جَرّت الرحم من العَصَبة. رواه ابن جرير .

ذكر الكلام على معناها وبالله المستعان، وعليه التكلان:

قوله تعالى: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ) أي:مات، قال الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ [ القصص:88 ] كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الله، عز وجل، كما قال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [ الرحمن:26، 27 ] .

وقوله: ( لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه. ولكن الذي رجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق:أنه مَنْ لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: ( وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) كان معها أب لم ترث شيئًا؛ لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص عند التأمل أيضًا؛ لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية.

وقال الإمام أحمد:حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن عبد الله، عن مَكْحُول وعطية وحمزة وراشد، عن زيد بن ثابت:أنه سئلَ عن زوج وأخت لأب وأم، فأعطى الزوجَ النصفَ والأخت النصفَ. فكُلِّم في ذلك، فقال:حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك.

تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتًا وأختًا:إنه لا شيء للأخت لقوله: ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا ، فلا شيء للأخت، وخالفهما الجمهور، فقالوا في هذه المسألة:للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية وهذه نَصب أن يفرض لها في هذه الصورة , وأما وراثتها بالتعصيب؛ فلما رواه البخاري من طريق سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، قال:قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:النصف للابنة، والنصف للأخت. ثم قال سليمان:قضى فينا ولم يذكر:على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح البخاري أيضًا عن هُزيل بن شرحبيل قال:سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال:للابنة النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني. فسئل ابنُ مسعود - وأخبر بقول أبي موسى- فقال:لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال:لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .

وقوله: ( وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ) أي:والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة، وليس لها ولد، أي:ولا والد؛ لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئًا، فإن فرض أن معه من له فرض، صرف إليه فرضه؛ كزوج، أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصحيحين، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أَلْحِقُوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فَلأوْلَى رجلٍ ذَكَر » .

وقوله: ( فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) أي:فإن كان لمن يموت كلالة، أختان، فرض لهما الثلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات، في قوله: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ )

وقوله: ( وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ ) هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.

وقوله: ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ ) أي:يفرض لكم فرائضه، ويحدّ لكم حدوده، ويوضح لكم شرائعه.

وقوله: ( أَنْ تَضِلُّوا ) أي:لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان. ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي:هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى .

وقد قال أبو جعفر ابن جرير:حدثني يعقوب، حدثني ابن عُلَيَّة، أنبأنا ابن عَوْن، عن محمد بن سيرين قال:كانوا في مسير، ورأس راحلة حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة. قال:ونـزلت: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) فلقَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حذيفة، فلقاها حذيفة عُمَر، فلما كان بعد ذلك سأل عُمَرُ عنها حذيفة فقال:والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقَّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقانيها ، والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا . قال:فكان عمر [ رضي الله عنه ] يقول:اللهم إن كنت بينتها له فإنها لم تُبَين لي.

كذا رواه ابن جرير. ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى ، عن عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن ابن سيرين كذلك بنحوه. وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة ، وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزَّار في مسنده:حدثنا يوسف بن حماد المَعْنيُّ، ومحمد بن مرزوق قالا:أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسَّان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه: « نـزلت الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو بحذيفة، وإذا رأس ناقة حذيفة عند مُؤتَزَر النبي صلى الله عليه وسلم، فلقَّاها إياه، فنظر حذيفة فإذا عمر، رضي الله عنه، فلقاها إياه، فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة، فدعا حذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة:لقد لقَّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَقَّيتُك كما لقاني، والله إني لصادق، ووالله لا أزيد على ذلك شيئًا أبدًا. »

ثم قال البزار:وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى . وكذا رواه ابن مَردُوَيه من حديث عبد الأعلى .

وقال عثمان بن أبي شَيْبَة:حدثنا جرير، عن الشَّيباني، عن عمرو بن مُرّة، عن سعيد - [ هو ] ابن المسيَّب- أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُوَرّث الكلالة؟ قال:فأنـزل الله ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ] ) الآية ، قال:فكأن عمر لم يفهم. فقال لحفصة:إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نَفْس فسليه عنها، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها ، فقال: « أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها » . قال:وكان عمر يقول:ما أراني أعلمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.

رواه ابن مَرْدُوَيه ، ثم رواه من طريق ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس:أن عمر أمر حَفْصَة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فأملاها عليها في كَتَفٍ، فقال: « من أمرك بهذا؟ أعمر؟ ما أراه يقيمها، أوما تكفيه آية الصيف؟ » قال سفيان:وآية الصيف التي في النساء: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ فلما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نـزلت الآية التي هي خاتمة النساء، فألقى عمر الكتف. كذا قال في هذا الحديث، وهو مرسل .

وقال ابن جرير:حدثنا أبو كُرِيْبٍ، حدثنا عَثَّام، عن الأعمش، عن قيس بن مُسْلِم، عن طارق بن شهاب قال: « أخذ عمر كَتفًا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:لأقضينَّ في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن. فخرجت حينئذ حَيّة من البيت، فتفرقوا، فقال:لو أراد الله، عز وجل، أن يتم هذا الأمر لأتمه. وهذا إسناد صحيح . »

وقال الحاكم أبو عبد الله النَّيْسَابُورِي:حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشَّيْبَاني بالكوفة، حدثنا الهيثمُ بن خالد، حدثنا أبو نُعَيْم، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانَة يحدث عن عمر بن الخطاب قال:لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحبُّ إليّ من حُمْر النَّعَم:مَن الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا:نُقرُّ في الزكاة من أموالنا ولا نؤديها إليك، أيحل قتالهم؟ وعن الكلالة . ثم قال:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه . ثم روي بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن مُرَّة، عن مُرة، عن عمر قال:ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُنّ لنا أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها:الخلافة، والكلالة، والربا. ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال:سمعتُ سليمان الأحولَ يحدث، عن طاوس قال:سمعت ابن عباس قال:كنتُ آخر الناس عهدا بعمر، فسمعته يقول:القولُ ما قلتُ:قلتُ:وما قلتَ؟ قال:قلتُ:الكلالة، من لا ولد له . ثم قال:صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

وهكذا رواه ابن مَرْدُوَيه من طريق زَمْعة بن صالح، عن عمرو بن دينار وسليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال:كنتُ آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب، قال:اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة، والقولُ ما قلتُ. قال:وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأب وللأم ، وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا، وخالفه أبو بكر، رضي الله عنهما .

وقال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع، حدثنا محمد بن حُمَيْد الْمَعْمَرِي ، عن مَعْمَر عن الزُّهْرِي، عن سعيد بن المسيَّب:أن عمر كتب في الجَدِّ والكلالةِ كتابًا، فمكث يستخير الله فيه يقول:اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه، حتى إذا طَعِن دعا بكتاب فمحى، ولم يدرِ أحدٌ ما كتب فيه. فقال:إني كنت كتبت في الجَدِّ والكلالة كتابًا، وكنت استخرت الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه .

قال ابن جرير:وقد رُوِي عن عمر، رضي الله عنه، أنه قال:إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر. وكان أبو بكر، رضي الله عنه، يقول:هو ما عدا الولد والوالد .

وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة، في قديم الزمان وحديثه، وهو مذهب الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة. وقول علماء الأمصار قاطبة، وهو الذي يدل عليه القرآن، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله: ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )

 

أعلى