تفسير البغوي

11 - تفسير البغوي سورة هود

التالي السابق

سورة هود

 

مكية إلا قوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وهي مائة وثلاث وعشرون آية. بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( 1 ) أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( 2 ) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( 3 ) .

( الر كِتَابٌ ) أي: هذا كتاب، ( أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) قال ابن عباس: لم ينسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع به، ( ثُمَّ فُصِّلَتْ ) بُيِّنَتْ بالأحكام والحلال والحرام. وقال الحسن: أحكمت بالأمر والنهي، ثم فُصِّلَتْ بالوعد والوعيد. قال قتادة: أحكمت أحكمها الله فليس فيها اختلاف ولا تناقض وقال مجاهد: فُصِّلت أي: فُسِّرت. وقيل: فصلت أي: أنـزلت شيئا فشيئًا، ( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) .

( أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ ) أي: وفي ذلك الكتاب: أن لا تعبدوا إلا الله، ويكون محل « أن » رفعًا. وقيل: محله خَفْض، تقديره: بأن لا تعبدوا إلا الله، ( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ) أي: من الله ( نَذِيرٌ ) للعاصين، ( وَبَشِيرٌ ) للمطيعين.

( وَأَن ) عطف على الأول، ( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي: ارجعوا إليه بالطاعة. قال الفراء: « ثم » هنا بمعنى الواو، أي: وتوبوا إليه، لأن الاستغفار هو التوبة، والتوبة هي الاستغفار.

وقيل: أن استغفروا [ ربكم من المعاصي ثم توبوا ] إليه في المستأنف .

( يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ) يعيشكم عيشًا [ حسنا في خفض ودعة وأمن وسعة ] . قال بعضهم: العيش الحسن هو الرضا بالميسور والصبر على المقدور.

( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلى حين الموت، ( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه ) أي: ويؤت كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة. وقال أبو العالية: مَنْ كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة [ في الجنة ] ، لأن الدرجات تكون بالأعمال.

وقال ابن عباس: مَنْ زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومَنْ زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومَنْ استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف، ثم يدخل الجنة بعد.

وقيل: يؤت كل ذي فضل فضله يعني: مَنْ عمل لله عز وجل وفَّقه الله فيما يستقبل على طاعته.

( وَإِنْ تَوَلَّوْا ) أعرضوا، ( فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) وهو يوم القيامة.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 4 ) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 5 ) .

قوله تعالى: ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) قال ابن عباس: نـزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر، يَلْقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب، وينطوي بقلبه على ما يكره.

قوله: « يثنون صدورهم » أي: يُخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة.

قال عبد الله بن شداد: نـزلت في بعض المنافقين كان إذا مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطّى وجهه كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال قتادة:كانوا يَحْنُون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره .

وقيل: كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه. ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي.

وقال السدي: يثنون أي: يعرضون بقلوبهم، من قولهم: ثنيت عناني. وقيل: يعطفون، ومنه: ثني الثوب.

وقرأ ابن عباس: « يَثْنَوْنِي » على وزن « يَحْلَوْلي » جعل الفعل للمصدر، ومعناه المبالغة في الثني.

( لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) أي: من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: ليستخفوا من الله إن استطاعوا، ( أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ) يغطون رؤوسهم بثيابهم، ( يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) قال الأزهري: معنى الآية من أولها إلى آخرها: إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم.

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن محمد بن صَبَّاح، حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج أخبرني محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ: ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) فقال: سألته عنها قال: كان أناس يستحيون أن يتخلَّوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنـزل ذلك فيهم .

 

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 6 ) .

قوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ ) أي: ليس دابة، « من » صلة. والدابة: كل حيوان يدب على وجه الأرض.

وقوله ( إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) أي: هو المتكفل بذلك فضلا وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق.

وقيل: « على » بمعنى: « من » أي: من الله رزقها.

وقال مجاهد : ما جاءها من رزق فمن الله عز وجل، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا.

( وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) قال ابن مقسم : ويُروَى ذلك عن ابن عباس، مستقرها: المكان الذي تأوي إليه، وتستقر فيه ليلا ونهارا، ومستودعها: الموضع الذي تدفن فيه إذا ماتت.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : المستقر أرحام الأمهات، والمستودع [ المكان الذي تموت فيه ] [ وقال عطاء: المستقر: أرحام الأمهات والمستودع: أصلاب الآباء ] .

ورواه سعيد بن جبير، وعلي بن أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس .

وقيل المستقر: الجنة أو النار، والمستودع القبر، لقوله تعالى في صفة الجنة والنار: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( الفرقان - 76 ) .

( كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) أي: كلٌّ مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن خلقها.

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 ) .

قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ) قبل أن خلق [ السماء والأرض ] وكان ذلك الماء على متن الريح .

قال كعب: خلق الله عز وجل ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح، فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء.

قال ضمرة: إن الله تعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض، وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبَّح الله ومجَّده ألف عام قبل أن يخلق شيئا من خلقه

( لِيَبْلُوَكُمْ ) ليختبركم، وهو أعلم، ( أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) أَعْمَلُ بطاعة الله، وأَوْرَعُ عن محارم الله تعالى. ( وَلَئِنْ قُلْتَ ) يا محمد، ( إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ ) أي: ( مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) يعنون القرآن.

وقرأ حمزة والكسائي: « ساحر » يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم.

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 8 ) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَـزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ( 9 ) .

( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) إلى أجل محدود، وأصل الأمة: الجماعة، فكأنه قال: إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى ( لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ) أيُّ شيء يحبسه؟ يقولونه استعجالا للعذاب واستهزاء، يعنون: أنه ليس بشيء.

قال الله تعالى: ( أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ) يعني: العذاب، ( لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ) لا يكون مصروفا عنهم، ( وَحَاقَ بِهِمْ ) نـزل بهم، ( مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) أي: وبال استهزائهم.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ) نعمة وسعة، ( ثُمَّ نَـزَعْنَاهَا مِنْهُ ) أي: سلبناها منه، ( إِنَّهُ لَيَئُوس ) قنوط في الشدة، ( كَفُورٌ ) في النعمة.

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( 10 ) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 11 ) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 12 ) .

( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ) بعد بلاء أصابه، ( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ) زالت الشدائد عني، ( إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) أشِرٌ بَطِرٌ، والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى، والفخر: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه.

( إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ) قال الفراء: هذا استثناء منقطع، معناه: لكن الذين صبروا ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فإنهم إن نالتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا، ( أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) لذنوبهم، ( وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) وهو الجنة.

( فَلَعَلَّك ) يا محمد، ( تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) فلا تبلِّغه إياهم. وذلك أن كفار مكة لما قالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ( يونس - 15 ) ليس فيه سب آلهتنا ، همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يَدَعَ آلهتهم ظاهرا، فأنـزل الله تعالى:

( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) يعني: سب الآلهة، ( وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ) أي: فلعلك يضيق صدرك ( أَنْ يَقُولُوا ) أي: لأن يقولوا، ( لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ ) ينفقه ( أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ) يصدقه، قاله عبد الله بن أمية المخزومي.

قال الله تعالى: ( إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ) ليس عليك إلا البلاغ، ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) حافظ.

 

 

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 13 ) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْـزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 14 ) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ( 15 ) .

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) بل يقولون اختلقه، ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) .

فإن قيل: قد قال في سورة يونس: ( فأتوا بسورة مثله ) ، وقد عجزوا عنه فكيف قال: ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ ) فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهما فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟.

الجواب: قد قيل سورة هود نـزلت أولا.

وأنكر المبرد هذا، وقال: بل نـزلت سورة يونس أولا وقال: معنى قوله في سورة يونس: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، أي: مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، [ فعجزوا فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد ] فأتوا بعشر سور مثله من غير خبر ولا وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرد البلاغة ، ( وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ) واستعينوا بمن استطعتم، ( مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .

( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ) يا أصحاب محمد. وقيل: لفظه جمع والمراد به الرسول صلى الله عليه وسلم وحده. ( فَاعْلَمُوا ) قيل: هذا خطاب مع المؤمنين. وقيل: مع المشركين، ( أَنَّمَا أُنْـزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ) يعني: القرآن. وقيل: أنـزله وفيه علمه، ( وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي: فاعلموا أن لا إله إلا هو، ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) لفظه استفهام ومعناه أمر، أي: أسلموا.

قوله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) أي: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا، ( وَزِينَتَهَا ) نـزلت في كل من عمل عملا يريد به غير الله عز وجل ( نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ) أي: نوف لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبهها. ( وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) أي: في الدنيا لا ينقص حظهم.

أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 16 ) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 17 ) .

( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ) [ أي: في الدنيا ] ( وَبَاطِلٌ ) ( مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

اختلفوا في معنى هذه الآية قال مجاهد: هم أهل الرياء. وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » ، قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال: « الرياء » .

قيل: هذا في الكفار ، وأما المؤمن: فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازَى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.

وروينا عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا » .

قوله تعالى: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ ) بيان، ( مِنْ رَبِّهِ ) قيل: في الآية حذف، ومعناه: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، أو مَنْ كان على بينة من ربه كمن هو في الضلالة والجهالة، والمراد بالذي هو على بينة من ربه: النبي صلى الله عليه وسلم.

( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) أي: يتبعه من يشهد به بصدقه. واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس، وعلقمة، وإبراهيم، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وأكثر أهل التفسير: إنه جبريل عليه السلام.

وقال الحسن وقتادة: هو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن جريج عن مجاهد قال: هو ملك يحفظه ويسدده.

وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن ونظمه وإعجازه.

وقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال علي: ما من رجل من قريش إلا وقد نـزلت فيه آية من القرآن، فقال له رجل: وأنت أيُّ شيء نـزل فيك؟ قال: ( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) .

وقيل: شاهد منه هو الإنجيل .

( وَمِنْ قَبْلِهِ ) أي: ومن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من قبل نـزول القرآن. ( كِتَابُ مُوسَى ) أي: كان كتاب موسى، ( إِمَامًا وَرَحْمَة ) لمن اتبعها، يعني: التوراة، وهي مصدقة للقرآن، شاهدة للنبي صلى الله عليه وسلم، ( أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ ) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: بالقرآن، ( مِنَ الأحْزَابِ ) من الكفار من أهل الملل كلها، ( فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) .

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، ولا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار » .

قوله تعالى: ( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ) أي: في شك منه، ( إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 18 ) .

( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) فزعم أن له ولدا أو شريكا، أي: لا أحد أظلم منه، ( أُولَئِك ) يعني: الكاذبين والمكذبين، ( يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ) فيسألهم عن أعمالهم.

( وَيَقُولُ الأشْهَادُ ) يعني: الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم، قاله مجاهد .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو قول الضحاك .

وقال قتادة: الخلائق كلهم.

وروينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفَهُ ويسترُه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته » ، وأما الكفار والمنافقون [ فينادي بهم على رؤوس الخلائق ] ، ( هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 19 ) .

( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يمنعون عن دين الله، ( وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) .

 

 

أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ( 20 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 21 ) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 22 ) .

( أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ ) قال ابن عباس: سابقين. قال قتادة: هاربين. وقال مقاتل: فائتين. ( فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) يعني أنصارا وأعوانا يحفظونهم من عذابنا، ( يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) أي: يزاد في عذابهم. قيل: يضاعف العذاب عليهم لإضلالهم الغير واقتداء الأتباع بهم.

( مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) قال قتادة: صم عن سماع الحق فلا يسمعونه، وما كانوا يبصرون الهدى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر الله عز وجل أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا قال: ( ما كانوا يستطيعون السمع ) وهو طاعته، وفي الآخرة قال: ( فلا يستطيعون ) ، خاشعة أبصارهم.

( أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) غبنوا أنفسهم، ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.

( لا جَرَمَ ) أي: حقا. وقيل: بلى. وقال الفراء: لا محالة، ( أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ) يعني: من غيرهم، وإن كان الكل في الخسار .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 23 ) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 24 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 25 ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 26 ) .

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا ) قال ابن عباس: خافوا. قال قتادة: أنابوا. وقال مجاهد: اطمأنوا. وقيل: خشعوا. وقوله: ( إِلَى رَبِّهِمْ ) أي: لربهم. ( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ) المؤمن والكافر، ( كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا ) قال الفراء: لم يقل هل يستوون، لأن الأعمى والأصم في حَيِّز كأنهما واحد؛ لأنهما من وصف الكافر، والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد، لأنهما من وصف المؤمن، ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أي: تتعظون .

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب « أني » بفتح الهمزة أي: بأني، وقرأ الباقون بكسرها، أي: فقال إني، لأن في الإرسال معنى القول: إني لكم نذير مبين.

( أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) أي: مؤلم. قال ابن عباس: بعث نوح عليه السلام بعد أربعين سنة، ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة، وكان عمره ألفا وخمسين سنة.

وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة.

وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة.

وقيل: بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة، ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة، فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة، قال الله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا ( العنكبوت - 14 ) أي: فلبث فيهم داعيا.

فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( 27 ) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ( 28 ) .

( فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) والملأ هم الأشراف والرؤساء. ( وَمَا نَرَاكَ ) يا نوح، ( إِلا بَشَرًا ) آدميا، ( مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ) سَفَلَتُنا، والرذل: الدُّون من كل شيء والجمع: أَرْذُل، ثم يجمع على أراذل، مثل: كَلْب وأَكْلُب وأَكالب، وقال في سورة الشعراء: وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ يعني: السفلة. وقال عكرمة: الحاكة والأساكفة، ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) قرأ أبو عمرو « بادئ » بالهمز، أي: أول الرأي، يريدون أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير رَوِيَّة وتفكر، ولو تفكروا لم يتبعوك. وقرأ الآخرون بغير همز، أي ظاهر الرأي من قولهم: بدا الشيء: إذا ظهر، معناه: اتبعوك ظاهرا من غير أن يتدبروا ويتفكروا باطنا. قال مجاهد: رأي العين، ( وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) .

( قَالَ ) نوح، ( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) أي: بيان من ربي ( وَآتَانِي رَحْمَةً ) أي: هدى ومعرفة، ( مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) أي: خَفِيَتْ والتبست عليكم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: ( فَعُمِّيَتْ عليكم ) بضم العين وتشديد الميم، أي: شُبِّهت ولُبِّست عليكم. ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا ) أي: أنلزمكم البينة والرحمة، ( وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) لا تريدونها. قال قتادة: لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا [ قومهم الإيمان لألزموهم ] ولكن لم يقدروا.

 

 

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 29 ) .

قوله: ( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا ) أي: على الوحي وتبليغ الرسالة، كناية عن غير مذكور، ( إِنْ أَجْرِيَ ) ما ثوابي، ( إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ) هذا دليل على أنهم طلبوا منه طرد المؤمنين، ( إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِم ) [ أي: صائرون إلى ] ربهم في المعاد فيجزي من طردهم، ( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ )

وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 30 ) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 31 ) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 32 ) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 33 ) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 34 ) .

( وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ ) من يمنعني من عذاب الله، ( إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) تتعظون.

( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ) فآتي منها ما تطلبون، ( وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) فأخبركم بما تريدون. وقيل: إنهم لما قالوا لنوح: إن الذين آمنوا بك إنما اتبعوك في ظاهر ما ترى منهم، قال نوح مجيبا لهم: ولا أقول لكم: عندي خزائن غيوبِ الله، التي يعلم منها ما يضمر الناس، ولا أعلم الغيب، فأعلم ما يسترونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، ( وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) هذا جواب قولهم: مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا . ( وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ ) أي: تحتقره وتستصغره أعينكم، يعني: المؤمنين، وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا، ( لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ) أي: توفيقا وإيمانا وأجرا، ( اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ) من الخير والشر مني، ( إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) لو قلت هذا.

( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا ) خاصمتنا، ( فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ) من العذاب ( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

( قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ ) يعني: بالعذاب، ( وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) بفائتين.

( وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ) أي نصيحتي، ( إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ) يضلكم، ( هُوَ رَبُّكُمْ ) له الحكم والأمر ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فيجزيكم بأعمالهم.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ( 35 ) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 36 ) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ( 37 ) .

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني نوحا عليه السلام. وقال مقاتل: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ) أي: إثمي ووبال جرمي. والإجرام: كسب الذنب. ( وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) لا أؤاخذ بذنوبكم.

قوله تعالى: ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ ) روى الضحاك عن ابن عباس: أن قوم نوح عليه السلام كانوا يضربون نوحا حتى يسقط، فيلقونه في لبد ويلقونه في قعر بيت، يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله عز وجل.

روي أن شيخا منهم جاء يتوكأ على عصا، ومعه ابنه، فقال: يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون، فقال له: يا أبت أمكني من العصا، فأخذ العصا من أبيه، فضرب نوحا حتى شجه شجة منكرة، فأوحى الله عز وجل إليه ( أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ ) ( فَلا تَبْتَئِسْ ) أي: فلا تحزن، ( بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا نوح عليهم فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ( نوح - 26 ) .

وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: ربِّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله حتى إن كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، فشكا إلى الله تعالى فقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا إلى أن قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، فأوحى الله تعالى إليه:

( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ) قال ابن عباس بمرأى منا. وقال مقاتل: بعلمنا. وقيل: بحفظنا. ( وَوَحْيِنَا ) بأمرنا. ( وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) بالطوفان، قيل: معناه لا تخاطبني في إمهال الكفار، فإني قد حكمت بإغراقهم. وقيل: لا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم.

وفي القصة أن جبريل أتى نوحا عليه السلام فقال: إن ربك عز وجل يأمرك أن تصنع الفلك، قال: كيف أصنع ولست بنجار؟ فقال: إن ربك يقول اصنع فإنك بعيني، فأخذ القدوم وجعل يصنع ولا يخطئ. وقيل: أوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.

 

 

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ( 38 ) .

قوله تعالى: ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ) فلما أمره الله تعالى أن يصنع الفلك أقبل نوح عليه السلام على عمل الفلك ولَهَا عن قومه، وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد، ويهيئ عدة الفلك من القارّ وغيره، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله ويسخرون منه، ويقولون: يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة؟ وأعقم الله أرحام نسائهم فلا يولد لهم ولد .

وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يصنعه من أَزْوَر ، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلى ووسطى وعليا ويجعل فيه كوى، ففعله نوح كما أمره الله عز وجل.

وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين وكان طول السفينة ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد.

وقال قتادة: كان بابها في عرضها.

ورُوي عن الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع. والمعروف الأول: أن طولها ثلثمائة ذراع.

وعن زيد بن أسلم قال: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها، ومائة سنة يعمل الفلك.

وقيل: غرس الشجر أربعين سنة وجفَّفه أربعين سنة.

وعن كعب الأحبار أن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة، ورُوي أنها كانت ثلاث طبقات، الطبقة السفلى للدواب والوحوش، والطبقة الوسطى فيها الإنس، والطبقة العليا فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح أن اِغْمِزْ ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنـزير وخنـزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفار بجوف السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفار .

قوله تعالى: ( وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) كانوا يقولون: إن هذا الذي يزعم أنه نبي قد صار نجارا، وروي أنهم كانوا يقولون له: يا نوح ماذا تصنع؟ فيقول أصنع بيتا يمشي على الماء، فيضحكون منه، ( قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ) إذا عاينتم عذاب الله، ( كَمَا تَسْخَرُونَ ) فإن قيل: كيف تجوز السخرية من النبي؟ قيل: هذا على ازدواج الكلام، يعني إن تستجهلوني فإني أستجهلكم إذا نـزل العذاب بكم. وقيل: معناه إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 39 ) .

( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) يهينه، ( وَيَحِلُّ عَلَيْهِ ) يجب عليه، ( عَذَابٌ مُقِيمٌ ) دائم.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ( 40 ) .

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ) عذابنا، ( وَفَارَ التَّنُّورُ ) اختلفوا في التنور قال عكرمة والزهري: هو وجه الأرض، وذلك أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة.

وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: فار التنور أي: طلع الفجر ونور الصبح.

وقال الحسن ومجاهد والشعبي: إنه التنور الذي يخبز فيه، وهو قول أكثر المفسرين .

ورواية عطية عن ابن عباس قال الحسن: كان تنورا من حجارة، كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح عليه السلام، فقيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك.

واختلفوا في موضعه ، قال مجاهد والشعبي: كان في ناحية الكوفة، [ وكان الشعبي يحلف: ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة ] . وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة. وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه عَلَمًا لنوح عليه السلام.

وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم، وكان بالشام بموضع يقال له: عين وردة.

وروي عن ابن عباس: أنه كان بالهند.

والفوران: الغليان.

قوله تعالى: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا ) أي في السفينة، ( مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) الزوجان: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر، يقال لكل واحد منهما زوج، يقال: زوج خف وزوج نعل، والمراد بالزوجين ها هنا: الذكر والأنثى.

قرأ حفص ها هنا وفي سورة المؤمنين « » مِنْ كُلٍّ « بالتنوين أي: من كل صنف زوجين اثنين، ذكره تأكيدا. »

وفي القصة: أن نوحا عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف أحمل من كل زوجين اثنين؟ فحشر الله إليه السباع والطير، فجعل يضرب بيده في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيحملها في السفينة.

( وَأَهْلَك ) أي: واحمل أهلك، أي: ولدك وعيالك، ( إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) بالهلاك، يعني: امرأته واعلة وابنه كنعان، ( وَمَنْ آمَنَ ) يعني: واحمل مَنْ آمن بك، كما قال الله تعالى:

( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ) واختلفوا في عددهم : قال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي: لم يكن في السفينة إلا ثمانية نفر: نوح، وامرأته ، وثلاثة بنين له سام وحام ويافث، ونساؤهم.

[ وقال الأعمش: كانوا سبعة نوح وثلاثة بنين له، وثلاث كنائن له ] .

وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم، نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة أناس ممن كان آمن به وأزواجهم جميعا.

وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين نفرًا رجلا وامرأةً وبنيه الثلاثة ونساءَهم، فجميعهم ثمانية وسبعون، نصفهم رجال ونصفهم نساء.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جرهم.

قال مقاتل: حمل نوح معه جسد آدم فجعله معترضا بين الرجال والنساء وقصد نوحًا جميعُ الدواب والطيور ليحملها.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار، فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه، فلم يستقل رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك ادخل: فنهض فلم يستطع، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن الشيطان معك كلمة زلت على لسانه، فلما قالها نوح خلَّى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان، فقال له نوح: ما أدخلك عليَّ يا عدو الله؟ قال: ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك، قال: اخرج عني يا عدو الله، قال: مالك بُدٌّ من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك.

وروي عن بعضهم: أن الحية والعقرب أتيا نوحا فقالتا: احملنا، فقال: إنكما سبب الضر والبلاء، فلا أحملكما، فقالتا له: احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك فمن قرأ حين خاف مضرتهما « سلام على نوح في العالمين » ما ضرَّتَاه.

قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا .

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 41 ) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ( 42 ) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ( 43 ) .

( وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا ) أي: وقال لهم نوح اركبوا فيها أي في السفينة، ( بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: « مَجْريها » بفتح الميم أي: جريها « ومُرْساها » [ بضمها ] ، وقرأ محمد بن محيصن « مَجْريها ومَرساها بفتح الميمين من جرت ورست، أي » [ بسم الله ] جريها ورسوها، وهما مصدران. وقرأ الآخرون: « مُجراها ومُرساها » بضم الميمين من أجريت وأرسيت، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها [ وهما أيضا مصدران ] ، كقوله: أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا ( المؤمنون - 29 ) و أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) والمراد منها: الإنـزال والإدخال والإخراج. ( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسوَ قال: بسم الله، فَرَسَتْ.

( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ) والموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبَّهه بالجبال في عظمه وارتفاعه على الماء. ( وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ) كنعان، وقال عبيد بن عمير: سام، وكان كافرا، ( وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ) عنه لم يركب في السفينة: ( يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا ) [ قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب ] بإظهار الباء، والآخرون يدغمونها في الميم، ( وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ) فتهلك.

( قَالَ ) له ابنه ( سَآوِي ) سأصير وألتجئ، ( إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ) يمنعني من الغرق، ( قَالَ ) له نوح ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) من عذاب الله، ( إِلا مَنْ رَحِمَ ) قيل: « من » في محل الرفع، أي لا مانع من عذاب الله إلا الله الراحم. وقيل: « من » في محل النصب، معناه لا معصوم إلا من رحمه الله، كقوله: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ( الحاقة - 21 ) أي: مرضية، ( وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ ) فصار، ( مِنَ الْمُغْرَقِينَ )

وروي أن الماء علا على رؤوس الجبال قدر أربعين ذراعا. [ وقيل: خمسة عشر ذراعا ] .

وروي أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم لصبي عليه، وكانت تحبه حبا شديدا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها ذهبت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي .

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 44 ) .

( وَقِيلَ ) يعني: بعدما تناهى أمر الطوفان: ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي ) تَشَرَّبِي، ( مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) أمسكي، ( وَغِيضَ الْمَاءُ ) نقص ونضب، يقال: غاض الماء يغيض غيضا إذا نقص، وغاضه الله أي أنقصه، ( وَقُضِيَ الأمْرُ ) فرغ من الأمر وهو هلاك القوم ( وَاسْتَوَت ) يعني السفينة استقرت، ( عَلَى الْجُودِيِّ ) جبل بالجزيرة بقرب الموصل، ( وَقِيلَ بُعْدًا ) هلاكا، ( لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وروي أن نوحا عليه السلام بعث الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء قد نضب، فقيل إنه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت، وطوق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان، فمن ثم تأمن وتألف البيوت .

وروي أن نوحا عليه السلام ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرت بالبيت فطافت به سبعا وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه، وهبطوا يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه بالصوم شكرا لله عز وجل.

وقيل: ما نجا من الكفار من الغرق غير عُوج بن عُنُق كان الماء إلى حجزته، وكان سبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج إليه من الشام، فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك .

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ( 45 ) .

قوله تعالى: ( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي؟ ( وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) لا خلف فيه، ( وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) حكمت على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك.

 

 

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 46 ) .

( قَالَ ) الله عز وجل: ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) قرأ الكسائي ويعقوب: ( عَمِلَ ) بكسر الميم وفتح اللام « غيرَ » بنصب الراء على الفعل، أي: عمل الشرك والتكذيب. وقرأ الآخرون بفتح الميم ورفع اللام وتنوينه، « غير » برفع الراء معناه: أن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح، ( فَلا تَسْأَلْن ) يا نوح، ( مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

قرأ أهل الحجاز والشام ( فلا تسألنِّ ) بفتح اللام وتشديد النون، ويكسرون النون غير ابن كثير فإنه يفتحها، وقرأ الآخرون بجزم اللام وكسر النون خفيفة، ويُثبت أبو جعفر وأبو عمرو وورش ويعقوب الياء في الوصل.

( إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )

واختلفوا في هذا الابن؛ قال مجاهد والحسن: كان ولد حنث من غير نوح، ولم يعلم بذلك نوح، ولذلك قال: ( مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقرأ الحسن فَخَانَتَاهُمَا ( التحريم - 10 ) .

وقال أبو جعفر الباقر: كان ابن امرأته وكان يعلمه نوح ولذلك قال ( من أهلي ) ولم يقل مني.

وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون : إنه كان ابن نوح عليه السلام من صلبه. وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط. وقوله: ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي: من أهل الدين لأنه كان مخالفا له في الدين، وقوله: فَخَانَتَاهُمَا أي: في الدين والعمل الصالح لا في الفراش.

وقوله: ( إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) يعني: أن تدعو بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر.

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 47 ) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 48 ) .

( قَالَ ) نوح ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .

( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ ) انـزل من السفينة، ( بِسَلامٍ مِنَّا ) أي [ بأمن وسلامة منا ] ، ( وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ ) البركة هي: ثبوت الخير، ومنه: بروك البعير. وقيل: البركة ها هنا هي: أن الله تعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، ( وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) أي: على ذرية أمم ممن كان معك في السفينة، يعني على قرون تجيء من بعدك، من ذرية من معك، من ولدك وهم المؤمنون، قال محمد بن كعب القرظي: دخل فيه كل مؤمن إلى قيام الساعة ( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ) هذا ابتداء، أي: أمم سنمتعهم في الدنيا، ( ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وهم الكافرون وأهل الشقاوة.

تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( 49 ) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ( 50 ) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 51 ) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ( 52 ) .

( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ) أخبار الغيب، ( نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) من قبل نـزول القرآن، ( فَاصْبِرْ ) على القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح، ( إِنَّ الْعَاقِبَةَ ) آخر الأمر بالسعادة والنصرة ( لِلْمُتَّقِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَإِلَى عَادٍ ) أي: وأرسلنا إلى عاد، ( أَخَاهُمْ هُودًا ) في النسب لا في الدين، ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) [ وحدوا الله ] ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ) ما أنتم [ في إشراككم ] إلا كاذبون.

( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه ) أي: على تبليغ الرسالة، ( أَجْرًا ) جعلا ( إِنْ أَجْرِيَ ) ما ثوابي، ( إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) خلقني، ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) أي: آمنوا به، والاستغفار ها هنا بمعنى الإيمان، ( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) من عبادة غيره ومن سالف ذنوبكم، ( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ) أي: يرسل المطر عليكم متتابعا، مرة بعد أخرى في أوقات الحاجة، ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ) أي: شدة مع شدتكم. وذلك أن الله عز وجل حبس عنهم القطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم فلم يلدن، فقال لهم هود عليه السلام: إن آمنتم أرسل الله عليكم المطر، فتزدادون مالا ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت، فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد. وقيل: تزدادون قوة في الدين إلى قوة البدن. ( وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) أي: لا تدبروا مشركين .

قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 53 ) .

( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) أي: ببرهان وحجة واضحة على ما تقول، ( وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ) أي: بقولك، ( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) بمصدقين.

 

إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 54 ) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ( 55 ) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 56 ) .

( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا ) أي: أصابك ( بِسُوءٍ ) يعني: لست تتعاطى ما نتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا اعتراك، أي: أصابك بسوء بخبل وجنون، وذلك أنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل لا نحمل أمرك إلا على هذا، ( قال ) لهم هود، ( إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ) على نفسي، ( وَاشْهَدُوا ) يا قوم ( أنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

( مِنْ دُونِهِ ) يعني: الأوثان، ( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ) فاحتالوا في مكركم وضري أنتم وأوثانكم، ( ثُمَّ لا تُنْظِرُون ) [ لا تؤخرون ولا تمهلون ] .

( إِنِّي تَوَكَّلْتُ ) أي: اعتمدت ( عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) قال الضحاك: يحييها ويميتها.

قال الفراء: مالكها والقادر عليها.

وقال القتيـبي: يقهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته.

وقيل: إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة، فتقول: ناصية فلان بيد فلان، وكانوا إذا أسروا إنسانا وأرادوا إطلاقه والمَنَّ عليه جزُّوا ناصيته ليعتدوا بذلك فخرًا عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون.

( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يعني: إن ربي وإن كان قادرا عليهم فإنه لا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه. وقيل: معناه إن دين ربي إلى صراط مستقيم.

وقيل فيه إضمار، أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 57 ) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 58 ) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 59 ) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( 60 ) .

( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي: تتولوا، يعني: تعرضوا عمَّا دعوتكم إليه، ( فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) أي: إن أعرضتم يهلككم الله عز وجل ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم، يوحدونه ويعبدونه، ( وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ) بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرون أنفسكم. وقيل: لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء، ( إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) أي: لكل شيء حافظ، يحفظني من أن تنالوني بسوء.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) عذابنا، ( نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) وكانوا أربعة آلاف. ( بِرَحْمَة ) بنعمة ( مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) وهو الريح التي أهلك بها عادًا، وقيل: العذاب الغليظ: عذاب يوم القيامة، أي: كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة.

( وَتِلْكَ عَادٌ ) ردَّه إلى القبيلة، ( جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ) يعني: هودًا وحده، ذكره بلفظ الجمع لأن مَنْ كذّب رسولا كان كمن كذَّب جميع الرسل، ( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) أي: واتبع السفلة والسقاط أهل التكبر والعناد، والجبار: المتكبر، والعنيد: الذي لا يقبل الحق، يقال: عَنَدَ الرجل يعند عنودا إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه. قال أبو عبيدة العنيد والعاند والعنود والمعاند: المعارض لك بالخلاف.

( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) أي: أُرْدِفُوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم واللعنة: هي الإبعاد والطرد عن الرحمة، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي: وفي يوم القيامة أيضا لعنوا كما لعنوا في الدنيا والآخرة، ( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) أي: بربهم، [ يقال: كفرته وكفرت به، كما ] يقال: شكرتُه وشكرتُ له ونصحتُه ونصحتُ له. ( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) قيل: بعدًا من رحمة الله. وقيل: هلاكًا. وللبعد معنيان: أحدهما ضد القرب، يقال منه: بَعُدَ يبعُدُ بُعْدًا، [ والآخر: بمعنى الهلاك، يقال منه: بَعِدَ يَبْعَدُ بَعْدًا وبُعْدًا ] .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ( 61 ) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 62 ) .

قوله تعالى: ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا في النسب [ لا في الدين ] ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) وحّدوا الله عز وجل ، ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) ابتدأ خلقَكُم، ( مِنَ الأرْضِ ) وذلك أنهم من آدم عليه السلام وآدم خُلق من الأرض، ( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) أي: جعلكم عُمَّارها وسُكَّانَها، وقال الضحاك: أطال عمركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلثمائة سنة إلى ألف سنة. وكذلك قوم عاد.

قال مجاهد: أعمركم من العُمرى، أي: جعلها لكم ما عشتم. وقال قتادة: أسكنكم فيها.

( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ) من المؤمنين، ( مُجِيبٌ ) لدعائهم.

( قَالُوا ) يعني ثمود، ( يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ) القول، [ أي: كنا نرجو ] أن تكون سيدا فينا. وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا، وذلك أنهم كانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته، فلما أظهر دعاءهم إلى الله عز وجل وترك الأصنام زعموا أن رجاءهم انقطع عنه، فقالوا ( أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [ من قبل ] من الآلهة، ( وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) موقع للريبة والتهمة، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة.

 

 

إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 54 ) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ( 55 ) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 56 ) .

( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا ) أي: أصابك ( بِسُوءٍ ) يعني: لست تتعاطى ما نتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا اعتراك، أي: أصابك بسوء بخبل وجنون، وذلك أنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل لا نحمل أمرك إلا على هذا، ( قال ) لهم هود، ( إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ) على نفسي، ( وَاشْهَدُوا ) يا قوم ( أنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

( مِنْ دُونِهِ ) يعني: الأوثان، ( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ) فاحتالوا في مكركم وضري أنتم وأوثانكم، ( ثُمَّ لا تُنْظِرُون ) [ لا تؤخرون ولا تمهلون ] .

( إِنِّي تَوَكَّلْتُ ) أي: اعتمدت ( عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) قال الضحاك: يحييها ويميتها.

قال الفراء: مالكها والقادر عليها.

وقال القتيـبي: يقهرها، لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته.

وقيل: إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة، فتقول: ناصية فلان بيد فلان، وكانوا إذا أسروا إنسانا وأرادوا إطلاقه والمَنَّ عليه جزُّوا ناصيته ليعتدوا بذلك فخرًا عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون.

( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يعني: إن ربي وإن كان قادرا عليهم فإنه لا يظلمهم ولا يعمل إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه. وقيل: معناه إن دين ربي إلى صراط مستقيم.

وقيل فيه إضمار، أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 57 ) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 58 ) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 59 ) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( 60 ) .

( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي: تتولوا، يعني: تعرضوا عمَّا دعوتكم إليه، ( فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) أي: إن أعرضتم يهلككم الله عز وجل ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم، يوحدونه ويعبدونه، ( وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ) بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرون أنفسكم. وقيل: لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء، ( إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) أي: لكل شيء حافظ، يحفظني من أن تنالوني بسوء.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) عذابنا، ( نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) وكانوا أربعة آلاف. ( بِرَحْمَة ) بنعمة ( مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) وهو الريح التي أهلك بها عادًا، وقيل: العذاب الغليظ: عذاب يوم القيامة، أي: كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة.

( وَتِلْكَ عَادٌ ) ردَّه إلى القبيلة، ( جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ) يعني: هودًا وحده، ذكره بلفظ الجمع لأن مَنْ كذّب رسولا كان كمن كذَّب جميع الرسل، ( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) أي: واتبع السفلة والسقاط أهل التكبر والعناد، والجبار: المتكبر، والعنيد: الذي لا يقبل الحق، يقال: عَنَدَ الرجل يعند عنودا إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه. قال أبو عبيدة العنيد والعاند والعنود والمعاند: المعارض لك بالخلاف.

( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) أي: أُرْدِفُوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم واللعنة: هي الإبعاد والطرد عن الرحمة، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي: وفي يوم القيامة أيضا لعنوا كما لعنوا في الدنيا والآخرة، ( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ) أي: بربهم، [ يقال: كفرته وكفرت به، كما ] يقال: شكرتُه وشكرتُ له ونصحتُه ونصحتُ له. ( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) قيل: بعدًا من رحمة الله. وقيل: هلاكًا. وللبعد معنيان: أحدهما ضد القرب، يقال منه: بَعُدَ يبعُدُ بُعْدًا، [ والآخر: بمعنى الهلاك، يقال منه: بَعِدَ يَبْعَدُ بَعْدًا وبُعْدًا ] .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ( 61 ) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 62 ) .

قوله تعالى: ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ) أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا في النسب [ لا في الدين ] ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) وحّدوا الله عز وجل ، ( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ ) ابتدأ خلقَكُم، ( مِنَ الأرْضِ ) وذلك أنهم من آدم عليه السلام وآدم خُلق من الأرض، ( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) أي: جعلكم عُمَّارها وسُكَّانَها، وقال الضحاك: أطال عمركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلثمائة سنة إلى ألف سنة. وكذلك قوم عاد.

قال مجاهد: أعمركم من العُمرى، أي: جعلها لكم ما عشتم. وقال قتادة: أسكنكم فيها.

( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ) من المؤمنين، ( مُجِيبٌ ) لدعائهم.

( قَالُوا ) يعني ثمود، ( يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ) القول، [ أي: كنا نرجو ] أن تكون سيدا فينا. وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا، وذلك أنهم كانوا يرجون رجوعه إلى دين عشيرته، فلما أظهر دعاءهم إلى الله عز وجل وترك الأصنام زعموا أن رجاءهم انقطع عنه، فقالوا ( أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [ من قبل ] من الآلهة، ( وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) موقع للريبة والتهمة، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة.

 

 

قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( 72 ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ( 73 ) .

( قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ) نداء ندبة وهي كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه، أي: يا عجبا. والأصل يا ويلتاه. ( أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ) وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: تسعا وتسعين سنة. ( وَهَذَا بَعْلِي ) زوجي، سمي بذلك لأنه قيّم أمرها، ( شَيْخًا ) ؛ نصب على الحال، وكان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق. وقال مجاهد: مائة سنة، وكان بين البشارة والولادة سنة، ( إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) .

( قَالُوا ) يعني الملائكة، ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) معناه: لا تعجبي من أمر الله، فإن الله عز وجل إذا أراد شيئا كان. ( رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) أي: بيت إبراهيم عليه السلام. قيل: هذا على معنى الدعاء من الملائكة، وقيل: معنى الخير والرحمة والنعمة.

والبركات جمع البركة، وهي ثبوت الخير. وفيه دليل على أن الأزواج من أهل البيت.

( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) فالحميد: المحمود في أفعاله، والمجيد: الكريم، وأصل المجد الرفعة.

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( 74 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ( 75 ) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( 76 ) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( 77 ) .

( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ) الخوف، ( وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ) بإسحاق ويعقوب، ( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) فيه إضمار، أي: أخذ وظل يجادلنا.

قيل: معناه يكلمنا لأن إبراهيم عليه السلام لا يجادل ربه عز وجل إنما يسأله ويطلب إليه.

وقال عامة أهل التفسير: معناه يجادل رسلنا، وكانت مجادلته أنه قال للملائكة: أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا: لا قال: أو أربعون؟ قالوا: لا قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا حتى بلغ خمسة، [ قالوا: لا ] ، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا قال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجيه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) قال ابن جريج: وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم.

( يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) أي: أعرض عن هذا المقال ودع عنك الجدال، ( إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) أي: عذاب ربك [ وحكم ربك ] ، ( وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ ) نازل بهم، ( عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) أي: غير مصروف عنهم.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا ) يعني: هؤلاء الملائكة، ( لُوطًا ) على صورة غلمان مرد حسان الوجوه، ( سِيءَ بِهِمْ ) أي: حزن لوط بمجيئهم، يقال: سؤته فسيء، كما يقال: سررته فسر. ( وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا ) أي: قلبا. يقال: ضاق ذرع فلان بكذا: إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه، وذلك أن لوطا عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم.

( وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) أي: شديد كأنه عصب به الشر والبلاء، أي: شد‍ّ.

قال قتادة والسدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه السلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا نصف النهار، وهو في أرض له يعمل فيها.

وقيل: إنه كان يحتطب. وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربع شهادات، فاستضافوه فانطلق بهم، فلما مشى ساعة قال لهم: ما بلغكم أمر أهل هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا. يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منـزله.

وروي: أنه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمرّ على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم، فقال لوط: إنَّ قومي شر خلق الله، ثم مرّ على قوم آخرين، فغمزوا، فقال مثله، ثم مرّ بقوم آخرين فقال مثله، فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة: اشهدوا، حتى أتى منـزله.

ورُوي: أنّ الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره ولم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط .

وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( 78 ) .

( وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ) قال ابن عباس [ وقتادة ] : يسرعون إليه. وقال مجاهد: يهرولون، وقال الحسن: مشي بين مشيتين. قال شمر بن عطية: بين الهرولة [ والجمز ] .

( وَمِنْ قَبْلُ ) أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، ( كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ) كانوا يأتون الرجال في أدبارهم. ( قَالَ ) لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان، ( يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) يعني: بالتزويج، وفي أضيافه ببناته، وكان في ذلك الوقت، تزويج المسلمة من الكافر جائزًا كما زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته من عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين .

وقال الحسين بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: قوله: ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي ) أراد: نساءهم، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته. وفي قراءة أبي بن كعب: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب - 6 ) وهو أب لهم.

وقيل: ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على التحقيق، ولم يرضوا هذا.

( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي ) [ أي: خافوا الله ولا تخزونِ في ضيفي ] ، أي: لا تسوءوني ولا تفضحوني في أضيافي. ( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) صالح سديد. قال عكرمة: رجل يقول لا إله إلا الله. وقال ابن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 ) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 ) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ( 81 ) .

( قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ) يا لوط، ( مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ) أي: لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح. وقيل: معناه مَا لنَا فيهن من حاجة وشهوة. ( وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ) من إتيان الرجال.

( قَالَ ) لهم لوط عند ذلك: ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) أراد قوة البدن، أو القوة بالأتباع، ( أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) أي: أنضم إلى عشيرة مانعة. وجواب « لو » مضمر أي لقاتلناكم وحُلْنا بينكم وبينهم . قال أبو هريرة: ما بعث الله بعده نبيا إلا في منعة من عشيرته.

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أنبأنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب بن أبي حمزة، أنبأنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يغفر الله للوط إنْ كانَ لَيأوي إلى رُكنٍ شديد » .

قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأتِ الملائكة ما يلقى لوط بسببهم:

( قَالُوا يَا لُوطُ ) إنَّ ركنك لشديد، ( إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل ربه عز وجل في عقوبتهم، فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو برَّاق الثنايا، أجلى الجبين، ورأسه حُبُك مثل المرجان، كأنه الثلج بياضا وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم، فانصرفوا وهم يقولون: النجاء النجاء، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى تصبح فسترى ما تلقى منا غدا. يُوعِدونه، فقال لوط للملائكة: متى موعد إهلاكهم؟ فقالوا: الصبح، فقال: أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ثم قالوا، ( فَأَسْرِ ) يا لوط، ( بِأَهْلِكَ ) .

قرأ أهل الحجاز « فَاسْرِ وأنِ اسرِ » بوصل الألف [ حيث وقع في القرآن ] من سرى يَسْري، وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يُسري، ومعناهما واحد وهو المسير بالليل.

( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) قال ابن عباس: بطائفة من الليل. وقال الضحاك: ببقية. وقال قتادة: بعد مضي أوله وقيل: إنه السحر الأول.

( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: « امرأتُك » برفع التاء على الاستثناء من الالتفات، أي: لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتُك فإنها تلتفت فتهلك، وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه، ممن أسرى بهم أن يلتفت، سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت، وقالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها.

وقرأ الآخرون: بنصب التاء على الاستثناء من الإسراء، أي: فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تَسْرِ بها وخَلِّفها مع قومها، فإن هواها إليهم، وتصديقه قراءة ابن مسعود « فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد » .

( إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ) من العذاب، ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ) أي: موعد هلاكهم وقت الصبح، فقال لوط: أريد أسرع من ذلك، فقالوا ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) .

 

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ( 82 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( 83 ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ( 84 ) .

قوله: ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) عذابنا، ( جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ) وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات وهي خمس مدائن، وفيها أربعمائة ألف، وقيل: أربعة آلاف ألف، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فلم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا ) أي على شذاذها ومسافريها. وقيل: بعدما قلبها أمطر عليها، ( حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : ( سنك وكل ) فارسي معرب.

وقال قتادة وعكرمة: السجيل الطين، دليله قوله عز وجل: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ( الذاريات - 33 ) .

قال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين.

وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت.

وقال الضحاك: يعني الآجر.

وقيل: السجيل اسم السماء الدنيا .

وقيل: هو جبال في السماء، قال الله تعالى وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ( النور - 43 ) .

قوله تعالى: ( مَنْضُودٍ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: متتابع، يتبع بعضها بعضا، مفعول من النضد، وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.

( مُسَوَّمَة ) من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال، ومعناها معلمة: قال ابن جريج: عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض.

وقال قتادة وعكرمة: عليها خطوط حمر على هيئة الجزع.

وقال الحسن والسدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم.

وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رُمي به.

( عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ ) يعني: تلك الحجارة، ( مِنَ الظَّالِمِينَ ) أي: من مشركي مكة، ( بِبَعِيدٍ ) وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار الله منها ظالما بعد.

وفي بعض الآثار: « ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة » .

وروي: أن الحجر اتبع شذاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد، ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه.

قوله عز وجل: ( وَإِلَى مَدْيَنَ ) أي: وأرسلنا إلى ولد مدين، ( أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) أي: لا تبخسوا، وهم كانوا يطففون مع ِشْركهم، ( إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ) قال ابن عباس: موسرين في نعمة. وقال مجاهد: في خصب وسعة، فحذرهم زوال النعمة، وغلاء السعر، وحلول النقمة، إن لم يتوبوا. فقال: ( وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ) يحيط بكم فيهلككم.

وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 85 ) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 86 ) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( 87 ) .

( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ) أتموهما، ( بِالْقِسْطِ ) بالعدل. وقيل: بتقويم لسان الميزان، ( وَلا تَبْخَسُوا ) لا تنقصوا، ( النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

( بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد: بقية الله: أي طاعة الله، خير لكم إن كنتم مؤمنين بأن ما عندكم من رزق الله وعطائه. ( وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) بوكيل. وقيل: إنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم.

( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) من الأوثان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة. لذلك قالوا هذا. وقال الأعمش: يعني: أقراءتك. ( أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ) من الزيادة والنقصان.

وقيل: كان شعيب عليه السلام نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم وزعم أنه محرم عليهم، فقالوا: أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء من قطعها .

( إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أرادوا: السفيه الغاوي، والعرب تصف الشيء بضده فتقول: للديغ سليم وللفلاة مفازة. [ وقيل ] قالوا على وجه الاستهزاء.

وقيل: معناه الحليم الرشيد بزعمك.

وقيل:هو على الصحة أي إنك يا شعيب فينا حليم رشيد، لا يجمل بك شق عصا قومك ومخالفة دينهم، كما قال قوم صالح عليه السلام: قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا ( هود - 62 ) .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 88 ) .

( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ ) بصيرة وبيان، ( مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ) حلالا. وقيل: كثيرا. وكان شعيب عليه السلام كثير المال. وقيل: الرزق الحسن: العلم والمعرفة. ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) أي: ما أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أرتكبه. ( إِنْ أُرِيدُ ) ما أريد فيما [ آمركم به وأنهاكم عنه ] ( إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ ) والتوفيق: تسهيل سبيل الخير والطاعة. ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) اعتمدت، ( وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) أرجع فيما ينـزل بي من النوائب. وقيل: في المعاد.

 

وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ( 89 ) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ( 90 ) .

( وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ ) لا يحملنكم، ( شِقَاقِي ) خلافي ( أَنْ يُصِيبَكُمُ ) أي: على فعل ما أنهاكم عنه، ( مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ) من الغرق، ( أَوْ قَوْمَ هُودٍ ) من الريح، ( أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ) من الصيحة، ( وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ) وذلك أنهم كانوا [ حديثي عهد بهلاك ] قوم لوط.

[ وقيل: معناه وما دار قوم لوط منكم ببعيد، وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط ] .

( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) وللودود معنيان: أحدهما، أنه محب للمؤمنين، وقيل: هو بمعنى المودود أي محبوب المؤمنين. وجاء في الخبر: إن شعيبا عليه السلام كان خطيب الأنبياء عليهم السلام .

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ( 91 ) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( 92 ) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ( 93 ) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 94 ) .

( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ ) ما نفهم، ( كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ) وذلك أنه كان ضرير البصر، فأرادوا ضعف البصر ، ( وَلَوْلا رَهْطُكَ ) عشيرتك وكان في منعة من قومه، ( لَرَجَمْنَاكَ ) لقتلناك. والرجم: أقبح القتل. ( وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا ) عندنا، ( بِعَزِيزٍ ) .

( يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ) أي: مكان رهطي أهيب عندكم من الله، أي: إن تركتم قتلي لمكان رهطي فالأولى أن تحفظوني في الله. ( وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) أي: نبذتم أمر الله وراء ظهوركم وتركتموه، ( إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) .

( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي: على تؤدتكم وتمكنكم. يقال: فلان يعمل على مكانته إذا عمل على تؤدة وتمكن. ( إِنِّي عَامِلٌ ) على تمكني، ( سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) أيُّنا الجاني على نفسه، والمخطئ في فعله، فذلك قوله: ( مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) يذلّه ( وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ) قيل: « من » في محل النصب، أي: فسوف تعلمون الكاذب. وقيل: محله رفع، تقديره: ومن هو كاذب يعلم كذبه ويذوق وبال أمره. ( وَارْتَقِبُوا ) وانتظروا العذاب ( إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) منتظر.

( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) قيل: إن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم. وقيل: أتتهم صيحة من السماء فأهلكتهم. ( فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ميتين.

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ( 95 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 96 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( 97 ) .

( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ) أي: كأن لم [ يقيموا ولم يكونوا ] ( فِيهَا أَلا بُعْدًا ) هلاكا، ( لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ) هلكت ( ثَمُودُ ) .

قوله عز وجل: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ) حجة بينة.

( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) بسديد.

 

 

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ( 98 ) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ( 99 ) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ( 100 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( 101 ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( 102 ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ( 103 ) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( 104 ) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ( 105 ) .

( يَقْدُمُ قَوْمَهُ ) يتقدمهم، ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ) فأدخلهم ( النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) أي: بئس المدخل والمدخول فيه.

( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ ) أي: في هذه الدنيا، ( لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) أي: العون المعان. وقيل: العطاء المعطى، وذلك أنهم ترادفت عليهم اللعنتان، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة.

( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ ) عامر، ( وَحَصِيدٌ ) خراب. وقيل: منها قائم بقيت الحيطان وسقطت السقوف. وحصيد أي: انمحى أثره. وقال مقاتل: قائم يُرى له أثر وحصيد لا يُرى له أثر، وحصيد بمعنى محصود.

( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ) بالعذاب والهلاك، ( وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) بالكفر والمعصية. ( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) عذاب ربك، ( وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) أي: غير تخسير، وقيل: تدمير.

( وَكَذَلِك ) وهكذا، ( أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إ سماعيل، حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا أبو معاوية، أنبأنا يزيد بن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، قال: ثم قرأ: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) الآية.

قوله عز وجل: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) لعبرة، ( لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) يعني يوم القيامة، ( وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) أي: يشهده أهل السماء والأرض.

( وَمَا نُؤَخِّرُه ) أي: وما نؤخر ذلك اليوم، فلا نقيم عليكم القيامة [ وقرأ يعقوب، وما يؤخره بالياء ] ( إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ ) [ معلوم ] عند الله.

( يَوْمَ يَأْتِ ) قرئ بإثبات الياء وحذفها، ( لا تَكَلَّمُ ) أي: لا تتكلم ( نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) أي: فمنهم من سبقت له الشقاوة ومنهم مَنْ سبقت له السعادة.

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنبأنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العُذَافِريّ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدَّبَرِيُّ، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن منصور، عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا على جنازة فبينا نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده مِخْصرة، فجاء فجلس، ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال: « ما من نفس منفوسة إلا قد كُتِبَ مكانها من الجنة أو النار، إلا وقد كُتِبت شقية أو سعيدة » ، قال: فقال رجل: أفلا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل؟ قال: « لا ولكن اعملوا فكل مُيَسَّر لما خُلِقَ له، أما أهل الشقاء فييسّرون لعمل أهل الشقاء، وأما أهل السعادة فييسَّرون لعمل أهل السعادة » ، قال: ثم تلا ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ( الليل 5 - 10 )

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( 106 ) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ( 107 ) .

قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره إذا ردده في جوفه. وقال أبو العالية: الزفير في الحلق والشهيق في الصدر.

( خَالِدِينَ فِيهَا ) لابثين مقيمين فيها، ( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ ) قال الضحاك: ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك وأظلَّك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.

وقال أهل المعاني: هذا عبارة عن التأبيد على عادة العرب، يقولون: لا آتيك ما دامت السماوات والأرض، ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار، يعنون: أبدا.

قوله تعالى: ( إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) .

اختلفوا في هذين الاستثناءين، فقال بعضهم: الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها، ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء من غير الجنس، لأن الذين أخرجوا من النار سعداء استثناهم [ الله من جملة الأشقياء ] وهذا كما:

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إ سماعيل، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليُصِيبَنَّ أقواما سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، فيقال لهم: الجهَنَّمِيُّون » .

وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إ سماعيل، أخبرنا مسدد، أخبرنا يحيى، عن الحسن بن ذكوان، أنبأنا أبو رجاء، حدثني عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يخرج قوم من النار بشفاعة محمد، فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين » .

وأما الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبثهم في النار قبل دخول الجنة.

وقيل: إلا ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث، قبل مصيرهم إلى الجنة أو النار. يعني: هم خالدون في الجنة أو النار إلا هذا المقدار.

وقيل: إلا ما شاء ربك: سوى ما شاء ربك، [ معناه خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك ] . من الزيادة على قدر مدة بقاء السماوات والأرض، وذلك هو الخلود فيها، كما تقول: لفلان عليّ ألف إلا الألفين، أي: سوى الألفين اللتين تقدمتا.

وقيل: إلا بمعنى الواو، أي: وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، كقوله: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا ( البقرة - 150 ) ، أي: ولا الذين ظلموا.

وقيل: معناه ولو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء أنه حكم لهم بالخلود.

قال الفراء: هذا الاستثناء استثناه الله ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك أن تضربه .

( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) .

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( 108 ) .

( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص ( سُعِدُوا ) بضم السين [ وكسر العين ] ، أي: رُزِقوا السعادة، وسُعِدَ وأُسعِدَ بمعنى واحد. وقرأ الآخرون بفتح السين قياسا على « شقوا » . ( فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) قال الضحاك: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة. قال قتادة: الله أعلم بثنياه. ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) أي غير مقطوع. قال ابن زيد: أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله .

ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان. وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدا.

 

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ( 109 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 110 ) وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 111 ) .

( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ ) في شك، ( مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ ) أنهم ضُلال، ( مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ ) فيه إضمار، أي: كما كان يعبد، ( آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) حظهم من الجزاء. ( غَيْرَ مَنْقُوصٍ ) .

( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) التوراة، ( فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) فمِنْ مصدق به ومكذب، كما فعل قومك بالقرآن، يُعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) في تأخير العذاب عنهم، ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) أي: لَعُذِّبوا في الحال وفُرِغ من عذابهم وإهلاكهم، ( وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) موقع في الريبة والتهمة.

( وَإِنَّ كُلا ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر: ( وإنْ كلا ) ساكنة النون على تخفيف إن الثقيلة، والباقون بتشديدها، ( لَمَّا ) شددهاهنا وفي يس والطارق: ابن عامر وعاصم وحمزة، [ وافق أبو جعفر ها هنا، وفي الطارق وفي الزخرف، بالتشديد عاصم وحمزة ] والباقون بالتخفيف، فمن شدد قال الأصل فيه: ( وَإِنَّ كُلا ) [ لمن ما، فوصلت من الجارة بما، فانقلبت النون ميما للإدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن، فبقيت لما بالتشديد، و « ما » هاهنا بمعنى: مَنْ، هو اسم لجماعة من الناس، كما قال تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ( النساء - 3 ) ، أي: من طاب لكم، والمعنى: وإنَّ كلا لمن جماعة ليوفينهم ] .

ومن قرأ بالتخفيف قال: « ما » صلة [ زيدت بين اللامين ليفصل بينهما كراهة اجتماعهما، والمعنى ] وإن كلا ليوفينهم.

وقيل « ما » بمعنى مَنْ، تقديره: لمن ليوفينهم، واللام في ( لما ) لام التأكيد [ التي تدخل على خبر إن ] ، وفي ( ليوفينَّهم ) لام القسم، [ والقسم مضمر ] تقديره: والله، ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ) أي: جزاء أعمالهم، ( إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 112 ) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 113 ) .

قوله عز وجل: ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) أي: استقم على دين ربك، والعمل به، والدعاء إليه كما أمرت، ( وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ) أي: ومن آمن معك فليستقيموا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب .

أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا والدي إملاء، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن العلاء بن كريب، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت، يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: « قل آمنت بالله ثم استقم » .

( وَلا تَطْغَوْا ) لا تجاوزوا أمري ولا تعصوني، وقيل: معناه ولا تغلوا فتزيدوا على ما أمرتُ ونهيتُ.

( إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) لا يخفى عليه من أعمالكم شيء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال: « شيبتني هود وأخواتها » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر ، ثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الدين يُسر ولن يشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجة » .

قوله عز وجل: ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولا تميلوا. والركون: هو المحبة والميل بالقلب، وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم. قال السدي: لا تداهنوا الظلمة. وعن عكرمة: لا تطيعوهم. وقيل: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا. ( فَتَمَسَّكُمُ ) فتصيبكم، ( النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) أي: أعوان يمنعونكم من عذابه، ( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) .

وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ( 114 ) .

قوله عز وجل: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) أي: الغداة والعشي. [ يعني: صلاة الصبح والمغرب ] ، قال مجاهد: طرفا النهار صلاة [ الصبح ] والظهر والعصر. « وزُلَفًا من الليل » ، صلاة المغرب والعشاء.

وقال مقاتل: صلاة الفجر والظهر طرف، وصلاة العصر والمغرب طرف، وزُلَفًا من الليل، يعني: صلاة العشاء.

وقال الحسن: طرفا النهار. الصبح والعصر، وزلفا من الليل: المغرب والعشاء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: طرفا النهار الغداة والعشي، يعني صلاة الصبح والمغرب.

قوله: ( وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) أي: ساعاته واحدتها زلفة . وقرأ أبو جعفر « زُلُفًا » بضم اللام.

( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) يعني: إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات.

رُوي أنها نـزلت في أبي اليَسَر، قال: أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها: إن في البيت تمرا أطيب منه: فدخلت معي البيت، فأهويت إليها فقبلتها، فأتيتُ أبا بكر رضي الله عنه فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب، فأتيت عمر رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال: استر على نفسك وتُبْ، فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: « أخلفتَ غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا، حتى ظن أنه من أهل النار؟ فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه: ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ) الآية، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: » بل للناس عامة « . »

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أصاب من أمرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنـزل الله تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) قال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: « لجميع أمتي كلهم » .

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني أبو طاهر، وهارون بن سعيد الأيلي، قالا حدثنا ابن وهب، عن أبي صخر، أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدَّثه عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر » .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا محمد بن الحسين بن أحمد المخلدي، أنبأنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أنبأنا قتيبة، أنبأنا الليث وبكر بن مضر، عن ابن الهادي، عن محمد ابن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا. قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا » .

قوله عز وجل: ( ذَلِك ) أي: ذلك الذي ذكرنا. وقيل: هو إشارة إلى القرآن، ( ذِكْرَى ) عظة ( لِلذَّاكِرِينَ ) أي لمن ذكره.

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 115 ) .

( وَاصْبِرْ ) يا محمد على ما تلقى من الأذى. وقيل: على الصلاة، ونظيره وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه - 132 ) ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) في أعمالهم.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني المصلين.

فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ( 116 ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( 117 ) .

قوله عز وجل: ( فَلَوْلا ) فهلا ( كَانَ مِنَ الْقُرُونِ ) التي أهلكناهم، ( مِنْ قَبْلِكُمْ ) والآية للتوبيخ ( أُولُو بَقِيَّة ) أي: أولو تمييز. وقيل: أولو طاعة. وقيل: أولو خير. يقال: فلان ذو بقية إذا كان فيه خير. معناه: فهلا كان من القرون من قبلكم من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض؟ [ وقيل: معناه أولو بقية من خير. يقال: فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة ] .

( يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ ) أي يقومون بالنهي عن الفساد، ومعناه جحد، أي: لم يكن فيهم أولو بقية. ( إِلا قَلِيلا ) هذا استثناء منقطع معناه: لكن قليلا ( مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ) وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض. ( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا ) نعموا، ( فِيهِ ) والمُترَف: المُنَعّم. وقال مقاتل بن حيان: خولوا. وقال الفراء: [ عُودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا ] أي: واتبع الذين ظلموا ما عودوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة. ( وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ) كافرين.

( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ) أي: لا يهلكهم بشركهم، ( وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) فيما بينهم يتعاطون الإنصاف ولا يظلم بعضهم بعضا، وإنما يهلكهم إذا تظالموا، وقيل: لا يهلكهم بظلم منه وهم مصلحون في أعمالهم، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات.

 

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( 118 ) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 119 ) .

قوله عز وجل: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ ) كلهم ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) على دين واحد. ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) على أديان شتى من بين يهودي ونصراني، ومجوسي، ومشرك.

( إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) معناه: لكن من رحم ربك فهداهم إلى الحق، فهم لا يختلفون، ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال الحسن وعطاء: وللاختلاف خلقهم. وقال أشهب: سألْتُ مالكًا عن هذه الآية، فقال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير.

وقال أبو عبيدة: الذي أختاره قول من قال: خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه.

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم، يعني الذين رحمهم.

وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف.

وحاصل الآية: أن أهل الباطل مختلفون، وأهل الحق متفقون، فخلق الله أهل الحق للاتفاق، وأهل الباطل للاختلاف.

( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) وتم حكم ربك، ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 120 ) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ( 121 ) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 122 ) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 123 ) .

( وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) معناه: وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل، أي: من أخبارهم وأخبار أممهم نقصها عليك لنثبت به فؤادك، لنـزيدك يقينا ونقوي قلبك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه.

( وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ) قال الحسن وقتادة: في هذه الدنيا.

وقال غيرهما: في هذه السورة. وهذا قول الأكثرين.

خصَّ هذه السورة تشريفا، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور.

( وَمَوْعِظَةٌ ) أي: وجاءتك موعظة، ( وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أمر تهديد ووعيد، ( إِنَّا عَامِلُونَ ) .

( وَانْتَظِرُوا ) ما يحل بنا من رحمة الله، ( إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) ما يحل بكم من نقمة الله.

( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ) أي: علم ما غاب عن العباد فيهما، ( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ ) في المعاد.

قرأ نافع وحفص: « يرجع » بضم الياء وفتح الجيم: أي: يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم، أي: يعود الأمر كله إليه حتى لا يكون للخلق أمر.

( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) وثق به، ( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) قرأ أهل المدينة والشام وحفص ويعقوب: « تعملون » بالتاء ها هنا وفي آخر سورة النمل. وقرأ الآخرون بالياء فيهما.

قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة سورة هود .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت، فقال صلى الله عليه وسلم: « شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت » .

ويروى: « شيبتني هود وأخواتها » .

 

أعلى