تفسير البغوي

14 - تفسير البغوي سورة ابراهيم

التالي السابق

سورة إبراهيم

 

مكية [ وهي إحدى وخمسون ] آية إلا آيتين من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا إلى قوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 1 ) .

( الر كِتَابٌ ) أي: هذا كتاب ( أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ) يا محمد يعني: القرآن, ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي: لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان . ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) [ بأمر ربهم ] .

وقيل: بعلم ربهم .

( إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) أي: إلى دينه, و « العزيز » , هو الغالب, و « الحميد » : هو المستحق للحمد.

اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 2 ) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 3 ) .

( اللَّهِ الَّذِي ) قرأ أبو جعفر, وابن عامر: « اللهُ » بالرفع على الاستئناف, وخبره فيما بعده. وقرأ الآخرون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد . وكان يعقوب إذا وصل خفض.

وقال أبو عمرو: الخفض على التقديم والتأخير, مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد ( الَّذِي لَهُ ما فٍي السماوات وَمَا فِي الأرضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) .

( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ) يختارون, ( الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) أي: يمنعون الناس عن قبول دين الله, ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) أي: يطلبونها زيغا وميلا يريد: يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد.

وقيل: الهاء راجعة إلى الدنيا, معناه: يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق, أي: لجهة الحرام. ( أُولَئِكَ فِي ضَلال بَعِيدٍ ) .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 4 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 5 ) .

قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) بلغتهم ليفهموا عنه. فإن قيل: كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق؟

قيل: بُعِث من العرب بلسانهم, والناس تَبَعٌ لهم, ثم بثَّ الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم .

( فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي: من الكفر إلى الإيمان بالدعوة, ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ) قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله

وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة. يقال: فلان عالم بأيام العرب, أي بوقائعهم, وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة, فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم .

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) و « الصبار » : الكثير الصبر, و « الشكور » : الكثير الشكر, وأراد: لكل مؤمن, لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين.

 

 

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 6 ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ( 7 ) .

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) قال الفراء: العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح, وبالتذبيح, وحيث طرح الواو في « يذبِّحون » و « يقتِّلون » أراد تفسير العذاب الذي كانوا يسومونهم ( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) يتركوهن أحياء ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) .

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ) أي: أعلم, يقال: أذَّن وتأذَّن بمعنى واحد, مثل أَوْعَدَ وتَوَعَّدَ, ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ ) نعمتي فآمنتم وأطعتم ( لأزِيدَنَّكُمْ ) في النعمة.

وقيل: الشكر: قيد الموجود, وصيد المفقود.

وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب.

( وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ) نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها, ( إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) .

وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 8 ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 9 ) .

( وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) أي: غنيٌّ عن خلقه, حميدٌ: محمود في أفعاله, لأنه فيها متفضِّل وعادل.

( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ ) خبر الذين, ( مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ ) يعني: مَنْ كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.

ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال: كذب النسَّابُون .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى .

وكان مالك بن أنس يكره أن ينسِبَ الإنسان نفسه أبًا إلى آدم, وكذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباءَ أحدٌ إلا الله عز وجل.

( جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ) بالدلالات الواضحات, ( فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ) قال ابن مسعود: عضوا على أيديهم غيظا كما قال عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران - 119 ) .

قال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم .

قال مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به يقال: رددت قول فلان في فيه أي كذبته.

وقال الكلبي: يعني أن الأمم ردُّوا أيديهم في أفواه أنفسهم, أي: وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أنِ اسكتوا .

وقال مقاتل: فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك .

وقيل: الأيدي بمعنى النِّعم. معناه: ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعمًا في أفواههم, أي: بأفواههم, يعني بألسنتهم.

( وَقَالُوا ) يعني الأمم للرسل, ( إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) موجب للريبة موقع للتهمة.

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 10 ) .

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ) هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه, ( فَاطِرِ السماواتِ وَالأرْضِ ) خالقهما ( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) أي: ذنوبكم و « من » صلة, ( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب.

( قَالُوا ) للرسل: ( إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) في الصورة, ولستم ملائكة وإنما ( تُرِيدُونَ ) بقولكم, ( أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) حجة بينة على صحة دعواكم.

 

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 11 ) وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ( 12 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ( 13 ) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ( 14 ) .

( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) بالنبوة والحكمة, ( وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

( وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ) وقد عرفنا أن لا نَنَالَ شيئا إلا بقضائه وقدره, ( وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) بيَّنَ لنا الرشد, وبصَّرنَا طريق النجاة. ( وَلَنَصْبِرَنَّ ) اللام لام القسم, مجازه: والله لنصبرَن, ( عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) يَعْنُون: إلا أن ترجعوا, أو حتى ترجعوا إلى ديننا .

( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) .

( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) أي: من بعد هلاكهم.

( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ) أي: قيامه بين يدي كما قال: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن - 46 ) , فأضاف قيام العَبدِ إلى نفسه, كما تقول: نَدِمتُ على ضربك، أي: على ضربي إياك, ( وَخَافَ وَعِيدِ ) أي عقابي.

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 15 ) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ( 16 ) .

قوله عز وجل: ( وَاسْتَفْتَحُوا ) أي: استنصروا. قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم, وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبْنا, نظيره قوله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ( الأنفال - 32 ) .

وقال مجاهد وقتادة: واستفتحوا يعني الرسل، وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب كما قال نوح عليه السلام, رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( نوح - 26 ) وقال موسى عليه السلام: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهَمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( يونس - 88 ) .

, الآية

( وَخَابَ ) خسر. وقيل: هلك, ( كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) والجبَّار: الذي لا يرى فوقه أحدا. والجبرية: طلب العلو بما لا غاية وراءه . وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل.

وقيل: الجبَّار: الذي يجبر الخلق على مرادهِ, والعنيد: المعاند للحق ومجانبه. قاله مجاهد.

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- : هو المُعْرض عن الحق.

وقال مقاتل: هو المتكبر.

وقال قتادة: « العنيدُ » الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله .

( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ) أي: أمامه, كقوله تعالى وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ( الكهف - 79 ) أي: أمامهم .

قال أبو عبيدة: هو من الأضداد .

وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك, وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه .

وقال مقاتل: « من ورائه جهنم » أي: بعده .

( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) أي: من ماءٍ هو صديد, وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القَيْح والدم .

وقال محمد بن كعب: ما يسيل من فُروج الزُّناةِ, يُسْقَاه الكافر .

يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( 17 ) .

( يَتَجَرَّعُهُ ) أي: يتحسَّاهُ ويشربه, لا بمرةٍ واحدة, بل جرعةً جرعةً, لمرارتِه وحرارته, ( ولا يَكَادُ يُسِيغُهُ ) و « يكاد » : صلة, أي: لا يسيغه, كقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( النور - 40 ) أي: لم يَرَهَا.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : لا يجيزه.

وقيل: معناه يكاد لا يسيغه, ويسيغه فيغلي في جوفه.

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أخبرنا عبد الله بن محمود, أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن صفوان بن عمرو, عن عبد الله بن بسر عن أبي أمامة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ويسقى من ماء صديد يتجرعه » , قال: يقرب إلى فيه فيتكرهه, فإذا أُدني منه شوى وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطَّع أمعاءه, حتى يخرج من دُبُره, يقول الله عز وجل: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( محمد - 15 ) , ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ( الكهف - 29 ) .

وقوله عز وجل: ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني: يجد هَمَّ الموت وألمه من كل مكان من أعضائه.

قال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده.

وقيل: يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه, ومن فوقه ومن تحته, وعن يمينه وعن شماله.

( وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) فيستريح, قال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت, ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة. نظيرها ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ( الأعلى - 13 ) .

( وَمِنْ وَرَائِهِ ) أمامه, ( عَذَابٌ غَلِيظٌ ) شديد, وقيل: العذاب الغليظ الخلود في النار.

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ( 18 ) .

( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني: أعمال الذين كفروا بربهم - كقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ ( الزمر - 60 ) - أي: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة, ( كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ) وصف اليومَ بالعصوف, والعصُوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها, كما يقال: يوم حار ويوم بارد, لأن الحر والبرد فيه.

وقيل: معناه: في يوم عاصف الريح, فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل. وهذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفار, يريد: أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذَرَتْه الريح لا ينتفع به, فذلك قوله تعالى:

( لا يَقْدِرُونَ ) يعني: الكفار ( مِمَّا كَسَبُوا ) في الدنيا, ( عَلَى شَيْءٍ ) في الآخرة, ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .

 

 

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( 19 ) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ( 20 ) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ( 21 ) .

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ ) قرأ حمزة والكسائي « خالقُ السماواتِ والأرضِ » وفي سورة النور « خالق كل دابة » مضافا.

وقرأ الآخرون « خلق » على الماضي « والأرض » وكلٍّ بالنصب.

و « بالحق » أي: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمرٍ عظيم, ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) سواكم أَطْوَعَ لله منكم.

( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) منيع شديد, يعني أن الأشياء تسهل في القدرة, لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جلّ وعَظُم.

قوله عز وجل: ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا ) [ أي: خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا ] ( فَقَالَ الضُّعَفَاءُ ) يعني: الأتباع, ( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) أي: تكبَّروا على الناس وهم القادة والرؤساء: ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) جمع تابع, مثل: حَرَس وحارس, ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ ) دافعون, ( عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) .

( قَالُوا ) يعني القادة المتبوعين: ( لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ) أي: لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى, فلما أضلَّنا دعوناكم إلى الضلالة ، ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) مهربٍ ولا منجاةٍ.

قال مقاتل: يقولون في النار: تعالوا نجزع, فيجزعون خمسمائة عام, فلا ينفعهم الجزع, ثم يقولون: تعالوا نصبر, فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم, فحينئذ يقولون: ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ) .

قال محمد بن كعب القرظي بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة. فقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ( غافر - 49 ) , فردت الخزنة عليهم: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى , فردت الخزنة عليهم: ( ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ) ( غافر - 50 ) فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف - 77 ) سألوا الموت, فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما, واليوم كألف سنة مما تعدون, ثم لحظ إليهم بعد الثمانين إنكم ماكثون, فلما يئسوا مما قَبْله قال بعضهم لبعض: إنه قد نـزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر, فلعل الصبر ينفعنا كما صبرَ أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم, فأجمعوا على الصبر, فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا: « سواءٌ علينا أجَزِعْنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص » , أي: من منجى.

قال: فقام إبليس عند ذلك فخطبهم, فقال: « إن الله وعدكم وعد الحق » الآية, فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودُوا: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ( غافر - 10 ) قالوا فنادوا الثانية: « فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون » , فردّ عليهم: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا الآيات ( السجدة - 13 ) فنادوا الثالثة: رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ( إبراهيم 44 ) , فردّ عليهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ الآيات ( إبراهيم - 44 ) , ثم نادوا الرابعة: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فرد عليهم: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ , الآية ( فاطر - 37 ) قال: فمكث عليهم ما شاء الله, ثم ناداهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ , فلما سمعُوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا, فقالوا عند ذلك: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ , قال عند ذلك: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ( المؤمنون 105- 108 ) فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم, فأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض, وأطبقت عليهم النار.

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 22 ) .

قوله تعالى: ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ ) يعني: إبليس, ( لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ ) أي: فرغ منه فأدخل أهلَ الجنةِ الجنةَ وأهلَ النارِ النارَ.

وقال مقاتل: يوضع له منبر في النار, فيرقاه فيجتمع عليه الكفار باللائمة فيقول لهم:

( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) فوفى لكم به, ( وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) وقيل: يقول لهم: قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار. ( وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ) ولاية. وقيل: لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه, ( إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ) هذا استثناء منقطع معناه: لكن ( دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان, ( مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ) بمُغِيثكم, ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) بمغيثيَّ.

قرأ الأعمش وحمزة « بمصرخيِّ » بكسر الياء, والآخرون بالنصب لأجل التضعيف, ومَنْ كسر فلالتقاءِ الساكنين, حرِّكت إلى الكسر, لأن الياء أخت الكسرة, وأهل النحو لم يرضوه, وقيل: إنه لغة بني يربوع. والأصل ( بمصرخيني ) فذهبت النون لأجل الإضافة, وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة .

( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) أي: كفرت بجعلكُم إياي شريكًا في عبادته وتبرأت من ذلك.

( إِنَّ الظَّالِمِينَ ) الكافرين, ( لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة, أنبأنا محمد بن أحمد الحارث, أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي, أنبأنا عبد الله بن محمود, حَدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن رشدين بن سعد, أخبرني عبد الرحمن بن زياد, عن دخين الحجري, عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال: « يقول عيسى عليه السلام ذلكم النبيُّ الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمَّها أحدٌ, حتى آتي ربي عز وجل فيشفِّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي, ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون مَنْ يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير إبليس, هو الذي أضلَّنا, فيأتونه فيقولون له: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا, فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمَّها أحدٌ, ثم تعظم جهنم ويقول عند ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ) الآية . »

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ( 23 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ( 24 ) .

قوله عز وجل: ( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) يسلِّم بعضهم على بعض, وتسلِّم الملائكة عليهم.

وقيل: المحيِّي بالسلام هو الله عز وجل.

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا ) ألم تعلم, والمَثَلُ: قول سائر لتشبيه شيء بشيء. ( كَلِمَةً طَيِّبَةً ) وهي قول: لا إله إلا الله, ( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر .

وقال ظبيان عن ابن عباس هي شجرة في الجنة .

( أَصْلُهَا ثَابِتٌ ) في الأرض, ( وَفَرْعُهَا ) أعلاها , ( فِي السَّمَاءِ ) كذلك أصل هذه الكلمة: راسخٌ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق, فإذا تكلم بها عرجت, فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل. قال الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر - 10 ) .

 

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 25 ) .

( تُؤْتِي أُكُلَهَا ) تعطي ثمرها, ( كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) والحين في اللغة هو الوقت.

وقد اختلفوا في معناه هاهنا فقال مجاهد وعكرمة: الحين ها هنا: سنة كاملة, لأن النخلة تثمر كل سنة.

وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى صرامها. ورُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.

وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين تؤكل إلى حين الصرام.

وقال الربيع بن أنس: « كل حين » : أي: كل غدوة وعشية, لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارًا, صيفًا وشتاءً, إما تمرًا أو رُطَبًا أو بُسْرًا, كذلك عملُ المؤمن يصعدُ أول النهار وآخره وبَركةُ إيمانه لا تنقطع أبدًا, بل تصل إليه في كل وقت .

والحكمةُ في تمثيل الإيمان بالشجرة: هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء: عِرق راسخ, وأصل قائم, وفرع عال, كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب, وقول باللسان, وعمل بالأبدان.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي, أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني, أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري, أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني, حدثنا علي بن حجر, حدثنا إسماعيل بن جعفر, حدثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقُها, وإنها مثل المسلم فحدِّثوني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي, ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت, ثم قالوا: حدِّثْنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة. قال عبد الله: فذكرت ذلك لعمر, فقال: لأنْ تكون قلتَ هي النخلة كان أحبَّ إلي من كذا وكذا » .

وقيل: الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار: أن النخلة شبه الأشجار بالإنسان من حيثُ إنها إذا قطع رأسها يبست, وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رؤوسها ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أكرموا عمتكم » قيل: ومَنْ عمتنا؟ قال: « النخلة » ( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ( 26 ) .

( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ) وهي الشرك, ( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) وهي الحنظل .

وقيل: هي الثوم.

وقيل: هي الكشوث وهي العَشَقَة ( اجْتُثَّتْ ) يعني انقلَعَتَ, ( مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ) ثبات.

معناه: وليس لها أصل ثابت في الأرض, ولا فرع صاعد إلى السماء, كذلك الكافر لا خير فيه, ولا يصعدُ له قول طيب ولا عمل صالح.

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ( 27 ) .

قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) كلمة التوحيد, وهي قول: لا إله إلا الله ( فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يعني قبل الموت, ( وَفِي الآخِرَةِ ) يعني في القبر. هذا قول أكثر أهل التفسير.

وقيل: « في الحياة الدنيا » : عند السؤال في القبر, « وفي الآخرة » : عند البعث.

والأول أصح .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا أبو الوليد, حدثنا شعبة, أخبرني علقمة بن مرثد قال: سمعت سعيد بن عبيدة, عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, فلذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) . »

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أنبأنا عبد الغافر بن محمد, أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي, أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, أنبأنا مسلم بن الحجاج, حَدَّثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) قال: نـزلت في عذاب القبر يقال له: مَنْ ربك؟ فيقول: ربي الله, ونبيي محمد, فذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) الآية .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي, أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدَّثنا عياش بن الوليد, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا سعيد, عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ العبدَ إذا وُضِع في قبره, وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم, أتاه ملكان فَيُقْعِدانه, فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل, لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن, فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار, قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة, فيراهما جميعا » قال قتادة: وذكر لنا أنه يُفْسَحُ له في قبره, ثم رجع إلى حديث أنس قال:

وأما المنافق والكافر, فيقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري, كنت أقول ما يقول الناس, فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تلَيْتَ, ويُضْرَب بمطارقَ من حديدٍ ضربةً, فيصيح صيحة يسمعها مَنْ يليه غيرَ الثَّقَلَيْن « . »

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي, حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي, أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ, حدثنا عبد الله بن سعيد, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا عنبسة بن سعيد بن كثير, حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الميت يسمع حِسَّ النِّعال إذا ولَّى عنه الناس مُدْبِرين, ثم يُجْلَسُ ويُوضَعُ كفنُه في عُنُقِه ثم يُسأل » .

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا قُبِر الميتُ أتاه مَلَكان أسودان أزرقان, يقال لأحدهما: المنكر, وللآخر النَّكير, فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله, أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله, فيقولان له: قد كنا نعلم أنك تقولُ هذا, ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين, ثم ينَّور له فيه, ثم يقال: نمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه, حتى يبعثه الله تعالى, وإن كان منافقًا أو كافرا قال: سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله, لا أدري, فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه, فتختلف أضلاعه, فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك » .

وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال: « فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له مَنْ ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ [ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فينتهرانه ويقولان له الثانية: من ربك وما دينك ومن نبيك ] وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل, فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء: أن صَدَق عبدي, قال: فذلك قوله تعالى: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) . »

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي, أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني, أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي, أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام, أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي, حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق حدثنا هشام بن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى عن هانئ مولى عثمان قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: « استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت, فإنه الآن يسأل » .

وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار, فإذا دفنتموني فسنُّوا عليَّ التراب سنًا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.

قوله تعالى: ( وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ) أي: لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر ( وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ( 28 ) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( 29 ) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ( 30 ) .

قوله عز وجل: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) الآية.

أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, أخبرنا محمد بن إسماعيل, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس: [ في قوله تعالى ] ( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ) قال: هم والله كفار قريش .

وقال عمرو: هم قريش, ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله .

( وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال: البوار يوم بدر, قوله ( بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) أي: غيّروا نعمة الله عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم حيث ابتعثه الله تعالى منهم كفرا كفروا به فأحلُّوا, أي: أنـزلوا, قومهم ممن تابعهم على كفرهم دار البوار الهلاك, ثم بيَّن البوار فقال:

( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ) يدخلونها ( وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) المستقر.

وعن علي كرم الله وجهه: الذين بدلوا نعمة الله كفرًا: هم كفار قريش نحروا يوم بدر .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة, وبنو أمية, أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر, وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين .

( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) أمثالا [ وليس لله تعالى ند ] ( لِيُضِلُّوا ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء, وكذلك في الحج وسورة لقمان والزمر: ( ليَضِلَّ ) وقرأ الآخرون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس, ( عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا ) عيشوا في الدنيا, ( فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ )

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ( 31 ) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ ( 32 ) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ( 33 ) .

( قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصلاةَ ) قال الفراء: هو جزم على الجزاء, ( وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خلالٌ ) مخاللة وصداقة. [ قرأ ابن كثير, وابن عمرو, ويعقوب: « لا بيع فيه ولا خلال » بالنصب فيهما على النفي العام. وقرأ الباقون: « لا بيعٌ ولا خلال » بالرفع والتنوين ] .

( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ ) ذللها لكم, تجرُونها حيث شئتم.

( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يَفْتُرَان, قال ابن عباس دؤوبُهُما في طاعة الله عز وجل .

( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) يتعاقبان في الضياء والظلمة, والنقصان والزيادة.

 

 

وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 34 ) .

( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) [ يعني: وآتاكم من كل شيء سألتموه ] شيئًا, فحذف الشيء الثاني اكتفاءً بدلالة الكلام, على التبعيض.

وقيل: هو على التكثير نحو قولك: فلان يعلم كلَّ شيء, وآتاه كل النَّاس, وأنت تعني بعضهم, نظيره قوله تعالى: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء ( الأنعام - 44 ) .

وقرأ الحسن « مِنْ كلٍّ » بالتنوين ( مَا ) على النفي يعني من كل ما لم تسألوه, يعني: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها .

( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) أي: نعم الله, ( لا تُحْصُوهَا ) أي: لا تطيقوا عدَّها ولا القيام بُشكرِها.

( إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) أي: ظالم لنفسه بالمعصية, كافرٌ بربّه عز وجل في نعمته.

وقيل: الظلوم, الذي يشكر غير من أنعم عليه, والكافر: من يجحد مُنْعِمَه.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ( 35 ) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 36 ) .

قوله عز وجل: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ) يعني: الحرم, ( آمِنًا ) ذا أمن يؤمن فيه, ( وَاجْنُبْنِي ) أبعِدْني, ( وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ ) يقال: جَنَبْتُه الشيء, وأجْنَبْتُه جنبًا, وجَنَّبْتُهُ تَجْنِيْبًا واجتَنَبْتُهُ اجتنابًا بمعنى واحد.

فإن قيل: قد كان إبراهيم عليه السلام معصومًا من عبادة الأصنام, فكيف يستقيم السؤال؟ وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فأين الإجابة؟

قيل: الدعاء في حقِّ إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت, وأما دعاؤه لبنيه: فأراد بنيه من صُلْبه, ولم يعبد منهم أحدٌ الصنم.

وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنًا من بنيه .

( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يعني ضلَّ بهن كثير [ من الناس ] عن طريق الهدى حتى عبدوهن, وهذا هو المقلوب، نظيره قوله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ( آل عمران - 175 ) , أي: يخوفهم بأوليائه.

وقيل: نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه, كما يقول القائل: فتنتني الدنيا, نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة .

( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) أي: مِنْ أهل ديني, ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال السدي: معناه: ومن عصاني ثم تاب.

وقال مقاتل بن حيان: ومن عصاني فيما دون الشرك.

وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك .

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( 37 ) .

قوله عز وجل: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي ) أدخل « من » للتبعيض, ومجاز الآية: أسكنت من ذريتي ولدًا, ( بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) وهو مكة؛ لأن مكة وادٍ بين جبلين, ( عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) سماه محرَّما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر, عن أيوب السختياني وكثير بن [ أبي كثير بن ] المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير [ قال ] قال ابن عباس: أول ما اتَّخذ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أمِّ إسماعيلَ, اتخذت مِنْطَقًا لتُعَفِّي أثرها على سارة, ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام, وبابنها إسماعيل, وهي ترضعه, حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد, وليس بمكة يومئذ أحدٌ وليس بها ماء, فوضعهما هنالك, ووضع عندهما جرابًا فيه تمر, وسقاءً فيه ماء, ثم قَفَلَ إبراهيم منطلقًا, فتبعتْه أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنْس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا, وجعل لا يلتفت إليها, فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم, قالت: إذن لا يضيعّنا ثم رجعت, فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت, ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه, فقال: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) حتى بلغ « يشكرون » .

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفِدَ ما في السِّقاء عطشتْ وعطش ابنها, وجعلت تنظر إليه يتلبَّط أو قال يتلَوَّى, وانطلقت كراهية أن تنظر إليه, فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها, فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا, فلم تر أحدًا, فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف دِرْعِها, ثم سَعَتْ سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي, ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا, فلم تر أحدًا, ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فلذلك سَعْيُ الناس بينهما » .

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه - تريد نفسها- ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غِوَاث, فإذا هي بالمَلَكِ عند موضع زمزم, فبحث بعقبه - أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء فجعلت تَخُوضُه وتقول بيدها هكذا, وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم » أو قال: « لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا مَعِينًا » .

قال: فشربتْ وأرضعت ولدها, فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله, يبنيه هذا الغلام وأبوه, وإن الله لا يضيع أهله.

وكان موضع البيت مرتفعًا من الأرض كالرَّابية, تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك, حتى مرَّت بهم رُفْقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كَداء, فنـزلوا في أسفل مكة, فرأوا طائرًا عائفًا, فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدور على ماء, ولَعَهْدنا بهذا الوادي وما فيه ماء, فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّيْن فإذا هم بالماء, فرجعوا فأخبروهم بالماء, فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء, فقالوا: أتأذنين لنا أن ننـزل عندك؟ فقالت: نعم, ولكن لا حقَّ لكم في الماء, قالوا: نعم.

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس, فنـزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنـزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم, وأَنْفَسَهُم وأعجبهم حين شبَّ, فلما أدرك زوَّجوه امرأةً منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته ... ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة .

قوله تعالى: ( رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ) الأفئدة: جمع الفؤاد ( تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) تشتاق وتحنُّ إليهم.

قال السدي: معناه أمِلْ قلوبهم إلى هذا الموضع.

قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند.

وقال سعيد بن جبير: لحجَّت اليهود والنصارى والمجوس, ولكنه قال: « أفئدة من الناس » وهم المسلمون.

( وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء, ( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) .

رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 38 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ( 39 ) .

( رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ) من أمورنا. وقال ابن عباس ومقاتل: من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بوادٍ غير ذي زرع. ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ ) قيل: هذا صلة قول إبراهيم.

وقال الأكثرون: يقول الله عز وجل: ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ ) .

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ ) أعطاني, ( إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) قال ابن عباس: وُلد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة, ووُلد إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.

وقال سعيد بن جبير: بُشِّر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة .

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ( 40 ) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( 41 ) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ( 42 ) .

( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاةِ ) يعني: ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها, ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) يعني: اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة.

( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) أي: عملي وعبادتي, سمّى العبادة دعاءً, وجاء في الحديث: « الدعاء مخ العبادة » .

وقيل: معناه: استجبْ دعائي.

( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ) فإن قيل: كيف استغفر لوالديه وهما غيرُ مؤمنين؟ قيل: قد قيل إن أمه أسلمت.

وقيل: أراد إن أسلما وتابا .

وقيل: قال ذلك قبل أن يتبين له أمر أبيه, وقد بيّن الله تعالى عذر خليله صلى الله عليه وسلم في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .

( وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: اغفر للمؤمنين كلهم, ( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) أي: يبدو ويظهر. وقيل: أراد يوم يقوم الناس للحساب, فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهومًا.

قوله عز وجل: ( ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور, والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم.

( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) أي: لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم, وقيل: ترتفع وتزول عن أماكنها.

 

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ( 43 ) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ( 44 )

( مُهْطِعِينَ ) قال قتادة: مسرعين.

قال سعيد بن جبير: الإهطاع النَّسَلان كعَدْوِ الذئب.

وقال مجاهد: مديمي النظر.

ومعنى « الإهطاع » : أنهم لا يلتفون يمينًا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم.

( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ) أي: رافعي رؤوسهم.

قال القتيـبي: المُقْنِعُ: الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه .

وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء, لا ينظر أحدٌ إلى أحد.

( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) أي: لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر, وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم.

( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ) أي: خالية. قال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم, فصارت في حناجرهم, لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها, فالأفئدة هواء لا شيء فيها, ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لِخُلُوِّهِ.

وقيل:خالية لا تعي شيئا ولا تعقل من الخوف.

وقال الأخفش: جوفاء لا عقول لها, والعرب تسمي كل أجوف خاوٍ هواء.

وقال سعيد بن جبير: « وأفئدتهم هواء » أي: مترددة, تمور في أجوافهم, ليس لها مكان تستقرُّ فيه.

وحقيقة المعنى: أن القلوب زائلة عن أماكنها, والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم.

( وَأَنْذِرِ النَّاسَ ) خوفهم, ( يَوْمَ ) أي: بيوم, ( يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) وهو يوم القيامة, ( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أشركوا, ( رَبَّنَا أَخِّرْنَا ) أمهلنا, ( إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) هذا سؤالهم الردّ إلى الدنيا, أي: ارجِعْنا إليها, ( نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) فيجابون:

( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) حلفتم في دار الدنيا, ( مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) عنها أي: لا تبعثون. وهو قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ( النحل - 38 ) .

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ( 45 ) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ( 46 )

( وَسَكَنْتُمْ ) في الدنيا, ( فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالكفر والعصيان, قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. ( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ) أي: عرفتم عقوبتنا إيّاهم, ( وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ) أي: بيَّنا أن مثلكم كمثلهم.

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ) أي: جزاء مكرهم, ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) قرأ علي وابن مسعود: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ ) بالدال, وقرأ العامة بالنون.

( لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) قرأ العامة لتزول بكسر اللام الأولى ونصب الثانية.

معناه: وما كان مكرهم.

قال الحسن: إن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال.

وقيل: معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال.

وقرأ ابن جريج والكسائي: « لتزول » بفتح اللام الأولى ورفع الثانية, معناه: إن مكرهم وإن عظم حتى بلغ محلا يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة: معناه وإن كان شركهم لتزول منه الجبال، وهو قوله تعالى: وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ( مريم - 90 : 91 )

ويُحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معنى الآية أنها نـزلت في نمرود الجبَّار الذي حاجَّ إبراهيم في ربه, وذلك أنه قال: إن كان ما يقول إبراهيم حقًا فلا أنتهي حتى أصعد السماء فأعلم ما فيها, فعمد إلى أربعة أفرخ من النسور فربَّاها حتى شبت واتخذ تابوتًا, وجعل له بابًا من أعلى وبابًا من أسفل, وقعد نمرود مع رجل في التابوت, ونصب خشباتٍ في أطراف التابوت, وجعل على رؤوسها اللحم وربط التابوت بأرجل النسور, فَطِرْنَ وصعدن طمعًا في اللحم, حتى مضى يوم وأَبْعَدْنَ في الهواء, فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربناها, ففتح [ الباب ونظر ] فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل, فقال: أرى الأرض مثل اللجَّة والجبال مثل الدخان, فطارت النسور يوما آخر, وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران, فقال لصاحبه: افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها, وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة, فنودي: أيها الطاغية أين تريد؟

قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل معه القوس والنشَّاب فرمى بسهم فعاد إليه السهم متلطخًا بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء قيل: طائر أصابها السهم- فقال: كفيت شغل إله السماء.

قال: ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوِّب الخشبات وينكص اللحم, ففعل, فهبطت النسور بالتابوت, فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور, ففزعت وظنت أنه قد حَدَثَ حدثٌ من السماء, وأن الساعة قد قامت, فكادت تزول عن أماكنها, فذلك قوله تعالى: ( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ) .

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 47 ) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ( 48 )

( فلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ) بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه, وفيه تقديم وتأخير, تقديره: ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده, ( إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) .

قوله عز وجل: ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْض وَالسَّمَاوَاتُ ) .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يوسف, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدَّثنا خالد بن مخلد, عن محمد بن جعفر بن أبي كثير, حدثني أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يُحشر الناسُ يوم القيامة على أرض بيضاء عفراءَ كقُرْصة النَّقيِّ ليس فيها عَلَمٌ لأحد » .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أنبأنا محمد بن يوسف, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن خالدٍ - هو ابن يزيد- عن سعيد بن أبي هلال, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « تكون الأرض يوم القيامة خبزةً واحدة يتكفؤها الجبَّار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر, نـزلا لأهل الجنة » .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية قال: تبدل الأرض بأرض كفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم تعمل فيها خطيئة .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب .

وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه .

وقيل: معنى التبديل جعل السموات جنانًا وجعل الأرض نيرانًا.

وقيل: تبديل الأرض تغييرها من هيئة إلى هيئة, وهي تسيير جبالها, وطمّ أنهارها, وتسوية أوديتها وقطع أشجارها, وجعلها قاعًا صفصفًا, وتبديل السموات: تغيير حالها بتكوير شمسها, وخسوف قمرها وانتثار نجومها, وكونها مرة كالدهان, ومرة كالمهل.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أخبرنا عبد الغافر بن محمد, أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا علي بن مسهر, عن داود - وهو ابن أبي هند- عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: « يوم تبدل الأرض غيرَ الأرض والسموات » فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: « على الصراط » .

وروي عن ثوبان أن حبرًا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؛ قال: « هم في الظلمة دون الجسر » .

وقوله تعالى: ( وَبَرَزُوا ) خرجوا من قبورهم, ( لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ( 49 )

( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ ) مشدودين بعضهم ببعض, ( فِي الأصْفَادِ ) في القيود والأغلال, واحدها صَفَد, وكل من شددته شدًا وثيقًا فقد صفدته.

قال أبو عبيدة: صَفَدْتُ الرجل فهو مصفود, وصفَّدته بالتشديد فهو مصفَّد.

وقيل: يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة, بيانه قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ( الصافات - 22 ) , يعني: قرناءهم من الشياطين.

وقيل: معناه مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد والقيود, ومنه قيل للحبل: قرَن.

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ( 50 )

( سَرَابِيلُهُمْ ) أي: قُمُصُهم, واحدها سربال. ( مِنْ قَطِرَانٍ ) هو الذي تهنأ به الإبل.

وقرأ عكرمة ويعقوب « منْ قطرآن » على كلمتين منونتين والقطر: النحاس, والصفر المذاب, والآن: الذي انتهى حرُّه, قال الله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( الرحمن - 44 ) .

( وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) أي: تعلو.

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 51 ) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ( 52 )

( لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ) من خير وشر, ( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .

( هَذَا ) أي: هذا القرآن, ( بلاغٌ ) أي: تبليغ وعظة, ( لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا ) وليخوفوا, ( بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) أي: ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى: ( وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ) أي: ليتعظ أولو العقول.

 

 

 

أعلى