تفسير ابن عاشور

تفسير الآية رقم 79 من سورة الإسراء

عطف على { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] فإنه في تقدير جملة لكونه معمولاً لفعل أقم [ الإسراء : 78 ].
وقدم المجرور المتعلق ب تهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه . وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء . وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها ، وهو استعمال فصيح . ومنه قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقول النبي : ففيهما فَجَاهِدْ ، وتقدم عند قوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } في سورة [ براءة : 7 ].
وجَعل الزجاج والزمخشري قوله : { ومن الليل } في معنى الإغراء بناءً على أن نصب { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] على الإغراء فيكون فتهجد } تفريعاً على الإغراء تفريع مفصل على مجمل ، وتكون ( من ) اسماً بمعنى ( بعض ) كالتي في قوله : { من الذين هادوا يحرفون الكلم } [ النساء : 46 ] وهو أيضاً حسن .
وضمير { ربه } للقرآن المذكور في قوله : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] وإن كان المعاد مقيداً بكونه في الفجر والمذكورُ هنا مراداً مُطلقهُ ، كقولك . عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك .
والباء للسببية .
والتهجد : الصلاة في أثناء الليل ، وهو اسم مشتق من الهجود ، وهو النوم . فمادة التفعل فيه للإزالة مثل التحَرج والتأثم .
والنافلة : الزيادة من الأمر المحبوب .
واللام في { لك } متلعقة ب { نافلة } وهي لام العلة ، أي نافلة لأجلك . وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر للوجوب . وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة ، وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة [ المزمل : 20 ] { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك } إلى قوله : { ما تيسر منه } وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له ، ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاماً محموداً . فجملة { عسى أن يبعثك } تعليل لتخصيصه بإيجاب التهجد عليه ، والرجاء من الله تعالى وعد . فالمعنى : ليبعثك ربك مقاماً محموداً .
والمقام : محل القيام . والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم ، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا ، وإلا فهو المجلس .
وانتصب { مقاماً } على الظرفية ل { يبعثك }.
ووصفُ المقام بالمحمود وصف مجازي . والمحمود من يقوم فيه ، أي يحمد أثره فيه ، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام ، ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى .
وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمر " أن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً بضم الجيم وتخفيف المثلثة أي جماعات كل أمة تتبع نبيئها يقولون : يا فلان أشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " وفي «جامع الترمذي» عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا قال : هي الشفاعة . قال : هذا حديث حسن صحيح .
وقد ورد وصف الشفاعة في صحيح البخاري } مفصلاً . وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر .