تفسير البغوي

53 - تفسير البغوي سورة النجم

التالي السابق

سورة النجم

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 )

( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قال ابن عباس في رواية الوالبي والعوفي: يعني الثريا إذا سقطت وغابت، وهُويُّه مَغِيبه والعرب تسمي الثريا نجمًا.

وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: « ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رُفع » وأراد بالنجم الثريا.

وقال مجاهد: هي نجوم السماء كلها حين تغرب لفظه واحد ومعناه الجمع، سمي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نَجَمَ السِّنُّ والقرنُ والنبتُ: إذا طلع.

وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه الرجوم من النجوم يعني ما تُرمى به الشياطين عند استراقهم السمع.

وقال أبو حمزة الثمالي: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة. وقيل: المراد بالنجم القرآن سمي نجمًا لأنه نـزل نجومًا متفرقة في عشرين سنة، وسمي التفريق: تنجيمًا، والمفرَّق: مُنَجَّمًا، هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وهو قول الكلبي.

« الهُوِّيُّ » : النـزول من أعلى إلى أسفل. وقال الأخفش: « النجم » هو النبت الذي لا ساق له، ومنه قوله عز وجل: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن- 6 ) ، وهُويُّه سقوطه على الأرض. وقال جعفر الصادق: يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم إذ نـزل من السماء ليلة المعراج، و « الهوي » : النـزول، يقال: هوى يهوي هويًا [ إذا نـزل ] مثل مضى يمضي مضيًا.

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ( 4 ) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ( 7 )

وجواب القسم: قوله: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم ما ضل عن طريق الهدى ( وَمَا غَوَى ) ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) أي: بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول القرآن من تلقاء نفسه.

( إِنْ هُوَ ) ما نطقه في الدين، وقيل: القرآن ( إِلا وَحْيٌ يُوحَى ) أي: وحي من الله يوحى إليه.

( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) جبريل، والقوى جمع القوة.

( ذُو مِرَّةٍ ) قوة وشدة في خلقه يعني جبريل. قال ابن عباس: ذو مرة يعني: ذو منظر حسن. وقال مقاتل: ذو خلق طويل حسن. ( فَاسْتَوَى ) يعني: جبريل.

( وَهُو ) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولون استوى هو وفلان، وقلما يقولون: استوى وفلان نظير هذا قوله: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا ( النمل- 67 ) عطف الآباء على المكنى في كُنَّا من غير إظهار نحن، ومعنى الآية: استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج ( بِالأفُقِ الأعْلَى ) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس، وقيل: « فاستوى » يعني جبريل، وهو كناية عن جبريل أيضا أي: قام في صورته التي خلقه الله، وهو بالأفق الأعلى، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على الصورة التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، والمراد بالأعلى جانب المشرق، وذلك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشيًا عليه، فنـزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، وهو قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 )

قوله عز وجل: ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) اختلفوا في معناه:

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة فأين قوله: « ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى » ؟ قالت: « ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدَّ الأفق » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا طلق بن غنام، حدثنا زائدة عن الشيباني قال: سألت زِرًّا عن قوله: « فكان قاب قوسين أو أدنى » ، قال: أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود- أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح .

فمعنى الآية: ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض « فتدلى » فنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان منه « قاب قوسين أو أدنى » ، بل أدنى، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة، قيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو .

وقال آخرون: ثم دنا الربُّ عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى، فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى. وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس: ودنا الجبار ربُّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس، « والتدلي » هو النـزول إلى الشيء حتى يقرب منه.

وقال مجاهد: دنا جبريل من ربه .

وقال الضحاك: دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه فتدلى فأهوى للسجود، فكان منه قاب قوسين أو أدنى.

ومعنى قوله: « قاب قوسين » أي قدر قوسين، و « القاب » و « القيب » و « القاد » و « القيد » : عبارة عن المقدار، و « القوس » : ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين، قال مجاهد: معناه حيث الوَتَر من القوس، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب. وأصله: أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه.

وقال عبد الله بن مسعود: « قاب قوسين » أي: قدر ذراعين، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة، و « القوس » : الذراع يقاس بها كل شيء، « أو أدنى » : بل أقرب.

فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 )

( فَأَوْحَى ) أي: أوحى الله ( إِلَى عَبْدِهِ ) محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، والحسن، والربيع، وابن زيد: معناه: أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه عز وجل .

قال سعيد بن جبير: أوحى إليه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ( الضحى- 6 ) إلى قوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، ( الشرح- 4 ) وقيل: أوحى إليه: إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 )

( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) قرأ أبو جعفر « ما كذَّب الفؤاد » بتشديد الذال أي: ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه، وقرأ الآخرون بالتخفيف أي: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم الذي رأى بل صدقه، يقال: كذبه إذا قال له الكذب مجازه: ما كذب الفؤاد فيما رأى، واختلفوا في الذي رآه، فقال قوم: رأى جبريل، وهو قول ابن مسعود وعائشة.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص هو ابن غياث عن الشيباني عن زِرٍّ عن عبد الله قال: « ما كذب الفؤاد ما رأى » قال: رأى جبريل له ستمائة جناح .

وقال آخرون: هو الله عز وجل. ثم اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده، وهو قول ابن عباس.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن حجاج، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس: « ما كذب الفؤاد ما رأى » . وَلَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرَى قال: رآه بفؤاده مرتين .

وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة، قالوا: رأى محمد ربه ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخُلة واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية .

وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لم يَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، وتحمل الآية على رؤيته جبريل عليه السلام:

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد ابن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال: قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت: أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، ( الأنعام- 103 ) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ( الشورى- 51 ) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ( لقمان- 34 ) ومن حدثك أنه كتم شيئًا فقد كذب، ثم قرأت: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ( المائدة- 67 ) الآية، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن [ شقيق ] عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ رَبَّكَ؟ قال: « نورٌ أَنَّى أراه » .

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 )

( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: « أفتمرونه » بفتح التاء [ وسكون الميم ] بلا ألف، أي: أفتجحدونه، تقول العرب: مريتَ الرجلَ حقَّه إذا جحدته، وقرأ الآخرون: « أفتمارونه » بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به، والمعنى: أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه .

( وَلَقَدْ رَآهُ نـزلَةً أُخْرَى ) يعني: رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نـزلة أخرى، وذلك أنه رآه في صورته مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء.

( عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) وعلى قول ابن عباس معنى: « نـزلة أخرى » هو أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسأله التخفيف من أعداد الصلوات، فيكون لكل عرجة نـزلة، فرأى ربه في بعضها، وروينا عنه: « أنه رأى ربه بفؤاده مرتين » وعنه: « أنه رأى بعينه » قوله: « عند سدرة المنتهى » روينا عن عبدالله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال تعالى: عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ، قال: فراش من ذهب .

وروينا في حديث المعراج: « ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام فسلمت عليه، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة » .

« والسدرة » شجرة النبق، وقيل لها: سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم الخلق. قال هلال بن [ يساف ] : سأل ابن عباس كعبًا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر، فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن شيبة، حدثنا المسوحي، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يونس بن بكير، أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر سدرة المنتهى، قال: « يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة عام ويستظل في الفنن منها مائة ألف راكب، فيها فراش من ذهب، كأن ثمرها القلال » .

وقال مقاتل: هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان، لو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، وهي طوبى التي ذكرها الله تعالى في سورة الرعد .

عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( 18 )

( عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ) قال عطاء عن ابن عباس: جنة يأوي إليها جبريل والملائكة. وقال مقاتل والكلبي: يأوي إليها أرواح الشهداء.

( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) قال ابن مسعود: فراش من ذهب.

وروينا في حديث المعراج عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشى من أمر الله ما غشى تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، وأوحى إليّ ما أوحى ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة » .

وقال مقاتل: تغشاها الملائكة أمثال الغربان وقال السدي: من الطيور. وروي عن أبي العالية عن أبي هريرة رضي الله عنه أو غيره قال: غشيها نور الخلائق وغشيتها الملائكة من حب الله أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة. قال: فكلمه عند ذلك، فقال له: سل . وعن الحسن قال: غشيها نور رب العزة فاستنارت. ويروى في الحديث: « رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح الله تعالى » .

( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) أي: ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم يمينًا ولا شمالا وما طغى، أي ما جاوز ما رأى. وقيل: ما جاوز ما أمر به وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبًا.

( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) يعني: الآيات العظام. وقيل: أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره وعوده، دليله قوله: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، ( الإسراء- 1 ) وقيل: معناه لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن سليمان الشيباني سمع زر بن حبيش عن عبد الله قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمرو، حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة [ عن عبد الله ] « لقد رأى من آيات ربه الكبرى » ؟ قال: رأى رفرفًا أخضر سَدَّ أُفُقَ السماء .

أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ( 19 )

قوله عز وجل: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ) هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها، اشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله: اللات، ومن العزيز: العزى. وقيل: العزى: تأنيث الأعز، أما « اللات » قال قتادة: كانت بالطائف، وقال ابن زيد: بيت بنخلة كانت قريش تعبده .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح: « اللات » بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه .

وقال مجاهد: كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط، ويجمع رِسْلَها ثم يتخذ منها حيسًا فيطعم منه الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات .

وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم، وكان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلت به أسوقتهم، فلما مات الرجل حولتها ثقيف إلى منازلها فعبدتها، فسدرة الطائف على موضع اللات.

وأما « العزى » : قال مجاهد: هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد بن الوليد يضربها بالفأس ويقول:

يا عزّ كفــرانَك لا سبحـانَك إني رأيت اللــهَ قد أهـانَك

فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها.

ويقال: إن خالدًا رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قلعتها، فقال: ما رأيت؟ قال: ما رأيت شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قلعت، فعاودها فعاد إليها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة، فقتلها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال: « تلك العزى ولن تعبد أبدا » .

وقال الضحاك: هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى بطن نخلة، وقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم، ولهم إله يعبدونه وليس لكم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة ونقلهما إلى نخلة، فوضع الذي أخذ من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذه من المروة، فقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة، فقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة، حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها.

وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف.

وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ( 20 )

( وَمَنَاة ) قرأ ابن كثير بالمد والهمزة، وقرأ العامة بالقصر غير مهموز، لأن العرب سَمَّتْ زيد مناة وعبد مناة، ولم يسمع فيها المد. قال قتادة: هي لخزاعة كانت بقديد، قالت عائشة رضي الله عنها في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت حذو قديد. قال ابن زيد: بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب. قال الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة. وقال بعضهم: اللات والعزى ومناة: أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها .

واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة: فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء. وقال بعضهم: ما كتب في المصحف بالتاء يوقف عليه بالتاء، وما كتب بالهاء فيوقف عليه بالهاء.

وأما قوله: ( الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) [ فالثالثة ] نعت لمناة، أي: الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى، إنما الأخرى هاهنا نعت للثانية. قال الخليل: فالياء لوفاق رؤوس الآي، كقوله: مَآرِبُ أُخْرَى ( طه- 18 ) ولم يقل: أخر. وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.

ومعنى الآية: أَفَرَأَيْتُمُ : أخبرونا يا أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله، قال الكلبي: كان المشركون بمكة يقولون: الأصنام والملائكة بنات الله، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك.

أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 )

فقال الله تعالى منكرًا عليهم: ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) قال ابن عباس وقتادة: أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم. قال مجاهد ومقاتل: قسمة عوجاء. وقال الحسن: غير معتدلة.

قرأ ابن كثير: « ضئزى » بالهمز، وقرأ الآخرون بغير همز.

قال الكسائي: يقال منه ضاز يضيز ضيزًا، وضاز يضوز ضوزًا، وضاز يُضَاز ضازًا إذا ظلم ونقص، وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء، لأنها صفة والصفات لا تكون إلا على فعلى بضم الفاء، نحو حبلى وأنثى وبشرى، أو فعلى بفتح الفاء، نحو غضبى وسكرى وعطشى، وليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت، إنما يكون في الأسماء، مثل: ذكرى وشعرى، وكسر الضاد هاهنا لئلا تنقلب الياء واوًا وهي من بنات الياء كما قالوا في جمع أبيض بيض، والأصل بوض مثل حمر وصفر، فأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى.

( إِنْ هِيَ ) ما هذه الأصنام ( إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنـزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ) حجة بما تقولون إنها آلهة. ثم رجع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال: ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ ) في قولهم إنها آلهة ( وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ ) وما زين لهم الشيطان ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ) البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة، فإن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار.

أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ( 24 ) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى ( 25 ) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ( 26 )

( أَمْ لِلإنْسَانِ مَا تَمَنَّى ) أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام؟

( فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأولَى ) ليس كما ظن الكافر وتمنى، بل لله الآخرة والأولى، لا يملك أحد فيهما شيئا إلا بإذنه .

( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ ) يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند الله ( لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ ) في الشفاعة ( لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) أي: من أهل التوحيد. قال ابن عباس: يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه. وجمع الكناية في قوله: « شفاعتهم » والملك واحد؛ لأن المراد من قوله: « وكم من ملك » الكثرة، فهو كقوله: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( الحاقة- 47 ) .

 

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( 27 ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ( 28 ) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 29 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( 30 )

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنْثَى ) أي: بتسمية الأنثى حين قالوا: إنهم بنات الله.

( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) قال مقاتل: [ معناه ] ما يستيقنون أنهم [ بنات الله ] ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) « والحق » بمعنى العلم، أي: لا يقوم الظن مقام العلم. وقيل: « الحق » بمعنى العذاب، [ أي: أظنهم لا ينقذهم من العذاب شيء ] .

( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا ) يعني القرآن. وقيل: الإيمان ( وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. ) .

ثم صغر رأيهم فقال: ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) أي: ذلك نهاية علمهم وقدر عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.

وقيل: لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله، وأنها تشفع لهم، فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن.

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ) أي: هو عالم بالفريقين فيجازيهم.

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( 32 )

( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا ) فاللام في قوله: « ليجزي » متعلق بمعنى الآية الأولى؛ لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا بما يستحقه، الذين أساؤوا وأشركوا: بما عملوا من الشرك ( وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) وحدوا ربهم: « بالحسنى » بالجنة. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك، ولذلك قال: « ولله ما في السماوات وما في الأرض » .

ثم وصفهم فقال: ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ) اختلفوا في معنى الآية، فقال قوم: هذا استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية: إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة [ ومجاهد، والحسن ] ، ورواية عطاء عن ابن عباس .

قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك .

وقال السدي قال أبو صالح: سئلت عن قول الله تعالى: « إلا اللمم » ، فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم .

وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله: « إلا اللمم » ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنْ تغفرِ اللهمَّ تغفرْ جَمًّا وأيّ عبدٍ لك لا ألمّا » .

وأصل « اللمم والإلمام » : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين، ولا يكون إعادة، ولا إقامة.

وقال آخرون: هذا استثناء منقطع، مجازه: لكن اللمم، ولم يجعلوا اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا؟ فأنـزل الله هذه الآية. وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم .

وقال بعضهم: هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا، وهو قول ابن مسعود، وأبي هريرة، ومسروق، والشعبي، ورواية طاووس عن ابن عباس .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمود بن غيلان، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه » .

ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد: « العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد [ زناها ] البطش، والرجل زناها الخطى » .

وقال الكلبي: « اللمم » على وجهين: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًّا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو: الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه .

وقال سعيد بن المسيب: هو ما لَمَّ على القلب أي خطر .

وقال الحسين بن الفضل: « اللمم » النظرة من غير تعمدٍ، فهو مغفور، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب .

( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) قال ابن عباس: لمن فعل ذلك وتاب، تم الكلام هاهنا، ثم قال: ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) أي خلق أباكم آدم من التراب ( وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ ) جمع جنين، سمي جنينًا لاجتنانه في البطن ( فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) قال ابن عباس: لا تمدحوها. قال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة، فلا تزكوا أنفسكم، لا تبرؤوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها .

قال الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فأنـزل الله تعالى هذه الآية ( هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) أي: بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى.

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 )

قوله عز وجل: ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ) نـزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن الذي عاتبه إن هو [ وافقه ] أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنـزل الله عز وجل « أفرأيت الذي تولى » أدبر عن الإيمان.

وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 ) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 )

( وَأَعْطَى ) صاحبه ( قَلِيلا وَأَكْدَى ) بخل بالباقي.

وقال مقاتل: « أعطى » يعني الوليد « قليلا » من الخير بلسانه، ثم « أكدى » : يعني قطعه وأمسك ولم يقم على العطية.

وقال السدي: نـزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور .

وقال محمد بن كعب القرظي نـزلت في أبي جهل وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله: « وأعطى قليلا وأكدى » أي لم يؤمن به، ومعنى « أكدى » : يعني قطع، وأصله من الكدية، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر، تقول العرب: أكدى الحافر وأجبل، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل.

( أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ) ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.

( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ) لم يخبر ( بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ) يعني: أسفار التوراة.

( وَإِبْرَاهِيم ) في صحف إبراهيم عليه السلام ( الَّذِي وَفَّى ) تمم وأكمل ما أمر به.

قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة: عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه

قال مجاهد: وَفَّى بما فرض عليه .

قال الربيع: وفى رؤياه وقام بذبح ابنه .

وقال عطاء الخراساني: استكمل الطاعة. وقال أبو العالية: وفَّى سهام الإسلام. وهو قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة- 124 ) والتوفية الإتمام. وقال الضحاك: وفَّى ميثاق المناسك.

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الخيري، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري، حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إبراهيم الذي وفى [ صلى ] أربع ركعات أول النهار » .

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو جعفر الشيباني، حدثنا أبو مسهر، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى أنه قال: « ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره » .

أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 )

ثم بيَّن ما في صحفهما فقال: ( أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي: لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ومعناه: لا تؤخذ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة بأنه يحمل عنه الإثم.

وروى عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده، حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك، وبلغهم عن الله: « ألا تزر وازرة وزر أخرى » .

وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ( 39 )

( وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ) أي: عمل، كقوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ( الليل- 4 ) وهذا أيضًا في صحف إبراهيم وموسى.

وقال ابن عباس: هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة، بقوله: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ( الطور- 21 ) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.

وقال عكرمة: كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم، لما روي أن امرأة رفعت صبيًا لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: « نعم ولك أجر » .

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: « نعم » .

وقال الربيع بن أنس: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » يعني الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له .

وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير

ويروى أن عبد الله بن أبيّ كان أعطى العباس قميصًا ألبسه إياه، فلما مات أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفنه فيه، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .

وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 ) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى ( 41 ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( 42 )

( وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) في ميزانه يوم القيامة، [ مأخوذة ] من: أريته الشيء.

( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى ) الأكمل والأتم أي: يجزى الإنسان بسعيه، يقال: جزيت فلانا سعيه وبسعيه، قال الشاعر:

إنْ أجزِ علقـمةَ بنَ سعـدٍ سَعْيَـه لـم أجـزِه ببــلاءِ يـومٍ واحـدٍ

فجمع بين اللغتين.

( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ) أي: منتهى الخلق ومصيرهم إليه، وهو مجازيهم بأعمالهم. وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال.

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسن بن محمد الشيباني أخبرنا محمد بن سليمان بن الفتح الحنبلي، حدثنا علي بن محمد المصري، أخبرنا أبو إسحاق ابن منصور الصعدي ، أخبرنا العباس بن زفر، عن أبي جعفر الرازي، عن أبيه عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وأن إلى ربك المنتهى » ، قال: « لا فكرة في الرب » ، وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعًا: « تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق » فإنه لا تحيط به الفكرة.

وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 )

( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ) فهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء، قال مجاهد والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.

قال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا قيس، هو ابن الربيع الأسدي، حدثنا سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم وكان أصحابه يجلسون ويتناشدون الشعر، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - .

وقال معمر عن قتادة: سئل ابن عمر هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل .

( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) أي: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة.

 

وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 45 ) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( 46 ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ( 47 )

( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى ) من كل حيوان.

( مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ) أي: تصب في الرحم، يقال: منى الرجل وأمنى. قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح. وقال آخرون: تقدر، يقال: منيت الشيء إذا قدرته.

( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى ) أي: الخلق الثاني للبعث يوم القيامة.

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ( 49 ) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ( 50 )

( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) قال أبو صالح: أغنى الناس بالأموال وأقنى أي: أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية.

قال الضحاك: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم.

وقال قتادة والحسن: « أقنى » : أخدم.

وقال ابن عباس: « أغنى وأقنى » : أعطى فأرضى.

قال مجاهد ومقاتل: « أقنى » : أرضى بما أعطى وقنع.

وقال ابن زيد: « أغنى » : أكثر « وأقنى » : أقل وقرأ: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ، ( الإسراء- 30 ) وقال الأخفش: « أقنى » : أفقر. وقال ابن كيسان: أولد .

( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) وهو كوكب خلف الجوزاء وهما شعريان، يقال لإحداهما العبور وللأخرى الغميصاء، سميت بذلك لأنها أخفى من الأخرى، والمجرة بينهما. وأراد هاهنا الشعرى العبور، وكانت خزاعة تعبدها، وأول من سن لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها، وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضًا والشعرى طولا فهي مخالفة لها، فعبدتها خزاعة، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة لخلافه إياهم، كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى .

( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى ) قرأ أهل المدينة والبصرة بلام مشددة بعد الدال، ويهمز وَاوَه قالون عن نافع، والعرب تفعل ذلك فتقول: قم لان عنا، تريد: قم الآن، ويكون الوقف عند « عادا » ، والابتداء « أولى » ، بهمزة واحدة مفتوحة بعدها لام مضمومة، [ ويجوز الابتداء: لولى ] بحذف الهمزة المفتوحة.

وقرأ الآخرون: « عادًا الأولى » ، وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر، فكان لهم عقب، فكانوا عادًا الأخرى.

وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( 54 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( 55 ) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ( 56 ) أَزِفَتِ الآزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( 58 ) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ( 60 )

( وَثَمُودَ ) قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة ( فَمَا أَبْقَى ) منهم أحدًا.

( وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ) أي: أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ( إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ) لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب.

( وَالْمُؤْتَفِكَةَ ) قرى قوم لوط ( أَهْوَى ) أسقط أي: أهواها جبريل بعدما رفعها إلى السماء.

( فَغَشَّاهَا ) ألبسها الله ( مَا غَشَّى ) يعني: الحجارة المنضودة المسومة.

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ ) نعم ربك أيها الإنسان، وقيل: أراد الوليد بن المغيرة ( تَتَمَارَى ) تشك وتجادل، وقال ابن عباس: تكذب.

( هَذَا نَذِيرٌ ) يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم ( مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) أي: رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، وقال قتادة: يقول: أنذر محمد كما أنذر الرسل من قبله.

( أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) دنت القيامة واقتربت الساعة.

( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) أي: مظهرة مقيمة كقوله تعالى: لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ، ( الأعراف- 187 ) والهاء فيه للمبالغة أو على تقدير: نفس كاشفة. ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرًا كالخافية والعافية، والمعنى: ليس لها من دون الله كاشف أي: لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره.

وقيل: معناه: ليس لها راد يعني: إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك.

( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ) يعني القرآن ( تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ ) يعني: استهزاء ( وَلا تَبْكُونَ ) مما فيه من الوعيد.

وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 )

( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) لاهون غافلون، و « السمود » : الغفلة عن الشيء واللهو، يقال: دع عنك سمودك أي لهوك، هذا رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة أهل اليمن، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا . وقال الضحاك: أشِرُون بَطِرون. وقال مجاهد: غضاب مبرطمون. فقيل له: ما البرطمة؟ قال: الإعراض .

( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) أي: واعبدوه.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا نصر بن علي، أخبرني أبو أحمد، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال: أول سورة أنـزلت فيها سجدة: النجم، قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفًا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرًا، وهو أمية بن خلف .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا آدم بن أبي إياس، أخبرنا ابن أبي ذئب، أخبرنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم « والنجم » فلم يسجد فيها .

قلت : فهذا دليل على أن سجود التلاوة غير واجب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. وهو قول الشافعي وأحمد.

وذهب قوم إلى أن وجوب سجود التلاوة على القارئ والمستمع جميعا، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.

 

أعلى