فهرس تفسير الطبري للسور

2 - تفسير الطبري سورة البقرة

التالي السابق

تفسير سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

ربِّ أعنْ

( القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة )

 

القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: الم .

قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره « الم » فقالَ بعضُهم: هو اسم من أسماء القرآن.

* ذكرُ من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « الم » ، قال: اسم من أسماء القرآن.

حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي, قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، قال: « الم » ، اسم من أسماء القرآن.

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج , عن ابن جُريج، قال: « الم » ، اسم من أسماء القرآن.

وقال بعضُهم: هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: « الم » ، فواتح يفتح الله بها القرآن.

حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد, قال: « الم » ، فواتح.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن يحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد, قال: « الم » ، و حم ، و المص ، و ص ، فواتحُ افتتح الله بها .

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد، مثلَ حديث هارون بن إدريس.

وقال آخرون: هو اسم للسورة.

* ذكرُ من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أنبأنا عبد الله بن وهب, قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن قول الله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ و الم * تَنْـزِيلُ ، و المر تِلْكَ ، فقال: قال أبي: إنما هي أسماء السُّوَر.

وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا شعبة, قال: سألت السُّدِّي عن حم و طسم و « الم » ، فقال: قال ابن عباس: هو اسْم الله الأعظم.

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثني أبو النعمان, قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل السُّدِّي, عن مُرّة الهمداني, قال: قال عبدُ الله فذكر نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عُبيد الله بن موسى, عن إسماعيل, عن الشعبي قال: فواتح السور من أسماء الله.

وقال بعضهم: هو قسمٌ أقسمَ الله به، وهو من أسمائه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: هو قَسَم أقسمَ الله به، وهو من أسماء الله.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَّية, قال: حدثنا خالد الحذّاء، عن عكرمة، قال: « الم » ، قسم .

وقال بعضهم: هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ, كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضُّحَى, عن ابن عباس: « الم » قال: أنا الله أعلم .

حُدِّثتُ عن أبي عُبيد، قال: حدثنا أبو اليقظان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, قال: قوله: « الم » ، قال: أنا الله أعلم.

حدثني موسى بن هارون الهمداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني, عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « الم » قال: أما « الم » فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.

حدثنا محمد بن معْمَر, قال: حدثنا عباس بن زياد الباهلي, قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: « الم » و حم و ن ، قال: اسم مُقطَّع .

وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.

ذكر من قال ذلك:

حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة, قال: حدثنا أبو سعيد المؤدِّب, عن خُصَيْف, عن مجاهد, قال: فواتح السور كلها ق و ص و حم و طسم و الر وغير ذلك، هجاء موضوع.

وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي، قال: حدثني أبي, عن الربيع بن أنس، في قول الله تعالى ذكره: « الم » ، قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفًا, دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه, وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه, وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم: « وعجيب ينطقون في أسمائه, ويعيشون في رزقه, فكيف يكفرون؟ » . قال: الألف: مفتاح اسمه: « الله » , واللام: مفتاح اسمه: « لطيف » , والميم: مفتاح اسمه: « مجيد » . والألف آلاء الله, واللام لطفه, والميم: مجده. الألف سنةٌ, واللام ثلاثون سنة, والميم أربعون سنة.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكام، عن أبي جعفر, عن الربيع بنحوه .

وقال بعضُهم: هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه, إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس .

وقال بعضهم: لكل كتاب سرٌّ, وسرُّ القرآن فواتحه.

وأمَّا أهل العربية، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم: هي حروف من حُرُوف المعجم، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر « أ ب ت ث » ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين: قال. ولذلك رُفع ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لأنّ معنى الكلام: الألف واللام والميم من الحروف المقطعة، ذَلِكَ الْكِتَابُ الذي أنـزلته إليك مجموعًا لا رَيْبَ فِيهِ .

فإن قال قائل: فإن « أ ب ت ث » ، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء، كما كان « الحمدُ » اسما لفاتحة الكتاب.

قيل له: لما كان جائزًا أن يقول القائل: ابني في « ط ظ » , وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ « أ ب ت ث » ليس لها باسْم, وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها . قال: وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور, فذُكِرت في أوائلها مختلفةً , وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي « أ ب ت ث » ، مؤتلفةً، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفًا- الدلالةُ على الكلام المتصل؛ وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا- الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل: ابني في « ط ظ » وما أشبه ذلك، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم, وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله: ابني في « أ ب ت ث » - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد:

لَمَّــا رَأيْــتُ أمرَهَـا فـي حُـطِّي وفَنَكَـــتْ فــي كَــذِب ولَــطِّ

أَخــذْتُ منهــا بقُــرُونٍ شُــمْطٍ فلــم يَـزَلْ صَـوْبِي بهـا ومَعْطِـي

حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي

فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في « أبي جاد » , فأقام قوله: « لما رأيت أمرها في حُطِّي » مقامَ خبرِه عنها أنها في « أبي جاد » , إذْ كان ذاك من قوله، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله: لما رأيت أمرَها في « أبي جاد » .

وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن- حتى إذا استمعوا له، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه.

وقال بعضهم: الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه.

فإن قيل: هل يكون من القرآن ما ليس له معنى؟

قيل : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت, وأنه قد أخذ في أخرى, فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما, وذلك في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:

بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها

ويقول:

لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا

و « بل » ليست من البيت ولا تعد في وزنه, ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.

قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك، وجهٌ معروفٌ.

فأما الذين قالوا: « الم » ، اسم من أسماء القرآن, فلقولهم ذلك وجهان:

أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن « الم » اسم للقرآن، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك, كان تأويل قوله الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، على معنى القسم. كأنه قال: والقرآن، هذا الكتابُ لا ريب فيه.

والآخر منهما: أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها, فيَفهم السامع من القائل يقول:- قرأت اليوم المص و ن - ، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن ، كما يفهم عنه - إذا قال: لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا, وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس.

وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وَنظائر « الم الر في القرآن جماعةٌ من السُّور؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص, فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات. »

قيل: إن الأسماء - وإن كانت قد صارت، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج، عند الاشتراك، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن، احتاج المخبر عن سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة، إذا سماها باسمها الذي هو « الم » : قرأتُ « الم البقرة » , وفي آل عمران: قرأت « الم آل عمران » , و الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، و الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . كما لو أراد الخبر عن رَجلين، اسم كل واحد منهما « عمرو » , غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ, للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما: لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ, إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.

وأما الذين قالوا: ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه, فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية، أنه قال: ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما, كما جعلت « بل » في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة, قالوا:

بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا

و « بل » ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه, ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.

وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل, وبعضُها من صفاته, ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر:

قُلْنَـا لهـا: قِفِـي لنـا, قـالت: قافْ لا تَحْسَــبي أنَّــا نَسِـينا الإيجـاف

يعني بقوله: « قالت قاف » ، قالت: قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من « وقفت » ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي « وقفت » . فصرفوا قوله: « الم » وما أشبه ذلك، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم: الألف ألف « أنا » , واللام لام « الله » , والميم ميم « أعلم » , وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا: فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة، « أنا » الله « أعلم » . قالوا: وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك, فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا: ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من « حارثٍ » الثاءَ، فيقولون: يا حارِ, ومن « مالك » الكافَ، فيقولون: يا مالِ, وأما أشبه ذلك، وكقول راجزهم:

مَــا لِلظليــم عَـالَ? كَـيْفَ لا يَـا يَنْقَـــذُّ عنـــه جِــلْدُه إذا يَــا

كأنه أراد أن يقول: إذا يَفعل كذا وكذا, فاكتفى بالياء من « يفعل » ، وكما قال آخر منهم:

بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا

يريد: فشرًّا.

ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا

يريد: إلا أن تَشاء، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا، من سائر حروفهما, وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.

وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُليَّة, عن أيوب، وابن عون, عن محمد, قال: لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة: إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت: فما تأمرني؟ قال: أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بِيده تحت خدِّه الأيمن، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه .

قال أبو جعفر: يعني بـ « تا » تضطجع, فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام على النحو الذي وصفت:

أقُــول إِذْ خَــرَّتْ عـلى الكَلكـالِ يَـا نـاقَتِي مـا جُـلْتِ مـن مَجَـالِ

يريد: الكَلْكل، وكما قال الآخر:

إنّ شَـــكْلِي وَإن شَــكْلَك شَــتَّى فَـالزْمي الخُـصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي

فزاد ضادًا، وليست في الكلمة .

قالوا: فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف « الم » ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها.

وأما الذين قالوا: كل حرف من « الم » ونظائرها، دالُّ على معان شتى - نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال: هو بتأويل « أنا الله أعلم » ، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك: أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول، أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من « الم » من كلمات شتى، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا: وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا: وإذْ كان لا دلالة في ذلك، لو أظهر جميعها، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ, وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني, ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به, وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا: فالألف من « الم » مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً, منها تمامُ اسم الربّ الذي هو « الله » , وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله, والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة, إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف, وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد, وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد, والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول- أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء , وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم, وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء, كما افتتح ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، [ سورة الأنعام: 1 ] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح، كما قال جل ثناؤه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا [ سورة الإسراء: 1 ] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه, ومفاتحَ بعضها تمجيدَها, ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنـزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم، مدائحَ نفسه، أحيانًا بالعلم, وأحيانًا بالعدل والإنصاف, وأحيانًا بالإفضال والإحسان، بإيجاز واختصار, ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.

وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع، مرفوعًا بعضُها ببعض، دون قوله ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى « الم » . وكذلك ذَلِكَ في تأويل قول قائل هذا القول الثاني، مرفوعٌ بعضه ببعض, وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.

وأما الذين قالوا: هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني, فإنهم قالوا: لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل، وسوى تَهَجِّي قول القائل: « الم » . وقالوا: غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله « الم » لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا, فبطل أحدُ وَجهيه, وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي « الم » - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني، وهو حساب الجُمَّل؛ لأن قول القائل: « الم » لا يجوز أن يليَه من الكلام ذَلِكَ الْكِتَابُ ، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول، إنْ وَلي « الم » ذَلِكَ الْكِتَابُ .

واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما:-

حدثنا به محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، قال: حدثني محمد بن إسحاق , قال: حدثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, عن جابر بن عبد الله بن رئاب, قال: مرَّ أبو ياسر بن أخْطب برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله ، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنـزل الله عز وجل عليه الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنـزل عليك الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة, واللام ثلاثون, والميم أربعون, فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم ! قال: ماذا؟ قال: المص . قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة, واللام ثلاثون, والميم أربعون, والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم ! قال: ماذا؟ قال: الر . قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة, واللام ثلاثون, والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، المر , قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون, والميم أربعون, والراء مائتان, فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد, حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون, وإحدى وستون ومائة, ومائتان وإحدى وثلاثون, ومائتان وإحدى وسبعون, فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نـزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ .

قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.

والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد, كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.

والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف, ذَلِكَ الْكِتَابُ , مجموعة، لا رَيْبَ فِيهِ - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع ذَلِكَ الْكِتَابُ - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله لا رَيْبَ فِيهِ ومرة بقوله هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . وذلك تركٌ منه لقوله: إن « الم » رافعةٌ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.

فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟

قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة, وللحين من الزمان: أمَّة, وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة, وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين, وللسلطان والطاعة: دين, وللتذلل: دين, وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد, وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: « الم » و الر , و المص وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور, كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى, شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك. وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها, وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها, فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.

فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها, ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره, لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنـزل كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه و سلم إبانةَ ذلك - أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.

ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك - على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك, ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل, أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ « بل » في قول المنشد شعرًا:

بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا

وأنه لا معنى له, وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى

أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ « بل » - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ « الم » و الر و المص ، بمعنى ابتدائها ذلك بـ « بل » . وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن, فقال تعالى ذكره: نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة, ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة, وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.

والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.

والوجهُ الثالث من خطئه: أن « بل » في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها, وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله, وما أشبه ذلك من الكلام, كما قال أعشى بني ثعلبة:

وَلأشْـــرَبَنَّ ثَمَانِيًـــا وثَمَانِيًـــا وثَــلاثَ عَشْـرَةَ واثْنَتَيـنِ وأَرْبَعَـا

ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:

بالجُلَّسَـــانِ, وطَيِّـــبٌ أرْدَانُــهُ بِـالوَنِّ يَضْـرِبُ لِـي يَكُـرُّ الإصْبَعَا

ثم قال:

بَـلْ عَـدِّ هـذا, فِـي قَـريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُـرْ فَتًـى سَـمْحَ الخَلِيقـةِ أَرْوَعَا

فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ « بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف ، من غير أن يدلّ على معنى, فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها, سوى الذي ذكرتُ قوله, فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟

 

القول في تأويل قوله جَل ثناؤه: ذَلِكَ الْكِتَابُ .

قال عامّة المفسرين: تأويل قول الله تعالى ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « ذلك الكتاب » قال: هو هذا الكتاب.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَية, قال: أخبرنا خالد الحذّاء, عن عكرمة, قال: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا الحَكَم بن ظُهَير, عن السُّدِّي، في قوله « ذلك الكتاب » قال: هذا الكتاب .

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود. قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قوله: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب. قال: قال ابن عباس: « ذلك الكتاب » : هذا الكتاب .

فإن قال قائل: وكيف يجوزُ أن يكون « ذلك » بمعنى « هذا » ؟ و « هذا » لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن, و « ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟

قيل: جاز ذلك، لأن كل ما تَقضَّى، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر- فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع: « إن ذلك والله لكما قلت » , و « هذا والله كما قلت » , و « هو والله كما ذكرت » ، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى, ومرة بمعنى الحاضر، لقُرْب جوابه من كلام مخبره، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك « ذلك » في قوله ( ذلك الكتاب ) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ « ذلك الكتاب » الم ، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيه صلى الله عليه و سلم: يا محمد، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع « ذلك » في مكان « هذا » , لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله الم من المعاني، بعد تقضّي الخبر عنه بـ « الم » , فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه، كالحاضر المشار إليه, فأخبر به بـ « ذلك » لانقضائه، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب، وترجمهُ المفسِّرون : أنه بمعنى « هذا » ، لقرب الخبر عنه من انقضائه, فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ « هذا » ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم, وكما قال جل ذكره: وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ [ سورة ص: 48، 49 ] فهذا ما في « ذلك » إذا عنى بها « هذا » .

وقد يحتمل قوله جل ذكره ( ذلك الكتاب ) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نـزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة, فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنـزلتها إليك، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون بأن معنى « ذلك » « هذا الكتاب » , إذْ كانت تلك السُّور التي نـزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنـزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم.

وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في « ذلك » .

وقد وَجَّه معنى « ذلك » بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:

فَـإن تَـكُ خَـيْلي قـد أُصِيبَ صَمِيمُها فَعَمْـدًا عـلى عَيْـنٍ تَيَمَّمْـتُ مَالِكَـا

أقـولُ لـه, والـرُّمحُ يـأطِرُ مَتْنَـهُ: تــأمَّل خُفاَفًــا, إننــي أنـا ذلِكَـا

كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ « ذلك الكتاب » بمعنى « هذا » ، نظيرُه . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر « ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.

والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.

وقد قال بعضهم: ( ذلك الكتاب ) ، يعني به التوراة والإنجيل, وإذا وُجّه تأويل « ذلك » إلى هذا الوجه، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك، لأن « ذلك » يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.

 

القول في تأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ .

وتأويل قوله: « لا ريب فيه » « لا شك فيه » . كما:-

حدثني هارون بن إدريس الأصم, قال: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج, عن مجاهد: لا ريب فيه, قال: لا شك فيه.

حدثني سَلام بن سالم الخزاعي, قال: حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي, عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، عن عطاء، « لا ريب فيه » : قال: لا شك فيه .

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا الحَكم بن ظُهَير, عن السُّدِّيّ, قال: « لا ريب فيه » ، لا شك فيه.

حدثني موسى بن هارون الهَمْداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « لا ريب فيه » ، لا شك فيه.

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: « لا ريبَ فيه » ، قال: لا شكّ فيه.

حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس: « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة: « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه.

حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس: قوله « لا ريب فيه » ، يقول: لا شك فيه .

وهو مصدر من قول القائل: رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ:

فقـالوا: تَرَكْنَـا الحَـيَّ قد حَصِرُوا به, فـلا رَيْـبَ أنْ قـد كـان ثَـمَّ لَحِـيمُ

ويروى: « حَصَرُوا » و « حَصِرُوا » والفتحُ أكثر, والكسر جائز. يعني بقوله « حصروا به » : أطافوا به. ويعني بقوله « لا ريب » . لا شك فيه. وبقوله « أن قد كان ثَمَّ لَحِيم » ، يعني قتيلا يقال: قد لُحِم، إذا قُتل.

والهاء التي في « فيه » عائدة على الكتاب, كأنه قال: لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: هُدًى

حدثني أحمد بن حازم الغفاري, قال: حدثنا أبو نعيم, قال: حدثنا سفيان, عن بَيَان, عن الشعبي، « هُدًى » قال: هُدًى من الضلالة .

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر, عن إسماعيل السُّدّي, في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح , عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، « هدى للمتقين » ، يقول: نور للمتقين .

والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك: هديتُ فلانًا الطريق - إذا أرشدتَه إليه، ودللَته عليه, وبينتَه له- أهديه هُدًى وهداية.

فإن قال لنا قائل: أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين؟ قيل: ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين, ورشادًا لغير المؤمنين، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى, بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين, وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين, وَوَقْرٌ في آذان المكذبين, وعمىً لأبصار الجاحدين، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ, والكافر به محجوجٌ .

وقوله « هدى » يحتمل أوجهًا من المعاني:

أحدُها: أن يكون نصبًا، لمعنى القطع من الكتاب، لأنه نكرة والكتاب معرفة . فيكون التأويل حينئذ: الم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و ذَلِكَ مرفوع بـ الم , و الم به, والكتابُ نعت لـ ذَلِكَ .

وقد يحتمل أن يكون نصبًا، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في فِيهِ , فيكونُ معنى ذلك حينئذ: الم الذي لا ريب فيه هاديًا.

وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين, أعني على وجه القطع من الهاء التي في فِيهِ , ومن الْكِتَابُ ، على أن الم كلام تام, كما قال ابن عباس إنّ معناه: أنا الله أعلم. ثم يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ خبرًا مستأنفًا, فيرفع حينئذ الْكِتَابُ بـ ذَلِكَ ، و ذَلِكَ بـ الْكِتَابُ , ويكون « هُدًى » قطعًا من الْكِتَابُ , وعلى أن يرفع ذَلِكَ بالهاء العائدة عليه التي في فِيهِ , و الْكِتَابُ نعتٌ له؛ والهدى قطع من الهاء التي في فِيهِ . وإن جُعِل الهدى في موضع رفع، لم يجز أن يكون ذَلِكَ الْكِتَابُ إلا خبرًا مستأنفًا، و الم كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه، إلا من وجه واحد، وهو أن يُرفع حينئذ « هُدًى » بمعنى المدح، كما قال الله جل وعز: الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [ سورة لقمان: 1- 3 ] في قراءة من قرأ « رحمةٌ » . بالرفع، على المدح للآيات.

والرفع في « هدى » حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه: أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يُجعل مُرافعَ ذَلِكَ , و الْكِتَابُ نعتٌ « لذلك » . والثالث: أن يُجعل تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , ويكون ذَلِكَ الْكِتَابُ مرفوعًا بالعائد في فِيهِ . فيكون كما قال تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [ سورة الأنعام: 92 ] .

وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين، أنّ الم مرافعُ ذَلِكَ الْكِتَابُ بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم, ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه, وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه, فزعم أن الرفع في « هُدًى » من وجهين، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع: أن يكون الْكِتَابُ نعتًا لِـ ذَلِكَ و « الهدى » في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ ذَلِكَ . كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه . قال: وإن جعلتَ لا رَيْبَ فِيهِ خبرَه، رفعتَ أيضًا « هدى » ، بجعله تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ ، كما قال الله جل ثناؤه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ، كأنه قال: وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ ذَلِكَ ، وتنصبَ « هدى » على القطع، لأن « هدى » نكرة اتصلت بمعرفة، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت « هدى » على القطع من الهاء التي في فِيهِ كأنك قلت: لا شك فيه هاديًا .

قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصَّله في الم وأنها مرفوعة بـ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله، أن لا يجيز الرَّفع في « هدى » بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ, وذلك من قِبَلِ الاستئناف، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر « لذلك » , أو على وجه الإتباع لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن الم إذا رافعت ذَلِكَ الْكِتَابُ ، فلا شك أن « هدى » غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا « لذلك » ، بمعنى المرافع له, أو تابعًا لموضع لا رَيْبَ فِيهِ , لأن موضعه حينئذ نصبٌ، لتمام الخبر قبلَه، وانقطاعه - بمخالفته إيّاه- عنه.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: لِلْمُتَّقِينَ ( 2 )

حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن سفيان, عن رجل, عن الحسن، قوله: « للمتقين » قال: اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.

حدثنا محمد بن حُميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « للمتقين » ، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى, ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: « هدًى للمتقين » ، قال: هم المؤمنون.

حدثنا أبو كُريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش, قال: سألني الأعمش عن « المتقين » , قال: فأجبتُه, فقال لي: سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه، فقال: الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال: فرجَعْت إلى الأعمش, فقال: نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.

حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الرحمن بن عبد الله, قال حدثنا عمر أبو حفص, عن سعيد بن أبي عَرُوبة, عن قتادة: « هدى للمتقين » ، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم، فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمَارة, عن أبي رَوق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « للمتقين » قال: المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي، ويعملون بطاعتي .

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه ( هدى للمتقين ) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه, فتجنبوا معاصِيَه، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم - لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها- لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده: إما في كتابه, وإما على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.

فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو: الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين، إلا أن يكون - عند قائل هذا القول- معنى النفاق: ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون - وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم- مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل « للمتقين » .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ

حدثنا محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « الذين يؤمنون » ، قال: يصدِّقون.

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يؤمنون » : يصدِّقون .

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « يؤمنون » : يخشَوْنَ.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, قال: حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر, قال: قال الزهري: الإيمانُ العملُ .

حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص، عن عبد الله, قال: الإيمان: التَّصْديق .

ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق, فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به, ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [ سورة يوسف: 17 ] ، يعني: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه, وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ، وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى, بل أجمل وصْفهم به، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.

 

القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: بِالْغَيْبِ

حدثنا محمد بن حُميد الرازي, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « بالغيب » ، قال: بما جاء منه, يعني: من الله جل ثناؤه.

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني , عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « بالغيب » : أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار, وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك - يعني المؤمنين من العرب- من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزّبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عاصم, عن زرٍّ, قال: الغيبُ القرآن .

حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع, عن سعيد بن أبي عَرُوبة, عن قتادة في قوله « الذين يُؤمنون بالغيب » ، قال: آمنوا بالجنّة والنار، والبَعْث بعدَ الموت، وبيوم القيامة, وكلُّ هذا غيبٌ .

حُدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس، « الذين يؤمنون بالغيب » : آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر، وجَنّته وناره ولقائه, وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ .

وأصل الغيب: كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك: غاب فُلان يغيبُ غيبًا.

وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنـزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم, وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها، من إيمانهم بالغيب, وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.

فقال بعضُهم: هم مؤمنو العربِ خاصة, دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.

واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين, وهو قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ . قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنـزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا: فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد وما أنـزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب- علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر , وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم, والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله .

قالوا: وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والثَّواب والعقاب والبعث, والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها, مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حمّاد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم: أما ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فهم المؤمنون من العرب, وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار, وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم. ( و الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .

وقال بعضهم: بل نـزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة, لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها, فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك منهم في تنـزيله، أنه من عند الله جل وعز, فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه, من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.

وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أول هذه السورة، أنـزلت على محمد صلى الله عليه و سلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم، وأهل الكتابين وسواهم . وإنما هذه صفة صنف من الناس, والمؤمن بما أنـزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم، وما أنـزل من قبله، هو المؤمن بالغيب.

قالوا: وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنـزل إلى محمد وبما أنـزل إلى من قبله، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت, دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.

قالوا: فلما كان معنى قوله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ غير موجود في قوله ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم, فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم- [ مؤمنين ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, قال: حدثنا عيسى بن ميمون المكي, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين .

حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، بمثله .

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا موسى بن مسعود, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثله .

حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس, قال: أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة - يعني سورة البقرة- في الذين آمنوا, وآيتان في قادة الأحزاب.

وأولى القولين عندي بالصواب، وأشبههما بتأويل الكتاب, القولُ الأول, وهو: أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب, وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنـزِل على محمد والذي أنـزل على مَنْ قبله من الرسل، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.

ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف, وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار - جنْسَيْن فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه، مختومًا عليه، مأيوسًا من إيابه والآخرَ منافقًا، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر, ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب, وَذمّ أهل الذَّم منهم، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُقِيمُونَ

وإقامتها: أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها- على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال: أقام القومُ سُوقَهم, إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها, وكما قال الشاعر:

أَقَمْنَــا لأَهْـلِ الْعِـرَاقَيْنِ سُـوقَ الـ ـضِّــرَاب فَخَــامُوا وَوَلَّـوْا جَمِيعَـا

وكما حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سَلَمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » ، قال: الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، « ويقيمون الصلاة » قال: إقامة الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود، والتِّلاوةُ والخشوعُ، والإقبالُ عليها فيها .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الصَّلاةَ

حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله: « الذين يقيمون الصلاة » : يعني الصلاة المفروضة .

وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ، كما قال الأعشى:

لَهَـا حَـارِسٌ لا يَـبْرَحُ الدَّهْـرَ بَيْتَهَا وَإِنْ ذُبِحَـتْ صَـلَّى عَلَيْهَـا وَزَمْزَمَـا

يعني بذلك: دعا لها, وكقول الأعشى أيضًا .

وَقَابَلَهَـــا الــرِّيحَ فِــي دَنِّهَــا وصَــلَّى عَــلَى دَنِّهَــا وَارْتَسَـمْ

وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت « صلاة » ، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 )

اختلف المفسرون في تأويل ذلك, فقال بعضهم بما:-

حدثنا به ابن حُميد, قال: حدثنا سَلَمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: يؤتون الزكاة احتسابًا بها.

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، « ومما رزقناهم ينفقون » ، قال: زكاةَ أموالهم .

حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا جُوَيْبر، عن الضحاك، « ومما رزقناهم يُنفقون » ، قال: كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم, حتى نَـزَلت فرائضُ الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءَة, مما يذكر فيهنّ الصدقات, هنّ المُثْبَتات الناسخات .

وقال بعضهم بما:-

حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّي في خبر ذَكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « ومما رَزقناهم ينفقون » : هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنـزِل الزكاة .

وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم, مُؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه، من أهل وعيال وغيرهم, ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم, فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم, وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت, وأي أجناس الناس هم . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ:

فحدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « والذين يؤمنون بما أنـزِل إليك وما أنـزل من قبلك » : أي يصدِّقونك بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين, لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم .

حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، « والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون » : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )

قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار, كما قال جل ثناؤه وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ سورة العنكبوت: 64 ] . وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل: « أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة » ، وإنما صارت آخرة للأولى, لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها, فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق, كما سميت الدنيا « دنيا » لِدُنُوِّها من الخلق.

وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنـزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة, فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان, وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:-

حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان, أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك .

وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون, ولما جاء به من التنـزيل جاحدون, ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنـزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة, دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنـزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم, وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ

اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله: « أولئك على هدى من ربهم » : فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين, أعني: المؤمنين بالغيب من العرب، والمؤمنين بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه، وأنهم هم المفلحون.

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أما الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ , فهم المؤمنون من العرب, وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ ، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: « أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون » .

وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وهم الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد, وبما أنـزل إلى من قبله من الرسل.

وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم, وبما أنـزل إلى من قبله, وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.

وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض, ومحل رفع.

فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين: أحدهما: من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ من ذكر الَّذِينَ ، والثاني: أن يكون خبر مبتدأ, أو يكون « أولئك على هدى من ربهم » ، مرافعها.

وأما الخفض فعلى العطف على « المتقين » ، وإذا كانت معطوفة على الَّذِينَ اتجه لها وجهان من المعنى: أحدهما: أن تكون هي و الَّذِينَ الأولى، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد الم ، نـزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني: أن تكون « الَّذِينَ » الثانية معطوفة في الإعراب على « المتقين » بمعنى الخفض, وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نـزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله الم ، غير الذين نـزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.

وقد يحتمل أن تكون « الَّذِينَ » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف، إذ كانت في مبتدأ آية، وإن كانت من صفة المتقين.

فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه, والخفض من وجهين.

وأولى التأويلات عندي بقوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس, وأن تكون « أولئك » إشارة إلى الفريقين, أعني: المتقين، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك, وتكون « أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله « على هدى من ربهم » ؛ وأن تكون « الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام، على ما قد بيناه.

وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية, لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.

وأما معنى قوله ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن معنى ذلك: أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم. كما:-

حدثني ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، « أولئك على هدى من ربهم » : أي على نور من ربهم, واستقامة على ما جاءهم .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 )

وتأويل قوله: « وأولئك هم المفلحون » أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله, من الفوز بالثواب, والخلود في الجنان, والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما:-

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا.

ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة، قول لبيد بن ربيعة:

اعْقِــلِي, إِنْ كُــنْتِ لَمَّــا تَعْقِـلِي, وَلَقَــدْ أَفْلَــحَ مَــنْ كَـانَ عَقَـلْ

يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا، ومنه قول الراجز:

عَــدِمتُ أُمــًّا ولَــدتْ رِياحــَا جَــاءَتْ بِــهِ مُفَرْكَحــًا فِرْكَاحَـا

تَحْسِــبُ أَنْ قَــدْ وَلَـدَتْ نَجَاحَـا! أَشْـــهَدُ لا يَزِيدُهَـــا فَلاحَـــا

يعني: خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك: أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا: البقاءُ, ومنه قول لبيد:

نَحُــلُّ بِــلادًا, كُلُّهَـا حُـلَّ قَبْلَنَـا وَنَرْجُـو الْفَـلاحَ بَعْـدَ عَـادٍ وَحِـمْيَرِ

يريد البقاء، ومنه أيضًا قول عَبيد:

أَفْلِحَ بِمَـا شِـئْتَ, فَقَـدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ ـعْـفِ, وَقَــدْ يُخْــدَعُ الأَرِيــبُ

يريد: عش وابقَ بما شئت، وكذلك قول نابغة بني ذبيان:

وَكُــلُّ فَتًــى سَتَشْــعَبُهُ شَـعُوبٌ وَإِنْ أَثْــرَى, وَإِنْ لاقَــى فَلاحــًا

أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )

اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية, وفيمن نـزلَتْ. فكان ابن عباس يقول, كما:-

حدثنا به محمد بن حميد, قال حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « إن الذين كفروا » ، أي بما أنـزِل إليك من ربِّك, وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .

وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نـزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به, مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.

وقد حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سَلَمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نـزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود, من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم .

وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر, وهو ما:-

حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول, ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول .

وقال آخرون بما:-

حُدِّثت به عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: آيتان في قادةِ الأحزاب: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، قال: وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [ سورة إبراهيم: 28، 29 ] ، قال: فهم الذين قُتلوا يوم بدر .

وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.

فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس, فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون, وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم, ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نـزول هذه السورة - لم يَجُز أن تكون الآية نـزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.

وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك, فهي أنّ قول الله جل ثناؤه إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب, وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم- فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.

وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك، هو الذي أنـزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نـزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم, فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ, وأنّ ما جاء به فمن عند الله . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ, ولا يحسُب, فيقال قرأ الكتب فعَلِم، أو حَسَب فنجَّم؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم, ومَصُون علومهم, ومكتوم أخبارهم, وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ, وإنّ صدقَه لبَيِّن.

ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [ سورة البقرة: 40 وما بعدها ] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب، وآخرًا عن مشركيهم, فأولى أن يكون وَسطًا:- عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ, إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه, فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.

وأما معنى الكفر في قوله « إن الذين كفروا » فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره, وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

وأصْلُ الكفر عند العرب: تَغطيةُ الشيء, ولذلك سمَّوا الليل « كافرًا » ، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه, كما قال الشاعر:

فَتَذَكَّــرَا ثَقَــلا رًثِيـدًا, بَعْـدَ مَـا أَلْقَــتْ ذُكــاءُ يَمِينَهَـا فـي كـافِرِ

وقال لبيدُ بن ربيعة:

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا

يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [ سورة البقرة: 159 ] ، وهم الذين أنـزل الله عز وجل فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )

وتأويل « سواءٌ » : معتدل. مأخوذ من التَّساوي, كقولك: « مُتَساوٍ هذان الأمران عندي » , و « هما عِندي سَواءٌ » ، أي هما متعادلان عندي، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ سورة الأنفال: 58 ] ، يعني: أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله « سَواءٌ عليهم » : معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات:

تُغِـذُّ بـيَ الشّـهبَاءُ نَحْـوَ ابـن جَعْفٍر سَــوَاءٌ عَلَيْهَــا لَيْلُهَــا ونَهَارُهَـا

يعني بذلك: معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ, لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر

وَلَيْــلٍ يَقُـولُ المَـرْءُ مِـنْ ظُلُمَاتِـه سَـوَاءٌ صَحِيحَـاتُ العُيُـونِ وَعُورُهَا

لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.

وأما قوله: ( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع « أيّ » كما تقول: « لا نُبالي أقمتَ أم قعدت » , وأنت مخبرٌ لا مستفهم، لوقوع ذلك موقع « أي » . وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله: « سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم » ، لمَّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ: « أفعلتَ أم لم تفعل » .

وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع « سواء » ، وليس باستفهام, لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال: « أزيد عندك أم عمرو؟ » مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله: « سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم » بمعنى التسوية, أشبه ذلك الاستفهامَ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.

فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها, وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي, وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناس، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم، فإنهم لا يؤمنون، ولا يرجعون إلى الحق، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما:-

حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك, فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟ .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ

قال أبو جعفر: وأصلُ الختم: الطَّبْع. والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ, إذا طبَعْتَه.

فإن قال لنا قائل: وكيف يختِمُ على القلوبِ, وإنما الختمُ طبعٌ على الأوعية والظروف والغلف ؟

قيل: فإن قلوبَ العباد أوعيةٌ لما أُودِعت من العلوم، وظروفٌ لما جُعل فيها من المعارف بالأمور . فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع - التي بها تُدرَك المسموعات, ومن قِبَلها يوصَل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المُغَيَّبات - نظيرُ معنى الختم على سائر الأوعية والظروف.

فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفُها لنا فنفهمَها؟ أهي مثل الختم الذي يُعْرَف لما ظَهَر للأبصار, أم هي بخلاف ذلك؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك, وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:

فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرَّمْلي, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, قال: أرانا مُجاهدٌ بيَدِه فقال: كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مُجاهد: وكانوا يُرَوْن أنّ ذلك: الرَّيْنُ .

حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش, عن مجاهد, قال: القلبُ مثلُ الكفّ, فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان .

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, قال: حدثنا ابن جُريج, قال: قال مجاهد: نُبِّئت أنِّ الذنوبَ على القلب تحُفّ به من نواحيه حتى تلتقي عليه, فالتقاؤُها عليه الطَّبعُ, والطبعُ: الختم. قال ابن جريج: الختْم، الخَتْم على القلب والسَّمع .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, قال: حدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسَرُ من الطَّبْع, والطَّبع أيسر من الأقْفَال, والأقفال أشدُّ ذلك كله .

وقال بعضهم: إنما معنى قوله « ختم الله على قُلوبهم » إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لِمَا دُعُوا إليه من الحق, كما يقال: « إنّ فلانًا لأصَمُّ عن هذا الكلام » , إذا امتنع من سَمَاعه، ورفع نفسه عن تفهُّمه تكبرًا.

قال أبو جعفر: والحق في ذلك عندي ما صَحَّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-

حدثنا به محمد بن بشار قال: حدثنا صفوان بن عيسى, قال: حدثنا ابن عَجْلان، عن القَعْقَاع, عن أبي صالح, عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه, فإن تاب وَنـزع واستغفر، صَقَلت قلبه, فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك « الرَّانُ » الذي قال الله جل ثناؤه: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سورة المطففين: 14 ] .

فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها, وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك, ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم, إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.

ويقال لقائلي القول الثاني، الزاعمين أنّ معنى قوله جل ثناؤه « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » ، هو وَصْفُهم بالاستكبار والإعراض عن الذي دُعوا إليه من الإقرار بالحق تكبُّرًا: أخبرونا عن استكبار الذين وَصَفهم الله جل ثناؤه بهذه الصفة، وإعراضِهم عن الإقرار بما دُعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللَّواحق به - أفعلٌ منهم, أم فعلٌ من الله تعالى ذكرُه بهم؟

فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم - وذلك قولهم- قيل لهم: فإنّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه هو الذي خَتم على قلوبهم وسمْعهم. وكيف يجوز أن يكون إعراضُ الكافرِ عن الإيمان، وتكبُّره عن الإقرار به - وهو فعله عندكم- خَتمًا من الله على قلبه وسمعه , وختمهُ على قَلبه وسَمْعه، فعلُ الله عز وجل دُون الكافر؟

فإن زعموا أن ذلك جائز أن يكون كذلك - لأن تكبُّرَه وإعراضه كانا عن ختم الله على قلبه وسمعه, فلما كان الختمُ سببًا لذلك، جاز أن يسمى مُسَبِّبه به - تركوا قولَهم, وأوجبوا أنّ الختمَ من الله على قلوب الكفار وأسماعهم، معنًى غيرُ كفْرِ الكافِر، وغيرُ تكبره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به. وذلك دخولُ فيما أنكروه .

وهذه الآية من أوْضحِ الدليل على فساد قول المنكرين تكليفَ ما لا يُطاق إلا بمعونة الله، لأن الله جل ثناؤه أخبرَ أنه ختم على قلوب صِنْف من كُفَّار عباده وأسماعهم, ثم لم يُسقط التكليف عنهم، ولم يَضَعْ عن أحدٍ منهم فرائضَه، ولم يعذِرْهُ في شيء مما كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطبع على قلبه وسمعه - بَلْ أخبر أن لجميعِهم منه عذابًا عظيما على تركِهم طاعتَه فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه، مع حَتْمه القضاءَ عليهم مع ذلك، بأنهم لا يؤمنون.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ

قال أبو جعفر: وقوله ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) خبرٌ مبتدأ بعد تمام الخبر عمَّا ختم الله جلَّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الذين مضت قِصَصهم. وذلك أن « غِشاوةٌ » مرفوعة بقوله « وعلى أبصارهم » ، فذلك دليل على أنه خَبرٌ مبتدأ, وأن قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، قد تناهى عند قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ .

وذلك هو القراءة الصحيحة عندنا لمعنيين:

أحدهما: اتفاق الحجة من القُرَّاء والعلماء على الشهادة بتصحيحها, وانفرادُ المخالف لهم في ذلك، وشذوذه عمّا هم على تَخطئته مجمعون. وكفى بإجماع الحجة على تخطئة قراءته شاهدًا على خطئها.

والثاني: أنّ الختمَ غيرُ موصوفةٍ به العيونُ في شيء من كتاب الله, ولا في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا موجودٍ في لغة أحد من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورة أخرى: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، ثم قال: وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] ، فلم يدخل البصرَ في معنى الختم. وذلك هو المعروف في كلام العرب، فلم يَجُزْ لنا، ولا لأحدٍ من الناس، القراءةُ بنصب الغِشاوة، لما وصفتُ من العلّتين اللتين ذكرت, وإن كان لنَصْبها مخرجٌ معروفٌ في العربية.

وبما قلنا في ذلك من القولِ والتأويلِ, رُوي الخبر عن ابن عباس:

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي الحسين بن الحسن, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، والغشاوة على أبصارهم .

فإن قال قائل: وما وجهُ مخرج النَّصْب فيها؟

قيل له: أن تنصبها بإضمار « جعل » ، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غِشَاوةً، ثم أسقط « جعل » ، إذْ كان في أول الكلام ما يدُلّ عليه. وقد يحتمل نَصبُها على إتباعهِا موضعَ السمع، إذ كان موضعه نصبًا, وإن لم يكن حَسَنًا إعادةُ العامل فيه على « غشاوة » ، ولكن على إتباع الكلام بعضِه بعضًا, كما قال تعالى ذكره: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ، ثم قال: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ ، [ سورة الواقعة: 17- 22 ] ، فخفَضَ اللحمَ والحورَ على العطف به على الفاكهة، إتباعًا لآخر الكلام أوّلَه. ومعلومٌ أن اللحمَ لا يطاف به ولا بالحور العين, ولكن كما قال الشاعر يصف فرسه:

عَلَفْتُهَـــا تِبْنًــا ومَــاء بــارِدًا حَــتَّى شَــتَتْ هَمَّالَــةً عَيْنَاهَــا

ومعلومٌ أن الماء يُشرَب ولا يعلف به, ولكنه نَصب ذلك على ما وصفتُ قبلُ، وكما قال الآخر:

ورأَيْــتُ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا ورُمْحَـــا

وكان ابن جُريج يقول - في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله وَعَلَى سَمْعِهِمْ ، وابتداءِ الخبر بعده - بمثل الذي قلنا فيه, ويتأوّل فيه من كتاب الله فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [ سورة الشورى: 24 ] .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: حدثنا ابن جُريج، قال: الختمُ على القلب والسمع, والغشاوة على البَصَر, قال الله تعالى ذكره: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ، وقال: وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [ سورة الجاثية: 23 ] .

والغشاوة في كلام العرب: الغطاءُ، ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:

تَبِعْتُــكَ إذْ عَيْنــي عَلَيْهَـا غِشَـاوَةٌ فَلَمَّـا انْجَـلَتْ قَطعْـتُ نَفْسِـي أَلُومُهَا

ومنه يقال: تغشَّاه الهم: إذا تجلَّله وركبه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:

هَـلا سَـأَلْتِ بَنِـي ذُبيَـان مَا حَسَبي إذَا الدُّخـانُ تَغَشَّـى الأشـمَط البَرَمَـا

يعني بذلك: تجلّله وَخالطه.

وإنما أخبر الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الذين كفروا به من أحبار اليهود, أنه قد خَتَم على قلوبهم وطَبَع عليها - فلا يعقلون لله تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها، فيما آتاهم من علم ما عندهم من كُتبِه, وفيما حدَّد في كتابه الذي أوحاه وأنـزله إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم - وعلى سمعهم، فلا يسمَعُون من محمد صلى الله عليه وسلم نبيِّ الله تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجةً أقامها عليهم بنبوَّته, فيتذكُروا ويحذروا عقاب الله عز وجلّ في تكذيبهم إياه, مع علمهم بصدقه وصحّة أمره. وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يُبصروا سبيل الهُدَى، فيعلموا قُبْحَ ما هم عليه من الضلالة والرَّدَى.

وبنحو ما قلنا في ذلك، رُوي الخبر عن جماعة من أهل التأويل:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ، أيْ عن الهدى أن يُصيبوه أبدًا بغير ما كذبوك به من الحقّ الذي جاءك من ربِّك, حتى يؤمنوا به, وإن آمنوا بكل ما كان قبلك .

حدثني موسى بن هارون الهمداني, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ يقول: فلا يعقلون ولا يَسْمعون. ويقول: « وجَعل على أبصارهم غشاوة » يقول: على أعينهم فلا يُبصرون .

وأما آخرون، فإنهم كانوا يتأولون أنّ الذين أخبر الله عنهم من الكفّار أنه فعل ذلك بهم، هم قادة الأحزاب الذين قتلوا يوم بدر.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: هاتان الآيتان إلى وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هم الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [ سورة إبراهيم: 28 ] ، وهمُ الذين قُتلوا يوم بدر، فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان بن حَرْب, والحَكَم بن أبي العاص .

وحدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, عن الحسن, قال: أما القادةُ فليس فيهم مُجيبٌ ولا ناجٍ ولا مُهْتَدٍ.

وقد دللنا فيما مضى على أوْلى هذين التأويلين بالصواب، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 7 )

وتأويلُ ذلك عندي، كما قاله ابن عباس وتأوّله:

حدثنا ابنُ حميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال: فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )

قال أبو جعفر: أما قوله: « ومن الناس » ، فإن في « الناس » وجهين:

أحدهما: أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه, وإنما واحدهم « إنسانٌ » ، وواحدتهم « إنسانة » .

والوجه الآخر: أن يكون أصله « أُناس » أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها, ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان, فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون, كما قيل في لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [ سورة الكهف: 38 ] ، على ما قد بينا في « اسم الله » الذي هو الله . وقد زعم بعضهم أن « الناس » لغة غير « أناس » , وأنه سمع العرب تصغرهُ « نُوَيْس » من الناس, وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير: أُنَيس, فرُدَّ إلى أصله.

وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نـزلت في قوم من أهلِ النِّفاق, وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم.

وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب, غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .

حدثنا الحسين بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا مَعْمَر, عن قتادة في قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، حتى بلغ: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ قال: هذه في المنافقين .

حدثنا محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح, عن مجاهد, قال: هذه الآية إلى ثلاث عشرة، في نَعت المنافقين.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثله.

316 حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله.

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) هم المنافقون.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس، في قوله: ( ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) إلى فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قال: هؤلاء أهلُ النفاق.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج، في قوله: ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) قال: هذا المنافقُ، يخالِفُ قولُه فعلَه، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه، ومشهدُه مغيبَه .

وتأويل ذلك: أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمرَهُ في دار هجرته، واستَقرَّ بها قرارُه، وأظهرَ الله بها كلمتَه, وفشا في دور أهلها الإسلام, وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان, وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضَّغائن، وأبدوا له العداوة والشنآنَ، حسدًا وَبغيًا ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا, كما قال جل ثناؤه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [ سورة البقرة: 109 ] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَبغْيِهم الغوائِل، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَصَروه - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم قد سُمُّوا لنا بأسمائهم, كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ، حذارَ القتل على أنفسهم، والسِّباءِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حِذارًا على أنفسهم- : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث, وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فخلَوْا بهم قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: آمنّا بالله- : وصدّقنا بالله .

وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان: التصديق، فيما مضى قبل من كتابنا هذا .

وقوله: ( وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، يعني: بالبعث يوم القيامة، وإنما سُمّى يومُ القيامة « اليومَ الآخر » ، لأنه آخر يوم, لا يومَ بعده سواه.

فإن قال قائل: وكيف لا يكون بعده يوم, ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء, ولا زوال؟

قيل: إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله, فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة, فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه « اليوم الآخر » , ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم، لأنه لا ليل بعده .

وأما تأويل قوله: « وما هم بمؤمنين » ، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان, وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث, وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم, وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم.

وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ: من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق، أنهم قالوا بألسنتهم: « آمنا بالله وباليوم الآخر » ، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين, إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك.

وقوله « وما هم بمؤمنين » ، يعني بمصدِّقين « فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون. »

 

القول في تأويل جل ثناؤه: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا

قال أبو جعفر: وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ، إظهارُه بلسانه من القول والتصديق، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب، ليدْرَأ عن نفسه، بما أظهر بلسانه، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.

فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً؟

قيل: لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف, فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل, وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها، أنه يُعطيها أمنيَّتها، وُيسقيها كأسَ سُرورها, وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها, ومجَرِّعها به كأس عَذابها, ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به . فذلك خديعَتُه نفسه، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن, كما قال جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين, ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، كان ابن زيد يقول.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية, قال: هؤلاء المنافِقُون، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا, أنهم مؤمنون بما أظهروا .

وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين: أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا, بعد علمه بوحدانيته, وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون, وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه، واعتقاد الكفر به, وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون, وهم على الكفر مُصِرُّون.

فإن قال لنا قائل: قد علمت أن « المُفاعلة » لا تكون إلا من فاعلَيْن, كقولك: ضاربتُ أخاك, وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما، فإنما يقال: ضربتُ أخاك، وجلست إلى أبيك, فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه: خادع الله والمؤمنين؟

قيل: قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني « يُخَادِع » بصورة « يُفَاعل » ، وهو بمعنى « يَفْعَل » ، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب, نظيرَ قولهم: قاتَلك الله, بمعنى قَتَلك الله.

وليس القول في ذلك عندي كالذي قال, بل ذلك من « التفاعل » الذي لا يكون إلا من اثنين، كسائر ما يُعرف من معنى « يفاعل ومُفاعل » في كل كلام العرب. وذلك: أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه, كالذي أخبر في قوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [ سورة الحديد: 13 ] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ « يُفاعِل ومُفاعل » . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين, ولكنه إنما قيل: « يُخادِعون الله » عند أنفسهم، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا, فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضُهم: وَمَا يَخْدَعُونَ يقول: يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ

إن قال قائل: أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم، وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟

قيل: خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين . كما أنَّا لو قلنا: قتل فلان فلانًا, أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين, ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم, كما قال جل ثناؤه, دون غيرها, نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه: قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه, فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه, وتنفي عنه قتلَه صاحبَه, وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: « خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه » ، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين, وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم, لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم, وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم, ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة, والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه, والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ, بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع، استدراجًا، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه, ولا عارف باطِّلاعه على ضميره, وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه، تركه معاقبته على جرمه ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه، بكثرة إساءته، وطولِ عِصيانه إياه، وكثرة صفح المستدرِج، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ فإنما هو خادع نفسه لا شك، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه, إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.

وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به, وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) دون ( وما يخادعون ) لأن لفظ « المخادع » غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة, ولفظ « خادع » موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه, فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) .

ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ: ( وَمَا يَخْدَعُونَ ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ: ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية, فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه, لأن ذلك تضادٌّ في المعنى, وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.

 

القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَمَا يَشْعُرُونَ ( 9 )

يعني بقوله جل ثناؤه « وما يَشعرون » ، وما يَدْرُون. يقال: ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر, وهو لا يشعر به - إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم- شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر:

عَقَّـوْا بِسَـهمٍ وَلَـمْ يَشْـعُر بِـهِ أَحَـدٌ ثُـمَّ اسْـتَفَاءُوا وَقَـالُوا: حَـبَّذَا الوَضَحُ

يعني بقوله: لم يَشعر به، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين: أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة, ومنهم لأنفسهم خديعةٌ, ولها في الآجل مَضرة. كالذي- :

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت ابن زيد عن قوله: ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، قال: ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ، قال: هم المنافقون حتى بلغ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ [ سورة المجادلة: 18 ] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

قال أبو جعفر: وأصل المرَض: السَّقم, ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد - استغنى بالخبَر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم كما قال عُمر بن لَجَأ:

وَسَـــبَّحَتِ الْمَدِينَــةُ, لا تَلُمْهَــا, رَأَتْ قَمَـــرًا بِسُـــوقِهِمُ نَهَــارَا

يريد: وسبَّح أهل المدينة، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي:

هَـلا سَـأَلتِ الْخَـيْلَ يَـا ابْنَـةَ مَالِكٍ? إنْ كُــنْتِ جَاهِلَـةً بِمَـا لَـمْ تَعْلَمِـي

يريد: هلا سألتِ أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم: « يا خَيْلَ الله اركبي » , يراد: يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.

فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.

والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه, فلا هم به موقنون إيقان إيمان, ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك، ولكنهم، كما وصفهم الله عز وجل، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما يقال: فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر, أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « في قلوبهم مرضٌ » ، أي شكٌّ.

وحدِّثت عن المِنْجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: المرض: النفاق.

حُدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « في قلوبهم مرضٌ » يقول: في قلوبهم شكّ.

حُدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « في قلوبهم مَرَضٌ » ، قال: هذا مرض في الدِّين، وليس مَرَضًا في الأجساد، قال: وهم المنافقون.

حدثني المثنَّى بن إبراهيم، قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, قال: أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة، في قوله « في قلوبهم مَرَض » قال: في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.

وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « في قلوبهم مَرَضٌ » قال: هؤلاء أهلُ النفاق, والمرضُ الذي في قلوبهم: الشك في أمر الله تعالى ذكره.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ حتى بلغ ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال: المرض: الشكّ الذي دخلهم في الإسلام .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا

قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.

فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة, فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنـزيله: وَإِذَا مَا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [ سورة التوبة: 124، 125 ] . فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.

ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: شكًّا.

حدثني موسى بن هارون, قال: أخبرنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فزادَهُم الله مَرَضًا » ، يقول: فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, قال: أخبرتا ابن المبارك قراءةً، عن سعيد، عن قتادة: « فزادهم الله مرضًا » ، يقول: فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله: « في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: زادهم رِجْسًا، وقرأ قول الله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ قال: شرًّا إلى شرِّهم, وضلالةً إلى ضلالتهم.

وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فزادهم الله مَرَضًا » ، قال: زادهم الله شكًّا .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

قال أبو جعفر: والأليم: هو المُوجعُ. ومعناه: ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ « مؤلم » إلى « أليم » ، كما يقال: ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع, والله بَديع السموات والأرض، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:

أَمِــنْ رَيْحَانَــةَ الــدَّاعي السَّـمِيعُ يُـــؤَرِّقنُي وأَصْحَــابِي هُجُــوعُ

بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة:

وَتَــرْفَعُ مِــنْ صُـدُورِ شَـمَرْدَلاتٍ يَصُــدُّ وُجُوهَهَــا وَهَــجُ أَلِيــمُ

ويروى « يَصُكُّ » , وإنما الأليم صفةٌ للعذاب, كأنه قال: ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم, والألم: الوَجَعُ. كما- :

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع, قال: الأليم، المُوجع.

حدثنا يعقوب, قال: حدثنا هُشيم, قال: أخبرنا جُوَيْبر, عن الضحاك قال: الأليمُ, الموجع .

وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشْر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك في قوله « أليم » ، قال: هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )

اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك فقرأه بعضهم: ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء, وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون: « يُكَذِّبُونَ » بضم الياء وتشديد الذال, وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة .

وكأنّ الذين قرءوا ذلك، بتشديد الذال وضم الياء، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب, فكيف بالأليم منه؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك: أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين, فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بذلك من قيلهم، مع استسرارهم الشكَّ والريبة, وَمَا يَخْدَعُونَ بصنيعهم ذلك إِلا أَنْفُسَهُمْ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ وَمَا يَشْعُرُونَ بموضع خديعتهم أنفسَهم، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم، فِي قُلُوبِهِمْ شك النفاق وريبَتُه والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم, دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنـزيله بذلك نـزل، وهو: أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم, ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.

فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا, وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب, وذلك قولُ الله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سورة المنافقون: 1، 2 ] . والآية الأخرى في المجادلة: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [ سورة المجادلة: 16 ] . فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة: « ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون » لكانت القراءةُ في السورة الأخرى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لمكذِّبون, ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة: « بما كانوا يَكْذِبون » بمعنى الكذِب, وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.

وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن « ما » من قول الله تبارك اسمه « بما كانوا يكذبون » ، اسم للمصدر, كما أنّ « أنْ » و « الفعل » اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تَأتيني, وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال: وأدخل « كان » ليخبر أنه كان فيما مضى, كما يقال: ما أحسن ما كان عبدُ الله، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه, وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه، ويقول: إنما ألغِيَت « كان » في التعجُّب، لأن الفعل قد تقدَّمها, فكأنه قال: « حَسَنًا كان زيد » و « حَسَن كان زَيْدٌ » يُبْطِلُ « كان » , ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء، إذا جاءت قبل « كان » ، ووقعت « كان » بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ « فعل » و « يفعل » اللتين لا يظهرُ عمل « كان » فيهما. ألا ترى أنك تقول: « يقوم كان زيد » , ولا يظهر عمل « كان » في « يقوم » , وكذلك « قام كان زيد » . فلذلك أبطل عملها مع « فاعل » تمثيلا بـ « فعل » و « يفعل » , وأعملت مع « فاعل » أحيانًا لأنه اسم، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت « كان » الأسماءَ والأفعالَ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها, فخطأ عنده أن تكون « كان » مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه, وتأوّل قول الله عز وجل « بما كانوا يكذبون » أنه بمعنى: الذي يكذبونه.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ

اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية:

فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعدُ.

حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عَثَّامُ بن علي, قال: حدثنا الأعمش, قال: سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث، عن عَبَّاد بن عبد الله, عن سَلْمان, قال: ما جاء هؤلاء بعدُ, الَّذين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) .

حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم, قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك, قال: حدثني أبي, قال: حدثني الأعمش, عن زيد بن وَهب وغيره, عن سَلْمان، أنه قال في هذه الآية: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، قال: ما جاء هؤلاء بعدُ .

وقال آخرون بما- :

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حمّاد, قال: حدثنا أسْباط , عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، هم المنافقون. أما « لا تفسدوا في الأرض » ، فإن الفساد، هو الكفر والعملُ بالمعصية.

وحدِّثت عن عمّار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الرَّبيع: ( وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض ) يقول: لا تعْصُوا في الأرض قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، قال: فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه, لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته، فقد أفسدَ في الأرض, لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة .

وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قولَ الله تبارك اسمه: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، نـزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.

وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية: « ما جاء هؤلاء بعدُ » ، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ.

وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا, لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين, وأنّ هذه الآيات فيهم نَـزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.

والإفساد في الأرض، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه, وتضييعُ ما أمر الله بحفظه، فذلك جملة الإفساد, كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [ سورة البقرة: 30 ] ، يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق: مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم, وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه, وتضييعِهم فرائضَه، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله, وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه, ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره، والأليمَ من عذابه، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم, فقال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ . وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين: إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه.

 

القول في تأويل قوله ثناؤه: قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 )

وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس, الذي- :

حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، أي قالوا: إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.

وخالفه في ذلك غيره.

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجّاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ، قال: إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا, قالوا: إنما نحن على الهدى، مصلحون .

قال أبو جعفر: وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ، أو في أديانهم, وفيما ركبوا من معصية الله, وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين, وهم عند الله مُسيئون, ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين, وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم, وشكُّهم في نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد, وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى: في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود, فقال جل ثناؤه فيهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض، وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )

وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به, ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه، قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون, ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال: ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل, المتعدُّون حُدُودَه، الراكبون معصيتَه, التاركُون فروضَه، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين.

 

القول في تأويل قول الله جل ثناؤه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) يعني: وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله، كما صدق به الناس. ويعني بـِ « الناس » : المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما- :

حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) ، يقول: وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد, قولوا: إنَّه نبيٌّ ورسول, وإنّ ما أنـزل عليه حقّ, وصدِّقوا بالآخرة, وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت .

وإنما أدخِلت الألف واللام في « الناس » ، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم، وإنما معناه: آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه، كما أدخِلَتا في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [ سورة آل عمران: 173 ] ، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ

قال أبو جعفر: والسفهاء جمع سَفِيه, كما العلماء جمع عليم ، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه: الجاهل، الضعيفُ الرأي, القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء, فقال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [ سورة النساء: 5 ] ، فقال عامة أهل التأويل: هم النساء والصبيان، لضعف آرائهم, وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال.

وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم: أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من عند الله, والإقرار بالبعث فقيل لهم: آمنوا كما آمن [ الناس ] - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به، من أهل الإيمان واليقين، والتصديقِ بالله، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم: أنؤمن كما آمَن أهل الجهل، ونصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام؟ كالذي- :

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) ، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنّى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: « قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء » ، قال: هذا قول المنافقين, يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يقولون: أنقول كما تقولُ السفهاء؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم, لخِلافهم لدينهم .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )

قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم, الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريْب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوته, وفيما جاء به من عند الله, وأمر البعث, لإساءَتهم إلى أنفسهم بما أتَوْا من ذلك وهم يحسبون أنَّهم إليها يُحْسِنون. وذلك هو عَيْنُ السَّفه, لأن السفيه إنما يُفسد من حيث يرى أنه يُصلحُ، ويُضيع من حيث يَرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق: يَعصي رَبَّه من حيث يرى أنه يطيعُه, ويكفرُ به من حيث يرى أنه يُؤمن به, ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يُحسن إليها, كما وصفهم به ربنا جلّ ذكره، فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ، وقال: ( ألا إنهم هم السفهاء ) - دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه، وبرسوله وثوابه وعقابه - ( ولكن لا يعلمون ) . وكذلك كان ابن عباس يتأول هذه الآية.

حدثنا أبو كُريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس يقول الله جل ثناؤه: ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ) ، يقول: الجهال, ( ولكن لا يعلمون ) ، يقول: ولكن لا يعقلون .

وأما وَجْهُ دخول الألف واللام في « السُّفهاء » ، فشبيه بوجه دخولهما في النَّاسُ في قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ، وقد بيَّنا العلة في دخولهما هنالك, والعلةُ في دخولهما في « السفهاء » نظيرتها في دخولهما في النَّاسُ هنالك، سواء.

والدلالةُ التي تدل عليه هذه الآية من خطأ قول من زعم أن العقوبةَ من الله لا يستحقّها إلا المعاند ربَّه، بعد علمه بصحة ما عانده فيه - نظيرُ دلالة الآيات الأخَر التي قد تقدم ذكرنا تأويلَها في قوله وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ، ونظائر ذلك .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ

قال أبو جعفر: وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جلّ ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسولَه والمؤمنين, فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ . ثم أكْذَبهم تعالى ذكره بقوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، وأنهم بقيلهم ذلك يخُادعون الله والذين آمنوا. وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدِّقين بالله وكتابه ورسوله- بألسنتهم: آمنا وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله, خِداعًا عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم, ودرءًا لهم عنها, وأنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم وأهل العُتُوّ والشر والخُبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكُفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطينَ كل شيء مَرَدَتُه - قالوا لهم: « إنا معكم » ، أي إنا معكم على دينكم, وظُهراؤكم على من خالفكُم فيه, وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه، كالذي- :

حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بِشْر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ) ، قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم, قالوا: إنا على دينكم. وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم، قالوا: ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) قال: إذا خلوا إلى شياطينهم من يهودَ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم, فهم رءوسهم في الكُفر.

حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْع, عن سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشرّ قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ .

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: المشركون.

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفّار.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل بن عبّاد, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: أصحابِهم من المنافقين والمشركين.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال: إخوانهم من المشركين, « قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ » .

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال: إذا أصاب المؤمنين رخاءٌ قالوا: إنا نحن معكم، إنما نحن إخوانكم, وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: وقال مجاهد: شياطينُهم: أصحابُهم من المنافقين والمشركين .

فإن قال لنا قائل: أرأيتَ قولَه ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل: ( خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خَلَوْا بشياطينهم؟ فقد علمتَ أنّ الجاريَ بين الناس في كلامهم: « خلوتُ بفلان » أكثر وأفشَى من: « خلوتُ إلى فلان » ؛ ومن قولك: إن القرآن أفصح البيان!

قيل: قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب. فكان بعض نحويِّي البصرة يقول: يقال « خلوتُ إلى فلان » إذا أريدَ به: خلوتُ إليه في حاجة خاصة. لا يحتَمِل - إذا قيل كذلك- إلا الخلاءَ إليه في قضاء الحاجة. فأما إذا قيل: « خلوت به » احتمل معنيين: أحدهما الخلاء به في الحاجة, والآخَر في السخرية به. فعلى هذا القول، ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) ، لا شكّ أفصحُ منه لو قيل « وإذا خلوا بشياطينهم » ، لما في قول القائل: « إذا خلوا بشياطينهم » من التباس المعنى على سامعيه، الذي هو مُنتفٍ عن قوله: « وإذا خلوا إلى شياطينهم » . فهذا أحد الأقوال.

والقول الآخر: فأن تُوَجِّه معنى قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، « وإذا خلوا مع شياطينهم » , إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ سورة الصف: 14 ] ، يريد: مع الله. وكما توضع « على » في موضع « من » ، و « في » و « عن » و « الباء » , كما قال الشاعر:

إِذَا رَضِيَــتْ عَــلَيَّ بَنُــو قُشَـيْرٍ لَعَمْــرُ اللــهِ أَعْجَــبَنِي رِضَاهَـا

بمعنى عَنِّي.

وأما بعض نحويي أهل الكوفة، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى: وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ « إلى » ، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ: من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم, لا قوله « خَلَوْا » . وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع « إلى » غيرُها، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.

وهذا القول عندي أولى بالصواب, لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ « إلى » في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( 14 )

أجمع أهل التأويل جميعًا - لا خلاف بينهم- على أن معنى قوله: ( إنما نحن مستهزئون ) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا: وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا: إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه, إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بقيلنا لهم إذا لقيناهم: آمَنَّا بالله وباليوم الآخر كما- :

حدثنا محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: قالوا: ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم.

حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: ( إنما نحن مستهزئون ) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع: ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ

قال أبو جعفر: اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم: استهزاؤه بهم، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى [ سورة الحديد: 13، 14 ] . الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [ سورة آل عمران: 178 ] . فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول، ومتأوّلي هذا التأويل.

وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به, كما يقال: « إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم، ويُسخر منه » ، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له, أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم ، كما قال عَبِيد بن الأبرص:

سَـائِلْ بِنَـا حُجْـرَ ابْـنَ أُمِّ قَطَـامِ, إذْ ظَلَّـتْ بِـهِ السُّـمْرُ النَّـوَاهِلُ تَلْعَـبُ

فزعموا أن السُّمر - وهي القَنَا- لا لعب منها, ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا: فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به: إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً, أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا: وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.

وقال آخرون قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ سورة النساء: 142 ] على الجواب, كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به: « أنا الذي خدعتُك » ، ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا: وكذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ سورة آل عمران: 54 ] ، و « الله يستهزئ بهم » ، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.

وقال آخرون: قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ، وقوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [ سورة النساء: 142 ] ، وقوله: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [ سورة التوبة: 79 ] ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ سورة التوبة: 67 ] ، وما أشبه ذلك, إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء, ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ سورة الشورى: 40 ] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية, وأن الأخرى عَدلٌ، لأنها من الله جزاءٌ للعاصي على المعصية، فهما - وإن اتفق لفظاهما- مختلفا المعنى. وكذلك قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [ سورة البقرة: 194 ] ، فالعدوان الأول ظلم, والثاني جزاءٌ لا ظلم, بل هو عدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول.

وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ, وما أشبه ذلك.

وقال آخرون: إنّ معنى ذلك: أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم: صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون: إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء، فأخبر الله أنه « يستهزئ بهم » ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة, كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.

والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه ظاهرًا، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.

فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام ، وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين - أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك، بضمائر قلوبِهم، وصحائح عزائمهم، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم, واطلاعِه على خُبث اعتقادهم، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقِه بينهم وبينهم - معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده, حتى ميز بينهم وبين أوليائه، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم- بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم: من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء, وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميَّز بينهم وبينهم- مستهزئًا، وبهم ساخرًا، ولهم خادعًا، وبهم ماكرًا . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل, دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم، أو عليه فيها غير عادل, بل ذلك معناه في كل أحواله، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.

وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس:

حدثنا أبو كُريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ » ، قال: يسخر بهم للنقمة منهم .

وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ « ، إنما هو على وجه الجواب, وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به, أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم, ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. »

ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم, وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم, وعن آخرين أنه أغرقهم, فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك, ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه، بزعمك: أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به, ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به؟

ثم نعكس القول عليه في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.

فإن لجأ إلى أن يقول: إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ, وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.

قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء, أفلست تقول: « الله يستهزئ بهم » ، و « سَخِر الله منهم » و « مكر الله بهم » , وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية؟

فإن قال: « لا » ، كذَّب بالقرآن، وخرج عن ملة الإسلام.

وإن قال: « بلى » , قيل له: أفنقول من الوجه الذي قلت: « الله يستهزئ بهم » و « سخر الله منهم » - « يلعب الله بهم » و « يعبث » - ولا لعبَ من الله ولا عبث؟

فإن قال: « نعم » ! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه، وعلى تخطئة واصفه به, وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.

وإن قال: لا أقول: « يلعب الله بهم » ولا « يعبث » , وقد أقول « يستهزئ بهم » و « يسخر منهم » .

قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث, والهزء والسخرية, والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.

وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيَمُدُّهُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ويمدهم ) ، فقال بعضهم بما- :

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يَمُدُّهُمْ » ، يملي لهم.

وقال آخرون بما- :

حدثني به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر, عن ابن المبارك , عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد: « يمدّهم » ، قال: يزيدُهم .

وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى: يَمُدُّ لَهُم, ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب: الغلامُ يلعَب الكِعَابَ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون: « قد مَددت له وأمددتُ له » في غير هذا المعنى, وهو قول الله تعالى ذكره: وَأَمْدَدْنَاهُمْ [ سورة الطور: 22 ] ، وهذا من: « مددناهم » . قال: ويقال: قد « مَدَّ البحر فهو مادٌّ » و « أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ » . وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو « مدَدْت » , وما كان من الخير فهو « أمْدَدت » . ثم قال: وهو كما فسرت لك، إذا أردت أنك تركته فهو « مَدَدت له » ، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: « أمْددت » .

وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو « مَدَدت » بغير ألف, كما تقول: « مدَّ النهر, ومدَّه نهرٌ آخر غيره » ، إذا اتصل به فصار منه، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف, كقولك: « أمدَّ الجرحُ » , لأن المدّة من غير الجرح, وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ.

وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: « وَيَمُدُّهُمْ » : أن يكون بمعنى يزيدهم, على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم, كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سورة الأنعام: 110 ] ، يعني نذرُهم ونتركهم فيه، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم.

ولا وجه لقول من قال: ذلك بمعنى « يَمُدُّ لهم » ، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل: « مدَّ النهرَ نهرٌ آخر » , بمعنى: اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه: مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله: ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )

 

القول في تأويل قوله : فِي طُغْيَانِهِمْ

قال أبو جعفر: و « الطُّغيان » « الفُعْلان » , من قولك: « طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا » . إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله: كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ سورة العلق: 6، 7 ] ، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت:

وَدَعَــا اللــهَ دَعْــوَةً لاتَ هَنَّــا بَعْــدَ طُغْيَانِــه, فَظَــلَّ مُشِــيرَا

وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ) ، أنه يُملي لهم، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما- :

حُدِّثت عن المِنْجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال: في كفرهم يترددون.

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « في طُغيانهم » ، في كفرهم.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، أي في ضلالتهم يعمهون.

حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « في طغيانهم » ، في ضلالتهم.

وحدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله « في طغيانهم » ، قال: طغيانهم , كفرهم وضلالتهم .

 

القول في تأويل قوله: يَعْمَهُونَ ( 15 )

قال أبو جعفر: والعَمَهُ نفسُه: الضَّلال. يقال منه: عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا، إذا ضل . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه:

وَمَخْـــفَقِ مِــن لُهْلُــهٍ وَلُهْلُــهِ مِــنْ مَهْمَــهٍ يَجْتَبْنَـهُ فِـي مَهْمَـهِ

أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ

و « العُمَّه » جمع عامِهٍ, وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه، وعلاهم رِجْسُه, يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها, فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها, فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا.

وبنحو ما قلنا في « العَمَه » جاء تأويل المتأولين.

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يَعْمَهُون » ، يتمادَوْن في كفرهم.

وحدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يَعْمَهُونَ » ، قال: يتمادَوْن.

حدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: « يَعْمَهُونَ » ، قال: يتردَّدون.

وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, قال: قال ابن عباس: « يَعْمَهُونَ » : المتلدِّد .

حدثنا محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال حدثنا ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال: يترددون.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى, قال: حدثنا سُوَيْد بن نصر، عن ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة، عن مجاهد، مثله.

حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، « يَعْمَهُونَ » ، قال: يترددون .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى

قال أبو جعفر: إن قال قائل: وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى, وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم: اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه, والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فنذكر ما قالوا فيه, ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، أي الكفرَ بالإيمان.

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، يقول: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، آمنوا ثم كفروا.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذَيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد مثله .

قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك: « أخذوا الضلالة وتركوا الهدى » - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به, فقالوا: كذلك المنافق والكافر، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ, فكان ذلك منهما شراءً للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى, وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.

وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله « اشْتَرَوْا » : « استحبُّوا » , فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى, فقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [ سورة فصلت: 17 ] ، صرفوا قوله: ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) إلى ذلك. وقالوا: قد تدخل « الباء » مكان « على » , و « على » مكان « الباء » , كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد, وكقول الله جل ثناؤه: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [ سورة آل عمران: 75 ] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه « اشْتَرَوا » إلى معنى اختاروا، لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا, واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.

ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة

فَقَــدْ أُخْــرِجُ الكَــاعِبَ الْمُسْـتَرَا ةَ مِــنْ خِدْرِهَــا وَأُشِــيعَ الْقِمَـارَ

يعني بالمستراة: المختارة.

وقال ذو الرُّمة، في الاشتراء بمعنى الاختيار:

يَـذُبُّ الْقَصَايَـا عَـنْ شَـرَاةٍ كَأَنَّهَـا جَمَـاهِيرُ تَحْـتَ الْمُدْجِنَـاتِ الْهَوَاضِبِ

يعني بالشَّراة: المختارة.

وقال آخر في مثل ذلك:

إِنَّ الشَّـــرَاةَ رُوقَـــةُ الأَمْــوَالِ وَحَــزْرَةُ الْقَلْــبِ خِيَــارُ الْمَـالِ

قال أبو جعفر: وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ، فدل بذلك على أن معنى قوله ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذِ عِوَض على عوض.

وأما الذين قالوا: إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا, فإنه لا مؤونة عليهم، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك، فقد تركوا الإيمان, واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع, ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان، ولا دخلوا في ملّة الإسلام, أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم، إلى أن أتى على صفتهم، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم: بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين, وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟

فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله: « أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى » هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر, فلذلك قيل لهم « اشتروا » - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له, إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره, وقد يكون بمعنى الاختيار، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ، إلا بحجة يجب التسليم لها.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ سورة البقرة: 108 ] ؟ وذلك هو معنى الشراء, لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق , فأضلهما الله، وسلبهما نورَ الهدى، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون.

 

القول في تأويل قوله : فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالةَ بالهدى- خسروا ولم يربحوا, لأن الرابح من التجّار: المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به ، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن, واستبدلا في العاجل: بالرَّشاد الحيرة, وبالهُدى الضلالةَ, وبالحفظ الخوفَ, وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب, فخابا وخَسِرا, ذلك هو الخسران المبين.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة, ومن الجماعة إلى الفُرقة, ومن الأمن إلى الخوف, ومن السُّنة إلى البدعة .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس، فيقال: رَبِحت أو وُضِعَت ؟

قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا، وبيانهم المستعمل بينهم . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيُك، ونام ليلُك, وخسِر بيعُك, ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام، فقال: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك، عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم, وإنْ كان ذلك معناه, كما قال الشاعر:

وشَــرُّ الْمَنَايَـا مَيِّـتٌ وَسْـطَ أَهْلِـهِ كَـهُلْكِ الْفَتَـاةِ أَسْـلَمَ الْحَـيَّ حَـاضِرُهُ

يعني بذلك: وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك، عن إظهار ما ترك إظهارَه، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج:

حَـارِثُ! قَـدْ فَرَّجْـتَ عَنِّـي هَمِّـي فَنَـــامَ لَيْــلِي وَتَجَــلَّى غَمِّــي

فوَصف بالنوم الليل, ومعناه أنه هو الذي نام، وكما قال جرير بن الخَطَفَى:

وَأَعْــوَرَ مـن نَبْهَـانَ أَمَّـا نَهَـارُهُ فَــأَعْمَى, وَأَمَّــا لَيْلُــهُ فَبَصِــيرُ

فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار, ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.

 

القول في تأويل قوله: وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )

يعني بقوله جل ثناؤه ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى, واستبدالهم الكفرَ بالإيمان, واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.

 

القول في تأويل قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ( 17 )

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، وقد علمتَ أن « الهاء والميم » من قوله « مثلهم » كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و « الذي » دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأنّ هؤلاء, أو كأنّ أجسامَ هؤلاء, نخلةٌ؟

قيل: أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ, وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ سورة الأحزاب: 19 ] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ سورة لقمان: 28 ] بمعنى: إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.

وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل, فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.

فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد, فإنما جاز، لأن المرادَ من الخبر عن مَثَل المنافقين، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة, وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.

وتأويل ذلك: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا, كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثَلُ إليهم, كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:

وَكَــيْفَ تُــوَاصِل مـن أَصْبَحَـتْ خِلالَتُــــهُ كَـــأَبِي مَرْحَـــبِ

يريد: كخلالة أبي مَرْحب, فأسقط « خلالة » , إذ كان فيما أظهرَ من الكلام، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا، جاز وحَسُنَ قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد, إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.

وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة، والواحدُ بالواحد, لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.

ولذلك من المعنى، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد, ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب, ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب, - وأنت تعني: إلا كفعل الكلب, وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول: ما هم إلا نخلة, وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.

وأما قوله: ( اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، فإنه في تأويل: أوقدَ، كما قال الشاعر:

وَدَاعٍ دَعَـا: يَـا مَـنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَــمْ يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ

يريد: فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا: مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنَّا بالله وباليوم الآخر، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به, وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره، حتى أضاءت له النارُ ما حوله, يعني: ما حول المستوقِدِ.

وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة: أن « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [ سورة الزمر: 33 ] ، وكما قال الشاعر:

فَــإِنَّ الَّـذِي حَـانَتْ بِفَلْـجٍ دِمَـاؤُهُمْ هُـمُ الْقَـوْمُ كُـلُّ الْقَـوْمِ يَـا أُمَّ خَـالِدِ

قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل ذلك فرقَ ما بين « الذي » في الآيتين وفي البيت. لأن « الذي » في قوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ ، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع, وهو قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، وكذلك « الذي » في البيت, وهو قوله « دماؤهم » . وليست هذه الدلالة في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » . فذلك فَرْق ما بين « الذي » في قوله: « كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا » ، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى « الذي » في قوله: « كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا » بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.

ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال:

أحدها- ما:

حدثنا به محمد بن حُميد, قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي يُبصرون الحق ويقولون به, حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر- ما:

حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء, فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه. ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول: في عذاب.

والثالث: ما-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي, فبينا هو كذلك، إذ طَفِئَت ناره، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلالَ من الحرام, والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذْ كفَر, فصار لا يعرف الحلال من الحرام, ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر: ما-

حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله: ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُـزع منهم، فعتَوْا بعد ذلك.

وقال آخرون: بما-

حدثني به بِشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، وإن المنافقَ تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكَح بها المسلمين، وَغازَى بها المسلمين ، ووارثَ بما المسلمين، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت، سُلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في علمه.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعْمَر, عن قتادة « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني أبو تُميلة, عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم، قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، قال: أما النّور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات, فهي ضلالتهم وكفرهم.

وقال آخرون بما:-

حدثني به محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: حدثنا ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا أبو حُذيفة, عن شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله » ، أما إضاءة النار، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.

حدثني القاسم, قال: حدثني الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال: « مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا » ، قال: إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها, فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له, فإذا شك وقع في الظلمة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا » إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك, وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرْك . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه: ( كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ, وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها, وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان : حالُ إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر, فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين, وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.

وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه, إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.

فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك, فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به, وقولهم له وللمؤمنين: آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر, حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حَقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السِّباء, وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ, حتى إذا ارتفق بضيائها، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة, خَمدت النارُ وانطفأت, فذهب نورُه, وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.

وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ, حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ سورة المجادلة: 18 ] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا : من الكذب والإفك، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال, واستهزاء بأنفسهم وخداع, إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون, كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له, فبقي في ظلمته حيران تائهًا، يقول الله جل ثناؤه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ سورة الحديد: 13- 15 ] .

فإن قال لنا قائل: إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله » : خَمدتْ وانطفأتْ, وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟

قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ, كما قال أبو ذؤيب الهذلي:

عَصَيْـتُ إليهَـا الْقَلْـبَ, إِنِّـي لأمرِهَا سَـمِيعٌ, فَمَـا أَدْرِي أَرُشْـدٌ طِلابهـا!

يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ, فحذف ذكر « أم غيٌّ » , إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:

فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ, أو حِـينَ, نصَّبتْ لَـهُ مِـن خَـذَا آذَانِهَـا وَهْـو جَـانح

يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: « كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله » ، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله: « ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون » دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.

وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه, نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لا يُبصر.

و « الهاء والميم » في قوله « ذهب الله بنورهم » ، عائدة على « الهاء والميم » في قوله « مَثَلهم » .

 

القول في تأويل قول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )

قال أبو جعفر: وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة, عند هتك أستارهم, وإظهاره فضائح أسرارهم, وسَلبه ضياءَ أنوارهم، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون, وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه: « صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون » من المؤخّر الذي معناه التقديم, وأنّ معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين, صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون, أو كمثل صَيِّب من السماء.

وإذْ كان ذلك معنى الكلام: فمعلومٌ أن قوله: « صُمٌّ بكمٌ عُميٌ » ، يأتيه الرفع من وجهين, والنصب من وجهين:

فأما أحدُ وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم, فتنصِب وتَرفع، وإن كان خبرًا عن معرفة, كما قال الشاعر:

لا يَبْعَــدَنْ قَــوْمِي الَّــذِينَ هُــمُ سَـــمُّ الْعُــدَاةِ وَآفَــةُ الْجُــزْرِ

النَّــــازِلِينَ بكـــلِّ مُعْـــتَرَكٍ وَالطَّيِّبِيـــــنَ مَعَــــاقِدَ الأُزْرِ

فيروي: « النازلون » و « النازلين » ، وكذلك « الطيِّبون » و « الطيِّبين » , على ما وصفتُ من المدح.

والوجهُ الآخر: على نية التكرير من أُولَئِكَ , فيكون المعني حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.

وأمَّا أحد وَجهي النصب: فأن يكون قَطعًا مما في مُهْتَدِينَ من ذكر أُولَئِكَ ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة, والصم نكرة.

والآخر: أن يكون قطعا من الَّذِينَ , لأن الَّذِينَ معرفة و « الصم » نكرة .

وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.

فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه, فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف.

وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم, والآخرُ: القطع من « الهاء والميم » اللتين في « تركهم » , أو من ذكرهم في لا يُبْصِرُونَ .

وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ، الرفعُ دُون النصب . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين, بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خِذلان الله عليهم, بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم: الخُرْسُ, وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « صمٌّ بكم عُميٌ » ، عن الخير.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عُمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « بكم » ، هم الخُرس.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، قوله « صم بكْم عُمْي » : صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه, عمي عن الحق فلا يبصرونه, بُكم عن الحق فلا ينطقون به .

 

القول في تأويل قوله : فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 18 )

قال أبو جعفر: وقوله « فهم لا يرجعون » ، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى, وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق, وَبكمَهم عن القيل بهما, وعَماهم عن إبصارهما - أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم, ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا, أو يقولوا حقًّا, أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى, أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم, كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.

وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « فهم لا يَرجعون » ، أي: لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فهم لا يَرْجعون » : فهم لا يرجعون إلى الإسلام.

وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:-

حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فهم لا يَرْجعون » ، أي: فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير, فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه .

وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى- إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين, وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ

قال أبو جعفر: والصّيِّب الفَيْعِل من قولك: صَاب المطر يَصوب صَوبًا، إذا انحدَر وَنـزَل, كما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ لإِنْسِــيٍّ وَلَكِــنْ لَمَـلأَكٍ تَـنَزَّلَ مِـن جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ

وكما قال علقمة بن عَبَدَة:

كَــأَنَّهمُ صَــابَتْ عَلَيْهِــمْ سَـحَابَةٌ صَوَاعِقُهَـــا لِطَـــيْرِهِنَّ دَبِيــبُ

فَــلا تَعْـدِلِي بَيْنِـي وَبيـن مُغَمَّـرٍ, سُـقِيتِ رَوَايَـا الْمُـزْنِ حـين تَصُوبُ

يعني: حين تنحدر. وهو في الأصل « صَيْوِب » ، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً, كما قيل: سيِّد، من ساد يسود, وجيِّد، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.

وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي, قال: حدثنا محمد بن عُبيد, قال: حدثنا هارون بن عَنترة, عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله « أو كصيِّب من السماء » ، قال: القطر.

حدثني عباس بن محمد, قال: حدثنا حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال لي عطاء: الصيّب، المطرُ.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي، عن ابن عباس قال: الصيّب، المطرُ.

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الصيّب، المطرُ.

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي سعدٌ, قال: حدثني عمِّي الحسين, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس، مثله.

وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « أو كصيِّب » ، يقول: المطر.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعمر, عن قتادة، مثله.

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, وعمرو بن علي, قالا حدّثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، الربيعُ .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: الصيِّب، المطرُ.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: الصيِّبُ، المطرُ.

حُدِّثت عن المِنجَاب, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، قال: الصيِّبُ، المطر.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد: « أو كصيِّب من السماء » قال: أو كغَيْثٍ من السماء.

حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري, قال: قال سفيان: الصَّيِّب، الذي فيه المطر.

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء، في قوله: « أو كصيِّب من السماء » ، قال: المطر .

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام، مع استسرارهم الكفر, مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره، على ما وصف جل ثناؤه من صفته, أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.

فإن قال لنا قائل: أخبرنا عن هذين المثَلين: أهما مثَلان للمنافقين، أو أحدُهما؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين، فكيف قيل: « أو كصيِّب » ، و « أو » تأتي بمعنى الشك في الكلام, ولم يقل « وكصيب » بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما, فما وجه ذكر الآخر بِـ « أو » ؟ وقد علمت أنّ « أو » إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه, كقول القائل: « لقيني أخوك أو أبوك » وإنما لقيه أحدُهما, ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما, مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء، أو عُزُوب عِلم شيء عنه، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.

قيل له: إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و « أو » - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو، إما بسابق من الكلام قبلها, وإما بما يأتي بعدها، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر:

وَقَــدْ زَعَمَـتْ لَيْـلَى بِـأَنِّي فَـاجِرٌ لِنَفْسِــي تُقَاهَـا أَوْ عَلَيْهَـا فُجُورُهَـا

ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال, ولكن لمّا كانت « أو » في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها, وضَعها موضعَها، وكذلك قولُ جرير:

نَـالَ الْخِلافَـةَ أَوْ كَـانَتْ لَـهُ قَـدَرًا, كَمَـا أَتَـى رَبَّـه مُوسَـى عَـلَى قَدَرِ

وكما قال الآخر:

فَلَــوْ كَــانَ الْبُكَــاءُ يَـرُدُّ شَـيْئًا بَكَــيْتُ عَــلَى بُجَــيْرٍ أَوْ عِفَـاقِ

عَــلَى الْمَــرْأَيْنِ إِذْ مَضَيـا جَمِيعًـا لِشَـــأْنِهما, بِحُـــزْنٍ وَاشْــتِيَاقِ

فقد دلّ بقوله « على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا » أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر, بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه « أو كصيِّب من السماء » . لمّا كان معلومًا أن « أو » دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه « الواو » لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب « أو » أو ب « الواو » . وكذلك وجه حذف « المثل » من قوله « أو كصيب » . لما كان قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا دالا على أن معناه: كمثل صيب, حَذفَ « المثَل » ، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا على أن معناه: أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا

قال أبو جعفر: فأما الظلمات، فجمعٌ, واحدها ظُلمة.

أما الرَّعد، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه:

فقال بعضهم: هو مَلك يَزجُر السحابَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شُعبة، عن الحكم, عن مجاهد, قال: الرعد، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا ابن أبي عَديّ, عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض, عن ليث, عن مجاهد، مثله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هُشيم قال: أنبأنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح, قال: الرَّعد، مَلك من الملائكة يُسبِّح .

حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي, قال: حدثنا محمد بن يَعْلَى, عن أبي الخطاب البصري, عن شَهر بن حَوشب، قال: الرّعد، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه، كما يسوق الحادي الإبل, يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها, فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه، فهي الصواعقُ التي رأيتم .

حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: الرَّعد، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد, وهو الذي تسمعون صوته.

حَدَّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا عبد الملك بن حسين، عن السُّدّيّ، عن أبي مالك, عن ابن عباس, قال: الرعد، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير .

وحدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: الرعد اسم مَلَك, وصوتهُ هذا تسبيحه, فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.

حدثنا الحسن, قال: حدثنا عفان. قال: حدثنا أبو عَوَانة, عن موسى البزار, عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس, قال: الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح, كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.

حدثنا الحسن بن محمد, قال: حدثنا يحيى بن عَبَّاد، وشَبابة، قالا حدثنا شعبة, عن الحكَم, عن مجاهد, قال: الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا عتَّاب بن زياد, عن عكرمة, قال: الرعد مَلك في السحاب، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.

وحدثنا بشر, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن عكرمة, قال: إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه, فذلك الصوت تسبيحه.

وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد, قال: الرعد مَلك.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج بن المنهال, قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره, أن علي بن أبي طالب قال: الرعد: مَلك.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم، مولى ابن عباس، قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد، فقال: الرعد مَلك .

حدثنا المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي, عن عكرمة, قال: الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل .

حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكَم بن أبان, عن عكرمة, قال: كان ابن عباس إذا سمع الرعد, قال: سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال: وكان يقول: إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه .

وقال آخرون: إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد، فيكون منه ذلك الصوت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثير, قال: كنت عند أبي الجَلد, إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبتَ تَسألني عن الرّعد, فالرعد الريح . »

حدثني إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عِمْران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفُرات, عن أبيه قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد, فقال: الرعد ريح .

قال أبو جعفر: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد, فمعنى الآية: أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب, فغير كائن في الصيِّب، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع, فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد . لأنه قد قيل: إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا, فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه « الرعد » ، لو كان مع الصيِّب، إذا لم يكن مسموعًا صوته، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنـزل مع القطر إلى الأرض، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس- أنّ معنى الآية: أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس, وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد، فلا شيء في قوله « فيه ظلماتٌ ورَعدٌ » متروك. لأن معنى الكلام حينئذ: فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.

وأما البَرْق, فإن أهل العلم اختلفوا فيه: فقال بعضهم بما:-

حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي, قال: حدثنا أبو عاصم، - ح- وحدثني محمد بن بشار، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، - ح- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قالوا جميعًا: حدثنا سفيان الثوري, عن سَلمة بن كُهيل, عن سعيد بن أشْوَعَ, عن ربيعة بن الأبيض, عن علي، قال: البرق: مخاريقُ الملائكة .

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الملك بن الحسين, عن أبي مالك, عن السُّدّيّ، عن ابن عباس: البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة، يزْجرون بها السحاب.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا الحجاج, قال: حدثنا حماد, عن المغيرة بن سالم, عن أبيه، أو غيره، أن علي بن أبي طالب قال: الرَّعد الملَك, والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.

وقال آخرون: هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، بذلك.

وقال آخرون: هو ماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا بِشر بن إسماعيل, عن أبي كثِير, قال: كنت عند أبي الجَلْد، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق, فالبرق الماء » .

حدثنا إبراهيم بن عبد الله, قال: حدثنا عمران بن مَيسرة, قال: حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن الفرات, عن أبيه, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق, فقال: البرق ماء.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن رجل، من أهل البصرة من قُرَّائهم, قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هَجَر- يسأله عن البرق, فكتب إليه: « كتبت إليّ تسألني عن البرق، وإنه من الماءِ » .

وقال آخرون: هو مَصْع مَلَك .

حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد, قال: البرق، مَصْع مَلك .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا هشام, عن محمد بن مُسلم الطائفي, قال: بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه، وجهُ إنسان, ووجه ثَور, ووجه نَسر, ووجه أسد, فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن وهب بن سليمان, عن شُعيب الجَبَائي قال: في كتاب الله: الملائكة حَمَلة العرش, لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد, فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أميةُ بن أبي الصلت:

رَجُـلٌ وَثَـوْرٌ تَحْـتَ رِجْـلِ يَمِينِـهِ وَالنَّسْــرُ لِلأُخْـرَى, وَلَيْـثٌ مُرْصِـدُ

حدثنا الحسين بن محمد, قال: حدثنا علي بن عاصم, عن ابن جُريج, عن مجاهد, عن ابن عباس: البرق ملك.

وقد حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، قال: الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق، يُصيب منه من يشاء .

قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق، هي السياط التي هي من نور، التي يُزجي بها الملك السحاب, كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب، مَصْعَه إياه . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب، أصله: المجالَدَةُ بالسيوف, ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب, كما قال أعشى بني ثعلبة، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به .

إِذَا هُـــنَّ نَـــازَلْنَ أَقَـــرَانَهُنَّ وَكَـانَ الْمِصَـاعُ بِمَـا فِـي الْجُـوَنْ

يقال منه: ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال: « مَصْعُ ملك » , إذْ كان السحاب لا يماصع الملك, وإنما الرعد هو المماصع له, فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصْعًا.

وقد ذكرنا ما في معنى « الصاعقة » - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.

وأما تأويل الآية, فإن أهل التأويل مُختلفون فيه:

فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال: أحدها: ما-

حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » : أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف، من الذي هو في ظلمة الصيب, فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق- كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، أي يعرفون الحق ويتكلمون به, فهم من قولهم به على استقامة, فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين .

والآخر: ما-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق » إلى إنّ الله عَلى كل شيء قدير ، أما الصيب فالمطر . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين, فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ, فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا، فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أن يَنـزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا, كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما, وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه, وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه, كما كان ذانك المنافقان يمشيان، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه, وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم, ووُلد لهم الجواري, وأصابهم البلاء ، قالوا: هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما .

والثالث: ما-

حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي, عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، كمطر، « فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ » إلى آخر الآية, هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل, مُراءَاةً للناس, فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ, وأما البرقُ فالإيمان, وهم أهل الكتاب.

وإذا أظلم عليهم, فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه .

والرابع: ما-

حدثني به المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، وهو المطر, ضرب مَثله في القرآن يقول: « فيه ظلمات » , يقول: ابتلاء، « ورعد » يقول فيه تخويف, « وبرق » ، « يكاد البرق يخطف أبصارهم » ، يقول: يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين, « كلما أضاء لهم مَشوا فيه » . يقول: كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا, وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر يقول: « وإذا أظلم عَليهم قاموا » ، كقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ سورة الحج: 11 ] .

ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف:

فحدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, قال: إضاءة البرق وإظلامُه، على نحو ذلك المثَل.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، مثلَه.

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.

وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة، في قول الله: « فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ » إلى قوله « وإذا أظلم عليهم قاموا » , فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش, قال: أنا معكم وأنا منكم، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها، فانقُطعَ به، فلم يصبر على بلائها, ولم يَحتسب أجرَها، ولم يَرْجُ عاقبتها .

وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, عن قتادة: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، يقول: أجبنُ قوم لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت, والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال: « يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه » ، يقول: هذا المنافق, إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ. « وإذا أظلم عليهم قاموا » يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصَابهم البلاءُ، قاموا متحيرين .

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مَثَلُهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة, فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها, وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له, فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة, فكذلك قوله: « كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا » ، ثم قال: في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ .

قال أبو جعفر:

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان الباهلي, عن الضحاك بن مُزَاحم، « فيه ظلمات » ، قال: أما الظلمات فالضلالة, والبرق الإيمان .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: « فيه ظلمات ورَعد وبرق » ، فقرأ حتى بلغ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، قال: هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين, كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جُريج: ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به، وأنه الموت، كراهيةً له - والمنافق أكرهُ خلق الله للموت- كما إذا كانوا بالبَراز في المطر، فرُّوا من الصواعق .

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء في قوله: « أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق » ، قال: مثَل ضُرِبَ للكافر .

وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه, فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته, وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه؛ وقيامَه في الظلام، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه .

فتأويل الآية إذًا - إذْ كان الأمر على ما وصفنا- أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به, حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين, وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر, مكذِّبون, ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون, على عمًى منهم، وجهالة بما هم عليه من الضلالة، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [ فيه ] الهداية ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم, أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون, وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعدٌ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه ، كثير خَطرانه ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه، وينهبط منها تارات صواعقُ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.

فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق , والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه, إما في العاجل وإما في الآجل, أنْ يحلّ بهم، مع شكهم في ذلك: هل هو كائن أم غير كائن؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ - مثلٌ . فهم من وَجلهم، أن يَكون ذلك حَقًّا، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونـزول النَّقِمَات . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت » ، يعني بذلك: يتقون وَعيدَ الله الذي أنـزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار, كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها، حَذَرًا على نفسه منها.

وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينـزل فيهم شيء, أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا, إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول . وإن يكن غيرَ صحيح, فأولى بتأويل الآية ما قلنا، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.

وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنـزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله « حَذَرَ الموت » ، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه، حَذَرَ العطب والموت على نفسه، أنْ تَزهق من شدتها.

وإنما نصَب قوله « حَذَرَ الموت » على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك: « زُرْتك تَكرمةً لك » , تريد بذلك: من أجل تكرمتك, وكما قال جلّ ثناؤه، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [ سورة الأنبياء: 90 ] على التفسير للفعل .

وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: « حَذَرَ الموت » ، حذرًا من الموت.

حدثنا بذلك الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا مَعْمَر، عنه.

وذلك مذهب من التأويل ضعيف، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت، فيكون معناه ما قال إنه يراد به ، حَذَرًا من الموت, وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.

وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله: « يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت » ، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت, ويتأولان في ذلك قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ سورة المنافقون: 4 ] .

وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته، كقُزْمان، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد، أو دونه . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركُهم مُعاونته على أعدائه، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين, فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين, إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم, إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف، وإن اتقوْا عقابه، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نـزوله بعَقْوَتهم ، وحُلوله بِساحتهم, إما عاجلا في الدنيا, وإما آجلا في الآخرة, للذي في قلوبهم من مَرَضها، والشكّ في اعتقادها, فقال: « والله مُحيطٌ بالكافرين » ، بمعنى جَامِعُهم، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.

وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما:-

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « والله مُحيط بالكافرين » ، قال: جامعهم في جهنم .

وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما:-

حدثني به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « والله مُحيط بالكافرين » ، يقول: الله منـزلٌ ذلك بهم من النِّقمة .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد، في قوله: « والله محيط بالكافرين » ، قال: جامِعُهم.

ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم, والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم, وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم, فقال: « يكاد البرق » ، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.

« يَخطفُ أبصَارهم » ، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .

كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله: « يكاد البرقُ يخطف أبصارهم » ، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل .

قال أبو جعفر: والخطف السلب, ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:

خَطَـاطِيفُ حُجْـنٌ فِـي حِبَـالٍ متينةٍ تَمُــدُّ بهــا أَيــدٍ إِلَيْـكَ نَـوَازِعُ

فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره, مثلا.

ثم قال تعالى ذكره: « كلما أضاء لهم » ، يعني أن البرق كلما أضاء لهم, وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء, وإصابةِ الغنائم في المغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء في الأموال, والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك, ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم, وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [ سورة الحج: 11 ] .

ويعني بقوله « مشوا فيه » ، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه, كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.

« وإذا أظلم » ، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.

ويعني بقوله « عليهم » ، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم ، أو إدبارٍ من دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق, فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.

 

القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ

قال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين, أعني قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم, وعيدًا من الله لهم, كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم, لإحلال سَخَطه بهم, وإنـزال نِقْمته عليهم, ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته, ومخوِّفَهم به عقوبته, ليتقوا بأسَه, ويُسارعوا إليه بالتوبة.

كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة , أو عن سعيد بن حبير, عن ابن عباس: « ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » ، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته .

وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ثم قال - يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس: « ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم » .

قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: « لذهب بسمعهم وأبصارهم » ، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره, وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: آتِنَا غَدَاءَنَا [ سورة الكهف: 62 ] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا .

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « لذهب بسمعهم » فوحَّد, وقال: « وأبصارهم » فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟

قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق, وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة . ويحتج في ذلك بقول الله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [ سورة إبراهيم: 43 ] ، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ سورة القمر: 45 ] ، يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع, فكان في دلالته على المراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع, أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:

كُلُــوا فِي بَعْـضِ بَطْنِكُـمُ تَعِفُّـوا فَإِنَّ زَمَــانَنَا زَمَـــنٌ خَــمِيصُ

فوحّد البطن, والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 )

قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع, لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى « قدير » قادر, كما معنى « عليم » عالم, على ما وصفتُ فيما تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .

 

القول في تأويل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

قال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر, مع استبطانه خلافَ ذلك, ومرض قلبه, وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة, وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم, وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ .

وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه, غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى « اعبُدوا ربكم » : وحِّدوا ربكم. وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله: « اعبدوا ربكم » وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال الله: « يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم » ، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين, أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم » يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم .

قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره, بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.

 

القول في تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم, وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكُم له العبادة لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم, وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.

وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله: « لعلكم تتقون » : تُطيعون.

حدثنا ابن وكيع, قال: حدثني أبي، عن سفيان, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « لعلكم تتقون » ، قال: لعلكم تطيعون .

قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: « لعلكم تتقون » ؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه, حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا, فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟

قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ, وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر:

وَقُلْتُــمْ لَنَـا كُفُّـوا الْحُـرُوبَ, لَعَلَّنَـا نَكُــفُّ! وَوَثَّقْتُـمْ لَنَـا كُـلَّ مَـوْثِقِ

فَلَمَّـا كَفَفْنَـا الْحَـرْبَ كَـانَتْ عُهُودُكُمْ كَــلَمْحِ سَـرَابٍ فِـي الْفَـلا مُتَـأَلِّقِ

يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن « لعل » في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا

وقوله: « الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا » مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره - بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته - تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.

كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار .

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: « الذي جَعل لكم الأرض فراشًا » ، قال: مهادًا لكم.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « الذي جعل لكم الأرض فراشًا » ، أي مهادًا.

 

القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

قال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:

سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِ وَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ

وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:

سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـا تُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ

يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.

كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « والسّماء بناء » , فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض.

حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: « والسماءَ بناءً » ، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.

وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.

 

القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ

يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا

قال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:

أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ? فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ

يعني بقوله: « ولستَ له بند » ، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند .

كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .

حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أي عُدَلاء .

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله .

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا » ، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.

حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، قال: أشباهًا .

حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: « فلا تجعلوا لله أندادًا » ، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك .

فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي .

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )

اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:

فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.

وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل .

ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: « فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه .

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: « وأنتمْ تعلمون » أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا .

ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: « فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون » ، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله .

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وأنتم تعلمون » ، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل .

قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [ سورة الزخرف: 87 ] ، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [ سورة يونس: 31 ] .

فالذي هو أولى بتأويل قوله: « وأنتم تعلمون » - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل ثناؤه عني بقوله: « وأنتم تعلمون » أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ

قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ - وهو الريب- مما نـزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنـزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فأتوا بسورَة من مثله » .

فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فأتوا بسورة من مثله » ، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر، عن قتادة في قوله: « فأتوا بسورة من مثله » ، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن .

حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: « فأتوا بسورة من مثله » ، مثلِ القرآن.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « فأتوا بسورة مِنْ مثله » ، قال: « مثله » مثلِ القرآن .

فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.

وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: « فأتُوا بسورة من مثله » ، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم .

قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [ سورة يونس: 38 ] ، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.

فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله « ، فأتوا بسورة من مثله » ، من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟

قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنـزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.

وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نـزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنـزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نـزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا - وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 23 )

فقال ابن عباس بما:

حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « وادعوا شُهداءكم من دون الله » ، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « وادعوا شُهداءكم » ، ناس يَشهدون.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وادعوا شهداءكم » ، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: « شهداءكم » عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن .

وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله « فادعوا » ، يعني: استنصروا واستغيثوا ، كما قال الشاعر:

فَلَمَّــا الْتَقَــتْ فُرْسَـانُنَا وَرِجَـالُهُمْ دَعَـوْا: يَـا لَكَـعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَـا لِعَامِرِ

يعني بقوله: « دعوْا يالكعب » ، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم .

وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان - يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.

فإذا كانت « الشهداء » محتملةً أن تكون جمعَ « الشهيد » الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟

وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن ؟

ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ سورة الإسراء: 88 ] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: « وإنْ كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين » . يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنـزيلي وَوحيي إلى عبدي.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن لم تفعلوا » ، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.

وقوله: « ولن تفعلوا » ، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.

كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا » ، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه .

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا » ، فقد بَين لكم الحق .

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « فاتقوا النار » ، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنـزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.

ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: « التي وَقودها الناس والحجارة » ، يعني بقوله: « وَقُودُها » حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنـزلة الحطب.

فإذا ضَمت الواو من « الوقود » كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.

فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟

قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.

كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: « وقُودها الناس والحجارة » ، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: « وقودها الناسُ والحجارة » ، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء .

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة » ، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: « وقودها الناس والحجارة » ، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم .

حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء .

 

القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )

قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن « الكافر » في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.

فمعنى قوله إذًا: « أعدت للكافرين » ، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق .

كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: « أعدت للكافرين » ، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر .

 

القول في تأويل قوله : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ

قال أبو جعفر: أما قوله تعالى: « وبشِّر » ، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ, إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.

وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه, وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة, فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي, وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً, دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك ، ودون من أظهر تصديقك ، وأقرّ أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة, والجنة: البستان.

وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره « : تجري من تحتها الأنهار » . لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض, فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.

كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عمرو بن مُرَّة, عن أبي عُبيدة, عن مسروق, قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها, وثمرها أمثالُ القِلال, كلما نُـزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى, وماؤها يَجري في غير أخدود .

حدثنا مجاهد [ بن موسى ] ، قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مِسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبي عُبيدة، بنحوه.

وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة - فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.

فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد, فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها, على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.

وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده, كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « كلما رُزقوا منها » : من الجنات, والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.

ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: « هذا الذي رُزقنا من قَبل » .

فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: « هذا الذي رُزقنا من قبل » ، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة, فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: « قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل » ، أي في الدنيا.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » ، يقولون: ما أشبهه به.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: « قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل » ، في الدنيا, قال: « وأتوا به مُتشابهًا » ، يعرفونه .

قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نـزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.

كما حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة, قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها, وثمرُها مثل القلال, كلما نُـزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى .

قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة, لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُـزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: « وأتوا به متشابهًا » ، لاشتباه جميعه في كل معانيه.

وقال بعضهم: بل قالوا: « هذا الذي رزقنا من قبل » ، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم بن الحسين, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير, قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها, ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف .

وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: « كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا » ، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها, الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله, كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها, فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله: « كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا » ، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.

فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا .

فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟

قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منـزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه, لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: « قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل » ، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل, ومن جنسه في السِّمَات والألوان - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا .

 

القول في تأويل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا

قال أبو جعفر: والهاء في قوله: « وأتُوا به مُتشابهًا » عائدة على الرزق, فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.

وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل « المتشابه » في ذلك:

فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا النضر بن شُميل, قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله: « متشابهًا » قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة, فأتى على هذه الآية: « وأتُوا به مُتشابهًا » قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, قال: قال الحسن: « وأتوا به متشابهًا » قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل .

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وأتوا به متشابهًا » ، أي خيارًا لا رَذلَ فيه, وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها, وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ, وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول .

وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى, قال حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وأتوا به متشابهًا » في اللَّوْن والمرْأى, وليس يُشبه الطعمَ.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وأتوا به متشابهًا » مِثلَ الخيار.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه , مثلَ الخيار من القثّاء.

حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « وأتوا به متشابهًا » ، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا الثوري , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: « متشابهًا » ، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد: « وأتوا به متشابهًا » ، مثل الخيار .

وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، قوله: « متشابهًا » قال: اللونُ والطعمُ.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزّاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، ويحيى بن سعيد: « متشابهًا » قالا في اللون والطعم.

وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: « وأتوا به متشابهًا » قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، قال: يشبه ثمر الدنيا, غير أن ثمر الجنة أطيبُ.

وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ - ح- وحدثنا محمد بن بشار, قال، حدثنا مؤمَّل, قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش, عن أبي ظَبْيَان, عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي - : لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.

حدثنا عباس بن محمد, قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش, عن أبي ظبيان، عن ابن عباس, قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا, التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان, قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا, « وأتوا به متشابهًا » يعرفونه, وليس هو مثله في الطعم .

قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية, تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر, والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون, مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا, يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا, فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.

وقد دللنا على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: « وأتوا به متشابهًا » .

ويُسأل من أنكر ذلك ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه, فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟

فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.

وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك.

قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر, فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك, فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.

وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:

حدثني به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب, ومحمد بن جعفر, عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري, قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة, وعلّمه صَنعةَ كل شيء, فثمارُكم هذه من ثمار الجنة, غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ .

وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: « وأتوا به متشابهًا » ، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه.

قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.

 

القول في تأويل قوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ

قال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في « لهم » عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات, والهاء والألف اللتان في « فيها » عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.

والأزواج جمع زَوْج, وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.

وأما قوله: « مطهَّرة » فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ, مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.

كما حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: « أزْواج مطهرة » . يقول: مطهرة من القذَر والأذى.

حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان ، عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: « ولهم فيها أزواج مطهرة » قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابنُ المبارك, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، إي والله من الإثم والأذى.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » ، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر, ومن كل مأثم.

حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.

حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد, قال: المطهرة من الحيض والحبَل.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: « ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة » قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة, ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ, فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة .

حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، عن الحسن في قوله: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، قال يقول: مطهَّرة من الحيض.

حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن الحسن في قوله: « ولهم فيها أزواجٌ مطهرة » ، قال: من الحيض.

حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء قوله: « ولهم فيها أزواج مطهرة » ، قال: من الولد والحيض والغائط والبول, وذكر أشياءَ من هذا النحو .

 

القول في تأويل قوله: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 25 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله « وهم » ، عائدة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات. والهاء والألف في « فيها » على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنـزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.

فقال بعضهم بما:

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله: « إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً » إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .

وقال آخرون بما:

حدثني به أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي, عن الرّبيع بن أنس, في قوله تعالى: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها » . قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا, إن البعوضة تحيا ما جاعتْ, فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] .

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] .

وقال آخرون بما:

حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة، قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » .

وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نـزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.

وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما » - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.

فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا .

فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها » ، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « مثلا ما بعوضة » ، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها, يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله.

حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله .

قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها, ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -

كما حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، بنحوه .

- خصها الله بالذكر في القِلة, فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.

فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه, فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟

قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء ، على ما وصف من ذلك قبل قوله: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا » - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك, وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.

وأما تأويل قوله: « إن الله لا يستحيي » ، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى « إن الله لا يستحيي » : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ سورة الأحزاب: 37 ] ، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية, والخشية بمعنى الاستحياء .

وأما معنى قوله: « أن يضرب مثلا » ، فهو أن يبيِّن ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ سورة الروم: 28 ] ، بمعنى وصف لكم, وكما قال الكُمَيْت:

وَذَلِــكَ ضَــرْبُ أَخْمَـاسٍ أُرِيـدَتْ لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا

بمعنى: وصف أخماس.

والمثَل: الشبه, يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله, كما يقال: شبَهُه وشِبْهه, ومنه قول كعب بن زهير:

كَـانَتْ مَوَاعِيـدُ عُرْقُـوبٍ لَهَـا مَثَلا وَمَـــا مَوَاعِيدُهَــا إِلا الأَبَــاطِيلُ

يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا: « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا » : إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به .

وأما « ما » التي مع « مثل » ، فإنها بمعنى « الذي » , لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.

فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت ، فما وجه نصب البعوضة, وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟

قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن « ما » لما كانت في محل نصْب بقوله « يضرب » ، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:

وَكَـفَى بِنَـا فَضْـلا عَـلَى مَنْ غَيْرِنَا حُـــبُّ النَّبِــيِّ مُحَــمَّدٍ إِيَّانَــا

فعُرِّبت « غيرُ » بإعراب « من » . والعرب تفعل ذلك خاصة في « من » و « ما » ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.

وأما الوجه الآخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها, ثم حذف ذكر « بين » و « إلى » , إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في « ما » الثانية، دلالة عليهما, كما قالت العرب: « مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة » و « له عشرون ما ناقة فجملا » ، و « هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا » ، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول: « ما بين كذا إلى كذا » , ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله: « ما بعوضة فما فوقها » .

وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ « ما » التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون « بعوضةً » منصوبةً بـ « يضرب » , وأن تكون « ما » الثانية التي في « فما فوقها » معطوفة على البعوضة لا على « ما » .

وأما تأويل قوله « فما فوقها » : فما هو أعظم منها - عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله, فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى - على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.

وقيل في تأويل قوله « فما فوقها » ، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ, فيقول السامع: « نعم, وفوقَ ذاك » , يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.

فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.

فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في « ما » ، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول .

 

القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فأما الذين آمنوا » ، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله: « فيعلمون أنه الحق من ربهم » . يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.

كما حدثني به المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » ، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده .

وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله « فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم » ، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله .

« وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا » .

قال أبو جعفر: وقوله « وأما الذين كفرُوا » ، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين, وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية, فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-

حدثنا به محمد عن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم » الآية, قال: يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .

وتأويل قوله: « ماذا أراد الله بهذا مثلا » ، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا. « فذا » ، الذي مع « ما » ، في معنى « الذي » ، وأراد صلته, وهذا إشارةٌ إلى المثل .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: « يضلّ به كثيرًا » ، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في « به » من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ, ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-

كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « يضلّ به كثيرًا » يعني المنافقين, « ويهدي به كثيرًا » ، يعني المؤمنين .

- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و « يهدي به » ، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق, فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.

وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ . وفيما في سورة المدثر - من قول الله: وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله: « يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا » .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ( 26 )

وتأويل ذلك ما:-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وما يُضلّ به إلا الفاسقين » ، هم المنافقون .

وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وما يُضِلّ به إلا الفاسقين » ، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم .

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « وما يضل به إلا الفاسقين » ، هم أهل النفاق .

قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة, لخروجها عن جُحرها ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ سورة الكهف: 50 ] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.

كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحُصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس في قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [ سورة البقرة: 59 ] ، أي بما بعُدوا عن أمري . فمعنى قوله: « وما يُضلّ به إلا الفاسقين » ، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ

قال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم, فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.

ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:-

فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه, وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.

وقال آخرون: إنما نـزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم, وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم ، وبقوله: ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر . فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها, واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث, والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته, وإنكارهم ذلك, وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.

وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة, وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب, مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.

وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم, الذي وصفه في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [ سورة الأعراف: 172- 173 ] . ونقضُهم ذلك, تركهم الوفاء به.

وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نـزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل, ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.

وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الذين كفروا سواء عليهم ، وقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، فيهم أنـزِلت, وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نـزلتْ, فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.

وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم, ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم, أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله, وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [ سورة آل عمران: 187 ] ، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه, وتركُهم العمل به.

وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها, لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة - فيهم نـزلتْ، إلى تمام قصصهم. وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله . يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [ سورة البقرة: 40 ] . وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر - ما يدل على أن قوله: « الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه » مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.

فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله, الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنـزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس, وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه, هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ . [ سورة الأعراف: 169 ] .

وأما قوله: « من بعد ميثاقه » ، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه ، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا, والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.

وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.

كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه » ، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق, فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله .

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع، في قوله: « الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون » ، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، أظهرُوا هذه الخلال الست جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وَعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا, ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل, وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا .

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ

قال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ سورة محمد: 22 ] . وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها, والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.

« وأن » التي مع « يوصل » في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في « به » : فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في « به » ، هي كناية عن ذكر « أن يوصل » . وبما قلنا في تأويل قوله: « ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل » ، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:

حدثنا بشر بن معاذ, قال حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل » ، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .

وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض .

قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك, غير أنها - وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ

قال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 )

قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها - بمعصيتهم الله- من رحمته, كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا, كما قال جرير بن عطية:

إِنَّ سَــلِيطًا فِــي الْخَسَــارِ إِنَّـهُ أَوْلادُ قَــــوْمٍ خُـــلِقُوا أَقِنَّـــهْ

يعني بقوله: « في الخسار » ، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى « أولئك هم الخاسرون » : أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها, فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.

وقال بعضهم في ذلك بما:

حُدِّثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل « خاسر » , فإنما يعني به الكفر, وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.

 

القول في تأويل قول الله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 28 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم بما:

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » ، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.

حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [ سورة غافر: 11 ] ، قال: هي كالتي في البقرة: « كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » .

حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس, قال: حدثنا عَبْثَر, قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا, ثم أمَتَّنَا, ثم أَحْيَيْتَنَا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم, عن حُصين, عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد في قوله: « كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم » ، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم, ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ, ثم يحييكم. وقوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، مثلها.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني, عن ابن عباس، قال: هو قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .

حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: حدثني أبو العالية، في قول الله: « كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » ، يقول: حين لم يكونوا شيئًا, ثم أحياهم حين خلقهم, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.

حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة, ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان, فهو قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون » .

وقال آخرون بما:

حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن السُّدّيّ, عن أبي صالح: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون » ، قال: يحييكم في القبر, ثم يميتكم.

وقال آخرون بما:

حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم ، فأحياهم الله وخلقهم, ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان .

وقال بعضهم بما:

حدثني به يونس, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ . قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، حتى بلغ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [ سورة الأعراف: 172- 173 ] . قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال: وذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا [ سورة النساء: 1 ] ، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا ، وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [ سورة الزمر: 6 ] ، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ، وقرأ قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ سورة الأحزاب: 7 ] . قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [ سورة المائدة: 7 ] .

قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.

فأما وجه تأويل من تأول قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » ، أي لم تكونوا شيئًا, فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ, وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ, وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:

فَـأَحْيَيْتَ لِـي ذكْري, وَمَا كُنْتُ خَامِلا وَلَكِـنَّ بَعْـضَ الذِّكْـرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ

يريد بقوله: « فأحييتَ لي ذكري » ، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: « وكنتم أمواتًا » لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم, وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون, ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم, وتعفِّي آثاركم, وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها، وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم .

وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد, فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله « وكنتم أمواتًا » ، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد, لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ . وقوله جل ذكره: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » ، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه, وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة, ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.

وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها, فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.

وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك, وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم, وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم, وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب ، والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث, وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.

وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات, وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته, وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف - فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا » الآية, وقوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث, فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.

وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة, فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه, والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ, كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح, فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً, نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.

وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » الآية, القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله: « وكنتم أمواتًا » أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم, ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون, ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة, ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك, كما قال: « ثم إليه تُرجعون » ، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم, ثم يحشرهم لموقف الحساب, كما قال جل ذكره: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [ سورة المعارج: 43 ] وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [ سورة يس: 51 ] . والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل, ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.

وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله: « كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم » ، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [ لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم ] وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.

ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية, محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم, ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم, ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه, وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب .

فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه, وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه, وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما, ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل, وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة, منبهًا لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة, وقضائه في المستكبرين عن الإنابة, إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم , ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك, أنه لله رسولٌ مبعوث, وأن ما جاءهم به فمن عنده, إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم, ومصون ما في كتبهم, وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.

وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا, ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا, فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم, فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به, وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته- : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ سورة البقرة: 29 ] . فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم, وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.

فلذلك قال جل ذكره: « هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا » .

وقوله: « هو » مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله: « كيف تكفرون بالله » . ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و « ما » بمعنى « الذي » .

فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً, ثم يميتكم, ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب, وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.

و « كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام , كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله, كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [ سورة التكوير: 26 ] . وحل قوله: « وكنتم أمواتًا فأحياكم » محلّ الحال. وفيه ضميرُ « قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن « فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية « قد » , كما قال ثناؤه: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ سورة النساء: 90 ] ، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.

وبنحو الذي قلنا في قوله: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا » ، كان قتادة يقول:

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا » ، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض .

 

القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ

قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: « ثم استوى إلى السَّماء » .

فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:

أَقُــولُ وَقَـدْ قَطَعْـنَ بِنَـا شَـرَوْرَى سَــوَامِدَ, وَاسْـتَوَيْنَ مِـنَ الضَّجُـوعِ

فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ, وإنما معنى قوله: « واستوين من الضجوع » ، استوين على الطريق من الضجوع خارجات, بمعنى استقمن عليه.

وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. [ وقال بعضهم: قوله: « ثم استوى إلى السماء » يعني به: استوت ] . كما قال الشاعر:

أَقُـولُ لَـهُ لَمَّـا اسْـتَوَى فِـي تُرَابِهِ عَـلَى أَيِّ دِيـنٍ قَتَّـلَ النَّـاسَ مُصْعَبُ

وقال بعضهم: « ثم استوى إلى السماء » ، عمدَ لها . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.

وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.

حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: « ثم استوى إلى السماء » . يقول: ارتفع إلى السماء .

ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء .

قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:

طَــالَ عَــلَى رَسْـمِ مَهْـدَدٍ أبَـدُهْ وَعَفَـــا وَاسْــتَوَى بِــهِ بَلَــدُه

يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.

وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: « ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن » ، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.

والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: « ثم استوى إلى السماء » ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله « استوى » أقبلَ, أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير, قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.

قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء, كان قبل خلق السماء أم بعده؟

قيل: بعده, وقبل أن يسويهن سبعَ سموات, كما قال جل ثناؤه: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [ سورة فصلت: 11 ] . والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا, وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.

وقال بعضهم: إنما قال: « استوى إلى السّماء » ، ولا سماء, كقول الرجل لآخر: « اعمل هذا الثوب » ، وإنما معه غزلٌ.

وأما قوله « فسواهن » فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته, وتدبيره لهنّ على إرادته, وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ .

كما: حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: « فسوَّاهن سبع سموات » يقول: سوّى خلقهن، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

وقال جل ذكره: « فسواهن » ، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع ، وقد قال قبلُ: « ثم استوى إلى السماء » فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ, وذُكِّرت أخرى فقيل: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [ سورة المزمل: 18 ] ، كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها, فيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نخل وهذه نخل, وما أشبه ذلك.

وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة, غير أنها تدلّ على السموات, فقيل: « فسواهن » ، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة, فيقال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر:

فَـــلا مُزْنَــةٌ وَدَقَــتْ وَدْقَهَــا وَلا أَرْضَ أَبْقَـــــل إِبْقَالَهَــــا

وكما قال أعشى بني ثعلبة:

فَإِمَّـــا تَـــرَيْ لِمَّتِــي بُــدِّلَتْ فَـــإِنَّ الْحَـــوَادِثَ أَزْرَى بِهَــا

وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض, فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعًا, كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ, وبُرْمة أعشار، للمتكسرة, وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق .

فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات, ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها, فكيف زعمت أنها جِماع؟

قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات, فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-

حدثني محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ, ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا, وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا, ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها, فجرى فيها الليل والنهار, وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال, وقدر فيها الأقوات, وبث فيها ما أراد من الخلق, ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال- فحبكهن, وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها, وأوحى في كل سماء أمرها, فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما, فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا, قالتا: أتينا طائعين .

فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض وما فيها - وهن سبع من دخان, فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها: « ثم استوى إلى السماء » بمعنى الجميع ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه: « فسوَّاهن » ، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله « فسواهن » ، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها, أم بمعنى غير ذلك ؟

قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .

فحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات » . قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء, ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا, فارتفع فوق الماء فسما عليه, فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين, فخلق الأرض على حوت, والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ ، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة, والصفاةُ على ظهر ملَك, والملك على صخرة, والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى عليها الجبال فقرّت, فالجبال تخر على الأرض, فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [ سورة النحل: 15 ] . وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [ سورة فصلت: 9- 11 ] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة, وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها, من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ سورة الأعراف: 54 ] . ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [ سورة الأنبياء: 30 ] .

وحدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: « هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء » . قال: خلق الأرض قبل السماء, فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان, فذلك حين يقول: « ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات » . قال: بعضُهن فوق بعض, وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض .

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فسواهنّ سبعَ سموات » قال: بعضُهن فوق بعض, بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.

حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء - « ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات » , ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [ سورة النازعات: 30 ] .

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين, وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة, فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.

قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم, فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم, ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم, ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان, فسوَّاهنَّ وحبَكهن, وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه, وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )

يعني بقوله جل جلاله: « وهو » نفسَه، وبقوله: « بكل شيء عليم » أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا, وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ, لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم.

وقوله: « عليم » بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ

قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة : أن تأويل قوله: « وإذ قال ربك » ، وقال ربك؛ وأن « إذ » من الحروف الزوائد, وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر:

فَــإِذَا وَذَلِــكَ لامَهَــاهَ لِذِكْــرهِ وَالدَّهْــرُ يُعْقِــب صَالِحًــا بِفَسَـادِ

ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ:

حَــتَّى إِذَا أَسْــلَكُوهُمْ فِـي قُتَـائِدَةٍ شَـلا كَمَـا تَطْـرُدُ الْجَمَّالَـةُ الشُّـرُدَا

وقال: معناه، حتى أسلكوهم.

قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن « إذ » حرف يأتي بمعنى الجزاء, ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل, وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل .

وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله - في بيت الأسود بن يعفر: أن « إذا » بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:

فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه

وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه, وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله « ذلك » إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه - « لامهاه لذكره » يعني لا طعمَ له ولا فضلَ, لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ:

حَــتَّى إِذَا أَسْــلَكُوهُمْ فِـي قُتَـائِدَةٍ شَــــــــلا .................

لو أسقط منه « إذا » بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله. « أسلكوهم شلا » على معنى المحذوف, فاستغنى عن ذكره بدلالة « إذا » عليه, فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب:

فَـــإِنَّ الْمَنِيَّــةَ مَــنْ يَخْشَــهَا فَسَــــوْفَ تُصَادِفُـــه أَيْنَمـــا

وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب: « أتيتك من قبلُ ومن بعدُ » . تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في « إذا » كما يقول القائل: « إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا » . يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.

ومن ذلك قول الآخر:

فَــإِذَا وَذَلِــكَ لا يَضُـرُّكَ ضُـرُّهُ فِــي يَــوْم أسـألُ نَـائِلا أو أنْكَـدُ

نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه: « وإذ قالَ ربك للملائكة » ، لو أبْطِلت « إذ » وحُذِفت من الكلام, لاستحال عن معناه الذي هو به ، وفيه « إذ » .

فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ « إذ » , إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه ؟

قيل له: قد ذكرنا فيما مضى : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, وسخّر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا, وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا, وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله: « وإذ قال رَبُّك للملائكة » على المعنى المقتضَى بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ, واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً .

فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم, أكثرُ من أن يحصى, من ذلك قول الشاعر:

أجِـــدَّك لَــنْ تَــرَى بِثُعَيْلِبَــاتٍ وَلا بَيْـــدَانَ نَاجِيـــةَ ذَمُـــولا

وَلا مُتَـــدَاركٍ وَالشَّــمْسُ طِفْــلٌ بِبَعْــضِ نَوَاشــغ الـوَادي حُـمُولا

فقال: « ولا متداركٍ » , ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه ، ولا حرف مُعرَب إعرابَه، فيردّ « متدارك » عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ « لن » يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف, وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا . لأن قوله:

أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات

بمعنى: « أجدّك لستَ بِرَاءٍ » , فردّ « متداركًا » على موضع « ترى » ، كأنْ « لست » و « الباء » موجودتان في الكلام. فكذلك قوله: « وإذ قالَ رَبُّك » ، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه, وكانَ قوله: « وإذ قال ربك للملائكة » مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ « إذْ » على موضع وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ . لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي, وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية « إذ » ، عطف بـ « إذ » على موضعها في الأولى ، كما وصفنا من قول الشاعر في « ولا متدارك » .

 

القول في تأويل قوله : لِلْمَلائِكَةِ

قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ ، غيرَ أن أحدَهم ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز, وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من الملائكة, فيحذفون الهمز منه, ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح, لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا, فقالوا: ملائكة.

وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها, فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال, وبهمزها في أخرى, كقولهم: « رأيت فلانا » فجرى كلامهم بهمز « رأيت » ثم قالوا: « نرى وترى ويرى » , فجرى كلامهم في « يفعل » ونظائرها بترك الهمز, حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في « ملك وملائكة » , جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم, وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر:

فلَسْــتَ لإِنْسِــيٍّ ولكــنْ لِمَـلأَكٍ تَحَـدَّرَ مِـنْ جَـوِّ السَّـمَاءِ يَصُـوبُ

وقد يقال في واحدهم، مألك, فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب, وشأمَل وشمأل, وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم

« مألك » أن يجمع إذا جمع على ذلك « مآلك » , ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا, ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة, كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة, ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك:

وَفِيهِمَــا مِــنْ عِبَــادِ اللَّـهِ قَـوْمٌ مَلائِــك ذُلِّلــوا وهُــمُ صِعَــابُ

وأصل الملأك: الرسالة, كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ:

أَبْلِــغِ النُّعْمَــانَ عَنِّــي مَلأَكًــا إِنَّـهُ قَـدْ طَـالَ حَبْسِـي وَانْتِظَـارِي

وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا ، كما قال لبيد بن ربيعة :

وَغُــــلامٍ أَرْسَــــلَتْه أُمُّـــه بـــأَلُوكٍ فَبَذَلْنَـــا مَــا سَــأَلْ

فهذا من « ألكت » ، ومنه قول نابغة بني ذبيان:

أَلِكْــنِي يَــا عُيَيْــنَ إِلَيْـكَ قَـوْلا سَــأَهْدِيه, إِلَيْــكَ إِلَيْــكَ عَنِّــي

وقال عبدُ بني الحَسْحَاس:

أَلِكْـنِي إِلَيْهَـا عَمْـرَكَ اللَّـهُ يَـا فَتًـى بِآيَــةِ مــا جــاءتْ إِلَيْنَـا تَهَادِيَـا

يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة, لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده.

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

اختلف أهل التأويل في قوله: « إني جاعل » , فقال بعضهم: إني فاعل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم, ومبارك، عن الحسن, وأبي بكر - يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة, قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » قال لهم: إني فاعل .

وقال آخرون: إني خالق.

ذكر من قال ذلك:

حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, قال: كل شيء في القرآن « جَعَل » ، فهو خلق .

قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » : أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.

وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي « مكة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن ابن سابط: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت, فهي أوّل من طاف به, وهي « الأرضُ » التي قال الله: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » , وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام .

 

القول في تأويل قوله : خَلِيفَةً

والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ سورة يونس: 14 ] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة, لأنه خلف الذي كان قبله, فقام بالأمر مقامه, فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى .

وكان ابن إسحاق يقول بما:

حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم .

وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ.

فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا وفيها منه خلَفًا؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك.

فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة, فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها, فلذلك قال: « إني جاعل في الأرض خليفة » .

فعلى هذا القول: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، الآية, قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء, وخلق الجن يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة, فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض .

وقال آخرون في تأويل قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة » ، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا, وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم, ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري.

ونظيرٌ له ما:-

حدثني به محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب, عن ابن سابط في قوله: « إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » قال: يعنون به بني آدم صلى الله عليه وسلم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق .

وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن, ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه, نظيرَ ما:-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة: « إني جاعل في الأرض خليفة » . قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.

وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه, ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله - لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته.

وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه, فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا, وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم, وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة.

والذي دعا المتأوِّلين قولَه: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » - في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » - : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا عنْ غيره . لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك - وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم, وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك, وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا.

وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها: « إني جاعلٌ في الأرض خليفة » ، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه, بل قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء, فقالت: يا ربنا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ . كما قال ابن مسعود وابن عباس, ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .

 

القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته, فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك, أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك, ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما:

حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم « الحِنّ » ، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة - وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال: « قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد » ! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه, ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فقالت الملائكة مجيبين له: « أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء » ، كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت, فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل - أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ سورة الرحمن: 14 ] . يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت . قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره, ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه, ثم يقول: لست شيئًا! - للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك, ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه, أتت النفخة من قبل رأسه, فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده, فأعجبه ما رأى من حسنه, فذهب لينهضَ فلم يقدرْ, فهو قول الله: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ سورة الإسراء: 11 ] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: « الحمد لله ربّ العالمين » بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا, خلقتني من نار وخلقته من طين - يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله ، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة - يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض . قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم, قالوا: سُبْحَانَكَ ، تنـزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، تبرِّيًا منهم من علم الغيب, إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ - أيها الملائكة خاصة - إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، ولا يعلمه غيري، وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ - يقول: ما تُظهرون - وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية, يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .

قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع , وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم, وأنّ كرامته لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم : « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » ، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك, ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون, وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه, وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا .

وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية, وهو ما:-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ, استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا, وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا, فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون, وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه, اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا، « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون » . يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل, فعاذَت منه، فأعاذها, فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا - واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير . وذلك حين يقول: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [ سورة الحجر: 28 ] . قال: منتن - ثم قال للملائكة: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ سورة ص: 71- 72 ] . فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا, فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس, فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة, فذلك حين يقول: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ سورة الرحمن: 14 ] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا, فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف . لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح, قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس, فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله, فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ, فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة, فذلك حين يقول: خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ سورة الأنبياء: 37 ] . فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ - أي استكبرَ - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك - يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل - . قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا , ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال الله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . قال قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، فهذا الذي أبدَوْا, « وأعلم ما كنتم تكتمون » , يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر .

قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل, وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه.

وأما موافقته إياه في آخره, فهو قولهم في تأويل قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك, تبرِّيًا من علم الغيب - : سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .

وهذا إذا تدبّره ذو الفهم, علم أن أوّله يفسد آخرَه, وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء, فقالت الملائكة لربها: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها, فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به, فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه, كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خَلفٌ من التأويل, ودعوَى على الله ما لا يجور أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة, وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء, حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » . فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم: « إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء » , لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء, فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منـزلتَهم، وكرامتِهم عليه, فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة: « أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » ، على ظنٍّ منها - على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم - إذ علّم آدم الأسماء كلها - : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم, وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية .

ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم, ما:-

حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب, عن عبد الرحمن بن سابط, قوله: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، قال: يعنون الناس .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ, فقالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم - وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ سورة فصلت: 11 ] .

وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ, وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله.

وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل, وهو ما:-

حدثنا به الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « أتجعل فيها من يُفسد فيها » قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء, فذلك قوله: « أتجعل فيها من يفسد فيها » .

وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل, منهم الحسن البصري:

حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم, ومبارك، عن الحسن - وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم, فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: « أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء » - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء - وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . فلما أخذ في خلق آدم, هَمست الملائكة فيما بينها, فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق, فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا, ففضّله عليهم, فعلموا أنهم ليسوا بخير منه, فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه, لأنا كنا قَبله, وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ « علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين » أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه, فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة - وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - لقولهم: « ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا » . قال: علمه اسم كل شيء, هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش, وجعل يسمي كل شيء باسمه, وعرضت عليه كل أمة، فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض: « نحن خير منه وأعلم » .

وحدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس, وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن, فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم, فكانت الدماءُ, وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا: « أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » الآية .

[ حدثنا محمد بن جرير، قال ] : حدثت عن عمار بن الحسن, قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله- : ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: وذلك حين قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » . قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا , فقال للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، إلى قوله: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: « لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم » ، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم .

وقال ابن زيد بما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب, قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا, وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق, إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [ سورة الإنسان: 1 ] . قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! - لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ . فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم, وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له, قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . قال: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا .

وقال ابن إسحاق بما:-

حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به, لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض, ثم قال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً - ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم, فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم, مما يكون في الأرض, مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص: 69- 72 ] . فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي - تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله, وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس, فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض, من طين لازب من حَمَإٍ مسنون, بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار, ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم, وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِلَى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة ص: 75- 85 ] .

قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية, أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم, وقد علمه الأسماء كلها, فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا, فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة .

وقال ابن جُريج بما:-

حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم, فقالوا: « أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » ؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت - على التعجب منها- : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ يعني: أن ذلك كائن منهم - وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه .

وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم, وإنما سألوه ليعلموا, وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله, لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ.

وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك, فكأنهم قالوا: « يا رب خبرنا » ، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ.

قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له: « أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك » ، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا , ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه.

وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على وجه التعجب, فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنـزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة.

وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت - في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء, فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا, فقالوا: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، على ما وصفت من الاستخبار.

فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟

قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض - قبل آدم- من الجنّ, فقالت لربها: « أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون » ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم, لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك, فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه.

وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف, لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ, ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع, ولا فيما قاله ابن زيد.

فأولى التأويلات - إذ كان الأمر كذلك- بالآية, ما كان عليه من ظاهر التنـزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم.

فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء, فمن أجل ذلك قالت الملائكة: « أتجعل فيها من يفسد فيها » ، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟

قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه, كما قال الشاعر:

فَــلا تَدْفِنُــونِي إِنَّ دَفْنِـي مُحَـرَّمٌ عَلَيْكُــمْ, وَلَكِـن خَـامِرِي أُمَّ عَـامِرِ

فحذف قوله « دعوني للتي يقال لها عند صَيدها » : خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: « قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها » ، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف, فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله: « قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ

قال أبو جعفر: أما قوله: « ونحن نسبِّح بحمدك » فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر, كما قال جل ثناؤه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ سورة النصر: 3 ] ، وكما قال: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [ سورة الشورى: 5 ] ، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي, فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين, فقال له: النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي صلى الله عليه وسلم يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي, فقلت له: النبيّ صلى الله عليه وسلم يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم, إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام, وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان ذي الملك والملكوت » , وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان ذي العزة والجبروت » , وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون: « سبحان الحي الذي لا يموت » .

قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم, وسهل بن موسى الرازي, قالا حدثنا ابن عُلَيَّة, قال: أخبرنا الجُرَيْرِي, عن أبي عبد الله الجَسْري, عن عبد الله بن الصامت, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَادَه - أو أن أبا ذَرّ عاد النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ, أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته: « سبحان رَبي وبحمده, سبحان ربي وبحمده » . - في أشكال لما ذكرنا من الأخبار ، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها.

وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنـزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك, كما قال أعشى بني ثعلبة:

أَقُـــولُ - لمَّا جَــاءَنِي فَخْــرُه- : سُــبْحَانَ مِــنْ عَلْقَمَــةَ الْفَـاخِرِ

يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنـزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم: « نسبح بحمدك » : نصلي لك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك » ، قال: يقولون: نصلّي لك.

وقال آخرون: « نُسبّح بحمدك » التسبيح المعلوم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « ونحن نسبِّح بحمدك » ، قال: التسبيحَ التسبيحَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَنُقَدِّسُ لَكَ

قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم: « سُبُّوح قُدُّوس » , يعني بقولهم: « سُبوح » ، تنـزيهٌ لله، وبقولهم: « قُدوسٌ » ، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض: « أرض مُقدسة » ، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، ننـزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك, ونصلي لك. « ونقدس لك » ، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة، في قوله: « ونقدس لك » ، قال: التقديسُ: الصلاة .

وقال بعضهم: « نقدس لك » : نعظمك ونمجدك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا هاشم بن القاسم, قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب, قال: حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح، في قوله: « ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك » ، قال: نعظمك ونمجِّدك .

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « ونقدس لك » ، قال نعظّمك ونكبِّرك .

وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق: « ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك » ، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه .

وحدثت عن المنجاب, قال: حدثنا بشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك، في قوله: « ونقدس لك » ، قال: التقديس: التطهير .

وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم, فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ: « ونقدِّس لك » و « نقدِّسك » , كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه, ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن, قال الله جل ثناؤه: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [ سورة طه: 33- 34 ] ، وقال في موضع آخر: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [ سورة الجمعة: 1 ]

 

القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 30 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله: « أعلم ما لا تعلمون » ، مما اطلع عليه من إبليس, وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر, مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره .

وحدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، يعني من شأن إبليس.

وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد - وحدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.

وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي, قال: حدثنا محمد بن بشر, قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة, عن مجاهد، بمثله .

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عَن مجاهد مثله .

وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري, قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم.

وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى بن ميمون, قال: - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية.

وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, مثله.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا سُويد, قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, قال: قال مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

وقال مرَّة آدم.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا حجاج بن المنهال, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان , قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها, وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها .

وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة, عن مجاهد في قوله: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

وحدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إني أعلم ما لا تعلمون » . أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء.

وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: « إني أعلم ما لا تعلمون » ، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة .

وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه, وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم: « إني أعلم ما لا تعلمون » . يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم, وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ - ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَعَلَّمَ آدَمَ

حدثنا محمد بن جرير, قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها, فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض .

وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن جده, عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء, فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء .

وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا مِسعر, عن أبي حَصين, عن سعيد بن جُبير, قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم.

وحدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض .

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم, أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم, لأنه أخذ من أديم الأرض .

وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما- :

حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن عوف - وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد - قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف - وحدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا إسماعيل بن أبان, قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي, عن قَسامَة بن زُهير, عن أبي موسى الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض , فجاء بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب .

فعلى التأويل الذي تأول « آدم » من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض, يجب أن يكون أصْل « آدم » فعلا سُمي به أبو البشر, كما سمي « أحمد » بالفعل من الإحماد , و « أسعد » من الإسعاد, فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ, يعني به بلغ أدمتها - وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين, كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا, لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: الأَسْمَاءَ كُلَّهَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما- :

حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: علم الله آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة, وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. .

وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء.

وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن خُصيف, عن مجاهد: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء .

وحدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرمي, عن محمد بن مصعب, عن قيس بن الربيع, عن خُصيف, عن مجاهد, قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء .

وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شَريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, قال: علمه اسمَ كل شيء, حتى البعير والبقرة والشاة .

وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن شَريك, عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس, قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة .

وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, عن عاصم بن كليب, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة.

حدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم, قال: حدثنا محمد بن مُصعب, عن قيس، عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد, عن ابن عباس في قول الله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة.

وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا علي بن مسهر, عن عاصم بن كليب, قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة, والفسوة من الفسية .

وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » حتى بلغ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه .

وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل, وهذا بحر, وهذا كذا وهذا كذا, لكل شيء, ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم - ومبارك, عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة، قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه.

وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء.

وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وعلم آدمَ الأسماء كلها » ، قال: أسماء الملائكة.

وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » ، قال: أسماء ذريته أجمعين.

وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله: « وعلم آدم الأسماء كلها » إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: « عرضهن » أو « عرضها » ، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [ سورة النور: 45 ] ، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود: « ثم عَرضهن » ، وأنها في حرف أبَيّ: « ثم عَرضَها » .

ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر ، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ

قال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله: « ثم عَرَضهم » ، بالدلالة على بني آدم والملائكة، أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا.

ويعني جل ثناؤه بقوله: « ثم عَرضَهم » ، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة.

وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله: « ثم عَرضَهم على الملائكة » نحو اختلافهم في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا . وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.

حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « ثم عَرضهم على الملائكة » ، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق.

وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ثم عرضهم » ، ثم عرض الخلقَ على الملائكة .

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة .

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « ثم عرضهم » ، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة .

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « ثم عرضهم » ، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة

وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد: « ثم عرضهم على الملائكة » ، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب .

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة .

 

القول في تأويل قوله: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « أنبئوني » : أخبروني، كما:-

حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « أنبئوني » ، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء .

ومنه قول نابغة بني ذُبيان:

وَأَنْبَــــأَهُ الْمُنَبِّـــئُ أَنَّ حَيًّـــا حُــلُولٌ مِــنْ حَــرَامٍ أَوْ جُــذَامِ

يعني بقوله: « أنبأه » : أخبره وأعلمه.

 

القول في تأويل قوله جل ذكره: بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ

قال أبو جعفر:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: « بأسماء هؤلاء » ، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.

فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « إن كنتم صادقين » ، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة.

وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « إن كنتم صادقين » أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.

وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [ سورة هود: 45 ] - : لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم - : رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سورة هود: 47 ] . وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.

وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله: « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » ، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال: « أنبئوني إن كنتم صادقين » - كما يقول الرجل للرجل: « أنبئني بهذا إن كنت تعلم » . وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ.

وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء - : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول.

وزعم أن قوله: « إن كنتم صادقين » نظير قول الرجل للرجل: « أنبئني بهذا إن كنت تعلم » . وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.

ولا شك أن معنى قوله: « إن كنتم صادقين » إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في العلم. وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال: صدَق الرجل بمعنى علم. فإذْ كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة - على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية- : « أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين » وهو يعلم أنهم غيرُ صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنه زعم أن الملائكة لم تدَّع شيئًا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صَادقين، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير.

وقد حُكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله: « إن كنتم صادقين » بمعنى: إذْ كنتم صادقين.

ولو كانت « إن » بمعنى « إذ » في هذا الموضع، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأن « إذ » إذا تقدّمها فعل مُستقبل صارت علة للفعل وسببًا له. وذلك كقول القائل: « أقوم إذ قمت » . فمعناه أقوم من أجل أنّك قمت. والأمرُ بمعنى الاستقبال، فمعنى الكلام - لو كانت « إن » بمعنى « إذ » - : أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وُضعت « إن » مكان ذلك قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صَادقين، مفتوحةَ الألف. وفي إجماع جميع قُرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من « إنْ » ، دليل واضح على خطأ تأويل من تأول « إن » بمعنى « إذ » في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره.

وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبرَ، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد، عمّا أودع الله جل ثناؤه آيَ هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن.

وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظَهْرَانَيْه من يَهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلعَ عليها من خلقه إلا خاصًّا، ولم يكن مُدرَكًا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كل مخبر خبرًا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكنْ، ولم يأته به خبر، ولم يُوضَع له على صحّته برهان، - فمتقوّلٌ ما يستوجبُ به من ربه العقوبة. ألا ترى أنّ الله جل ذكره ردّ على ملائكته قِيلَهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، وعرفهم أن قِيلَ ذلك لم يكن جائزًا لهم، بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجز، والتبرِّي إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم، بقولهم: « سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتنا » . فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كلّ من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة . وذكَّر بها الذين وَصَفنا أمرَهم من أهل الكتاب - سوالفَ نعمه على آبائهم، وأياديَه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته، مُستعطفَهم بذلك إلى الرشاد، ومُستعتِبَهم به إلى النجاة. وحذَّرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلولَ العقاب بهم، نظيرَ ما أحلّ بعدوِّه إبليس، إذ تمادَى في الغيّ والخَسَار

قال: وأما تأويل قوله: « سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا » ، فهو كما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « قالوا سبحانك » تنـزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيبَ غيرُه، تُبنا إليك « لا علم لنا إلا ما عَلَّمتنا » ، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، « إلا ما علَّمتنا » كما علمت آدم .

وسُبحان مصدر لا تصرُّف له . ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننـزهك تنـزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا.

 

القول في تأويل قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: « إنك أنتَ العليم » ، يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:-

حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « العليم » الذي قد كمل في علمه، و « الحكيم » الذي قد كمل في حُكمه .

وقد قيل، إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر.

 

القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عَرّف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض، ووصَفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره، دونَ غيرهم الذين يُفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم، من الجهل بمواقع تدبيره ومحلّ قَضَائه، قَبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عَرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم إياه ربهم، وأنّه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق، ويمنعه منهم من شاء، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم.

فأما تأويل قوله: « قال يا آدم أنبئهم » ، يقول: أخبر الملائكةَ، والهاء والميم في قوله: « أنبئهم » عائدتان على الملائكة. وقوله: « بأسمائهم » يعني بأسماء الذين عَرَضهم على الملائكة، والهاء والميم اللتان في « أسمائهم » كناية عن ذكر هَؤُلاءِ التي في قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ . ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ) يقول: فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يَعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خَطأ قيلهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، وأنهم قَد هَفوْا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع، على ما نطقوا به، - قال لهم ربهم: « ألم أقلْ لكُم إنّي أعلمُ غَيبَ السماوات والأرض » . والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه؛ توبيخًا من الله جل ثناؤه لهم بذلك، على ما سلف من قيلهم، وَفرَط منهم من خطأ مَسألتهم. كما:-

حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم » ، يقول: أخبرهم بأسمائهم - « فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم » أيها الملائكة خَاصة « إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض » ولا يعلمه غيري .

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه، فكذلك أخفيتُ عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يُطيعني، قال: وَسبقَ من الله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ سورة هود: 119، وسورة السجدة: 13 ] ، قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوْا ما أعطى الله آدمَ من العلم أقروا لآدم بالفضل .

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فرُوي عن ابن عباس في ذلك ما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وأعلم ما تبدون » يقول: ما تظهرون، « وما كنتم تكتمون » يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .

وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، فهذا الذي أبدوْا، « وما كنتم تكتمون » ، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر .

وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قوله: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه .

وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر ألا يسجد لآدم .

وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الأنماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون ، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن - ونحن جُلوس عنده في منـزله- : يا أبا سَعيد، أرأيتَ قول الله للملائكة: « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن: إن الله لمّا خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا، فكأنهم دَخلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلى بعض ، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خَلقا إلا كنا أكرمَ عليه منه .

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عَبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، قال: أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاءُ أن يخلُق، فلن يخلُق خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: « وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون » ، فكان الذي أبدَوْا حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله: « وأعلم ما تُبدون » ، وأعلم - مع علمي غيبَ السموات والأرض - ما تُظهرون بألسنتكم، « وما كنتم تكتمون » ، وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء، سواءٌ عندي سرائركم وعلانيتكم.

والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ؛ والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبُّر عن طاعته. لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غيرُ خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا، والآخرُ ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة، ومن قال إن معنى ذلك كتمانُ الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه. فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت، ثم كان أحدهُما غيرَ موجودةٍ على صحته الدّلالةُ من الوجه الذي يجب التسليم له - صح الوجهُ الآخر.

فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك، غيرُ موجودةٍ الدلالةُ على صحته من الكتاب، ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبرُ الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه، إذْ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر، وإظهارُه لسائر الملائكة من معصيته وكبره، ما كان له كاتمًا قبل ذلك.

فإن ظن ظانٌّ أنّ الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه، لمّا كان خارجًا مخرج الخبر عن الجميع، كان غيرَ جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله: من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبْرَ والمعصية - صحيحًا، فقد ظن غير الصواب. وذلك أنّ من شأن العرب، إذا أخبرتْ خبرًا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم: « قُتل الجيش وهُزموا » ، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض. فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة الحجرات: 4 ] ، ذُكر أن الذي نادَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - فنـزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الخبر عنه مُخرج الخبر عن الجماعة. فكذلك قوله: « وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون » ، أخرج الخبر مُخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )

قال أبو جعفر: أمّا قوله: « وإذ قلنا » فمعطوف على قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، كأنه قال جل ذكره لليهود - الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعَمه، ومذكِّرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل- : اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم. فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرمت أباكم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدلّ باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمِر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [ سورة الأعراف: 11- 12 ] ، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمرَه من الملائكة بالسجود لآدمَ. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدمَ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.

ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم « الحِن » ، خلقوا من نار السَّموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نورٍ غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصيةَ من الملائكة اسمه « عزازيل » ، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنا .

وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه « عزازيل » ، وكان من سكان الأرض وعُمَّارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون « الجنَّ » من بين الملائكة .

وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم « الجنّ » ، وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنًا .

وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطانُ سماء الدنيا، وكان له سلطانُ الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدَنيّ وكوفيّ وبصريّ. .

قال ابن جُريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قَبيلِه، فكان اسم قبيلته الجن.

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن صالح مولى التَّوْأمة، وشريك بن أبي نَمِر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلةً من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض .

وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عُبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مُزَاحم يقولُ في قوله: فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] ، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جُريج الأول سواء .

وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا .

وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [ سورة الكهف: 50 ] ، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم « الجن » ، وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه .

وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجنّ إلا كل من اجتَنَّ فلم يُرَ. وأما قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنُّوا فلم يُرَوْا. وقد قال الله جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [ سورة الصافات: 158 ] ، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بناتُ الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمانَ بن داود وما أعطاه الله:

وَلَـوْ كَـانَ شَـيْءٌ خَـالِدًا أَوْ مُعَمَّـرا لَكَـانَ سُـلَيْمَانُ الْبَرِيءُ مِـنَ الدَّهْـرِ

بَــرَاهُ إِلَهِــي وَاصْطَفَــاهُ عِبَـادَهُ وَمَلَّكَـهُ مَـا بَيْـنَ ثُرْيَـا إِلَـى مِصْرَ

وَسَـخَّرَ مِـنْ جِـنِّ الْمَلائِـكِ تِسْـعَةً قِيَامًــا لَدَيْــهِ يَعْمَلُـونَ بِـلا أَجْـرِ

قال: فأبت العربُ في لغتها إلا أنّ « الجن » كل ما اجتنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجن إلا أنهم اجتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمّي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ .

وقال آخرون بما:-

حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس .

وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ألجأه إلى نسبه فقال الله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [ سورة الكهف: 50 ] ، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو سعيد اليحمَديّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سَوار بن الجعد اليحمَديّ، عن شَهر بن حَوْشب، قوله: مِنَ الْجِنِّ ، قال: كان إبليس من الجن الذين طرَدتهم الملائكة، فأسرَه بعض الملائكة فذهب به إلى السماء .

وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نُمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسُبِي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجود لآدم سجدوا. فأبى إبليس. فلذلك قال الله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن منَ الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصَى، فمسخه الله شيطانًا رجيما.

قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس .

وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خَلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجنّ - فقالوا: فغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسلٌ وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.

حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم: فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تُحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر، فقال: إني خالقٌ بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم .

قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى. فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته ، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم. إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُـزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية. وأما خبرُ الله عن أنه مِنَ الْجِنِّ ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.

القول في معنى إِبْلِيسَ

قال أبو جعفر: وإبليس « إفعِيل » ، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. كما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته .

وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: كان اسم إبليس « الحارث » ، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا .

قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ سورة الأنعام: 44 ] ، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنًا، كما قال العجَّاج:

يَـا صَـاحِ, هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا? قَــالَ: نَعَــمْ, أَعْرِفُــهُ! وَأَبْلَسَــا

وقال رؤبة:

وَحَـضَرَتْ يَـوْمَ الْخَـمِيسِ الأَخْمَـاسْ وَفِــي الْوُجُــوهِ صُفْــرَةٌ وَإِبْلاسْ

يعني به اكتئابًا وكسوفًا.

فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت، « إفعيل » من الإبلاس، فهلا صُرف وأجري؟ قيل: تُرك إجراؤه استثقالا إذ كان اسمًا لا نظيرَ له من أسماء العرب، فشبَّهته العرب - إذْ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تُجرَى. وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يُجروه. وهو من « أسحقه الله إسحاقًا » ، إذْ كان وَقَع مبتدَأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مَجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف. وكذلك « أيوب » ، إنما هو « فيعول » من « آب يؤبُ » .

وتأويل قوله: أَبَى ، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. وَاسْتَكْبَرَ ، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهودُ الذين كانوا بين ظهرانيْ مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عالمين. ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم الله بخبره عن إبليس الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا.

ثم وَصَف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضرَبه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمرَه الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: وَكَانَ - يعني إبليس - مِنَ الْكَافِرِينَ - من الجاحدين نعمَ الله عليه وأياديَه عنده، بخلافه عليه فيما أمرَه به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعمَ ربِّها التي آتاها وآباءها قبلُ: من إطعام الله أسلافَهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خصَّ الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجةَ الله عليهم، فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى لْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ ، فجعله من عِدَادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضَهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 67 ] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكُفر بالله ومخالفتِه أمرَه، وإن كان مخالفًا جنسُه أجناسَهم ونسبُه نسبهم. ومعنى قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ.

وقد رُوي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول: في تأويل قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، في هذا الموضع، وكان من العاصين.

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، يعني العاصين .

وحُدّثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.

وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه.

وكان سجود الملائكة لآدم تكرمةً لآدم وطاعة لله، لا عبادةً لآدم، كما:-

حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته. .

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدمُ قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض. ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ . فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِن وأظهرَ التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلَّت عليه اللعنة. كما:-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلَّم الله آدم الأسماء كلها .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبَى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدمَ وقد علّمه الأسماء كلها، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .

ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خُلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنًا. فقال ابن عباس بما:-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرِج إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه- : ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له: « يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما » .

فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خُلقت بعد أن سَكن آدمُ الجنةَ، فجعلت له سكنًا.

وقال آخرون: بل خُلقت قبل أن يسكن آدم الجنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم- : لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا « يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين »

قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزَوْجتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْد شَنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة .

 

القول في تأويل قوله: وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا

قال أبو جعفر: أما الرَّغَد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال: أرْغد فلان: إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء، كما قال امرؤ القيس بن حُجْر:

بَيْنَمَـــا الْمَــرْءُ تَــرَاهُ نَاعِمَــا يَــأْمَنُ الأَحْـدَاثَ فِـي عَيْشٍ رَغَـدْ

وكما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، « وكلا منها رَغدا » ، قال: الرغد، الهنيء.

وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: « رغدًا » ، قال: لا حسابَ عليهم.

وحدثنا المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد مثله.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد: « وكلا منها رغدًا » ، أي لا حسابَ عليهم.

وحُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وكلا منها رغدًا حيث شئتما » ، قال: الرغد: سَعة المعيشة.

فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقًا واسعًا هنيئًا من العيش حيث شئتما.

كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما » ، ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدمَ، كما ابتُلي الخلقُ قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رَغدا حيث شاء، غيرَ شجرة واحدة نُهي عنها، وقُدِّم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ

قال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [ سورة الرحمن: 6 ] ، يعني بالنجم ما نَجمَ من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقلّ على ساق.

ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السُّنبلة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عُتيبة - جميعًا عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: هي السنبلة.

وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، مثله.

وحدثنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: السنبلة.

وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال : الشجرة التي نُهي عنها آدم، هي السنبلة.

وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدمُ، والشجرة التي تاب عندها: فكتب إليه أبو الجلد: « سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة » .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نُهي عنها آدمَ: البُرُّ .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزَوجته، السُّنبلة.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حُدِّث أنها الشجرةُ التي تحتكُّ بها الملائكة للخُلد.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يَمانَ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بنِ دثار، قال: هي السنبلة.

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقًا لولده في الدنيا

قال أبو جعفر: وقال آخرون: هي الكرمة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة.

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: الشجرة هي الكَرْم.

وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: هو العِنَب في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » .

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بَيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: « ولا تقرَبا هذه الشجرة » ، قال: الكرمُ.

وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: الكرم.

وحدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن مغيرة ، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر.

وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مُسلم، عن سعيد بن جبير، قوله « ولا تقربا هذه الشجرة » ، قال: الكرم.

وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السُّدّيّ، قال: العنب.

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عِنَب .

وقال آخرون: هي التِّينة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تينة.

قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها، بنصٍّ عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا.

فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك؟ وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » .

فقال بعض نحويّي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربَا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء. وجوابُ الجزاء يعمل فيه أوّله، كقولك: إن تَقُم أقُم، فتجزم الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله « فتكونا » ، لما وقعت الفاء في موضع شرط الأوّل نُصب بها، وصُيرت بمنـزلة « كي » في نصبها الأفعال المستقبلة، للزومها الاستقبال. إذ كان أصل الجزاء الاستقبال.

وقال بعض نحويّي أهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أنّ « أن » غير جائز إظهارها مع « لا » ، ولكنها مضمرة لا بد منها، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي « أن » - على الاسم. كما غير جائز في قولهم: « عسى أن يفعل » ، عسى الفعل. ولا في قولك: « ما كان ليفعل » : ما كان لأن يَفعل.

وهذا القولُ الثاني يُفسده إجماعُ جميعهم على تخطئة قول القائل: « سرني تقوم يا هذا » ، وهو يريد سرني قيامُك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل: « لا تقم » إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم - على صحة قول القائل: « لا تقم » ، وفساد قول القائل: « سرني تقوم » بمعنى سرني قيامك - الدليل الواضح على فسادِ دعوى المدعي أنّ مع « لا » التي في قوله: « ولا تقربا هذه الشجرة » ، ضمير « أن » - وصحةِ القول الآخر.

وفي قوله « فتكونا من الظالمين » ، وجهان من التأويل:

أحدهما أن يكون « فتكونا » في نية العطف على قوله « ولا تقربا » ، فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين. فيكون « فتكونا » حينئذ في معنى الجزم مجزومًا بما جُزم به « ولا تقربا » ، كما يقول القائل: لا تُكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس:

فُقُلْــتُ لَــهُ: صَـوِّبْ وَلا تَجْهَدَنَّـهُ فَيُـذْرِكَ مِـنْ أُخْـرَى القَطَـاةِ فَتَزْلَقِ

فجزم « فيذرِك » بما جزم به « لا تجهدنه » ، كأنه كرّر النهي.

والثاني أن يكون « فتكونا من الظالمين » ، بمعنى جواب النهي. فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قَرَبتماها كنتما من الظالمين. كما تقول: لا تَشتمْ عمرًا فيشتُمك، مجازاةً. فيكون « فتكونا » حينئذ في موضع نَصب، إذْ كان حرفًا عطف على غير شكله، لمّا كان في « ولا تقربا » حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في « فتكونا » ، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة.

وأما تأويل قوله: « فتكونا من الظالمين » ، فإنه يعني به فتكونا من المتعدِّين إلى غير ما أذِن لهم وأبيح لهم فيه، وإنما عَنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة، كنتما على منهاج من تعدَّى حُدودي، وَعصى أمري، واستحلَّ محارمي، لأن الظالمين بعضُهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين.

وأصل « الظلم » في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:

إِلا أُوَارِيَّ لأيـــًا مَـــا أُبَيِّنُهَــا وَالنُّـؤْيُ كَـالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَـةِ الْجَلَدِ

فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها. ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث:

ظَلَـمَ الْبِطَـاحَ بِهَـا انْهِـلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفَــا النِّطَـافُ لَـهُ بُعَيْـدَ الْمُقْلَـعِ

وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه.

وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى. وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا

قال أبو جعفر: اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم، « فأزلَّهما » بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال: فَأَخْرَجَهُمَا يعني إبليس مِمَّا كَانَا فِيهِ ، لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.

وقرأه آخرون: « فأزَالهما » ، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.

وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله: « فأزلهما » ، ما:-

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: « فأزلهما الشيطان » قال: أغواهما.

وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: « فأزلَّهما » ، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه. بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله « فأزالهما » ، فلا وجه - إذْ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال: « فأزالهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه » فيكون كقوله: « فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه » . ولكن المفهوم أن يقال: فاستزلهما إبليسُ عن طاعة الله - كما قال جل ثناؤه: « فأزلهما الشيطان » ، وقرأت به القراء - فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة.

فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليسُ آدمَ وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟

قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها

فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:-

حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرِب قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه « وذريته » - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا ، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر: قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء .

وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه ، فخرج إليه فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ سورة طه: 120 ] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين ، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة .

حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة.

وحُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة ، وقيل لهما: « لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين » . قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنُهيتما عن شيء؟ قالت: نعم! عن هذه الشجرة فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [ سورة الأعراف: 20 ] قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال: « فأزالهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه » ، قال: فأخرج آدم من الجنة .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه ، فأتاه من قِبَل الخلد. .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت: أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى وقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . أي تكونا مَلَكين، أو تخلدَا، إن لم تكونا ملكين - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه: فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ .

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا! إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدَت لهما سَوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفرّ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنَّى أُتِيت؟ قال: من قِبَل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها عليَّ أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة ، وأن أجعلها سفيهةً فقد كنت خلقتها حَليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتَضع يُسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حوّاء. لكان نساء الدنيا لا يَحضن، ولَكُنَّ حليماتٍ، وكن يحملن يُسرًا ويضعن يسُرًا.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثْني - ما أكل آدم من الشجرة وهو يَعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل .

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أيُّها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته ، فكلّ الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلّم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتِني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها؛ وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وَجَدتُموها، أخفروا ذمَّةَ عدوّ الله فيها .

وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرُسون: إنما كلم آدمَ الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس.

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . قال: فقطعت حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [ سورة الأعراف: 22 ] . لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتِها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن في كلّ هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ .

قال أبو جعفر: وقد رُويت هذه الأخبار - عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم - في صفة استزلال إبليس عدوِّ الله آدمَ وزوجتَه حتى أخرجهما من الجنة.

وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله مُوافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبديَ لهما ما وُري عنهما من سَوآتهما، وأنه قال لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وأنه « قاسمَهما إني لكما لمن الناصحين » مُدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه - عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - الدليلُ الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير مَعقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، لو كان ذلك كان منه إلى آدم - على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحيل - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . كما غير جائز أن يقول اليوم قائلٌ ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصحٌ فيما زيَّن لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدمَ وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليومَ وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، ولكن ذلك كان - إن شاء الله - على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله.

فأما سَبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مُدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه ، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه ؛ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك - إن شاء الله - كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما:-

حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خَلص إلى آدم وزوجته بسُلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نَوْمته وفي يَقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوَه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجلّ : « فأزلهما الشيطان عنها، فأخرَجهما مما كانا فيه » ، وقال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة الأعراف: 27 ] وقد قال الله لنبيه عليه السلام: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم . ثم قال ابن إسحاق : وإنما أمرُ ابن آدم فيما بينه وبين عدوِّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم. فقال الله: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ سورة الأعراف: 13 ] . ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصَّ الله علينا من خبرهما، فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [ سورة طه: 120 ] ، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه - فالله أعلمُ أيّ ذلك كان - فتابا إلى ربهما.

قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق - لو كان قد أيقن في نفسه - أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراضُ به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكّه؟ والله نسأل التوفيق.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ

قال أبو جعفر: وأما تأويل قوله « فأخرجهما » ، فإنه يعني: فأخرج الشيطانُ آدمَ وزوجته، « مما كانا » ، يعني مما كان فيه آدمُ وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان - وإن كان الله هو المخرجَ لهما - لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان ، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه كما يقول القائل لرجل وَصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: « ما حوَّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت » ، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه، جازَ له إضافة تحويله إليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

قال أبو جعفر: يقال هَبط فلان أرضَ كذا وواديَ كذا، إذا حلّ ذلك كما قال الشاعر:

مَـا زِلْـتُ أَرْمُقُهُـمْ, حَـتَّى إِذَا هَبَطَتْ أَيْـدِي الرِّكَـابِ بِهِـمْ مِـنْ رَاكِسٍ فَلَقَا

وقد أبان هذا القولُ من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أنّ المخرِجَ آدمَ من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودلّ بذلك أيضًا على أنّ هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجَمْع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبُّب إبليس ذلك لهما ، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.

قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: « اهبطوا » ، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به.

فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عَوَانة، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح: « اهبطوا بَعضُكم لبعض عَدوٌّ » ، قال: آدم وحواءُ وإبليس والحية .

حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هارون، قالا حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌّ » ، قال: فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية .

وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: « اهبِطوا بعضكم لبعض عدو » ، قال: آدم وإبليس والحية .

وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد: « اهبطوا بعضكم لبعض عدو » ، آدم وإبليس والحية ، ذريةٌ بعضُهم أعداءٌ لبعضٍ.

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « بعضكم لبعض عدوٌّ » ، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.

وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « بعضكم لبعض عدوٌّ » قال: يعني إبليس وآدم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: بعضهم لبعض عدوّ: آدم وحواء وإبليس والحية .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: آدم وحواء وإبليس والحية.

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ » قال: لهما ولذريتهما.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدمَ وزوجته وإبليس والحية؟ قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسدهُ إياه، واستكبارُه عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ سورة ص: 76 ] . وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوةُ المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربّه في تكبره عليه ومُخالفته أمرَه. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمانٌ بالله. وأما عداوة إبليسَ آدمَ فكفرٌ بالله.

وأما عدَاوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَا سالمناهُنّ مُنذ حَاربْناهن، فمن تركهنّ خشيةَ ثأرهنَّ فليس منَّا.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حَجاج بن رِشْدين، قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح، عن ابن عَجلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما سَالمناهُنَّ مُنذ حارَبناهنّ ، فمن ترك شيئًا منهنّ خيفةً، فليس منا

قال أبو جعفر: وأحسبُ أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزلّه عن طاعة ربه في أكله ما نُهي عن أكله من الشجرة.

وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال: حدثني آدم - جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن قَتل الحيَّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُلقتْ هي والإنسانُ كل واحد منهما عدوّ لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدَغته أوجعته، فاقتلها حَيث وجدتها .

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم بما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « ولكم في الأرض مُستقَرٌّ » قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [ سورة البقرة: 22 ] .

وحُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولكم في الأرض مستقرٌّ » ، قال: هو قوله: جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا [ سورة غافر: 64 ] .

وقال آخرون : معنى ذلك ولكم في الأرض قَرَار في القبور.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: « ولكم في الأرض مستقر » ، يعني القبور .

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: « ولكم في الأرض مستقرٌّ » ، قال: القبور .

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « ولكم في الأرض مستقر » ، قال: مقامهم فيها .

قال أبو جعفر: والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذْ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودًا حالا فذلك المكان من الأرض مستقره.

إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنـزلا بأماكنهم ومستقرِّهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله: وَمَتَاعٌ يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 36 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بَلاغ إلى الموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في قوله: « ومتاعٌ إلى حين » ، قال يقول: بلاغ إلى الموت .

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس: « ومتاعٌ إلى حين » ، قال: الحياة .

وقال آخرون: يعني بقوله: « ومتاعٌ إلى حين » ، إلى قيام الساعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: « ومتاع إلى حين » ، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.

وقال آخرون: « إلى حين » ، قال: إلى أجل.

ذكر من قال ذلك:

حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ومتاع إلى حين » ، قال: إلى أجل .

والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك . فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا ، ولجسمه منـزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات بالآية - إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قَصد بقوله: « ومتاعٌ إلى حين » بعضًا دون بعض، وخاصًّا دون عامٍّ في عقل ولا خبر - أن يكون ذلك في معنى العامِّ، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وَصفنا، فالواجب إذًا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض مَنازلُ ومساكنُ تستقرُّون فيها استقراركم - كان - في السموات ، وفي الجنان في منازلكم منها ، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرْماسكم وأجدَاثكم تُدفنون فيها ، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ

قال أبو جعفر: أما تأويل قوله: « فتلقى آدم » ، فقيل: إنه أخذ وقَبِل . وأصله التفعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبلَه عند قدومه من غيبته أو سفره، فكأنَّ ذلك كذلك في قوله: « فتلقى » ، كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به. فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه. كما:-

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » الآية. قال: لقَّاهمَا هذه الآية: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سورة الأعراف: 23 ] .

وقد قرأ بعضهم: « فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ » ، فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك، وإن كان من وجهة العربية جائزًا - إذْ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يُوجه الفعل إلى أيهما شاء، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع « آدم » على أنه المتلقي الكلمات، لإجماع الحجة من القَرَأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف ، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات. وغيرُ جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ.

واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها. آدمُ من ربه. فقال بعضهم بما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتابَ عليه » ، قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جَنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب، ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال: نعم.

قال: فهو قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » .

وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعْب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.

وحدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه » ، قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة .

وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، ذكر لنا أنه قال: يا رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذًا راجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذًا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات » ، قال: رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ هل كنتَ كتبتَ هذا عليّ؟ قيل له: نعم. قال: رب، إن تبت وأصلحت، هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [ سورة طه: 122 ] .

وقال آخرون بما:-

حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: حدثني من سمع عُبيد بن عُمير يقول: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال: فهو قول الله: « فتلقَّى آدم من ربه كلمات » .

وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: أخبرني من سمع عُبيد بن عُمير، بمثله.

وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه.

وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، بنحوه.

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا الثوري ، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله.

وقال آخرون بما:-

حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شَريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، أنه قال: قوله: « فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه » ، قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.

وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، وقيس- جميعًا عن خُصَيف، عن مجاهد في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ، حتى فرغ منها.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.

وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: « فتلقى آدم من ربه كلمات » هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا الآية.

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: أي رب، أتتوب عليّ إن تبت؟ قال نعم. فتاب آدم، فتاب عليه ربه.

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فتلقى آدم من ربه كلمات » ، قال: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقَّى آدمَ كلماتٍ، فتلقَّاهُنّ آدمُ من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقِيله إياهنّ وعملِه بهنّ إلى الله من خطيئته، معترفًا بذنبه، متنصِّلا إلى ربه من خطيئته، نادمًا على ما سلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه.

والذي يدل عليه كتابُ الله، أن الكلمات التي تلقاهنّ آدمُ من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصِّلا بقيلها إلى ربه، معترفًا بذنبه، وهو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . وليس ما قاله من خالف قولنا هذا - من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قولٌ لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربّه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم - من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائبًا إليه من خطيئته- تعريف منه جل ذكره جميعَ المخاطبين بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب ، وتنبيهٌ للمخاطبين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [ سورة البقرة: 28 ] ، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأنّ خلاصهم مما هم عليه مُقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم به السالفَ إليهم من النعم التي خَصَّ بها أباهم آدم وغيرَه من آبائهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَتَابَ عَلَيْهِ

قال أبو جعفر: وقوله: « فتاب عليه » ، يعني: على آدم. والهاء التي في « عليه » عائدة على آدَمُ . وقوله: « فتاب عليه » ، يعني رَزَقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلى الله، والأوبةُ إلى طاعته مما يَكرَهُ من معصيته.

 

القول في تأويل قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « إنه هو التواب الرحيم » ، أن الله جل ثناؤه هو التوّاب على من تاب إليه - من عباده المذنبين - من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه ، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.

وأما قوله: « الرحيم » ، فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة. ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا

قال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله: « قلنا اهبطوا منها جميعًا » فيما مضى، فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع.

وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله : « اهبطوا منها جميعًا » ، قال: آدم وحواء والحية وإبليس.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « فإما يأتينكم » ، فإنْ يَأتكم. و « ما » التي مع « إن » توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع « إن » أدخلت النون المشددة في « يأتينَّكم » ، تفرقةً بدخولها بين « ما » التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين « ما » التي تأتي بمعنى « الذي » ، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ « ما » التي مع « إن » التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست « ما » التي بمعنى « الذي » .

وقد قال بعض نحويي أهل البصرة : إنّ « إمَّا » ، « إن » زيدت معها « ما » ، وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته « ما » ، لأن « ما » نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: « بعينٍ مَّا أرَينَّك » ، حين أدخلت فيها « ما » حسنت النون فيما هاهنا.

وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة : أن « ما » التي مع « بعينٍ ما أرَينَّك » بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام.

وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام: « بعَين أراك » ، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )

قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:-

حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « فإما يأتينكم مني هدًى » قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. .

فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله: اهْبِطُوا ، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ سورة فصلت: 11 ] ، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة ابن مسعود: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم ) [ سورة البقرة: 128 ] ، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا . وكما يقول القائل لآخر: « كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم » ، ونحو ذلك من الكلام.

وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا - وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله: « فإما يأتينّكم منّي هُدًى » ، خطابًا له ولزوجته، « فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل » إلا على ما وصفتُ من التأويل.

وقول أبي العالية في ذلك - وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي ، وهو آدمُ وزوجته وإبليس - كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .

وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. . وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [ سورة البقرة: 6 ] ، وفي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [ سورة البقرة: 8 ] ، وأنّ حكمه فيهم - إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها.

وقوله: « فمن تَبعَ هُدَايَ » ، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي . كما:-

حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « فمن تَبع هُدَاي » ، يعني بياني. .

وقوله: « فلا خوفٌ عليهم » ، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:-

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: « لا خوفٌ عليهم » ، يقول: لا خوف عليكم أمامكم .

وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال: « ولا هم يحزنون » .

وقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 )

يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء .

« أولئك أصحاب النار » ، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:-

حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة .

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « يا بني إسرائيل » ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يعقوب يدعى « إسرائيل » ، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و « إيل » هو الله، و « إسرا » هو العبد، كما قيل: « جبريل » بمعنى عبد الله. وكما:-

حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: « إيل » ، الله بالعبرانية.

وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: « يا بني إسرائيل » أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [ سورة الأعراف: 31 ] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه - وإن كان قد تقدّم ما أنـزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنـزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله: « يا بني إسرائيل » خطابهم كما:-

حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: « يا بني إسرائيل » ، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود .

 

القول في تأويل قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

قال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنـزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:-

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم » ، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « اذكروا نعمتي » ، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنـزل عليهم الكتب .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » ، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « نعمتي التي أنعمت عليكم » قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ سورة الحجرات: 17 ]

وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ سورة المائدة: 20 ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( 40 )

قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى - عن معنى العهد- من كتابنا هذا ، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه . وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله.

« أوف بعهدكم » : وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ سورة المائدة: 12 ] ، وكما قال: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ سورة الأعراف: 156- 157 ] .

وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وأوفوا بعهدي » الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، « أوف بعهدكم » ، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم .

وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم » ، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه، « أوف بعهدكم » ، يعني الجنة .

وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « أوفوا بعهدي أوف بعهدكم » : أما « أوفوا بعهدي » ، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما « أوف بعهدكم » فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة .

وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: « وأفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا إلى آخر الآية [ سورة المائدة: 12 ] . فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده .

وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، « أوف بعهدكم » ، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة .

وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم » ، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حتى بلغ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [ سورة التوبة: 111 ] ، قال: هذا عهده الذي عهده لهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « وإياي فارهبون » ، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنـزلتُ من الكتُب على أنبيائي - أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنـزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:-

حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وإيايَ فارهبون » ، أن أنـزل بكم ما أنـزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره.

وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: « وإياي فارهَبُون » ، يقول: فاخشَوْن.

وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وإياي فارهبون » ، يقول: وإياي فاخشون.

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « آمنوا » ، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. ويعني بقوله: « بما أنـزلت » ما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله: « مصدِّقًا لما معكم » ، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما أنـزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة.

وقوله: « مصدقًا » ، قطع من الهاء المتروكة في « أنـزلته » من ذكر « ما » . ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنـزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:-

حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم » ، يقول: إنما أنـزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وآمنوا بما أنـزلت مصدِّقًا لما معكم » ، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنـزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. .

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل: « ولا تكونوا أول كافر به » ، والخطاب فيه لجميع ، وقوله: « كافر » واحد؟ وهل نجيز - إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل: « ولا تكونوا أول رجُل قام » ؟

قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له « أفعل » ، وهو خبر لجميع إذا كان اسمًا مشتقًّا من « فعل ويفعل » ، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو « مَنْ » ، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه « مَنْ » من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به. « فمن » بمعنى جميع ، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من « فعل ويفعل » مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه « مَنْ » من معنى الجمع والتأنيث، كقولك: « الجيش مُنهزم » ، « والجند مقبلٌ » ، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال: « الجيش رجل، والجند غلام » ، حتى تقول: « الجند غلمان والجيش رجال » . لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من « فعل ويفعل » ، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:

وَإِذَا هُــمُ طَعِمُــوا فَـأَلأَمُ طَـاعِمٍ وَإِذَا هُـمُ جَـاعُوا فَشَـرُّ جِيَـاعِ

فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية « مَنْ » ، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من « فعل ويفعل » مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا .

وأما تأويل ذلك فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنـزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.

وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله . والهاء التي في « به » من ذكر « ما » التي مع قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ . كما:-

حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله: « ولا تكونوا أوّل كافر به » ، بالقرآن.

قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:-

حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تكونوا أول كافر به » ، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. .

وقال بعضهم: « ولا تكونوا أول كافر به » ، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ . ومعقول أن الذي أنـزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنـزيلٌ مُنْـزَل، والمنْـزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله: « ولا تكونوا أول كافر به » - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام .

وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في « به » على « ما » التي في قوله: لِمَا مَعَكُمْ . لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام ، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنـزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به » ، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم .

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا » ، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا .

وقال آخرون بما:-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا » ، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع .

فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه.

وإنما قلنا بمعنى ذلك: « لا تبيعوا » ، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية ، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته.

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ

قال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنـزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات.

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « ولا تلبسُوا » ، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط. يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه . كما:-

حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [ سورة الأنعام: 9 ] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون .

ومنه قول العجاج:

لَمَّــا لَبَسْــنَ الْحَــقَّ بِــالتَّجَنِّي غَنِيــنَ وَاسْــتَبْدَلْنَ زَيْــدًا مِنِّـي

يعني بقوله: « لبسن » ، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها . ومن اللُّبس قول الأخطل:

لَقَـدْ لَبِسْـتُ لِهَـذَا الدَّهْـرِ أَعْصُـرَهُ حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا

ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ . [ سورة الأنعام: 9 ]

فإن قال لنا قائل وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟

قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا ، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: « ولا تلبِسُوا الحق بالباطل » ، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل » ، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم .

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: « ولا تلبسوا الحق بالباطل » ، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: « ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل » ، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنـزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 42 )

قال أبو جعفر: وفي قوله: « وتكتموا الحق » ، وجهان من التأويل:

أحدُهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله: « وتكتموا » عند ذلك مجزومًا بما جُزِم به تَلْبِسُوا ، عطفًا عليه.

والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله: « وتكتموا الحق » خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله: « وتكتموا » حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، إذ كان قوله: وَلا تَلْبِسُوا نهيًا، وقوله « وتكتموا الحق » خبرًا معطوفًا عليه، غيرَ جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله: تَلْبِسُوا من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صَرْفًا . ونظيرُ ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر:

لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُ عَـارٌ عَلَيْـكَ إَِذَا فَعَلْـتَ عَظِيمُ

فنصب « تأتي » على التأويل الذي قلنا في قوله: « وتكتموا » ، لأنه لم يرد: لا تنه عن خُلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصبَ الخبر إذ عطفه على غير شكله.

فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: « وتكتموا الحق » ، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.

وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، أي ولا تكتموا الحق. .

وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد.

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم .

وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:-

حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.

وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: « وتكتموا الحق » ، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك.

وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل .

وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون » ، قال: الحقُّ هو محمد صلى الله عليه وسلم .

وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: « وتكتموا الحق وأنتم تعلمون » ، قال: كتَموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم .

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل .

فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوثٌ إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به.

 

القول في تأويل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )

قال أبو جعفر: ذُكِر أن أحبارَ اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا.

كما حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: « وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة » ، قال: فريضتان واجبتان، فأدُّوهما إلى الله .

وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته .

أما إيتاءُ الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزَّكاة، نماءُ المال وتثميرُه وزيادتُه. ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ. وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا، كما قال الشاعر:

كَـانُوا خَسـًا أو زَكـًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ لَـمْ يُخْـلَقُوا, وَجُـدُودُ النَّـاسِ تَعْتَلـجُ

وقال آخر:

فَــلا خَســًا عَدِيــدُهُ وَلا زَكــا كَمَـا شِـرَارُ الْبَقْـلِ أَطْـرَافُ السَّـفَا

قال أبو جعفر: السفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء .

يعني بقوله: « ولا زكا » ، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم .

وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مالٌ يخرجُ من مال، لتثمير الله - بإخراجها مما أخرجت منه - ما بقي عند ربِّ المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان ، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [ سورة الكهف: 74 ] ، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى . وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها.

وإيتاؤها: إعطاؤُها أهلها.

وأما تأويل الرُّكوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلانٌ لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:

بِيعَـتْ بِكَسْـرٍ لَئِـيمٍ وَاسْـتَغَاثَ بِهَـا مِـنَ الْهُـزَالِ أَبُوهَـا بَعْـدَ مَـا رَكَعَا

يعني: بعد مَا خضَع من شِدَّة الجهْد والحاجة.

قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة .

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى البر الذي كان المخاطبون بهذه الآية يأمرون الناس به وينسون أنفسهم, بعد إجماع جميعهم على أن كل طاعة لله فهي تسمى « برا » . فروي عن ابن عباس ما:-

حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهدة من التوراة, وتتركون أنفسكم: أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي, وتنقضون ميثاقي, وتجحدون ما تعلمون من كتابي.

وحدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( أتأمرون الناس بالبر ) يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة، وتنسون أنفسكم .

وقال آخرون بما:-

حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثني عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وهم يعصونه.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون, فعيرهم الله.

وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا الحجاج, قال: قال ابن جريج: ( أتأمرون الناس بالبر ) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة, ويدعون العمل بما يأمرون به الناس, فعيرهم الله بذلك, فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة.

وقال آخرون بما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: هؤلاء اليهود كان إذا جاء الرجل يسألهم ما ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء, أمروه بالحق. فقال الله لهم: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )

وحدثني علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرْمي, قال: حدثنا مخلد بن الحسين, عن أيوب السختياني, عن أبي قلابة، في قول الله: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ) قال: قال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا.

قال أبو جعفر: وجميع الذي قال في تأويل هذه الآية من ذكرنا قوله متقارب المعنى; لأنهم وإن اختلفوا في صفة « البر » الذي كان القوم يأمرون به غيرهم، الذين وصفهم الله بما وصفهم به, فهم متفقون في أنهم كانوا يأمرون الناس بما لله فيه رضا من القول أو العمل, ويخالفون ما أمروهم به من ذلك إلى غيره بأفعالهم.

فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم؟ معيرهم بذلك، ومقبحا إليهم ما أتوا به.

ومعنى « نسيانهم أنفسهم » في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة: 67 ] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه.

القول في تأويل قوله تعالى وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( تتلون ) : تدرسون وتقرءون. كما:-

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس: ( وأنتم تتلون الكتاب ) ، يقول: تدرسون الكتاب بذلك. ويعني بالكتاب: التوراة.

القول في تأويل قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 44 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( أفلا تعقلون ) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها وتنهونهم عن ركوبها وأنتم راكبوها, وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته، واتباع محمد والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه. كما:

حدثنا به محمد بن العلاء, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس: ( أفلا تعقلون ) يقول: أفلا تفهمون؟ فنهاهم عن هذا الخلق القبيح.

قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة ما قلنا من أمر أحبار يهود بني إسرائيل غيرهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم, وأنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلى غيرنا! كما ذكرنا قبل.

القول في تأويل قوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( واستعينوا بالصبر ) : استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم - من طاعتي واتباع أمري, وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري, واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وسلم - بالصبر عليه والصلاة.

وقد قيل: إن معنى « الصبر » في هذا الموضع: الصوم, و « الصوم » بعض معاني « الصبر » . وتأويل من تأول ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله, وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابَّها، وكفها عن هواها; ولذلك قيل للصابر على المصيبة: صابر, لكفه نفسه عن الجزع; وقيل لشهر رمضان « شهر الصبر » , لصبر صائميه عن المطاعم والمشارب نهارا, وصبره إياهم عن ذلك: حبسه لهم, وكفه إياهم عنه, كما تصبر الرجل المسيء للقتل فتحبسه عليه حتى تقتله. ولذلك قيل: قتل فلان فلانا صبرا, يعني به: حبسه عليه حتى قتله, فالمقتول « مصبور » , والقاتل « صابر » .

وأما الصلاة فقد ذكرنا معناها فيما مضى.

فإن قال لنا قائل: قد علمنا معنى الأمر بالاستعانة بالصبر على الوفاء بالعهد والمحافظة على الطاعة, فما معنى الأمر بالاستعانة بالصلاة على طاعة الله, وترك معاصيه, والتعري عن الرياسة, وترك الدنيا؟ قيل: إن الصلاة فيها تلاوة كتاب الله, الداعية آياته إلى رفض الدنيا وهجر نعيمها, المسلية النفوس عن زينتها وغرورها, المذكرة الآخرة وما أعد الله فيها لأهلها. ففي الاعتبار بها المعونة لأهل طاعة الله على الجد فيها, كما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

حدثني بذلك إسماعيل بن موسى الفزاري, قال: حدثنا الحسين بن رتاق الهمداني, عن ابن جرير, عن عكرمة بن عمار, عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة, عن عبد العزيز بن اليمان, عن حذيفة قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة » .

وحدثني سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا خلف بن الوليد الأزدي, قال: حدثنا يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار, عن محمد بن عبد الله الدؤلي, قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة, قال حذيفة: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى » . .

وكذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى أبا هريرة منبطحا على بطنه فقال له: « اشكَنْب دَرْد » ؟ قال: نعم, قال: قم فصل؛ فإن في الصلاة شفاء .

فأمر الله جل ثناؤه الذين وصف أمرهم من أحبار بني إسرائيل أن يجعلوا مفزعهم في الوفاء بعهد الله الذي عاهدوه إلى الاستعانة بالصبر والصلاة كما أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال له: فَاصْبِرْ يا محمد عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [ طه: 130 ] فأمره جل ثناؤه في نوائبه بالفزع إلى الصبر والصلاة. وقد:-

حدثنا محمد بن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا ابن علية, قال: حدثنا عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر, فاسترجع. ثم تنحى عن الطريق, فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس, ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .

وأما أبو العالية فإنه كان يقول بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله, واعلموا أنهما من طاعة الله.

وقال ابن جريج بما:-

حدثنا به القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج في قوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال: إنهما معونتان على رحمة الله.

وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) الآية, قال: قال المشركون: والله يا محمد إنك لتدعونا إلى أمر كبير! قال: إلى الصلاة والإيمان بالله جل ثناؤه.

القول في تأويل قوله تعالى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ( 45 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإنها ) ، وإن الصلاة, ف « الهاء والألف » في « وإنها » عائدتان على « الصلاة » . وقد قال بعضهم: إن قوله: ( وإنها ) بمعنى: إن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يجر لذلك بلفظ الإجابة ذكر فتجعل « الهاء والألف » كناية عنه, وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته.

ويعني بقوله: ( لكبيرة ) : لشديدة ثقيلة. كما:-

حدثني يحيى بن أبي طالب, قال: أخبرنا ابن يزيد, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) قال: إنها لثقيلة.

ويعني بقوله: ( إلا على الخاشعين ) : إلا على الخاضعين لطاعته, الخائفين سطواته, المصدقين بوعده ووعيده. كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( إلا على الخاشعين ) يعني المصدقين بما أنـزل الله.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا آدم العسقلاني, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( إلا على الخاشعين ) قال: يعني الخائفين.

وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد: ( إلا على الخاشعين ) قال: المؤمنين حقا.

وحدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

وحدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: الخشوع: الخوف والخشية لله. وقرأ قول الله: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [ الشورى: 45 ] قال: قد أذلهم الخوف الذي نـزل بهم, وخشعوا له.

وأصل « الخشوع » : التواضع والتذلل والاستكانة, ومنه قول الشاعر:

لمـا أتـى خـبر الزبـير تـواضعت ســور المدينــة والجبـال الخشـع

يعني: والجبال خشع متذللة لعظم المصيبة بفقده.

فمعنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله, وكفها عن معاصي الله, وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر, المقربة من مراضي الله, العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله، المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته.

القول في تأويل قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه « يظن » أنه ملاقيه, والظن: شك, والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟

قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين « ظنا » , والشك « ظنا » , نظير تسميتهم الظلمة « سدفة » ، والضياء « سدفة » , والمغيث « صارخا » , والمستغيث « صارخا » , وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة:

فقلــت لهـم ظنـوا بـألفي مدجـج سـراتهم فـي الفارسـي المسرد

يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:

بــأن تغـتزوا قـومي وأقعـد فيكـم وأجـعل منـي الظن غيبا مرجما

يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن « الظن » في معنى اليقين أكثر من أن تحصى, وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية.

ومنه قول الله جل ثناؤه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا [ الكهف: 53 ] وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين.

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال: إن الظن ههنا يقين.

وحدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن يقين, إِنِّي ظَنَنْتُ ، وَظَنُّوا .

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو داود الحفري, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: كل ظن في القرآن فهو علم.

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) أما « يظنون » فيستيقنون.

وحدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) علموا أنهم ملاقو ربهم, هي كقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [ الحاقة: 20 ] يقول: علمت.

وحدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) قال: لأنهم لم يعاينوا, فكان ظنهم يقينا, وليس ظنا في شك. وقرأ: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ .

القول في تأويل قوله تعالى أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف « الملاقون » إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك, فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون, وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى « فعل » , فأما إذا كانت بمعنى « يفعل وفاعل » , فشأنها إثبات النون, وترك الإضافة.

قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من « فعل ويفعل » , وإسقاط النون وهو بمعنى « يفعل وفاعل » , أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض, فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون.

فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: ( ملاقو ربهم ) وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى « يفعل » وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها, وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [ سورة آل عمران: 185 الأنبياء:35 العنكبوت: 57 ] ، وكما قال: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [ القمر: 27 ] ولما يرسلها بعد; وكما قال الشاعر:

هـل أنـت بـاعث دينـار لحاجتنـا أو عبـد رب أخـا عـون بن مخراق?

فأضاف « باعثا » إلى « الدينار » , ولما يبعث, ونصب « عبد رب » عطفا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر:

الحـــافظو عــورة العشــيرة, لا يــأتيهم مـن ورائـهم نطـف

بنصب « العورة » وخفضها، فالخفض على الإضافة, والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة.

وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في ( ملاقو ) الإضافة, وهي في معنى يلقون, وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء, فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة, فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ, وترك الإضافة للمعنى.

فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة, وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي, المتواضعين لأمري, الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم.

وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته; لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب, فالصلاة عنده عناء وضلال, لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر, وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة, وإقامتها عليه ثقيلة, وله فادحة.

وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله, الراجين عليها جزيل ثوابه, الخائفين بتضييعها أليم عقابه, لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها, ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون.

القول في تأويل قوله تعالى وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 46 )

قال أبو جعفر: و « الهاء والميم » اللتان في قوله: ( وأنهم ) من ذكر الخاشعين, و « الهاء » في « إليه » من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: مُلاقُو رَبِّهِمْ فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون.

ثم اختلف في تأويل « الرجوع » الذي في قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) فقال بعضهم، بما:-

حدثني به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) ، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة .

وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم.

وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية; لأن الله تعالى ذكره, قال في الآية التي قبلها: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم, وذلك لا شك يوم القيامة, فكذلك تأويل قوله: ( وأنهم إليه راجعون ) .

القول في تأويل قوله تعالى يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك في هذه الآية نظير تأويله في التي قبلها في قوله: ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي ) . وقد ذكرته هنالك .

القول في تأويل قوله تعالى وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 47 )

قال أبو جعفر: وهذا أيضا مما ذكرهم جل ثناؤه من آلائه ونعمه عندهم. ويعني بقوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) : أني فضلت أسلافكم, فنسب نعمه على آبائهم وأسلافهم إلى أنها نعم منه عليهم, إذ كانت مآثر الآباء مآثر للأبناء, والنعم عند الآباء نعما عند الأبناء, لكون الأبناء من الآباء, وأخرج جل ذكره قوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) مخرج العموم, وهو يريد به خصوصا; لأن المعنى: وإني فضلتكم على عالم من كنتم بين ظهريه وفي زمانه . كالذي:-

حدثنا به محمد بن عبد الأعلى الصنعاني, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر - وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر- عن قتادة، ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: فضلهم على عالم ذلك الزمان.

حدثني المثنى, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب، على عالم من كان في ذلك الزمان, فإن لكل زمان عالما.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد في قوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) قال: على من هم بين ظهرانيه.

وحدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: على من هم بين ظهرانيه.

وحدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: سألت ابن زيد عن قول الله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) ، قال: عالم أهل ذلك الزمان. وقرأ قول الله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الدخان: 32 ] قال: هذه لمن أطاعه واتبع أمره, وقد كان فيهم القردة، وهم أبغض خلقه إليه, وقال لهذه الأمة: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آل عمران: 110 ] قال: هذه لمن أطاع الله واتبع أمره واجتنب محارمه.

قال أبو جعفر: والدليل على صحة ما قلنا من أن تأويل ذلك على الخصوص الذي وصفنا ما:-

حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر جميعا, عن بهز بن حكيم, عن أبيه, عن جده, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ألا إنكم وفيتم سبعين أمة » - قال يعقوب في حديثه: أنتم آخرها- . وقال الحسن: « أنتم خيرها وأكرمها على الله » .

فقد أنبأ هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لم يكونوا مفضلين على أمة محمد عليه الصلاة والسلام, وأن معنى قوله: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الجاثية: 16 ] وقوله: ( وأني فضلتكم على العالمين ) على ما بينا من تأويله. وقد أتينا على بيان تأويل قوله: ( العالمين ) بما فيه الكفاية في غير هذا الموضع, فأغنى ذلك عن إعادته .

القول في تأويل قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا. وجائز أيضا أن يكون تأويله: واتقوا يوما لا تجزيه نفس عن نفس شيئا, كما قال الراجز:

قــد صبحــت, صبحهـا السـلام بكبــــد خالطهــــا ســـنام

في ساعة يحبها الطعام

وهو يعني: يحب فيها الطعام. فحذفت « الهاء » الراجعة على « اليوم » , إذ فيه اجتزاء - بما ظهر من قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس ) الدال على المحذوف منه- عما حذف, إذ كان معلوما معناه.

وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا « الهاء » . وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا « فيه » . وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه.

وأما المعنى في قوله: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية - عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة, وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا, ولا يجزي فيه والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.

وأما تأويل قوله: « لا تجزي نفس » فإنه يعني: لا تغني: كما:-

حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « واتقوا يوما لا تجزي نفس » أما « تجزي » : فتغني.

أصل « الجزاء » - في كلام العرب- : القضاء والتعويض. يقال: « جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء » ، بمعنى: قضيته دينه. ومن ذلك قيل: « جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا » ، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب: « يقال أجزيت عنه كذا » : إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته

وقال آخرون منهم: بل « جَزَيْتُ عنك » قضيت عنك. و « أجزَيتُ » كفيت. وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال: « جزت عنك شاة وأجزَت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي » بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن « جزت عنك، ولا تُجزي عنك » من لغة أهل الحجاز، وأن « أجزأ وتجزئ » من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول: « أجزأت عنك شاة، وهي تجزئ »

عنك « .وزعم آخرون أن » جزى « بلا همز: قضى، و » أجزأ « بالهمز: كافأ فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى. »

فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟

قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه. وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها- يسر الرجل أن يَبْرُدَ له على ولده أو والده حق . وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات. كما:

حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأزدي، قالا: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدالاني يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مَظلمة في عِـرض - قال أبو كريب في حديثه: أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم »

حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا الفروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثنا خلاد بن أسلم, قال: حدثنا أبو همام الأهوازي, قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد, عن سعيد عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثنا موسى بن سهل الرملي, قال: حدثنا نعيم بن حماد, قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي, عن عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يموتن أحدكم وعليه دين, فإنه ليس هناك دينار ولا درهم, إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات » وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا.

حدثني محمد بن إسحاق, قال: قال: حدثنا سالم بن قادم, قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى, قال: أخبرني الحارث بن مسلم, عن الزهري, عن أنس بن مالك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة.

قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) يعني: أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق, فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه؟ .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) : لا تجزي منها أن تكون مكانها.

وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده. وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل: « ما أغنيت عني شيئا » , بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني, بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء, قالوا: « لا يجزي هذا من هذا » , ولا يستجيزون أن يقولوا: « لا يجزي هذا من هذا شيئا » .

فلو كان تأويل قوله: ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) ما قاله من حكينا قوله لقال: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس ) كما يقال: لا تجزي نفس من نفس, ولم يقل: « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » . وفي صحة التنـزيل بقوله: « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ

قال أبو جعفر: و « الشفاعة » مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع « شفيع وشافع » لأنه ثنى المستشفع به, فصار به شفعا فكان ذو الحاجة - قبل استشفاعه به في حاجته- فردا, فصار صاحبه له فيها شافعا, وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة. ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض « شفيعا » لمصير البائع به شفعا.

فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره, ولا يقبل الله منها شفاعة شافع, فيترك لها ما لزمها من حق.

وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها، لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل, وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه, وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة, ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما:-

حدثني عباس بن أبي طالب, قال: حدثنا حجاج بن نصير, عن شعبة, عن العوام بن مراجم - رجل من قيس بن ثعلبة- , عن أبي عثمان النهدي, عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة, كما قال الله عز وجل وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ... [ الأنبياء: 47 ] الآية

فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله - مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده- بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم؛ وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم, وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمة الله .

وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة, فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » وأنه قال: « ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة, وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي, وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا » .

فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين - بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم- عن كثير من عقوبة إجرامهم بينهم وبينه وأن قوله: ( ولا يقبل منها شفاعة ) إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل. وليس هذا من مواضع الإطالة في القول في الشفاعة والوعد والوعيد, فنستقصي الحجاج في ذلك, وسنأتي على ما فيه الكفاية في مواضعه إن شاء الله .

القول في تأويل قوله تعالى وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ

قال أبو جعفر: و « العدل » - في كلام العرب بفتح العين- : الفدية، كما:- ‌‌‌

حدثنا به المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: يعني فداء.

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: ( ولا يؤخذ منها عدل ) أما عدل: فيعدلها من العدل, يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: لو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.

حدثنا القاسم بن الحسن, قال: حدثنا حسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: بدل, والبدل: الفدية.

حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( ولا يؤخذ منها عدل ) قال: لو أن لها ملء الأرض ذهبا لم يقبل منها فداء قال: ولو جاءت بكل شيء لم يقبل منها.

وحدثني نجيح بن إبراهيم, قال: حدثنا علي بن حكيم, قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن عمرو بن قيس الملائي, عن رجل من بني أمية - من أهل الشام أحسن عليه الثناء- , قال: قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال: العدل: الفدية .

وإنما قيل للفدية من الشيء والبدل منه « عدل » , لمعادلته إياه وهو من غير جنسه; ومصيره له مثلا من وجه الجزاء, لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة, كما قال جل ثناؤه: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا [ الأنعام: 70 ] بمعنى: وإن تفد كل فدية لا يؤخذ منها. يقال منه: « هذا عدله وعديله » . وأما « العدل » بكسر العين, فهو مثل الحمل المحمول على الظهر, يقال من ذلك: « عندي غلام عدل غلامك, وشاة عدل شاتك » - بكسر العين- , إذا كان غلام يعدل غلاما, وشاة تعدل شاة. وكذلك ذلك في كل مثل للشيء من جنسه. فإذا أريد أن عنده قيمته من غير جنسه نصبت العين فقيل: « عندي عدل شاتك من الدراهم » . وقد ذكر عن بعض العرب أنه يكسر العين من « العدل » الذي هو بمعنى الفدية لمعادلة ما عادله من جهة الجزاء, وذلك لتقارب معنى العدل والعدل عندهم, فأما واحد « الأعدال » فلم يسمع فيه إلا « عدل » بكسر العين.

القول في تأويل قوله تعالى وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 48 )

وتأويل قوله: ( ولا هم ينصرون ) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر, كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات, وارتفع بين القوم التعاون والتناصر وصار الحكم إلى العدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [ الصافات: 24- 26 ] وكان ابن عباس يقول في معنى: لا تَنَاصَرُونَ ، ما:-

حدثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ما لكم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم!

وقد قال بعضهم في معنى قوله: ( ولا هم ينصرون ) : وليس لهم من الله يومئذ نصير ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. وقد قيل: ولا هم ينصرون بالطلب فيهم والشفاعة والفدية.

قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بتأويل الآية لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه إنما أعلم المخاطبين بهذه الآية أن يوم القيامة يوم لا فدية - لمن استحق من خلقه عقوبته- , ولا شفاعة فيه, ولا ناصر له. وذلك أن ذلك قد كان لهم في الدنيا, فأخبر أن ذلك يوم القيامة معدوم لا سبيل لهم إليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

أما تأويل قوله: ( وإذ نجيناكم ) فإنه عطف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ . فكأنه قال: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, واذكروا إنعامنا عليكم - إذ نجيناكم من آل فرعون- بإنجائناكم منهم.

وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه.

وأصل « آل » أهل, أبدلت الهاء همزة, كما قالوا « ماء » فأبدلوا الهاء همزة, فإذا صغروه قالوا: « مويه » , فردوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله. وكذلك إذا صغروا آل, قالوا: « أهيل » . وقد حكي سماعا من العرب في تصغير « آل » : « أويل » . وقد يقال: « فلان من آل النساء » يراد به أنه منهن خلق, ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهن ويهواهن, كما قال الشاعر:

فــإنك مــن آل النســاء وإنمـا يَكُــنَّ لأدْنَــى; لا وصـال لغـائب

وأحسن أماكن « آل » أن ينطق به مع الأسماء المشهورة, مثل قولهم: آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وآل علي, وآل عباس, وآل عقيل. وغير مستحسن استعماله مع المجهول, وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك; غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال: رأيت آل الرجل, ورآني آل المرأة - ولا- : رأيت آل البصرة, وآل الكوفة. وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول: « رأيت آل مكة وآل المدينة » . وليس ذلك في كلامهم بالفاشي المستعمل .

وأما « فرعون » فإنه يقال: إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمى به, كما كانت ملوك الروم يسمى بعضهم « قيصر » وبعضهم « هرقل » , وكما كانت ملوك فارس تسمى « الأكاسرة » واحدهم « كسرى » , وملوك اليمن تسمى « التبابعة » ، واحدهم « تبع » .

وأما « فرعون موسى » الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال: إن اسمه « الوليد بن مُصعب بن الريان » , وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه.

حدثنا بذلك محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: أن اسمه الوليد بن مُصعب بن الريان.

وإنما جاز أن يقال: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) ، والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجَّين منه, لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه, فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم, وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة, كما يقول القائل لآخر: « فعلنا بكم كذا, وفعلنا بكم كذا, وقتلناكم وسبيناكم » , والمخبِر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك، أو أهل بلده ووطنه - كان المقولُ له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه, كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية:

ولقــد ســما لكـم الهـذيل فنـالكم بــإرَابَ, حــيث يقسِّــم الأنفـالا

فـي فيلـق يدعـو الأراقـم, لـم تكن فرســـانه عُـــزلا ولا أكفــالا

ولم يلحق جرير هذيلا ولا أدركه, ولا أدرك إراب ولا شهده. ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير, أضاف الخطاب إليه وإلى قومه. فكذلك خطاب الله عز وجل من خاطبه بقوله: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون ) لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم, أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم. .

القول في تأويل قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ

وفي قوله: ( يسومونكم ) وجهان من التأويل, أحدهما: أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل, فيكون معناه حينئذ: و اذكروا نعمتي عليكم إذ نجيتكم من آل فرعون وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب. وإذا كان ذلك تأويله كان موضع « يسومونكم » رفعا.

والوجه الثاني: أن يكون « يسومونكم » حالا فيكون تأويله حينئذ: وإذ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب, فيكون حالا من آل فرعون.

وأما تأويل قوله: ( يسومونكم ) فإنه: يوردونكم, ويذيقونكم, ويولونكم, يقال منه: « سامه خطة ضيم » ، إذا أولاه ذلك وأذاقه, كما قال الشاعر:

إن سيم خسفا, وجهه تربدا

فأما تأويل قوله: ( سوء العذاب ) فإنه يعني: ما ساءهم من العذاب. وقد قال بعضهم: أشد العذاب; ولو كان ذلك معناه لقيل: أسوأ العذاب.

فإن قال لنا قائل: وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوؤهم؟

قيل: هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ، وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما:-

حدثنا به ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: أخبرنا ابن إسحاق, قال: كان فرعون يعذب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله, فصنف يبنون, [ وصنف يحرثون ] ، وصنف يزرعون له, فهم في أعماله, ومن لم يكن منهم في صنعة [ له ] من عمله: فعليه الجزية - فسامهم- كما قال الله عز وجل: سوء العذاب.

وقال السدي: جعلهم في الأعمال القذرة, وجعل يقتل أبناءهم, ويستحيي نساءهم:

حدثني بذلك موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط عن السدي.

القول في تأويل قوله تعالى يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ

قال أبو جعفر: وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سومهم إياهم سوء العذاب، وذبحهم أبناءهم، واستحيائهم نساءهم إليهم، دون فرعون - وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوة فرعون، وعن أمره- لمباشرتهم ذلك بأنفسهم. فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حي بنفسه، وإن كان عن أمر غيره, ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه, وإن كان الآمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك - سلطانا كان الآمر، أو لصا خاربا، أو متغلبا فاجرا. كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون, وإن كانوا بقوة فرعون وأمره إياهم بذلك، فعلوا ما فعلوا، مع غلبته إياهم وقهره لهم. فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو المقتول عندنا به قصاصا, وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله.

وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل, واستحيائهم نساءهم، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي:-

حدثنا به العباس بن الوليد الآملي وتميم بن المنتصر الواسطي, قالا حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد, قال: حدثنا القاسم بن أيوب, قال: حدثنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا وائتمروا, وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفارُ يطوفون في بني إسرائيل, فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه, ففعلوا. فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم, وأن الصغار يذبحون, قال: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم, فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم؛ ودعوا عاما. فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان, فولدته علانية آمنة, حتى إذا كان القابل حملت بموسى.

وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم, قال: حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي, قال: حدثنا سفيان بن عيينة, قال: حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. قال: فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل, وعلى كل مائة عشرة, وعلى كل عشرة رجلا فقال: انظروا كل امرأة حامل في المدينة, فإذا وضعت حملها فانظروا إليه, فإن كان ذكرا فاذبحوه, وإن كان أنثى فخلوا عنها. وذلك قوله: ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .

حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, فقالت الكهنة: إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه. فبعث في أهل مصر نساء قوابل فإذا ولدت امرأة غلاما أُتي به فرعون فقتله، ويستحيي الجواري.

وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية, قال: إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة, وإنه أتاه آت, فقال: إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل، فيظهر عليك، ويكون هلاكك على يديه. فبعث في مصر نساء. فذكر نحو حديث آدم.

وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط بن نصر عن السدي, قال: كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر, فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، وأخربت بيوت مصر. فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازة, فسألهم عن رؤياه فقالوا له: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه - يعنون بيت المقدس- رجل يكون على وجهه هلاك مصر. فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه, ولا تولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم, واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة. فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم, وأدخلوا غلمانهم; فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ - يقول: تجبر في الأرض- وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا - , يعني بني إسرائيل, حين جعلهم في الأعمال القذرة- , يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ [ القصص: 4 ] فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح، فلا يكبر الصغير. وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت, فأسرع فيهم. فدخل رءوس القبط على فرعون, فكلموه, فقالوا: إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت, فيوشك أن يقع العمل على غلماننا! بذبح أبنائهم، فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار! فلو أنك كنت تبقي من أولادهم! فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة. فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون, فترك; فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى. .

حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك، ويغلبك على سلطانك, ويخرجك من أرضك, ويبدل دينك. فلما قالوا له ذلك, أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان, وأمر بالنساء يستحيين. فجمع القوابل من نساء [ أهل ] مملكته, فقال لهن: لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتنه. فكن يفعلن ذلك, وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان, ويأمر بالحبالى فيعذبن حتى يطرحن ما في بطونهن.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد قال، لقد ذكر [ لي ] أنه كان ليأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار, ثم يصف بعضه إلى بعض, ثم يؤتى بالحبالى من بني إسرائيل فيوقفهن عليه فيحز أقدامهن. حتى إن المرأة منهن لتمصع بولدها فيقع من بين رجليها فتظل تطؤه تتقي به حد القصب عن رجلها، لما بلغ من جهدها، حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم، فقيل له: أفنيت الناس وقطعت النسل! وإنهم خولك وعمالك! فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما. فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان, وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون.

قال أبو جعفر: والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم: كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم فتأويل قوله إذًا - على ما تأوله الذين ذكرنا قولهم- : ( ويستحيون نساءكم ) ، يستبقونهن فلا يقتلونهن.

وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله: ( ويستحيون نساءكم ) ، أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن - أن يكون جائزا أن يسمى الطفل من الإناث في حال صباها وبعد ولادها: « امرأة » والصبايا الصغار وهن أطفال: « نساء » . لأنهم تأولوا قول الله عز وجل: ( ويستحيون نساءكم ) ، يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن.

وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج, فقال بما:-

حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( ويستحيون نساءكم ) قال: يسترقون نساءكم.

فحاد ابن جريج، بقوله هذا، عما قاله من ذكرنا قوله في قوله: ( ويستحيون نساءكم ) : إنه استحياء الصبايا الأطفال, إذ لم يجدهن يلزمهن اسم « نساء » ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله « ويستحيون » ، يسترقون, وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا أعجمية . وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعال من الحياة نظير « الاستبقاء » من « البقاء » ، و « الاستسقاء » من « السقي » . وهو من معنى الاسترقاق بمعزل.

وقد تأول آخرون: قوله ( يذبحون أبناءكم ) ، بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم، وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال, وقد قرن بهم النساء. فقالوا: في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحيين هم النساء، الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان, لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال، لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا. قالوا: وفي إخبار الله عز وجل أنهم النساء، ما بين أن المذبحين هم الرجال .

قال أبو جعفر: وقد أغفل قائلو هذه المقالة - مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين - موضع الصواب. وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أم موسى أنه أمرها أن ترضع موسى, فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت، ثم تلقيه في اليم. فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء، لم يكن بأم موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليم, أو لو أن موسى كان رجلا لم تجعله أمه في التابوت.

ولكن ذلك عندنا على ما تأوله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل: من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا. وإنما قيل: ( ويستحيون نساءكم ) ، إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن - وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن, فقيل: ( ويستحيون نساءكم ) ، يعني بذلك الوالدات والمولودات، كما يقال: « قد أقبل الرجال » وإن كان فيهم صبيان. فكذلك قوله: ( ويستحيون نساءكم ) . وأما من الذكور، فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون، قيل: « يذبحون أبناءكم » , ولم يقل: يذبحون رجالكم.

القول في تأويل قوله تعالى وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 )

أما قوله: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ، فإنه يعني: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم - مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم، على ما وصفت - بلاء لكم من ربكم عظيم.

ويعني بقوله « بلاء » : نعمة، كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: ( بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة.

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، أما البلاء فالنعمة.

وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة من ربكم عظيمة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثل حديث سفيان.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) ، قال: نعمة عظيمة .

وأصل « البلاء » في كلام العرب - الاختبار والامتحان, ثم يستعمل في الخير والشر. لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر, كما قال ربنا جل ثناؤه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأعراف: 168 ] ، يقول: اختبرناهم, وكما قال جل ذكره: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [ الأنبياء: 35 ] . ثم تسمي العرب الخير « بلاء » والشر « بلاء » . غير أن الأكثر في الشر أن يقال: « بلوته أبلوه بلاء » ، وفي الخير: « أبليته أبليه إبلاء وبلاء » ، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:

جـزى اللـه بالإحسـان مـا فعلا بكم وأبلاهمـا خـير البـلاء الـذي يبلـو

فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده.

القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ

أما تأويل قوله: ( وإذ فرقنا بكم ) ، فإنه عطف على: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ، بمعنى: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم, واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون, وإذ فرقنا بكم البحر.

ومعنى قوله: ( فرقنا بكم ) : فصلنا بكم البحر. لأنهم كانوا اثني عشر سبطا؛ ففرق البحر اثني عشر طريقا, فسلك كل سبط منهم طريقا منها، فذلك فرق الله بهم عز وجل البحر, وفصله بهم، بتفريقهم في طرقه الاثني عشر، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: لما أتى موسى البحر كنّاه « أبا خالد » , وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم, فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط.

وقد قال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: ( وإذ فرقنا بكم البحر ) ، فرقنا بينكم وبين الماء. يريد بذلك: فصلنا بينكم وبينه، وحجزناه حيث مررتم به. وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم, ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر, فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة, وفرقه البحر بالقوم, إنما هو تفريقه البحر بهم، على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم، على ما جاءت به الآثار.

القول في تأويل قوله تعالى فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 50 )

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل وكيف غرق الله جل ثناؤه آل فرعون ونجى بني إسرائيل؟

قيل له، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل، سوى ما في جنده من شهب الخيل.

وخرج موسى, حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف, طلع فرعون في جنده من خلفهم, فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ مُوسَى كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [ سورة الشعراء: 61- 62 ] أي للنجاة, وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: أوحى الله إلى البحر - فيما ذكر لي: إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له. قال: فبات البحر يضرب. بعضه بعضا فرقا من الله وانتظاره أمره. فأوحى الله جل وعز إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، وفيها سلطان الله الذي أعطاه, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل على نشز من الأرض . يقول الله لموسى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ طه: 77 ] . فلما استقر له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ سلك فيه موسى ببني إسرائيل, وأتبعه فرعون بجنوده.

وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن كعب القرظي, عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي قال: حدثت أنه لما دخلت بنو إسرائيل البحر فلم يبق منهم أحد, أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر, وهو قائم على حاله, فهاب الحصان أن ينفذ. فعرض له جبريل على فرس أنثى وديق, فقربها منه فشمها الفحل, فلما شمها قدمها, فتقدم معها الحصان عليه فرعون. فلما رأى جند فرعون فرعون قد دخل، دخلوا معه وجبريل أمامه, وهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم, يقول: « الحقوا بصاحبكم » . حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد, ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى، وليس خلفه أحد, طبق عليهم البحر, ونادى فرعون - حين رأى من سلطان الله عز وجل وقدرته ما رأى وعرف ذله، وخذلته نفسه - : لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يونس: 90 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أبي إسحاق الهمداني, عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا: فدعا بشاة فذبحت, ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط. ثم سار, فلما أتى موسى البحر, قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمرك ربك يا موسى؟ قال: أمامك. يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغَمْر, فذهب به، ثم رجع. فقال: أين أمرك ربك يا موسى؟ فوالله ما كَذبتَ ولا كُذبتَ: ففعل ذلك ثلاث مرات. ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء: 63 ] - يقول: مثل جبل - قال: ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم, حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم. فلذلك قال: ( وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . قال معمر، قال قتادة: كان مع موسى ستمائة ألف, وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان.

وحدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: أوحى الله جل وعز إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. قال: فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى في ستمائة ألف. فلما عاينهم فرعون قال: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [ الشعراء: 54- 56 ] فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر, فالتفتوا فإذا هم برَهَج دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا! هذا البحر أمامنا, وهذا فرعون قد رَهِقنا بمن معه! قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. قال: فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل - يعني: له رعدة - لا يدري من أي جوانبه يضربه. قال: فقال يوشع لموسى: بماذا أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب البحر. قال: فاضربه. قال: فضرب موسى البحر بعصاه, فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريقا, كل طريق كالطود العظيم؛ فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه. فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا؟ قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم؟ قال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا: لا نرضى حتى نراهم .

قال سفيان, قال عمار الدهني: قال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. قال: فأوحى الله إليه: أن قل بعصاك هكذا. وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر. قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا, فصار فيها كوى ينظر بعضهم إلى بعض.

قال سفيان: قال أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس: فساروا حتى خرجوا من البحر. فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه, وكان فرعون على فرس أدهم ذَنوب حصان . فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر, فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق، فلما رآها الحصان تقحم خلفها. وقيل لموسى: اترك البحر رهوا - قال: طُرقا على حاله - قال: ودخل فرعون وقومه في البحر, فلما دخل آخر قوم فرعون، وجاز آخر قوم موسى، أطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقوا.

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل, فقال: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. فخرج موسى وهارون في قومهما, وألقي على القبط الموت، فمات كل بكر رجل، فأصبحوا يدفنونهم, فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [ الشعراء: 60 ] فكان موسى على ساقة بني إسرائيل, وكان هارون أمامهم يقدمهم فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله, أين أمرت؟ قال: البحر. فأراد أن يقتحم, فمنعه موسى، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل, لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره, وإنما عدوا ما بين ذلك، سوى الذرية. وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، ليس فيها ماذِيانة - يعني الأنثى- وذلك حين يقول الله جل ثناؤه: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [ الشعراء: 53- 54 ] يعني بني إسرائيل. فتقدم هارون فضرب البحر, فأبى البحر أن ينفتح, وقال: من هذا الجبار الذي يضربني؟ حتى أتاه موسى فكناه « أبا خالد » وضربه فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم - يقول: كالجبل العظيم- ، فدخلت بنو إسرائيل. وكان في البحر اثنا عشر طريقا, في كل طريق سبط - وكانت الطرق انفلقت بجدران - فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا! فلما رأى ذلك موسى, دعا الله, فجعلها لهم قناطر كهيئة الطِّيقان فنظر آخرهم إلى أولهم, حتى خرجوا جميعا. ثم دنا فرعون وأصحابه, فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا قال: ألا ترون البحر فَرِق مني؟ قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ [ الشعراء: 64 ] يقول: قربنا ثم الآخرين، يعني آل فرعون. فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم, فنـزل جبريل على ماذيانة, فشامت الحصن ريح الماذيانة, فاقتحم في أثرها, حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم, أمر البحر أن يأخذهم, فالتطم عليهم. .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر، قال لهم فرعون: قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين! فلما رآهم أصحاب موسى قالوا: إنا لمدركون! قال كلا إن معي ربي سيهدين. فقال موسى للبحر: ألست تعلم أني رسول الله؟ قال: بلى. قال! وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم؟ قال: بلى. قال: أتعلم أن هذا عدو الله؟ قال: بلى. قال: فافرق لي طريقا ولمن معي. قال: يا موسى, إنما أنا عبد مملوك، ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى. فأوحى الله عز وجل إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق. وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر, وقرأ قول الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [ سورة طه: 77 ] وقرأ قوله: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [ الدخان: 24 ] - سهلا ليس فيه نُقر - فانفرق اثنتي عشرة فرقة, فسلك كل سبط في طريق. قال: فقالوا لفرعون: إنهم قد دخلوا البحر. قال: ادخلوا عليهم. قال: وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم: ليلحق آخركم أولكم. وفي أول آل فرعون يقول لهم: رويدا يلحق آخركم أولكم. فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم: قد هلكوا! فلما دخل ذلك قلوبهم أوحى الله جل وعز إلى البحر فجعل لهم قناطر، ينظر هؤلاء إلى هؤلاء, حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء.

ويعني بقوله: ( وأنتم تنظرون ) ، أي تنظرون إلى فرق الله لكم البحر، وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه, وإلى عظيم سلطانه - في الذي أراكم من طاعة البحر إياه، من مصيره ركاما فلقا كهيئة الأطواد الشامخة، غير زائل عن حده, انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته, وهو سائل ذائب قبل ذلك.

يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم, ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم, ويحذرهم - في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم- أن يحل بهم ما حل بفرعون وآله، في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم.

وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: ( وأنتم تنظرون ) ، كمعنى قول القائل: « ضربت وأهلك ينظرون, فما أتوك ولا أعانوك » بمعنى: وهم قريب بمرأى ومسمع, وكقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ الفرقان: 45 ] ، وليس هناك رؤية, إنما هو علم.

قال أبو جعفر: والذي دعاه إلى هذا التأويل، أنه وجه قوله: ( وأنتم تنظرون ) ، أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون، فقال: قد كانوا في شغل من أن ينظروا - مما اكتنفهم من البحر- إلى فرعون وغرقه. وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام, إنما التأويل: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم - على ما قد وصفنا آنفا- والتطام أمواج البحر بآل فرعون، في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا. وذلك كان، لا شك نظر عيان لا نظر علم، كما ظنه قائل القول الذي حكينا قوله.

القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ وَاعَدْنَا

اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك, فقرأ بعضهم: ( واعدنا ) بمعنى أن الله تعالى واعد موسى موافاة الطور لمناجاته, فكانت المواعدة من الله لموسى, ومن موسى لربه. وكان من حجتهم على اختيارهم قراءة ( واعدنا ) على « وعدنا » أن قالوا: كل اتعاد كان بين اثنين للالتقاء و الاجتماع, فكل واحد منهما مواعد صاحبه ذلك. فلذلك - زعموا- وجب أن يُقضى لقراءة من قرأ ( واعدنا ) بالاختيار على قراءة من قرأ « وعدنا » .

وقرأ بعضهم: « وعدنا » بمعنى أن الله الواعد والمنفرد بالوعد دونه. وكان من حجتهم في اختيارهم ذلك أن قالوا: إنما تكون المواعدة بين البشر, فأما الله جل ثناؤه، فإنه المنفرد بالوعد والوعيد في كل خير وشر. قالوا: وبذلك جاء التنـزيل في القرآن كله, فقال جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [ إبراهيم: 22 ] وقال: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [ الأنفال: 7 ] . قالوا: فكذلك الواجب أن يكون هو المنفرد بالوعد في قوله: « وإذ وعدنا موسى » .

والصواب عندنا في ذلك من القول: أنهما قراءتان قد جاءت بهما الأمة وقرأت بهما القَرَأَة, وليس في القراءة بإحداهما إبطال معنى الأخرى, وإن كان في إحداهما زيادة معنى على الأخرى من جهة الظاهر والتلاوة. فأما من جهة المفهوم بهما فهما متفقتان. وذلك أن من أخبر عن شخص أنه وعد غيره اللقاء بموضع من المواضع, فمعلوم أن الموعود ذلك واعد صاحبه من لقائه بذلك المكان, مثل الذي وعده من ذلك صاحبه، إذا كان وعده ما وعده إياه من ذلك عن اتفاق منهما عليه. ومعلوم أن موسى صلوات الله عليه لم يعده ربه الطور إلا عن رضا موسى بذلك, إذ كان موسى غير مشكوك فيه أنه كان بكل ما أمر الله به راضيا, وإلى محبته فيه مسارعا. ومعقول أن الله تعالى لم يعد موسى ذلك، إلا وموسى إليه مستجيب. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن الله عز ذكره قد كان وعد موسى الطور, ووعده موسى اللقاء. فكان الله عز ذكره لموسى واعدا مواعدا له المناجاة على الطور, وكان موسى واعدا لربه مواعدا له اللقاء. فبأي القراءتين من « وعد » و « واعد » قرأ القارئ, فهو للحق في ذلك - من جهة التأويل واللغة- مصيب، لما وصفنا من العلل قبل.

ولا معنى لقول القائل: إنما تكون المواعدة بين البشر, وأن الله بالوعد والوعيد منفرد في كل خير وشر. وذلك أن انفراد الله بالوعد والوعيد في الثواب والعقاب، والخير والشر، والنفع والضر الذي هو بيده وإليه دون سائر خلقه - لا يحيل الكلام الجاري بين الناس في استعمالهم إياه عن وجوهه، ولا يغيره عن معانيه. والجاري بين الناس من الكلام المفهوم ما وصفنا: من أن كل اتعاد كان بين اثنين، فهو وعد من كل واحد منهما صاحبه، ومواعدة بينهما, وأن كل واحد منهما واعد صاحبه مواعد, وأن الوعد الذي يكون به الانفراد من الواعد دون الموعود، إنما هو ما كان بمعنى « الوعد » الذي هو خلاف « الوعيد » .

القول في تأويل قوله تعالى مُوسَى

وموسى - فيما بلغنا- بالقبطية كلمتان, يعني بهما: ماء وشجر. « فمو » ، هو الماء, و « شا » هو الشجر. وإنما سمي بذلك - فيما بلغنا- لأن أمه لما جعلته في التابوت - حين خافت عليه من فرعون وألقته في اليم، كما أوحى الله إليها، وقيل: إن اليم الذي ألقته فيه هو النيل - دفعته أمواج اليم حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون, فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن, فوجدن التابوت فأخذنه, فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه، كان ذلك بمكان فيه ماء وشجر, فقيل: موسى، ماء وشجر. كذلك:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط بن نصر, عن السدي.

وقال أبو جعفر: وهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله, فيما زعم ابن إسحاق.

حدثني بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عنه. .

القول في تأويل قوله تعالى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

ومعنى ذلك: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون ليلة كلها داخلة في الميعاد.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أي رأس الأربعين, ومثل ذلك بقوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ يوسف: 82 ] وبقولهم: « اليوم أربعون منذ خرج فلان » , « واليوم يومان » . أي اليوم تمام يومين، وتمام أربعين.

قال أبو جعفر: وذلك خلاف ما جاءت به الرواية عن أهل التأويل، وخلاف ظاهر التلاوة. فأما ظاهر التلاوة, فإن الله جل ثناؤه قد أخبر أنه واعد موسى أربعين ليلة, فليس لأحد إحالة ظاهر خبره إلى باطن، بغير برهان دال على صحته.

وأما أهل التأويل فإنهم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره, وهو ما:-

حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قوله: ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) ، قال: يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وذلك حين خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هارون, فمكث على الطور أربعين ليلة, وأنـزل عليه التوراة في الألواح - وكانت الألواح من برد - فقربه الرب إليه نجيا, وكلمه, وسمع صريف القلم. وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور.

وحدثت عن عمار بن الحسن, حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, بنحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق قال: وعد الله موسى- حين أهلك فرعون وقومه, ونجاه وقومه ثلاثين ليلة, ثم أتمها بعشر, فتم ميقات ربه أربعين ليلة, يلقاه ربه فيها ما شاء. واستخلف موسى هارون على بني إسرائيل, وقال: إني متعجل إلى ربي فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للُقِيِّه شوقا إليه, وأقام هارون في بني إسرائيل ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: انطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل, وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر.

القول في تأويل قوله تعالى ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )

وتأويل قوله: ( ثم اتخذتم العجل من بعده ) ، ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها، من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد. و « الهاء » في قوله « من بعده » عائدة على ذكر موسى.

فأخبر جل ثناؤه المخالفين نبينا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، المكذبين به المخاطبين بهذه الآية - عن فعل آبائهم وأسلافهم، وتكذيبهم رسلهم، وخلافهم أنبياءهم, مع تتابع نعمه عليهم، وشيوع آلائه لديهم, مُعَرِّفَهم بذلك أنهم - من خلاف محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وجحودهم لرسالته, مع علمهم بصدقه - على مثل منهاج آبائهم وأسلافهم, ومحذِّرَهم من نـزول سطوته بهم بمقامهم على ذلك من تكذيبهم ما نـزل بأوائلهم المكذبين بالرسل: من المسخ واللعن وأنواع النقمات.

وكان سبب اتخاذهم العجل، ما:-

حدثني به عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعيد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه, وكان فرعون على فرس أدهم ذنوب حصان، فلما هجم على البحر، هاب الحصان أن يقتحم في البحر, فتمثل له جبريل على فرس أنثى وديق, فلما رآها الحصان تقحم خلفها. قال: وعرف السامري جبريل، لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه, فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه, فيجد في بعض أصابعه لبنا, وفي الأخرى عسلا وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ. فلما عاينه في البحر عرفه, فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ من تحت الحافر قبضة. - قال سفيان: فكان ابن مسعود يقرؤها: « فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول » [ طه: 96 ] .

قال أبو سعيد قال عكرمة, عن ابن عباس: وألقي في رُوع السامري إنك لا تلقيها على شيء فتقول: « كن كذا وكذا » إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر. فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر, وأغرق الله آل فرعون, قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح. ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بني إسرائيل حَلْي من حَلْي آل فرعون قد تعوَّروه, فكأنهم تأثموا منه, فأخرجوه لتنـزل النار فتأكله. فلما جمعوه, قال السامري بالقبضة التي كانت في يده هكذا, فقذفها فيه - وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا - وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فصار عجلا جسدا له خوار، وكان تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، يسمع له صوت, فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا على العجل يعبدونه, فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري! قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: لما أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل - يعني من أرض مصر - أمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بني إسرائيل من البحر, وغرق آل فرعون, أتى جبريل إلى موسى يذهب به إلى الله. فأقبل على فرس، فرآه السامري فأنكره وقال: إنه فرس الحياة! فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا. فأخذ من تربة الحافر - حافر الفرس- فانطلق موسى, واستخلف هارون على بني إسرائيل, وواعدهم ثلاثين ليلة, وأتمها الله بعشر. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم, وإن حَلْي القبط إنما هو غنيمة, فاجمعوها جميعا, واحفروا لها حفرة فادفنوها, فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها, وإلا كان شيئا لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحَلْي في تلك الحفرة , وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها , فأخرج الله من الحلي عجلا جسدا له خوار . وعدت بنو إسرائيل موعد موسى , فعدوا الليلة يوما واليوم يوما , فلما كان تمام العشرين، خرج لهم العجل. فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فنسي - يقول: ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي. فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل إنما فتنتم به - يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل- وإن ربكم الرحمن. فأقام هارون ومن معه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه, فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري، فأخبره خبرهم. قال موسى؛ يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل, أرأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا . قال: رب أنت إذا أضللتهم .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: كان - فيما ذكر لي- أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله عز وجل به: استعيروا منهم - يعني من آل فرعون - الأمتعة والحلي والثياب , فإني منفلكم أموالهم مع هلاكهم . فلما أذن فرعون في الناس , كان مما يحرض به على بني إسرائيل أن قال: حين ساروا لم يرضوا أن خرجوا بأنفسهم، حتى ذهبوا بأموالكم معهم!

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق , عن حكيم بن جبير , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجَرْما , وكان من قوم يعبدون البقر , وكان حب عبادة البقر في نفسه , وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل . فلما فضل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى إلى ربه , قال لهم هارون: أنتم قد حُمِّلتم أوزارا من زينة القوم - آل فرعون - وأمتعة وحليا , فتطهروا منها , فإنها نجس . وأوقد لهم نارا فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها. قالوا: نعم .

فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الأمتعة وذلك الحلي , فيقذفون به فيها. حتى إذا تكسر الحلي فيها، ورأى السامري، أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره , ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: يا نبي الله، ألقي ما في يدي؟ قال: نعم. ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة، فقذفه فيها وقال: « كن عجلا جسدا له خوار » ، فكان، للبلاء والفتنة. فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا عليه , وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. يقول الله عز وجل: فَنَسِيَ [ طه: 88 ] أي ترك ما كان عليه من الإسلام - يعني السامري - أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [ طه: 89 ] وكان اسم السامري موسى بن ظفر , وقع في أرض مصر , فدخل في بني إسرائيل. فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ طه: 90- 91 ] فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن , وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون، إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. وكان له هائبا مطيعا .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من فرعون , وأغرق فرعون ومن معه , قال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. قال: لما خرج موسى وأمر هارون بما أمره وخرج موسى متعجلا مسرورا إلى الله، قد عرف موسى أن المرء إذا أنجح في حاجة سيده، كان يسره أن يتعجل إليه . قال: وكان حين خرجوا استعاروا حليا وثيابا من آل فرعون , فقال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم , فاجمعوا نارا , فألقوه فيها فأحرقوه. قال: فجمعوا نارا . قال: وكان السامري قد نظر إلى أثر دابة جبريل , وكان على فرس أنثى - وكان السامري في قوم موسى - قال: فنظر إلى أثره فقبض منه قبضة , فيبست عليها يده. فلما ألقى قوم موسى الحلي في النار, وألقى السامري معهم القبضة , صور الله جل وعز ذلك لهم عجلا ذهبا , فدخلته الريح , فكان له خوار , فقالوا: ما هذا؟ فقال: السامري الخبيث: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ، الآية , إلى قوله: حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ طه: 88- 91 ] قال: حتى إذا أتى موسى الموعد , قال الله: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي فقرأ حتى بلغ: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [ طه: 86 ] .

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله: ( ثم اتخذتم العجل من بعده ) قال: العجل: حسيل البقرة . قال: حلي استعاروه من آل فرعون , فقال لهم هارون: أخرجوه فتطهروا منه وأحرقوه. وكان السامري قد أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فطرحه فيه، فانسبك , فكان له كالجوف تهوي فيه الرياح .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية , قال: إنما سمي العجل , لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى.

حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحو حديث القاسم عن الحسن .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 51 )

يعني « وأنتم واضعو العبادة في غير موضعها، لأن العبادة لا تنبغي إلا لله عز وجل، وعبدتم أنتم العجل ظلما منكم، ووضعا للعبادة في غير موضعها. وقد دللنا - في غير هذا الموضع مما مضى من كتابنا- أن أصل كل ظلم، وضع الشيء في غير موضعه , فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . »

القول في تأويل قوله تعالى ذكره ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 52 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، يقول: تركنا معاجلتكم بالعقوبة، « من بعد ذلك » , أي من بعد اتخاذكم العجل إلها . كما:-

حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) ، يعني من بعد ما اتخذتم العجل.

وأما تأويل قوله: ( لعلكم تشكرون ) ، فإنه يعني به: لتشكروا . ومعنى « لعل » في هذا الموضع معنى « كي » . وقد بينت فيما مضى قبلُ أن أحد معاني « لعل » « كي » ، بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع .

فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها، لتشكروني على عفوي عنكم , إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللب والعقل .

القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 53 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب ) : واذكروا أيضا إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان. ويعني ب « الكتاب » : التوراة , وب « الفرقان » : الفصل بين الحق والباطل، كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال حدثنا أبو جعفر , عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية , في قوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: فرق به بين الحق والباطل .

حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: الكتاب: هو الفرقان , فرقان بين الحق والباطل .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .

وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد، قوله: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) ، قال: الكتاب هو الفرقان , فرق بين الحق والباطل .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج قال، وقال ابن عباس: « الفرقان » : جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان .

وقال ابن زيد في ذلك بما: -

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب. قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قول الله عز وجل: ( وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان ) فقال: أما « الفرقان » الذي قال الله جل وعز: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ الأنفال: 41 ] ، فذلك يوم بدر , يوم فرق الله بين الحق والباطل , والقضاء الذي فرق به بين الحق والباطل . قال: فكذلك أعطى الله موسى الفرقان , فرق الله بينهم , وسلمه وأنجاه، فرق بينهم بالنصر. فكما جعل الله ذلك بين محمد صلى الله عليه وسلم والمشركين , فكذلك جعله بين موسى وفرعون .

قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد: من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل , وهو نعت للتوراة وصفة لها . فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح وفرقنا بها بين الحق والباطل .

فيكون « الكتاب » نعتا للتوراة أقيم مقامها، استغناء به عن ذكر التوراة , ثم عطف عليه ب « الفرقان » , إذ كان من نعتها.

وقد بينا معنى « الكتاب » فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه بمعنى المكتوب.

وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالآية، وإن كان محتملا غيره من التأويل، لأن الذي قبله من ذكر « الكتاب » , وأن معنى « الفرقان » الفصل - وقد دللنا على ذلك فيما مضى من كتابنا هذا - , فإلحاقه إذ كان كذلك، بصفة ما وليه أولى من إلحاقه بصفة ما بعد منه.

وأما تأويل قوله: ( لعلكم تهتدون ) ، فنظير تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، ومعناه لتهتدوا .

وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها، وتتبعوا الحق الذي فيها، لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها .

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 54 )

وتأويل ذلك: اذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم . وظلمهم إياها، كان فعلَهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها، مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى. وكذلك كل فاعل فعلا يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى . وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم , هو ما أخبر الله عنهم: من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم.

ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم، والإنابة إلى الله من ردتهم، بالتوبة إليه , والتسليم لطاعته فيما أمرهم به. وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم .

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « التوبة » : الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته.

فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم، على ما أمرهم به، كما:-

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة بن الحجاج , عن أبي إسحاق , عن أبي عبد الرحمن أنه قال في هذه الآية: ( فاقتلوا أنفسكم ) قال: عمدوا إلى الخناجر , فجعل يطعن بعضهم بعضا.

حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج بن محمد، قال ابن جريج , أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد , حتى ألوى موسى بثوبه , فطرحوا ما بأيديهم , فتكشف عن سبعين ألف قتيل. وإن الله أوحى إلى موسى: أن حسبي فقد اكتفيت ! فذلك حين ألوى بثوبه .

حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، قال أبو سعيد , عن عكرمة , عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: ( توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم , قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا , وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة , فجعل يقتل بعضهم بعضا، فانجلت الظلمة عنهم وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل , كل من قتل منهم كانت له توبة , وكل من بقي كانت له توبة.

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: لما رجع موسى إلى قومه قال: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [ طه: 86- 87 ] . فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ طه: 94 ] . فترك هارون ومال إلى السامري , ف قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ إلى قوله: ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [ طه: 95- 97 ] ثم أخذه فذبحه , ثم حرقه بالمبرد , ثم ذراه في اليم , فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى: اشربوا منه . فشربوا , فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ [ البقرة: 93 ] . فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى , ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل، إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلهم حين عبدوا العجل , فقال لهم موسى: ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) . قال: فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف . فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف , فكان من قتل من الفريقين شهيدا , حتى كثر القتل، حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا , وحتى دعا موسى وهارون ربنا هلكت بنو إسرائيل! ربنا البقية البقية! ! فأمرهم أن يضعوا السلاح , وتاب عليهم . فكان من قتل شهيدا , ومن بقي كان مكفرا عنه . فذلك قوله: ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) .

حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله تعالى: ( باتخاذكم العجل ) ، قال: كان موسى أمر قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر, فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده , فتاب الله عليهم.

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « باتخاذكم العجل » ، قال : كان أمر موسى قومه - عن أمر ربه - أن يقتل بعضهم بعضا، ولا يقتل الرجل أباه ولا أخاه. فبلغ ذلك في ساعة من نهار سبعين ألفا.

وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم ) الآية ، قال: فصاروا صفين, فجعل يقتل بعضهم بعضا, فبلغ القتلى ما شاء الله , ثم قيل لهم: قد تيب على القاتل والمقتول.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل , عن ابن شهاب قال، لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها، برزوا ومعهم موسى , فاضطربوا بالسيوف, وتطاعنوا بالخناجر , وموسى رافع يديه . حتى إذا فتر، أتاه بعضهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض, فألقوا السلاح. وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم, فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟, أما من قتل منكم، فحي عندي يرزق؛ وأما من بقي، فقد قبلت توبته! فبشر بذلك موسى بني إسرائيل .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري وقتادة في قوله: ( فاقتلوا أنفسكم ) ، قال: قاموا صفين يقتل بعضهم بعضا، حتى قيل لهم كُفوا. قال قتادة: كانت شهادة للمقتول وتوبة للحي.

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين بن داود قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: قام بعضهم إلى بعض، يقتل بعضهم بعضا, ما يترابأ الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نـزلت التوبة.

قال ابن جريج, وقال ابن عباس: بلغ قتلاهم سبعين ألفا, ثم رفع الله عز وجل عنهم القتل, وتاب عليهم. قال ابن جريج: قاموا صفين فاقتتلوا بينهم, فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة , وكانت توبة لمن بقي . وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل، فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال , فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه , وأحرق العجل وذراه في اليم، وخرج إلى ربه بمن اختار من قومه , فأخذتهم الصاعقة , ثم بعثوا - سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل , فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله! فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده. فجلسوا بالأفنية، وأَصْلَتَ عليهم القوم السيوف , فجعلوا يقتلونهم. وبكى موسى، وبهش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم , فتاب عليهم وعفا عنهم , وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى إلى قومه , وكان سبعون رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم . فقالوا: يا موسى، أما من توبة؟ قال: بلى! ( اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم ) الآية . فاخترطوا السيوف والجِرَزَة والخناجر والسكاكين . قال: وبعث عليهم ضبابة , قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي , ويقتل بعضهم بعضا. قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري , ويتنادون فيها: رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه . وقرأ قول الله جل ثناؤه: وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ [ الدخان: 33 ] . قال: فقتلاهم شهداء , وتيب على أحيائهم، وقرأ: ( فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ) . .

فالذي ذكرنا - عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها- كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم، بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك.

وأما معنى قوله: ( فتوبوا إلى بارئكم ) ، فإنه يعني به: ارجعوا إلى طاعة خالقكم، وإلى ما يرضيه عنكم، كما: -

حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( فتوبوا إلى بارئكم ) ، أي: إلى خالقكم.

وهو من « برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ » . و « البرية » : الخلق. وهي « فعيلة » بمعنى « مفعولة » , غير أنها لا تهمز. كما لا يهمز « ملك » وهو من « لأك » , لكنه جرى بترك الهمزة كذلك قال نابغة بني ذبيان:

إلا ســليمان إذ قــال المليـك لـه قـم فـي البريـة فاحدُدْهـا عن الفَنَد

وقد قيل: إن « البرية » إنما لم تهمز لأنها « فعيلة » من « البَرَى » , والبَرَى: التراب . فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب.

وقال بعضهم: إنما أخذت « البرية » من قولك « بريت العود » . فلذلك لم يهمز .

قال أبو جعفر: وترك الهمز من « بارئكم » جائز , والإبدال منها جائز. فإذ كان ذلك جائزا في « باريكم » فغير مستنكر أن تكون « البرية » من: « برى الله الخلق » بترك الهمزة.

وأما قوله: ( ذلكم خير لكم عند بارئكم ) ، فإنه يعني بذلك: توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم، خير لكم عند بارئكم، لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الآخرة على ذنبكم, وتستوجبون به الثواب منه.

وقوله: ( فتاب عليكم ) ، أي: بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك . لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم , ذلكم خير لكم عند بارئكم , فتبتم، فتاب عليكم. فترك ذكر قوله: « فتبتم » ، إذ كان في قوله: ( فتاب عليكم ) دلالة بينة على اقتضاء الكلام « فتبتم » .

ويعني بقوله: ( فتاب عيكم ) رَجَعَ لكم ربكم إلى ما أحببتم: من العفو عن ذنوبكم وعظيم ما ركبتم , والصفح عن جرمكم، ( إنه هو التواب الرحيم ) يعني: الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحب من العفو عنه. ويعني ب « الرحيم » ، العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.

القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه, وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا , كما تجهر الرَّكيَّة , وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين , فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: « قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة » . ولذلك قيل: « قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا » ، « إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب: »

مــن اللائــي يظـل الألـف منـه منيخًــا مــن مخافتــه جهــارا

وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( حتى نرى الله جهرة ) ، قال: علانية.

وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: ( حتى نرى الله جهرة ) يقول: عيانا.

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( حتى نرى الله جهرة ) ، حتى يطلع إلينا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( حتى نرى الله جهرة ) ، أي عيانا.

فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم , مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور , وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم , وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة . وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم , مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها.

فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا - في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه و سلم, وجحودهم نبوته , وتركهم الإقرار به وبما جاء به , مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى, وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى , مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم. .

القول في تأويل قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 55 )

اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم . فقال بعضهم بما: -

حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( فأخذتكم الصاعقة ) ، قال: ماتوا.

وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( فأخذتكم الصاعقة ) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا ، يقول: فماتوا.

وقال آخرون بما: -

حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( فأخذتكم الصاعقة ) ، والصاعقة: نار.

وقال آخرون بما: -

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا.

وأصل « الصاعقة » كل أمر هائل رآه [ المرء ] أو عاينه أو أصابه - حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب, وإلى ذهاب عقل وغمور فهم , أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا , أو زلزلة , أو رجفا . ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت , قول الله عز وجل: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [ الأعراف: 143 ] ، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية:

وهــل كـان الفـرزدق غـير قـرد أصابتــه الصــواعق فاســتدارا

فقد علم أن موسى لم يكن - حين غشي عليه وصعق ميتا، لأن الله جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تُبْتُ إِلَيْكَ [ الأعراف: 143 ] - ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا . ولكن معنى ذلك ما وصفنا .

ويعني بقوله: ( وأنتم تنظرون ) ، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم , يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها.

القول في تأويل قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 56 )

يعني بقوله: ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم .

وأصل « البعث » إثارة الشيء من محله . ومنه قيل: « بعث فلان راحلته » إذا أثارها من مبركها للسير , كما قال الشاعر:

فأبعثهــا وهــيَّ صنيــعُ حـول كــركن الــرَّعنِ, ذِعْلِبَـةً وَقاحـا

و « الرعن » : منقطع أنف الجبل , و « الذعلبة » : الخفيفة , و « الوقاح » : الشديدة الحافر أو الخف . ومن ذلك قيل: « بعثت فلانا لحاجتي » ، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها . ومن ذلك قيل ليوم القيامة: « يوم البعث » , لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب.

يعني بقوله: ( من بعد موتكم ) ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.

وقوله: ( لعلكم تشكرون ) ، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم ، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم, فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم.

وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: ( ثم بعثناكم ) ثم أحييناكم.

وقال آخرون: معنى قوله: ( ثم بعثناكم ) ، أي بعثناكم أنبياء .

حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي .

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم , وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم , ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون.

وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير , والمؤخر الذي معناه التقديم.

حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي.

وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته . والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله: ( لعلكم تشكرون ) ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء.

وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً , ما:-

حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل , عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه , ورأى ما هم فيه من عبادة العجل , وقال لأخيه وللسامري ما قال , وحرق العجل وذراه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر , وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل , فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه , وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم . فقال له السبعون - فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، قال: أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله , ودنا موسى فدخل فيه , وقال للقوم: ادنوا . وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه . فضرب دونه الحجاب . ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا , فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل . فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة- [ فافتلتت أرواحهم ] فماتوا جميعا . وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا , أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ - أي: إن هذا لهم هلاك , اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ . فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه , حتى رد إليهم أرواحهم , فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل , فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم . .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر , عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل , وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به , أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل , ووعدهم موعدا , فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه , ثم ذهب بهم ليعتذروا . فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل , فذلك حين يقول موسى: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ [ إلى قوله ] إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [ الأعراف: 155- 156 ] . [ يقول تبنا إليك ] . وذلك قوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون , فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك , فادعه يجعلنا أنبياء ! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء, فذلك قوله: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح , قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل , فأمرهم بقتل أنفسهم , ففعلوا , فتاب الله عليهم - , : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به , ونهيه الذي نهاكم عنه . فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة , حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، قال: فجاءت غضبة من الله, فجاءتهم صاعقة بعد التوبة , فصعقتهم فماتوا أجمعون . قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم , وقرأ قول الله تعالى: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) . فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله . فقالوا : لا . فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا . فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل فوقهم .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، قال: أخذتهم الصاعقة , ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس في قوله: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه . قال: فسمعوا كلاما , فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً . قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: ( ثم بعثناكم من بعد موتكم ) ، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم , فبعثوا لبقية آجالهم .

فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له . وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه , فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة , فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه . وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه و سلم , وقد قامت حجته على من احتج به عليه , ولا حاجة لمن انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك . وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها , وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.

القول في تأويل قوله تعالى وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ

( وظللنا عليكم الغمام ) عطف على قوله: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ . فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم , وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون .

و « الغمام » جمع « غمامة » ، كما السحاب جمع سحابة , « والغمام » هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين . وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما.

وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قوله: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: ليس بالسحاب.

وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن أبي نجيح , عن مجاهد قوله: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم.

وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: هو بمنـزلة السحاب.

وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( وظللنا عليكم الغمام ) ، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب , وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [ البقرة: 210 ] , وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه .

وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها, فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء.

وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب.

القول في تأويل قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ

اختلف أهل التأويل في صفة « المن » . فقال بعضهم بما: -

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( وأنـزلنا عليكم المن ) ، قال: المن صمغة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( وأنـزلنا عليكم المن والسلوى ) ، يقول: كان المن ينـزل عليهم مثل الثلج .

وقال آخرون: هو شراب .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينـزل عليهم مثل العسل , فيمزجونه بالماء , ثم يشربونه .

وقال آخرون: « المن » ، عسل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينـزل لهم من السماء .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل , عن جابر , عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن .

وقال آخرون: « المن » الخبز الرقاق .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن ؟ قال: خبز الرقاق، , مثل الذرة , ومثل النقي.

وقال آخرون: « المن » ، الزنجبيل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل

وقال آخرون: « المن » ، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينـزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. .

وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك , عن مجالد ، عن عامر في قوله: ( وأنـزلنا عليكم المن ) ، قال: المن: الذي يقع على الشجر.

حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( المن ) ، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر.

وقد قيل . إن « المن » ، هو الترنجبين.

وقال بعضهم: « المن » ، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر , وهو حلو كالعسل , وإياه عنى الأعشى - ميمون بن قيس- بقوله:

لـو أُطعِمـوا المـن والسـلوى مكانَهمُ مـا أبصـر النـاس طُعمـا فيهمُ نجعا

وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه صلى الله عليه و سلم قال:

« الكمأة من المن, وماؤها شفاء للعين » .

وقال بعضهم: « المن » ، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه .

وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه:

فـــرأى اللــه أنهــم بمَضِيــعٍ لا بـــذي مَــزْرعٍ ولا معمــورا

فَنَســـاها عليهـــم غاديـــات, ومــرى مــزنهم خلايـا وخـورا

عســلا ناطِفــا ومــاء فراتــا وحليبـــا ذا بهجـــة مثمــورا

المثمور: الصافي من اللبن . فجعل المن الذي كان ينـزل عليهم عسلا ناطفا , والناطف: هو القاطر . .

القول في تأويل قوله تعالى وَالسَّلْوَى

قال أبو جعفر: و « السلوى » اسم طائر يشبه السُّمانَى , واحده وجِماعه بلفظ واحد , كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء . وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى طير يشبه السُّمانى .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: السلوى: طائر .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: السلوى طير.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر , قال: السلوى السمانى .

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن مجالد , عن عامر قال: السلوى السمانى .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة , عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى .

فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنـزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟

قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك . ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: -

فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر , عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم , أمرهم الله بالسير إلى أريحا , وهي أرض بيت المقدس . فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا . فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه . فقال قوم موسى لموسى: ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى: ( إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ) . فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى , وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا ؟ أين الطعام؟ فأنـزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين - والسلوى وهو طير يشبه السمانى فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله , فإذا سمن أتاه . فقالوا: هذا الطعام , فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , فشرب كل سبط من عين . فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان , ولا يتخرق لهم ثوب , فذلك قوله: ( وظللنا عليكم الغمام وأنـزلنا عليكم المن والسلوى ) وقوله: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ . [ البقرة: 60 ]

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل , أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة , وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنـزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نـزل التيه - بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر , فظلل عليهم بالغمام ؛ ودعا لهم بالرزق , فأنـزل الله لهم المن والسلوى .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس -

وحدثت عن عمار بن الحسن , حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة , كلما أصبحوا ساروا غادين , فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه . فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة . قال: وهم في ذلك ينـزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل - لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون . قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينـزل عليكم خبزا مخبوزا . فكان ينـزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقيّ - قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به . فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة . قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ قال: ثوب الصغير يشب معه . قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله . قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر ! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر . قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله , قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام . .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد , فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد , عن أسباط , عن السدي .

حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن . قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد , إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا.

القول في تأويل قوله تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ

وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه . وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام , وأنـزلنا عليكم المن والسلوى , وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم . فترك ذكر قوله: « وقلنا لكم » ، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه . وقد قيل عنى بقوله: ( من طيبات ما رزقناكم ) : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا.

والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم , فوصف ذلك ب « الطيب » ، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح .

و « ما » التي مع « رزقناكم » ، بمعنى « الذي » . كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.

القول في تأويل قوله تعالى وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 57 )

وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم , و « ما ظلمونا » ، فاكتفى بما ظهر عما ترك.

وقوله: ( وما ظلمونا ) يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ويعني بقوله: ( وما ظلمونا ) ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا , ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها . كما: -

حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) قال: يضرون.

وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل « الظلم » : وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية , فأغنى ذلك عن إعادته.

وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص , ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم , ولا تنفعه طاعة مطيع , ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم , وحظها يبخس العاصي , وإياها ينفع المطيع , وحظها يصيب العادل .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ

و « القرية » - التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها , فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس .

*ذكر الرواية بذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة في قوله: ( ادخلوا هذه القرية ) ، قال: بيت المقدس.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) أما القرية، فقرية بيت المقدس.

حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) ، يعني بيت المقدس.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته - يعني ابن زيد- عن قوله: ( ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم ) قال: هي أريحا , وهي قريبة من بيت المقدس .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا

يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى « الرغد » فيما مضى من كتابنا , وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا

أما « الباب » الذي أمروا أن يدخلوه, فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( ادخلوا الباب سجدا ) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( وادخلوا الباب سجدا ) ، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه , عن ابن عباس قوله: ( وادخلوا الباب سجدا ) أنه أحد أبواب بيت المقدس , وهو يدعى باب حطة. وأما قوله: ( سجدا ) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: ركعا من باب صغير.

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس في قوله: ( ادخلوا الباب سجدا ) ، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا .

قال أبو جعفر: وأصل « السجود » الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو « ساجد » . ومنه قول الشاعر:

بجَـمْع تضـل البُلْـقُ فـي حَجَراتـه تــرى الأكْـم منـه سـجدا للحـوافر

يعني بقوله: « سجدا » خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:

يــراوح مــن صلــوات المليـك طـــورا ســـجودا وطــورا جــؤارا

فذلك تأويل ابن عباس قوله: ( سجدا ) ركعا , لأن الراكع منحن , وإن كان الساجد أشد انحناء منه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطَّةٌ

وتأويل قوله: ( حطة ) ، فعلة , من قول القائل: « حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة » , بمنـزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.

واختلف أهل التأويل في تأويله . فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: ( وقولوا حطة ) ، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وقولوا حطة ) ، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم.

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( قولوا حطة ) قال: يحط عنكم خطاياكم .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قوله: ( حطة ) ، مغفرة .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله: ( حطة ) ، قال: يحط عنكم خطاياكم .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا « لا إله إلا الله » ، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم , وهو قول لا إله إلا الله .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر , قال حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا، « لا إله إلا الله » .

وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة , إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي , حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس: ( وقولوا حطة ) قال: أمروا أن يستغفروا.

وقال آخرون نظير قول عكرمة , إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم .

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا حطة ) ، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.

واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت « الحطة » .

فقال بعض نحويي البصرة: رفعت « الحطة » بمعنى « قولوا » ليكن منك حطة لذنوبنا, كما تقول للرجل: سَمْعُك.

وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة , وفرض عليهم قيلها كذلك .

وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت « الحطة » بضمير « هذه » , كأنه قال: وقولوا: « هذه » حطة.

وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر , كأنه قال: قولوا ما هو حطة, فتكون « حطة » حينئذ خبرا لـ « ما » .

قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع « حطة » بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة , وهو دخولنا الباب سجدا حطة , فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنـزيل , وهو قوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ، كما قال جل ثناؤه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ [ الأعراف: 164 ] ، يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله: ( وقولوا حطة ) ، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا .

قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة , فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في « حطة » , لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا: « لا إله إلا الله » , أو أن يقولوا: « نستغفر الله » , فقد قيل لهم: قولوا هذا القول , ف « قولوا » واقع حينئذ على « الحطة » , لأن « الحطة » على قول عكرمة - هي قول « لا إله إلا الله » , وإذا كانت هي قول « لا إله إلا الله » , فالقول عليها واقع , كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له: « قل خيرا » نصبا , ولم يكن صوابا أن يقول له: « قل خير » ، إلا على استكراه شديد.

وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع « الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: ( وقولوا حطة ) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: ( وقولوا حطة ) ، أن تكون القراءة في « حطة » نصبا. لأن من شأن العرب - إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر:

أبيــدوا بـأيدي عصبـة وسـيوفهم عـلى أمهـات الهـام ضربـا شـآميا

وكقول القائل للرجل: « سمعا وطاعة » بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة , وكما قال جل ثناؤه: مَعَاذَ اللَّهِ [ يوسف: 23 ] بمعنى: نعوذ بالله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ

يعني بقوله: ( نغفر لكم ) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.

وأصل « الغفر » التغطية والستر , فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس « مغفر » , لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله « غمد السيف » , وهو ما تغمده فواراه. ولذلك قيل لزئبر الثوب: « غفرة » , لتغطيته الثوب، وحوله بين الناظر والنظر إليه . ومنه قول أوس بن حجر:

فـلا أعتـب ابـن العم إن كان جاهلا وأغفـر عنـه الجـهل إن كان أجهلا

يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : خَطَايَاكُمْ

و « الخطايا » جمع « خطية » بغير همز، كما « المطايا » جمع « مطية » , والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع « الخطايا » بالهمز , لأن ترك الهمز في « خطيئة » أكثر من الهمز , فجمع على « خطايا » , على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت « الخطايا » مجموعة على « خطيئة » بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل , وصحيفة وصحائف . وقد تجمع « خطيئة » بالتاء، فيهمز فيقال « خطيئات » . و « الخطيئة » فعيلة، من « خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ » ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر:

وإن مُهَـــــاجِرَيْن تَكَنَّفـــــاه لعمــر اللــه قــد خطئـا وخابـا

يعني: أضلا الحق وأثما.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 )

وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس , وهو ما:-

حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج , قال ابن عباس: ( وسنـزيد المحسنين ) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه , ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.

فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات , موسعا عليكم بغير حساب ؛ وادخلوا الباب سجدا , وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا , نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه , ونحط أوزاره عنه , وسنـزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم , وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله , مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم , وعجائب ما أراهم من آياته وعبره , موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات , ومعلمهم أنهم إن تعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم , وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم ، وقص علينا أنباءهم في هذه الآيات , فقال جل ثناؤه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْـزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ

وتأويل قوله: ( فبدل ) ، فغير . ويعني بقوله: ( الذين ظلموا ) ، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله . ويعني بقوله: ( قولا غير الذي قيل لهم ) ، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم . وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره , ما:-

حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل: « ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم » , فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعيرة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق , عن صالح بن كيسان , عن صالح مولى التوأمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-

وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن سعيد بن جبير , أو عن عكرمة , عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة.

وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك , عن معمر , عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: حِطَّةٌ ، قال: بدلوا فقالوا: حبة .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان , عن السدي , عن أبي سعيد ، عن أبي الكنود , عن عبد الله: ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فأنـزل الله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان , عن الأعمش , عن المنهال بن عمرو , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس في قوله: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قال: ركوعا - من باب صغير ، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة , عن سفيان , عن الأعمش , عن المنهال , عن سعيد , عن ابن عباس قال: أمروا أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة . قال أمروا أن يستغفروا ، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر , عن قتادة والحسن: ( ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها , فدخلوها متزحفين على أوراكهم , وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم , فقالوا حبة في شعيرة.

حدثني محمد بن عمرو الباهلي . قال، حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة , وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة . وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم , فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل - وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة . فذلك التبديل الذي قال الله عز وجل: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثني موسى بن هارون الهمداني [ قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني ] ،عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: « هطى سمقا يا ازبة هزبا » , وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي , عن عكرمة: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فدخلوا مقنعي رءوسهم - وَقُولُوا حِطَّةٌ فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة . فذلك قوله: ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ، قال: فكان سجود أحدهم على خده . و ( قولوا حطة ) نحط عنكم خطاياكم , فقالوا: حنطة . وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم .

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة !! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة .

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة , « فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ

يعني بقوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا ) ، على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره , ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، ( رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) .

و « الرِّجز » في لغة العرب، العذاب , وهو غير « الرُّجز » . وذلك أن الرِّجز: البثر، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: « إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس , عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص , عن أسامة بن زيد , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا الوجع - أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم » .

وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة , عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنـزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل.

وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( رجزا ) ، قال: عذابا .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) ، قال: الرجز، الغضب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون , فلم يبق منهم أحدا. وقرأ: ( فأنـزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ) ، قال: وبقي الأبناء ففيهم الفضل والعبادة - التي توصف في بني إسرائيل- والخير وهلك الأباء كلهم , أهلكهم الطاعون .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب . وكل شيء في القرآن « رِجز » ، فهو عذاب .

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( رجزا ) ، قال: كل شيء في كتاب الله من « الرِّجز » يعني به العذاب .

وقد دللنا على أن تأويل « الرِّجز » العذاب . وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة . وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنـزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء . وجائز أن يكون ذلك طاعونا , وجائز أن يكون غيره . ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، أي أصناف ذلك كان .

فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنـزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم.

غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز , وأنه عذب به قوم قبلنا . وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك . وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 )

وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى « الفسق » ، الخروج من الشيء .

فتأويل قوله: ( بما كانوا يفسقون ) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل, فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ

يعني بقوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء . فترك ذكر المسئول ذلك , والمعنى الذي سأل موسى, إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.

وكذلك قوله: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) ، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه . وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر , فضربه، فانفجرت . فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر , إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه .

وكذلك قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم . فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه .

وقد دللنا فيما مضى على أن « أناس » جمع لا واحد له من لفظه، وأن « الإنسان » لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية.

وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات . وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه , كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد بن أبي عروبة , عن قتادة قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ , فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه . فكانوا يحملونه معهم , فإذا نـزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم .

حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد , عن القاسم بن أبي أيوب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ , وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع , وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر , فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون , لكل سبط عين ؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنـزل الأول . .

حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان , عن أبي سعيد , عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه . ضرب لهم موسى الحجر , فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء , لكل سبط منهم عين يشربون منها .

وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ) لكل سبط منهم عين . كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا .

حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( وإذ استسقى موسى لقومه ) ، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا , فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا ، ضربه موسى . قال ابن جريج: قال ابن عباس: « الأسباط » بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه , فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا , ويقرعه موسى بالعصا إذا نـزل , فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا , لكل سبط منهم عين ، فكان بنو إسرائيل يشربون منه , حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون , وقيل به فألقى في جانب الجوالق . فإذا نـزل رمى به ، فقرعه بالعصا , فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط , عن السدي قال: كان ذلك في التيه .

وأما قوله: ( قد علم كل أناس مشربهم ) ، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم - في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل . وذلك أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس . إذ كان غيرهم - في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ

وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره . وذلك أن تأويل الكلام: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا , قد علم كل أناس مشربهم , فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى , وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، الذي لا قرار له في الأرض , ولا سبيل إليه [ إلا ] لمالكيه، يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام .

ثم تقدم جل ذكره إليهم - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا , والعَثَا فيها استكبارا , فقال جل ثناؤه لهم: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )

يعني بقوله: ( لا تعثوا ) لا تطغوا , ولا تسعوا في الأرض مفسدين . كما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) لا تعث: لا تطغ .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين .

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، لا تسعوا في الأرض .

وأصل « العَثَا » شدة الإفساد , بل هو أشد الإفساد. يقال منه: « عَثِيَ فلان في الأرض » - إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته- « يعثى عثا » مقصور , وللجماعة: هم يعثون . وفيه لغتان أخريان، إحداهما: « عثا يعثو عُثُوّا » . ومن قرأها بهذه اللغة , فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من « يعثو » , ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته قرأ به. ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال: « عثوت أعثو » , ومن نطق باللغة الأولى قال: « عَثِيت أَعْثَى » .

والأخرى منهما: « عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا » , كل ذلك بمعنى واحد . ومن « العيث » قول رؤبة بن العجاج:

وعــاث فينــا مســتحل عـائث: مُصَـــدِّق أو تـــاجر مقــاعث

يعني بقوله: « عاث فينا » ، أفسد فينا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا

قد دللنا - فيما مضى قبل- على معنى « الصبر » وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. فإذ كان ذلك كذلك , فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم - يا معشر بني إسرائيل- : لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك « الطعام الواحد » ، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو « السلوى » في قول بعض أهل التأويل , وفي قول وهب بن منبه هو « الخبز النقي مع اللحم » - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء ، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى .

وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا , ما: -

حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام , وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كان لهم بمصر , فسألوه موسى . فقال الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: ملوا طعامهم , وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك , قالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها ) الآية .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد ) ، قال: كان طعامهم السلوى , وشرابهم المن , فسألوا ما ذكر , فقيل لهم: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها , فقالوا: ( ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) ، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المن والسلوى , فملوا ذلك , وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل: ( لن نصبر على طعام واحد ) ، المن والسلوى , فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بمثله سواء .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد بمثله .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا , فملوا ذلك وقالوا: ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا , وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينـزل لهم من السماء يقال له المن , وطعامهم طير يقال له السلوى , يأكلون الطير ويشربون العسل , لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا: « يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا » ، فقرأ حتى بلغ: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

وإنما قال جل ذكره: ( يخرج لنا مما تنبت الأرض ) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض , فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن « من » تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها , فاكتفي بها عن ذكر التبعيض , إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام « يريد شيئا منه. »

وقد قال بعضهم: « من » ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط . كأن معنى الكلام عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب: « ما رأيت من أحد » بمعنى: ما رأيت أحدا , وبقول الله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [ البقرة: 271 ] ، وبقولهم: « قد كان من حديث , فخل عني حتى أذهب , يريدون: قد كان حديث . »

وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون « من » بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام , وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه , وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .

فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر « من » - : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها .

و « البقل » و « القثاء » و « العدس » و « البصل » , هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها .

وأما « الفوم » , فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن عطاء قال: الفوم:، الخبز .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان , عن ابن جريج , عن عطاء ومجاهد قوله: ( وفومها ) قالا خبزها .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وفومها ) ، قال: الخبز .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة والحسن بمثله .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) قال: الحنطة .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي: ( وفومها ) ، الحنطة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم , عن يونس , عن الحسن وحصين , عن أبي مالك في قوله: ( وفومها ) ، الحنطة.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي , عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه .

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله: ( وفومها ) ، قال: خبزها، قالها مجاهد .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.

حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) يقول: الحنطة والخبز .

حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله: ( وفومها ) قال: هو البر بعينه، الحنطة.

حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس , عن رشدين بن كريب , عن أبيه , عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ( وفومها ) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم .

حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور , عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله: ( وفومها ) ، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاح وهو يقول:

قـد كـنت أغنـى الناس شخصا واحدا وَرَد المدينــة عــن زراعـة فـوم

وقال آخرون: هو الثوم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك , عن ليث , عن مجاهد قال: هو هذا الثوم .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قال: الفوم، الثوم .

وهو في بعض القراءات « وثومها » .

وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا « فوما » من اللغة القديمة . حكي سماعا من أهل هذه اللغة: « فوموا لنا » , بمعنى اختبزوا لنا .

وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: « وثومها » بالثاء . فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: « وقعوا في عاثور شر: وعافور شر » وكقولهم « » للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و « المغافير » شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينـزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ

يعني بقوله: ( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش , بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم .

وأصل « الاستبدال » : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك .

ومعنى قوله: ( أدنى ) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا . وأصله من قولهم: « هذا رجل دني بين الدناءة » و « إنه ليدنِّي في الأمور » بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم . يقولون: ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ ، وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى

باســــلةُ الـــوقعِ ســـرابيلها بيــض إلــى دانِئِهــا الظــاهر

بهمز الدانئ , وأنه سمعهم يقولون: « إنه لدانئ خبيث » بالهمز . فإن كان ذلك عنهم صحيحا , فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى .

ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم , فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .

وقد تأول بعضهم قوله: ( الذي هو أدنى ) بمعنى: الذي هو أقرب , ووجه قوله: ( أدنى ) ، إلى أنه أفعل من « الدنو » الذي هو بمعنى القرب .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( الذي هو أدنى ) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قال: ( أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) ، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج , عن مجاهد قوله: ( الذي هو أدنى ) قال: أردأ.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ

وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له , فقلنا لهم: « اهبطوا مصرا » ، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه .

وقد دللنا - فيما مضى- على أن معنى « الهبوط » إلى المكان، إنما هو النـزول إليه والحلول به .

فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه , فاستجاب الله له دعاءه , فأعطاهم ما طلبوا , وقال الله لهم: ( اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) .

ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله ( مصرا ) فقرأه عامة القَرَأَة: « مصرا » بتنوين « المصر » وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نونوه وأجروه , فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه . فتأويله - على قراءتهم- : اهبطوا مصرا من الأمصار , لأنكم في البدو , والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي , وإنما يكون في القرى والأمصار , فإن لكم - إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين , كان تأويل الكلام عنده: « اهبطوا مصرا » البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي « مصر » التي خرجوا عنها . غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف , لأن في المصحف ألفا ثابتة في « مصر » , فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ: قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [ الإنسان: 15- 16 ] منونة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينون مصر فإنه لا شك أنه عنى « مصر » التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة: ( اهبطوا مصرا ) ، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي: ( اهبطوا مصرا ) من الأمصار , فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول .

وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن قتادة في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني مصرا من الأمصار .

وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد: ( اهبطوا مصرا ) قال: مصرا من الأمصار . زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( اهبطوا مصرا ) ، قال: مصرا من الأمصار . و « مصر » لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ المائدة: 21 ] .

وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، حدثنا آدم , حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( اهبطوا مصرا ) قال: يعني به مصر فرعون .

حدثنا عن عمار بن الحسن , عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع مثله .

ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: ( اهبطوا مصرا ) ، مصرا من الأمصار دون « مصر » فرعون بعينها - : أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر . وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 21- 24 ] ، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك - فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة , ثم أهبط ذريتهم الشأم , فأسكنهم الأرض المقدسة , وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها , فيجوز لنا أن نقرأ: « اهبطوا مصر » , ونتأوله أنه ردهم إليها .

قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها , وجعل مساكنهم الشأم .

وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: ( اهبطوا مصرَ ) مصرَ ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشعراء: 57- 59 ] وقوله: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدخان: 25- 28 ] ، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم , فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها , وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها . قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: « اهبطوا مصر » بغير ألف . قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها « مصر » بعينها .

قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين , ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون , فاستجاب الله لموسى دعاءه , وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك , إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار « مصر » ، وجائز أن يكون « الشأم » .

فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: ( اهبطوا مصرا ) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين , واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ

قال أبو جعفر: يعنى بقوله: ( وضربت ) أي فرضت . ووضعت عليهم الذلة وألزموها . من قول القائل: « ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة » و « ضرب الرجل على عبده الخراج » يعني بذلك وضعه فألزمه إياه , ومن قولهم: « ضرب الأمير على الجيش البعث » , يراد به: ألزمهموه .

وأما « الذلة » فهي « الفعلة » من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة ، كـ « الصغرة » من « صغُر الأمر » , و « القِعدة » من « قعد » .

و « الذلة » هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم , فقال عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التوبة: 29 ] كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن الحسن وقتادة في قوله: ( وضربت عليهم الذلة ) ، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .

وأما « المسكنة » فإنها مصدر « المسكين » . يقال: « ما فيهم أسكن من فلان » و « ما كان مسكينا » و « لقد تمسكن مسكنة » . ومن العرب من يقول: « تمسكن تمسكنا » . و « المسكنة » في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة , وهي خشوعها وذلها ، كما:-

حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر , عن الربيع , عن أبي العالية في قوله: ( والمسكنة ) قال: الفاقة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: الفقر.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) ، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم , ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.

فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا , وبالرضا عنهم غضبا , جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق , وعصيانهم له , وخلافا عليه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وباءوا بغضب من الله ) ، انصرفوا ورجعوا . ولا يقال « باؤوا » إلا موصولا إما بخير، وإما بشر . يقال منه: « باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء » . ومنه قول الله عز وجل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [ المائدة : 29 ] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني .

فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله , قد صار عليهم من الله غضب , ووجب عليهم منه سخط . كما:-

حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) فحدث عليهم غضب من الله .

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله: ( وباؤوا بغضب من الله ) قال: استحقوا الغضب من الله .

وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ذلك » ضرب الذلة والمسكنة عليهم , وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله: « ذلك » - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل: « ذلك » يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.

ويعني بقوله: ( بأنهم كانوا يكفرون ) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون . يقول: فعلنا بهم - من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق , كما قال أعشى بني ثعلبة:

مليكيـــةٌ جَـــاوَرَتْ بالحجـــا ز قومـــا عـــداة وأرضــا شــطيرا

بمــا قــد تَــرَبَّع روض القطـا وروض التنــاضِب حــتى تصــــيرا

يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ) يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا , وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا .

وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى « الكفر » : تغطية الشيء وستره، وأن « آيات الله » حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .

فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها , ويكذبون بها.

ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم - لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.

وهم جماع، وأحدهم « نبي » , غير مهموز , وأصله الهمز , لأنه من « أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء » ، وإنما الاسم منه، « منبئ » ولكنه صرف وهو « مفعل » إلى « فعيل » , كما صرف « سميع » إلى « فعيل » من « مسمع » , و « بصير » من « مبصر » , وأشباه ذلك , وأبدل مكان الهمزة من « النبيء » الياء , فقيل: « نبي » . هذا ويجمع « النبي » أيضا على « أنبياء » , وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم « النبيء » ، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو . وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير « فعيل » من ذوات الياء والواو، جمعوه على « أفعلاء » كقولهم: « ولي وأولياء » ، و « وصي وأوصياء » ، و « دعى وأدعياء » . ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد « نبيء » مهموز، لجمعوه على « فعلاء » , فقيل لهم « النبآء » , على مثال « النبهاء » , لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء , والعليم علماء ، والحكيم حكماء , وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع « النبي » « النبآء » , وذلك من لغة الذين يهمزون « النبيء » , ثم يجمعونه على « النبآء » - على ما قد بينت . ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .

يــا خــاتم النبـآء إنـك مرسـل بـــالخير كـــلُّ هــدى الســبيل هداكــا

فقال : « يا خاتم النبآء » , على أن واحدهم « نبيء » مهموز . وقد قال بعضهم: « النبي » و « النبوة » غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من « النَّبْوَة » , وهي مثل « النَّجْوَة » , وهو المكان المرتفع ، وكان يقول: إن أصل « النبي » الطريق , ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:

لمــا وردن نَبِيَّــا واســتَتَبّ بهـا مُسْــحَنْفِر كخـطوط السَّـيْح مُنْسَـحِل

يقول: إنما سمى الطريق « نبيا » , لأنه ظاهر مستبين، من « النَّبوة » . ويقول: لم أسمع أحدا يهمز « النبي » . قال . وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.

ويعني بقوله: ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )

وقوله: ( ذلك ) ، رد على ذَلِكَ الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة, وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله, وقتلهم النبيين بغير الحق, من أجل عصيانهم ربهم , واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. ( ذلك بما عصوا ) ، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.

و « الاعتداء » ، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري, وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا

قال أبو جعفر: أما « الذين آمنوا » ، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله, وإيمانهم بذلك، تصديقهم به - على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا.

وأما « الذين هادوا » , فهم اليهود. ومعنى: « هادوا » ، تابوا. يقال منه: « هاد القوم يهودون هودا وهادة » . وقيل: إنما سميت اليهود « يهود » ، من أجل قولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ . [ سورة الأعراف: 156 ] .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ .

 

القول في تأويل قوله عز وجل : وَالنَّصَارَى

قال أبو جعفر: و « النصارى » جمع, واحدهم نصران, كما واحد السكارى سكران, وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على « فعلان » فإن جمعه على « فعالى » . إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد « النصارى » « نصراني » . وقد حكى عنهم سماعا « نصران » بطرح الياء, ومنه قول الشاعر:

تـــراه إذا زار العشــي مُحَنِّفًــا ويضحـي لديـه وهـو نصران شامس

وسمع منهم في الأنثى : « نصرانة » , قال الشاعر :

فَكِلْتَـاهُمَا خَـرَّتْ وَأَسْجَــدَ رَأْسُهَـا كَمَـا سَجَـدَتْ نَصْــرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

يقال: أسجد، إذا مال. وقد سمع في جمعهم « أنصار » ، بمعنى النصارى. قال الشاعر:

لَمَّـــا رَأَيْــتُ نَبَطًــا أَنْصَــارَا شَـــمَّرْتُ عَــنْ رُكْــبَتِيَ الإِزَارَا

كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا

وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا « نصارى » لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا « نصارى » ، من أجل أنهم نـزلوا أرضا يقال لها « ناصرة » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « النصارى » إنما سموا نصارى من أجل أنهم نـزلوا أرضا يقال لها « ناصرة » .

ويقول آخرون: لقوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [ سورة الصف: 14 ] .

وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضًى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى, لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى « ناصرة » , وكان أصحابه يسمون الناصريين, وكان يقال لعيسى: « الناصري » .

حدثت بذلك عن هشام بن محمد, عن أبيه, عن أبي صالح, عن ابن عباس.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينـزلها عيسى ابن مريم, فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ المائدة: 14 ] قال: تسموا بقرية يقال لها « ناصرة » , كان عيسى ابن مريم ينـزلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِئِينَ

قال أبو جعفر: و « الصابئون » جمع « صابئ » , وهو المستحدث سوى دينه دينا, كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب: « صابئا » . يقال منه: « صبأ فلان يصبأ صبْأ » . ويقال: « صبأت النجوم » : إذا طلعت. « وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا » , يعني به: طلع.

واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعا, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الحجاج بن أرطاة, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن الحجاج, عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن حجاج, عن قتادة, عن الحسن مثل ذلك.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح: « الصابئين » بين اليهود والمجوس لا دين لهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال مجاهد: « الصابئين » بين المجوس واليهود, لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء: « الصابئين » زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك, وقد قال المشركون للنبي: قد صبأ.

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « والصابئين » قال: الصابئون، [ أهل ] دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله, وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله, فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: « هؤلاء الصابئون » ، يشبهونهم بهم.

وقال آخرون: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحسن قال: حدثني زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.

وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( والصابئين ) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة, يصلون إلى القبلة, ويقرءون الزبور.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم, حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة, ويقرءون الزبور, ويصلون إلى القبلة.

وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحا فأطاع الله, فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله: ( فلهم أجرهم عند ربهم ) ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.

فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ؟

قيل: تمامه جملة قوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر ) . لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر « منهم » لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.

فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟

قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم.

فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟

قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به, حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه, فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين, فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, فمن يؤمن منهم بمحمد, وبما جاء به واليوم الآخر, ويعمل صالحا, فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك, فله ثواب عمله وأجره عند ربه, كما وصف جل ثناؤه.

فإن قال قائل: وكيف قال: « فلهم أجرهم عند ربهم » ، وإنما لفظه « من » لفظ واحد, والفعل معه موحد؟

قيل: « من » ، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا, فإن معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث, لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه ، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه, كما قال جل ثناؤه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ [ يونس: 42- 43 ] . فجمع مرة مع « من » الفعل لمعناه, ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد, كما قال الشاعر:

ألمـا بسـلمى عنكمـا إن عرضتمـا, وقـولا لهـا: عوجـي على من تخلفوا

فقال: « تخلفوا » , وجعل « من » بمنـزلة « الذين » ، وقال الفرزدق:

تعــال فـإن عـاهدتني لا تخـونني نكـن مثـل مـن يـا ذئب يصطحبان

فثنى « يصطحبان » لمعنى « من » . فكذلك قوله: ( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) ، وحد « آمن وعمل صالحا » للفظ « من » , وجمع ذكرهم في قوله: ( فلهم أجرهم ) ، لمعناه, لأنه في معنى جمع.

وأما قوله : وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )

فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة, ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.

* ذكر من قال عُني بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر, عن السدي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية, قال: نـزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جُنْدَيسابور, وكان من أشرافهم, وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا, لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه, وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء, فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما, فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانـزلا حتى أعلمكما. فنـزلا إليه, فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله, أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته, فيه: أن لا تزني, ولا تسرق, ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه, وهو الإنجيل الذي أنـزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام.

فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه, حتى كان عيد للملك, فجعل طعاما, ثم جمع الناس والأشراف, وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول, فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل, أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه. وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم, إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك, ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه, فقال لهما: إن كنتما صادقين, فإنا في بِيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها, فأتونا فيها.

فخرج الراهب, وبقي سلمان وابن الملك: فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان, خرج سلمان حتى أتاهم, فنـزل على صاحبه، وهو رب البيعة. وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان, فكان سلمان: معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه, فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق, وأنا خائف أن تفتر وتعجز, فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني.

ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي, وأنا أحق الناس بها, ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعُف عن عبادة هؤلاء, وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء, فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم, وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان, فكان سلمان يتعبد معهم.

ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس, فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق, وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى, فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس, فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم, فرجع يوما حزينا, فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن, فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه, ولا أراني أدركه, وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه, وهو يخرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم, هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة, وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد, فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره, فأخذ بيده فرفعه, فضرب به الأرض ودعا له وقال: قم بإذن الله! فقام صحيحا يشتد, فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان.

ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته, قال: نعم راعي الصرمة هذا! فحمله فانطلق به إلى المدينة.

قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما, فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى, إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه, فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك .

فهبط سلمان إلى المدينة, فنطر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد, فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه, فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزا, ثم أتاه به. فقال: « ما هذا » ؟ قال سلمان: هذه صدقة قال: « لا حاجة لي بها، فأخرجها فليأكلها المسلمون » . ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما, فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد [ فكل ] فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان, وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك, فأنـزل الله هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .

فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه, حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا الآية. قال سأل سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم, قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكرت اجتهادهم, فنـزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا . فدعا سلمان فقال: « نـزلت هذه الآية في أصحابك » . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم « من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير؛ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك » .

وقال ابن عباس بما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ إلى قوله: ( ولا هم يحزنون ) . فأنـزل الله تعالى بعد هذا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ آل عمران: 85 ]

وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله، في الآخرة الجنة, ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .

فتأويل الآية إذًا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة, والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنـزيل, لأن الله جل ثناؤه لم يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم, والخبر بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، عن جميع ما ذكر في أول الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ

قال أبو جعفر: « الميثاق » ، « المفعال » ، من « الوثيقة » ، إما بيمين, وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق.

ويعني بقوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ البقرة: 83- 85 ] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله, فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم, فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم, فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم, فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم, هذا الطور, قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا حتى بلغ: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ البقرة: 83- 85 ] ، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ

قال أبو جعفر: وأما « الطور » فإنه الجبل في كلام العرب, ومنه قول العجاج:

دانَــى جناحيـه مـن الطـور فمـر تَقَضِّــيَ البـازي إذا البـازي كسـر

وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت.

* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حِطَّةٌ وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا, فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم, وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة و « الطور » ، بالسريانية، الجبل تخويفا، أو خوفا, شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه.

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة, فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية: « الطور » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم, فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( ورفعنا فوقكم الطور ) ، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم, فقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ فأقروا بذلك.

وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع, عن أبي العالية: ( ورفعنا فوقكم الطور ) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن النضر, عن عكرمة قال: الطور الجبل.

وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم, فنظروا إليه وقد غشيهم, فسقطوا سجدا على شق, ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [ الأعراف: 171 ] ، وقوله: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) .

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.

وقال آخرون: « الطور » اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنـزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ .

وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( الطور ) قال: الطور من الجبال ما أنبت, وما لم ينبت فليس بطور.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة, وإلا قذفناه عليكم.

وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه, فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام - الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه « أن » كما قال الله جل ثناؤه إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [ نوح: 1 ] قال: ويجوز أن تحذف « أن » .

والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به - مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.

ويعني بقوله: ( خذوا ما آتيناكم ) ، ما أمرناكم به في التوراة.

وأصل « الإيتاء » ، الإعطاء.

ويعني بقوله: ( بقوة ) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-

حدثت عن إبراهيم بن بشار قال، : حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . قال: تعملوا بما فيه.

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) ، قال: بطاعة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) . قال: « القوة » الجد, وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بقوة ) ، يعني: بجد واجتهاد.

وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.

فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة ، بجد.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 )

قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب, فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنـزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة عن ابن عباس: ( لعلكم تتقون ) ، قال: تنـزعون عما أنتم عليه.

والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( واذكروا ما فيه ) يقول: اذكروا ما في التوراة.

كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( واذكروا ما فيه ) يقول: أمروا بما في التوراة.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: ( واذكروا ما فيه ) ، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ثم توليتم ) : ثم أعرضتم. وإنما هو « تفعلتم » من قولهم: « ولاني فلان دبره » إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. يقال: « قد تولى فلان عن طاعة فلان, وتولى عن مواصلته » ، ومنه قول الله جل ثناؤه: فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ التوبة: 76 ] ، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [ التوبة: 75 ] ، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم

ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها, كما قال أبو خراش الهذلي:

فليس كعهــد الــدار يـا أم مـالك ولكـن أحـاطت بالرقـاب السلاسـل

وعــاد الفتـى كـالكهل ليس بقـائل سـوى الحق شيئا واسـتراح العواذل

يعني بقوله: « أحاطت بالرقاب السلاسل » ، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنـزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.

ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: ( ثم توليتم من بعد ذلك ) ، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.

وكنى بقوله جل ذكره: « ذلك » ، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة, أعني قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ .

القول في تأويل قوله تعالى ذكره فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ( فلولا فضل الله عليكم ) ، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته, وأداء فرائضه, والقيام بما أمركم به, والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم, فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم لكنتم من الخاسرين.

وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنما هو خبر عن أسلافهم, فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب, فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها, فتقول: فعلنا بكم, وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى.

وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل, فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.

وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك, لأن سامعيه كانوا عالمين - وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر:

إذ مــا انتسـبنا لـم تلـدني لئيمـة ولـم تجـدي مـن أن تقـري بـه بدا

فقال: « إذا ما انتسبنا » , و « إذا » تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال: « لم تلدني لئيمة » , فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.

والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.

وكان أبو العالية يقول في قوله: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فلولا فضل الله عليكم ورحمته ) ، قال: « فضل الله » ، الإسلام, « ورحمته » ، القرآن.

وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [ عن أبيه ] , عن الربيع بمثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 64 )

قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما, الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.

وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى « الخسار » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ولقد علمتم ) ، ولقد عرفتم. كقولك: « قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه » , يعني عرفته، ولم أكن أعرفه, كما قال جل ثناؤه: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [ الأنفال: 60 ] ، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.

وقوله: ( الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.

وقد دللت - فيما مضى- على أن « الاعتداء » ، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها, مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - ما كانوا يبرمون من العقود, وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق, وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني, اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة ، وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة, وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. ومن لم يفعل ذلك، كان بمنـزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها - : يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها, والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت, وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها, والأول أفضل, والله واحد, والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد, ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا, فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت - : أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره, ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [ الأعراف: 163 ] ، يقول: ظاهرة على الماء, ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله: وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [ الأعراف: 163 ] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة, فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه, وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء, فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [ قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ] ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة, وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء, ويحوله كما يشاء.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة- . فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه, فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها « مدين » . فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم, حتى إذا ذهب السبت ذهبن, فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا, حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك, حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان, عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط, ثم أرسله في الماء, وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل, وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة: ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لسخطنا أعمالهم - وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأعراف: 164 ] ، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم, وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم, فوجدوها مغلقة عليهم, قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم, فأصبحوا فيها قردة, وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد, والمرأة بعينها وإنها لقردة, والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية [ الأعراف: 163 ] .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية, وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه, قال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فصاروا قردة لها أذناب, تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) ، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت, فكانت تشرع إليهم يوم السبت, وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها, فجعلهم الله قردة خاسئين.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » قال: فهم أهل « أيلة » , وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [ الأعراف: 163 ] ، فاشتهى بعضهم السمك, فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر, فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر, فيمكث [ فيها ] . فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي السمك, فيجد جاره ريحه, فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه, فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [ الأعراف: 164 ] ، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ الأعراف: 164 ] . فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار, ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا, ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط, فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض, ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ الأعراف: 166 ] ، فذلك حين يقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [ المائدة: 78 ] ، فهم القردة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ » . قال: مسخت قلوبهم, ولم يمسخوا قردة, وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت, كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [ النساء: 153 ] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل, فجعل توبتهم قتل أنفسهم, وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة: 24 ] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة, وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه, سئل البرهان على قوله، وعورض - فيما أنكر من ذلك- بما أقر به, ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.

هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 65 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فقلنا لهم ) أي: فقلنا للذين اعتدوا في السبت - يعني في يوم السبت.

وأصل « السبت » الهدوّ والسكون في راحة ودعة, ولذلك قيل للنائم « مسبوت » لهدوّه وسكون جسده واستراحته, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [ النبأ: 9 ] أي راحة لأجسادكم. وهو مصدر من قول القائل: « سبت فلان يسبت سبتا » .

وقد قيل: إنه سمي « سبتا » ، لأن الله جل ثناؤه فرغ يوم الجمعة - وهو اليوم الذي قبله - من خلق جميع خلقه.

وقوله: ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي: صيروا كذلك.

و « الخاسئ » المبعد المطرود، كما يخسأ الكلب يقال منه: « خسأته أخسؤه خسأ وخسوءا, وهو يخسأ خسوءا » . قال: ويقال: « خسأته فخسأ وانخسأ » . ومنه قول الراجز:

كالكلـب إن قلـت له اخســأ انخســأ

يعني: إن طردته انطرد ذليلا صاغرا.

فكذلك معنى قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) أي، مبعدين من الخير أذلاء صغراء، كما:-

حدثنا محمد بن بشار, قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) قال: صاغرين.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن رجل, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( خاسئين ) ، قال: صاغرين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( كونوا قردة خاسئين ) ، أي أذلة صاغرين.

وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: خاسئا، يعني ذليلا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَجَعَلْنَاهَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل « الهاء والألف » في قوله: ( فجعلناها ) ، وعلام هي عائدة؟ فروي عن ابن عباس فيها قولان: أحدهما ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فجعلناها ) فجعلنا تلك العقوبة - وهي المسخة- « نكالا » .

فالهاء والألف من قوله: ( فجعلناها ) - على قول ابن عباس هذا- كناية عن « المسخة » , وهي « فعلة » مسخهم الله مسخة.

فمعنى الكلام على هذا التأويل: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فصاروا قردة ممسوخين، ( فجعلناها ) ، فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إياهم، نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .

والقول الآخر من قولي ابن عباس، ما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فجعلناها ) ، يعني الحيتان.

و « الهاء والألف » - على هذا القول- من ذكر الحيتان, ولم يجر لها ذكر. ولكن لما كان في الخبر دلالة، كني عن ذكرها. والدلالة على ذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ .

وقال آخرون: فجعلنا القرية التي اعتدى أهلها في السبت. فـ « الهاء » و « الألف » - في قول هؤلاء- كناية عن قرية القوم الذين مسخوا.

وقال آخرون: معنى ذلك فجعلنا القردة الذين مسخوا « نكالا لما بين يديها وما خلفها » , فجعلوا « الهاء والألف » كناية عن القردة.

وقال آخرون: ( فجعلناها ) ، يعني به: فجعلنا الأمة التي اعتدت في السبت « نكالا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : نَكَالا

و « النكال » مصدر من قول القائل: « نكَّل فلان بفلان تنكيلا ونكالا » . وأصل « النكال » ، العقوبة, كما قال عدي بن زيد العباد :

لا يسـخط الضليـل مـا يسـع العبـ د ولا فـــي نكالـــه تنكـــير

وبمثل الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( نكالا ) يقول: عقوبة.

حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( فجعلناها نكالا ) ، أي عقوبة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لما بين يديها ) يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي. ( وما خلفها ) ، يقول: الذين كانوا بقوا معهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( لما بين يدلها وما خلفها ) ، لما خلا لهم من الذنوب, ( وما خلفها ) ، أي عبرة لمن بقي من الناس.

وقال آخرون بما:

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ، أي من القرى.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال الله ( فجعلناها نكالا لما بين يديها ) - من ذنوب القوم- ( وما خلفها ) ، أي للحيتان التي أصابوا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لما بين يديها ) ، من ذنوبها، ( وما خلفها ) ، من الحيتان.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: ( لما بين يديها ) ، ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( نكالا لما بين يديها وما خلفها ) ، يقول: « بين يديها » ، ما مضى من خطاياهم, ( وما خلفها ) خطاياهم التي هلكوا بها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله - إلا أنه قال: ( وما خلفها ) ، خطيئتهم التي هلكوا بها.

وقال آخرون بما:-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) قال: أما « ما بين يديها » فما سلف من عملهم, ( وما خلفها ) ، فمن كان بعدهم من الأمم، أن يعصوا فيصنع الله بهم مثل ذلك.

وقال آخرون بما:-

حدثني به ابن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه، عن ابن عباس قوله, « فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا » ، يعني الحيتان، جعلها نكالا « لما بين يديها وما خلفها » ، من الذنوب التي عملوا قبل الحيتان, وما عملوا بعد الحيتان. فذلك قوله: ( ما بين يديها وما خلفها ) .

قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية، ما رواه الضحاك عن ابن عباس. وذلك لما وصفنا من أن « الهاء والألف » - في قوله: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا - بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة التي مسخها القوم، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها. من أجل أن الله جل ثناؤه إنما يحذر خلقه بأسه وسطوته، بذلك يخوفهم . وفي إبانته عز ذكره - بقوله: نَكَالا أنه عنى به العقوبة التي أحلها بالقوم - ما يعلم أنه عنى بقوله: « فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا » ، فجعلنا عقوبتنا التي أحللناها بهم عقوبة لما بين يديها وما خلفها - دون غيره من المعاني. وإذْ كانت « الهاء والألف » - بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة، أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها؛ فكذلك العائد في قوله: ( لما بين يديها وما خلفها ) من « الهاء والألف » : أن يكون من ذكر « الهاء والألف » اللتين في قوله: فَجَعَلْنَاهَا ، أولى من أن يكون من [ ذكر ] غيره.

فتأويل الكلام - إذْ كان الأمر على ما وصفنا - : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين, فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبة لما بين يديها من ذنوبهم السالفة منهم، بمسخنا إياهم وعقوبتنا لهم - ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم: أن يعمل بها عامل, فيمسخوا مثل ما مسخوا, وأن يحل بهم مثل الذي حل بهم، تحذيرا من الله تعالى ذكره عباده: أن يأتوا من معاصيه مثل الذي أتى الممسوخون، فيعاقبوا عقوبتهم.

وأما الذي قال في تأويل ذلك: فَجَعَلْنَاهَا ، يعني الحيتان، عقوبة لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم - فإنه أبعد في الانتزاع. وذلك أن الحيتان لم يجر لها ذكر فيقال: فَجَعَلْنَاهَا . فإن ظن ظان أن ذلك جائز - وإن لم يكن جرى للحيتان ذكر - لأن العرب قد تكني عن الاسم ولم يجر له ذكر, فإن ذلك وإن كان كذلك, فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب - والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنـزيل - إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنـزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول، ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض.

وأما تأويل من تأول ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها, فينظر إلى تأويل من تأول ذلك: بما بين يدي الحيتان وما خلفها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَوْعِظَةً

و « الموعظة » ، مصدر من قول القائل: « وعظت الرجل أعظه وعظا وموعظة » ، إذا ذكرته.

فتأويل الآية: فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وتذكرة للمتقين, ليتعظوا بها, ويعتبروا, ويتذكروا بها, كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وموعظة ) يقول: وتذكرة وعبرة للمتقين.

القول في تأويل قوله تعالى لِلْمُتَّقِينَ ( 66 )

وأما « المتقون » ، فهم الذين اتقوا، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة قال، حدثنا أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وموعظة للمتقين ) ، يقول: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي.

فجعل تعالى ذكره ما أحل بالذين اعتدوا في السبت من عقوبته، موعظة للمتقين خاصة، وعبرة للمؤمنين، دون الكافرين به - إلى يوم القيامة - ، كالذي:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن عبد الله بن عباس في قوله: ( وموعظة للمتقين ) ، إلى يوم القيامة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وموعظة للمتقين ) ، أي: بعدهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « موعظة للمتقين » , فهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وموعظة للمتقين ) ، قال: فكانت موعظة للمتقين خاصة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج في قوله: ( وموعظة للمتقين ) ، أي لمن بعدهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه, فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي, « إذ قال موسى لقومه » - وقومه بنو إسرائيل, إذ ادارءوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا ) .

و « الهزؤ » : اللعب والسخرية, كما قال الراجز:

قــد هــزئت منــي أم طيســله قــالت أراه معدمــا لا شـيء لـه

يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت.

ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله - فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي- هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم - عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله, وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.

وحذفت « الفاء » من قوله: ( أتتخذنا هزوا ) ، وهو جواب, لاستغناء ما قبله من الكلام عنه, وحَسُن السكوت على قوله: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فجاز لذلك إسقاط « الفاء » من قوله: ( أتتخذنا هزوا ) ، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا [ الحجر: 57 ، 58 الذاريات: 31 ، 32 ] ، ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل « فقالوا » كان حسنا أيضا جائزا. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه « الفاء » . وذلك أنك إذا قلت: « قمت ففعلت كذا وكذا » ، لم تقل: « قمت فعلت كذا وكذا » لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه.

فأخبرهم موسى - إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) ، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.

وكان سبب قيل موسى لهم: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، ما:-

حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم - أو عاقر- قال: فقتله وليه, ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله ؟ قال: فأتوا نبي الله, فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ ، إلى قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، قال : ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك.

وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قول الله ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قال: كان رجل من بني إسرائيل, وكان غنيا ولم يكن له ولد, وكان له قريب وارثه, فقتله ليرثه, ثم ألقاه على مجمع الطريق, وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم, وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله, فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . فعجبوا وقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ - يعني: لا هرمة - وَلا بِكْرٌ - يعني: ولا صغيرة - عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ - أي: نصف، بين البكر والهرمة - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا - أي: صاف لونها - تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - أي تعجب الناظرين - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي: لم يذللها العمل - تُثِيرُ الأَرْضَ - يعني ليست بذلول فتثير الأرض - وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ - يقول: ولا تعمل في الحرث - مُسَلَّمَةٌ ، يعني مسلمة من العيوب، لا شِيَةَ فِيهَا - يقول: لا بياض فيها - قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ . قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها ، لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم, فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ، لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى, وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة, وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم, فشددتم على أنفسكم, فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله, ثم عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه, - فقتله الله على أسوء عمله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال, وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها, فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل, فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها, فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله. فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه, كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه, فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادى: واعماه! فرفعهم إلى موسى, فقضى عليهم بالدية, فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة, فوالله إن ديته علينا لهينة, ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . فقال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) . قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) - قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم, ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم - فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ - والفارض: الهرمة التي لا تلد, والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا, والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها - فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ - قال: تعجب الناظرين - قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا - من بياض ولا سواد ولا حمرة - قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . فطلبوها فلم يقدروا عليها.

وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه, فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح, فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا, وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا, وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة, فأبصروا البقرة عنده, فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي, فأعطوه ثنتين فأبي, فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي, فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها, وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي, فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات, فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة -

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, عن مجاهد -

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد -

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبا يذكر -

وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -

وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس -

- فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه - عن أمر الله إياهم بذلك - فقالوا له: وما ذبح البقرة؟ يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادُّعِي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل, فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزئ بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: ( أتتخذنا هزوا ) . قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزئ بنا؟ فقال موسى: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي, ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم - موسى وقصوا قصتهم عليه, أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: ( إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) . قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم: « إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » ، وتقولون: « أتتخذنا هزوا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ

قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - بعد أن علموا واستقر عندهم، أن الذي أمرهم به موسى من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة - جد وحق، ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) ، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم: « اذبحوا بقرة » . لأنه جل ثناؤه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر - أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف - فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم، وسوء أفهامهم, وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤونته, تعنتا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما قال لهم موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . قالوا له يتعنتونه: ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) .

فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها، تعنتا منهم نبيهم موسى صلوات الله عليه، بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه، بقولهم: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا - عاقبهم عز وجل بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه من البقر على نوع منها دون نوع، فقال لهم جل ثناؤه - إذ سألوه فقالوا: ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟ حَلِّها لنا لنعرفها! - قال: ( إنها بقرة لا فارض ولا بكر ) .

يعني بقوله جل ثناؤه: ( لا فارض ) لا مسنة هرمة. يقال منه: « فرضت البقرة تفرض فروضا » , يعني بذلك: أسنت. ومن ذلك قول الشاعر:

يــا رب ذي ضغـن عـليَّ فـارضِ لــه قــروء كقــروء الحـائضِ

يعني بقوله: « فارض » ، قديم. يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر:

لهــا زِجــاج ولهــاة فــارض حــدلاء كـالوطب نحـاه المـاخض

وبمثل الذي قلنا في تأويل « فارض » قال المتأولون:

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( لا فارض ) ، قال: لا كبيرة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أو عن عكرمة, شك شريك- : ( لا فارض ) ، قال: الكبيرة.

حدثني محمد بن سعد قال، أخبرني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( لا فارض ) ، الفارض: الهرمة.

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( لا فارض ) ، يقول: ليست بكبيرة هرمة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: ( لا فارض ) ، الهرمة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الفارض » الكبيرة.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد قوله: ( لا فارض ) ، قال: الكبيرة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( لا فارض ) ، يعني: لا هرمة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « الفارض » ، الهرمة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر, قال قتادة: « الفارض » الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الفارض » ، الهرمة التي لا تلد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الفارض » ، الكبيرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا بِكْرٌ

قال أبو جعفر: و « البكر » من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل, وهي مكسورة الباء، لم يسمع منه « فَعَل » ولا « يفعل » . وأما « البكر » بفتح الباء فهو الفتي من الإبل.

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله ( ولا بكر ) ولا صغيرة لم تلد، كما:-

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا بكر ) ، صغيرة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « البكر » ، الصغيرة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد, عن ابن عباس - أو عكرمة، شك- : ( ولا بكر ) ، قال: الصغيرة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: ( ولا بكر ) ، الصغيرة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة: ( ولا بكر ) ولا صغيرة.

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولا بكر ) ، ولا صغيرة ضعيفة.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( ولا بكر ) ، يعني: ولا صغيرة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: في « البكر » ، لم تلد إلا ولدا واحدا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : عَوَانٌ

قال أبو جعفر: « العوان » النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن, وليست بنعت للبكر. يقال منه: « قد عونت » إذا صارت كذلك.

وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان بين ذلك. ولا يجوز أن يكون « عوان » إلا مبتدأ. لأن قوله بَيْنَ ذَلِكَ ، كناية عن الفارض والبكر, فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما، ومنه قول الأخطل:

ومــا بمكــة مـن شُـمط مُحَفِّلـة ومــا بيـثرب مـن عُـونٍ وأبكـار

وجمعها « عون » يقال: « امرأة عوان من نسوة عون » . ومنه قول تميم بن مقبل:

ومــأتم كــالدمي حـورٍ مدامعهـا لـم تبـأس العيش أبكـارا ولا عونـا

وبقرة « عوان، وبقر عون » . قال: وربما قالت العرب: « بقر عُوُن » مثل « رسل » يطلبون بذلك الفرق بين جمع « عوان » من البقر, وجمع « عانة » من الحمر. ويقال: « هذه حرب عوان » ، إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة. يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال: « حاجة عوان » ، إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، أن ابن زيد أنشده:

قعـود لـدى الأبـواب طـلاب حاجة عـوانٍ مـن الحاجـات أو حاجةً بكرا

قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن خصيف, عن مجاهد: ( عوان بين ذلك ) ، وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( عوان ) ، قال: « العوان » : العانس النصف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « العوان » ، النصف.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس - أو عكرمة, شك شريك- ( عوان ) ، قال: بين ذلك.

حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( عوان ) ، قال: بين الصغيرة والكبيرة, وهى أقوى ما تكون من البقر والدواب، وأحسن ما تكون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: ( عوان ) ، قال: النصف.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( عوان ) نَصَف.

وحُدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: « العوان » ، نَصَف بين ذلك.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد: ( عوان ) ، التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « العوان » ، النصَف التي بين ذلك, التي قد ولدت وولد ولدُها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « العوان » ، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَيْنَ ذَلِكَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( بين ذلك ) بين البكر والهرمة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( بين ذلك ) ، أي بين البكر والهرمة.

فإن قال قائل: قد علمت أن « بين » لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين فصاعدا, فكيف قيل « بين ذلك » و « ذلك » واحد في اللفظ؟

قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة, لأن « ذلك » بمعنى اثنين, والعرب تجمع في « ذلك » و « ذاك » شيئين ومعنيين من الأفعال, كما يقول القائل: « أظن أخاك قائما, وكان عمرو أباك » , ثم يقول: « قد كان ذاك, وأظن ذلك » . فيجمع ب « ذلك » و « ذاك » الاسم والخبر، الذي كان لا بد لـ « ظن » و « كان » منهما .

فمعنى الكلام: قال: إنه يقول إنما بقرة لا مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد, ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن، بين الهرم والشباب. فجمع « ذلك » معنى الهرم والشباب لما وصفنا, ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين، لم يجمع مع « بين » ذلك. وذلك أن « ذلك » لا يؤدي عن اسم شخصين, وغير جائز لمن قال: « كنت بين زيد وعمرو » , أن يقول: « كنت بين ذلك » , وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ( 68 )

قال أبو جعفر: يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به، تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي؛ واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها, تصلوا - بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها - إلى العلم بقاتل قتيلكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ

قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الأول, وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة. وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية - إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها، فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها، فحصروا على نوع دون سائر الأنواع، عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعنتا منهم له. ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون, فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء, فقالوا - تعنتا منهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس- : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ) فقيل لهم عقوبة لهم: ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) . فحصروا على لون منها دون لون. ومعنى ذلك: أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها.

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: ( يبين لنا ما لونها ) ، أي شيء لونها؟ فلذلك كان اللون مرفوعا, لأنه مرافع « ما » . وإنما لم ينصب « ما » بقوله « يبين لنا » , لأن أصل « أي » و « ما » ، جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلما لم يكن لقوله: « بين لنا » أن يقع على الاستفهام متفرقا، لم يكن له أن يقع على « أي » ، لأنه جمع ذلك المتفرق. وكذلك كل ما كان من نظائره فالعمل فيه واحد، في « ما » و « أي » .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( صفراء ) . فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد.

ذكر من قال ذلك منهم:

حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري قال، حدثنا نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, عن الحسن: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: سوداء شديدة السواد.

حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائده. والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس, عن محمد بن سيف, عن أبي رجاء, عن الحسن مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني هشام بن يونس النهشلي قال، حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن الحسن في قوله: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: صفراء القرن والظلف.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن في قوله: ( صفراء فاقع لونها ) ، قال: كانت وحشية.

حدثني يعقوب قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن إبراهيم, عن أبي حفص, عن مغراء - أو عن رجل - ، عن سعيد بن جبير: ( بقرة صفراء فاقع لونها ) ، قال: صفراء القرن والظلف.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هي صفراء.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها ) ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.

قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: ( صفراء ) ، يعني به سوداء, ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود: « هذه إبل صفر, وهذه ناقة صفراء » يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الإبل لأن سوادها يضرب إلى الصفرة, ومنه قول الشاعر:

تلــك خـيلي منـه وتلـك ركـابي هــن صفــر أولادهــا كـالزبيب

يعني بقوله: « هن صفر » هن سود وذلك إن وصفت الإبل به، فليس مما توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع, وإنما تصف السواد - إذا وصفته- بالشدة بالحلوكة ونحوها, فتقول: « هو أسود حالك وحانك وحُلكوك, وأسود غِربيب ودَجوجي » - ولا تقول: هو أسود فاقع. وإنما تقول: « هو أصفر فاقع » . فوصفه إياه بالفقوع، من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله: ( إنها بقرة صفراء فاقع ) المتأول، بأن معناه سوداء شديدة السواد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاقِعٌ لَوْنُهَا

قال أبو جعفر: يعني خالص لونها. و « الفقوع » في الصفر، نظير النصوع في البياض, وهو شدته وصفاؤه، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: ( فاقع لونها ) ، هي الصافي لونها.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فاقع لونها ) ، أي صاف لونها.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فاقع ) ، قال: نقي لونها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس: ( فاقع لونها ) ، شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تَبْيَضُّ. وقال أبو جعفر: أُراه أبيض!

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فاقع لونها ) ، قال: شديدة صفرتها .

يقال منه: « فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا، فهو فاقع » , كما قال الشاعر:

حـملت عليـه الـوَرد حـتى تركتـه ذليـلا يسُـف الـترب واللـون فـاقع

 

القول في تأويل قوله تعالى : تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( تسر الناظرين ) ، تعجب هذه البقرة - في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها- الناظر إليها، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( تسر الناظرين ) ، أي تعجب الناظرين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا: ( تسر الناظرين ) ، إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( تسر الناظرين ) ، قال: تعجب الناطرين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( قالوا ) قال قوم موسى - الذين أمروا بذبح البقرة - لموسى. فترك ذكر موسى، وذكر عائد ذكره، اكتفاء بما دل عليه ظاهر الكلام. وذلك أن معنى الكلام: قالوا له: « ادع ربك » . فلم يذكر « له » لما وصفنا.

وقوله: ( يبين لنا ما هي ) ، خبر من الله عن القوم بجهلة منهم ثالثة. وذلك أنهم لو كانوا، إذ أمروا بذبح البقرة، ذبحوا أيتها تيسرت مما يقع عليه اسم بقرة، كانت عنهم مجزئة, ولم يكن عليهم غيرها, لأنهم لم يكونوا كلفوها بصفة دون صفة. فلما سألوا بيانها بأي صفة هي, بين لهم أنها بسن من الأسنان دون سن سائر الأسنان, فقيل لهم: هي عوان بين الفارض والبكر والضرع. فكانوا - إذْ بينت لهم سنها- لو ذبحوا أدنى بقرة بالسن التي بينت لهم، كانت عنهم مجزئة, لأنهم لم يكونوا كلفوها بغير السن التي حدت لهم, ولا كانوا حصروا على لون منها دون لون. فلما أبوا إلا أن تكون معرفة لهم بنعوتها، مبينة بحدودها التي تفرق بينها وبين سائر بهائم الأرض، فشددوا على أنفسهم - شدد الله عليهم بكثرة سؤالهم نبيهم واختلافهم عليه. ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته:-

« ذروني ما تركتكم، فإنما أُهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوه, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم » .

قال أبو جعفر: ولكن القوم لما زادوا نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم أذى وتعنتا, زادهم الله عقوبة وتشديدا, كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عَبيدة قال: لو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب-

وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان جميعا, عن ابن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: سألوا وشددوا فشدد الله عليهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال, أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: لو أخذ بنو إسرائيل بقرة لأجزأت عنهم. ولولا قولهم: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما وجدوها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، لو أخذوا بقرة ما كانت، لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ، قال: لو أخذوا بقرة من هذا الوصف لأجزأت عنهم. قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم. ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) , قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ الآية.

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه, وزاد فيه: ولكنهم شددوا فشدد عليهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: « لو أخذوا بقرة مَّا كانت أجزأت عنهم. قال ابن جريج، قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال ابن جريج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شُدد الله عليهم؛ وَايْمُ الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد » .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة فذبحوها لكانت إياها, ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم, ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، لما هدوا إليها أبدا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « إنما أمر القوم بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد عليهم. والذي نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد » .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس قال: لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم.

حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش، قال ابن عباس: لو أن القوم نظروا أدنى بقرة - يعني بني إسرائيل- لأجزأت عنهم, ولكن شددوا فشدد عليهم, فاشتروها بملء جلدها دنانير.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لو أخذوا بقرة كما أمرهم الله كفاهم ذلك, ولكن البلاء في هذه المسائل, فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ، فشدد عليهم, فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ , فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، قال: وشدد عليهم أشد من الأول، فقرأ حتى بلغ: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا فأبوا أيضا فقالوا: ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون ) فشدد عليهم، فقال: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا ، قال: فاضطروا إلى بقرة لا يعلم على صفتها غيرها, وهي صفراء, ليس فيها سواد ولا بياض.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه - من الصحابة والتابعين والخالفين بعدهم، من قولهم إن بني إسرائيل لو كانوا أخذوا أدنى بقرة فذبحوها أجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم - من أوضح الدلالة على أن القوم كانوا يرون أن حكم الله، فيما أمر ونهى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، على العموم الظاهر، دون الخصوص الباطن, إلا أن يخص, بعض ما عمه ظاهر التنـزيل، كتاب من الله أو رسولُ الله, وأن التنـزيل أو الرسول، إن خص بعض ما عمه ظاهر التنـزيل بحكم خلاف ما دل عليه الظاهر, فالمخصوص من ذلك خارج من حكم الآية التي عمت ذلك الجنس خاصة, وسائر حكم الآية على العموم؛ على نحو ما قد بيناه في كتابنا ( كتاب الرسالة ) من ( لطيف القول في البيان عن أصول الأحكام ) - في قولنا في العموم والخصوص, وموافقة قولهم في ذلك قولنا, ومذهبهم مذهبنا, وتخطئتهم قول القائلين بالخصوص في الأحكام, وشهادتهم على فساد قول من قال: حكم الآية الجائية مجيء العموم على العموم، ما لم يختص منها بعض ما عمته الآية. فإن خص منها بعض, فحكم الآية حينئذ على الخصوص .

وذلك أن جميع من ذكرنا قوله آنفا - ممن عاب على بني إسرائيل مسألتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن صفة البقرة التي أمروا بذبحها وسنها وحليتها - رأوا أنهم كانوا في مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى ذلك مخطئين, وأنهم لو كانوا استعرضوا أدنى بقرة من البقر - إذ أمروا بذبحها بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، فذبحوها - كانوا للواجب عليهم من أمر الله في ذلك مؤدين، وللحق مطيعين, إذْ لم يكن القوم حصروا على نوع من البقر دون نوع, وسن دون سن.

ورأوا مع ذلك أنهم - إذْ سألوا موسى عن سنها فأخبرهم عنها، وحصرهم منها على سن دون سن, ونوع دون نوع, وخص من جميع أنواع البقر نوعا منها - كانوا في مسألتهم إياه في المسألة الثانية، بعد الذي خص لهم من أنوع البقر، من الخطأ على مثل الذي كانوا عليه من الخطأ في مسألتهم إياه المسألة الأولى.

وكذلك رأوا أنهم في المسألة الثالثة على مثل الذي كانوا عليه من ذلك في الأولى والثانية, وأن اللازم كان لهم في الحالة الأولى، استعمال ظاهر الأمر، وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة.

وكذلك رأوا أن اللازم كان لهم في الحال الثانية، استعمال ظاهر الأمر وذبح أي بهيمة شاؤوا مما وقع عليها اسم بقرة عوان لا فارض ولا بكر، ولم يروا أن حكمهم - إذ خص لهم بعض البقر دون البعض في الحالة الثانية - انتقل عن اللازم الذي كان لهم في الحالة الأولى، من استعمال ظاهر الأمر إلى الخصوص. ففي إجماع جميعهم على ما روينا عنهم من ذلك - مع الرواية التي رويناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافقة لقولهم - دليل واضح على صحة قولنا في العموم والخصوص, وأن أحكام الله جل ثناؤه في آي كتابه - فيما أمر ونهى - على العموم، ما لم يخص ذلك ما يجب التسليم له. وأنه إذا خص منه شيء، فالمخصوص منه خارج حكمه من حكم الآية العامة الظاهر, وسائر حكم الآية على ظاهرها العام - ومؤيد حقيقة ما قلنا في ذلك, وشاهد عدل على فساد قول من خالف قولنا فيه.

وقد زعم بعض من عظمت جهالته، واشتدت حيرته, أن القوم إنما سألوا موسى ما سألوا بعد أمر الله إياهم بذبح بقرة من البقر، لأنهم ظنوا أنهم أمروا بذبح بقرة بعينها خصت بذلك, كما خصت عصا موسى في معناها, فسألوه أن يحليها لهم ليعرفوها.

ولو كان الجاهل تدبر قوله هذا, لسهل عليه ما استصعب من القول. وذلك أنه استعظم من القوم مسألتهم نبيهم ما سألوه تشددا منهم في دينهم, ثم أضاف إليهم من الأمر ما هو أعظم مما استنكره أن يكون كان منهم. فزعم أنهم كانوا يرون أنه جائز أن يفرض الله عليهم فرضا، ويتعبدهم بعبادة, ثم لا يبين لهم ما يفرض عليهم ويتعبدهم به، حتى يسألوا بيان ذلك لهم! فأضاف إلى الله تعالى ذكره ما لا يجوز إضافته إليه, ونسب القوم من الجهل إلى ما لا ينسب المجانين إليه, فزعم أنهم كانوا يسألون ربهم أن يفرض عليهم الفرائض، فنعوذ بالله من الحيرة, ونسأله التوفيق والهداية.

وأما قوله: ( إن البقر تشابه علينا ) ، فإن « البقر » جماع بقرة.

وقد قرأ بعضهم: ( إن الباقر ) ، وذلك - وإن كان في الكلام جائزا، لمجيئه في كلام العرب وأشعارها, كما قال ميمون بن قيس:

ومـا ذنبـه أن عـافت المـاء بـاقر ومـا إن تعـاف المـاء إلا ليضربـا

وكما قال أمية:

ويســوقون بــاقر الســهل للـط ود مهــازيل خشــية أن تبــورا

- فغير جائزة القراءة به لمخالفته القراءة الجائية مجيء الحجة، بنقل من لا يجوز - عليه فيما نقلوه مجمعين عليه - الخطأ والسهو والكذب .

وأما تأويل: ( تشابه علينا ) ، فإنه يعني به، التبس علينا. والقَرَأَة مختلفة في تلاوته. فبعضهم كانوا يتلونه: « تشابه علينا » , بتخفيف الشين ونصب الهاء على مثال « تفاعل » , ويُذَكِّر الفعل، وإن كان « البقر » جماعا. لأن من شأن العرب تذكير كل فعل جمع كانت وحدانه بالهاء، وجمعه بطرح الهاء - وتأنيثه، كما قال الله تعالى في نظيره في التذكير: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [ القمر: 20 ] ، فذكر « المنقعر » وهو من صفة النخل، لتذكير لفظ « النخل » - وقال في موضع آخر: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [ الحاقة: 7 ] ، فأنث « الخاوية » وهي من صفة « النخل » - بمعنى النخل. لأنها وإن كانت في لفظ الواحد المذكر - على ما وصفنا قبل- فهي جماع « نخلة » .

وكان بعضهم يتلوه: ( إن البقر تشَّابهُ علينا ) ، بتشديد الشين وضم الهاء, فيؤنث الفعل بمعنى تأنيث « البقر » , كما قال: أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ، ويدخل في أول « تشابه » تاء تدل على تأنيثها, ثم تدغم التاء الثانية في « شين » « تشابه » لتقارب مخرجها ومخرج « الشين » فتصير « شينا » مشددة، وترفع « الهاء » بالاستقبال والسلامة من الجوازم والنواصب.

وكان بعضهم يتلوه: ( إن البقر يشَّابهُ علينا ) ، فيخرج « يشابه » مخرج الخبر عن الذكر، لما ذكرنا من العلة في قراءة من قرأ ذلك: ( تشابه ) بالتخفيف ونصب « الهاء » , غير أنه كان يرفعه ب « الياء » التي يحدثها في أول « تشابه » التي تأتي بمعنى الاستقبال, وتدغم « التاء » في « الشين » كما فعله القارئ في « تشابه » ب « التاء » والتشديد.

قال ابو جعفر: والصواب في ذلك من القراءة عندنا: ( إن البقر تَشَابَهَ علينا ) ، بتخفيف « شين » « تشابه » ونصب « هائه » , بمعنى « تفاعل » ، لإجماع الحجة من القراء على تصويب ذلك، ودفعهم ما سواه من القراءات. ولا يعترض على الحجة بقول من يَجُوز عليه فيما نقل السهو والغفلة والخطأ.

وأما قوله: ( وإنا إن شاء الله لمهتدون ) ، فإنهم عنوا: وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى « اهتدائهم » في هذا الموضع معنى: « تبينهم » أي ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: قال موسى: إن الله يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها بقرة لا ذلول.

ويعني بقوله: ( لا ذلول ) ، أي لم يذللها العمل. فمعنى الآية: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض بأظلافها, ولا سُنِيَ عليها الماء فيُسقى عليها الزرع. كما يقال للدابة التي قد ذللها الركوب أو العمل: « دابة ذلول بينة الذِّل » بكسر الذال. ويقال في مثله من بني آدم: « رجل ذليل بين الذِّل والذلة » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إنها بقرة لا ذلول ) ، يقول: صعبة لم يذلها عمل, ( تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ) ، يقول: بقرة ليست بذلول يزرع عليها, وليست تسقي الحرث.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إنها بقرة لا ذلول ) ، أي لم يذللها العمل. ( تثير الأرض ) يعني: ليست بذلول فتثير الأرض. ( ولا تسقي الحرث ) يقول: ولا تعمل في الحرث.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( إنها بقرة لا ذلول ) يقول: لم يذلها العمل, ( تثير الأرض ) يقول: تثير الأرض بأظلافها, ( ولا تسقي الحرث ) ، يقول: لا تعمل في الحرث.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال الأعرج، قال مجاهد، قوله: ( لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ) ، يقول: ليست بذلول فتفعل ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر, عن قتادة: ليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث.

قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( تثير الأرض ) ، تقلب الأرض للحرث. يقال منه: « أثرت الأرض أثيرها إثارة » ، إذا قلبتها للزرع. وإنما وصفها جل ثناؤه بهذه الصفة، لأنها كانت - فيما قيل- وَحشِيّة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن كثير بن زياد, عن الحسن قال: كانت وحشية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مُسَلَّمَةٌ

قال أبو جعفر: ومعنى « مسلمة » « مفعلة » من « السلامة » . يقال منه: « سُلِّمت تسلم فهي مسلمة. »

ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سلمت منه, فوصفها الله بالسلامة منه. فقال مجاهد بما:-

حدثنا به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « مسلمة » ، يقول: مسلمة من الشية, و لا شِيَةَ فِيهَا ، لا بياض فيها ولا سواد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال, قال مجاهد: ( مسلمة ) ، قال: مسلمة من الشية، لا شِيَةَ فِيهَا لا بياض فيها ولا سواد.

وقال آخرون: مسلمة من العيوب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( مسلمة لا شية فيها ) ، أي مسلمة من العيوب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( مسلمة ) ، يقول: لا عيب فيها.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( مسلمة ) ، يعني مسلمة من العيوب.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: ( مسلمة ) ، لا عَوَارَ فيها.

قال أبو جعفر: والذي قاله ابن عباس وأبو العالية ومن قال بمثل قولهما في تأويل ذلك، أولى بتأويل الآية مما قاله مجاهد. لأن سلامتها لو كانت من سائر أنواع الألوان سوى لون جلدها, لكان في قوله: ( مسلمة ) مُكْتَفًى عن قوله: لا شِيَةَ فِيهَا . وفي قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، ما يوضح عن أن معنى قوله: ( مُسَلَّمة ) ، غير معنى قوله: لا شِيَةَ فِيهَا ، وإذ كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: إنه يقول: إنها بقرة لم تذللها إثارة الأرض وقلبها للحراثة، ولا السنو عليها للمزارع, وهي مع ذلك صحيحة مسلمة من العيوب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا شِيَةَ فِيهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( لا شية فيها ) ، لا لون فيها يخالف لون جلدها. وأصله من « وشي الثوب » , وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه، بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته, يقال منه: « وشيت الثوب فأنا أشيه شية ووشيا » ، ومنه قيل للساعي بالرجل إلى السلطان أو غيره: « واش » , لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالأباطيل. يقال منه: « وشيت به إلى السلطان وشاية » . ومنه قول كعب بن زهير:

تســعى الوشــاة جَنَابَيْهـا وقـولهُمُ إنـك يـا ابـن أبـي سُـلمى لمقتول

و « الوشاة جمع واش » ، يعني أنهم يتقولون بالأباطيل، ويخبرونه أنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم قتله.

وقد زعم بعض أهل العربية أن « الوشي » ، العلامة. وذلك لا معنى له، إلا أن يكون أراد بذلك تحسين الثوب بالأعلام. لأنه معلوم أن القائل: « وشيت بفلان إلى فلان » غير جائز أن يتوهم عليه أنه أراد: جعلت له عنده علامة. وإنما قيل: ( لا شية فيها ) وهي من « وشيت » ، لأن « الواو » لما أسقطت من أولها أبدلت مكانها « الهاء » في آخرها. كما قيل: « وزنته زنة » و « وسن سِنة » و « وعدته عِدة » و « وديته دِية » .

وبمثل الذي قلنا في معنى قوله: ( لا شية فيها ) ، قال أهل التأويل:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( لا شية فيها ) ، أي لا بياض فيها.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( لا شية فيها ) ، يقول: لا بياض فيها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا شية فيها ) أي لا بياض فيها ولا سواد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( لا شية فيها ) ، قال: لونها واحد، ليس فيها سوى لونها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا شية فيها ) ، من بياض ولا سواد ولا حمرة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( لا شية فيها ) ، هي صفراء، ليس فيها بياض ولا سواد.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( لا شية فيها ) ، يقول: لا بياض فيها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( قالوا الآن جئت بالحق ) . فقال بعضهم: معنى ذلك: الآن بينت لنا الحق فتبيناه, وعرفنا أية بقرة عنيت. وممن قال ذلك قتادة :

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قالوا الآن جئت بالحق ) ، أي الآن بينت لنا.

وقال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن القوم أنهم نسبوا نبي الله موسى صلوات الله عليه، إلى أنه لم يكن يأتيهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك. وممن روي عنه هذا القول عبد الرحمن بن زيد :

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اضطروا إلى بقرة لا يعلمون على صفتها غيرها, وهي صفراء ليس فيها سواد ولا بياض, فقالوا: هذه بقرة فلان: ( الآن جئت بالحق ) ، وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندنا بقوله: ( قالوا الآن جئت بالحق ) ، قول قتادة. وهو أن تأويله: الآن بينت لنا الحق في أمر البقر, فعرفنا أيها الواجب علينا ذبحها منها. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم قد أطاعوه فذبحوها، بعد قيلهم هذا. مع غلظ مؤونة ذبحها عليهم، وثقل أمرها, فقال: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ، وإن كانوا قد قالوا - بقولهم: الآن بينت لنا الحق - هراء من القول, وأتوا خطأ وجهلا من الأمر. وذلك أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم كان مبينا لهم - في كل مسألة سألوها إياه, ورد رادوه في أمر البقر - الحق. وإنما يقال: « الآن بينت لنا الحق » لمن لم يكن مبينا قبل ذلك, فأما من كان كل قيله - فيما أبان عن الله تعالى ذكره- حقا وبيانا, فغير جائز أن يقال له في بعض ما أبان عن الله في أمره ونهيه، وأدى عنه إلى عباده من فرائضه التي أوجبها عليهم: ( الآن جئت بالحق ) ، كأنه لم يكن جاءهم بالحق قبل ذلك!

وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى: ( الآن جئت بالحق ) ، ويزعم أنهم نفوا أن يكون موسى أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك, وأن ذلك من فعلهم وقيلهم كفر.

وليس الذي قال من ذلك عندنا كما قال، لأنهم أذعنوا بالطاعة بذبحها, وإن كان قيلهم الذي قالوه لموسى جهلة منهم وهفوة من هفواتهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فذبحوها ) ، فذبح قوم موسى البقرة، التي وصفها الله لهم وأمرهم بذبحها.

ويعني بقوله: ( وما كادوا يفعلون ) ، أي: قاربوا أن يَدَعوا ذبحها, ويتركوا فرض الله عليهم في ذلك.

ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله كادوا أن يضيعوا فرض الله عليهم، في ذبح ما أمرهم بذبحه من ذلك. فقال بعضهم: ذلك السبب كان غلاء ثمن البقرة التي أمروا بذبحها، وبينت لهم صفتها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي في قوله: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) قال: لغلاء ثمنها.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد الهلالي قال، حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، قال: من كثرة قيمتها.

حدثنا القاسم قال، أخبرنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد وحجاج, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - في حديث فيه طول, ذكر أن حديث بعضهم دخل في حديث بعض - قوله: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، لكثرة الثمن, أخذوها بملء مسكها ذهبا من مال المقتول, فكان سواء لم يكن فيه فضل فذبحوها.

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ، يقول: كادوا لا يفعلون، ولم يكن الذي أرادوا، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها: وكل شيء في القرآن « كاد » أو « كادوا » أو « لو » ، فإنه لا يكون. وهو مثل قوله: أَكَادُ أُخْفِيهَا [ طه: 15 ]

وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن أطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه إلى موسى.

قال أبو جعفر: والصواب من التأويل عندنا, أن القوم لم يكادوا يفعلون ما أمرهم الله به من ذبح البقرة، للخلتين كلتيهما: إحداهما غلاء ثمنها، مع ما ذكر لنا من صغر خطرها وقلة قيمتها؛ والأخرى خوف عظيم الفضيحة على أنفسهم، بإظهار الله نبيه موسى صلوات الله عليه وأتباعه - على قاتله.

فأما غلاء ثمنها، فإنه قد روي لنا فيه ضروب من الروايات.

فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا, فباعهم صاحبها إياها وأخذ ثمنها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: اشتروها بملء جلدها دنانير.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كانت البقرة لرجل يبر أمه، فرزقه الله أن جعل تلك البقرة له, فباعها بملء جلدها ذهبا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: أعطوا صاحبها ملء مسكها ذهبا فباعها منهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: اشتروها منه على أن يملئوا له جلدها دنانير, ثم ذبحوها فعمدوا إلى جلد البقرة فملئوه دنانير, ثم دفعوها إليه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قال: وجدوها عند رجل يزعم أنه ليس بائعها بمال أبدا, فلم يزالوا به حتى جعلوا له أن يسلخوا له مسكها فيملئوه له دنانير, فرضي به فأعطاهم إياها.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: لم يجدوها إلا عند عجوز, وإنها سألتهم أضعاف ثمنها, فقال لهم موسى: أعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا, واشتروها فذبحوها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب, عن ابن سيرين, عن عَبيدة قال: لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل واحد, فباعها بوزنها ذهبا, أو ملء مسكها ذهبا - فذبحوها.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني قال: وجدوا البقرة عند رجل, فقال: إني لا أبيعها إلا بملء جلدها ذهبا, فاشتروها بملء جلدها ذهبا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: جعلوا يزيدون صاحبها حتى ملئوا له مسكها - وهو جلدها - ذهبا.

وأما صغر خطرها وقلة قيمتها, فإن الحسن بن يحيى:-

حدثنا قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، حدثني محمد بن سوقة, عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير.

وأما ما قلنا من خوفهم الفضيحة على أنفسهم, فإن وهب بن منبه كان يقول: إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة، إنما قالوا لموسى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها.

حدثت بذلك عن إسماعيل بن عبد الكريم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه.

وكان ابن عباس يقول: إن القوم، بعد أن أحيا الله الميت فأخبرهم بقاتله, أنكرت قتلته قتله, فقالوا: والله ما قتلناه؛ بعد أن رأوا الآية والحق.

حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثتي أبي عن أبيه, عن ابن عباس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإذ قتلتم نفسا ) ، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. و « النفس » التي قتلوها، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .

وقوله: ( فادارأتم فيها ) ، يعني فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو « فتدارأتم فيها » على مثال « تفاعلتم » ، من الدرء. و « الدرء » : العوج, ومنه قول أبي النجم العجلي:

خشــية ضَغّــام إذا هــم جَسَـر يـأكل ذا الـدرء ويقصـي مـن حقر

يعني: ذا العوج والعسر. ومنه قول رؤبة بن العجاج:

أدركتهـــا قــدام كــل مِــدْرَهِ بــالدفع عنــي درء كــل عُنْجُـهِ

ومنه الخبر الذي:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام, عن إسرائيل, عن إبراهيم بن المهاجر, عن مجاهد, عن السائب قال: جاءني عثمان وزهير ابنا أمية, فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا أعلم به منكما, ألم تكن شريكي في الجاهلية؟ قلت: نعم، بأبي أنت وأمي, فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري » .

يعني بقوله:لا تداري، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارُّه.

وإنما أصل ( فادارأتم ) ، فتدارأتم, ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين, ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر:

تـولي الضجـيع إذا ما استافها خَصِرا عـذب المـذاق إذا مـا اتّـابعَ القُبَـل

يريد إذا ما تتابع القبل, فأدغم إحدى التاءين في الأخرى. فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت, فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها, وذلك إذا كان قبله شيء، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء, ومنه قول الله جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [ الأعراف: 38 ] ، إنما هو « تداركوا » , ولكن التاء منها أدغمت في الدال، فصارت دالا مشددة, وجعلت فيها ألف - إذ وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام. وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله, وابتدئ به, قيل: تداركوا وتثاقلوا, فأظهروا الإدغام. وقد قيل يقال: « اداركوا، وادارءوا » .

وقد قيل إن معنى قوله: ( فادارأتم فيها ) ، فتدافعتم فيها. من قول القائل: « درأت هذا الأمر عني » , ومن قول الله: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [ النور: 8 ] ، بمعنى يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول. لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل, فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله, كما قد بينا قبل قيما مضى من كتابنا هذا. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( فادارأتم فيها ) قال أهل التأويل.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( فادارأتم فيها ) ، قال: اختلفتم فيها.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) قال بعضهم: أنتم قتلتموه. وقال الآخرون: أنتم قتلتموه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فادارأتم فيها ) ، قال: اختلفتم, وهو التنازع، تنازعوا فيه. قال: قال هؤلاء: أنتم قتلتموه. وقال هؤلاء: لا.

وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين, فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا - أو انتفلوا- منه. شك أبو عاصم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال: فادعوا دمه عندهم فانتفوا - ولم يشك- منه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: قتيل كان في بني إسرائيل. فقذف كل سبط منهم [ سبطا به ] ، حتى تفاقم بينهم الشر، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم. فأوحى الله إلى موسى: أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها. فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله، من أجل ميراث كان بينهم.

حدثني ابن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في شأن البقرة. وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم, وكان الشيخ لا ولد له, وكان بنو أخيه ورثته. فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم، أتاهم الشيطان, فقال: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم، فترثوا ماله, وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين، كانوا في إحداهما, فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين, قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين, فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم, عمدوا إليه فقتلوه, ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها. فلما أصبح أهل المدينة، جاء بنو أخي الشيخ, فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم, فوالله لتغرمن لنا دية عمنا. قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا. وأنهم عمدوا إلى موسى, فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم. وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى, فقال: قل لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا حسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر, عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض, قالوا: إن سبطا من بني إسرائيل، لما رأوا كثرة شرور الناس، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس, فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه, وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف، فإذا لم ير شيئا فتح المدينة، فكانوا مع الناس حتى يمسوا. وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير, ولم يكن له وارث غير ابن أخيه, فطال عليه حياته, فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة، ثم كمن في مكان هو وأصحابه. قال: فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة، فنظر فلم ير شيئا. ففتح الباب, فلما رأى القتيل رد الباب: فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه: هيهات! قتلتموه ثم تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل، كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم. أخذهم. فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال، حتى لبس الفريقان السلاح, ثم كف بعضهم عن بعض. فأتوا موسى فذكروا له شأنهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب. وقال أهل المدينة: يا رسول الله، قد عرفت اعتزالنا الشرور، وبنينا مدينة - كما رأيت- نعتزل شرور الناس، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى ذكره إليه: أن يذبحوا بقرة, فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن هشام بن حسان, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير, فقتله ابن أخ له، فجره فألقاه على باب ناس آخرين. ثم أصبحوا، فادعاه عليهم، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء, فأرادوا أن يقتتلوا, فقال، ذوو النهى منهم: أتقتتلون وفيكم نبي الله؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى, فقصوا عليه القصة, فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها, فقالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتيل من بني إسرائيل، طرح في سبط من الأسباط, فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. فقالوا: لا والله. فأتوا إلى موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم, وهم والله قتلوه. فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا. فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .

قال أبو جعفر: فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو « الدرء » الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم: ( فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 )

قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، والله معلن ما كنتم تسرونه من قتل القتيل الذي قتلتم، ثم ادارأتم فيه.

ومعنى « الإخراج » - في هذا الموضع- الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه، وإطلاعهم عليه, كما قال الله تعالى ذكره: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ النمل: 25 ] يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه.

والذي كانوا يكتمونه فأخرجه، هو قتل القاتل القتيل. لما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك، حتى أظهره الله وأخرجه, فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره.

وعَنَى جل ذكره بقوله: ( تكتمون ) ، تسرون وتغيبون، كما:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ، قال: تغيبون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما كنتم تكتمون ) ، ما كنتم تغيبون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: فقلنا لقوم موسى الذين ادارءوا في القتيل - الذي قد تقدم وصفنا أمره - : اضربوا القتيل. و « الهاء » التي في قوله: ( اضربوه ) من ذكر القتيل؛ ( ببعضها ) أي: ببعض البقرة التي أمرهم الله بذبحها فذبحوها.

ثم اختلف العلماء في البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وأي عضو كان ذلك منها. فقال بعضهم: ضرب بفخذ البقرة القتيل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا, فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ضرب بفخذ البقرة, ثم ذكر مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن النضر بن عربي, عن عكرمة: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، قال: بفخذها، فلما ضرب بها عاش، وقال: قتلني فلان. ثم عاد إلى حاله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن خالد بن يزيد, عن مجاهد قال: ضرب بفخذها الرجل، فقام حيا فقال: قتلني فلان. ثم عاد في ميتته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال أيوب ، عن ابن سيرين, عن عبيدة: ضربوا المقتول ببعض لحمها - وقال معمر، عن قتادة - : ضربوه بلحم الفخذ فعاش, فقال: قتلني فلان.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها، فأحياه الله فأنبأ بقاتله الذي قتله، وتكلم ثم مات.

وقال آخرون: الذي ضرب به منها، هو البضعة التي بين الكتفين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش, فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي.

وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها، عظم من عظامها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا, فرجع إليه روحه, فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذ قاتله، وهو الذي أتى موسى فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله.

وقال آخرون بما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ضربوا الميت ببعض آرابها فإذا هو قاعد - قالوا: من قتلك؟ قال: ابن أخي. قال: وكان قتله وطرحه على ذلك السبط, أراد أن يأخذ ديته.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله عندنا: ( فقلنا اضربوه ببعضها ) ، أن يقال: أمرهم الله جل ثناؤه أن يضربوا القتيل ببعض البقرة ليحيا المضروب. ولا دلالة في الآية، ولا [ في ] خبر تقوم به حجة، على أي أبعاضها التي أمر القوم أن يضربوا القتيل به. وجائز أن يكون الذي أمروا أن يضربوه به هو الفخذ, وجائز أن يكون ذلك الذنب وغضروف الكتف، وغير ذلك من أبعاضها. ولا يضر الجهل بأي ذلك ضربوا القتيل, ولا ينفع العلم به، مع الإقرار بأن القوم قد ضربوا القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فأحياه الله.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟ قيل: ليحيا فينبئ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم والذين ادارءوا فيه - من قاتله.

فإن قال قائل: وأين الخبر عن أن الله جل ثناؤه أمرهم بذلك لذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه - نحو الذي ذكرنا من نظائر ذلك فيما مضى. ومعنى الكلام: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا, فضربوه فحيي - كما قال جل ثناؤه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [ الشعراء: 63 ] ، والمعنى: فضرب فانفلق - دل على ذلك قوله: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى

قال أبو جعفر: وقوله: ( كذلك يحيي الله الموتى ) ، مخاطبة من الله عباده المؤمنين, واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث, وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا. فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات, اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته, فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحيي الموتى بعد مماتهم, فأبعثهم يوم البعث.

وإنما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، وهم قوم أميون لا كتاب لهم, لأن الذين كانوا يعلمون علم ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم نـزلت هذه الآيات, فأخبرهم جل ذكره بذلك، ليتعرفوا علم من قِبَلَهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره: ويريكم الله أيها الكافرون المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله - من آياته وآياته: أعلامه وحججه الدالة على نبوته لتعقلوا وتفهموا أنه محق صادق، فتؤمنوا به وتتبعوه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ

قال أبو جعفر: يعني بذلك كفار بني إسرائيل, وهم - فيما ذكر- بنو أخي المقتول, فقال لهم: « ثم قست قلوبكم » : أي جفت وغلظت وعست, كما قال الراجز:

وقد قسوت وقسا لداتي

يقال: « قسا » و « عسا » و « عتا » بمعنى واحد, وذلك إذا جفا وغلظ وصلب. يقال: منه: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة وقَساء.

ويعني بقوله: ( من بعد ذلك ) ، من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي - ادارءوا في قتله، فأخبرهم بقاتله، وبالسبب الذي من أجله قتله، كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الآثار والأخبار - وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحق منهم والمبطل . وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها، أنهم - فيما بلغنا- أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله, فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته، بعد إخباره إياهم بذلك, وبعد ميتته الثانية، كما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما ضرب المقتول ببعضها - يعني ببعض البقرة - جلس حيا, فقيل له: من قتلك؟ فقال: بنو أخي قتلوني. ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه! فكذبوا بالحق بعد إذ رأوه, فقال الله: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) - يعني بني أخي الشيخ- فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) ، يقول: من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى, وبعد ما أراهم من أمر القتيل - ما أراهم, فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فهي ) : « قلوبكم » . يقول: ثم صلبت قلوبكم - بعد إذ رأيتم الحق فتبينتموه وعرفتموه- عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم, فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة, أو « أشد قسوة » ، يعني: قلوبهم - عن الإذعان لواجب حق الله عليهم, والإقرار له باللازم من حقوقه لهم- أشد صلابة من الحجارة.

فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، و « أو » عند أهل العربية، إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك, والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟

قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه, ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية، أنها - عند عباده الذين هم أصحابها، الذين كذبوا بالحق بعد ما رأوا العظيم من آيات الله - كالحجارة قسوة أو أشد من الحجارة، عندهم وعند من عرف شأنهم.

وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالا فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب « أو » , كقوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، وكقول الله جل ذكره: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سبأ: 24 ] [ الإبهام على من خاطبه ] فهو عالم أي ذلك كان. قالوا: ونظير ذلك قول القائل: أكلت بسرة أو رطبة, وهو عالم أي ذلك أكل، ولكنه أبهم على المخاطب, كما قال أبو الأسود الدؤلي:

أحـــب محــمدا حبــا شــديدا وعباســـا وحـــمزة والوصيــا

فــإن يــك حـبهم رشـدا أصبـه ولســـت بمخــطئ إن كـان غيـا

قالوا: ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى - رَشَد, ولكنه أبهم على من خاطبه به. وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له: شككت! فقال: كلا والله! ثم انتزع بقول الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، فقال: أَوَ كان شاكا - من أخبر بهذا- في الهادي من الضلال.

وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: « ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا » , وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما, ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) ، إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثلا للحجارة في القسوة, وإما أن تكون أشد منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة, وبعضها أشد قسوة من الحجارة.

وقال بعضهم: « أو » في قوله: ( أو أشد قسوة ) ، بمعنى، وأشد قسوة, كما قال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [ الإنسان: 24 ] بمعنى: وكفورا، وكما قال جرير بن عطية:

نـال الخلافـة أو كـانت لـه قـدرا كمـا أتـى ربـه موسـى عـلى قدر

يعني: نال الخلافة، وكانت له قدرا، وكما قال النابغة:

قـالت: ألا ليتمـا هـذا الحمـام لنـا إلــى حمامتنــا أو نصفــه فقـد

يريد. ونصفه

وقال آخرون: « أو » في هذا الموضع بمعنى « بل » , فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشد قسوة, كما قال جل ثناؤه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، بمعنى: بل يزيدون.

وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.

قال أبو جعفر: ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب. غير أن أعجب الأقوال إلي في ذلك ما قلناه أولا ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة: إما أن تكون كالحجارة، أو أشد, على تأويل أن منها كالحجارة, ومنها أشد قسوة. لأن « أو » ، وإن استعملت في أماكن من أماكن « الواو » حتى يلتبس معناها ومعنى « الواو » ، لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن - فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين. فتوجيهها إلى أصلها - ما وجدنا إلى ذلك سبيلا أعجب إلي من إخراجها عن أصلها، ومعناها المعروف لها.

قال أبو جعفر: وأما الرفع في قوله: ( أو أشد قسوة ) فمن وجهين: أحدهما: أن يكون عطفا على معنى « الكاف » في قوله: ( كالحجارة ) ، لأن معناها الرفع. وذلك أن معناها معنى « مثل » ، [ فيكون تأويله ] فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة من الحجارة.

والوجه الآخر: أن يكون مرفوعا، على معنى تكرير « هي » عليه. فيكون تأويل ذلك: فهي كالحجارة، أو هي أشد قسوة من الحجارة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) : وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار, فاستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. وإنما ذكر فقال « منه » ، للفظ « ما » .

و « التفجر » : « التفعل » من « تفجر الماء » , وذلك إذا تنـزل خارجا من منبعه. وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد « انفجر » ، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك, ومنه قوله عمر بن لجأ:

ولمــا أن قــرنت إلــى جـرير أبـــى ذو بطنـــه إلا انفجــارا

يعني: إلا خروجا وسيلانا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وإن منها لما يشقق » ، وإن من الحجارة لحجارة يشقق. وتشققها: تصدعها. وإنما هي: لما يتشقق, ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة.

وقوله: ( فيخرج منه الماء ) فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط - أي يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح - من خوف الله وخشيته. وقد دللنا على معنى « الهبوط » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

قال أبو جعفر: وأدخلت هذه « اللامات » اللواتي في « ما » ، توكيدا للخبر.

وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به - من أن منها المتفجر منه الأنهار, وأن منها المتشقق بالماء, وأن منها الهابط من خشية الله، بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل، مثلا - معذرة منه جل ثناؤه لها، دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب لرسله، والجحود لآياته، بعد الذي أراهم من الآيات والعبر، وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج، مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول، ومن به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر, ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار، ومنه ما يتشقق بالماء، ومنه ما يهبط من خشية الله, فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحق، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ، قال: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء, أو يتردى من رأس جبل, فهو من خشية الله عز وجل, نـزل بذلك القرآن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقي ابن آدم. فقال: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أحبرنا معمر, عن قتادة مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: ثم عذر الله الحجارة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج أنه قال فيها: كل حجر انفجر منه ماء، أو تشقق عن ماء، أو تردى من جبل, فمن خشية الله. نـزل به القرآن.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله.

فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله تفيؤ ظلاله.

وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلى له ربه.

وقال بعضهم: ذلك كان منه ويكون، بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم, فعقل طاعة الله فأطاعه.

كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن.

وكالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن » .

وقال آخرون: بل قوله: ( يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) كقوله: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ولا إرادة له. قالوا وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله، يرى كأنه هابط خاشع من ذل خشية الله, كما قال زيد الخيل:

بجـمع تضـل البلـق فـي حَجَراتـه تـرى الأكْـمَ منـه سـجدا للحـوافر

وكما قال سويد بن أبي كاهل يصف عدوا له:

ســـاجد المنخـــر لا يرفعـــه خاشــع الطــرف أصـم المسـتمع

يريد أنه ذليل.

وكما قال جرير بن عطية:

لمـا أتـى خـبر الرسول تضعضعت ســور المدينــة والجبـال الخشـع

وقال آخرون: معنى قوله: ( يهبط من خشية الله ) ، أي: يوجب الخشية لغيره، بدلالته على صانعه، كما قيل: « ناقة تاجرة » ، إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها, كما قال جرير بن عطية:

وأعــور مـن نبهـان, أمـا نهـاره فــأعمى, وأمــا ليلــه فبصــير

فجعل الصفة لليل والنهار, وهو يريد بذلك صاحبه النبهاني الذي يهجوه, من أجل أنه فيهما كان ما وصفه به.

وهذه الأقوال، وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل, فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها، فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها.

وقد دللنا فيما مضى على معنى « الخشية » , وأنها الرهبة والمخافة, فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وما الله بغافل عما تعملون ) ، وما الله بغافل - يا معشر المكذبين بآياته، والجاحدين نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والمتقولين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود- عما تعملون من أعمالكم الخبيثة، وأفعالكم الرديئة، ولكنه محصيها عليكم, فمجازيكم بها في الآخرة، أو معاقبكم بها في الدنيا.

وأصل « الغفلة » عن الشيء، تركه على وجه السهو عنه، والنسيان له.

فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة، ولا ساه عنها, بل هو لها محص, ولها حافظ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( أفتطمعون ) يا أصحاب محمد, أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقين ما جاءكم به من عند الله، أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟

ويعني بقوله: ( أن يؤمنوا لكم ) ، أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم، كما:-

حُدثت عن عمار بن الحسن, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) ، يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، « أن يؤمنوا لكم » يقول: أفتطمعون أن يؤمن لكم اليهود؟.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ) الآية, قال: هم اليهود.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ

قال أبو جعفر: أما « الفريق » فجمع، كالطائفة، لا واحد له من لفظه. وهو « فعيل » من « التفرق » سمي به الجماع، كما سميت الجماعة ب « الحزب » ، من « التحزب » ، وما أشبه ذلك. ومنه قول أعشى بني ثعلبة:

أجَــدّوا فلمــا خـفت أن يتفرقـوا فـريقين, منهـم مُصعِـد ومُصـوِّب

يعني بقوله: ( منهم ) ، من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل، من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ - لأنهم كانوا آباءَهم وأسلافهم, فجعلهم منهم، إذ كانوا عشائرهم وفَرَطهم وأسلافهم, كما يذكر الرجل اليوم الرجل، وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته. وكان من قومه وعشيرته, فيقول: « كان منا فلان » ، يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه، أو من قومه وعشيرته. فكذلك قوله: ( وقد كان فريق منهم ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 75 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) . فقال بعضهم بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فالذين يحرفونه والذين يكتمونه، هم العلماء منهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، قال: هي التوراة، حرفوها.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) ، قال: التوراة التي أنـزلها عليهم، يحرفونها, يجعلون الحلال فيها حراما، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا, إذا جاءهم المحق برِشوة أخرجوا له كتاب الله, وإذا جاءهم المبطل برِشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق. وإن جاء أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق. فقال لهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ البقرة: 44 ] .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حُدثت عن عمار بن الحسن قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوة, ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في قوله: ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ) الآية, قال: ليس قوله: ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة. كلهم قد سمعها، ولكنهم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال: بلغني عن بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله عز وجل, فأسمعنا كلامه حين يكلمك. فطلب ذلك موسى إلى ربه فقال: نعم, فمرهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم، ويصوموا. ففعلوا. ثم خرج بهم حتى أتى الطور, فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى عليه السلام [ أن يسجدوا ] فوقعوا سجودا, وكلمه ربه فسمعوا كلامه، يأمرهم وينهاهم, حتى عقلوا ما سمعوا. ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل. فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به, وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا, قال ذلك الفريق الذي ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا - خلافا لما قال الله عز وجل لهم. فهم الذين عنى الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية، وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة, ما قاله الربيع بن أنس، والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل، سماع موسى إياه منه، ثم حرف ذلك وبدل، من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم كانوا يسمعون كلام الله عز وجل، استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان، بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان, وإيذانا منه تعالى ذكره عبادَه المؤمنين، قطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحق والنور والهدى, فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم - بالذي تخبرونهم من الأنباء عن الله عز وجل - عن غيب لم يشاهدوه ولم ييعاينوه وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه, ثم يبدله ويحرفه ويجحده, فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم، أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحق، وهم لا يسمعونه من الله, وإنما يسمعونه منكم - وأقرب إلى أن يحرفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدلوه، وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذبوا - من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه، ثم حرفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.

ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عني بقوله: ( يسمعون كلام الله ) ، يسمعون التوراة, لم يكن لذكر قوله: ( يسمعون كلام الله ) معنى مفهوم. لأن ذلك قد سمعه المحرف منهم وغير المحرف، فخصوص المحرف منهم بأنه كان يسمع كلام الله - إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم - دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له.

فإن ظن ظان [ أنه ] إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: ( يحرفونه ) ، فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود، كانوا أعطوا - من مباشرتهم سماعَ كلام الله - ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل, ثم بدلوا وحرفوا ما سمعوا من ذلك. فلذلك وصفهم بما وصفهم به، للخصوص الذي كان خص به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.

ويعني بقوله: ( ثم يحرفونه ) ، ثم يبدلون معناه وتأويله ويغيرونه. وأصله من « انحراف الشيء عن جهته » , وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: ( يحرفونه ) أي يميلونه عن وجهه ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرفوا, وأنه بخلاف ما حرفوه إليه. فقال: ( يحرفونه من بعد ما عقلوه ) ، يعني: من بعد ما عقلوا تأويله، ( وهم يعلمون ) ، أي: يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت, ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم, وأن بقاياهم - من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا - على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا

قال أبو جعفر: أما قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، فإنه خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إيمانهم - من يهود بني إسرائيل، الذين كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون - وهم الذين إذا لقوا الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. يعني بذلك: أنهم إذا لقوا الذين صدقوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله، قالوا: آمنا - أي صدقنا بمحمد وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وسلكوا منهاجهم، كما:-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه, عن جده, عن ابن عباس قوله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، وذلك أن نفرا من اليهود كانوا إذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، يعني المنافقين من اليهود، كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا.

وقد روي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر وهو ما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، أي: بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكنه إليكم خاصة.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) الآية, قال: هؤلاء ناس من اليهود، آمنوا ثم نافقوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 76 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض ) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود - الذين وصف الله صفتهم- إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء من الناس غيرهم, وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم - « قالوا » يعني: قال بعضهم لبعض - : « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( بما فتح الله عليكم ) . فقال بعضهم بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني: بما أمركم الله به. فيقول الآخرون: إنما نستهزئ بهم ونضحك.

وقال آخرون بما:-

حدثنا ابن حميد قال, حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ، أي: بصاحبكم رسول الله, ولكنه إليكم خاصة, وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم, فكان منهم. فأنـزل الله: ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) ، أي: تقرون بأنه نبي, وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه, وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا؟ اجحدوه ولا تقروا لهم به. يقول الله: أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي بما أنـزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، أي: بما من الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم, فإنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا به عليكم، ( أفلا تعقلون ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، ليحتجوا به عليكم.

حدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، قال قتادة: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، يعني: بما أنـزل الله عليكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته.

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) قال: قول يهود بني قريظة، حين سبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إخوة القردة والخنازير, قالوا: من حدثك؟ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا, فقال: يا إخوة القردة والخنازير.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: هذا، حين أرسل إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اخسئوا يا إخوة القردة والخنازير » .

حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال: « يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت » . فقالوا: من أخبر هذا محمدا؟ ما خرج هذا إلا منكم! ( أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ! بما حكم الله، للفتح ، ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج, عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون بما:-

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) - من العذاب - « ليحاجوكم به عند ربكم » هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا, فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به, فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم, وأكرم على الله منكم؟

وقال آخرون بما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) : قال: كانوا إذا سئلوا عن الشيء قالوا: أما تعلمون في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: بلى! - قال: وهم يهود - فيقول لهم رؤساؤهم الذين يرجعون إليهم: ما لكم تخبرونهم بالذي أنـزل الله عليكم فيحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن . فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا آمنا, واكفروا إذا رجعتم. قال: فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر ويرجعون إليهم بعد العصر وقرأ قول الله: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ آل عمران: 72 ] . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون. ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر. فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهم, قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون. وكان المؤمنون الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنون أنهم مؤمنون, فيقولون لهم: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى! فإذا رجعوا إلى قومهم [ يعني الرؤساء ] - قالوا: « أتحدثونهم بما فتح الله عليكم » ، الآية.

وأصل « الفتح » في كلام العرب: النصر والقضاء، والحكم. يقال منه: « اللهم افتح بيني وبين فلان » ، أي احكم بيني وبينه, ومنه قول الشاعر:

ألا أبلــغ بنــي عُصْــمٍ رسـولا بـــأني عــن فُتــاحَتكم غنــي

قال أبو جعفر: قال: ويقال للقاضي: « الفتاح » ومنه قول الله عز وجل: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ الأعراف: 89 ] أي احكم بيننا وبينهم.

فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا, تبين أن معنى قوله: ( قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ) إنما هو أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم؟ ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به في التوراة. ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير, وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم. وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به، حجةً على المكذبين من اليهود المقرين بحكم التوراة، وغير ذلك [ من أحكامه وقضائه ] .

فإذ كان كذلك. فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه؟ لأن الله جل ثناؤه إنما قص في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم; فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.

وإذا كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون تلاومهم، كان فيما بينهم، فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وكان قيلهم ذلك، من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم، وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فكان تلاومهم - فيما بينهم إذا خلوا- على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويكفرون به, وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود، وحكمه عليهم لهم في كتابهم، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث. فلما بعث كفروا به، مع علمهم بنبوته.

قال أبو جعفر: وقوله: ( أفلا تعقلون ) ، خبر من الله تعالى ذكره - عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم - أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون، أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبي مبعوث، حجة لهم عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم؟ أي: فلا تفعلوا ذلك, ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم, ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك. فقال جل ثناؤه: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ( 77 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، أولا يعلم - هؤلاء اللائمون من اليهود إخوانهم من أهل ملتهم, على كونهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وعلى إخبارهم المؤمنين بما في كتبهم من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه, القائلون لهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ - أن الله عالم بما يسرون، فيخفونه عن المؤمنين في خلائهم من كفرهم، وتلاومهم بينهم على إظهارهم ما أظهروا لرسول الله وللمؤمنين به من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم, وعلى قيلهم لهم: آمنا, ونهي بعضهم بعضا أن يخبروا المؤمنين بما فتح الله للمؤمنين عليهم, وقضى لهم عليهم في كتبهم، من حقيقة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه وما يعلنون، فيظهرونه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين به إذا لقوهم، من قيلهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، نفاقا وخداعا لله ولرسوله وللمؤمنين؟ كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون ) ، من كفرهم وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم إذا خلا بعضهم إلى بعض, ( وما يعلنون ) إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا ليرضوهم بذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( أَوَلَا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم به, وهم يجدونه مكتوبا عندهم، ( وما يعلنون ) ، يعني: ما أعلنوا حين قالوا للمؤمنين: آمنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ومنهم أميون ) ، ومن هؤلاء - اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات, وأيأس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمانهم فقال لهم: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ، وهم إذا لقوكم قالوا: آمنا، كما:-

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ومنهم أميون ) ، يعني: من اليهود.

وحُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومنهم أميون ) ، قال: أناس من يهود.

قال أبو جعفر: يعني بـ « الأميين » ، الذين لا يكتبون ولا يقرءون.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » يقال منه: « رجل أمي بين الأمية » . كما:-

حدثني المثنى قال، حدثني سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن منصور، عن إبراهيم: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب ) ، قال: منهم من لا يحسن أن يكتب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ومنهم أميون ) قال: أميون لا يقرءون الكتاب من اليهود.

وروي عن ابن عباس قول خلاف هذا القول, وهو ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ومنهم أميون ) ، قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله, ولا كتابا أنـزله الله, فكتبوا كتابا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله. وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم, ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم, وذلك أن « الأمي » عند العرب: هو الذي لا يكتب.

قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي « أمي » ؛ نسبة له بأنه لا يكتب إلى « أمه » , لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء, فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال - إلى أمه- في جهله بالكتابة، دون أبيه، كما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » ، وكما قال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ الجمعة: 2 ] . فإذا كان معنى « الأمي » في كلام العرب ما وصفنا, فالذي هو أولى بتأويل الآية ما قاله النخعي، من أن معنى قوله: ( ومنهم أميون ) : ومنهم من لا يحسن أن يكتب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنـزله الله، ولا يدرون ما أودعه الله من حدوده وأحكامه وفرائضه، كهيئة البهائم, كالذي:-

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله, ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إنما هم أمثال البهائم، لا يعلمون شيئا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لا يعلمون الكتاب ) ، يقول: لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( لا يعلمون الكتاب ) لا يدرون ما فيه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( لا يعلمون الكتاب ) قال: لا يدرون بما فيه.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( لا يعلمون الكتاب ) ، لا يعلمون شيئا, لا يقرءون التوراة. ليست تستظهر، إنما تقرأ هكذا. فإذا لم يكتب أحدهم، لم يستطع أن يقرأ.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله, ( لا يعلمون الكتاب ) ، قال: لا يعرفون الكتاب الذي أنـزله الله.

قال أبو جعفر: وإنما عني بـ « الكتاب » : التوراة, ولذلك أدخلت فيه « الألف واللام » لأنه قصد به كتاب معروف بعينه.

ومعناه: ومنهم فريق لا يكتبون، ولا يدرون ما في الكتاب الذي عرفتموه الذي هو عندهم - وهم ينتحلونه ويدعون الإقرار به - من أحكام الله وفرائضه، وما فيه من حدوده التي بينها فيه.

[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ] ( إلا أماني ) فقال بعضهم بما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( إلا أماني ) ، يقول: إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) : إلا كذبا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.

وقال آخرون بما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا أماني ) ، يقول: يتمنون على الله ما ليس لهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( إلا أماني ) ، يقول: يتمنون على الله الباطل وما ليس لهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح, [ عن معاوية بن صالح ] ، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، يقول: إلا أحاديث.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، قال: أناس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا, وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله, ويقولون: هو من الكتاب. أماني يتمنونها.

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إلا أماني ) ، يتمنون على الله ما ليس لهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إلا أماني ) ، قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم.

قال أبو جعفر: وأولى ما روينا في تأويل قوله: ( إلا أماني ) ، بالحق، وأشبهه بالصواب, الذي قاله ابن عباس - الذي رواه عنه الضحاك - وقول مجاهد: إن « الأميين » الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية، أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنـزله الله على موسى شيئا, ولكنهم يتخرصون الكذب ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا.

و « التمني » في هذا الموضع, هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله. يقال منه: « تمنيت كذا » ، إذا افتعلته وتخرصته. ومنه الخبر الذي روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: « ما تغنيت ولا تمنيت » ، يعني بقوله: « ما تمنيت » ، ما تخرصت الباطل، ولا اختلقت الكذب والإفك.

والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك - وأنه أولى بتأويل قوله: ( إلا أماني ) من غيره من الأقوال - قول الله جل ثناؤه: وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ . فأخبر عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب، ظنا منهم لا يقينا. ولو كان معني ذلك أنهم « يتلونه » ، لم يكونوا ظانين, وكذلك لو كان معناه: « يشتهونه » . لأن الذي يتلوه، إذا تدبره علمه. ولا يستحق - الذي يتلو كتابا قرأه، وإن لم يتدبره بتركه التدبر أن يقال: هو ظان لما يتلو، إلا أن يكون شاكا في نفس ما يتلوه، لا يدري أحق هو أم باطل. ولم يكن القوم - الذين كانوا يتلون التوراة على عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود - فيما بلغنا- شاكين في التوراة أنها من عند الله. وكذلك « المتمني » الذي هو في معنى « المشتهي » غير جائز أن يقال: هو ظان في تمنيه. لأن التمني من المتمني، إذا تمنى ما قد وجد عينه. فغير جائز أن يقال: هو شاك، فيما هو به عالم. لأن العلم والشك معنيان ينفي كل واحد منهما صاحبه، لا يجوز اجتماعهما في حيز واحد. والمتمني في حال تمنيه، موجود تمنيه، فغير جائز أن يقال: هو يظن تمنيه.

وإنما قيل: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، والأماني من غير نوع « الكتاب » , كما قال ربنا جل ثناؤه: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [ النساء: 157 ] و « الظن » من « العلم » بمعزل. وكما قال: وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [ الليل: 19- 20 ] ، وكما قال الشاعر:

ليس بينــي وبيــن قيس عتــاب غــير طعــن الكُــلَى وضـرب الرقـاب

وكما قال نابغة بني ذبيان:

حــلفت يمينــا غـير ذي مَثْنَويـة, ولا علـم إلا حسـنَ ظـن بصـاحب

في نظائر لما ذكرنا يطول بإحصائها الكتاب.

ويخرجُ بـ « إلا » ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته, وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه. ويسمي ذلك بعض أهل العربية « استثناء منقطعا » ، لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد « إلا » عن معنى ما قبلها. وإنما يكون ذلك كذلك، في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان « إلا » « لكن » ؛ فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول, ألا ترى أنك إذا قلت: ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ثم أردت وضع « لكن » مكان « إلا » وحذف « إلا » , وجدت الكلام صحيحا معناه، صحته وفيه « إلا » ؟ وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني. يعني: لكنهم يتمنون. وكذلك قوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، لكن اتباع الظن, بمعنى: لكنهم يتبعون الظن. وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا.

وقد ذكر عن بعض القَرَأَة أنه قرأ: ( إلا أماني ) مخففة. ومن خفف ذلك وجهه إلى نحو جمعهم « المفتاح » « مفاتح » , و « القرقور » ، « قراقر » , وأن ياء الجمع لما حذفت خففت الياء الأصلية - أعني من « الأماني » - كما جمعوا « الأثفية » « أثافي » مخففة, كما قال زهير بن أبي سلمى:

أثـافيَ سُـفْعا فـي مُعَـرَّسِ مِرْجَـل ونُؤْيـا كجِذم الحـوض لـم يَتَثَلَّـم

وأما من ثقل: ( أماني ) فشدد ياءها، فإنه وجه ذلك إلى نحو جمعهم « المفتاح مفاتيح, والقرقور قراقير, والزنبور زنابير » ، فاجتمعت ياء « فعاليل » ولامها، وهما جميعا ياآن، فأدغمت إحداهما في الأخرى، فصارتا ياء واحدة مشددة.

فأما القراءة التي لا يجوز غيرها عندي لقارئ في ذلك، فتشديد ياء « الأماني » , لإجماع القَرَأَة على أنها القراءة التي مضى على القراءة بها السلف - مستفيض ذلك بينهم، غير مدفوعة صحته - وشذوذ القارئ بتخفيفها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك. وكفى دليلا على خطأ قارئ ذلك بتخفيفها، إجماعها على تخطئته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ( 78 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإن هم إلا يظنون ) ، وما هم، كما قال جل ثناؤه: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [ إبراهيم: 11 ] ، يعني بذلك: ما نحن إلا بشر مثلكم.

ومعنى قوله: ( إلا يظنون ) : إلا يشكون، ولا يعلمون حقيقته وصحته. و « الظن » - في هذا الموضع- الشك.

فمعنى الآية: ومنهم من لا يكتب ولا يخط ولا يعلم كتاب الله ولا يدري ما فيه، إلا تخرصا وتقولا على الله الباطل، ظنا منه أنه محق في تخرصه وتقوله الباطل.

وإنما وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم في تخرصهم على ظن أنهم محقون وهم مبطلون, لأنهم كانوا قد سمعوا من رؤسائهم وأحبارهم أمورا حسبوها من كتاب الله, ولم تكن من كتاب الله, فوصفهم جل ثناؤه بأنهم يتركون التصديق بالذي يوقنون به أنه من عند الله مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, ويتبعون ما هم فيه شاكون, وفي حقيقته مرتابون، مما أخبرهم به كبراؤهم ورؤساؤهم وأحبارهم عنادا منهم لله ولرسوله, ومخالفة منهم لأمر الله، واغترارا منهم بإمهال الله إياهم. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( وإن هم إلا يظنون ) ، قال فيه المتأولون من السلف:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن هم إلا يظنون ) إلا يكذبون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ) ، أي لا يعلمون ولا يدرون ما فيه, وهم يجحدون نبوتك بالظن.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن هم إلا يظنون ) ، قال: يظنون الظنون بغير الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: يظنون الظنون بغير الحق.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَوَيْلٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فويل ) . فقال بعضهم بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس ( فويل ) ، يقول: فالعذاب عليهم.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن زياد بن فياض قال: سمعت أبا عياض يقول: الويل: ما يسيل من صديد في أصل جهنم.

حدثنا بشر بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن زياد بن فياض, عن أبي عياض في قوله: ( فويل ) ، قال: صهريج في أصل جهنم، يسيل فيه صديدهم.

حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، حدثنا سفيان عن زياد بن فياض, عن أبي عياض قال: الويل، واد من صديد في جهنم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن شقيق قال: ( ويل ) ، ما يسيل من صديد في أصل جهنم.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري. قال، حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الويل جبل في النار » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمرو بن الحارث, عن دراج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره » .

قال أبو جعفر: فمعنى الآية - على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل ( ويل ) - : فالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا

قال أبو جعفر: يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل, وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم، مخالفا لما أنـزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم, ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها، ولا بما في التوراة، جهال بما في كتب الله - لطلب عرض من الدنيا خسيس, فقال الله لهم: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، قال: كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم، يبيعونه من العرب, ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنا قليلا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله, ولا كتابا أنـزله الله, فكتبوا كتابا بأيديهم, ثم قالوا لقوم سِفلة جهال: هذا من عند الله « ليشتروا به ثمنا قليلا » . قال: عرضا من عرض الدنيا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) ، قال: هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله، يحرفونه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله, إلا أنه قال: ثم يحرفونه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن قتادة: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) الآية, وهم اليهود.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ) ، قال: كان ناس من بني إسرائيل كتبوا كتابا بأيديهم، ليتأكلوا الناس, فقالوا: هذا من عند الله, وما هو من عند الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) ، قال: عمدوا إلى ما أنـزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا, فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال، حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي, عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ، الويل: جبل في النار، وهو الذي أنـزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة, وزادوا فيها ما يحبون, ومحوا منها ما يكرهون, ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب, عن محمد بن عجلان, عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار. قال: ويل، واد في جهنم، لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة حره.

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما وجه قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد، حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة، إلى أن يخبروا عن هؤلاء - القوم الذين قص الله قصتهم - أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم؟

قيل له: إن الكتاب من بني آدم، وإن كان منهم باليد, فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه فيقال: « كتب فلان إلى فلان بكذا » ، وإن كان المتولي كتابته بيده، غير المضاف إليه الكتاب, إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب. فأعلم ربنا بقوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) عباده المؤمنين، أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم، على علم منهم وعمد للكذب على الله، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله، تَكَذُّبا على الله وافتراء عليه. فنفى جل ثناؤه بقوله: ( يكتبون الكتاب بأيديهم ) ، أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم. وذلك نظير قول القائل: « باعني فلان عينُه كذا وكذا, فاشترى فلان نفسه كذا » ، يراد بإدخال « النفس والعين » في ذلك، نفي اللبس عن سامعه، أن يكون المتولي بيع ذلك أو شراءه، غير الموصوف له أمره,

ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه، فكذلك قوله: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ( 79 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فويل لهم مما كتبت أيديهم ) ، أي فالعذاب - في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم - لهم, يعني: للذين يكتبون الكتاب، الذي وصفنا أمره، من يهود بني إسرائيل محرفا, ثم قالوا: هذا من عند الله، ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم.

وقوله: ( مما كتبت أيديهم ) ، يقول: من الذي كتبت أيديهم من ذلك، وويل لهم أيضا ( مما يكسبون ) ، يعني: مما يعملون من الخطايا, ويجترحون من الآثام, ويكسبون من الحرام، بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم, بخلاف ما أنـزل الله, ثم يأكلون ثمنه، وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وويل لهم مما يكسبون ) ، يعني: من الخطيئة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( فويل لهم ) ، يقول: فالعذاب عليهم. قال: يقول: من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، ( وويل لهم مما يكسبون ) ، يقول: مما يأكلون به من السفلة وغيرهم.

قال أبو جعفر: وأصل « الكسب » : العمل. فكل عامل عملا بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف, فهو كاسب لما عمل, كما قال لبيد بن ربيعة:

لمعفـــر قهــد تنــازع شــلوه غبس كواســب لا يُمَــنُّ طعامُهـا

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وقالوا ) ، اليهود, يقول: وقالت اليهود: ( لن تمسنا النار ) ، يعني لن تلاقي أجسامنا النار ولن ندخلها، « إلا أياما معدودة » . وإنما قيل « معدودة » وإن لم يكن مبينا عددها في التنـزيل، لأن الله جل ثناؤه أخبر عنهم بذلك وهم عارفون عدد الأيام، التي يوقتونها لمكثهم في النار. فلذلك ترك ذكر تسمية عدد تلك الأيام، وسماها « معدودة » لما وصفنا.

ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ الأيام المعدودة التي عينها اليهود، القائلون ما أخبر الله عنهم من ذلك .

* فقال بعضهم بما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال ذلك أعداء الله اليهود, قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما, فإذا انقضت عنا تلك الأيام, انقطع عنا العذاب والقسم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قالوا: أياما معدودة بما أصبنا في العجل.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار فنمكث فيها أربعين ليلة, حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقتنا, نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل. فلذلك أمرنا أن نختتن. قالوا: فلا يدعون منا في النار أحدا إلا أخرجوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا, فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة, ثم يخرجنا. فأكذبهم الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم, عدد الأيام التي عبدنا فيها العجل.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآية، قال ابن عباس: ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوبا، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم نابتة في أصل الجحيم - وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر, وفيه شجرة الزقوم - فزعم أعداء الله، أنه إذا خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياما معدودة - وإنما يعني بذلك المسير الذي ينتهي إلى أصل الجحيم - فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل. فلا عذاب، وتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، يعنون بذلك الأجل. فقال ابن عباس: لما اقتحموا من باب جهنم، ساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة, قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياما معدودة! فقد خلا العدد وأنتم في الأبد! فأخذ بهم في الصَّعود في جهنم يرهقون.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، إلا أربعين ليلة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة, وسيخلفنا فيها قوم آخرون - يعنون محمدا وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم « بل أنتم فيها خالدون، لا يخلفكم فيها أحد » . فأنـزل الله جل ثناؤه: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة، قال: اجتمعت يهود يوما تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، - وسموا أربعين يوما - ثم يخلفنا، أو يلحقنا، فيها أناس. فأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كذبتم, بل أنتم فيها خالدون مخلدون، لا نلحقكم ولا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا علي بن معبد, عن أبي معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: قالت اليهود: لا نعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما مقدار ما عبدنا العجل.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: « أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنـزلها الله على موسى يوم طور سيناء, مَن أهل النار الذين أنـزلهم الله في التوراة؟ وقالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة, فنمكث في النار أربعين ليلة, ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا » . فنـزل القرآن تصديقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبا لهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا ) إلى قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: كانت يهود يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الله الناس يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا من أيام الآخرة, وإنها سبعة أيام. فأنـزل الله في ذلك من قولهم: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما يعذب الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا، يوما واحدا في النار من أيام الآخرة, فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: ( لن تمسنا النار ) الآية.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) ، قال: كانت تقول: إنما الدنيا سبعة آلاف سنة, وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: كانت اليهود تقول: إنما الدنيا, وسائر الحديث مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال مجاهد: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة من الدهر. وسموا عدة سبعة آلاف سنة, من كل ألف سنة يوما. يهود تقوله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 80 )

قال أبو جعفر: لما قالت اليهود ما قالت من قولها: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً - على ما قد بينا من تأويل ذلك - قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لمعشر اليهود: ( أتخذتم عند الله عهدا ) : أأخذتم بما تقولون من ذلك من الله ميثاقا، فالله لا ينقض ميثاقه، ولا يبدل وعده وعقده, أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟ كما:-

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل أتخذتم عند الله عهدا ) أي: موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة قال: قالت اليهود: لن ندخل النار إلا تحلة القسم، عدة الأيام التي عبدنا فيها العجل، فقال الله: ( أتخذتم عند الله عهدا ) ، بهذا الذي تقولونه؟ ألكم بهذا حجة وبرهان؟ فلن يخلف الله عهده، فهاتوا حجتكم وبرهانكم، أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله جل ثناؤه لمحمد، قل : ( أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا ) ، يقول: أدخرتم عند الله عهدا؟ يقول: أقلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها, وإن كنتم لم تقولوها، فلم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلا الله ولم تشركوا به شيئا, ثم متم على ذلك، لكان لكم ذخرا عندي, ولم أخلف وعدي لكم: أني أجازيكم بها.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي قال: لما قالت اليهود ما قالت, قال الله عز وجل: ( قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ) - وقال في مكان آخر: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . [ آل عمران: 24 ] ، ثم أخبر الخبر فقال: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً .

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي رويناها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، بنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( قل أتخذتم عند الله عهدا ) . لأن مما أعطاه الله عباده من ميثاقه: أن من آمن به وأطاع أمره، نجاه من ناره يوم القيامة. ومن الإيمان به، الإقرار بأن لا إله إلا الله. وكذلك من ميثاقه الذي واثقهم به: أن من أتى الله يوم القيامة بحجة تكون له نجاة من النار، فينجيه منها. وكل ذلك، وإن اختلفت ألفاظ قائليه, فمتفق المعاني، على ما قلنا فيه. والله تعالى أعلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً

قال أبو جعفر: وقوله: ( بلى من كسب سيئة ) تكذيب من الله القائلين من اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وإخبار منه لهم أنه معذب من أشرك ومن كفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه، فمخلده في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله, وأهل الطاعة له, والقائمون بحدوده كما:-

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة, فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

قال أبو جعفر: وأما ( بلى ) ، فإنها إقرار في كل كلام في أوله جحد, كما « نعم » إقرار في الاستفهام الذي لا جحد فيه. وأصلها « بل » التي هي رجوع عن الجحد المحض في قولك: « ما قام عمرو بل زيد » . فزيد فيها « الياء » ليصلح عليها الوقوف، إذ كانت « بل » لا يصلح عليها الوقوف, إذ كانت عطفا ورجوعا عن الجحد. ولتكون - أعني « بلى » - رجوعا عن الجحد فقط, وإقرارا بالفعل الذي بعد الجحد، فدلت « الياء » منها على معنى الإقرار والإنعام. ودل لفظ « بل » عن الرجوع عن الجحد.

قال أبو جعفر: وأما « السيئة » التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك باللهكما:-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان قال، حدثني عاصم, عن أبي وائل: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: الشرك بالله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بلى من كسب سيئة ) شركا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: أما السيئة فالشرك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بلى من كسب سيئة ) ، أما السيئة، فهي الذنوب التي وعد عليها النار.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: ( بلى من كسب سيئة ) ، قال: الشرك - قال ابن جريج قال، قال مجاهد: ( سيئة ) شركا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، يعني: الشرك.

قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن « السيئة » - التي ذكر الله جل ثناؤه أن من كسبها وأحاطت به خطيئته، فهو من أهل النار المخلدين فيها - في هذا الموضع, إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض, وإن كان ظاهرها في التلاوة عاما, لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار. والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها, وأن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان. فإن الله جل ثناؤه قد قرن بقوله: ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) - قوله - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . فكان معلوما بذلك أن الذين لهم الخلود في النار من أهل السيئات, غير الذين لهم الخلود في الجنة من أهل الإيمان.

فإن ظن ظان أن الذين لهم الخلود في الجنة من الذين آمنوا، هم الذين عملوا الصالحات، دون الذين عملوا السيئات, فإن في إخبار الله أنه مكفر - باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه سيئاتنا, ومدخلُنا المُدخلَ الكريم ما ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ، بأن ذلك على خاص من السيئات دون عامها.

فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه, فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: ( بلى من كسب سيئة ) ؟

قيل: لما صح من أن الصغائر غير داخلة فيه, وأن المعنيَّ بالآية خاص دون عام, ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذرَ من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به, بشهادة جميع الأمة. فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية. فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها. فمن أنكر ذلك - ممن دافع حجة الأخبار المستفيضة والأنباء المتظاهرة - فاللازم له ترك قطع الشهادة على أهل الكبائر بالخلود في النار، بهذه الآية ونظائرها التي جاءت بعمومهم في الوعيد. إذ كان تأويل القرآن غير مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن, وكانت الآية يأتي عاما في صنف ظاهرها, وهي خاص في ذلك الصنف باطنها.

ويسأل مدافعو الخبر بأن أهل الكبائر من أهل الاستثناء، سؤالَنا منكر رجم الزاني المحصن, وزوال فرض الصلاة عن الحائض في حال الحيض. فإن السؤال عليهم، نظير السؤال على هؤلاء، سواء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وأحاطت به خطيئته ) ، اجتمعت عليه فمات عليها، قبل الإنابة والتوبة منها.

وأصل « الإحاطة بالشيء » ، الإحداق به، بمنـزلة « الحائط » الذي تحاط به الدار فتحدق به. ومنه قول الله جل ثناؤه: نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [ الكهف: 29 ] .

فتأويل الآية إذًا: من أشرك بالله، واقترف ذنوبا جمة فمات عليها قبل الإنابة والتوبة, فأولئك أصحاب النار هم فيها مخلدون أبدا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال المتأولون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي روق, عن الضحاك: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات بذنبه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح قال، حدثنا الأعمش, عن أبي رزين, عن الربيع بن خُثَيم: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات عليها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، أخبرني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: يحيط كفره بما له من حسنة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: ما أوجب الله فيه النار.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق [ قال، أخبرنا معمر ] , عن قتاده: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: الخطيئة: الكبائر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم, عن سلام بن مسكين قال: سأل رجل الحسن عن قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، فقال: ما ندري ما الخطيئة، يا بني اتل القرآن, فكل آية وعد الله عليها النار، فهي الخطيئة.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، قال: كل ذنب محيط، فهو ما وعد الله عليه النار.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي رزين: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: مات بخطيئته.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش قال، حدثنا مسعود أبو رزين, عن الربيع بن خثيم في قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، قال وكيع: سمعت الأعمش يقول في قوله: ( وأحاطت به خطيئته ) ، مات بذنوبه.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وأحاطت به خطيئته ) ، الكبيرة الموجبة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أحاطت به خطيئته ) ، فمات ولم يتب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حسان, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: ( وأحاطت به خطيئته ) ، قال: الشرك, ثم تلا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [ النمل: 90 ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » فأولئك الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم، أصحاب النار هم فيها خالدون.

ويعني بقوله جل ثناؤه: ( أصحاب النار ) ، أهل النار، وإنما جعلهم لها أصحابا لإيثارهم - في حياتهم الدنيا ما يوردهموها ويوردهم سعيرها - على الأعمال التي توردهم الجنة فجعلهم جل ذكره بإيثارهم أسبابها على أسباب الجنة لها أصحابا, كصاحب الرجل الذي يصاحبه مؤثرا صحبته على صحبة غيره، حتى يعرف به.

( هم فيها ) ، يعني: هم في النار خالدون. ويعني بقوله: ( خالدون ) مقيمون كما:

حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( هم فيها خالدون ) ، أي خالدون أبدا.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( هم فيها خالدون ) لا يخرجون منها أبدا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: ويعني بقوله: ( والذين آمنوا ) ، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله: ( وعملوا الصالحات ) ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده, وأدوا فرائضه, واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله: ( فأولئك ) ، فالذين هم كذلك ( أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها ( خالدون ) ، مقيمون أبدا.

وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها, [ وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها ] ، ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها, تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة, وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة كما:-

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه, فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - « أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ

قال أبو جعفر: قد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا- على أن « الميثاق » « مفعال » من « التوثق باليمين » ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:-

حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) - أي ميثاقكم- ( لا تعبدون إلا الله ) .

قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله ( لا تعبدون ) . فبعضهم يقرؤها بالتاء, وبعضهم يقرؤها بالياء, والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال ( لا تعبدون ) و ( لا يعبدون ) وهم غَيَب، لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول: « استحلفت أخاك ليقومن » فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول: « استحلفته لتقومن » , فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا. فكذلك قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) و ( لا يعبدون ) . من قرأ ذلك « بالتاء » فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ « بالياء » فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.

وأما رفع « لا تعبدون » ، فبالتاء التي في « تعبدون » , ولا ينصب بـ « أن » التي كانت تصلح أن تدخل مع ( لا تعبدون إلا الله ) . لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [ الزمر: 64 ] ، فرفع « أعبد » إذ لم تدخل فيها « أن » - بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر:

ألا أيهـذا الزاجـري أحـضرُ الـوغى وأن أشـهد اللـذات هـل أنـت مخـلدي

فرفع « أحضر » وإن كان يصلح دخول « أن » فيها - إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال.

وإنما صلح حذف « أن » من قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون ) ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها, فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها - منها.

وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، حكاية, كأنك قلت: استحلفناهم: لا تعبدون, أي قلنا لهم: والله لا تعبدون - وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك.

وبنحو الذي قلنا في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، تأوله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) ، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: ( وبالوالدين إحسانا ) عطف على موضع « أن » المحذوفة في لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ . فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع لا تَعْبُدُونَ لما حذف « أن » , ثم عطف بالوالدين على موضعها, كما قال الشاعر:

معــاوي إننــا بشــر فأســجح فلســــنا بالجبــــال ولا الحــــديدا

فنصب « الحديد » على العطف به على موضع « الجبال » ، لأنها لو لم تكن فيها « باء » خافضة كانت نصبا, فعطف بـ « الحديد » على معنى « الجبال » ، لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله: ( وبالوالدين إحسانا ) .

وأما « الإحسان » فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: ( وبالوالدين ) ، إذ كان مفهوما معناه, فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف - : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله, وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله: ( وبالوالدين ) من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا, إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام.

وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا، فجعل « الباء » التي في « الوالدين » من صلة الإحسان، مقدمة عليه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله, وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن « الباء » التي في « الوالدين » من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما يقال: « أحسن فلان إلى والديه » ولا يقال: أحسن بوالديه, إلا على استكراه للكلام.

ولكن القول فيه ما قلنا, وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره.

فإن قال قاتل: وما ذلك « الإحسان » الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل, وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما, والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما, وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وذي القربي ) ، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.

و « القربي » مصدر على تقدير « فعلى » ، من قولك، « قربت مني رحم فلان قرابة وقربي وقربا » ، بمعنى واحد.

وأما « اليتامى » . فهم جمع « يتيم » , مثل « أسير وأسارى » . ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث.

ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي: أن تصلوا رحمه, وتعرفوا حقه, وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة, وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم.

و « المسكين » ، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة, وهو « مفعيل » من « المسكنة » . و « المسكنة » هي ذل الحاجة والفاقة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا

قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: ( وقولوا للناس حسنا ) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر, بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي. فلو كان مكان: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول.

فكان معنى الكلام - لو كان مقروءا كذلك- : وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله, كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [ البقرة: 63 ] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ، عطف بقوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، على موضع لا تَعْبُدُونَ ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه, لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع لا تَعْبُدُونَ . فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله, وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه, ثم تعود إلى الخبر على وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، كما قال الشاعر:

أســيئي بنـا أو أحسـني لا ملومـة لدينـــا ولا مَقْلِيَّـــةً إن تَقَلَّــت

يعني: تقليت.

وأما « الحسن » فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: ( وقولوا للناس حَسَنا ) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: ( حُسْنا ) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: « وقولوا للناس حُسْنَى » على مثال « فُعلى » .

واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: « حُسْنا » و « حَسَنا » . فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ « الحَسَن » « الحُسن » وكلاهما لغة، كما يقال: « البُخل و البَخَل » ، وإما أن يكون جعل « الحُسن » هو « الحَسن » في التشبيه. وذلك أن الحُسن « مصدر » و « الحَسن » هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك: « إنما أنت أكل وشرب » ، وكما قال الشاعر:

وخــيل قــد دلفــت لهـا بخـيل تحيـــة بينهـــم ضـــرب وجــيع

فجعل « التحية » ضربا.

وقال آخر: بل « الحُسن » هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن. و « الحسن » هو البعض من معاني « الحُسن » . قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [ العنكبوت: 8 ] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحُسن, وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال: ( وقولوا للناس حسنا ) ، يعني بذلك بعض معاني الحُسن.

قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى « الحسن » بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب, وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما « الحسن » فإنه صفة وقعت لما وصف به, وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك, فالصواب من القراءة في قوله: ( وقولوا للناس حَسنا ) ، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم: « وقولوا للناس » باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين, على قراءته بضم الحاء وسكون السين.

وأما الذي قرأ ذلك: ( وقولوا للناس حسنى ) ، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ « فعلى » « وأفعل » إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال: « جاءني أحسن » ، حتى يقولوا: « الأحسن » . ولا يقال: « أجمل » ، حتى يقولوا، « الأجمل » . وذلك أن « الأفعل والفعلى » ، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف, كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى . وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى, ورجل أحسن.

وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية، أن يقولوه للناس, فهو ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بـ « لا إله إلا الله » من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها, فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم, وهو مما ارتضاه الله وأحبه.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال، قولوا للناس معروفا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم.

وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: مروهم بالمعروف, وانهوهم عن المنكر.

حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح, عن قول الله جل ثناؤه: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر, فقال مثل ذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك, عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: ( وقولوا للناس حسنا ) ، قال: للناس كلهم.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وأقيموا الصلاة ) ، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها * كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن مسعود قال: ( وأقيموا الصلاة ) ، هذه و « إقامة الصلاة » تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتُوا الزَّكَاةَ

قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى « الزكاة » وما أصلها.

وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية, فهي ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وآتوا الزكاة ) ، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة, وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار فتحملها, فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم, أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وآتوا الزكاة ) ، يعني « بالزكاة » : طاعة الله والإخلاص.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ( 83 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه, بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره, وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات, ويصلوا الأرحام, ويتعطفوا على الأيتام, ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم, ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته, ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها, ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله, وتولوا عنه معرضين, إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد, عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به, أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية, وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم, وهم الذين استثنى الله فقال: ( ثم توليتم ) ، يقول: أعرضتم عن طاعتي، ( إلا قليلا منكم ) ، قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي, وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة, عن ابن عباس: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، أي تركتم ذلك كله.

وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: ( وأنتم معرضون ) ، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم ) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم, ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم - على ما ذكرناه فيما مضى قبل- ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.

وقال آخرون: بل قوله: ( ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل, وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ

قال أبو جعفر: قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) في المعنى والإعراب نظير قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ .

وأما « سفك الدم » , فإنه صبه وإراقته.

فإن قال قائل: وما معنى قوله: ( لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها, فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت, ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه, إذ كانت ملتهما [ واحدة، فهما ] بمنـزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام:

« إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنـزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » .

وقد يجوز أن يكون معنى قوله: ( لا تسفكون دماءكم ) ، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم, فيقاد به قصاصا, فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة: « أنت جنيت هذا على نفسك » .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، أي: لا يقتل بعضكم بعضا, ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن قتادة في قوله: ( لا تسفكون دماءكم ) ، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) ، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ثم أقررتم ) ، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ثم أقررتم ) ، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.

وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ( 84 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: ( وأنتم تشهدون ) . فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها, فقال الله تعالى لهم: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ، يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، ( وأنتم تشهدون ) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم, بأن لا يسفكوا دماءهم, ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم, وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حُكي معنى هذا القول عنه، ابنُ عباس.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) أن هذا حق من ميثاقي عليكم.

وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم, ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مُخرج المخاطبة، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها، التي قد بينا تأويلها فيما مضى.

وتأولوا قوله: ( وأنتم تشهدون ) ، على معنى: وأنتم شهود.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قوله: ( وأنتم تشهدون ) ، يقول: وأنتم شهود.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن يكون قوله: ( وأنتم تشهدون ) خبرا عن أسلافهم, وداخلا فيه المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما كان قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ خبرا عن أسلافهم، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق, وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، بقوله: ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) . فإذْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم, فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده, وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله: ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض. والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك، فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها, أعني قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ الآية. لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ

قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: ( ثم أنتم هؤلاء ) وجهان. أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء, فترك « يا » استغناء بدلالة الكلام عليه, كما قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [ يوسف: 29 ] ، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم, ثم أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، متعاونين عليهم، في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان.

والتعاون هو « التظاهر » . وإنما قيل للتعاون « التظاهر » , لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو « تفاعل » من « الظهر » , وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.

والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن « أنتم » . وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم « بهؤلاء » , كما تقول العرب: « أنا ذا أقوم, وأنا هذا أجلس » , وإذْ قيل: « أنا هذا أجلس » كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك تقوم « . »

وقد زعم بعض البصريين أن قوله « هؤلاء » في قوله: ( ثم أنتم هؤلاء ) ، تنبيه وتوكيد لـ « أنتم » . وزعم أن « أنتم » وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين, فإنما جاز أن يؤكدوا بـ « هؤلاء » و « أولاء » , لأنها كناية عن المخاطبين, كما قال خفاف بن ندبة:

أقـول لـه والـرمح يَـأطر متنـه : تبيــن خُفافــا إننــي أنـا ذلكـا

يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [ يونس: 22 ]

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن عَني بقوله: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .

* ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) إلى أهل الشرك، حتى تسفكوا دماءهم معهم, وتخرجوهم من ديارهم معهم. قال: أنبهم الله [ على ذلك ] من فعلهم, وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم, وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج, وخرجت النضير وقريظة مع الأوس, يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا, ولا بعثا ولا قيامة, ولا كتابا, ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم, تصديقا لما في التوراة، وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس, وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم, ويطلون ما أصابوا من الدماء، وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه - ابتغاء عرض من عرض الدنيا.

ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني- نـزلت هذه القصة.

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا, وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه، فأعتقوه. فكانت قريظة حلفاء الأوس, والنضير حلفاء الخزرج, فكانوا يقتتلون في حرب سُمير. فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم, فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه, فتعيرهم العرب بذلك, ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين, وكانوا بهذه المثابة, وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا, وافترقت قريظة والنضير, فكانت النضير مع الخزرج, وكانت قريظة مع الأوس، فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضا, فقال الله جل ثناؤه: ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ) الآية.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.

قال أبو جعفر: وأما « العدوان » فهو « الفعلان » من « التعدي » , يقال منه: « عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا, واعتدى يعتدي اعتداء » , وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا.

وقد اختلف الْقَرَأَة في قراءة: ( تظاهرون ) . فقرأها بعضهم: « تظاهرون » على مثال « تفاعلون » فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون: ( تظَّاهرون ) , فشدد، بتأويل: ( تتظاهرون ) , غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما، فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما، فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارئ، لأنهما جميعا لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا أن يختار مختار « تظاهرون » المشددة طلبا منه تتمة الكلمة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ) اليهود. يوبخهم بذلك, ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها، فقال لهم: ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم يعني به: يقتل بعضكم بعضا وأنتم، مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونه، ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [ حرام عليكم ] , فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم، وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء. لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به, فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم, وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تَفْدُوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، [ أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين ] ؟ والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم, وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم أفتكوهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة, عن ابن عباس: ( وإن يأتوكم أسارى تَفْدوهم ) ، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم, ( وهو محرم عليكم ) في كتابكم ( إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، أتفادونهم مؤمنين بذلك, وتخرجونهم كفرا بذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ) يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، فكان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ الآية, قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم, وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم, وأخذ عليهم الميثاق: إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا, وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، حدثنا الربيع بن أنس قال، أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب, فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، قال: كفرهم القتل والإخراج, وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.

قال أبو جعفر: واختلف الْقَرَأَة في قراءة قوله: ( وإن يأتوكم أسارى تفدوهم ) . فقرأه بعضهم: ( أسرى تَفْدوهم ) , وبعضهم: ( أُسارى تُفادوهم ) , وبعضهم ( أُسارى تَفدوهم ) , وبعضهم: ( أسرى تفادوهم ) .

قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: ( وإن يأتوكم أسرى ) , فإنه أراد جمع « الأسير » , إذ كان على « فعيل » ، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير « فعيل » , إذ كان « الأسر » شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا, فقيل: أسير وأسرى « , كما قيل: » مريض ومرضى، وكسير وكَسرى, وجريح وجرحى « . »

وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: ( أُسارى ) ، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع « فَعلان » ، إذ كان جمع « فَعلان » الذي له « فَعلى » قد يشارك جمع « فعيل » كما قالوا: « سَكارى وسَكرى، وكَسالى وكَسلى » ، فشبهوا « أسيرا » - وجمعوه مرة « أسارى » ، وأخرى « أسرى » - بذلك .

وكان بعضهم يزعم أن معنى « الأسرى » مخالف معنى « الأسارى » , ويزعم أن معنى « الأسرى » استئسار القوم بغير أسر من المستأسِر لهم, وأن معنى « الأسارى » معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.

قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب. ولكن ذلك على ما وصفت من جمع « الأسير » مرة على « فَعلى » لما بينت من العلة, ومرة على « فُعالى » ، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه بجمع « سكران وكسلان » وما أشبه ذلك.

وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ ( وإن يأتوكم أسرى ) ، لأن « فعالى » في جمع « فعيل » غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان ذلك غير مستفيض في كلامهم, وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى الآلام والزمانة - وواحده على تقدير « فعيل » ، على « فعلى » ، كالذي وصفنا قبل, وكان أحد ذلك « الأسير » ، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها.

وأما من قرأ: ( تفادوهم ) ، فإنه أراد: أنكم تفدونهم من أسرهم, ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم.

وأما من قرأ ذلك ( تفدوهم ) ، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم.

وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني: ( أسرى تفادوهم ) - لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.

وأما قوله: ( وهو محرم عليكم إخراجهم ) ، فإن في قوله: ( وهو ) وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم, وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر « الإخراج » الذي بعد « وهو محرم عليكم » تكريرا على « هو » , لما حال بين « الإخراج » و « هو » كلام.

والتأويل الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت « الواو » التي مع « هو » تقتضي اسما يليها دون الفعل. فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه « الواو » أن يليها - أُولِيَتْ « هو » ، لأنه اسم, كما تقول: « أتيتك وهو قائم أبوك » , بمعنى: « وأبوك قائم » , إذ كانت « الواو » تقتضي اسما، فعمدت بـ « هو » , إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام. كما قال الشاعر:

فــأبلغ أبــا يحـيى إذا مـا لقيتـه عـلى العيس فـي آباطهـا عَرَق يَبْسُ

بـــأن السُّلامِيَّ الــذي بِضَــرِيَّة أمـيرَ الحـمى, قد باع حَقِّي بني عبسِ

بثــوب ودينــار وشــاة ودرهـم فهـل هـو مرفـوع بمـا ههنـا رَأْسُ

فأوليت « هل » « هو » لطلبها الاسم العماد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم ) : فليس لمن قتل منكم قتيلا فكفر بقتله إياه، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنـزله إلى موسى جزاء - يعني « بالجزاء » : الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه - إلا خزي في الحياة الدنيا. و « الخزي » : الذل والصغار, يقال منه: « خزي الرجل يخزى خزيا » ، ( في الحياة الدنيا ) ، يعني: في عاجل الدنيا قبل الآخرة.

ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنـزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا, والانتقام للمظلوم من الظالم.

وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلة لهم وصغارا.

وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر, وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيا في الدنيا, ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) : ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه.

وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا.

ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه « الألف واللام » , لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 85 )

قال أبو جعفر: اختلف الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: ( وما الله بغافل عما يعملون ) بـ « الياء » ، على وجه الإخبار عنهم, فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى: ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون ) ، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا, ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب.

وقرأه آخرون: ( وما الله بغافل عما تعملون ) بـ « التاء » على وجه المخاطبة. قال: فكأنهم نحوا بقراءتهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ . وما الله بغافل، يا معشر اليهود، عما تعملون أنتم.

وأعجب القراءتين إلي قراءة من قرأ بـ « الياء » ، اتباعا لقوله: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ ، ولقوله: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ . لأن قوله: ( وما الله بغافل عما يعملون ) إلى ذلك، أقرب منه إلى قوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ، فاتباعه الأقرب إليه، أولى من إلحاقه بالأبعد منه. والوجه الآخر غير بعيد من الصواب.

وتأويل قوله: « وما الله بغافل عما يعملون » ، وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة, بل هو محص لها وحافظها عليهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، ويخزيهم في الدنيا، فيذلهم ويفضحهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 86 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه أولئك الذين أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب، فيفادون أسراهم من اليهود, ويكفرون ببعض, فيقتلون من حرم الله عليهم قتله من أهل ملتهم, ويخرجون من داره من حرم الله عليهم إخراجه من داره, نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء [ هم ] الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم, وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان، الذي كان يكون لهم به في الآخرة - لو كانوا أتوا به مكان الكفر - الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها، عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين. فجعل حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله، ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا، كما:-

حدثنا بشر، حدثنا يزيد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) ، استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.

قال أبو جعفر: ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة - بتركهم طاعته, وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه - لا حظ لهم في نعيم الآخرة, وأن الذي لهم في الآخرة العذاب، غير مخفف عنهم فيها العذاب. لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب، هو الذي له حظ في نعيمها, ولا حظ لهؤلاء، لاشترائهم - بالذي كان في الدنيا - دنياهم بآخرتهم.

وأما قوله: ( ولا هم ينصرون ) فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله - لا بقوته ولا بشفاعته ولا غيرهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( آتينا موسى الكتاب ) : أنـزلناه إليه. وقد بينا أن معنى « الإيتاء » الإعطاء، فيما مضى قبل.

و « الكتاب » الذي آتاه الله موسى عليه السلام، هو التوراة.

وأما قوله: ( وقفينا ) ، فإنه يعني: وأردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض, كما يقفو الرجل الرجل: إذا سار في أثره من ورائه. وأصله من « القفا » , يقال منه: « قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه, كما يقال: » دبرته « : إذا صرت في دبره. »

ويعني بقوله: ( من بعده ) ، من بعد موسى.

ويعني بـ ( الرسل ) : الأنبياء, وهم جمع « رسول » . يقال: « هو رسول وهم رسل » , كما يقال: « هو صبور وهم قوم صبر, وهو رجل شكور وهم قوم شكر. »

وإنما يعني جل ثناؤه بقوله: ( وقفينا من بعده بالرسل ) ، أي أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة. لأن كل من بعثه الله نبيا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم, فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ما فيها. فلذلك قيل: ( وقفينا من بعده بالرسل ) ، يعني على منهاجه وشريعته, والعمل بما كان يعمل به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) ، أعطينا عيسى ابن مريم.

ويعني بـ « البينات » التي آتاه الله إياها: ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوته: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، ونحو ذلك من الآيات، التي أبانت منـزلته من الله, ودلت على صدقه وصحة نبوته، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثنا محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) : أي الآيات التي وضع على يديه: من إحياء الموتى, وخلقه من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله, وإبراء الأسقام, والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم, وما رد عليهم من التوراة، مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ

قال أبو جعفر: أما معنى قوله: ( وأيدناه ) ، فإنه قويناه فأعناه, كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر, عن الضحاك: ( وأيدناه ) ، يقول: نصرناه. يقال منه: « أيدك الله » ، أي قواك, « وهو رجل ذو أَيْد، وذو آد » , يراد: ذو قوة. ومنه قول العجاج:

من أن تبدلت بآدي آدا *

يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر:

إن القــداح إذا اجــتمعن فرامهــا بالكســـر ذو جَــلَد وبطش أيِّــد

يعني بالأيد: القوي.

ثم اختلف في تأويل قوله: ( بروح القدس ) . فقال بعضهم: « روح القدس » الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به، هو جبريل عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( وأيدناه بروح القدس ) قال: هو جبريل.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال: هو جبريل عليه السلام.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال: روح القدس، جبريل.

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال: أيد عيسى بجبريل، وهو روح القدس.

وقال ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي, عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو [ الذي ] يأتيني؟ قالوا: نعم.

وقال آخرون: الروح الذي أيد الله به عيسى، هو الإنجيل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا، كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله, كما قال الله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [ الشورى: 52 ] .

وقال آخرون: هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال: هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال: « الروح » في هذا الموضع جبريل. لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به, كما أخبر في قوله: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [ المائدة: 110 ] ، فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل، لكان قوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، و « إذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » ، تكرير قول لا معنى له. وذلك أنه على تأويل قول من قال: معنى إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، إنما هو: إذ أيدتك بالإنجيل - وإذ علمتك الإنجيل. وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو مُعَلَّمُه، فذلك تكرير كلام واحد، من غير زيادة معنى في أحدهما على الآخر. وذلك خلف من الكلام, والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وإذْ كان ذلك كذلك، فَبَيِّنٌ فساد قول من زعم أن « الروح » في هذا الموضع، الإنجيل, وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة, وتنتعش بها النفوس المولية, وتهتدي بها الأحلام الضالة.

وإنما سمى الله تعالى جبريل « روحا » وأضافه إلى « القدس » ، لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده, فسماه بذلك « روحا » ، وأضافه إلى « القدس » - و « القدس » ، هو الطهر - كما سمي عيسى ابن مريم « روحا » لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده.

وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أن معنى « التقديس » : التطهير, و « القدس » - الطهر، من ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: القدس، البركة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: القدس، وهو الرب تعالى ذكره.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وأيدناه بروح القدس ) ، قال: الله، القدس, وأيد عيسى بروحه، قال: نعت الله، القدس. وقرأ قول الله جل ثناؤه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [ الحشر: 23 ] ، قال: القدس والقدوس، واحد.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال، [ عن هلال ] بن أسامة, عن عطاء بن يسار قال، قال كعب: الله، القدس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ( 87 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم ) ، اليهود من بني إسرائيل.

حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد.

قال أبو جعفر: يقول الله جل ثناؤه لهم: يا معشر يهود بني إسرائيل, لقد آتينا موسى التوراة, وتابعنا من بعده بالرسل إليكم, وآتينا عيسى ابن مريم البينات والحجج، إذ بعثناه إليكم, وقويناه بروح القدس، وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم - تجبرا وبغيا - استكبار إمامكم إبليس، فكذبتم بعضا منهم. وقتلتم بعضا. فهذا فعلكم أبدا برسلي.

وقوله: ( أفكلما ) ، وإن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب، فهو بمعنى الخبر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ

قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: ( وقالوا قلوبنا غُلْف ) مخففة اللام ساكنة. وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار. وقرأه بعضهم: « وقالوا قلوبنا غُلُف » مثقلة اللام مضمومة.

فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها, فإنهم تأولوها، أنهم قالوا: قلوبنا في أكنة وأغطية وغلْف. و « الغلْف » - على قراءة هؤلاء- جمع « أغلف » , وهو الذي في غلاف وغطاء، كما يقال للرجل الذي لم يختتن « أغلف » , والمرأة « غلفاء » . وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه: « سيف أغلف » , وقوس غلفاء « وجمعها » غُلْف « , وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على » أفعل « وأنثاه على » فعلاء « , يجمع على » فُعْل « مضمومة الأول ساكنة الثاني, مثل: » أحمر وحمر, وأصفر وصفر « , فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير. ولا يجوز تثقيل عين » فعل « منه، إلا في ضرورة شعر, كما قال طرفة بن العبد: »

أيهـــا الفتيــان فــي مجلســنا جـــردوا منهـــا وِرادا وشُــقُر

يريد: شُقْرًا, إلا أن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه. ومنه الخبر الذي:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي, عن عمرو بن مرة الجملي, عن أبي البختري, عن حذيفة قال: القلوب أربعة - ثم ذكرها - فقال فيما ذكر: وقلب أغلف معصوب عليه, فذلك قلب الكافر.

ذكر من قال ذلك, يعني أنها في أغطية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، أي في أكنة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( قلوبنا غلف ) ، أي في غطاء.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، فهي القلوب المطبوع عليها.

حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج, أخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد قوله: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، عليها غشاوة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، أخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، عليها غشاوة.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك عن الأعمش قوله: ( قلوبنا غلف ) ، قال: هي في غُلُف.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، أي لا تفقه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال: هو كقوله: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [ فصلت : 5 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: ( قلوبنا غلف ) قال: عليها طابَع, قال: هو كقوله: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( قلوبنا غلف ) ، أي لا تفقه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال: يقولون: عليها غلاف، وهو الغطاء.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قلوبنا غلف ) ، قال يقول: قلبي في غلاف, فلا يخلص إليه مما تقول شيء، وقرأ: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [ فصلت: 5 ] .

قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها « غلف » بتحريك اللام وضمها, فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم, بمعنى أنها أوعية.

قال: و « الغلف » على تأويل هؤلاء جمع « غلاف » . كما يجمع « الكتاب كتب, والحجاب حجب, والشهاب شهب. فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ » غلف « بتحريك اللام وضمها، وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم, وأوعية له ولغيره. »

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد قال، حدثنا أبي, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال: أوعية للذكر.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل, عن عطية في قوله: ( قلوبنا غلف ) قال: أوعية للعلم.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل, عن عطية مثله.

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وقالوا قلوبنا غلف ) ، قال: مملوءة علما، لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.

والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: ( قلوبنا غلف ) ، هي قراءة من قرأ ( غلف ) بتسكين اللام - بمعنى أنها في أغشية وأغطية، لاجتماع الحجة من الْقَرَأَة وأهل التأويل على صحتها, وشذوذ من شذ عنهم بما خالفه، من قراءة ذلك بضم « اللام » .

وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه، حجة على من بلغه. وما جاء به المنفرد، فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلا وقولا وعملا في غير هذا الموضع, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان. .

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( بل لعنهم الله ) ، بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم، وجحودهم آيات الله وبيناته, وما ابتعث به رسله, وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك.

وأصل « اللعن » الطرد والإبعاد والإقصاء يقال: « لعن الله فلانا يلعنه لعنا، وهو ملعون » . ثم يصرف « مفعول » : فيقال: هو « لعين » . ومنه قول الشماخ بن ضرار:

ذعــرت بـه القطـا ونفيـت عنـه مكــان الــذئب كـالرجل اللعيـن

قال أبو جعفر: في قول الله تعالى ذكره: ( بل لعنهم الله بكفرهم ) تكذيب منه للقائلين من اليهود: ( قلوبنا غلف ) . لأن قوله: ( بل ) دلالة على جحده جل ذكره وإنكاره ما ادعوا من ذلك، إذ كانت « بل » لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود. فإذ كان ذلك كذلك, فبَيِّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا, ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها، وأخزاهم بجحودهم له ولرسله، فقليلا ما يؤمنون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ ( 88 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فقليلا ما يؤمنون ) . فقال بعضهم، معناه فقليل منهم من يؤمن, أي لا يؤمن منهم إلا قليل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) ، فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب, إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( فقليلا ما يؤمنون ) ، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر, عن قتادة: ( فقليلا ما يؤمنون ) ، قال: لا يؤمن منهم إلا قليل. قال معمر: وقال غيره: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في قوله: ( فقليلا ما يؤمنون ) بالصواب، ما نحن متقنوه إن شاء الله. وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنـزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك نصب قوله: ( فقليلا ) ، لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره. ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم، فإيمانا قليلا ما يؤمنون. فقد تبين إذًا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك. لأن معنى ذلك، لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل, أو فقليل منهم من يؤمن, لكان « القليل » مرفوعا لا منصوبا. لأنه إذا كان ذلك تأويله، كان « القليل » حينئذ مرافعا « ما » . فإذْ نصب « القليل » - و « ما » في معنى « من » أو « الذي » - [ فقد ] بقيت « ما » لا مرافع لها. وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.

فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى « ما » التي في قوله: ( فقليلا ما يؤمنون ) . فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها, وإنما تأويل الكلام: فقليلا يؤمنون, كما قال جل ذكره: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [ آل عمران: 159 ] وما أشبه ذلك، فزعم أن « ما » في ذلك زائدة, وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم، وأنشد في ذلك محتجا لقوله ذلك - بيت مهلهل:

لـــو بأبــانين جــاء يخطبهــا خــضب مـا أنـف خـاطب بـدم

وزعم أنه يعني: خضب أنف خاطب بدم, وأن « ما » زائدة.

وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في « ما » ، في الآية وفي البيت الذي أنشده, وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء, إذ كانت « ما » كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخص وتعم ما عمته بما تذكره بعدها.

وهذا القول عندنا أولى بالصواب. لأن زيادة ما لا يفيد من الكلام معنى في الكلام، غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه.

ولعل قائلا أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلا ما يؤمنون - من الإيمان قليل أو كثير، فيقال فيهم: « فقليلا ما يؤمنون » ؟

قيل: إن معنى « الإيمان » هو التصديق. وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدق بوحدانية الله، وبالبعث والثواب والعقاب, وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته, وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به، لأنه في كتبهم, ومما جاءهم به موسى، فصدقوا ببعض - وذلك هو القليل من إيمانهم - وكذبوا ببعض، فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.

وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء, وإنما قيل: ( فقليلا ما يؤمنون ) ، وهم بالجميع كافرون, كما تقول العرب: « قلما رأيت مثل هذا قط » . وقد روي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل « يعني: ما تنبت غير الكراث والبصل, وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بـ » القلة « , والمعنى فيه نفي جميعه. »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ، ولما جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصف جل ثناؤه صفتهم- ( كتاب من عند الله ) يعني بـ « الكتاب » القرآن الذي أنـزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم ( مصدق لما معهم ) ، يعني مصدق للذي معهم من الكتب التي أنـزلها الله من قبل القرآن، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ، وهو القرآن الذي أنـزل على محمد، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ) ، وهو القرآن الذي أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، أي: وكان هؤلاء اليهود - الذين لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم من الكتب التي أنـزلها الله قبل الفرقان, كفروا به - يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم ومعنى « الاستفتاح » ، الاستنصار يستنصرون الله به على مشركي العرب من قبل مبعثه، أي من قبل أن يبعث، كما:-

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم قالوا: فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار، وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نـزلت هذه القصة يعني: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية - ونحن أهل الشرك, وهم أهل الكتاب - فكانوا يقولون: إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه, يقتلكم قتل عاد وإرم. فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه، كفروا به. يقول الله: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب, كفروا به, وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود, اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك, وتخبروننا أنه مبعوث, وتصفونه لنا بصفته! فقال سَلام بن مِشْكَم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه, وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنـزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب - يعني بذلك أهل الكتاب - فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه.

وحدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن علي الأزدي في قول الله: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، قال: اليهود, كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس، يستفتحون - يستنصرون - به على الناس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن علي الأزدي - وهو البارقي - في قول الله جل ثناؤه: ( وكانوا من قبل يستفتحون ) ، فذكر مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب من قبل, وقالوا: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب, وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب, يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم! فلما بعث الله محمدا، ورأوا أنه من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب, وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال الله: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم, وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة, ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب. فلما جاءهم محمد كفروا به، حين لم يكن من بني إسرائيل.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، قال: كانوا يستفتحون على كفار العرب بخروج النبي صلى الله عليه وسلم, ويرجون أن يكون منهم. فلما خرج ورأوه ليس منهم، كفروا وقد عرفوا أنه الحق، وأنه النبي. قال: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) .

قال حدثنا ابن جريج, وقال مجاهد: يستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم تقول: إنه - يخرج. ( فلما جاءهم ما عرفوا ) - وكان من غيرهم- كفروا به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج - وقال ابن عباس: كانوا يستفتحون على كفار العرب.

حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثني شريك, عن أبي الجحاف, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير قوله: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، قال: هم اليهود عرفوا محمدا أنه نبي وكفروا به.

حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) ، قال: كانوا يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمدا عليهم. وليسوا كذلك، يكذبون.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله عز وجل: ( وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) . قال: كانت يهود يستفتحون على كفار العرب، يقولون: أما والله لو قد جاء النبي الذي بشر به موسى وعيسى، أحمد، لكان لنا عليكم! وكانوا يظنون أنه منهم، والعرب حولهم, وكانوا يستفتحون عليهم به، ويستنصرون به. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحسدوه، وقرأ قول الله جل ثناؤه: كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [ سورة البقرة: 109 ] . قال: قد تبين لهم أنه رسول, فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيا خارج.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأين جواب قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ؟

قيل: قد اختلف أهل العربية في جوابه. فقال بعضهم: هو مما ترك جوابه، استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه، وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن. وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام, فتأتي بأشياء لها أجوبة، فتحذف أجوبتها، لاستغناء سامعيها - بمعرفتهم بمعناها - عن ذكر الأجوبة, كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا [ سورة الرعد: 31 ] ، فترك جوابه. والمعنى: « ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن - استغناء بعلم السامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ . »

وقال آخرون: جواب قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ في « الفاء » التي في قوله: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) ، وجواب الجزاءين في « كفروا به » ، كقولك: « لما قمت، فلما جئتنا أحسنت » , بمعنى: لما جئتنا إذْ قمت أحسنت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 89 )

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى اللعنة، وعلى معنى « الكفر » ، بما فيه الكفاية.

فمعنى الآية: فخزي الله وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحق عليهم لله ولأنبيائه، المنكرين لما قد ثبت عندهم صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ففي إخبار الله عز وجل عن اليهود - بما أخبر الله عنهم بقوله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ - البيان الواضح أنهم تعمدوا الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعد قيام الحجة بنبوته عليهم، وقطع الله عذرهم بأنه رسوله إليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا

قال أبوجعفر ومعنى قوله جل ثناؤه: ( بئس ما اشتروا به أنفسهم ) : ساء ما اشتروا به أنفسهم.

وأصل « بئس » « بَئِس » من « البؤس » , سكنت همزتها، ثم نقلت حركتها إلى « الباء » , كما قيل في « ظللت » « ظلت » , وكما قيل « للكبد » ، « كِبْد » - فنقلت حركة « الباء » إلى « الكاف » لما سكنت « الباء » .

وقد يحتمل أن تكون « بئس » ، وإن كان أصلها « بَئِس » ، من لغة الذين ينقلون حركة العين من « فعل » إلى الفاء، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة, كما قالوا من « لعب » « لِعْب » , ومن « سئم » « سِئْم » , وذلك - فيما يقال- لغة فاشية في تميم.

ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ، ووصلت بـ « ما » .

واختلف أهل العربية في معنى « ما » التي مع « بئسما » . فقال بعض نحويي البصرة: هي وحدها اسم, و « أن يكفروا » تفسير له, نحو: نعم رجلا زيد, و أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ بدل من « أنـزل الله » .

وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا, ف « ما » اسم « بئس » , و « أن يكفروا » الاسم الثاني. وزعم أن: « أن يكفروا » إن شئت جعلت « أن » في موضع رفع, وإن شئت في موضع خفض. أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن يفعلوه. وأما الخفض: فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنـزل الله بغيا. قال: وقوله: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [ سورة المائدة: 80 ] كمثل ذلك. والعرب تجعل « ما » وحدها في هذا الباب، بمنـزلة الاسم التام، كقوله: فَنِعِمَّا هِيَ [ سورة البقرة: 271 ] ، و « بئسما أنت » ، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز:

لا تعجــلا فــي السـير وادْلُوهـا لبئســـــما بــــطءٌ ولا نرعاهــــا

قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر « , فيجعلون » ما « وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي » بئس « معرفة مُوَقَّتَة، وخبره معرفة موقتة. وقد زعم أن » بئسما « بمنـزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم, فقد صارت » ما « بصلتها اسما موقتا، لأن » اشتروا « فعل ماض من صلة » ما « ، في قول قائل هذه المقالة. وإذا وصلت بماض من الفعل، كانت معرفة موقتة معلومة، فيصير تأويل الكلام حينئذ: » بئس شراؤهم كفرهم « . وذلك عنده غير جائز: فقد تبين فساد هذا القول. »

وكان آخر منهم يزعم أن « أن » في موضع خفض إن شئت, ورفع إن شئت. فأما الخفض: فأن ترده على « الهاء » التي في، « به » على التكرير على كلامين. كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع: فأن يكون مكرورا على موضع « ما » التي تلي « بئس » . قال: ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك: « بئس الرجل عبد الله. »

وقال بعضهم: « بئسما » شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب: « بئسما تزويج ولا مهر » فرافع « تزويج » « بئسما » , كما يقال: « بئسما زيد, وبئس ما عمرو » , فيكون « بئسما » رفعا بما عاد عليها من « الهاء » . كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم, وتكون « أن » مترجمة عن « بئسما » .

وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل « بئسما » مرفوعا بالراجع من « الهاء » في قوله: ( اشتروا به ) ، كما رفعوا ذلك بـ « عبد الله » إذ قالوا: « بئسما عبد الله » , وجعل « أن يكفروا » مترجمة عن « بئسما » . فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنـزل الله بغيا وحسدا أن ينـزل الله من فضله. وتكون أَنْ التي في قوله: أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ , في موضع نصب. لأنه يعني به « أن يكفروا بما أنـزل الله » : من أجل أن ينـزل الله من فضله على من يشاء من عباده. موضع أَنْ جزاء. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن أَنْ في موضع خفض بنية « الباء » . وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها, ولا خافض معها يخفضها. والحرف الخافض لا يخفض مضمرا.

وأما قوله: ( اشتروا به أنفسهم ) ، فإنه يعني به: باعوا أنفسهم كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يقول: باعوا أنفسهم « أن يكفروا بما أنـزل الله بغيا » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يهود، شروا الحق بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه.

قال أبو جعفر: والعرب تقول: « شريته » ، بمعنى بعته. و « اشتروا » ، في هذا الموضع، « افتعلوا » من « شريت » . وكلام العرب - فيما بلغنا- أن يقولوا: « شريت » بمعنى: بعت, و « اشتريت » بمعنى: ابتعت. وقيل: إنما سمي « الشاري » ، « شاريا » ، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته.

ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري:

وشــــريت بـــردا ليتنـــي مـــن قبـــل بــرد كــنت هامــة

ومنه قول المسيب بن علس:

يعطـــى بهــا ثمنــا فيمنعهــا ويقــــول صاحبهــــا ألا تشـــري?

يعني به: بعت بردا. وربما استعمل « اشتريت » بمعنى: بعت, و « شريت » في معنى: « ابتعت » . والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت.

وأما معنى قوله: ( بغيا ) ، فإنه يعني به: تعديا وحسدا، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة: ( بغيا ) ، قال: أي حسدا, وهم اليهود.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بغيا ) ، قال: بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه, وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل, فما بال هذا من بني إسماعيل؟ فحسدوه أن ينـزل الله من فضله على من يشاء من عباده.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( بغيا ) ، يعني: حسدا أن ينـزل الله من فضله على من يشاء من عباده, وهم اليهود كفروا بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم، الكفر بالذي أنـزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن أنـزل الله من فضله وفضله: حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده - يعني به: على محمد صلى الله عليه وسلم - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم, من أجل أنه كان من ولد إسماعيل, ولم يكن من بني إسرائيل.

فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: ( بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنـزل الله ) ؟ وهل يشتري بالكفر شيء؟

قيل: إن معنى: « الشراء » و « البيع » عند العرب، هو إزالة مالك ملكه إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، شرا أو خيرا, فتقول: « نعم ما باع به فلان نفسه » و « بئس ما باع به فلان نفسه » , بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: ( بئس ما اشتروا به أنفسهم ) - لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها, خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: ( بئس ما اشتروا به أنفسهم ) ، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم, وبئس العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا, إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنـزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك.

وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب, من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل, حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به، مع علمهم بصدقه, وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل - نظيره الآية الأخرى في سورة النساء, وذلك قوله, أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [ سورة النساء: 51- 54 ] .

 

القول في تأويل قوله : أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

قال أبو جعفر: قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه, ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم ، قوله: ( بغيا أن ينـزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) ، أي أن الله تعالى جعله في غيرهم. .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: هم اليهود. لما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم, كفروا به - حسدا للعرب - وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية مثله.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل, فما بال هذا من بني إسماعيل؟

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن علي الأزدي. قال: نـزلت في اليهود.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به, وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا فباءوا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث, وجحودهم نبوته, وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم، عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب على غضب سالف، كان من الله عليهم قبل ذلك، سابقٍ غضبه الثاني، لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم, أو لعبادتهم العجل, أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت، يستحقون بها الغضب من الله، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, فيما روى عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، فالغضب على الغضب، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم, وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن, قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير, عن عكرمة: ( فباءوا بغضب على غضب ) قال: كفر بعيسى، وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان, عن أبي بكير, عن عكرمة: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، قال: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي بكير, عن عكرمة مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد, فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب, فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فباء بغضب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى, وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فباءوا بغضب ) ، اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم, ( على غضب ) ، جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بما جاء به.

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى, ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، أما الغضب الأول فهو حين غضب الله عليهم في العجل؛ وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: ( فباءوا بغضب على غضب ) ، قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم - من تبديلهم وكفرهم - , ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم - إذ خرج، فكفروا به.

قال أبو جعفر: وقد بينا معنى « الغضب » من الله على من غضب عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 90 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وللكافرين عذاب مهين ) ، وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم، عذاب من الله، إما في الآخرة, وإما في الدنيا والآخرة، ( مهين ) هو المذل صاحبه، المخزي، الملبسه هوانا وذلة.

فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه، فيكون للكافرين المهين منه؟

قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا، الذي يخلد فيه صاحبه، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا, وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله. وأما الذي هو غير مهين صاحبه، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه. وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده, والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد, وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها, وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير جرائمهم التي ارتكبوها، ليمحصوا من ذنوبهم، ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك، وإن كان عذابا، فغير مهين من عذب به. إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه، ثم يورده معدن العز والكرامة، ويخلده في نعيم الجنان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإذا قيل لهم ) ، وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل - للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم- : ( آمنوا ) ، أي صدقوا, ( بما أنـزل الله ) ، يعني بما أنـزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ( قالوا: نؤمن ) ، أي نصدق, ( بما أنـزل علينا ) ، يعني بالتوراة التي أنـزلها الله على موسى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ويكفرون بما وراءه ) ، ويجحدون، « بما وراءه » , يعني: بما وراء التوراة.

قال أبو جعفر: وتأويل « وراءه » في هذا الموضع « سوى » . كما يقال للرجل المتكلم بالحسن: « ما وراء هذا الكلام شيء » يراد به: ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام. فكذلك معنى قوله: ( ويكفرون بما وراءه ) ، أي بما سوى التوراة، وبما بعدها من كتب الله التي أنـزلها إلى رسله، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ويكفرون بما وراءه ) ، يقول: بما بعده.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ويكفرون بما وراءه ) ، أي بما بعده - يعني: بما بعد التوراة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ويكفرون بما وراءه ) ، يقول: بما بعده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وهو الحق مصدقا ) ، أي: ما وراء الكتاب - الذي أنـزل عليهم من الكتب التي أنـزلها الله إلى أنبيائه - الحق. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنـزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ، وهو القرآن. يقول الله جل ثناؤه: ( وهو الحق مصدقا لما معهم ) . وإنما قال جل ثناؤه: ( مصدقا لما معهم ) ، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا. ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به, مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام. فلذلك قال جل ثناؤه لليهود - إذْ أخبرهم عما وراء كتابهم الذي أنـزله على موسى صلوات الله عليه، من الكتب التي أنـزلها إلى أنبيائه - : إنه الحق مصدقا للكتاب الذي معهم, يعني: أنه له موافق فيما اليهود به مكذبون.

قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة، على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان, عنادا لله، وخلافا لأمره، وبغيا على رسله صلوات الله عليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 91 )

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: ( قل فلم تقتلون أنبياء الله ) ، قل يا محمد، ليهود بني إسرائيل - الذين إذا قلت لهم: آمنوا بما أنـزل الله قالوا: نؤمن بما أنـزل علينا- : لم تقتلون إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنـزل الله عليكم أنبياءه، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنـزل عليكم قتلهم, بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا وتعيير لهم، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال الله تعالى ذكره - وهو يعيرهم - يعني اليهود: ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) ؟

فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل, ثم أخبر أنه قد مضى؟

قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك. فقال بعض البصريين: معنى ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل، كما قال جل ثناؤه: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ [ سورة البقرة: 102 ] ، أي: ما تلت, وكما قال الشاعر:

ولقــد أمــر عـلى اللئـيم يسـبني فمضيـــت عنــه وقلــت لا يعنينــي

يريد بقوله: « ولقد أمر » ولقد مررت. واستدل على أن ذلك كذلك، بقوله: « فمضيت عنه » , ولم يقل: فأمضي عنه. وزعم أن « فعل » و « يفعل » قد تشترك في معنى واحد, واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

وإنــي لآتيكـم تَشَـكُّرَ مـا مضـى مـن الأمــر, واسْـتِيجابَ ما كان فـي غـد

يعني بذلك: ما يكون في غد، وبقول الحطيئة:

شــهد الحطيئـة يـوم يلقـى ربـه أن الوليـــــد أحــــق بــــالعذر

يعني: يشهد. وكما قال الآخر:

فمـــا أضحــي ولا أمســيت إلا أرانــــي منكـــم فـــي كَوَّفـــان

فقال: أضحي, ثم قال: « ولا أمسيت » .

وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، فخاطبهم بالمستقبل من الفعل، ومعناه الماضي, كما يعنف الرجل الرجل على ما سلف منه من فعل فيقول له: ويحك، لم تكذب؟ ولم تبغض نفسك إلى الناس؟ كما قال الشاعر:

إذا مــا انتسـبنا, لـم تلـدني لئيمـة ولـم تجـدي مـن أن تُقِـري بـه بُدَّا

فالجزاء للمستقبل, والولادة كلها قد مضت. وذلك أن المعنى معروف, فجاز ذلك. قال: ومثله في الكلام: « إذا نظرت في سيرة عمر، لم تجده يسيء » . المعنى: لم تجده أساء. فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل. فلذلك صلحت « من قبل » مع قوله: ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) . قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة, إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا, فتولوهم على ذلك ورضوا به، فنسب القتل إليهم.

قال أبو جعفر: والصواب فيه من القول عندنا، أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل - بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور - بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم, وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه, وارتكابهم معاصيه, واجترائهم عليه وعلى أنبيائه, وأضاف ذلك إلى المخاطبين به، نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا كذا وكذا, وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا - على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا - ، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم، وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إذْ كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم - على نحو الذي بينا - جاز أن يقال « من قبل » ، إذْ كان معناه: قل: فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل « ؟ وكان معلوما بأن قوله: ( فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ) ، إنما هو خبر عن فعل سلفهم. »

وتأويل قوله: ( من قبل ) ، أي: من قبل اليوم.

وأما قوله: ( إن كنتم مؤمنين ) ، فإنه يعني: إن كنتم مؤمنين بما نـزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عنى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم - إن كانوا وكنتم، كما تزعمون أيها اليهود، مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه، عند قولهم حين قيل لهم: آمِنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا . لأنهم كانوا لأوائلهم - الذين تولوا قتل أنبياء الله، مع قيلهم: نؤمن بما أنـزل علينا - متولين, وبفعلهم راضين. فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنـزل عليكم, فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي: ترضون أفعالهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ( 92 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) ، أي جاءكم بالبينات الدالة على صدقه وصحة نبوته، كالعصا التي تحولت ثعبانا مبينا, ويده التي أخرجها بيضاء للناظرين. وفلق البحر ومصير أرضه له طريقا يبسا, والجراد والقمل والضفادع, وسائر الآيات التي بينت صدقه وصحة نبوته.

وإنما سماها الله « بينات » لتبينها للناظرين إليها أنها معجزة لا يقدر على أن يأتي بها بشر، إلا بتسخير الله ذلك له. وإنما هي جمع « بينة » ، مثل « طيبة وطيبات » .

قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: ولقد جاءكم - يا معشر يهود بني إسرائيل - موسى بالآيات البينات على أمره وصدقه وصحة نبوته.

وقوله: « ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون » يقول جل ثناؤه لهم: ثم اتخذتم العجل من بعد موسى إلها. فالهاء التي في قوله: « من بعده » ، من ذكر موسى. وإنما قال: من بعد موسى, لأنهم اتخذوا العجل من بعد أن فارقهم موسى ماضيا إلى ربه لموعده - على ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا.

وقد يجوز أن تكون « الهاء » التي في « بعده » إلى ذكر المجيء. فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولقد جاءكم موسى بالبينات، ثم اتخذتم العجل من بعد مجيء البينات وأنتم ظالمون. كما تقول: جئتني فكرهته، يعني كرهت مجيئك.

وأما قوله: ( وأنتم ظالمون ) ، فإنه يعني بذلك أنكم فعلتم ما فعلتم من عبادة العجل وليس ذلك لكم، وعبدتم غير الذي كان ينبغي لكم أن تعبدوه. لأن العبادة لا تنبغي لغير الله. وهذا توبيخ من الله لليهود, وتعيير منه لهم, وإخبار منه لهم أنهم إذا كانوا فعلوا ما فعلوا - من اتخاذ العجل إلها وهو لا يملك لهم ضرا ولا نفعا, بعد الذي علموا أن ربهم هو الرب الذي يفعل من الأعاجيب وبدائع الأفعال ما أجراه على يدي موسى صلوات الله عليه، من الأمور التي لا يقدر عليها أحد من خلق الله, ولم يقدر عليها فرعون وجنده مع بطشه وكثرة أتباعه, وقرب عهدهم بما عاينوا من عجائب حِكَم الله - فهم إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وجحود ما في كتبهم التي زعموا أنهم بها مؤمنون من صفته ونعته، مع بعد ما بينهم وبين عهد موسى من المدة - أسرع وإلى التكذيب بما جاءهم به موسى من ذلك أقرب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنـزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري, وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط, فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم, إذ رفعنا فوقكم الجبل.

وأما قوله: ( واسمعوا ) ، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر: « سمعت وأطعت » , يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك، كما قال الراجز:

الســـمع والطاعـــة والتســليم خـــير وأعفـــى لبنــي تميــمْ

يعني بقوله: « السمع » ، قبول ما يسمع، و « الطاعة » لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: ( واسمعوا ) ، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به.

قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة, واعملوا بما سمعتم, وأطيعوا الله, ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك.

وأما قوله: ( قالوا سمعنا ) ، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب, فإن ذلك كما وصفنا، من أن ابتداء الكلام، إذا كان حكاية، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب، كما بينا ذلك فيما مضى قبل. فكذلك ذلك في هذه الآية، لأن قوله: ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، بمعنى: قلنا لكم، فأجبتمونا.

وأما قوله: ( قالوا سمعنا ) ، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال: أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال: أشربوا حب العجل بكفرهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه, عن الربيع: ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) ، قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم.

وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه, ثم حرقه بالمبرد, ثم ذرّاه في اليم, فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا منه, فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب. فذلك حين يقول الله عز وجل: ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: لما سحل فألقي في اليم، استقبلوا جرية الماء, فشربوا حتى ملئوا بطونهم, فأورث ذلك من فعله منهم جبنا.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه, وإنما يقال ذلك في حب الشيء, فيقال منه: « أشرب قلب فلان حب كذا » , بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير:

فصحـوت عنهـا بعـد حـب داخـل والحــــب يُشْـــرَبُه فـــؤادُك داء

قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر « الحب » اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب, وأن الذي يشرب القلب منه حبه, كما قال جل ثناؤه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [ سورة الأعراف: 163 ] ، وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [ يوسف: 82 ] ، وكما قال الشاعر:

ألا إننــي سُــقِّيت أســود حالكـا ألا بَجَلِـي مــن الشــراب ألا بَجَـل

يعني بذلك سُمّا أسود, فاكتفى بذكر « أسود » عن ذكر « السم » لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: « سقيت أسود » . ويروى:

ألا إنني سقيت أسود سالخا

وقد تقول العرب: « إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم » ,

فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر:

يقولـون جـاهد يـا جـميل بغـزوة وإن جهــادا طيــئ وقتالهـــا

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 93 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به إيمانكم؛ إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله, والتكذيب بكتبه, وجحود ما جاء من عنده. ومعنى « إيمانهم » : تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله, إذْ قيل لهم: آمِنُوا بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ . فقالوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا . وقوله: ( إن كنتم مؤمنين ) ، أي: إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنـزل الله عليكم، وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهي عن ذلك كله، وتأمر بخلافه. فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة، إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم, وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم, والذي يحملهم عليه البغي والعدوان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 94 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره, وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت, فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنـزلة من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه, إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى ، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة.

فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا » .

حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن ابن عباس في قوله: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن عكرمة في قوله: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا.

حدثني موسى قال، أخبرنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر: فيما أروي: أنبأنا - عن سعيد، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: لو تمنوه يوم قال ذلك لهم, ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات.

قال أبو جعفر: فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم, ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.

وإنما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ( تمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، لأنهم - فيما ذكر لنا- قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [ المائدة: 18 ] ، وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة: 111 ] . فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون، فتمنوا الموت. فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك, وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت, وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب.

وقال آخرون بما:-

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ) ، وذلك أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة: 111 ] ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [ المائدة: 18 ] فقيل لهم: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فقال الله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، فلم يفعلوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) الآية, وذلك بأنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .

وأما تأويل قوله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) ، فإنه يقول: قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر « الدار » ، من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا معنى « الدار الآخرة » . فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وأما تأويل قوله: ( خالصة ) ، فإنه يعني به: صافية. كما يقال: « خلص لي فلان » بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. يقال منه: « خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة, و » الخالصة « مصدر مثل » العافية « . ويقال للرجل: » هذا خُلْصاني « , يعني خالصتي من دون أصحابي. »

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: ( خالصة ) : خاصة. وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة ) ، قال: « قل » يا محمد لهم - يعني اليهود - : إن كانت لكم الدار الآخرة « - يعني: الجنة - ( عند الله خالصة ) ، يقول: خاصة لكم. »

وأما قوله: ( من دون الناس ) ، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنـزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( من دون الناس ) ، يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم, وزعمتم أن الحق في أيديكم, وأن الدار الآخرة لكم دونهم.

وأما قوله: ( فتمنوا الموت ) فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا يعرف « التمني » بمعنى « المسألة » في كلام العرب. ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى « الأمنية » - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة, إذْ كانت المسألة، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس: ( فتمنوا الموت ) ، فسلوا الموت، ( إن كنتم صادقين ) .

القول في تأويل قوله تعالى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 95 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت, لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون, وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب, كالذي:-

حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ الآية, أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: ( ولن يتمنوه أبدا ) ، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي, فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت, ولم يكونوا ليتمنوه أبدا.

وأما قوله: ( بما قدمت أيديهم ) ، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها: « نالك هذا بما جنت يداك, وبما كسبت يداك, وبما قدمت يداك » ، فتضيف ذلك إلى « اليد » . ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.

قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى « اليد » ، لأن عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم, فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى « أيديهم » ، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده.

فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله, وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة, ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم, والبغي عليه, وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم, وأنه مما قدمته أيديهم, لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنـزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( بما قدمت أيديهم ) ، يقول: بما أسلفت أيديهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( بما قدمت أيديهم ) ، قال: إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه.

وأما قوله: ( والله عليم بالظالمين ) ، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون.

وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه, وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.

وقد دللنا على معنى « الظلم » فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) - اليهود - . يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, حدثنا الربيع، عن أبي العالية: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ومن الذين أشركوا ) ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة, كما يقال: « هو أشجع الناس ومن عنترة » بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة. فكذلك قوله: ( ومن الذين أشركوا ) . لأن معنى الكلام: ولتجدن - يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [ من ] الناس على حياة ومن الذين أشركوا. فلما أضيف « أحرص » إلى « الناس » وفيه تأويل « من » ، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل الذي ذكرنا.

وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك, فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث, ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب, فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت.

وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث .

* ذكر من قال هم المجوس:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، يعني المجوس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: المجوس.

حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد: ( ومن الذين أشركوا ) ، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة.

* ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ

قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة. يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته، أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض: « عشرة آلاف عام » حرصا منهم على الحياة، كما:-

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي عليا, أخبرنا أبو حمزة, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: هو قول الأعاجم: « سال زه نوروز مهرجان حر » .

وحدثت عن نعيم النحوي, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: « زه هزار سال » .

حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية, عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في قوله: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد, عن ابن علية, عن ابن أبي نجيح في قوله: ( يود أحدهم ) ، فذكر مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) حتى بلغ: ( لو يعمر ألف سنة ) ، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة.

وحدثت عن أبي معاوية, عن الأعمش, عن سعيد, عن ابن عباس في قوله: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: هو قول أحدهم إذا عطس: « زه هزار سال » , يقول: عشرة آلاف سنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله.

وقوله: ( هو ) عماد لطلب « ما » الاسم أكثر من طلبها الفعل, كما قال الشاعر:

فهل هو مرفوع بما ههنا رأس *

و « أن » التي في: ( أن يعمر ) ، رفع، بـ « مزحزحه » , و « هو » الذي مع « ما » تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة.

وقد قال بعضهم: إن « هو » الذي مع « ما » كناية ذكر العمر. كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة, وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل « أن يعمر » مترجما عن « هو » , يريد ما هو بمزحزحه التعمير.

وقال بعضهم: قوله: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر.

قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا, وهو أن يكون « هو » عمادا، نظير قولك: « ما هو قائم عمرو » .

وقد قال قوم من أهل التأويل: إن « أن » التي في قوله: « أن يعمر » بمعنى: وإن عمر, وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول: وإن عمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « أن يعمر » - ولو عمر.

وأما تأويل قوله: ( بمزحزحه ) ، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه, كما قال الحطيئة:

وقـالوا: تزحـزح ما بنا فضل حاجة إليـك, ومـا منــا لـوَهْيِك راقــع

يعني بقوله: « تزحزح » ، تباعد, يقال منه: « زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا, » وهو عنك متزحزح « ، أي متباعد. »

فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى الله، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - فيما أروي- عن سعيد بن جبير, أو عن عكرمة, عن ابن عباس: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، أي: ما هو بمنحيه من العذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول: وإن عُمِّر, فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منحيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ) ، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة, وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك, إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب.

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 96 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( والله بصير بما يعملون ) ، والله ذو إبصار بما يعملون, لا يخفي عليه شيء من أعمالهم, بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها.

وأصل « بصير » « مبصر » - من قول القائل: « أبصرت فأنا مبصر » ، ولكن صرف إلى « فعيل » , كما صرف « مسمع » إلى « سميع » , و « عذاب مؤلم » إلى « أليم » , « ومبدع السموات » إلى بديع, وما أشبه ذلك.

القول في تأويل قوله جل ثناؤه قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نـزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل, إذ زعموا أن جبريل عدو لهم, وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم, ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال: » نشدتكم بالذي أنـزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه, فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر: فيما أروي: وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنـزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ, وأن ماء المرأة أصفر رقيق, فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله, فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال: وأنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل, ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك, لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك. قال: « فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنـزل الله عز وجل: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، فعندها باءوا بغضب على غضب. »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين - يعني المكي- , عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة, ونطفة المرأة صفراء رقيقة, فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها, وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها, فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون أنه جبريل، وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم, ولكنه لنا عدو, وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء, فلولا ذلك اتبعناك. فأنـزل الله فيهم: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك ) إلى قوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينـزل عليه بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنـزل: ( من كان عدوا لجبريل ) الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينـزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! فنـزل: ( من كان عدوا لجبريل ) الآية.

وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, قال: نـزل عمر الروحاء, فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها, فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره ذلك وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه, أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا به, فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم! إذا هلكتم! قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة, وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا, وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منـزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما, ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل, ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم, فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان، فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نـزلن؟ فقرأ على: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر!

حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود, فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم, ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه, فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على سرنا, وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل, وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم, فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم, فوجده قد أنـزل عليه هذه الآية: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما، فذكر نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( من كان عدوا لجبريل ) ، قال: قالت اليهود: إن جبريل هو عدونا، لأنه ينـزل بالشدة والحرب والسنة, وإن ميكائيل ينـزل بالرخاء والعافية والخصب, فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: ( من كان عدوا لجبريل ) .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) ، قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة, فكان يأتيها, وكان ممره على طريق مدراس اليهود, وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا, وتمر بنا فلا تؤذينا, وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأَسْكتوا. فقال: تكلموا، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى بعض, فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو لأخبرنه. قالوا: نعم, إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا, وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف, ولو أنه كان وليه ميكائيل، إذًا لآمنا به, فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء, أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم, فوجد جبريل قد سبقه بالوحي, فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه, فقال عمر: والذي بعثك بالحق, لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك!

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير, عن مجالد, عن الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة, وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد, وهو عدونا من الملائكة, وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى, ما منـزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله, وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل, وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [ فبينما هو عندهم ] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنـزل عليه: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ليلى في قوله: ( من كان عدوا لجبريل ) . قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينـزل عليكم لتبعناكم, فإنه ينـزل بالرحمة والغيث, وإن جبريل ينـزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنـزلت هذه الآية: ( من كان عدوا لجبريل ) .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء بنحو ذلك.

قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) - فهو: أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنـزيل ورحمة, فأبوا اتباعك، وجحدوا نبوتك, وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك, وزعموا أنه عدو لهم - : من يكن من الناس لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل, ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله, وأنه هو الذي ينـزل وحي الله على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي، ويشد فؤادي، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( قل من كان عدوا لجبريل ) ، قال: وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة, فأخبرهم بها على ما هي عندهم - « إلا جبريل » , فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة, ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني: تنـزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه: أن جبريل صاحب وحي الله, وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنـزل الله عز وجل إكذابا لهم: ( قل ) يا محمد: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك ) ، يقول: فإن جبريل نـزله. يقول: نـزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك « , يعني: بوحينا الذي نـزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك. »

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) ، يقول: أنـزل الكتاب على قلبك بإذن الله.

وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( فإنه نـزله على قلبك ) ، يقول: نـزل الكتاب على قليك جبريل.

قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: ( فإنه نـزله على قلبك ) - وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم, وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل: فإنه نـزله على قلبي ولو قيل: « على قلبي » كان صوابا من القول لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه, إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في نظير ذلك: « قل للقوم إن الخير عندي كثير » - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه- : و « قل للقوم إن الخير عندك كثير » - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك: « لا تقل للقوم إني قائم » و « لا تقل لهم إنك قائم » , و « الياء » من « إني » اسم المأمور بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ و ( تغلبون ) [ آل عمران: 12 ] ، بالياء والتاء.

وأما « جبريل » فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون « جبريل، وميكال » بغير همز، بكسر الجيم والراء من « جبريل » وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة.

أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون: « جَبرئيل وميكائيل » على مثال « جبرعيل وميكاعيل » ، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة, كما قال جرير بن عطية:

عبــدوا الصليـب وكذبـوا بمحـمد وبجَــــبرَئيل وكذبــــوا ميكــــالا

وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن: « جبريل » بفتح الجيم. وترك الهمز.

قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها, لأن « فعليل » في كلام العرب غير موجود. وقد اختار ذلك بعضهم, وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال: « سمويل » , وأنشد في ذلك:

بحـيث لـو وزنـت لخـم بأجمعهـا مـا وازنـت ريشــة مـن ريش سـمويلا

وأما بنو أسد فإنها تقول « جِبرين » بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في « جبريل » « ألفا » فتقول: جبراييل وميكاييل.

وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ: « جَبْرَئِلّ » بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام.

فأما « جبر » و « ميك » ، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى: « عبد » ، والآخر بمعنى: « عبيد » .

وأما « إيل » فهو الله تعالى ذكره، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: « جبريل » و « ميكائيل » ، كقولك: عبد الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « جبريل » عبد الله؛ و « ميكائيل » ، عبيد الله. وكل اسم « إيل » فهو: الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إسماعيل بن رجاء, عن عمير مولى ابن عباس: أن « إسرائيل، وميكائيل وجبريل، وإسرافيل » كقولك: عبد الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن عبد الله بن الحارث قال: « إيل » ، الله، بالعبرانية.

حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن منصور قال، حدثنا قيس, عن عاصم, عن عكرمة، قال: « جبريل » اسمه: عبد الله؛ و « ميكائيل » اسمه: عبيد الله. « إيل » : الله.

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين قال: اسم « جبريل » عبد الله, واسم « ميكائيل » عبيد الله, واسم « إسرافيل » : عبد الرحمن. وكل معبد، « إيل » ، فهو عبد الله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين, قال: ما تعدون « جبريل » في أسمائكم؟ قال: « جبريل » عبد الله, و « ميكائيل » عبيد الله. وكل اسم فيه « إيل » ، فهو مُعَبَّدٌ لله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين قال: قال لي: هل تدري ما اسم « جبريل » من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله. قال: فهل تدري ما اسم « ميكائيل » من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبيد الله. وقد سمى لي « إسرائيل » باسم نحو ذلك فنسيته, إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى « إيل » فهو معبد له.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن عكرمة في قوله: ( جبريل ) قال: « جبر » عبد, « إيل » الله, و « ميكا » قال: عبد. « إيل » : الله.

قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ « جبرئيل » بالفتح، والهمز، والمد. وهو - إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز.

وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام, فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة « جبر » و « ميكا » إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني. وذلك أن « الإلّ » بلسان العرب: الله، كما قال: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً [ التوبة: 10 ] . فقال جماعة من أهل العلم: « الإل » هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول, فأخبروه - فقال لهم: ويحكم « أين ذهب بكم؟ والله, إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني » من إل « : من الله وقد:- »

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز في قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً قال: قول « جبريل » و « ميكائيل » و « إسرافيل » .

كأنه يقول: حين يضيف « جبر » و « ميكا » و « إسرا » إلى « إيل » يقول: عبد الله. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا ، كأنه يقول: لا يرقبون الله عز وجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( مصدقا لما بين يديه ) ، القرآن. ونصب « مصدقا » على القطع من « الهاء » التي في قوله: نَـزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ .

فمعنى الكلام: فإن جبريل نـزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه, ونـزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله, وهي تصدقه. كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس. ( مصدقا لما بين يديه ) ، يقول: لما قبله من الكتب التي أنـزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( مصدقا لما بين يديه ) ، من التوراة والإنجيل.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 97 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وهدى ) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه « هدى » ، لاهتداء المؤمن به. و « اهتداؤه به » اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و « الهادي » من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل: « هواديها » , وهو ما تقدم أمامها, وكذلك قيل للعنق: « الهادي » , لتقدمها أمام سائر الجسد.

وأما « البشرى » فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته, وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه، وذلك هو « البشرى » التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره.

وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هدى وبشرى للمؤمنين ) ، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه, وكان على يقين من ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ( 98 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله، من عاداه، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل، وعادى جميع ملائكته ورسله. لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته, ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة, ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته. لأن العدو لله عدو لأوليائه, والعدو لأولياء الله عدو له. فكذلك قال لليهود - الذين قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة, وميكائيل ولينا منهم- : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) ، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو, وكذلك عدو بعض رسل الله، عدو لله ولكل ولي. وقد:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله - يعني العتكي - ، عن رجل من قريش قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنـزل الله: ( من كان عدوا لله وملائكته ) الآية.

حدثت عن عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو عدو لنا. فقال له عمر: ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) . قال: فنـزلت على لسان عمر.

وهذا الخبر يدل على أن الله أنـزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو, وأن عدو محمد من الناس كلهم، لمن الكافرين بالله، الجاحدين آياته.

فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟

قيل: بلى.

فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما, وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟

قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما، أن اليهود لما قالت: « جبريل عدونا، وميكائيل ولينا » - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا, فإن الله له عدو, وأنه من الكافرين. فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه, لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله, ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء. لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: ( ورسله ) ، فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم, ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين.

وأما إظهار اسم الله في قوله: ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: ( من كان عدوا لله وملائكته ) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية, فقيل: « فإنه عدو للكافرين » ، على سامعه، من المَعْنِيّ بـ « الهاء » التي في « فإنه » : أألله، أم رسل الله جل ثناؤه, أم جبريل, أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك، لاحتمال الكلام ما وصفت، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر:

ليـت الغـراب غـداة ينعَـب دائمـا كــــان الغــــراب مقطـــع الأوداج

وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر في ذلك بخلاف ما قال. وذلك أن « الغراب » الثاني لو كان مكنى عنه، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم « الغراب » الأول, إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه غير كناية اسم « الغراب » الأول - وأن قبل قوله: ( فإن الله عدو للكافرين ) أسماء، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه، لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم، إلا بتوقيف من حجة. فلذلك اختلف أمراهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولقد أنـزلنا إليك آيات ) ، أي أنـزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنـزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل, والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنـزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات ) يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك, وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا, وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة مولى ابن عباس, وعن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه, وما أنـزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! فأنـزل الله عز وجل: ( ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) !

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ) ، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى « الكفر » الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا. وكذلك بينا معنى « الفسق » ، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره.

فتأويل الآية: ولقد أنـزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم، ونبي مبعوث, وما يجحد تلك الآيات الدالات على صدقك ونبوتك، التي أنـزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم إلا الخارج منهم من دينه, التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم حكم كتابه, فإنه بالذي أنـزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 100 )

قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم « الواو » التي في قوله: ( أو كلما عاهدوا عهدا ) . فقال بعض نحويي البصريين: هي « واو » تجعل مع حروف الاستفهام, وهي مثل « الفاء » في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [ البقرة: 87 ] ، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه, وهي مثل « الفاء » التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا, وكقولك للرجل: « أفلا تقوم » ؟ وإن شئت جعلت « الفاء » و « الواو » هاهنا حرف عطف.

وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام.

والصواب في ذلك عندي من القولة أنها « واو » عطف، أدخلت عليها « ألف » الاستفهام, كأنه قال جل ثناؤه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) ثم أدخل « ألف » الاستفهام على « وكلما » فقال : ( قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )

وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له, فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن « الواو » و « الفاء » من قوله: ( أو كلما ) و ( أفكلما ) زائدتان لا معنى لهما.

وأما « العهد » ، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى, ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته, فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه- : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنـزل الله جل ثناؤه: ( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس مثله.

قال أبو جعفر: وأما « النبذ » فإن أصله - في كلام العرب- الطرح, ولذلك قيل للملقوط: « المنبوذ » ، لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ « نبيذا » , لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله « مفعول » صرف إلى « فعيل » , أعني أن « النبيذ » أصله « منبوذ » ثم صرف إلى « فعيل » فقيل: « نبيذ » ، كما قيل: « كف خضيب، ولحية دهين » - يعني: مخضوبة ومدهونة. يقال منه: « نبذته أنبذه نبذا » , كما قال أبو الأسود الدؤلي:

نظــرت إلــى عنوانــه فنبذتـه كنبذك نعـلا أخلقت مــن نعالكــا

فمعنى قوله جل ذكره: ( نبذه فريق منهم ) ، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( نبذه فريق منهم ) يقول: نقضه فريق منهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( نبذه فريق منهم ) ، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه, ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: ( نقضه فريق منهم ) .

و « الهاء » التي في قوله: ( نبذه ) ، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم.

و « الفريق » الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنـزلة « الجيش » و « الرهط » الذي لا واحد له من لفظه.

و « الهاء والميم » اللتان في قوله: ( فريق منهم ) ، من ذكر اليهود من بني إسرائيل.

وأما قوله: ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون.

ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم, ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه.

والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله, ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى « الإيمان » ، وأنه التصديق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 101 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولما جاءهم ) ، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - ( رسول ) ، يعني بالرسول: محمدا صلى الله عليه وسلم. كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( ولما جاءهم رسول ) ، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: ( مصدق لما معهم ) ، فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه.

وأما تأويل قوله: ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ) ، فإنه للذي هو مع اليهود, وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله, ( نبذ فريق ) , يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: ( من الذين أوتوا الكتاب ) . وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: ( كتاب الله ) ، التوراة.

وقوله: ( وراء ظهورهم ) ، جعلوه وراء ظهورهم. وهذا مثل, يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: « قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره » , يعني به: أعرض عنه وصد وانصرف، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) ، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها, فاتفقت التوراة والقرآن, فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. فذلك قوله الله: ( كأنهم لا يعلمون ) .

ومعنى قوله: ( كأنهم لا يعلمون ) ، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة, وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) ، يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب « كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون ) : أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا. »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) ، الفريق من أحبار اليهود وعلمائها، الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنـزله على موسى، وراء ظهورهم, تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون, كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منـزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم, ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه, وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه، وذلك هو الخسار والضلال المبين.

واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) . فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة, فوجدوا التوراة للقرآن موافقة, تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) - على عهد سليمان - قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء, فتقعد منها مقاعد للسمع, فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر, فيأتون الكهنة فيخبرونهم, فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق, ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق, وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان, وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان, وخلف بعد ذلك خلف, تمثل الشيطان في صورة إنسان, ثم أتى نفرا من بني إسرائيل, فقال: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم, فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها, فذلك حين يقول: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة, لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنـزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنـزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به, فأنـزل الله جل وعز: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك, فدفنوه تحت مجلس سليمان - وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، قال: لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الآية، قال: اتبعوا السحر, وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .

وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان، فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام, فكتبوا أصناف السحر: « من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا, فليفعل كذا وكذا » . حتى إذا صنعوا أصناف السحر, جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان, وكتبوا في عنوانه: « هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم » ، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا, فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه, فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نـزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين, قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنـزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .

قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع الله إلى سليمان ملكه, قام الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك, فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان, وقالوا: هذا كتاب من الله نـزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا, فأنـزل الله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ) ، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل, وتأنيب منه لهم في رفضهم تنـزيله, وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله, واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: ( واتبعوا ) بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا - من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) - إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول, ولا حجة تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية, على النحو الذي قلنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ما تتلوا الشياطين ) ، الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.

واختلف في تأويل قوله: ( تتلو ) . فقال بعضهم: يعني بقوله: ( تتلو ) ، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو « تِلاوة » الرجل للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو, عن مجاهد في قول الله: ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) ، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي, فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) ، من الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم, ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: ( واتبعوا ما تتلوا الشياطين ) ، قال: نراه ما تحدث.

حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان, فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر, ثم دفنوها تحت كرسي سليمان, ثم أخرجوها فقرءوها على الناس.

وقال آخرون: معنى قوله: ( ما تتلو ) ، ما تتبعه وترويه وتعمل به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي, عن أسباط, عن السدي, عن أبي مالك, عن ابن عباس: ( تتلوا ) ، قال: تتبع.

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم, عن سفيان الثوري, عن منصور, عن أبي رزين مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين.

ولقول القائل: « هو يتلو كذا » في كلام العرب معنيان. أحدهما: الاتباع, كما يقال: « تلوت فلانا » إذا مشيت خلفه وتبعت أثره, كما قال جل ثناؤه: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [ يونس: 30 ] ، يعني بذلك تتبع.

والآخر: القراءة والدراسة, كما تقول: « فلان يتلو القرآن » , بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه, كما قال حسان بن ثابت:

نبـي يـرى مـا لا يـرى الناس حوله ويتلـو كتـاب اللـه فـي كـل مشهد

ولم يخبرنا الله جل ثناؤه - بأي معنى « التلاوة » كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان - بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل, ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مُلْكِ سُلَيْمَانَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( على ملك سليمان ) ، في ملك سليمان. وذلك أن العرب تضع « في » موضع « على » و « على » في موضع « في » . من ذلك قول الله جل ثناؤه: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ سورة طه: 71 ] يعني به: على جذوع النخل, وكما قالوا: « فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا » ، بمعنى واحد. وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: ( على ملك سليمان ) ، يقول: في ملك سليمان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق في قوله: ( على ملك سليمان ) ، أي: في ملك سليمان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان, بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟

قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود, نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته, وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك - من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر - أنفسهم، عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه, وعند من كان لا علم له بما أنـزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان - من سليمان, وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم - منهم بشر, وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها, وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا, وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ما تلته الشياطين في عهد سليمان, دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنـزله على موسى صلوات الله عليه.

* ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر, فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه, فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنـزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان. فقال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الآية, فأنـزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام.

حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة, وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم, فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به, أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه, فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان, ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه, حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنـزل جل ثناؤه: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ - يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر - ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، فأنـزل الله جل وعز وعذره.

حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير, عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا, فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها, فإذا حدث منه صدق، كذب معها سبعين كذبة. قال: فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنـزه الممنع الذي لا كنـز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم - حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق - فأنـزل الله عذر سليمان: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم, ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب, فأتى بها فدفنها تحت كرسيه، كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس, فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك, فقال جل ثناؤه: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك, ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب, فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل وعز: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء, فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: « من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا, ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا » . فكتبته وجعلت عنوانه: « هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم » , ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نبيا, وإنما كان ساحرا, فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا, وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود وسليمان, فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء, وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنـزل الله عذر سليمان: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني- لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين, قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنـزل الله في ذلك من قولهم: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ،- أي باتباعهم السحر وعملهم به- وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ .

قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله: ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ما ذكرنا فبين أن في الكلام متروكا، ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه, وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان, وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) على ما قلنا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، يقول: ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه.

وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى تَتْلُو , وتوجيه من وجه ذلك إلى أن تَتْلُو بمعنى « تلت » ، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: وَاتَّبَعُوا ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

وأما معنى قوله: مَا تَتْلُو ، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو السحر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، أي السحر.

قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟

قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك, وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم, وقد كانوا قبل سليمان, وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر.

[ فإن ] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما قد قدمنا البيان عنه, فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت كرسيه, على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل « ما » التي في قوله: ( وما أنـزل على الملكين ) . فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى « لم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فإنه يقول: لم ينـزل الله السحر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس: ( وما أنـزل على الملكين ) ، قال: ما أنـزل الله عليهما السحر.

فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله: ( وما أنـزل على الملكين ) إلى: ولم ينـزل على الملكين- : واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر, وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر « ببابل هاروت وماروت » . فيكون حينئذ قوله: « ( ببابل هاروت وماروت ) ، من المؤخر الذي معناه التقديم. »

فإن قال لنا قائل: وكيف - وجه تقديم ذلك؟

قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ من السحر ] ، وما أنـزل [ الله السحر ] على الملكين, ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت - فيكون معنيا بـ « الملكين » : جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينـزلا بسحر قط, وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر, فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين, وأنها تعلم الناس [ ذلك ] ببابل, وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون « هاروت وماروت » ، على هذا التأويل، ترجمة على النَّاسَ وردا عليهم.

وقال آخرون: بل تأويل « ما » التي في قوله: ( وما أنـزل على الملكين ) - « الذي » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر, قال قتادة والزهري عن عبد الله: ( وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها, ثم ذهبا يصعدان, فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر, فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه بما أنـزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين, وسحر يعلمه هاروت وماروت.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، قال: التفريق بين المرء وزوجه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ) ، فقرأ حتى بلغ: فَلا تَكْفُرْ ، قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر.

قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنـزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله, سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى.

قال أبو جعفر إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينـزل الله السحر, أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟

قلنا له: إن الله عز وجل قد أنـزل الخير والشر كله, وبين جميع ذلك لعباده, فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.

وليس في العلم بالسحر إثم, كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر, وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به.

فليس في إنـزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهياه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به, إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك, لم يكن من تعلمه حرجا, كما لم يكونا حرجين لعلمهما به. إذ كان علمهما بذلك عن تنـزيل الله إليهما.

وقال آخرون: معنى « ما » معنى « الذي » , وهي عطف على « ما » الأولى. غير أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه.

فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان, والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا . وكان يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين, وأما الذي يعلم الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه, كما قال الله تعالى.

وقال آخرون: جائز أن تكون « ما » بمعنى « الذي » , وجائز أن تكون « ما » بمعنى « لم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد - وسأله رجل عن قول الله: ( يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنـزل عليهما, أم يعلمان الناس ما لم ينـزل عليهما؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.

*

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض, عن بعض أصحابه, أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره: ( وما أنـزل على الملكين ) ، فقيل له: أنـزل أو لم ينـزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان, إلا أني آمنت به. .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه « ما » التي في قوله: ( وما أنـزل على الملكين ) إلى معنى « الذي » ، دون معنى « ما » التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن « ما » إن وجهت إلى معنى الجحد, تنفي عن « الملكين » أن يكونا منـزلا إليهما، ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني « هاروت وماروت » - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما أو بدلا من النَّاسَ في قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وترجمة عنهما. فإن جعلا بدلا من « الملكين » وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ . لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه, فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟

وبعد, فإن « ما » التي في قوله: ( وما أنـزل على الملكين ) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين.

وإن كان قوله « هاروت وماروت » ترجمة عن « الناس » الذين في قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر, وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك, فلن يخلو « هاروت وماروت » - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين:

إما أن يكونا ملكين, فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس, وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول.

أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم. لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم, فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما. وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم, لم يعدما من الأرض منذ خلقت, ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله.

فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها, فبَيِّنٌ أن معنى ( ما ) التي في قوله: ( وما أنـزل على الملكين ) بمعنى « الذي » , وأن « هاروت وماروت » ، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما, لأنهما في موضع خفض على الرد على « الملكين » . ولكنهما لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما.

فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنـزال ذلك على الملائكة؟

قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه, ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك, لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه, فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنـزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر, فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما, ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين, إذْ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله, فلم يكن ذلك لهم ضائرا، إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به, بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك، كما:-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوف, عن الحسن في قوله: ( وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) إلى قوله: فَلا تَكْفُرْ ، أخذ عليهما ذلك.

ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين, ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: ( ببابل ) :

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب, عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم, فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك, وأسجدت له ملائكتك, وعلمته أسماء كل شيء, يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض, وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا, ولا يزنيا, ولا يشربا الخمر, ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها « بيذخت » فلما أبصراها أرادا بها زنا, فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر, أفرج الله السماء لملائكته, فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختارا عذاب الدنيا, فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حجاج, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا, دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنـزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونـزلتم لفعلتم أيضا! قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض، وأنـزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس, وكان أهل فارس يسمونها « بيذخت » . قال: فوقعا بالخطيئة, فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا . فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا.

حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد, عن خالد الحذاء, عن عمير بن سعيد قال، سمعت عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس, وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها, فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا.

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل - وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق - جميعا, عن الثوري, عن موسى بن عقبة, عن سالم, عن ابن عمر, عن كعب قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب, فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت وماروت, فقيل لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول, انـزلا لا تشركا بي شيئا, ولا تزنيا, ولا تشربا الخمر. قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى في حديثه: فما استكملا يومهما الذي أنـزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما.

حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار, عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي, فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت, فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس, وليس بيني وبينكما رسول, انـزلا إلى الأرض, ولا تشركا بي شيئا, ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نـزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم, فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نـزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انـزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنـزلا ببابل دنباوند, فكانا يحكمان, حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها, فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية، « الزُّهَرة » , وبالنبطية « بيذخت » , واسمها بالفارسية « أناهيذ » - فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم, ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها, فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها, فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها, قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنـزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنـزل به فبقيت مكانها, وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا الهلك, فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة, فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة, فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر.

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله, قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك, وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. فلم يعذروهم, فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض, وجعل بهما شهوات بني آدم, وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا, ونهيا عن قتل النفس الحرام, وأكل المال الحرام, والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، فخضعا لها بالقول, وأراداها على نفسها, وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها, وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه, فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله, ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم, قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم, أو تقتلا النفس, أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي, وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر, حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك, فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا, فحيل بينهما وبين ذلك, وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب, فعجبوا كل العجب, وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة, قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا, فجعلا ببابل, فهما يعذبان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة, عن معاوية بن صالح, عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر, فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا - مرتين أو ثلاثا- ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا, فاختاروا هاروت وماروت. »

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت, فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنـزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما حين أنـزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم, وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء, وأنتما ليس بيني وبينكما رسول, فافعلا كذا وكذا, ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر ونهاهما. ثم نـزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم, فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة, وينـزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنـزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم, فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في نفسه, فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالا لها - وقضيا لها- : ائتينا! فأتتهما, فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا, طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم, فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له, فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. فأمرا أن ينـزلا ببابل, فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما.

قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: ( وما أنـزل على الملكين ) ، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، فأما من جهة النقل، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها.

وأمأ قوله ( ببابل ) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها « بابل دُنْبَاوَنْد » .

حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي.

وقال بعضهم: بل ذلك « بابل العراق » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة, فذكرت أنها صارت في العراق ببابل, فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر.

قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر, فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر, حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء, ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته: يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:-

حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن هشام بن عروة، عن أبيه, عن عائشة قالت، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم, حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق.

وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته, واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات, لم يكن بين الحق والباطل فصل, ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [ سورة طه: 66 ] ، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذْ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله, أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره, ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان وصحة ما قلنا.

وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا, وأن يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك بما:-

حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل, جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك, تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي, فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها, كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني, فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها, فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين, فركبت أحدهما وركبت الآخر, فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل, فإذا برجلين معلقين بأرجلهما, فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت ففزعت فلم أفعل, فرجعت إليهما, فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي, ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت, فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت, فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي, ارجعي إلى بلادك ولا تكفري, فإنك على رأس أمرك! فأربيت وأبيت, فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه, فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه, فقالا صدقت, ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى, لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت, وقلت: أطلعي! فأطلعت, وقلت: أحقلي! فأحقلت, ثم قلت: أفركي! فأفركت, ثم قلت: أيبسي! فأيبست, ثم قلت: أطحني! فأطحنت, ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا.

قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا, وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان, لم يكن تفريقا على صحة, وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة.

وقال آخرون: بل « السحر » أخذ بالعين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنـزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: إذا أتاهما - يعني هاروت وماروت - إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة! فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء - وذلك الإيمان - وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه, فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) الآية .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة والحسن: ( حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) ، قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر, فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا « إنما نحن فتنة فلا تكفر » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا « إنما نحن فتنة فلا تكفر » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوف, عن الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا « إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ » . لا يجترئ على السحر إلا كافر.

وأما الفتنة في هذا الموضع, فإن معناها: الاختبار والابتلاء, من ذلك قول الشاعر.

وقــد فتــن النــاس فـي دينهـم وخــلى ابـن عفـان شـرا طـويلا

ومنه قوله: « فتنت الذهب في النار » ، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته، « أفتنه فتنة وفتونا » ، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة ( إنما نحن فتنة ) ، أي بلاء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ

قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: ( فيتعلمون منهما ) ، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنـزل عليهما, وليس بجواب لقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع فقيل: « فيتعلمون » . فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه.

وقد قيل: إن قوله: ( فيتعلمون ) ، خبر عن اليهود معطوف على قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، « فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) . وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم. »

والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام.

و « الهاء » و « الميم » و « الألف » من قوله: ( منهما ) ، من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.

و « ما » التي مع « يفرقون » بمعنى « الذي » . وقيل: معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل.

وأما « المرء » ، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني آدم, والأنثى منه « المرأة » . يوحد ويثنى, ولا تجمع ثلاثته على صورته, يقال منه: « هذا امرؤ صالح, وهذان امرآن صالحان » . ولا يقال: هؤلاء امرؤو صدق, ولكن يقال: « هؤلاء رجال صدق » , وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه امرأة، وهاتان امرأتان « . ولا يقال: هؤلاء امرآت, ولكن: » هؤلاء نسوة « . »

وأما « الزوج » , فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: « هي زوجه » بمنـزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [ سورة الأحزاب: 37 ] ، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: « هي زوجته » . كما قال الشاعر:

وإن الـذي يمشـي يحـرش زوجـتي كمـاش إلـى أسـد الشـرى يسـتبيلها

فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى « السحر » : تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه, فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا. فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) ، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه, ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه.

وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه, فإنهم وجهوا تأويل قوله: ( فيتعلمون منهما ) إلى « فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه, كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا » , أي مكان كذا، كما قال الشاعر:

ججَـمَعَت مـن الخـيرات وَطبا وعلبة وصــرا لأخـلاف المُزَنَّمـة الـبزل

ومـن كـل أخـلاق الكـرام نميمـة وسـعيا عـلى الجـار المجاور بالنَّجْل

يريد بقوله: « جمعت من الخيرات » , مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر:

صلـدت صفـاتك أن تليـن حيودهـا وورثـت مـن سـلف الكـرام عقوقا

يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ

قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه, بضارين - بالذي تعلموه منهما، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه - من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى, فإن ذلك غير ضاره، ولا نائله أذاه.

وللإذن « في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر - فكيف به على وجه السحر؟ - على لسان الأمة. »

ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه.

ومنها العلم بالشيء, يقال منه: « قد أذنت بهذا الأمر » إذا علمت به « آذن به إذنا » ، ومنه قول الحطيئة:

ألا يــا هنــد إن جـددت وصـلا وإلا فـــــأذنيني بــــانصرام

يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [ سورة البقرة: 279 ] ، وهذا هو معنى الآية, كأنه قال جل ثناؤه: وما هم بضارين، بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان في قوله: ( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) ، قال: بقضاء الله.

القول في تأويل قوله تعالى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ( ويتعلمون ) ، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنـزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه, يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا, فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم, نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون, واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون - من يهود بني إسرائيل - كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به, بعد إنـزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم, وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم, المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان, والذي أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنـزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما له في الآخرة من خلاق.

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه.

قال أبو جعفر: وأما قوله: ( لمن اشتراه ) ، فإن « من » في موضع رفع, وليس قوله: ( ولقد علموا ) بعامل فيها. لأن قوله: ( ولقد علموا ) ، بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: ( قد علموا ) بمعنى اليمين، حققت بـ « لام اليمين » , فقيل: ( لمن اشتراه ) ، كما يقال: « أقسم لمن قام خير ممن قعد » . وكما يقال: « قد علمت، لعمرو خير من أبيك » .

وأما « من » فهو حرف جزاء. وإنما قيل « اشتراه » ولم يقل « يشتروه » , لدخول « لام القسم » على « من » . ومن شأن العرب - إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم - أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ « فعل » دون « يفعل » ، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم, كما قال الله جل ثناؤه: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [ سورة الحشر: 12 ] ، وقد يجوز إظهار فعله بعده على « يفعل » مجزوما,

كما قال الشاعر:

لئـن تـك قـد ضـاقت عليكم بيوتكم ليعلــم ربــي أن بيتــي واســع

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ما له في الآخرة من خلاق ) . فقال بعضهم: « الخلاق » في هذا الموضع: النصيب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، يقول: من نصيب.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، من نصيب.

حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: ( وما له في الآخرة من خلاق ) ، أنه ما له في الآخرة من نصيب.

وقال بعضهم: « الخلاق » ههنا الحجة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: ( وما له في الآخرة من خلاق ) ، قال: ليس له في الآخرة حجة.

وقال آخرون: الخلاق: الدين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال: ليس له دين.

وقال آخرون: « الخلاق » ههنا القوام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، قال: قوام.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى « الخلاق » في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:

« ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم » .

يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

يَدْعُـون بـالويل فيهـا لا خَـلاق لهم إلا ســرابيلُ مــن قِطْـر وأغـلال

يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال.

فكذلك قوله: ( ما له في الآخرة من خلاق ) : ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه, فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: ( ما له في الآخرة من خلاق ) ، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة, وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم - التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب - على مراده من الخبر, وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات, وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 102 )

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى « شروا » : « باعوا » . فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي ( ولبئس ما شروا به أنفسهم ) ، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ؟ وقد قال قبل: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم, وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟

قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم, وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله, ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم, ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون, ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: ( لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه, وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة, جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف حلاله وحرامه، وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق - الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنـزل على الملكين - فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها, ويكفرون بالله ورسله, ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنـزيله, عنادا منهم، وبغيا على رسله, وتعديا منهم لحدوده, على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله.

وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، يعني به الشياطين, وأن قوله: ( لو كانوا يعلمون ) ، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف. وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، معني به اليهود دون الشياطين: ثم هو - مع ذلك - خلاف ما دل عليه التنـزيل. لأن الآيات قبل قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، وبعد قوله: ( لو كانوا يعلمون ) ، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم, وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم, مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، أحد تلك الأخبار عنهم.

وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: ( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) ، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: ( لو كانوا يعلمون ) - بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا - من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه, وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما: « لو علمت لأقصرت » كما قال كعب بن زهير المزني, وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:

إذ إذا حـضراني قلـت: لـو تعلمانه!! ألـم تعلمـا أنـي مـن الـزاد مرمل

فأخبر أنه قال لهما: « لو تعلمانه » , فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ و ( لو كانوا يعلمون )

وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا وقوله: ( لو كانوا يعلمون ) ، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه, حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نـزل القرآن أولى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 103 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) ، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه، « آمنوا » فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم, و « اتقوا » ربهم فخافوه فخافوا عقابه, فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به، « لو كانوا يعلمون » أن ثواب الله إياهم على ذلك خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: ( لو كانوا يعلمون ) العلم عنهم: أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله، وقدر جزائه على طاعته.

و « المثوبة » في كلام العرب، مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة « . فأصل ذلك من: » ثاب إليك الشيء « بمعنى: رجع. ثم يقال: » أثبته إليك « : أي، رجعته إليك ورددته. فكان معنى » إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها « : إرجاعه إليه منها بدلا ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه: مثيبا له. ومنه » ثواب « الله عز وجل عباده على أعمالهم, بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه, حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له. »

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه - عن ذكر جوابه. وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله: لأثيبوا.

وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك, ويرى أن جواب قوله: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) ، ( لمثوبة ) ، وأن « لو » إنما أجيبت « بالمثوبة » , وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى « لئن » في أنهما جزاءان, فإنهما جوابان للإيمان. فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت « لو » بجواب « لئن » , و « لئن » بجواب « لو » ، لذلك، وإن اختلفت أجوبتهما، فكانت « لو » من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل, وكانت « لئن » من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما وصفنا من تقاربهما. فكان يتأول معنى قوله: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا ) : ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير.

وبما قلنا في تأويل « المثوبة » قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لمثوبة من عند الله ) ، يقول: ثواب من عند الله.

حدثني يونس قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله ) ، أما « المثوبة » , فهو الثواب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير ) ، يقول: لثواب من عند الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( لا تقولوا راعنا ) . فقال بعضهم: تأويله: لا تقولوا خلافا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء في قوله: ( لا تقولوا راعنا ) ، قال: لا تقولوا خلافا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا خلافا.

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن رجل عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن مجاهد مثله.

وقال آخرون: تأويله: أَرْعِنَا سمعك. أي: اسمع منا ونسمع منك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: ( راعنا ) ، أي: أَرْعِنا سمعك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله جل وعز: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.

وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( راعنا ) ، قال: كان الرجل من المشركين يقول: أَرْعِني سمعك.

ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا « راعنا » . فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة, فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) قول كانت تقوله اليهود استهزاء, فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري, عن فضيل بن مرزوق, عن عطية: ( لا تقولوا راعنا ) ، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا ) ، كما قالت اليهود والنصارى.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين, فقال الله: ( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) .

وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( لا تقولوا راعنا ) ، قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك! وإنما « راعنا » كقولك، عاطنا.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) قال: « راعنا » القول الذي قاله القوم، قالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [ سورة النساء: 46 ] قال: « قال: هذا الراعن » - والراعن: الخطاء - قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا خطاء، كما قال القوم، وقولوا: انظرنا واسمعوا. قال: كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه، ويسمع منهم, ويسألونه ويجيبهم.

وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها, فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن عطاء في قوله: ( لا تقولوا راعنا ) ، قال: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية, فنـزلت هذه الآية: ( لا تقولوا راعنا ) ولكن قولوا انظرنا ) إلى آخر الآية.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء قال: ( لا تقولوا راعنا ) ، قال: كانت لغة في الأنصار.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء مثله.

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق, عن ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( لا تقولوا راعنا ) ، قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أَرْعِني سمعك! فنهوا عن ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « راعنا » ، قول الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه، يقال له: رفاعة بن زيد. كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له, وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه, فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) ، كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا لقيه فكلمه قال: أَرْعِني سمعك، واسمع غير مسمع فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا, فكان ناس منهم يقولون: « اسمع غير مسمع » , كقولك اسمع غير صاغر وهي التي في النساء مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ [ سورة النساء: 46 ] ، يقول: إنما يريد بقوله طعنا في الدين. ثم تقدم إلى المؤمنين فقال: « لا تقولوا راعنا » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه: « راعنا » أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم, نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة » .

و « لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي » .

وما أشبه ذلك، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب, فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات.

فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في « العنب » أن يقال له « كرم » , وفي « العبد » أن يقال له « عبد » , فما المعنى الذي في قوله: ( راعنا ) حينئذ، الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين عن أن يقولوه, حتى أمرهم أن يؤثروا قوله: انْظُرْنَا ؟

قيل: الذي فيه من ذلك, نظير الذي في قول القائل: « الكرم » للعنب, و « العبد » للمملوك. وذلك أن قول القائل: « عبدي » لجميع عباد الله, فكره للنبي صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله, وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل, فيقال: « فتاي » . وكذلك وجه نهيه في « العنب » أن يقال: « كرم » خوفا من توهم وصفه بالكرَم, وإن كانت مُسَكَّنَة, فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد. فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا: « راعنا » , لما كان قول القائل: « راعنا » محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض: « رعاك الله » : بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك, من قولهم: « أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة » , بمعنى: فرغته لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميمون بن قيس:

يُـرْعِي إلـى قـول سادات الرجال إذا أبـدوا لـه الحـزم أو ما شاءه ابتدعا

يعني بقوله « يرعى » ، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.

وكان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه, حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم. فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء, وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها, ومن المعاني أرقها. فكان من ذلك قولهم: ( راعنا ) لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك, إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين, كما يقول القائل: « عاطنا، وحادثنا، وجالسنا » , بمعنى: افعل بنا ونفعل بك - ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم, وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له, ولا بالفظاظة والغلظة, تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له: ( اسمع غير مسمع وراعنا ) .

يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَـزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه، مما يسر اليهود والمشركين.

فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: ( راعنا ) أنه بمعنى: خلافا, فمما لا يعقل في كلام العرب. لأن « راعيت » في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى « فاعلت » من « الرِّعْية » وهي الرِّقبة والكَلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع, بمعنى « أرعيته سمعي » . وأما « راعيت » بمعنى « خالفت » , فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ, على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد, فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ.

وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه: أن قوله: ( راعنا ) كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية, فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين: أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سب, وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب, فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك، من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا, إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره.

وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: ( لا تقولوا راعنا ) بالتنوين, بمعنى: لا تقولوا قولا « راعنا » , من « الرعونة » وهي الحمق والجهل. وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة, فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين.

ومن نون « راعنا » نونه بقوله: ( لا تقولوا ) ، لأنه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي. لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ( راعنا ) ، بمعنى مسألته: إما أن يرعيهم سمعه, وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه « راعنا » . فتكون الدلالة على معنى الأمر في « راعنا » حينئذ سقوط الياء التي كانت تكون في « يراعيه » ويدل عليها - أعني على « الياء » الساقطة - كسرة « العين » من « راعنا » .

وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: ( لا تقولوا راعونا ) ، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره. ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا انْظُرْنَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وقولوا انظرنا ) ، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا، كما:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وقولوا انظرنا ) فهمنا، بين لنا يا محمد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وقولوا انظرنا ) فهمنا، بين لنا يا محمد.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله.

يقال منه: « نظرت الرجل أنظره نظرة » بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة:

وقــد نَظَــرتكمُ أَعْشـاء صـادرةٍ للخِـمس, طـال بها حَوْزي وتَنْساسي

ومنه قول الله عز وجل: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [ سورة الحديد: 13 ] ، يعني به: انتظرونا.

وقد قرئ « أنظرنا » و « أنظرونا » بقطع « الألف » في الموضعين جميعا فمن قرأ ذلك كذلك أراد: أخرنا, كما قال الله جل ثناؤه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ سورة ص: 79 ] ، أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع. لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض الجناح - لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب - إذْ كان ذلك كذلك - من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله: ( انظرنا ) ، ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا.

وقد قيل: إن معنى ( أنظرنا ) بقطع الألف بمعنى: أمهلنا. حكي عن بعض العرب سماعا: « أنظرني أكلمك » ، وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه, فأخبره أنه أراد أمهلني. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم « فانظرنا » و « أنظرنا » - بقطع « الألف » ووصلها - متقاربا المعني. غير أن الأمر وإن كان كذلك, فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها، قراءة من قرأ: ( وقولوا انظرنا ) ، بوصل « الألف » بمعنى: انتظرنا, لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من القراآت.

القول في تأويل قوله تعالى وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 104 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( واسمعوا ) ، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وعُوه وافهموه، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( واسمعوا ) ، اسمعوا ما يقال لكم.

فمعنى الآية إذًا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم: راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول. ولكن قولوا: انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا. واسمعوا منه ما يقول لكم، فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله، العذاب الموجع في الآخرة, فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم. يعني بقوله: « الأليم » ، الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل، وما فيه من الآثار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: ( ما يود ) ، ما يحب, أي: ليس يحب كثير من أهل الكتاب. يقال منه: « ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة » .

وأما « المشركين » فإنهم في موضع خفض بالعطف على « أهل الكتاب » . ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم.

وأما ( أن ) في قوله: ( أن ينـزل ) فنصب بقوله: ( يود ) . وقد دللنا على وجه دخول « من » في قوله: ( من خير ) وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد، فيما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينـزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنـزله عليكم. فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينـزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته, وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين.

وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين, والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 105 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( والله يختص برحمته من يشاء ) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه, فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. و « اختصاصه » إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.

وأما قوله: ( والله ذو الفضل العظيم ) . فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه.

وفي قوله: ( والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه, وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ما ننسخ من آية ) : ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

وأصل « النسخ » من « نسخ الكتاب » ، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى « نسخ » الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك, أو محي أثرها, فعفِّي ونسي, إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه: « نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا, و » النُّسخة « الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول: »

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف, عن الحسن أنه قال في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا, ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ما ننسخ ) فقال بعضهم بما:-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ما ننسخ من آية ) ، أما نسخها، فقبضها.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ما ننسخ من آية ) ، يقول: ما نبدل من آية.

وقال آخرون بما:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا: ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها، [ ونبدل حكمها ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها, ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن أصحاب ابن مسعود: ( ما ننسخ من آية ) نثبت خطها، [ ونبدل حكمها ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ نُنْسِهَا

قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: ( أو ننسها ) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل.

أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: ( ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها ) , فذلك تأويل: « النسيان » . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها, ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وينسخ ما شاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: ( ننسها ) ، نرفعها من عندكم.

حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف, عن الحسن أنه قال في قوله: ( أو ننسها ) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا, ثم نسيه.

وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها: ( أو تَنسها ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى بن عطاء, عن القاسم [ بن ربيعة ] قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) ، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: ( أو تُنْسها ) ، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينـزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى [ الأعلى: 6 ] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف: 24 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه.

حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا, عن شعبة, عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: ( ما ننسخ من آية أو تُنسها ) فقال سعد: إن الله لم ينـزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) يا محمد. ثم قرأ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى و وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( ما ننسخ من آية أو نُنسها ) ، يقول: « ننسها » : نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنـزل أمورا من القرآن ثم رفعها.

والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى « الترك » , من قول الله جل ثناؤه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة: 67 ] ، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: ( أو نَنسها ) ، يقول: أو نتركها لا نبدلها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( أو ننسها ) ، نتركها لا ننسخها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال: الناسخ والمنسوخ.

قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( نُنسها ) ، نمحها.

وقرأ ذلك آخرون: ( أو ننسأها ) بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى نؤخرها, من قولك: « نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء » ، إذا أخرته, وهو من قولهم: « بعته بنساء, يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد: »

لعمـرك إن المـوت مـا أَنْسَـأ الفتى لكــالطِّوَل المُرْخــى وثِنْيـاه بـاليد

يعني بقوله « أنسأ » ، أخر.

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين, وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين, وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: ( ما ننسخ من آية أو نَنْسأها ) ، قال: نؤخرها.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: ( أو ننسأها ) ، قال: نُرْجئها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو ننسأها ) ، نرجئها ونؤخرها.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل, عن عطية: ( أو ننسأها ) ، قال: نؤخرها فلا ننسخها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي, عن عبيد بن عمير ( أو ننسأها ) ، إرجاؤها وتأخيرها.

هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير, « عن عبيد الأزدي » ، وإنما هو عن « علي الأزدي » .

حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن علي الأزدي, عن عبيد بن عمير أنه قرأها: ( ننسأها ) .

قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنـزلناها إليك يا محمد, فنبطل حكمها ونثبت خطها, أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها.

وقد قرأ بعضهم ذلك: ( ما ننسخ من آية أو تُنسها ) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: ( أو نُنسها ) ، إلا أن معنى ( أو تُنسها ) ، أنت يا محمد.

وقد قرأ بعضهم: ( ما نُنسخ من آية ) ، بضم النون وكسر السين, بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من « أنسختك فأنا أنسخك » . وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ ( تُنسها ) أو ( تَنسها ) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة.

وأولى القراءات في قوله: ( أو ننسها ) بالصواب، من قرأ: ( أو نُنْسها ) بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره, فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها, أن يكون - إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع, إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ . قوله: أو نترك نسخها, إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت, فهو يشتمل على معنى « الإنساء » الذي هو بمعنى الترك، ومعنى « النَّساء » الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك.

وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: ( أو نَنْسها ) ، إذا عني به النسيان, وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد, فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [ الإسراء: 86 ] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم.

قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا: « بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » . ثم إن ذلك رفع.

والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون: « لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب » . ثم رفع.

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.

وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنـزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين, فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز.

وأما قوله: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه, وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه, فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه, وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ [ الأعلى: 6- 7 ] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله.

فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى, لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنـزيله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( نأت بخير منها أو مثلها ) . فقال بعضهم بما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.

وقال آخرون بما:

حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول: آية فيها تخفيف, فيها رحمة، فيها أمر, فيها نهي.

وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها, أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( نأت بخير منها ) ، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثلها، أو مثل التي تركناها.

« فالهاء والألف » اللتان في قوله: ( منها ) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ . و « الهاء والألف » اللتان في قوله: ( أو مثلها ) ، عائدتان على « الهاء والألف » اللتين في قوله: أَوْ نُنْسِهَا .

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: نُنْسِهَا نرفعها من عندكم, نأت بمثلها أو خير منها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: أَوْ نُنْسِهَا ، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها.

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شوذب, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن أصحاب ابن مسعود مثله.

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله, نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم, من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم, وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل, ثم نسخ ذلك فوضع عنهم, فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة, فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول, فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك, فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر, لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات, فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: ( نأت بخير منها ) . لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه, أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره.

أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه, نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس, وإن خالف التوجه شطر المسجد, فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره, نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى « المثل » الذي قال جل ثناؤه: ( أو مثلها ) .

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر « الآية » من ذكر « حكمها » . وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا, كقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ البقرة: 93 ] ، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك.

فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله, نأت بخير لكم - أيها المؤمنون- حكما منها, أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.

فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل, فما الذي يدل على أن قوله: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) - لذلك نظير؟

قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله, ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 106 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم, إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير.

ومعنى قوله: ( قدير ) في هذا الموضع: قوي. يقال منه: « قد قدرت على كذا وكذا » ، إذا قويت عليه « أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا ومقدرة » ، وبنو مرة من غطفان تقول: « قدِرت عليه » بكسر الدال.

فأما من « التقدير » من قول القائل: « قدرت الشيء » ، فإنه يقال منه « قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 107 )

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟

قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا, فيقول أحدهما لصاحبه: « ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ » بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه, يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك.

قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه: ( ألم تعلم ) ، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام, وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات, وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب, ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم, فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم, وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ) . لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره, وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره, أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ الأحزاب: 1- 2 ] ، فرجع إلى خطاب الجماعة, وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إلــى الســراج المنـير أحـمد, لا يَعْـــدِلني رغبــــة ولا رهــب

عنـه إلـى غـيره ولـو رفـع الـن اس إلـــيّ العيـــونُ وارتقبــوا

وقيـل: أفـرطتَ! بـل قصـدتُ ولـو عنفنـــي القـــائلون أو ثَلَبُــوا

لــج بتفضيلــك اللســان, ولـو أكــثـر فيــك الضِّجـاج واللجَـب

أنـت المصفي المحض المهذب في الن ســبة, إن نــص قـومَك النسـب

فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته, فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله, ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله.

وكما قال جميل بن معمر:

ألا إن جــيراني العشــية رائــح دعتهــم دواع مـن هـوى ومنـادح

فقال: « ألا إن جيراني العشية » فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه, ثم قال: « رائح » ، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى:

خـليلي فيمـا عشـتما, هـل رأيتمـا قتيـلا بكـى مـن حـب قاتلـه قبلي

وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها. فكذلك قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم, فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك.

أما قوله: ( له ملك السموات والأرض ) ولم يقل: ملك السموات، فإنه عنى بذلك « ملك » السلطان والمملكة دون « المِلك » . والعرب إذا أرادت الخبر عن « المملكة » التي هي مملكة سلطان، قالت: « ملك الله الخلق مُلكا » . وإذا أرادت الخبر عن « المِلك » قالت: « ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا. »

فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء, وأنهى عما أشاء, وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء, وأقر منها ما أشاء؟

وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته, فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى, وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم, لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما, فإن الخلق أهل مملكته وطاعته, عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه, وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عما شاء, ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء, وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري, وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي, ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي, فإنه لا قيم بأمركم سواي, ولا ناصر لكم غيري, وأنا المنفرد بولايتكم، والدفاع عنكم, والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم, حتى أعلي حجتكم, وأجعلها عليهم لكم.

و « الولي » معناه « فعيل » من قول القائل: « وَلِيت أمر فلان » ، إذا صرت قيِّما به، « فأنا أليه، فهو وليه » وقَيِّمُه. ومن ذلك قيل: « فلان ولي عهد المسلمين » , يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين.

وأما « النصير » فإنه « فعيل » من قولك: « نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك ونصيرك » ، وهو المؤيد والمقوي.

وأما معنى قوله: ( من دون الله ) ، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

يـا نفس مـالك دون اللـه مـن واقي ومـا عـلى حدثـان الدهـر من باقي

يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره.

فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزلت هذه الآية. فقال بعضهم بما:

حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل- قالا حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنـزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنـزل الله في ذلك من قولهما: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، الآية.

وقال آخرون بما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، وكان موسى يسأل، فقيل له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.

وقال آخرون بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا, قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم « ! فأبوا ورجعوا. »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا, فقال: « نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا, فأنـزل الله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة. »

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية قال، قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها, فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا, وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل, قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [ النساء: 110 ] . قال: وقال: » الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن « . »

وقال: « من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, فإن عملها كتبت له عشر أمثالها, ولا يهلك على الله إلا هالك » .

فأنـزل الله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) .

واختلف أهل العربية في معنى ( أم ) التي في قوله: ( أم تريدون ) . فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام. وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟

وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام, كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء « و » لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ « قال: وليس قوله: ( أم تريدون ) على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل: »

كــذبَتْك عينُـك أم رأيـت بواسـط غَلَس الظــلام مـن الرَّبـاب خيـالا

وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: ( أم تريدون ) استفهاما على كلام قد سبقه, كما قال جل ثناؤه: الم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ السجدة: 1- 3 ] ، فجاءت « أم » وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة: « أم » في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين: إحداهما أن تُفَرِّق معنى « أي » ، والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق, والذي ينوي بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ « الألف » أو بـ « هل » .

قال: وإن شئت قلت في قوله: ( أم تريدون ) ، قبله استفهام, فرد عليه وهو في قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ « أم » ، وإن كانت « أم » أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: الم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ السجدة: 1- 3 ] وقد تكون « أم » بمعنى « بل » ، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه « أي » , فيقولون: « هل لك قِبَلَنا حق, أم أنت رجل معروف بالظلم؟ » وقال الشاعر:

فواللــه مـا أدري أسـلمى تغـولت أم النــوم أم كــل إلــي حـبيب

يعني: بل كل إلي حبيب.

وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن « أم » في قوله: ( أم تريدون ) استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها إلى أوله - : إن الأول خبر، والثاني استفهام, والاستفهام لا يكون في الخبر, والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر, فاستفهم.

قال أبو جعفر: فإذا كان معنى « أم » ما وصفنا, فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم, فتكفروا - إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه، فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك, كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم, فلما أعطيت كفرت, فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد إعطاء الله إياها سؤلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ومن يتبدل ) ، ومن يستبدل « الكفر » ، ويعني بـ « الكفر » ، الجحود بالله وبآياته، ( بالإيمان ) , يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به.

وقد قيل: عنى بـ « الكفر » في هذا الموضع: الشدة، وبـ « الإيمان » الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني « الكفر » , ولا الرخاء في معنى « الإيمان » ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله « الكفر » بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله « الإيمان » في معنى الرخاء - : ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد, وما أعد الله لأهل الإيمان فيها من النعيم, فيكون ذلك وجها، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن أبي العالية: ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ، يقول: يتبدل الشدة بالرخاء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية بمثله.

وفي قوله: ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) ، دليل واضح على ما قلنا: من أن هذه الآيات من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا ، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم, فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك, وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي, وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل, ونهاهم أن ينتصحوهم, وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا، فقد أخطأ قصد السبيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 108 )

قال أبو جعفر: أما قوله: ( فقد ضل ) ، فإنه يعني به ذهب وحاد. وأصل « الضلال عن الشيء » ، الذهاب عند والحيد، ثم يستعمل في الشيء الهالك، والشيء الذي لا يؤبه له, كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة: « ضُل بن ضُل » , و « قُل بن قُل » ، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك:

كـنتَ القَـذَى فـي مـوجِ أكدر مُزْبدٍ قــذف الأتِـيُّ بـه فضـل ضـلالا

يعني: هلك فذهب.

والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: ( فقد ضل سواء السبيل ) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.

وأما تأويل قوله: ( سواء السبيل ) ، فإنه يعني بـ « السواء » ، القصد والمنهج.

وأصل « السواء » الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال: « ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي » , يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت:

يــا ويــح أنصـار النبـي ونسـله بعــد المغيـب فـي سـواء الملحـد

يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول: « هو في سواء السبيل » , يعني في مستوى السبيل، « وسواء الأرض » : مستواها، عندهم.

وأما « السبيل » ، فإنها الطريق المسبول, صرف من « مسبول » إلى « سبيل » .

فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر، فيرتد عن دينه, فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول.

وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق, والمعْنِيُّ به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه, وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه, نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في آخرتهم, كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها, والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، وذهابه عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه, مثلَ الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل, الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه، إلا ازداد من موضع حاجته بعدا, وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا.

وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها, هي الصراط المستقيم « ، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا

قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه, بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم, إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، وعتاب منه لهم, ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء, وما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود: رَاعِنَا ، تأسيا منكم بهم, ولكن قولوا: انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا , فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره, ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينـزل عليكم من خير من ربكم, ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم, من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة.

وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، كعب بن الأشرف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، هو كعب بن الأشرف.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان العمري, عن معمر, عن الزهري وقتادة: ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، قال: كعب بن الأشرف.

وقال بعضهم بما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا, إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم, وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا, فأنـزل الله فيهما: ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية.

قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن الأشرف واحد, وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له « كثير » ، بمعنى الكثرة في العدد, إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز ورفعة المنـزلة في قومه وعشيرته, كما يقال: « فلان في الناس كثير » , يراد به كثرة المنـزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ, لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال: ( لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا ) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة, والمقصود بالخبر عنه الواحد, نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل، فيكون ذلك أيضا خطأ. وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه, ولا دلالة تدل في قوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة, فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ

قال أبو جعفر: ويعني جل ثناؤه بقوله: ( حسدا من عند أنفسهم ) ، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدا منهم وبغيا عليهم.

و « الحسد » إذا منصوب على غير النعت للكفار, ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر, كقول القائل لغيره: « تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك » ، فيكون « الحسد » مصدرا من معنى قوله: « تمنيت من السوء » . لأن في قوله تمنيت لك ذلك, معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب « الحسد » , لأن في قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ، معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق, ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله, وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما, ولم يجعله منهم, فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: ( حسدا ) ، مصدرا من ذلك المعنى.

وأما قوله: ( من عند أنفسهم ) ، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم, كما يقول القائل: « لي عندك كذا وكذا » , بمعنى: لي قبلك، وكما:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع بن أنس، قوله: ( من عند أنفسهم ) ، قال: من قبل أنفسهم.

وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم, وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب - الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم- الحقُّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والإسلام دين الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله - وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا, إذْ كان من غيرهم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله.

قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد, وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا, ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فاعفوا ) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم ‍صلى الله عليه وسلم : وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ، [ النساء: 46 ] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره ، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء ، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره ، وأتى بأمره ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين به: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . [ التوبة: 29 ] . فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح ، بفرض قتالهم على المؤمنين ، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة ، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) ، ونسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ التوبة: 5 ]

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، فأتى الله بأمره فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، حتى بلغ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، أي: صغارا ونقمة لهم . فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث الله بعد فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى: وَهُمْ صَاغِرُونَ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) قال: نسختها: ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال: هذا منسوخ ، نسخه قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 109 )

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى « القدير » ، وأنه القوي.

فمعنى الآية ههنا: إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير ، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم ، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان ، لا يتعذر عليه شيء أراده ، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه ، لأن له الخلق والأمر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى « إقامة الصلاة » ، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها ، وعلى تأويل « الصلاة » وما أصلها ، وعلى معنى « إيتاء الزكاة » ، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووجبت ، وعلى معنى « الزكاة » واختلاف المختلفين فيها ، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وأما قوله: ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم ، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به.

و « الخير » هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: ( تجدوه ) ، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله: ( تجدوه ) يعني: تجدوا ثوابه عند الله.

قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه ، كما قال عمر بن لجأ:

وســـبحت المدينـــة لا تلمهــا رأت قمـــرا بســـوقهم نهــارا

وإنما أراد: وسبح أهل المدينة.

وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم ، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: رَاعِنَا ، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب ، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 110 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها.

وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا . وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجدوا في طاعته ، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه ، كما قال: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ، وليحذروا معصيته ، إذْ كان مطلعا على راكبها ، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه ، وما وعد عليه فمأمور به.

وأما قوله: ( بصير ) ، فإنه « مبصر » صرف إلى « بصير » ، كما صرف « مبدع » إلى « بديع » ، و « مؤلم » إلى « أليم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وقالوا ) ، وقالت اليهود والنصارى: ( لن يدخل الجنة ) .

فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين ؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب ، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟

قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه ، جُمع الفريقان في الخبر عنهما ، فقيل: ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) الآية - أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.

وأما قوله: ( من كان هودا ) ، فإن في « الهود » قولين: أحدهما أن يكون جمع « هائد » ، كما جاء « عُوط » جمع « عائط » ، و « عُوذ » جمع « عائذ » ، و « حُول » جمع « حائل » ، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد . و « الهائد » التائب الراجع إلى الحق.

والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع ، كما يقال: « رجل صَوم وقوم صوم » ، و « رجل فِطر وقوم فطر ، ونسوة فطر » .

وقد قيل: إن قوله: ( إلا من كان هودا ) ، إنما هو قوله، إلا من كان يهودا ، ولكنه حذف الياء الزائدة ، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي: « إلا من كان يهوديا أو نصرانيا » .

وقد بينا فيما مضى معنى « النصارى » ، ولم سميت بذلك ، وجمعت كذلك ، بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: ( تلك أمانيهم ) ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا: ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان ، ولا يقين علم بصحة ما يدعون ، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( تلك أمانيهم ) ، أماني يتمنونها على الله كاذبة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( تلك أمانيهم ) ، قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 111 )

قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها ، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا : من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد ، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، دون غيرهم من سائر البشر: ( هاتوا برهانكم ) ، على ما تزعمون من ذلك ، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.

والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا بينتكم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا حجتكم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: ( قل هاتوا برهانكم ) ، قال: حجتكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( قل هاتوا برهانكم ) ، أي : حجتكم.

قال أبو جعفر: وهذا الكلام ، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك ، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم ، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام، بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم.

وأما تأويل قوله: ( قل هاتوا برهانكم ) فإنه: أحضروا وأتوا به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ) ، أنه ليس كما قال الزاعمون لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية.

وقد بينا معنى ( بلى ) فيما مضى قبل.

وأما قوله: ( من أسلم وجهه لله ) ، فإنه يعني بـ « إسلام الوجه » : التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل « الإسلام » : الاستسلام ، لأنه « من استسلمت لأمره » ، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي « المسلم » مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ) ، يقول: أخلص لله. وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:

وأســلمت وجــهي لمـن أسـلمت لــه المــزن تحــمل عذبـا زلالا

يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له.

وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه ، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه ، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا ، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء ، فتضيفه إلى « وجهه » وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه ، كقول الأعشى:

أَؤُوِّل الحـــكم عـــلى وَجهــه ليس قضــائي بــالهوى الجــائر

يعني بقوله: « على وجهه » : على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة:

فطـاوعت همـي وانجـلى وجه بازل مـن الأمـر, لـم يترك خِلاجا بُزُولُها

يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك ، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه ، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه ، فخضع له بالطاعة جسده ، وهو محسن في إسلامه له جسده ، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر « الوجه » من ذكر « جسده » لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر « الوجه » .

وأما قوله: ( وهو محسن ) ، فإنه يعني به : في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له ، محسنا في فعله ذلك.

 

القول في تأويل قوله : فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 112 )

قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: ( فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا ، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه ، عند الله في معاده.

ويعني بقوله: ( ولا خوف عليهم ) ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون ، المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه ، وما قدموا عليه من أعمالهم.

ويعني بقوله: ( ولا هم يحزنون ) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا ، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته.

وإنما قال جل ثناؤه: ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، وقد قال قبل: ( فله أجره عند ربه ) ، لأن « من » التي في قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، في لفظ واحد ومعنى جميع ، فالتوحيد في قوله: ( فله أجره ) للفظ ، والجمع في قوله: ( ولا خوف عليهم ) ، للمعنى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة ، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير ، قالا جميعا- حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، إلى قوله: فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين ، إعلاما ، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنـزل الله فيه من فروضه ، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى ، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام ، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض.

ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك ، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.

فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء ، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟

قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل ، من أن إنكار كل فريق منهم ، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ينتحل التصديق به ، وبما جاء به الفريق الآخر ، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه ، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنـزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها ، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ) ، قال: بلى ! قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا ، وقالت النصارى: ( ليست اليهود على شيء ) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.

وأما قوله: ( وهم يتلون الكتاب ) ، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل ، وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر ، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس في قوله: ( وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى ، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) . فقال بعضهم بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.

حدثنا بشر بن سعيد ، عن قتادة: ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقبل التوراة والإنجيل.

وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب ، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل ، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، فهم العرب ، قالوا: ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل ، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب ، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى ، إذْ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ، ولا من جهة النقل المستفيض.

وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل ، وافتراء الكذب على الله ، وجحود نبوة الأنبياء والرسل ، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون ، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون ، وعلى الله مفترون ، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله ، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا.

وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها ، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به . لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 113 )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين ، القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل ، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة ، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا.

وأما « القيامة » فهي مصدر من قول القائل: « قمت قياما وقيامة » ، كما يقال: « عدت فلانا عيادة » و « صنت هذا الأمر صيانة » .

وإنما عنى « بالقيامة » قيام الخلق من قبورهم لربهم . فمعنى « يوم القيامة » : يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وتأويل قوله: ( ومن أظلم ) ، وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره ، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟

و « المساجد » جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى. فمعنى « المسجد » : الموضع الذي يسجد لله فيه ، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه: « المجلس » ، وللموضع الذي ينـزل فيه: « منـزل » ، ثم يجمع : « منازل ومجالس » نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب « مساجد » في واحد المساجد ، وذلك كالخطأ من قائله.

وأما قوله: ( أن يذكر فيها اسمه ) ، فإن فيه وجهين من التأويل . أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه ، فتكون « أن » حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض ، وتعلق الفعل بها.

والوجه الآخر : أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده ، فتكون « أن » حينئذ في موضع نصب ، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه.

وأما قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) ، فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وممن سعى في خراب مساجد الله. فـ « سعى » إذًا عطف على « منع » .

فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ؟ وأي المساجد هي؟

قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون ، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى ، والمسجد بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أنهم النصارى.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى ، والمسجد: مسجد بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، الآية ، أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال: هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال: الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا.

وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش ، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال: هؤلاء المشركون ، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم: « ما كان أحد يرد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده ، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق! »

وفي قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) قال: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) النصارى . وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس ، وأعانوا بختنصر على ذلك ، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.

والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) ، إلا أحد المسجدين ، إما مسجد بيت المقدس ، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده ، غير الذين وصفهم الله بعمارتها . إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية ، وبعمارته كان افتخارهم ، وإن كان بعض أفعالهم فيه ، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم.

وأخرى ، أن الآية التي قبل قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم ، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ، ولا للمسجد الحرام قبلها ، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) - إليهم وإلى المسجد الحرام.

وإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه ، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها ، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك ، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت.

فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك ، إذْ كان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في [ المسجد المقدس ، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون ] توجيه قوله ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل ، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد . وإن كان قد دل بعموم قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا- ، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين.

القول في تأويل قوله جل ذكره أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها ، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها ، ما داموا على مناصبة الحرب ، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها، كالذي:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم اليوم كذلك ، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة: قال الله عز وجل: ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم النصارى ، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة ، إن قدر عليهم عوقبوا.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فليس في الأرض رومي يدخلها اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية ، فهو يؤديها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننـزل!. »

وإنما قيل: ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع ، وهو خبر عن ( من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، لأن « من » في معنى الجميع ، وإن كان لفظه واحدا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 114 )

قال أبو جعفر : أما قوله عز وجل: ( لهم ) ، فإنه يعني: الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله: ( لهم في الدنيا خزي ) ، فإنه يعني بـ « الخزي » : العار والشر والذلة إما القتل والسباء ، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية، كما:-

حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة: ( لهم في الدنيا خزي ) ، قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله: ( لهم في الدنيا خزي ) ، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم . فذلك الخزي . وأما العذاب العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله ، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم في خرابها، ولهم على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادا عذاب جهنم ، وهو العذاب العظيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولله المشرق والمغرب ) ، لله ملكهما وتدبيرهما ، كما يقال: « لفلان هذه الدار » ، يعني بها : أنها له ، ملكا . فذلك قوله: ( ولله المشرق والمغرب ) ، يعني أنهما له ، ملكا وخلقا.

و « المشرق » هو موضع شروق الشمس ، وهو موضع طلوعها ، كما يقال : لموضع طلوعها منه « مطلع » بكسر اللام ، وكما بينا في معنى « المساجد » آنفا.

فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد ، حتى قيل: ( ولله المشرق والمغرب ) ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم ، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق ، وما بين قطري المغرب ، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده ، وكذلك غروبها كل يوم.

فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه الخلق خلقه! قيل: بلى!

فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع ، دون سائر الأشياء غيرها؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة ، ثم حولوا إلى الكعبة . فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي ، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها ، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنـزل الله تبارك وتعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ سورة البقرة: 144 ] إلى قوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ سورة البقرة: 144 ] ، فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا: مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [ سورة البقرة: 142 ] ، فأنـزل الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وقال: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي نحوه.

وقال آخرون: بل أنـزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنـزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية ، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ، لأن له المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال جل وعز: وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [ سورة المجادلة: 7 ] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك ، فقال الله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ سورة البقرة: 150 ]

حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، قال: هي القبلة ، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام . فنسخها الله في آية أخرى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا إِلَى وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ سورة البقرة: 144 ] ، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا - يقول: قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم ! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ الآية [ سورة البقرة: 144 ] . »

وقال آخرون: نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة ، وفي شدة الخوف ، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك ، بقوله: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية: ( أينما تولوا فثم وجه الله ) .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه قال: « إنما نـزلت هذه الآية: ( أينما تولوا فثم وجه الله ) أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة » .

وقال آخرون بل نـزلت هذه الآية في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب ، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال، « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنـزلنا منـزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا ، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة . فأنـزل الله عز وجل: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) . »

حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت ، شك الطبري - فكان في السماء سحاب ، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك ، يقول الله عز وجل: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر ، فلم ندر أين القبلة فصلينا ، فصلى كل واحد منا على حياله، ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله عز وجل: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) .

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في سبب النجاشي ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره ، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة ، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي ، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي ، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة ، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه ، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي ، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم ! قال فنـزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [ سورة آل عمران: 199 ] ، قال : قتادة، فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنـزل الله عز وجل: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا ، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق ، وأن على جميعهم إذ كان له ملكهم طاعته فيما أمرهم ونهاهم ، وفيما فرض عليهم من الفرائض ، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه ، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب ، والمراد به من بينهما من الخلق ، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه ، كما قيل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ، وما أشبه ذلك.

ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء ، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته ، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي ، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي.

فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة ، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم ، والمراد الخاص ، وذلك أن قوله: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم ، في صلاتكم التطوع ، وفي حال مسايفتكم عدوكم ، في تطوعكم ومكتوبتكم ، فثم وجه الله ، كما قال ابن عمر والنخعي ، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا.

ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها ، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال :-

أبو كريب قال حدثنا وكيع ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، والنضر بن عربي ، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، قال: قبلة الله ، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم ، عن ابن أبي بكر ، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة.

ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج ، قال مجاهد: لما نـزلت: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ سورة غافر: 60 ] ، قالوا: إلى أين؟ فنـزلت: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

فإذ كان قوله عز وجل: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، محتملا ما ذكرنا من الأوجه ، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها .

لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، مَعْنِيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نـزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة ، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس ، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين ، من ينكر أن تكون نـزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نـزلت فيه ، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت.

ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة ، إذ كانت محتملة ما وصفنا : بأن تكون جاءت بعموم ، ومعناها: في حال دون حال - إن كان عني بها التوجه في الصلاة ، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء ، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا.

وقد دللنا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » ، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكما ثابتا ، وألزم العباد فرضه ، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم ، أو المجمل ، أو المفسر ، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه .

ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، بحجة يجب التسليم لها ، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ.

وأما قوله: ( فأينما ) ، فإن معناه: حيثما.

وأما قوله: ( تولوا ) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون : تولون نحوه وإليه ، كما يقول القائل: « وليته وجهي ووليته إليه » ، بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله ، بمعنى قبلة الله.

وأما قوله: ( فثم ) فإنه بمعنى: هنالك.

واختلف في تأويل قوله: ( فثم وجه الله ) فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله ، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد: ( فثم وجه الله ) قال: قبلة الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم ، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها.

وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل : ( فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، فثم الله تبارك وتعالى.

وقال آخرون: معنى قوله: ( فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم.

وقال آخرون: عنى بـ « الوجه » ذا الوجه . وقال قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له.

فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟

قيل: هي لها مواصلة . وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه ، وسعوا في خرابها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه ، فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده ، ويعلم ما تعملون ، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس ، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله ، تبتغون به وجهه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 115 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( واسع ) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.

وأما قوله: ( عليم ) ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 116 )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ( وقالوا ) : معطوف على قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا .

وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم: ( سبحانه ) ، يعني بها: تنـزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل: « سبحان الله » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا . ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم ، لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده ، في ظهور آيات الصنعة فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 116 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( كل له قانتون ) ، مطيعون.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( كل له قانتون ) ، قال: مطيعون قال، طاعة الكافر في سجود ظله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، بمثله ، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( كل له قانتون ) ، يقول: كل له مطيعون يوم القيامة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة: ( كل له قانتون ) ، قال: الطاعة.

حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس: ( قانتون ) ، مطيعون.

وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة: ( كل له قانتون ) ، كل مقر له بالعبودية.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله: ( كل له قانتون ) ، قال: كل له قائم يوم القيامة.

ولِـ « القنوت » في كلام العرب معان: أحدها الطاعة ، والآخر القيام ، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه.

وأولى معاني « القنوت » في قوله: ( كل له قانتون ) ، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية ، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم ، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة ، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟

وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن قوله: ( كل له قانتون ) ، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، لما قد بينا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » .

وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم ، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية ، عقيب قوله: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، فدل ذلك على صحة ما قلنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( بديع السماوات والأرض ) ، مبدعها.

وإنما هو « مُفْعِل » صرف إلى « فعيل » كما صرف « المؤلم » إلى « أليم » ، و « المسمع » إلى « سميع » . ومعنى « المبدع » : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد. ولذلك سمي المبتدع في الدين « مبتدعا » ، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، في مدح هَوْذَة بن علي الحنفي:

يُـرعي إلـى قـول سادات الرجال إذا أبـدوا لـه الحزم , أو ما شاءه ابتدعا

أي يحدث ما شاء، ومنه قول رؤبة بن العجاج:

فأيهــا الغاشــي القِـذَافَ الأتْيَعَـا إن كــنت للــه التقــي الأطوعـا

فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا

يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه.

فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض ، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها ، وموجدها من غير أصل ، ولا مثال احتذاها عليه؟

وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده ، أن مما يشهد له بذلك : المسيح، الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول: ابتدع خلقها ، ولم يشركه في خلقها أحد.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول: ابتدعها فخلقها ، ولم يُخلق قبلها شيء فيتمثل به .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 117 )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( وإذا قضى أمرا ) ، وإذا أحكم أمرا وحتمه.

وأصل كل « قضاء أمر » الإحكام ، والفراغ منه. ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: « القاضي » بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به. ومنه قيل للميت: « قد قضى » ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها. ومنه قيل: « ما ينقضي عجبي من فلان » ، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل: « تقضي النهار » ، إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [ سورة الإسراء: 23 ] أي : فصل الحكم فيه بين عباده ، بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [ سورة الإسراء: 4 ] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب:

وعليهمــا مســرودتان, قضاهمـا داود أو صَنَـــعَ الســوابغِ تُبَّــعُ

ويروى:

* وتعاورا مسرودتين قضاهما *

ويعني بقوله: « قضاهما » ، أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

قضيـت أمـورا ثـم غـادرت بعدها بَــوائِق فــي أكمامهـا لـم تَفَتَّـقِ

ويروى: « بوائج » .

وأما قوله: ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر « كن » ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه : « كن » ؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذْ كان محالا أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر، ؛ وكما محالٌ الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور. أم يقول له ذلك في حال وجوده ؟ وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود: « كن موجودا » إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟

قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك ، ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك:

قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه.

فوجه قائلو هذا القول قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، إلى الخصوص دون العموم

* * *.

وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها . وقال: إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك ، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها: « كوني » ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم.

وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهرَ عمومٍ ، فتأويلها الخصوص، لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور ، على ما وصفت قبل. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حي ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحي: « كن ميتا ، أو لميت: كن حيا » ، وما أشبه ذلك من الأمر.

وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه ، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه ، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة ، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي - . وقالوا: إنما قول الله عز وجل: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل: « قال فلان برأسه » و « قال بيده » ، إذا حرك رأسه ، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا، وكما قال أبو النجم:

وقــالت للبَطْــنِ الْحَــقِ الحــق قِدْمًــا فــآضت كـالفَنِيقِ المحـنِق

ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي:

فـأصبحت مثـل النسر طارت فراخه إذا رام تطيــارا يقــال لـه : قـعِ

ولا قول هناك ، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع ، وكما قال الآخر:

امتــلأ الحــوض وقـال: قطنـي ســلا رويـدا , قـد مـلأت بطنـي

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه ، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم ، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » . وإذ كان ذلك كذلك ، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: ( كن ) في حال إرادته إياه مكوَّنا ، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه ، ولا أمره بالكون والوجود ، ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود ، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [ سورة الروم: 25 ] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ، ولا يتأخر عنه.

ويسألُ من زعم أن قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز ، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم ، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله.

ويسألُ الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل: « قال فلان برأسه أو بيده » ، إذا حركه وأومأ ، ونظير قول الشاعر:

تقــول إذا درأت لهــا وضينـي : أهـــذا دينـــه أبــدا ودينــي

وما أشبه ذلك- : فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ، ولا كتاب الله ، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له: « كن » ، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن ، وخرجوا من الملة .

وإن قالوا: بل نقر به ، ولكنا نـزعم أن ذلك نظير قول القائل: « قال الحائط فمال » ولا قول هنالك ، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط.

قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟

فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب ، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها.

وإن قالوا: ذلك غير جائز .

قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون ، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل: « قال الحائط فمال » ، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، وقول القائل: « قال الحائط فمال » ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله.

وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود ، فبَيِّنٌ بذلك أن الذي هو أولى بقوله: ( فيكون ) الرفع على العطف على قوله ( يقول ) لأن « القول » و « الكون » حالهما واحد. وهو نظير قول القائل: « تاب فلان فاهتدى » ، و « اهتدى فلان فتاب » ، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد ، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود ، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود.

ولذلك استجاز من استجاز نصب « فيكون » من قرأ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ النحل: 40 ] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن نقول فيكونَ.

وأما رفع من رفع ذلك ، فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله: إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا ، ثم ابتدأ بقوله: فيكون ، كما قال جل ثناؤه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ، [ سورة الحج: 5 ] وكما قال ابن أحمر:

يعــالج عــاقرا أعيــت عليــه ليُلْقِحَهـــا فيَنْتِجُهـــا حُـــوارا

يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا.

فمعنى الآية إذًا: وقالوا اتخذ الله ولدا ، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما ، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد ، وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل ، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه ، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: « كن » ، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه ، إذْ أراد خلقه من غير والد.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، قال: النصارى تقوله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله - وزاد فيه ( وقال الذين لا يعلمون ) ، النصارى.

وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا جميعا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال، قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله كما تقول ، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قوله: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، الآية كلها.

وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، وهم كفار العرب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، قال: هم كفار العرب.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، أما الذين لا يعلمون: فهم العرب.

وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى عنى بقوله: ( وقال الذين لا يعلمون ) ، النصارى دون غيرهم. لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه ، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، تمنوا على الله الأباطيل ، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنـزلتهم عنده وهم بالله مشركون: ( لولا يكلمنا الله ) ، كما يكلم رسوله وأنبياءه ، أو تأتينا آية كما أتتهم؟ ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه ، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده، فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له ، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه ، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه.

وأمّا الزاعم: أن الله عنى بقوله ( وقال الذين لا يعلمون ) العرب ، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته ، ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه ، لأنه ادعى ما لا برهان على صحته ، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد.

وأما معنى قوله: ( لولا يكلمنا الله ) ، فإنه بمعنى: هلا يكلمنا الله! كما قال الأشهب بن رميلة:

تعـدون عقـر النيـب أفضـل مجدكم بنـي ضوطـرى , لـولا الكمي المقنعا

بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع! كما:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( لولا يكلمنا الله ) قال: فهلا يكلمنا الله!

قال أبو جعفر: فأما « الآية » فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلا تأتينا آية على ما نريد ونسأل ، كما أتت الأنبياء والرسل! فقال عز وجل: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، فقال بعضهم في ذلك بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، هم اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( قال الذين من قبلهم ) ، اليهود.

وقال آخرون: هم اليهود والنصارى ، لأن الذين لا يعلمون هم العرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة: ( قال الذين من قبلهم ) ، يعني اليهود والنصارى وغيرهم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، قالوا يعني - العرب- كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، يعني اليهود والنصارى.

قال أبو جعفر: قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ، هم النصارى ، والذين قالوا مثل قولهم هم اليهود سألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة ، وأن يسمعهم كلام ربهم ، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا - وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم ، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك ، مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها ، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه ، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه ، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( تشابهت قلوبهم ) قلوب النصارى واليهود.

وقال غيره: معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( تشابهت قلوبهم ) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( تشابهت قلوبهم ) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

قال أبو جعفر : وغير جائز في قوله: ( تشابهت ) التثقيل ، لأن التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله: « تفاعل » ، وإن ثقلت صارت تاءين، ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد ، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال ، والأخرى منها التي في « تفاعل » ، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل ، فيقال: تشابه بعد اليوم قلوبنا.

فمعنى الآية: وقالت النصارى ، الجهال بالله وبعظمته: هلا يكلمنا الله ربنا ، كما كلم أنبياءه ورسله ، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم ، قال من قبلهم من اليهود ، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة ، ويؤتيهم آية ، واحتكموا عليه وعلى رسله ، وتمنوا الأماني. فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله ، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) ، قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وأعد لهم العذاب المهين في معادهم ، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا ، وأعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة ، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها. فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك ، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور ، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه ، ويعلم حقيقة الأمر، إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه ، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه. وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب ، وذلك منفي عن خبر الله عز وجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

قال أبو جعفر: ومعنى قوله جل ثناؤه: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ، إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان ، وهو الحق ؛ مبشرا من اتبعك فأطاعك ، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا ، والظفر بالثواب في الآخرة ، والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا ، والذل فيها ، والعذاب المهين في الآخرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( 119 )

قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، بضم « التاء » من « تسأل » ، ورفع « اللام » منها على الخبر ، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق ، وكان من أهل الجحيم.

وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: ( ولا تَسألْ ) جزما. بمعنى النهي ، مفتوح « التاء » من « تسأل » ، وجزم « اللام » منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنـزلت : ( ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ « ثلاثا ، فنـزلت: ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم ) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله. »

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: « ليت شعري أين أبواي؟ » فنـزلت: ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .

قال أبو جعفر : والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع ، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكفرهم بالله ، وجراءتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يا محمد بِالْحَقِّ بَشِيرًا ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، وَنَذِيرًا من كفر بك وخالفك ، فبلغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة ، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل - في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنـزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية ، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم.

فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب ، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، بـ « الواو » - بقوله: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، وتركه وصل ذلك بأوله بـ « الفاء » ، وأن يكون: « إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم » - أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: « ولا تسأل » ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: ( وما تسأل ) ، وفي قراءة ابن مسعود: ( ولن تسأل ) ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه ، دون النهي.

وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم « التاء » ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته: « ولا تسأل » ، بفتح « التاء » وضم « اللام » على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك.

وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما روي عن ابن مسعود وأبي من القراءة، لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من « ما » و « لن » يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: ( ولا تسأل ) . وإذا كان ابتداء لم يكن حالا.

وأما ( أصحاب الجحيم ) ، ف « الجحيم » ، هي النار بعينها إذا شبت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

إذا شـــبت جـــهنم ثــم دارت وأَعْــرَض عـن قوابسـها الجحـيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ، وليست اليهود ، يا محمد ، ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية ضد اليهودية ، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة ، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك ، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا ، وذلك مما لا يكون منك أبدا ، لأنك شخص واحد ، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل ، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل ، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل .

وأما « الملة » فإنها الدين ، وجمعها الملل.

ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد - لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى - ( إن هدى الله هو الهدى ) ، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء الفاصل بيننا ، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه- الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه ، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله ، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل ، وأينا أهل الجنة ، وأينا أهل النار ، وأينا على الصواب ، وأينا على الخطأ.

وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه ، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 120 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولئن اتبعت ) ، يا محمد ، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر ، فصرت من ذلك إلى إرضائهم ، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم ، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك ، وقيم يقوم به ولا نصير ، ينصرك من الله ، فيدفع عنك ما ينـزل بك من عقوبته ، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك.وقد بينا معنى « الولي » و « النصير » فيما مضى قبل.

وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنـزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها ، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه ، غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك ، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: ( الذين آتيناهم الكتاب ) فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله: ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به.

وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل ، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة. فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون.

وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة. لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين ، وتبديل من بدل منهم كتاب الله ، وتأولهم إياه على غير تأويله ، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر ، فيكون قوله: ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، موجها إلى الخبر عنهم ، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها ، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء قصص غيرهم ، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له.

فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه [ قصصهم ] في الآية قبلها والآية بعدها ، وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد - وهو التوراة- فقرءوه واتبعوا ما فيه ، فصدقوك وآمنوا بك ، وبما جئت به من عندي ، أولئك يتلونه حق تلاوته.

وإنما أدخلت الألف واللام في « الكتاب » لأنه معرفة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: ( يتلونه حق تلاوته ) ، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني ابن أبي عدي ، وعبد الأعلى ، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي جميعا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: ( يتلونه حق تلاوته ) ، يتبعونه حق اتباعه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله.

وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة بمثله.

حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قوله الله عز وجل: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ، قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: ( يتلونه حق تلاوته ) ، فذكر مثله، إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المؤمل قال، حدثنا سفيان قال: حدثنا يزيد ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل: ( يتلونه حق تلاوته ) : قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال، قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنـزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ولا يحرفه عن مواضعه.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا [ أبو أحمد ] الزبيري قال، حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: ( يتلونه حق تلاوته ) يتبعونه حق اتباعه.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن عطاء ، بمثله.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان - وحدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم قال، حدثنا سفيان- وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان - قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: عملا به.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك ، عن قيس بن سعد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [ سورة الشمس: 2 ] ، يعني الشمس إذا تَبعها القمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء وقيس بن سعد ، عن مجاهد في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يعملون به حق عمله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال، يتبعونه حق اتباعه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، يعملون به حق عمله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مجاهد في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثني عمرو قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى القطان ، عن عبد الملك ، عن عطاء قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) قال: يتبعونه حق اتباعه ، يعملون به حق عمله.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي ، عن المبارك ، عن الحسن: ( يتلونه حق تلاوته ) قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، وأن يقرأه كما أنـزله الله عز وجل ، ولا يحرفه عن مواضعه.

حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا الحكم بن عطية ، سمعت قتادة يقول: ( يتلونه حق تلاوته ) قال: يتبعونه حق اتباعه. قال: اتباعه : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ويقرءونه كما أنـزل.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم عن داود ، عن عكرمة في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [ سورة الشمس: 2 ] ، قال: إذا تبعها.

وقال آخرون : ( يتلونه حق تلاوته ) ، يقرءونه حق قراءته.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه ، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره ، إذا اتبع أثره، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.

وإذ كان ذلك تأويله ، فمعنى الكلام: الذين آتيناهم الكتاب ، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي ، يتبعون كتابي الذي أنـزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه ، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك ، وأنك رسولي، فرضٌ عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي ، ويعملون بما أحللت لهم ، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه ، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنـزلته عليهم - بتأويل ولا غيره.

أما قوله: ( حق تلاوته ) ، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به ، كما يقال: « إن فلانا لعالم حق عالم » ، وكما يقال: « إن فلانا لفاضل كل فاضل »

وقد اختلف أهل العربية في إضافة « حق » إلى المعرفة ، فقال بعض نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى « أي » ، وبمعنى قولك: « أفضل رجل فلان » ، و « أفعل » لا يضاف إلى واحد معرفة ، لأنه مبعض ، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن يقال: « مررت بالرجل حق الرجل » ، و « مررت بالرجل جِدِّ الرجل » ، كما أحالوا « مررت بالرجل أي الرجل » ، وأجازوا ذلك في « كل الرجل » و « عين الرجل » و « نفس الرجل » . وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا ، فلما صرن مدوحا ، تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة.

وزعموا أن قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، إنما جازت إضافته إلى التلاوة ، وهي مضافة إلى معرفة، لأن العرب تعتد ب « الهاء » - إذا عادت إلى نكرة - بالنكرة ، فيقولون: « مررت برجل واحد أمه ، ونسيج وحده ، وسيد قومه » ، قالوا: فكذلك قوله: ( حق تلاوته ) ، إنما جازت إضافة « حق » إلى « التلاوة » وهي مضافة إلى « الهاء » ، لاعتداد العرب ب « الهاء » التي في نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك « حق التلاوة » ، لوجب أن يكون جائزا: « مررت بالرجل حق الرجل » .

فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة.

وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة « حق » إلى النكرات مع النكرات ، ومع المعارف إلى المعارف، وإنما ذلك نظير قول القائل: « مررت بالرجل غلام الرجل » ، و « برجل غلام رجل » .

فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته

وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول، لأن معنى قوله: ( حق تلاوته ) ، أي تلاوة ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها. « وأي » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم. وكذلك « حق » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة .

وإنما أضيف في ( حق تلاوته ) إلى ما فيه « الهاء » لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( أولئك ) ، هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته ، وأما قوله: ( يؤمنون ) ، فإنه يعني: يصدقون به. و « الهاء » التي في قوله : « به » عائدة على « الهاء » التي في تِلاوَتِهِ ، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ .

فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة ، هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها ، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها ، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته، دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها ، مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه.

وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة ، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك ، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته ، وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم ، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولئك يؤمنون به ) ، قال: من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، وبالتوراة ، وإن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر ، كما قال جل ثناؤه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 121 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ومن يكفر به ) ، ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: ( يكفر ) ، يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدله فيحرف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم ، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن زيد في قوله، بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود ، ( فأولئك هم الخاسرون ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 122 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم ، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم ، وصنائعي عندكم ، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه ، وإنـزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم ، وتمكيني لكم في البلاد ، بعد أن كنتم مذللين مقهورين ، واختصاصي الرسل منكم ، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه ، أيام أنتم في طاعتي- باتباع رسولي إليكم ، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي ، ودعوا التمادي في الضلال والغي.

وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، والمعاني التي ذكرهم جل ثناؤه من آلائه عندهم ، والعالم الذي فضلوا عليه - فيما مضى قبل ، بالروايات والشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته ، إذْ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا.

 

القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 123 )

قال أبو جعفر : وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنـزيلي ، المحرفين تأويله عن وجهه ، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا تغني عنها غناء ، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي ، وتكذيبكم رسولي ، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية ، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع ، ولا هي ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه.

وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وإذ ابتلى ) ، وإذا اختبر.

يقال منه: « ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء » ، ومنه قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [ سورة النساء: 6 ] ، يعني به: اختبروهم. .

وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه, وأمر أمره به. وذلك هو « الكلمات » التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة « الكلمات » التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه.

فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام, وهي ثلاثون سهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم, ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ سورة النجم: 37 ] . قال: عشر منها في « الأحزاب » , وعشر منها في « براءة » , وعشر منها في « المؤمنون » و « سأل سائل » ، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما.

حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه, فكتب الله له البراءة فقال: « وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى » ، فذكر عشرا في « براءة » [ 112 ] فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ إلى آخر الآية، وعشرا في « الأحزاب » [ 35 ] ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ , وعشرا في « سورة المؤمنون » [ 1- 9 ] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , وعشرا في « سأل سائل » [ 22- 34 ] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ .

حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما, وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم, قال الله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، فكتب الله له براءة من النار.

وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس, وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب, والمضمضة, والاستنشاق, والسواك, وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار, وحلق العانة, والختان, ونتف الإبط, وغسل أثر الغائط والبول بالماء.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الحكم بن أبان, عن القاسم بن أبي بزة, عن ابن عباس، بمثله- ولم يذكر أثر البول.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه بالختان, وحلق العانة, وغسل القبل والدبر, والسواك, وقص الشارب, وتقليم الأظافر, ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.

حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن مطر, عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة: الاستنشاق, وقص الشارب, والسواك, ونتف الإبط, وقلم الأظفار, وغسل البراجم, والختان, وحلق العانة, وغسل الدبر والفرج .

وقال بعضهم: بل « الكلمات » التي ابتلي بهن عشر خلال; بعضهن في تطهير الجسد, وبعضهن في مناسك الحج.

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة, عن ابن هبيرة, عن حنش, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال، ستة في الإنسان, وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة, والختان, ونتف الإبط, وتقليم الأظفار, وقص الشارب, والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف, والسعي بين الصفا والمروة, ورمي الجمار, والإفاضة.

وقال آخرون: بل ذلك: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، في مناسك الحج.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » ، فمنهن: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وآيات النسك.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، منهن إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ومنهن آيات النسك: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [ سورة البقرة: 127 ] .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال: نعم. [ قال ] : وأمنا. قال: نعم. [ قال ] : وتجعلنا مسلمين لك, ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [ قال ] : وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا.

حدثنا سفيان قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال، ابتلي بالآيات التي بعدها: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » ، فالكلمات: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ، وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الآية, وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » ، فمنهن: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، ومنهن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ، ومنهن الآيات في شأن النسك, والمقام الذي جعل لإبراهيم, والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام.

وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر بن نبهان, عن قتادة, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، مناسك الحج.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، كان ابن عباس يقول في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، المناسك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، المناسك.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، مناسك الحج.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، منهن مناسك الحج.

وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق, عن الشعبي: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، منهن الختان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق, قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول الله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » - قال، منهن الختان، يا أبا إسحاق.

وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب, والقمر, والشمس, والنار, والهجرة, والختان, التي ابتلي بهن فصبر عليهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: قلت للحسن: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » . قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛ وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه بالهجرة, وابتلاه بالختان.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر, فأحسن في ذلك, وعرف أن ربه دائم لا يزول, فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عمن سمع الحسن يقول في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه الله بذبح ولده, وبالنار, وبالكوكب, والشمس, والقمر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو هلال, عن الحسن: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه بالكوكب, وبالشمس والقمر, فوجده صابرا.

وقال آخرون بما:

حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [ سورة البقرة: 127- 129 ]

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه, وأمره أن يعمل بهن فأتمهن, كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل « الكلمات » , وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك, فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك, فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء, ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد, ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا, أو أحدهما, كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما، ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني زبّان بن فائد, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: الَّذِي وَفَّى ؟ [ سورة النجم:37 ] لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [ سورة الروم: 17 ] حتى يختم الآية.

والآخر منهما ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن جعفر بن الزبير, عن القاسم, عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال، أتدرون ما وَفَّى ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: وفي عمل يومه، أربع ركعات في النهار.

قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته, كان معلوما أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى « الكلمات » التي أخبر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم، ما بينا آنفا.

ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبا. لأن قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَتَمَّهُنَّ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فأتمهن » ، فأتم إبراهيم الكلمات. و « إتمامه إياهن » ، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ سورة النجم: 37 ] ، يعني وفى بما عهد إليه، « بالكلمات » , بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، كما:-

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس: « فأتمهن » ، أي فأداهن.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فأتمهن » ، أي عمل بهن فأتمهن.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فأتمهن » ، أي عمل بهن فأتمهن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إني جاعلك للناس إماما » ، فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به، كما:-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إني جاعلك للناس إماما » ، ليؤتم به ويقتدى به.

يقال منه: « أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة » ، إذا كنت إمامهم.

وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم: « إني جاعلك للناس إماما » ، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي, تتقدمهم أنت، ويتبعون هديك, ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك ووحيي إليك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم- لمّا رفع الله منـزلته وكرمه, فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه - : يا رب، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: قال إبراهيم: « ومن ذريتي » ، يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به.

وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم: « ومن ذريتي » ، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه, كما قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [ سورة إبراهيم:35 ] ، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه، بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .

والظاهر من التنـزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه: « ومن ذريتي » ، في إثر قول الله جل ثناؤه: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا . فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه، لكان مبينا. ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره, اكتفى بالذكر الذي قد مضى، من تكريره وإعادته, فقال: « ومن ذريتي » ، بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( 124 )

قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم, فإنه غير مُصَيِّره كذلك, ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.

واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه.

فقال بعضهم: ذلك « العهد » ، هو النبوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قال لا ينال عهدي الظالمين » ، يقول: عهدي, نبوتي.

فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك.

وقال آخرون: معنى « العهد » : عهد الإمامة.

فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما، إماما لعبادي يقتدى به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا يكون إمام ظالما.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قال الله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا يكون إمام ظالما.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عكرمة بمثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا يكون إمام ظالم يقتدى به.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.

حدثنا مشرَّف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. .

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « لا ينال عهدي الظالمين » : قال: لا يكون إماما ظالم.

قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: « إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي » ، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » ، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله, عن إسرائيل, عن مسلم الأعور, عن مجاهد, عن ابن عباس: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، ليس للظالمين عهد, وإن عاهدته فانقضه.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال، ليس لظالم عهد.

وقال آخرون: معنى « العهد » في هذا الموضع: الأمان.

فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي, وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قال لا ينال عهدي الظالمين » ، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم, فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله, فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون, فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش.

وقال آخرون: بل « العهد » الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال الله لإبراهيم: « لا ينال عهدي الظالمين » فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين. ألا ترى أنه قال: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [ سورة الصافات:113 ] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.

حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا ينال عهدي عدو لي يعصيني, ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني.

قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله - الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير, بمعنى الاقتداء به في الدنيا, والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة, من وفى لله به في الدنيا - من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق . فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به, ويجور عن قصد السبيل, ويظلم نفسه وعباده، كالذي:-

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون

وأما نصب « الظالمين » , فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين.

وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: « لا ينال عهدي الظالمون » ، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله.

وإنما جاز الرفع في « الظالمين » والنصب, وكذلك في « العهد » ، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء, كما يقال: « نالني خير فلان، ونلت خيره » , فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه.

وقد بينا معنى « الظلم » فيما مضى، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ

قال أبو جعفر: أما قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة » ، فإنه عطف ب « إذ » على قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ . وقوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ، واذكروا « إذ ابتلى إبراهيم ربه » , « وإذ جعلنا البيت مثابة » .

و « البيت » الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام.

وأما « المثابة » ، فإن أهل العربية مختلفون في معناها, والسبب الذي من أجله أنثت.

فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في « المثابة » ، لما كثر من يثوب إليه, كما يقال: « سيارة » لمن يكثر ذلك، « ونسابة » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل « المثاب » و « المثابة » بمعنى واحد, نظيرة « المقام » و « المقامة » . و « المقام » ، ذكر - على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه, وأنثت « المقامة » ، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون « المثابة » ك « السيارة، والنسابة » ., وقالوا: إنما أدخلت الهاء في « السيارة والنسابة » تشبيها لها ب « الداعية » .

و « المثابة » « مفعلة » من « ثاب القوم إلى الموضع » ، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا.

فمعنى قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » : وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه, فلا يقضون منه وطرا. ومن « المثاب » ، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم:

مثــاب لأفنــاء القبــائل كلهــا تخــب إليــه اليعمـلات الطلائـح

ومنه قيل: « ثاب إليه عقله » , إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [ أبو عاصم قال، حدثنا ] عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال: لا يقضون منه وطرا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يثوبون إليه, لا يقضون منه وطرا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، لا يقضون منه وطرا, يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.

حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يثوبون إليه من كل مكان, ولا يقضون منه وطرا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء مثله.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول, عن عطية في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، لا يقضون منه وطرا .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان, عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يحجون ويثوبون.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا الثوري, عن أبي الهذيل, عن سعيد بن جبير في قوله: « مثابة للناس » قال، يحجون, ثم يحجون, ولا يقضون منه وطرا.

حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر, عن غالب, عن سعيد بن جبير: « مثابة للناس » قال، يثوبون إليه.

- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا » قال، مجمعا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « مثابة للناس » قال، يثوبون إليه.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « مثابة للناس » قال، يثوبون إليه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمْنًا

قال أبو جعفر: و « الأمن » مصدر من قول القائل: « أمن يأمن أمنا » .

وإنما سماه الله « أمنا » ، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ . [ سورة العنكبوت: 67 ]

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وأمنا » قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « أمنا » ، فمن دخله كان آمنا.

حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله: « وأمنا » قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « وأمنا » ، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح, وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن.

حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: « وأمنا » قال، أمنا للناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله: « وأمنا » قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:

فقرأه بعضهم: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » بكسر « الخاء » ، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة, وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:-

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, لو اتخذت المقام مصلى! فأنـزل الله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا, عن حميد, عن أنس, عن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد, عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, فذكر مثله.

قالوا: فإنما أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها - وهي أمر- على وجه الخبر.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ و « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » . فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم - على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،..... كما حدثنا [ عن ] الربيع بن أنس. بما:-

حدثت [ به ] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى, فهم يصلون خلف المقام.

فتأويل قائل هذا القول: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال، إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل, يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء, وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.

وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: ( واتخذوا ) بفتح « الخاء » على وجه الخبر.

ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: « واتخذوا » إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر,

فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، [ وإذ ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله: جَعَلْنَا ، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى .

قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا: « واتخذوا » بكسر « الخاء » , على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا, وأن:

عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، وفي « مقام إبراهيم » . فقال بعضهم: « مقام إبراهيم » ، هو الحج كله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: « مقام إبراهيم » ، قال الحج كله مقام إبراهيم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، الحج كله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان، عن ابن جريج, عن عطاء, قال: الحج كله « مقام إبراهيم » .

وقال آخرون: « مقام إبراهيم » عرفة والمزدلفة والجمار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء بن أبي رياح: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، مقامه، عرفة.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود, عن الشعبي قال: نـزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ سورة المائدة: 3 ] ، الآية.

حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن الشعبي مثله

وقال آخرون: « مقام إبراهيم » ، الحرم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، الحرم كله « مقام إبراهيم » .

وقال آخرون: « مقام إبراهيم » الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه, وضعف عن رفع الحجارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه, وإسماعيل يناوله الحجارة, ويقولان: « رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » . فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر, فهو « مقام إبراهيم »

وقال آخرون: بل « مقام إبراهيم » , هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه, فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، فهم يصلون خلف المقام.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، وهو الصلاة عند مقامه في الحج.

و « المقام » هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه, فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب, فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر, فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته, فغابت رجله أيضا فيه, فجعلها الله من شعائره, فقال: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن « مقام إبراهيم » ، هو المقام المعروف بهذا الاسم, الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، ولما:-

حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن, فرمل ثلاثا، ومشى أربعا, ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » . فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.

فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب « مقام إبراهيم » الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا.

ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب « مقام إبراهيم » هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى »

[ قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى: « مصلى » ] ، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. فقال بعضهم: هو المدعى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى.

وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده.

ذكر من قال ذلك:

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هو الصلاة عنده.

قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل: « المصلى » ههنا، المُدَّعَى, وَجَّهوا « المصَلَّى » إلى أنه « مُفَعَّل » ، من قول القائل: « صليت » بمعنى دعوت. .

وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله.

فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها, وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها, فإني قد جعلته لمن بعده - من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره, فاقتدوا به.

وأما تأويل القائلين القول الآخر, فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده, عبادةً منكم, وتكرمةً مني لإبراهيم.

وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وَعهدنا » ؛ وأمرنا، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.

حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وعهدنا إلى إبراهيم » قال، أمرناه.

فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. « والتطهير » الذي أمرهما الله به في البيت, هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله.

فإن قال قائل: وما معنى قوله: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين » ؟ وهل كان أيام إبراهيم - قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم, فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟

قيل: لذلك وجهان من التأويل, قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل.

أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب كما قال تعالى ذكره: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ , [ سورة التوبة: 109 ] ، فكذلك قوله: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي » ، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي » ، يقول: ابنيا بيتي [ للطائفين ] .

فهذا أحد وجهيه.

والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه - على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أن طهرا » قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن عبيد بن عمير: « أن طهرا بيتي للطائفين » قال، من الأوثان والرَّيْب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبيد بن عمير, مثله.

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, قال: من الشرك.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل, عن أبي حصين, عن مجاهد: « طهرا بيتي للطائفين » قال، من الأوثان.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « طهرا بيتي للطائفين » قال: من الشرك وعبادة الأوثان.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِلطَّائِفِينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الطائفين » في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: « للطائفين » قال، من أتاه من غربة.

وقال آخرون: بل « الطائفون » هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: « للطائفين » قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من « الطائفين » .

وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن « الطائف » هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم « طائف بالبيت » ، إن لم يطف به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْعَاكِفِينَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والعاكفين » ، والمقيمين به. « والعاكف على الشيء » ، هو المقيم عليه, كما قال نابغة بني ذبيان:

عكوفــا لــدى أبيـاتهم يثمـدونهم رمـى اللـه فـي تلـك الأكف الكوانع

وإنما قيل للمعتكف « معتكف » ، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: « والعاكفين » .

فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين, وإذا كان جالسا فهو من العاكفين.

وقال بعضهم: « العاكفون » ، هم المعتكفون المجاورون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « طهرا بيتي للطائفين والعاكفين » قال، المجاورون.

وقال بعضهم: « العاكفون » ، هم أهل البلد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: « والعاكفين » قال: أهل البلد.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والعاكفين » قال: العاكفون: أهله.

وقال آخرون: « العاكفون » ، هم المصلون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس في قوله: « طهرا بيتي للطائفين والعاكفين » قال، العاكفون، المصلون.

قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء, وهو أن « العاكف » في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة « العكوف » ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم, وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله: « أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود » - المصلين والطائفين, علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من « العاكف » ، غير حال المصلي والطائف, وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه, وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 125 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والركع » ، جماعة القوم الراكعين فيه له, واحدهم « راكع » . وكذلك « السجود » هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم « ساجد » - كما يقال: « رجل قاعد ورجال قعود » و « رجل جالس ورجال جلوس » ، فكذلك « رجل ساجد ورجال سجود » .

وقيل: بل عنى « بالركع السجود » ، المصلين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: « والركع السجود » قال، إذا كان يصلي فهو من « الركع السجود » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والركع السجود » ، أهل الصلاة.

وقد بينا فيما مضى بيان معنى « الركوع » و « السجود » , فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا » ، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا.

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « آمنا » : آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا عليه, ومن عقوبة الله أن تناله, كما تنال سائر البلدان, من خسف, وائتفاك, وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش. وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين, حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم نوح- رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله.

فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟

قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه, منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري, قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: « يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض, فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما, أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب, فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها: هذه حرم حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين, لم تحل لأحد قبلي, ولا تحل لأحد بعدي, أُحِلَّت لي ساعة من نهار.

قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة, ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط, وأن يرزق ساكنه من الثمرات, كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر » . قالوا: وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته, وهو غير ذي زرع ولا ضرع, فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا, فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه.

قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم, وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه, وهو القائل - حين حله, ونـزله بأهله وولده: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ سورة إبراهيم: 37 ] ؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال: « عند بيتك المحرم » عند نـزوله به, ولكنه حُرِّم قبله, وحُرِّم بعده.

وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره, وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه, كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك، ما:-

حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع عضاهها. »

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [ حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال ] ، حدثنا عبد الرحيم الرازي, [ قالا جميعا ] : سمعنا أشعث, عن نافع, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبد الله وخليله, وإني عبد الله ورسوله, وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها, ولا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن سعيد قال، حدثنا بكر بن مضر, عن ابن الهاد, عن أبي بكر بن محمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن إبراهيم حرم مكة, وإني أحرم المدينة ما بين لابيتها. »

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب.

قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال: « رب اجعل هذا بلدا آمنا » ، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض, فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، « أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض » ، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله, ولكن بمنعه من أرادها بسوء, وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات, وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله, وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه, ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه, يستنون به فيها, إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله, للناس إماما يقتدى به, فأجابه ربه إلى ما سأله, وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه,

فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده, ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام, وواجب على عباده الامتناع من استحلالها, واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم.

فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله حرم مكة » . لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه, [ وهو الذي ] لزم العباد فرضه دون غيره.

فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر » - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اللهم إن إبراهيم حرم مكة » ؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر، كما ظنه بعض الجهال.

وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه.

وأما قول إبراهيم عليه السلام رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ سورة إبراهيم: 37 ] فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد، لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

قال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص, بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين، لما أعلمه الله - عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم- أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده, والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر, خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك, وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم, فأمتعه به قليلا.

وأما « من » من قوله: « من آمن منهم بالله واليوم الآخر » ، فإنه نصبٌ على الترجمة والبيان عن « الأهل » ، كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [ سورة البقرة: 217 ] ، بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام, وكما قال تعالى ذكره: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [ سورة آل عمران: 97 ] : بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا.

وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل, فسأل أن يرزق أهله ثمرا, وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله الطائف من فلسطين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم: « وارزق أهله من الثمرات » ، نقل الله الطائف من فلسطين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره, وتأويله على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك: « فأمتعه قليلا » ، بتشديد « التاء » ورفع « العين » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع, قال، حدثني أبو العالية, عن أبي بن كعب في قوله: « ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار » ، قال هو قول الرب تعالى ذكره.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما قال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية, انقطاعا إلى الله، ومحبة وفراقا لمن خالف أمره, وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده, بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله: ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا.

وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام, مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ - بتخفيف « التاء » وجزم « العين » ، وفتح « الراء » من اضطره, وفصل « ثم أضطره » بغير قطع ألفها - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن ليث, عن مجاهد: « ومن كفر فأمتعه قليلا » ، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا، ثم أضطره إلى عذاب النار.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل, ما قاله أبي بن كعب وقراءته, لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك, وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو, على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك, ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم, ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار.

وأما قوله: « فأمتعه قليلا » يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة. فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه.

وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.

وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة, حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه، لما وصفنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ

قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله: « ثم أضطره إلى عذاب النار » ، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها, كما قال تعالى ذكره: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [ سورة الطور: 13 ] .

ومعنى « الاضطرار » ، الإكراه. يقال: « اضطررت فلانا إلى هذا الأمر » ، إذا ألجأته إليه وحملته عليه.

فذلك معنى قوله: « ثم أضطره إلى عذاب النار » ، أدفعه إليها وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 126 )

قال أبو جعفر: قد دللنا على أن « بئس » أصله « بِئس » من « البؤس » سُكِّن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله, كما قيل للكَبد كِبْد, وما أشبه ذلك.

ومعنى الكلام: وساء المصيرُ عذابُ النار, بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها.

وأما « المصير » ، فإنه « مَفعِل » من قول القائل: « صرت مصيرا صالحا » ،, وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت » ، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.

و « القواعد » جمع « قاعدة » , يقال للواحدة من « قواعد البيت » « قاعدة » , وللواحدة من « قواعد النساء » وعجائزهن « قاعد » , فتلغى هاء التأنيث، لأنها « فاعل » من قول القائل: « قعدت عن الحيض » , ولا حظَّ فيه للذكورة, كما يقال: « امرأة طاهر وطامث » ، لأنه لا حظ في ذلك للذكور. ولو عنى به « القعود » الذي هو خلاف « القيام » ، لقيل: « قاعدة » , ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. و « قواعد البيت » : إساسه.

ثم اختلف أهل التأويل في « القواعد » التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت. أهما أحدثا ذلك, أم هي قواعد كانت له قبلهما؟

فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك, ثم درس مكانه وتعفَّى أثرُه بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام , فبناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء قال: قال آدم: يا رب، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال: بخطيئتك, ولكن اهبط إلى الأرض، وابن لي بيتا, ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من « حراء » و « طورزيتا » , و « طورسينا » , و « جبل لبنان » , و « الجودي » , وكان ربضه من حراء. فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت » قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك.

وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض, يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء, ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان, فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب, عن أبي قلابة, عن عبد الله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك - أو منـزل - معك بيتا يطاف حوله كما يطاف حول عرشي, ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان رفع, فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه, حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه, فبناه من خمسة أجبل: من « حراء » و « ثبير » و « لبنان » و « جبل الطور » و « جبل الخمر » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا إسماعيل بن علية قال، حدثنا أيوب, عن أبي قلابة, قال: لما أهبط آدم, ثم ذكر نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان, عن سوار [ ختن عطاء ] , عن عطاء بن أبي رباح, قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء, يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم, يأنس إليهم, فهابته الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها, فخفضه إلى الأرض. فلما فقد ما كان يسمع منهم, استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته, فوجه إلى مكة, فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازة, حتى انتهى إلى مكة. وأنـزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة, فكانت على موضع البيت الآن, فلم يزل يطوف به حتى أنـزل الله الطوفان, فرفعت تلك الياقوتة, حتى بعث الله إبراهيم فبناه. فذلك قول الله: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم، حين أهبط الله آدم إلى الأرض, وكان مهبطه بأرض الهند, وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض, فكانت الملائكة تهابه, فنقص إلى ستين ذراعا: فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي, وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم فخرج, ومد له في خطوه, فكان بين كل خطوتين مفازة, فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك. فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة - أو درة واحدة- حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه, فبوأه الله لإبراهيم, فبناه بعد ذلك.

وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوه حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها, فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم, فبناه على أساسه. وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال جرير بن حازم, حدثني حميد بن قيس, عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض, مثل الزبْدة البيضاء, ومن تحته دحيت الأرض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال, أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحا فصفقت الماء, فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة, فهذا البيت منها. فلذلك هي « أم القرى » . قال ابن جريج، قال عطاء: ثم وَتَدها بالجبال كي لا تكفأ بميد, فكان أول جبل « أبو قبيس » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن حفص بن حميد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام, ثم دحيت الأرض من تحت البيت .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن هارون بن عنتره, عن عطاء بن أبي رباح قال: وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه: « إني أنا الله ذو بكة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر, وحففته بسبعة أملاك حنفاء » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام, وخرج معه بإسماعيل وأمه هاجر, وإسماعيل طفل صغير يرضع. وحملوا - فيما حدثني- على البراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه جبريل, فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه! حتى قدم به مكة, وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر، وبها أناس يقال لهم « العماليق » خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة, فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنـزلهما فيه, وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا, فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . [ سورة إبراهيم: 37 ]

قال ابن حميد: قال، سلمة قال، ابن إسحاق: ويزعمون - والله أعلم- أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أم إسماعيل - حين أنـزلهما إبراهيم مكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت - فأشار لها إلى البيت, وهو ربوة حمراء مدرة, فقال لها: هذا أول بيت وضع في الأرض, وهو بيت الله العتيق, واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه للناس.

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان قال، أخبرني حميد, عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة, وأركانه في الأرض السابعة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، أخبرني بشر بن عاصم, عن ابن المسيب قال، حدثنا كعب: إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة, ومنه دحيت الأرض. قال [ سعيد ] : وحُدّثنا عن علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة, تدله على تبوئ البيت، كما تتبوأ العنكبوت بيتها قال، فرفعت عن أحجار تطيقه - أو لا تطيقه- ثلاثون رجلا قال، قلت: يا أبا محمد فإن الله يقول: « وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت » قال، كان ذاك بعد.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم, فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درة أهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي، لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها, ولا هو - إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا - مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره, ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد, فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا. والله تعالى أعلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا. وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن سعود. وهو قول جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه, قال: « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ قال، هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان: « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » قال، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني.

فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل قائلين: ربنا تقبل منا.

وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت, وإذ يقول ربنا تقبل منا. فيصير حينئذ « إسماعيل » مرفوعا بالجملة التي بعده. و « يقول » حينئذ، خبر له دون إبراهيم.

ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها.

فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ . قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة, فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت. فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج, لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ . [ سورة الحج: 26 ] . فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال: يا أبت، إني كسلان تعب. قال: علي بذلك. فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه, فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا. فانطلق يطلب له حجرا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند, وكان أبيض، ياقوتة بيضاء مثل الثغامة. وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس. فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن, فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: من هو أنشط منك! فبنياه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن عمر بن عبد الله بن عروة, عن عبيد بن عمير الليثي قال: بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت.

وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم, وكان إسماعيل يناوله الحجارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة - يزيد أحدهما على الآخر- ، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم، وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه, فصنعا كما يصنع الوالد بالولد, والولد بالوالد, ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا! وأشار إلى الكعبة, والكعبة مرتفعة على ما حولها قال، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة, وإبراهيم يبني, حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له, فقام عليه وهو يبني, وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » ، حتى دور حول البيت.

حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جاء - يعني إبراهيم- فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم. قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه, فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » . فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة, قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان: « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » .

وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل يومئذ طفل صغير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى, قالا حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب, عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت, خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرأس, فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص. فلما بنى [ خرج ] وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال، فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا, ثم رجعت إلى الصفا فنظرت، فلم تر شيئا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف! قال: ففحص [ الغلام ] الأرض بإصبعه، فنبعت زمزم, فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رَوَاء.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن خالد بن عرعرة: أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، مقام إبراهيم, ومن دخله كان آمنا, وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا, فأرسل الله السكينة - وهى ريح خجوج, ولها رأسان - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة, فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر, فذهب الغلام يبغي شيئا, فقال إبراهيم: لا ابغني حجرا كما آمرك. قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا, فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء. فأتماه.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا سعيد, عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك, عن خالد بن عرعرة, عن علي، بنحوه.

قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل, أو قال: رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل. ويكون الكلام حينئذ: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ يقولان: « ربنا تقبل منا » . وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم, ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا.

وأما على التأويل الذي روي عن علي:- أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة.

والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل, وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. وذلك أن إبراهيم وإسماعيل، إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها, وكان إسماعيل يناوله, فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته.

وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا يقولانه, وذلك قولهما: « ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم » . فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل, وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع, ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان - في حال بناء أبيه, ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله - كذلك, فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه, إما على البناء, وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت, وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.

فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، إنك أنت السميع العليم.

وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، ولا منـزلا ينـزلانه, بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا « ربنا تقبل منا » . ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم، لم يكن لقولهما: « تقبل منا » وجه مفهوم. لأنه كانا يكونان - لو كان الأمر كذلك- سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 127 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « إنك أنت السميع العليم » ، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة, وما نبدي ونخفي من أعمالنا، . كما:-

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « تقبل منا إنك أنت السميع العليم » ، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ

قال أبو جعفر: وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل: أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان: « ربنا واجعلنا مسلمين لك » ، يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك, لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك, ولا في العبادة غيرك.

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « الإسلام » : الخضوع لله بالطاعة.

وأما قوله: « ومن ذريتنا أمة مسلمة لك » ، فإنهما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما.

وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ومن ذريتنا أمة مسلمة لك » يعنيان العرب.

قال أبو جعفر: وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه. لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب, والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد.

وأما « الأمة » في هذا الموضع, فإنه يعني بها الجماعة من الناس، من قول الله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [ سورة الأعراف: 159 ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: « وأرنا مناسكنا » بمعنى رؤية العين, أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة.

وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل، يسكن الراء من « أرنا » , غير أنه يشمها كسرة.

واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله: « مناسكنا »

فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وأرنا مناسكنا » فأراهما الله مناسكهما: الطواف بالبيت, والسعي بين الصفا والمروة, والإفاضة من عرفات, والإفاضة من جمع, ورمي الجمار, حتى أكمل الله الدين - أو دينه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وأرنا مناسكنا » قال، أرنا نسكنا وحجنا.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت، أمره الله أن ينادي فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [ سورة الحج:27 ] ، فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن, فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: « لبيك لبيك » . فأجابوه بالتلبية: « لبيك اللهم لبيك » ، وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها [ له ] ، فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان, فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة, فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا, فصده، فرماه وكبر, فطار فوقع على الجمرة الثالثة, فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه, ولم يدر إبراهيم أين يذهب, انطلق حتى أتى « ذا المجاز » , فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي: « ذا المجاز » . ثم انطلق حتى وقع بعرفات, فلما نظر إليها عرف النعت. قال: قد عرفت! فسميت: « عرفات » . فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت « المزدلفة » ، فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات, ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله: « وأرنا مناسكنا » .

وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة - « المناسك » : المذابح. فكان تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « وأرنا مناسكنا » قال: ذبحنا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن ابن جريج, عن عطاء قال: مذابحنا.

2067م- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

2067م- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.

2067م- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: « وأرنا مناسكنا » قال، أرنا مذابحنا.

وقال آخرون: « وأرنا مناسكنا » بتسكين « الراء » ، وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يعفر، أخي الأسود بن يعفر:

أرينـي جـوادا مـات هـزلا لعلنـي أرى مــا تــرين أو بخـيلا مخـلدا

يعني بقوله: « أريني » ، دليني عليه وعرفيني مكانه, ولم يعن به رؤية العين.

وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عطاء: « أرنا مناسكنا » ، أخرجها لنا, علمناها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت, قال: « فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا » - أبرزها لنا, علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به.

قال أبو جعفر: والقول واحد, فمن كسر « الراء » جعل علامة الجزم سقوط « الياء » التي في قول القائل: « أرينه » « أرنه » ، وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن « الراء » من « أرنا » ، توهم أن إعراب الحرف في « الراء » ، فسكنها في الجزم، كما فعلوا ذلك في « لم يكن » و « لم يك » . .

وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب.

وأما « المناسك » فإنها جمع « منسك » , وهو الموضع الذي ينسك لله فيه, ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له, وإما بصلاة أو طواف أو سعي, وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج « مناسكه » , لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس, ويترددون إليها.

وأصل « المنسك » في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه, يقال: « لفلان منسك » , وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر. ولذلك سميت « المناسك » « مناسك » , لأنها تعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة, وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله.

وقد قيل: إن معنى « النسك » : عبادة الله. وأن « الناسك » إنما سمي « ناسكا » بعبادة ربه.

فتأول قائلو هذه المقالة. قوله: « وأرنا مناسكنا » ، وعلمنا عبادتك، كيف نعبدك؟ وأين نعبدك؟ وما يرضيك عنا فنفعله؟

وهذا القول، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام, فإن الغالب على معنى « المناسك » ما وصفنا قبل، من أنها « مناسك الحج » التي ذكرنا معناها.

وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما. وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين. فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية, وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا « وأرنا مناسكنا » . وأما التي في الآية التي بعدها: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ ، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة.

وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود: « وأرهم مناسكهم » , يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 128 )

قال أبو جعفر: أما « التوبة » ، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب. فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه، والإقلاع عنه, والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه, مغفرة له منه, وتفضلا عليه.

فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟

قيل: إنه ليس أحد من خلق الله، إلا وله من العمل - فيما بينه وبين ربه- ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك, وإنما خَصَّا به الحال التي كانا عليها، من رفع قواعد البيت. لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما, وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدى بها بعدهما, وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما: « وتب علينا » ، وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا - الذين أعلمتنا أمرهم- من ظلمهم وشركهم, حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما, والمعني به ذريتهما. كما يقال: « أكرمني فلان في ولدي وأهلي, وبرني فلان » ، إذا بر ولده.

وأما قوله: « إنك أنت التواب الرحيم » ، فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم, المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته, المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

قال أبو جعفر: وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة, وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: « أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى » :-

حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن ثور بن يزيد, عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم, أنا دعوة أبي إبراهيم, وبشرى عيسى، صلى الله عليه وسلم.

حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا أبو اليمان قال، حدثنا أبو كريب, عن أبي مريم, عن سعيد بن سويد, عن العرباض بن سارية السلمي قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أم الكتاب، خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية - , وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثني أبي قال، حدثنا الليث بن سعد, عن معاوية بن صالح - قالا جميعا, عن سعيد بن سويد, عن عبد الله بن هلال السلمي, عن عرباض بن سارية السلمي, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية, عن سعيد بن سويد, عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن عرباض بن سارية: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر نحوه.

وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » ، ففعل الله ذلك, فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه, يخرجهم من الظلمات إلى النور, ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » ، هو محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع: « ربنا وابعث فيهم رسولا منهم » ، هو محمد صلى الله عليه وسلم, فقيل له: قد استجيب ذلك, وهو في آخر الزمان.

قال أبو جعفر: ويعني تعالى ذكره بقوله: « يتلو عليهم آياتك » : يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

قال أبو جعفر: ويعني ب « الكتاب » : القرآن.

وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن « كتابا » ، وما تأويله. وهو قول جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « ويعلمهم الكتاب » ، القرآن.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الحكمة » التي ذكرها الله في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هي السنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة « والحكمة » ، أي السنة.

وقال بعضهم: « الحكمة » ، هي المعرفة بالدين والفقه فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين, والفقه في الدين, والاتباع له.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « والحكمة » قال، « الحكمة » ، الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و « الحكمة » ، العقل في الدين وقرأ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [ سورة البقرة: 269 ] ، وقال لعيسى، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [ سورة آل عمران: 48 ] قال، وقرأ ابن زيد: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ سورة الأعراف: 175 ] قال، لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال: « والحكمة » شيء يجعله الله في القلب، ينور له به.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في « الحكمة » , أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها, وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من « الحكم » الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنـزلة « الجِلسة والقِعدة » من « الجلوس والقعود » , يقال منه: « إن فلانا لحكيم بين الحكمة » ، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل.

وإذا كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك, ويعلمهم كتابك الذي تنـزله عليهم, وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيُزَكِّيهِمْ

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى « التزكية » : التطهير, وأن معنى « الزكاة » ، النماء والزيادة.

فمعنى قوله: « ويزكيهم » في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله، كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يتلو عليهم آياتك ويزكيهم » قال، يعني بالزكاة, طاعة الله والإخلاص.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج قوله: « ويزكيهم » قال، يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 129 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت « العزيز » القوي الذي لا يعجزه شيء أراده, فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك؛ و « الحكيم » الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل, فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا, ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ومن يرغب عن ملة إبراهيم » ، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟

وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن « ملة إبراهيم » هي الحنيفية المسلمة, كما قال تعالى ذكره: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [ سورة آل عمران: 67 ] ، فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » ، رغب عن ملته اليهود والنصارى, واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعة ليست من الله, وتركوا ملة إبراهيم - يعني الإسلام- حنيفا؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ومن يرغبث عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » قال، رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله, وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إلا من سفه نفسه » ، إلا من سفهت نفسه. وقد بينا فيما مضى أن معنى « السفه » ، الجهل.

فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها، كما:-

حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إلا من سفه نفسه » قال، إلا من أخطأ حظَّه.

وإنما نصب « النفس » على معنى المفسر. ذلك أن « السفه » في الأصل للنفس, فلما نقل إلى « من » ، نصبت « النفس » ، بمعنى التفسير. كما يقال: « هو أوسعكم دارا » , فتدخل « الدار » في الكلام على أن السعة فيها، لا في الرجل. فكذلك « النفس » أدخلت لأن السفه للنفس لا ل « من » . ولذلك لم يجز أن يقال: سفه أخوك. وإنما جاز أن يفسر بالنفس، وهي مضافة إلى معرفة، لأنها في تأويل نكرة.

وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله: « سفه نفسه » جرت مجرى « سفه » إذا كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى « نفسه » و « رأيه » وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو « سفه » , إذا هو لم يتعد. فأما « غبن » و « خسر » فقد يتعدى إلى غيره, يقال: « غبن خمسين, وخسر خمسين » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولقد اصطفيناه في الدنيا » ، ولقد اصطفينا إبراهيم. و « الهاء » التي في قوله: « اصطفيناه » ، من ذكر إبراهيم.

و « الاصطفاء » « الافتعال » من « الصفوة » , وكذلك « اصطفينا » « افتعلنا » منه, صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد.

ويعني بقوله: « اصطفيناه » : اخترناه واجتبيناه للخلة، ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما.

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده، فهو لله مخالف, وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته, وجعله للناس إماما, وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 130 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وإنه في الآخرة لمن الصالحين » ، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.

و « الصالح » من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.

فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في الدنيا صفي, وفي الآخرة ولي, وأنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 131 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إذ قال له ربه أسلم » ، إذ قال له ربه: أخلص لي العبادة, واخضع لي بالطاعة, وقد دللنا فيما مضى على معنى « الإسلام » في كلام العرب, فأغنى عن إعادته.

وأما معنى قوله: « قال أسلمت لرب العالمين » ، فإنه يعني تعالى ذكره، قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة, وأخلصت العبادة، لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره.

فإن قال قائل: قد علمت أن « إذ » وقت، فما الذي وقت به؟ وما الذي هو له صلة.

قيل: هو صلة لقوله: وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا . وتأويل الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا، حين قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. وإنما معنى الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا حين قلنا له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأظهر اسم « الله » في قوله: « إذ قال له ربه أسلم » ، على وجه الخبر عن غائب, وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر عن نفسه, كما قال خُفاف بن ندبة:

أقـول لـه - والـرمح يـأطر متنه: تـــأمل خفافـا إننــي أنا ذالكـا

فإن قال لنا قائل: وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام؟

قيل له: نعم, قد دعاه إليه.

فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه؟

قيل حين قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ سورة الأنعام: 78- 79 ] ، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه: أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ووصى بها » ، ووصى بهذه الكلمة. عنى ب « الكلمة » قوله أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وهي « الإسلام » الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم, وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله, وخضوع القلب والجوارح له.

ويعني بقوله: « ووصى بها إبراهيم بنيه » ، عهد إليهم بذلك وأمرهم به.

وأما قوله: « ويعقوب » ، فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب » ، يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ووصى بها إبراهيم بنيه » ، وصاهم بالإسلام, ووصى يعقوب بمثل ذلك.

قال أبو جعفر: وقال بعضهم: قوله: ( ووصى بها إبراهيم بنيه ) ، خبر منقض. وقوله: « ويعقوب » خبر مبتدأ. فإنه قال: « ووصى بها إبراهيم بنيه » . بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب بنيه: أن: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

ولا معنى لقول من قال ذلك. لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه، نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه: من الحث على طاعة الله، والخضوع له، والإسلام.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت: من أن معناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: أن يَا بَنِيَّ - فما بال « أن » محذوفة من الكلام؟

قيل: لأن الوصية قول، فحملت على معناها. وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ القول، لم تحسن معه « أن » , وإنما كان يقال: وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب: يَا بَنِيَّ . فلما كانت الوصية قولا حملت على معناها دون لفظها، فحذفت « أن » التي تحسن معها, كما قال تعالى ذكره: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ [ سورة النساء: 11 ] ، وكما قال الشاعر:

إنــي ســأبدي لـك فيمـا أبـدي لـــي شــجنان شــجن بنجــد

وشجن لي ببلاد السند

فحذفت « أن » ، إذ كان الإبداء باللسان في المعنى قولا فحمله على معناه دون لفظه.

وقد قال بعض أهل العربية: إنما حذفت « أن » من قوله: « ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب » ، اكتفاء بالنداء - يعني بالنداء قوله: يَا بَنِيَّ وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالأدوات عن « أن » ، كقولهم: « ناديت هل قمت؟ - وناديت أين زيد؟ » . قال: وربما أدخلوها مع الأدوات. فقالوا: « ناديت، أن هل قمت؟ » .

وقد قرأ جماعة من القرأة: « وأوصى بها إبراهيم » ، بمعنى: عهد.

وأما من قرأ « ووصى » مشددة، فإنه يعني بذلك أنه عهد إليهم عهدا بعد عهد, وأوصى وصية بعد وصية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إن الله اصطفى لكم الدين » ، إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه، واجتباه لكم.

وإنما أدخل « الألف واللام » في « الدين » , لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك، كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به، وعهدهما إليهم فيه, ثم قالا لهم - بعد أن عرفاهموه- : إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه, فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 132 )

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أوَ إلَى بني آدمَ الموتُ والحياةُ، فينهى أحدُهم أن يموت إلا على حالة دون حالة؟

قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ. وإنما معنى « فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون » ، أي: فلا تفارقوا هذا الدين - وهو الإسلام- أيام حياتكم. وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيتُه, فلذلك قالا لهم: « فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون » ، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار, فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربُّكم ساخط عليكم، فتهلكوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أم كنتم شهداء » ، أكنتم. ولكنه استفهم ب « أم » ، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه, كما قيل: الم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ سورة السجدة: 1- 3 ] وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه، تستفهم فيه ب « أم » .

« والشهداء » جمع « شهيد » ، كما « الشركاء » جمع « شريك » و « الخصماء » جمع « خصيم » .

قال أبو جعفر وتأويل الكلام: أكنتم - يا معشر اليهود والنصارى، المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم, الجاحدين نبوته- , حضورَ يعقوبَ وشهودَه إذ حضره الموت, أي إنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل, وتَنحلوهم اليهوديةَ والنصرانية, فإني ابتعثت خليلي إبراهيم - وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم- بالحنيفية المسلمة, وبذلك وصَّوْا بنيهم، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم. فلو حضرتموهم فسمعتم منهم، علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم .

وهذه آيات نـزلت، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب: أنهم كانوا على ملتهم, فقال لهم في هذه الآية: « أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت » ، فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « أم كنتم شهداء » ، يعني أهل الكتاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 133 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إذ قال لبنيه » ، إذ قال يعقوب لبنيه .

و « إذ » هذه مكررة إبدالا من « إذ » الأولى، بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته.

ويعني بقوله: « ما تعبدون من بعدي » - أي شيء تعبدون، « من بعدي » ؟ أي من بعد وفاتي؟ قالوا: « نعبد إلهك » ، يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده, ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، « إِلَهًا وَاحِدًا » أي: نخلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئا، ولا نتخذ دونه ربا.

ويعني بقوله: « وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » ، ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة.

ويحتمل قوله: « وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » ، أن تكون بمعنى الحال, كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا, فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك, ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون.

وأحسن هذين الوجهين - في تأويل ذلك- أن يكون بمعنى الحال, وأن يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، مسلمين لعبادته.

وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق » قال، يقال: بدأ بإسماعيل لأنه أكبر.

وقرأ بعض المتقدمين: « وإله أبيك إبراهيم » ، ظنا منه أن إسماعيل، إذ كان عما ليعقوب, فلا يجوز أن يكون فيمن تُرجم به عن الآباء، وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك، قلة علم منه بمجاري كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء, والأخوال بمعنى الأمهات. فلذلك دخل إسماعيل فيمن تُرجم به عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ترجمةٌ عن الآباء في موضع جر, ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون .

والصواب من القراءة عندنا في ذلك: « وإله آبائك » ، لإجماع القراء على تصويب ذلك، وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك.

ونصب قوله: « إِلَهًا » ، على الحال من قوله: « إلهك » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 134 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره. بقوله: « تلك أمة قد خلت » ، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم.

يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى، دَعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها إليهم, فإنهم أمة - ويعني: ب « الأمة » في هذا الموضع: الجماعةَ والقرنَ من الناس - قد خلت: مضت لسبيلها.

وإنما قيل للذي قد مات فذهب: « قد خلا » , لتخليه من الدنيا وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه.

وأصله من قولهم: « خلا الرجل » , إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك الوجه.

ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه - ضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه - من أنبيائي ورسلي، ما كسب .

« والهاء والألف » في قوله: « لها » ، عائدة إن شئت على « تلك » , وإن شئت على « الأمة » .

ويعني بقوله: « لها ما كسبت » ، أي ما عملت من خير، . ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخذون أنتم - أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون. فيكسبون من خير وشر، لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم, فإن الدعاوَى غيرُ مغنيتكم عند الله, وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتم عملتموها وقدمتموها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا » ، وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا؛ وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا.

تعني بقولها: « تهتدوا » ، أي تصيبوا طريق الحق، . كما:-

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة - جميعا, عن ابن إسحاق, قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنـزل الله عز وجل فيهم: « وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين » .

قال أبو جعفر: احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها, وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك: « كونوا هودا أو نصارى تهتدوا » - : بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه وأمر به - فإن دينه كان الحنيفية المسلمة- وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا. فإن ذلك - على اختلافه- لا سبيل لنا على الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم.

وفي نصب قوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أوجه ثلاثة. أحدها: أن يوجه معنى قوله: « وقالوا كونوا هودا أو نصارى » ، إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية. لأنهم إذ قالوا: « كونوا هودا أو نصارى » ، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم, ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة. فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد، لا نتبع اليهودية والنصرانية, ولا نتخذها ملة, بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا, ثم يحذف « نتبع » الثانية, ويعطف ب « الملة » على إعراب اليهودية والنصرانية.

والآخر: أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى « نتبع »

والثالث: أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم, أو أهل ملة إبراهيم. ثم حذف « الأهل » و « الأصحاب » , وأقيمت « الملة » مقامهم, إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، كما قال الشاعر:

حســبت بغــام راحـلتي عناقـا! ومـا هــي, ويـب غــيرك, بالعناق

يعني: صوت عناق, فتكون « الملة » حينئذ منصوبة، عطفا في الإعراب على « اليهود والنصارى » .

وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء, باتباع ملة إبراهيم.

وقرأ بعض القراء ذلك رفعا, فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 135 )

قال أبو جعفر: و « الملة » ، الدين

وأما « الحنيف » ، فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له « أحنف » ، نظرا له إلى السلامة, كما قيل للمهلكة من البلاد « المفازة » , بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ: « السليم » , تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك, وما أشبه ذلك.

فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما.

فيكون « الحنيف » حينئذ حالا من « إبراهيم »

وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك. فقال بعضهم: « الحنيف » الحاج. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الإسلام « الحنيفية » ، لأنه أول إمام لزم العباد - الذين كانوا في عصره، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة- اتباعه في مناسك الحج, والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته, فهو « حنيف » ، مسلم على دين إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا القاسم بن الفضل, عن كثير أبي سهل, قال: سألت الحسن عن « الحنيفية » , قال: حج البيت.

حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن موسى قال: أخبرنا فضيل, عن عطية في قوله: « حنيفا » قال الحنيف: الحاج.

حدثني الحسين بن علي الصدائي قال: حدثنا أبي, عن الفضيل, عن عطية مثله.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: الحنيف الحاج.

حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي, عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن « الحنيفية » , قال: هو حج هذا البيت.

قال ابن التيمي: وأخبرني جويبر, عن الضحاك بن مزاحم، مثله.

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سفيان, عن السدي, عن مجاهد: « حنفاء » قال: حجاجا.

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « حنيفا » قال: حاجا.

حدثت عن وكيع, عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن القاسم قال: كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون « حنفاء » , فأنـزل الله تعالى ذكره حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ . [ سورة الحج: 31 ]

وقال آخرون: « الحنيف » ، المتبع, كما وصفنا قبل، من قول الذين قالوا: إن معناه: الاستقامة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « حنفاء » قال: متبعين.

وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم « الحنيفية » , لأنه أول إمام سن للعباد الختان, فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختثن على سبيل اختتان إبراهيم, فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام, فهو « حنيف » على ملة إبراهيم.

وقال آخرون: « بل ملة إبراهيم حنيفا » , بل ملة إبراهيم مخلصا. « فالحنيف » على قولهم: المخلص دينه لله وحده.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ، يقول: مخلصا.

وقال آخرون: بل « الحنيفية » الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها، فهو « حنيف » .

قال أبو جعفر: « الحنف » عندي، هو الاستقامة على دين إبراهيم، واتباعه على ملته. . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت, لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ سورة آل عمران: 67 ]

فكذلك القول في الختان. لأن « الحنيفية » لو كانت هي الختان، لوجب أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [ سورة آل عمران: 67 ] .

فقد صحّ إذًا أن « الحنيفية » ليست الختانَ وحدَه, ولا حجَّ البيت وحده, ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها.

فإن قال قائل: أوَما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟

قيل: بَلى.

فإن قال: فكيف أضيف « الحنيفية » إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟

قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله, ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة, كالذي فعل من ذلك بإبراهيم, فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان, وغير ذلك من شرائع الإسلام, تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من الناس « حنيفًا » باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه, وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل, فقيل: « يهودي، ونصرانيّ، ومجوسيّ » , وغير ذلك من صنوف الملل

وأما قوله: « وما كانَ مِن المشركين » ، يقول: إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا من النصارى, بل كان حنيفًا مسلمًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 136 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « قولوا » - أيها المؤمنون، لهؤلاء اليهودِ والنصارَى، الذين قالوا لكم: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا - : « آمنا » , أي صدَّقنا بالله .

وقد دللنا فيما مضى أنّ معنى « الإيمان » ، التصديقُ، بما أغنى عن إعادته. .

« وما أنـزل إلينا » ، يقول أيضًا: صدّقنا بالكتاب الذي أنـزل الله إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطاب بالتنـزيل إليهم، إذ كانوا متّبعيه، ومأمورين منهيين به. فكان - وإنْ كان تنـزيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمعنى التنـزيل إليهم، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفتُ

ويعني بقوله: « ومَا أنـزل إلى إبراهيم » ، صدَّقنا أيضًا وآمنا بما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط , وهم الأنبياء من ولد يَعقوب.

وقوله: « ومَا أوتي مُوسَى وعيسى » ، يعني: وآمنا أيضًا بالتوراة التي آتاها الله موسى, وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى, والكتب التي آتى النبيين كلهم, وأقرَرنا وصدّقنا أن ذلك كله حَق وهُدى ونور من عند الله، وأن جَميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى، يُصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله، والعمل بطاعته, « لا نُفرِّق بَينَ أحد منهم » ، يقول: لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض, ونتبرَّأ من بعضٍ ونتولى بعضًا, كما تبرأت اليهودُ من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء, وكما تبرأت النصارَى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره من الأنبياء، بل نشهد لجميعهم أنّهم كانوا رسلَ الله وأنبياءَه, بعثوا بالحق والهدى.

وأما قوله: « ونحنُ لَهُ مُسلمون » ، فإنه يعني تعالى ذكره: ونحنُ له خاضعون بالطاعة, مذعنون له بالعبودية.

فذُكر أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود, فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به، كما:-

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفرٌمن يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار، وأشْيَع, فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وَمَا أنـزلَ إلينا وما أنـزلَ إلى إبرَاهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوب والأسباط, ومَا أوتي مُوسى وعيسى وَمَا أوتي النبيون من رَبهم لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى, ولا نؤمن بمن آمن به. فأنـزل الله فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [ سورة المائدة:59 ]

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه - إلا أنه قال: « ونافع بن أبي نافع » مكانَ « رافع بن أبي رافع » .

وقال قتادة: أنـزلتْ هذه الآية، أمرًا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رُسله كلهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: « قُولُوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم » إلى قوله: « ونَحنُ له مسلمون » ، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم, ولا يفرِّقوا بين أحد منهم.

وأما « الأسباط » الذين ذكرهم، فهم اثنا عشر رَجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وَلَد كل رجل منهم أمّة من الناس, فسموا « أسباطًا » . كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأسباط، يوسفُ وإخوته، بنو يَعقوب. ولد اثني عشر رجلا فولد كل رجل منهم أمَّة من الناس, فسموا: « أسباطا » .

حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: أما الأسباط، فهم بنو يعقوب: يوسُف, وبنيامين, ورُوبيل, ويهوذا, وشَمعون, ولاوِي, ودَان, وقهاث. .

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: « الأسباط » يوسف وإخوته بنو يعقوب، اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمّة من الناس, فسموا « الأسباط » .

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق قال نكح يَعقوب بن إسحاق - وهو إسرائيل- ابنة خاله « ليا » ابنة « ليان بن توبيل بن إلياس » ، فولدت له « روبيل بن يعقوب » ، وكان أكبر ولده, و « شمعون بن يعقوب » , و « لاوي بن يعقوب » و « يهوذا بن يعقوب » و « ريالون بن يعقوب » ، و « يشجر بن يعقوب » ، و « دينة بنت يعقوب » ، ثم توفيت « ليا بنت ليان » . فخلف يعقوب على أختها « راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس » فولدت له « يوسف بن يعقوب » و « بنيامين » - وهو بالعربية أسد- وولد له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما « زلفة » , واسم الأخرى « بلهية » ، أربعة نفر: « دان بن يعقوب » , و « نَفثالي بن يعقوب » و « جَاد بن يعقوب » , و « إشرب بن يعقوب » فكان بنو يعقوب اثني عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا يعلم أنسابَهم إلا الله, يقول الله تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا . [ سورة الأعراف: 160 ]

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به » ، فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنـزل إليكم، وما أنـزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ, ومَا أوتي مُوسى وعيسى, وما أوتي النبيون من ربهم, وأقروا بذلك، مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم, فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا, وهم حينئذ منكم وأنتم منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك.

فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها، كما:-

حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا » ونحو هذا, قال: أخبر الله سبحانه أنّ الإيمان هو العروة الوثقى, وَأنه لا يقبل عملا إلا به, ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.

وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءةٌ، جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافها, وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها. وذلك ما:-

حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن أبي حمزة, قال: قال ابن عباس: لا تقولوا: « فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا » - فإنه ليس لله مثل- ولكن قولوا: « فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا » - أو قال: « فإن آمنوا بما آمنتم به » .

فكأن ابن عباس - في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه- يوجِّه تأويل قراءة من قرأ: « فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به » ، فإن آمنوا بمثل الله, وبمثل ما أنـزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله تعالى ذكرُه, فنؤمن أو نكفر به.

ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وَجّه إليه تأويله. وإنما معناه ما وصفنا, وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به - من جميع ما عددنا عليكم من كتُب الله وأنبيائه- فقد اهتدوا. فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء. كقول القائل: « مرّ عمرو بأخيك مثلَ ما مررتُ به » , يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مُروري به. والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين, لا بين عمرو وبين المتكلم. فكذلك قوله: « فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به » ، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين، لا بين المؤمَنِ به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ

قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله: « وإن تَوَلَّوْا » ، وإن تولى - هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى - فأعرضوا، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله, وبما جاءت به الأنبياءُ, وابتُعِثت به الرسل, وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله, فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد, عن سعيد، عن قتادة: « وإنما هُم في شقاق » ، أي: في فراق

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فإنما هُمْ في شقاق » ، يعني فراق.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: « وإن توَلوا فإنما هم في شقاق » قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب, وإذا حَارب فقد شاقَّ, وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [ سورة النساء: 115 ] .

قال أبو جعفر: وأصل « الشقاق » عندنا، والله أعلم، مأخوذٌ من قول القائل: « شَقَّ عليه هذا الأمر » ، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل: « شاقَّ فلانٌ فلانًا » ، بمعنى: نال كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله تعالى ذكره: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا [ سورة النساء: 35 ] بمعنى: فراقَ بينهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 137 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فسيكفيكهمُ الله » ، فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لَكَ ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ، من اليهود والنصارى, إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله, وبما أنـزل إليك, وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم, وفرقوا بين الله ورُسُله - إما بقتل السيف, وإما بجلاء عن جوارك, وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو « السميع » لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضّالة - « العليمُ » بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.

ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده, فكفى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ( 138 )

قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره ب « الصبغة » : صبغةَ الإسلام. وذلك أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنـزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام, وأنه صبغة لهم في النصرانية.

فقال الله تعالى ذكره - إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا - : قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى, بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ, فإنها هي الحنيفية المسلمة, ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه.

ونصب « الصبغة » من قرأها نصبًا على الردِّ على « الملة » . وكذلك رَفع « الصبغة » من رَفع « الملة » ، على ردّها عليها.

وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء, بمعنى: هي صبغةُ الله.

وقد يجوز نصبها على غير وجه الرّد على « الملة » , ولكن على قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، « صبغةَ الله » , بمعنى: آمنا هذا الإيمان, فيكون الإيمان حينئذ هو صبغةُ الله.

وبمثل الذي قلنا في تأويل « الصبغة » قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة » إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ, والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى, وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر, وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال عطاء: « صبغةَ الله » صبغت اليهودُ أبناءَهم خالفوا الفِطْرة.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « صبغة الله » . فقال بعضهم: دينُ الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: « صبغة الله » قال: دينَ الله.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: « صبغةَ الله » قال: دينَ الله، « ومن أحسن من الله صِبغةً » ، ومن أحسنُ من الله دينًا.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان, عن رجل, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فُضَيل بن مرزوق, عن عطية قوله: « صبغةَ الله » قال: دينَ الله.

حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة » ، يقول: دينَ الله, ومن أحسن من الله دينًا.

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس: « صبغةَ الله » قال: دينَ الله.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله: « صبغةَ الله » قال: دين الله.

حدثني ابن البرقي قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سألت ابن زيد عن قول الله: « صبغةَ الله » ، فذكر مثله.

وقال أخرون: « صبغة الله » فطرَة الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « صبغة الله » قال: فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا ابن لهيعة, عن جعفر بن ربيعة, عن مجاهد: « ومن أحسنُ من الله صبغة » قال: الصبغة، الفطرةُ.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج, عن مجاهد قال: « صبغةَ الله » ، الإسلام, فطرةَ الله التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن كثير: « صبغةَ الله » قال: دين الله، ومن أحسنُ من الله دينًا. قال: هي فطرة الله.

ومن قال هذا القول, فوجَّه « الصبغة » إلى الفطرة, فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها خلقه, وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة الأنعام: 14 ] . بمعنى خالق السماوات والأرض .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ( 138 )

قال أبو جعفر: وقوله تعالى ذكره: « ونَحنُ له عَابدون » ، أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى . فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بل نتبعُ ملة إبراهيم حنيفًا, صبغةَ الله, ونحنُ له عابدون. يعني: ملة الخاضعين لله المستكينين له، في اتّباعنا ملة إبراهيم، وَديْنُونتنا له بذلك, غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار برسالته رسلَه, كما استكبرت اليهودُ والنصارَى, فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارًا وبغيًا وحسدًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ( 139 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « قُلْ أتُحاجُّونَنا في الله » ، قل يا محمد لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا , وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم, وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبلَ كتابكم, وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم : « أتحاجوننا في الله وهو رَبنا وربكم » , بيده الخيرات, وإليه الثواب والعقابُ, والجزاءُ على الأعمال - الحسنات منها والسيئات, فتزعمون أنكم بالله أوْلى منا، من أجل أن نبيكم قبل نبينا, وكتابكم قبل كتابنا, وربّكم وربّنا واحدٌ, وأنّ لكلّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها, يجازى [ عليها ] فيثابُ أو يعاقبُ، - لا على الأنساب وقدمَ الدِّين والكتاب.

ويعني بقوله: « قُلْ أتحاجوننا » ، قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ كما-

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قل أتحاجوننا في الله » ، قل: أتخاصموننا؟

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: « قل أتحاجُّونَنا » ، أتخاصموننا؟

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « أتحاجوننا » ، أتجادلوننا؟

فأما قوله: ( وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ) ، فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا, ولا نعبد غيره أحدًا, كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ, وأصحاب العِجل معه العجلَ.

وهذا من الله تعالى ذكره توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان, بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قولوا - أيها المؤمنون، لليهود والنصارى الذين قالوا لكم: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا - : « أتحاجوننا في الله » ؟ يعني بقوله: « في الله » ، في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدينه به, وربنا وربكم واحدٌ عدلٌ لا يجور, وإنما يجازي العبادَ عَلى ما اكتسبوا. وتزعمون أنّكم أولى بالله منا، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم, ونحنُ مُخلصون له العبادةَ، لم نشرك به شَيئًا, وقد أشركتم في عبادتكم إياه, فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا, وأولى بالله منا؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ

قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان. أحدهما: « أمْ تَقولون » ب « التاء » . فمن قرأ كذلك، فتأويله: قل يا محمد - للقائلين لَك من اليهود والنصارى: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا - : أتجادلوننا في الله، أم تقولون إن إبراهيم؟ فيكون ذلك معطوفًا على قوله: أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ .

والوجه الآخر منهما: « أم يَقولون » ب « الياء » . ومن قرأ ذلك كذلك وجّه قوله: « أم يقولون » إلى أنه استفهام مُستأنَف, كقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ سورة السجدة: 3 ] ، وكما يقال: « إنها لإبل أم شَاءٌ » . وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا، لمجيء خبر مستأنف, كما يقال: « أتقوم أم يقوم أخوك؟ » فيصير قوله: « أم يقوم أخوك » خبرًا مستأنفًا لجملة ليست من الأول واستفهامًا مبتدأ. ولو كان نَسقًا على الاستفهام الأول، لكان خبرًا عن الأول, فقيل: « أتقوم أم تقعد؟ »

وقد زعم بعض أهل العربية أنّ ذلك، إذا قرئ كذلك ب « الياء » , فإن كان الذي بعد « أم » جملة تامة، فهو عطفٌ على الاستفهام الأول. لأن معنى الكلام: قيل: أيّ هذين الأمرين كائنٌ؟ هذا أم هذا؟

قال أبو جعفر: والصواب من القرَاءة عندنا في ذلك: « أم تقولون » « بالتاء » دون « الياء » عطفًا على قوله: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا ، بمعنى: أيّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله, فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا - وأمرنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا - أمْ تزعمون أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم, فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم، لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه. وغير جائزة قراءة ذلك ب « الياء » ، لشذوذها عن قراءة القراء.

وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيّه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد - لهؤلاء اليهود والنصارى- : أتحاجُّوننا في الله, وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا, وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان من الله تعالى ذكره، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا - على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يقتدى بهم.

ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُل لهم يا محمد - إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى - الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى , أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى, فمن أظلمُ منهم؟ يقول: وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ومن أظلمُ ممن كتم شَهادةً عندهُ من الله » قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما، إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد عَلم أنهم كاذبون.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله » ، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما: إنهم كانوا يهود أو نصارَى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة فيهم، إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني إسحاق, عن أبي الأشهب, عن الحسن أنه تلا هذه الآية: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إلى قوله: « قل أأنتم أعلمُ أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله » ، قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية, كما أن عند القوم من الله شَهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام, فبم استحلُّوها؟

حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله » ، أهلُ الكتاب, كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله, وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى, وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان.

وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارَى، إن ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا هودًا أو نصارى, تبيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين, فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق, ونحن مختلفون فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه.

وقال آخرون: بل عَنى تعالى ذكره بقوله: « ومَنْ أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله » ، اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّتَه, وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى ، أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله, واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ, وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: « ومَنْ أظلمُ ممن كتم شهادة عنده من الله » قال: الشهادةُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مكتوبٌ عندهم, وهو الذي كتموا.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, نحو حديث بشر بن معاذ، عن يزيد.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عند منَ الله » قال: هم يهودُ، يُسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم, فيكتمون الصفة.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القولَ الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن قوله تعالى ذكره: « ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله » ، في إثر قصة من سمَّى الله من أنبيائه, وأمامَ قصته لهم. فأوْلى بالذي هو بَين ذلك أن يكون من قَصصهم دون غَيره.

فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ؟ قيل: الشهادةُ التي عندهم من الله في أمرهم, ما أنـزل الله إليهم في التوراة والإنجيل, وأمرُهم فيها بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم, وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين. وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام, فقالوا له: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ سورة البقرة: 111 ] ، وقالوا له ولأصحابه: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ، فأنـزلَ الله فيهم هذه الآيات، في تكذيبهم، وكتمانهم الحق, وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 140 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقل - لهؤلاء اليهود والنصارَى، الذين يحاجُّونك يا محمد- : « وما اللهُ بغافل عما تعملون » ، من كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر الإسلام, وأنهم كانُوا مسلمين, وأنّ الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به، دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل- ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك، بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلا في الدنيا، بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره, وهو مُجازيهم في الآخرة العذابَ المهين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 141 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « تلك أمة » ، إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله تعالى: « تلك أمة قَد خَلت » ، يعني: إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله.

قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى أن « الأمة » ، الجماعة .

فمعنى الآية إذًا: قلْ يا محمد لهؤلاء الذين يُجادلونك في الله من اليهود والنصارى، إن كتموا ما عندَهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سَمَّينا مَعه, وأنهم كانوا مسلمين, وزعموا أنهم كانوا هودًا أو نصارى، فكذبوا : إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ أمَّةٌ قد خَلتْ - أي مضت لسبيلها - فصارت إلى ربها, وخَلتْ بأعمالها وآمالها, لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها, وعليها ما اكتسبت من شر, لا ينفعها غيرُ صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيِّئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك, فإنكم، إنْ كان هؤلاء - وهم الذين بهم تَفتخرون، وتزعمون أنّ بهم تَرجُون النجاةَ من عذاب ربكم، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا يَنفعهم عند الله غيرُ ما قدَّموا من صالح الأعمال، ولا يضرهم غير سيئها، فأنتم كذلك أحرَى أنْ لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال, ولا يضرّكم غيرُ سَيئها. فاحذروا على أنفسكم، وبادروا خروجَها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفِرية على الله وعلى أنبيائه ورُسُله, ودَعُوا الاتكالَ على فَضَائل الآباء والأجداد, فإنما لكم ما كسبتم, وعليكم ما اكتسبتم, ولا تُسألون عما كان إبراهيم وإسماعيلُ وإسحاقُ ويعقوبُ والأسباط يَعملون من الأعمال, لأن كل نفس قَدِمت على الله يوم القيامة, فإنما تُسأل عما كسبت وأسلفت، دون ما أسلفَ غيرُها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « سيقول السفهاء » ، سيقول الجهال « منَ الناس » , وهم اليهود وأهل النفاق.

وإنما سماهم الله عز وجل « سُفهاء » ، لأنهم سَفِهوا الحق. فتجاهلت أحبارُ اليهود, وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم, إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل, وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا.

وبما قلنا في « السفهاء » - أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل.

ذكر من قال: هم اليهود:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: « سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم » قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثت عن أحمد بن يونس, عن زهير, عن أبي إسحاق، عن البَراء: « سيقول السفهاء من الناس » قال، اليهود.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء: « سيقول السفهاء من الناس » قال، اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: « سيقول السفهاء من الناس » قال، أهل الكتاب

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: اليهودُ.

وقال آخرون: « السفهاء » ، المنافقون.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: نـزلت « سَيقول السفهاء من الناس » ، في المنافقين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ما ولاهم » : أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل: « ولاني فلان دُبُره » ، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله: « ما ولاهم » ؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟

وأما قوله: « عن قبلتهم » ، فإن « قبلة » كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي « فِعْلة » بمنـزلة « الجلسة والقِعْدة » ، من قول القائل. « قابلت فلانًا » ، إذا صرتُ قُبالته أقابله, فهو لي « قبلة » وأنا له « قبلة » , إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا - إذْ كان ذلك معناه - : سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله, - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام - : أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء, فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟

فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام, وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد, فقل لهم: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

وكان سببُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه, وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب.

ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟

اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا : حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة - شكّ محمد- ، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة - وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيس, وقَرْدَم بن عمرو, وكعبُ بن الأشرف, ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد, وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع - والحجاج بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف والربيعُ بن الربيعُ بن [ أبي ] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنـزل الله فيهم: « سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها » إلى قوله: إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, قال البراء: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا, وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم, فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا, وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا - شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نـزلَ على أجداده - أو أخواله- من الأنصار, وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا, وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت, وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه, فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب, فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك.

حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا, ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين.

وقال آخرون بما:-

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس, انصرف بوَجْهه إلى الكعبة, فقال السفهاء: « ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها » .

وقال آخرون بما:-

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي, عن عمرو بن مرة, عن ابن أبي ليلى, عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا.

حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة, عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج, وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد.

ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة.

اختلف أهلُ العلم في ذلك.

فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم

ذكرُ من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن عكرمة - وعن يزيد النحويّ, عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ, فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا, ليؤمنوا به ويتبعوه, ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ سورة البقرة: 115 ] .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها » ، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية : إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء, فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب, فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا, وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام.

وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك - من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكان [ أكثرَ ] أهلها اليهودُ, أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة عَشر شَهرًا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام, وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنـزل الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ سورة البقرة: 144 ] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: « ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها » ؟ فأنـزل الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة, ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا, ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة.

ذكر السبب الذي من أجله قال من قال « ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها » ؟

اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه.

والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها » ؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس: « ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها » ؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنـزل الله في المنافقين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ، الآية كلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 142 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد - لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها, إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟- : لله مُلك المشرق والمغرب يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس, وقُطرَيْ مغربها, وما بينهما من العالم يَهدي من يشاء من خلقه، فيُسدده, ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو « الصراط المستقيم » - ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق.

وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله: « يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » ، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم - أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وكذلك جَعلناكم أمة وسطًا » ، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله, فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته, وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.

وقد بينا أن « الأمة » ، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم.

وأما « الوسَط » ، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه: « فلان وَسَطُ الحسب في قومه » ، أي متوسط الحسب, إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه, و « هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ » ،

كما يقال: « شاة يابِسةُ اللبن ويَبَسةُ اللبن » , وكما قال جل ثناؤه: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [ سورة طه: 77 ] ، وقال زُهير بن أبي سُلمى في « الوسط » :

هُـمُ وَسَـطٌ تَـرْضَى الأنـامُ بِحُكْمِهِمْ إذَا نـزلَتْ إحْـدَى الليَـالِي بِمُعْظَــمِ

قال أبو جعفر: وأنا أرى أن « الوسط » في هذا الموضع، هو « الوسط » الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين, مثل « وسَط الدار » محرَّك الوَسط مثقَّله, غيرَ جائز في « سينه » التخفيف.

وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم « وسَط » ، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك, إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها.

وأما التأويل، فإنه جاء بأن « الوسط » العدلُ. وذلك معنى الخيار، لأن الخيارَ من الناس عُدولهم.

ذكر من قال: « الوسطُ » العدلُ.

حدثنا سَلْم بن جُنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش, عن أبي صالح، عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا » قال، عُدولا.

حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا حدثنا جعفر بن عون, عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح, عن أبي سعيد الخدري: « وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا » قال، « عدولا » .

حدثني علي بن عيسى قال : حدثنا سعيد بن سليمان, عن حفص بن غياث, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « جعلناكم أمَّة وسطًا » قال، عدولا.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: « وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أمة وسَطًا » قال، عُدولا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وكذلك جعلناكم أمة وَسَطًا » ، يقول: جعلكم أمةً عُدولا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن رِشْد بن سعد قال، أخبرنا ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا » قال، الوسطُ العدل.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير: « أمة وَسَطًا » ، قالوا: عُدولا. قال مجاهد: عَدْلا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وكذلك جَعلناكم أمهً وسطًا » قال، هم وَسَطٌ بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

قال أبو جعفر: « والشهداء » جمع « شَهيد » .

فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا عُدولا [ لتكونوا ] شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أممها بالبلاغ، أنها قد بلغت ما أُمرَت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها, ويكونَ رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي، كما:-

حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ ما أرسِلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير! فيقال له: من يعلم ذاك؟ فيقول: محمد وأمته. فهو قوله: « وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا » .

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال, حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه - إلا أنه زاد فيه: فيُدعون ويَشهدون أنه قد بلَّغ.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد: « وكذلك جعلناكم أمة وسَطًا لتكونوا شُهداءَ عَلى الناس » - بأن الرسل قد بلَّغوا- « ويكونَ الرسول عليكم شهيدًا » . بما عملتم، أو فعلتم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أبي مالك الأشجعي, عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس: أن مُكاتبًا لهم حَدّثهم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة، ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال: « ويكونَ الرسول عليكم شَهيدًا » .

حدثني عصام بن روَّاد بن الجرّاح العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن عبد الله بن أبي الفضل, عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة, فلما صلى على الميت قال الناس: نِعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت! ثم خرجت مَعه في جنازة أخرى, فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت. فقام إليه أبيّ بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولك وجبت؟ قال: قول الله عز وجل: « لتكونوا شُهداء على الناس » .

حدثني عليّ بن سَهل الرملي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني أبو عمرو، عن يحيى قال، حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال، حدثني أبو هريرة قال: أُتي رَسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة, فقال الناس: نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصَام عن أبيه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع, عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها بثناء حَسن, فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى, فأثنِيَ عليها دون ذلك, فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية [ سورة التوبة: 105 ] .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لتكونوا شهداء على الناس » ، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [ أبو ] عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح قال: يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة نَادِيَهُ ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، حدثني ابن أبي نجيح, عن أبيه قال، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, فذكر مثله, ولم يذكر عبيد بن عمير، مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة « لتكونوا شُهداء على الناس » ، أي أنّ رسلهم قد بلغت قومَها عن ربّها, « ويكون الرسول عليكم شَهيدًا » ، على أنه قد بلغ رسالات ربِّه إلى أمته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم: أنّ قوم نوح يَقولونَ يوم القيامة: لم يبلِّغنا نوحٌ! فيدعَى نوح عليه السلام فيسأل: هل بلغتهم؟ فيقول : نعم. فيقال: من شُهودك؟ فيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتُسألون فتقولون: نعم، قد بلّغهم. فتقول قوم نوح عليه السلام: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم, وأنـزل عليه أنه قد بلغكم, فصدَّقناه. قال: فيصدّق نوح عليه السلام ويكذبونهم. قال: « لتكونوا شُهداء على الناس ويَكونَ الرسول عليكم شهيدًا »

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « لتكونوا شُهداء على الناس » ، لتكون هذه الأمة شُهداء على الناس أنّ الرسل قد بلَّغتهم, ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدًا, أن قد بلَّغ ما أرسل به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم: أنّ الأمم يقولُون يوم القيامة: والله لقد كادت هذه الأمَّة أن تكون أنبياءَ كلهم! لما يرون الله أعطاهم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن رِشْدين بن سعد, قال أخبرني ابن أنعم المعافري, عن حبان بن أبي جبلة يُسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة, كان أوَّلَ من يدعى إسرافيلُ, فيقول له ربه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رَبّ، قد بلغته جبريل عليهما السلام, فيدعى جبريل، فيقال له: هل بَلغك إسرافيلُ عهدي! فيقول: نعم ربّ، قد بلغني. فيخلَّى عن إسرافيلُ, ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، قد بلغتُ الرسل. فتُدعى الرسل فيقال لهم: هل بلَّغكم جبريلُ عهدي؟ فيقولون: نعم ربَّنا. فيخلَّى عن جبريل, ثم يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلَّغنا أممنا. فتدعى الأمم، فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم المصدِّق, فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهودًا يَشهدون أنْ قد بلَّغنا مع شَهادتك. فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمَّة محمد. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فيقول : أتشهدون أنّ رسُلي هؤلاء قد بلَّغوا عهدي إلى من أرسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم ربَّنا شَهدنا أنْ قد بلَّغوا. فتقول تلك الأمم. كيف يشهد علينا من لم يُدركنا؟ فيقول لهم الرب تباركَ وتعالى: كيف تشهدون عَلى من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنـزلت إلينا عهدك وكتابك, وقصَصَت علينا أنّهم قد بلَّغوا, فشهدنا بما عهدْتَ إلينا. فيقول الرب : صدَقوا. فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا - والوسطُ العَدْل- « لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا » . قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من كان في قلبه حِنَةٌ على أخيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « لتكونوا شُهداء على الناس » ، يعني بذلك. الذين استقاموا على الهُدى, فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « لتكونوا شهداء على الناس » ، يقول: لتكونوا شهداء على الأمم الذين خَلَوا من قبلكم، بما جاءتهم رسلهم, وبما كذّبوهم, فقالوا يوم القيامة وعَجِبوا: إنّ أمة لم يكونوا في زماننا, فآمنوا بما جاءتْ به رسلنا, وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب. قوله: « ويكُون الرسولُ عليكم شهيدًا » ، يعني بإيمانهم به, وبما أنـزل عليه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس: « لتكونوا شُهداء على الناس » ، يعني: أنهم شَهدوا على القرون بما سمَّى الله عز وجل لَهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله: « لتكونوا شهداء على الناس » ؟ قال: أمة محمد، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمانُ والهدى، ممن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثير. قال: وقال عطاء: شهداء على مَنْ ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين, جاء ذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، « ويكون الرسولُ عليكمْ شهيدًا » على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصَدَّقوا به.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « لتكونوا شُهداء عل الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا » قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّته, وهم شهداء على الأمم, وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ سورة غافر: 51 ] الأربعة: الملائكة الذين يُحصُون أعْمالنا، لنا وعلينا، وقرأ قوله: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ سورة ق: 21 ] ، وقال: هذا يوم القيامة. قال: والنبيون شُهداء على أممهم. قال: وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شُهداء على الأمم. قال: [ والأطوار ] الأجساد والجلود.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها » ، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه.

والقبلة التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها، التي عناها الله بقوله: « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها » ، هي القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها » ، يعني: بيت المقدس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: « وما جَعلنا القِبلة التي كنتَ عليها » . قال: القِبلة بيتُ المقدس.

قال أبو جعفر: وإنما ترك ذكر « الصرف عنها » ، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نَظائره.

وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في القِبلة، إنما كانت - فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة, حتى ارتدَّ - فيما ذكر- رجالٌ ممن كان قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأظهرَ كثيرٌ من المنافقين من أجل ذلك نفاقَهم, وقالوا: ما بَالُ محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا للمؤمنين.

فلذلك قال جل ثناؤه: « ومَا جَعلنا القِبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عَقبيه » ، أي: ومَا جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها, وتحويلك إلى غيرها, كما قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ سورة الإسراء: 60 ] بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنةٌ, وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنةٌ ولا محْنة.

ذكر الأخبار التي رُويت في ذلك بمعنى ما قلنا:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قَال: كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتمحيصٌ. صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حوْلين قَبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قُدومه المدينةَ مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعةَ عشر شهرًا, ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام, فقال في ذلك قائلون من الناس: مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ؟ لقد اشتاق الرجُل إلى مولده! قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . فقال أناسٌ - لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام- : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنـزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ . وقد يَبتلي الله العبادَ بما شَاءَ من أمره، الأمرَ بعدَ الأمر, ليعلم مَنْ يطيعه ممن يَعصيه، وكل ذلك مقبول، إذْ كان في [ ذلك ] إيمان بالله, وإخلاصٌ له, وتسليم لقضائه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس, فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، اختلف الناس فيها, فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده, ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ, فتوجه بقبلته إليكم, وعلم أنكم كنتم أهدى منه, ويوشك أنْ يدخل في دينكم! فأنـزل الله جل ثناؤه في المنافقين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إلى قوله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ، وأنـزل في الآخرين الآيات بعدها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: « إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلبُ على عَقبيه » ؟ فقال عطاء: يبتليهم، ليعلم من يُسلم لأمره. قال ابن جريج: بلغني أنّ ناسًا ممن أسلم رَجعوا فقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا!

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، إلا بعد اتباع المتّبع, وانقلاب المنقلب على عقبيه, حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه؟

قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها، وليس قوله: « وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه » يخبر [ عن ] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجُوده.

فإن قال: فما معنى ذلك؟

قيل له : أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه: « إلا لنعلم » ، ومعناه: ليعلمَ رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤهُ من حزبه, وكان من شَأن العرب إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس, ومَا فعل بهم إليه، نحو قولهم: « فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق, وجَبى خَرَاجها » , وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك. وكالذي رُوي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي, واستقرضته فلم يقرضني, وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله: استقرضتُ عَبدي فلم يُقرضني, وشتمني ولم يَنبغ له أن يشتُمني! يقول: وادَهراه! وأنا الدهر، أنا الدهر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه, وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.

وقد حكي عن العرب سماعًا: « أجوع في غَيْر بَطني, وأعرى في غير ظهْري » , بمعنى: جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم,

فكذلك قوله: « إلا لنعلم » ، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وما جَعلنا القبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه » ، قال ابن عباس: لنميّز أهلَ اليقين من أهل الشرك والريبة.

وقال بعضهم: إنما قيل ذلك، من أجل أن العرَب تَضع « العلم » مكان « الرؤية » , و « الرؤية » مكان « العلم » , كما قَال جلّ ذكره: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [ سورة الفيل: 1 ] ، فزعم أن معنى « ألم تر » ، ألم تعلم؟ وزعم أن معنى قوله: « إلا لنعلم » ، بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أنّ قول القائل: « رأيتُ، وعَلمت، وشَهدت » ، حروفٌ تتعاقب، فيوضَع بعضها موضع بعض, كما قال جرير بن عطية

كَــأَنَّكَ لَـمْ تَشْـهَدْ لَقِيطًـا وَحَاجِبًـا وَعَمْــرَو بـن عَمْــرٍو إذْ دَعَـا يَالَ دَارِمِ

بمعنى: كأنك لم تعلم لَقيطًا، لأنّ بين هُلْك لَقيط وحاجب وزمان جرير، ما لا يخفى بُعده من المدة. وذلك أنّ الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية, وجريرٌ كان بعد بُرْهة مَضَت من مجيء الإسلام.

قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيدٌ, من أجل أنّ « الرؤية » ، وإن استعملت في موضع « العلم » ، من أجل أنه مستحيلٌ أن يرى أحدٌ شيئًا, فلا توجب رؤيته إياه علمًا بأنه قد رآه، إذا كان صحيح الفطرة. فجاز من الوجه الذي أثبته رؤيةً، أن يُضَاف إليه إثباتُهُ إياه علمًا، وصحّ أن يدلّ بذكر « الرؤية » على معنى « العلم » من أجل ذلك. فليس ذلك، وإن كان [ جائزا ] في الرؤية - لما وصفنا- بجائز في العلم، فيدلّ بذكر الخبر عن « العلم » على « الرؤية » . لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يَرَى شيئًا إلا علمه, كما قد قدمنا البيان [ عنه ] . مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال: « علمت كذا » ، بمعنى رأيته. وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنـزله على محمد صلى الله عليه وسلم منَ الكلام، إلى ما كان موجودًا مثله في كلام العرب، دون ما لم يكن موجودًا في كلامها. فموجود في كلامها « رأيت » بمعنى: علمت, وغير موجود في كلامها « علمت » بمعنى: رأيت, فيجوز توجيه: « إلا لنعلم » إلى معنى: إلا لنرى.

وقال آخرون: إنما قيل: « إلا لنعلم » ، من أجل أنّ المنافقين واليهودَ وأهلَ الكفر بالله، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يَعلم الشيءَ قبل كونه. وقالوا - إذ قيل لهم: إن قومَا من أهل القبلة سيرتدُّون على أعقابهم, إذا حُوِّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة- : ذلك غير كائن! أو قالوا: ذلك باطل! فلما فَعل الله ذلك, وحوَّل القبلة, وكفر من أجل ذلك من كفر, قال الله جل ثناؤه: ما فعلتُ إلا لنعلم ما علمه غَيركم- أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه- : أنّي عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد.

فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله: « إلا لنعلم » : إلا لنبيّن لكم أنّا نعلمُ من يَتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. وهذا وإن كان وَجهًا له مَخرج, فبعيدٌ من المفهوم.

وقال آخرون: إنما قيل: « إلا لنعلم » ، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال, على وجه الترفّق بعباده, واستمالتهم إلى طاعته، كما قال جل ثناؤه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سورة سبأ: 24 ] ، وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين, ولكنه رَفقَ بهم في الخطاب, فلم يقل: أنّا على هدى, وأنتم على ضلال. فكذلك قوله: « إلا لنعلم » ، معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالا به قبل أن يكونَ. فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم.

وقد بيَّنا القول الذي هو أوْلى في ذلك بالحقّ.

وأما قوله: « مَنْ يتَّبع الرسول » . فإنه يعني: الذي يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به, فيوجِّه نحو الوَجه الذي يتوَجَّه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: « ممن يَنقلب على عَقبيه » ، فإنه يعني: من الذي يرتدُّ عن دينه, فينافق, أو يكفر, أو مخالف محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذلك، ممن يظهر اتِّباعه، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما جَعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه » قال، مَنْ إذا دخلتْه شُبهة رجع عن الله, وانقلب كافرًا على عَقبيه.

وأصل « المرتد على عقبيه » ، هو: « المنقلب على عقبيه » ، الراجع مستدبرًا في الطريق الذي قد كان قطعه، منصرفًا عنه. فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه، من دين أو خير. ومن ذلك قوله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [ سورة الكهف: 64 ] ، بمعنى: رَجعا في الطريق الذي كانا سَلكاه، وإنما قيل للمرتد: « مرتد » , لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها.

وإنما قيل: « رجع عَلى عقبيه » ، لرجوعه دُبُرًا على عَقبه، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مَرْجعه عنه. فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرًا وآخذٍ آخرَ غيره، إذا انصرف عما كان فيه، إلى الذي كان له تاركًا فأخذه. فقيل: « ارتد فلان على عَقِبه, وانقلب على عَقبيه » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت « كبيرة إلا على الذين هَدى الله » .

فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه ب « الكبيرة » ، التوليةُ من بيت المقدس شطرَ المسجد الحرام والتحويلُ. وإنما أنَّث « الكبيرة » ، لتأنيث « التولية » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قال الله: « وإن كانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله » ، يعني: تحويلَها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله » قال، ما أمِروا به من التحوُّل إلى الكعبة من بيت المقدس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لكبيرة إلا على الذين هَدى الله » قال، كبيرة، حين حُولت القبلة إلى المسجد الحرام, فكانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله.

وقال آخرون: بل « الكبيرة » ، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجَّه إليها من بيت المقدس قبلَ التحويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: « وإن كانت لكبيرة » ، أي: قبلةُ بيت المقدس - « إلا على الذين هدى الله » .

وقال بعضهم: بل « الكبيرة » هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى.

ذكر من قال ذلك.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله » قال، صلاتكم حتى يهديَكم اللهُ عز وجل القِبلةَ.

وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن كانت لَكبيرة » قال، صلاتك هاهنا - يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا- وانحرافُك هاهنا

وقال بعض نحويي البصرة: أنِّثت « الكبيرة » لتأنيث القبلة, وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: « وإن كانت لكبيرة » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت « الكبيرة » لتأنيث التولية والتحويلة

فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنتَ عليها وتوليتُناك عنها، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه, وإن كانت تحويلتُنا إياك عنها وتوليتُناكَ « لكبيرة إلا على الذين هدى الله » .

وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب. لأن القوم إنما كبُر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وَجْهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم. إلا أن يوجِّه موجِّه تأنيث « الكبيرة » إلى « القبلة » , ويقول: اجتُزئ بذكر « القبلة » من ذكر « التولية والتحويلة » ، لدلالة الكلام على معنى ذلك, كما قد وصفنا لك في نظائره. فيكون ذلك وجهًا صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا.

ومعنى قوله: « كبيرة » ، عظيمة، . كما:-

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن كانت لكبيرة إلا عَلى الذين هدى الله » قال، كبيرة في صدور الناس، فيما يدخل الشيطانُ به ابنَ آدم. قال: ما لهم صلُّوا إلى هاهنا ستةَ عشر شهرًا ثم انحرفوا! فكبُر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا، فثبَّت الله جل ثناؤه ذلك قي قلوبهم، وقرأ قول الله « وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله » قال، صَلاتكم حَتى يهديكم إلى القبلة.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « إلا على الذين هَدى الله » ، فإنه يعني به:

وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنتَ عليها، لعظيمة إلا على من وّفَّقه الله جل ثناؤه، فهداهُ لتصديقك والإيمان بك وبذلك, واتباعِك فيه، وفيما أنـزل الله تعالى ذكره عليك، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله » ، يقول: إلا على الخاشعين, يعني المصدِّقين بما أنـزل الله تبارك وتعالى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ

قال أبو جعفر: قيل: عنى ب « الإيمان » ، في هذا الموضع: الصلاةَ.

ذكر الأخبار التي رُويت بذلك، وذكر قول من قاله:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وعبيد الله - وحدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا عبيد الله بن موسى- جميعًا، عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال، لما وُجِّه رَسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنـزل الله جل ثناؤه: « وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم » .

حدثني إسماعيل بن موسى قال، أخبرنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء في قول الله عز وجل: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال، صلاتكم نحوَ بَيت المقدس.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء نحوه.

وحدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحرّاني قال، حدثنا زهير قال، حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: مات على القبلة قبلَ أن تحوّل إلى البيت رجالٌ وقُتلوا, فلم ندر ما نَقول فيهم. فأنـزل الله تعالى ذكره: « وما كان الله ليُضيع إيمانكم » .

حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، قال أناسٌ من الناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام- : كيف بأعمالنا التي كنا نَعملُ في قبلتنا؟ فأنـزل الله جل ثناؤه: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما وُجِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَل المسجد الحرام، قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنـزل الله جل ثناؤه فيهم: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك طاعة وهذه طاعة.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال ناسٌ - لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام- : كيف بأعمالنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « وما كانَ الله ليضيع إيمانكم » الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم قال، لما صُرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة, قال المسلمون: هَلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس! فنـزلت: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » .

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » ، يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة. فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ صلاتهم.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » ، صلاتكم.

حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال، أخبرنا المؤمل قال، حدثنا سفيان, حدثنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال، صلاتكم نحو بيت المقدس.

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على أن « الإيمان » التصديق. وأن التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا.

فمعنى قوله: « وما كان الله ليُضيع إيمانكم » - على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة- : وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي, واتِّباعًا لأمْري, وطاعةً منكم لي.

قال: « وإضاعته إياه » جل ثناؤه - لو أضاعه- : تركُ إثابة أصْحابه وعامليه عليه, فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة « إضاعة الرجل ماله » , وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا آجل.

فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه, وإن نُسخ ذلك الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله.

فإن قال قائل: وكيفَ قال الله جل ثناؤه: « وما كان الله ليُضيع إيمانكم » ، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين, والقومُ المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس, وفي ذلك من أمرهم أنـزلت هذه الآية؟

قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك, فإنهم أيضًا قد كانوا مشفقين من حُبُوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة, وظنّوا أنّ عملهم ذلك قد بطلَ وذهب ضياعًا؟ فأنـزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ, فوجّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم. لأن من شأن العرب - إذا اجتمع في الخبر المخاطبُ والغائبُ- أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب. فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: « فعلنا بكما وصنعنا بكما » ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران, ولا يستجيزون أن يقولوا: « فعلنا بهما » ، وهم يخاطبون أحدهما، فيردّوا المخاطب إلى عِدَاد الغَيَب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 143 )

قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه: « إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ رحيمٌ » : أن الله بجميع عباده ذُو رأفة.

و « الرأفة » ، أعلى مَعاني الرحمة, وهي عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة.

وأما « الرحيم » : فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينا فيما مضى قبل.

وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنّ الله عز وجل أرْحمُ بعباده منْ أن يُضيع لهم طاعةً أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها, وأرأفُ بهم من أن يُؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم - أيْ ولا تأسوا عَلى مَوْتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس- , فإني لهم على طاعتهم إياي بصَلاتهم التي صلوها كذلك مثيبٌ, لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي؛ ولا تحزنوا عليهم, فإني غيرُ مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة, لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم, وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله.

وفي « الرءوف » لغات. إحداها « رَؤُف » على مثال « فَعُل » ، كما قال الوليد بن عقبة:

وَشـــرُّ الطــالِبِينَ - وَلا تَكُنْــه- بقَــاتِلِ عَمِّــه, الــرَّؤُفُ الرَّحِــيم

وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة. والأخرى « رَؤوف » على مثال « فعول » , وهي قراءة عامة قراء المدينة، و « رَئِف » , وهي لغة غطفان, على مثال « فَعِل » مثل حَذِر. و « رَأْف » على مثال « فَعْل » بجزم العين, وهي لغة لبني أسد.

والقراءة على أحد الوجهين الأوَّلين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء.

ويعني: ب « التقلب » ، التحوُّل والتصرُّف.

ويعني بقوله: « في السماء » ، نحو السماء وقِبَلها.

وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا- لأنه كان قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء » قال، كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء » ، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي نحو بيتَ المقدس, يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام, فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها.

حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء » ، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس, وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام, فولاه الله قبلةً كان يهواها.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس, فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره, كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر, وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنـزل الله جل ثناؤه: « قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء » الآية.

ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.

قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس, من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه, ويَستفرض للقبلة، فنـزلت: « قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام » ، - وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا!- في صلاة الظهر، . فجعل الرجالَ مكانَ النساء, والنساءَ مكانَ الرجال.

حدثني يونس قال, أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله - لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا, فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, ورفع وجهه إلى السماء, فقال الله جل ثناؤه: « قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام » الآية.

وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ إبراهيم, فكان يدعو وينظر إلى السماء, فأنـزل الله عز وجل: « قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء » الآية.

فأما قوله: « فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها » ، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة « ترضاها » : تَهواها وتُحبها.

وأما قوله: « فوَلِّ وجهك » ، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله.

وقوله: « شَطرَ المسجد الحَرَام » ، يعني: ب « الشطر » ، النحوَ والقصدَ والتّلقاء, كما قال الهذلي:

إنَّ العَسِــيرَ بهَــا دَاء مُخَامِرُهَــا فَشَــطْرَهَا نَظَـــرُ العَيْنَيْـنِ مَحْسُـورُ

يعني بقوله: « شَطْرَها » ، نحوها. وكما قال ابن أحمر:

تَعْـدُو بِنَـا شَـطْر جَـمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ, قَـدْ كَارَبَ العَقْــدُ مِـنْ إيفَادِهَـا الحَقَبَـا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن داود بن أبي هند, عن أبي العالية: « شَطْرَ المسجد الحَرَام » ، يعني: تلقاءه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « شطر المسجد الحرام » ، نحوَه.

حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام » ، نَحوَه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: « فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام » ، أي تلقاءَ المسجد الحرام.

حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام » قال، نحو المسجد الحرام.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام » ، أي تلقاءَه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: « شطرَه » ، نحوَه.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال، قِبَله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « شَطْره » ، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه: « شُطوره » .

ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام.

فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله: « فلنولينَّك قبلة تَرْضاها » ، حيالَ ميزاب الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة, عن يعلى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, عن عبد الله بن عمرو: « فلنولينَّك قبلة ترضاها » ، حيالَ ميزاب الكعبة.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم, عن يعلى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب, وتلا هذه الآية: « فلنولينك قِبلة ترضاها » قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم - بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه: « فلنولينك قبلة تَرضاها » .

وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ, وقبلةُ البيت الباب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ, وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: « فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام » ، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه, كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه, وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره, بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة, وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها, أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي, عن علي: « فول وجهك شطر المسجد الحرام » قال، شطُره، قبله.

قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:-

حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ, هذه القبلة.

حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء, قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت, فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة, فقال: هذه القبلةُ مرتين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن عبد الملك, عن عطاء, عن أسامة بن زيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله, ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها, ولم يصلِّ حتى خرج, فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة.

قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ البيت هو القبلة, وأن قبلة البيت بابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه.

و « الهاء » التي في « شطرَه » ، عائدة إلى المسجد الحرام.

فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى.

وأدخلت « الفاء » في قوله: « فولوا » ، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله: « حيثما كنتم » جزاء, ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ

يعني بقوله جل ثناؤه: « وإنّ الذين أوتُوا الكتاب » أحبارَ اليهود وعلماء النصارى.

وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن الذين أوتوا الكتاب » ، أنـزل ذلك في اليهود.

وقوله: « ليعلمون أنه الحق من ربهم » ، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب, يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده.

ويعني بقوله: « من رَبِّهم » أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره, وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 144 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام, ولا هو ساه عنه، ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء, ويثيبكم عليه أفضل ثواب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي « الآية » - بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام, ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا - مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام.

قال أبو جعفر: وأجيبت « لئن » بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ بالمستقبل تشبيهًا لها ب « لو » , فأجيبت بما تجاب به « لو » ، لتقارب معنييهما. وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. وأجيبت « لو » بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم أوّله إلا بآخره, ولا يتمُّ وحده, ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت « اللام » الأولى بمنـزلة يَمين، والثانية بمنـزلة جواب لها, كما قيل: « لعمرك لتقومَنَّ » إذ كثرت « اللام » من « لعمرك » ، حتى صارت كحرف من حروفه, فأجيب بما يجاب به الأيمان, إذ كانت « اللام » تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. فشبهت « اللام » التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا, فأجيبت بأجوبَتها.

فكانَ مَعنى الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا- : لو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.

وأما قوله: « وما أنتَ بتابع قِبلتهم » ، يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها, وأن النصارى تستقبل المشرقَ, فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها, ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها.

وأما قوله: « وما بعضهم بتابع قبلة بعض » ، فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعةٍ قبلةَ النصارى, ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وما بعضهم بتاع قبلة بعض » ، يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى, ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنـزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إلى الكعبة, قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنـزل الله عز وجل فيهم: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ إلى قوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض » ، مثل ذلك.

وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تُشعر نفسك رضَا هؤلاء اليهود والنصارى, فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى, وإن اتّبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود, فدع ما لا سبيل إليه, وادعُهم إلى ما لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة, وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 145 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ولئن اتبعت أهواءهم » ، ولئن التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ، فاتبعتَ قبلتهم - يعني: فرَجعت إلى قبلتهم.

ويعني بقوله: « من بَعد مَا جَاءك من العلم » ، من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق, ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها، « إنك إذًا لمن الظالمين » ، يعني: إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي الظَّلمةِ أنفسَهم, المخالفين أمري, والتاركين طاعتي, وأحدُهم وفي عِدادِهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه » ، أحبارَ اليهود وعلماء النصارى: يقول: يعرف هؤلاء الأحبارُ من اليهود، والعلماءُ من النصارى: أن البيتَ الحرام قبلتُهم وقبلة إبراهيم وقبلةُ الأنبياء قبلك, كما يعرفون أبناءَهم، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يَعرفونه كما يَعرفون أبناءهم » ، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلةُ.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قول الله عز وجل: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونهُ كما يعرفونَ أبناءهم » ، يعني: القبلةَ.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، عرفوا أن قِبلة البيت الحرام هي قبلتُهم التي أمِروا بها, كما عرفوا أبناءهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفونَ أبناءهم » ، يعني بذلك: الكعبةَ البيتَ الحرام.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء, كما يعرفون أبناءهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال، اليهود يعرفون أنها هي القبلة، مكة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال، القبلةُ والبيتُ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 146 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وإنّ طائفةً من الذين أوتوا الكتاب - وهُمُ اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل الكتاب.

حدثني محمد بن عمرو - يعني الباهلي- قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح مثله.

قال أبو جعفر: وقوله: « ليكتمون الحق » ، - وذلك الحق هو القبلة التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم. يقول: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ التي كانت الأنبياء من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها. فكتمتها اليهودُ والنصارى, فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو بيتَ المقدس, ورفضُوا ما أمرهم الله به, وكتموا مَعَ ذلك أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى, وخيانتهم عبادَه, وكتمانِهم ذلك, وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيرُه, وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافُه، فقال: « ليكتمونَ الحق وهم يعلمون » ، أنْ لَيس لَهم كتمانه, فيتعمَّدون معصية الله تبارك وتعالى، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: « وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهُمْ يعلمون » ، فكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليكتمون الحق وَهمْ يعلمون » قال، يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون » ، يعني القبلةَ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 147 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده, لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.

وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.

يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين.

يعني بقوله: « فلا تكونن من الممترين » ، أي: فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما:

حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام: « الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين » ، يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فلا تكونن من الممترين » قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك.

قال أبو جعفر: وإنما « الممتري » « مفتعل » ، من « المرْية » , و « المِرْية » هي الشك, ومنه قول الأعشى:

تَــدِرُّ عَــلَى أَسْــوُقِ المُمْـتَرِينَ رَكْضًـا, إِذَا مَـا السَّـرَابُ ارْجَحَـــنّ

ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه, أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له: « فلا تكونن من الممترين » ؟

قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره, كما قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [ سورة الأحزاب: 1 ] ، ثم قال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ سورة الأحزاب: 2 ] . فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له, والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « ولكلّ » ، ولكل أهل ملة، فحذف « أهل الملة » واكتفى بدلالة الكلام عليه، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولكلِّ وِجْهة » قال، لكل صاحب ملة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « ولكلٍّ وجهة هو موليها » ، فلليهوديّ وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها, وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال، قلت لعطاء قوله: « ولكل وجهة هو موليها » قال، لكل أهل دين، اليهودَ والنصارَى. قال ابن جريج، قال مجاهد: لكل صاحب مِلة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكل وجهة هو موليها » قال، لليهود قبلة, وللنصارى قبلة, ولكم قبلة. يريد المسلمين.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها » ، يعني بذلك أهلَ الأديان: يقول: لكلٍّ قبلةٌ يرضَونها, ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه حيثُ تَوَجَّه المؤمنون. وذلك أن الله تعالى ذكره قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ سورة البقرة: 115 ]

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولكلٍّ وجْهة هو موليها » ، يقول: لكل قوم قبلة قد ولَّوْها.

فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلةٌ هو مستقبلها، ومولٍّ وجهه إليها.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « ولكل وجهة هو موليها » قال، هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.

وتأويل قائل هذه المقالة: ولكلّ ناحية وجَّهك إليها ربّك يا محمد قبلة، اللهُ عز وجل مُولِّيها عبادَه.

وأما « الوِجهة » ، فإنها مصدر مثل « القِعدة » و « المِشية » ، من « التوجّه » . وتأويلها: مُتوَجِّهٌ، يتوجَّه إليه بوَجهه في صلاته، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وجهة » قبلةٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « ولكل وجهة » قال، وَجْه.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وِجْهة » ، قِبلة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، قلت لمنصور: « ولكل وجْهة هو مولِّيها » قال، نحن نقرؤها، ولكلٍّ جَعلنا قِبلة يرضَوْنها.

وأما قوله: « هو مُولِّيها » ، فإنه يعني هو مولٍّ وجهه إليها ومستقبلها، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « هو موليها » قال، هو مستقبلها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

ومعنى « التوْلية » هاهنا الإقبال, كما يقول القائل لغيره: « انصرِف إليّ » بمعنى: أقبل إليّ. « والانصراف » المستعمل، إنما هو الانصراف عن الشيء، ثم يقال: « انصرفَ إلى الشيء » ، بمعنى: أقبل إليه منصرفًا عن غيره. وكذلك يقال: « ولَّيت عنه » ، إذا أدبرت عنه. ثم يقال: « ولَّيت إليه » ، بمعنى أقبلت إليه مولِّيًا عن غيره.

والفعل - أعني « التولية » - في قوله: « هو موليها » لل « كل » . و « هو » التي مع « موليها » ، هو « الكل » ، وحُدَّت للفظ « الكل » .

فمعنى الكلام إذًا: ولكل أهل مِلة وجهة, الكلُّ. منهم مولُّوها وجُوهَهم.

وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها: « هو مُولاها » ، بمعنى أنه مُوجَّهٌ نحوها. ويكون « الكل » حينئذ غير مسمًّى فاعله، ولو سُمي فاعله، لكان الكلام: ولكلّ ذي ملة وجهةٌ، اللهُ مولِّيه إياها, بمعنى: موجِّهه إليها.

وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك: « ولكُلٍّ وِجهةٍ » بترك التنوين والإضافة. وذلك لحنٌ, ولا تجوز القراءةُ به. لأن ذلك - إذا قرئ كذلك- كان الخبرُ غير تامٍّ, وكان كلامًا لا معنى لَه. وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه.

والصواب عندنا من القراءة في ذلك: « ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُولِّيها » ، بمعنى: ولكلٍّ وجهةٌ وقبلةٌ، ذلك الكُلّ مُولّ وجهه نحوها. لإجماع الحجة من القرّاء على قراءة ذلك كذلك، وتصويبها إياها, وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره. وما جاءَ به النقلُ مستفيضًا فحُجة, وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، فغيرُ جائز الاعتراضُ به على الحجة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فاستبقوا » ، فبادروا وسَارعوا, من « الاستباق » , وهو المبادرة والإسراع، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فاستبقوا الخيرات » ، يقول: فسارعوا في الخيرات.

وإنما يعني بقوله: « فاستبقوا الخيرات » ، أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم, فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم, وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، فلا عذر لكم في التفريط, وحافظوا على قبلتكم, فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، فتضلُّوا كما ضلت؛ كالذي:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فاستبقوا الخيرات » ، يقول: لا تُغلَبُنَّ على قبلتكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فاستبقوا الخيرات » قال، الأعمال الصالحة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 148 )

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا » ، في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة، إن الله على كل شيء قدير، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أينما تكونوا يَأت بكمُ الله جميعًا » ، يقول: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة.

2291م- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أينما تكونوا يَأت بكم الله جميعًا » ، يعني: يومَ القيامة.

قال أبو جعفر: وإنما حضَّ الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزوُّد في الدنيا للآخرة, فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم, ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه, فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث كنتُم من بقاع الأرض, حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه، والمسيء عقابه بإساءته, أو يتفضّل فيصفح.

وأما قوله: « إنّ الله على كل شيء قدير » ، فإنه تعالى ذكره يعني: إنّ الله تعالى على جَمْعكم - بعد مماتكم- من قبوركم إليه، من حيث كنتم وكانت قبوركم ، وعلى غير ذلك مما يشاء، قديرٌ. فبادروا خروجَ أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليومَ بعثكم وَحشركم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 149 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ومن حيث خرجت » ، ومن أيّ موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فولِّ يا محمد وَجهك - يقول: حوِّل وَجْهك. وقد دللنا على أن « التولية » في هذا الموضع شطر المسجد الحرام, إنما هي: الإقبالُ بالوجه نحوه. وقد بينا معنى « الشطر » فيما مضى.

وأما قوله: « وإنه للحق من ربك » ، فإنه يعني تعالى ذكره: وإنّ التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك, فحافظوا عليه, وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله.

وأما قوله: « ومَا الله بغافل عَما تَعملون » ، فإنه يقول: فإن الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها, ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « ومن حَيثُ خرجت فول وَجهك شطر المسجد الحرام » : من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا محمد, فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام، وهو شَطره.

ويعني بقوله: « وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم » ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم تُجاهه وقِبَله وقَصْدَه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي

قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى ب « الناس » في قوله: « لئلا يكون للناس » ، أهلَ الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « لئلا يكون للناس عليكم حجة » ، يعني بذلك أهلَ الكتاب. قالوا - حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام- : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « لئلا يكونَ للناس عليكم حجة » ، يعني بذلك أهلَ الكتاب, قالوا - حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة- : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

فإن قال قائل: فأيّةُ حُجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحوَ بيت المقدس، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم, والتمويه منهم بها على الجهالّ وأهل الغباء من المشركين.

وقد بينا فيما مضى أن معنى حِجاج القوم إيَّاه، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه، إنّما هي الخصومات والجدال. فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وَحسمه، بتحويل قبلة نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام. وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه: « لئلا يكون للناس عليكم حجة » ، يعني ب « الناس » ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت.

وأما قوله: « إلا الذين ظَلموا منهم » ، فإنهم مُشركو العرب من قريش، فيما تأوَّله أهلُ التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إلا الذين ظَلموا منهم » ، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي, قال: هم المشركون من أهل مكة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع: « إلا الذين ظلموا منهم » ، يعني مشركي قريش.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, وابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » قال، هم مشركو العرب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » ، و « الذين ظلموا » : مشركو قريش.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء: هم مشركو قريش - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقولُ مثل قول عطاء.

فإن قال قائل: وأيّةُ حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين - فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه- حُجة؟

قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمتَ وذهبتَ إليه. وإنما « الحجة » في هذا الموضع، الخصومة والجدال. ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خُصُومةٌ ودعوى باطلٌ غيرَ مشركي قريش, فإن لهم عليكم دعوى بَاطلا وخصومةً بغير حق، بقيلهم لكم: « رَجَع محمدٌ إلى قبلتنا, وسيرجع إلى ديننا » . فذلك من قولهم وأمانيّهم الباطلة، هي « الحجة » التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره « الذين ظلموا » من قريش من سائر الناس غيرهم, إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجّههم إليها حُجة.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « لئلا يكون للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم » ، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حُجتهم, قولهم: قد راجعتَ قبلتنا!

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: قولهم: قد رَجَعت إلى قبلتنا!

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة وابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » ، قالا هم مشركو العرب, قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » ، و « الذين ظلموا » : مشركُو قريش. يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم انصرافَهُ إلى البيت الحرام أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك كله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني, عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما صُرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحوَ الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة: تحيّر على محمد دينه! فتوجّه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويُوشك أن يدخل في دينكم! فأنـزل الله جل ثناؤه فيهم: « لئلا يَكونَ للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني » .

حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله: « لئلا يَكون للناس عَليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » قال، قالت قريش - لما رَجَع إلى الكعبة وأمِر بها:- ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حُجتهم, وهم « الذين ظلموا » - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول مثل قول عطاء, فقال مجاهد: حُجتهم، قولهم: رجعت إلى قبلتنا!

فقد أبان تأويلُ من ذكرنا تأويلَه من أهل التأويل قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » ، عن صحّة ما قلنا في تأويله، وأنه استثناءٌ على مَعنى الاستثناء المعروف، الذي ثبتَ فيهم لما بعدَ حرف الاستثناء ما كان منفيًّا عما قبله. كما قولُ القائل « ما سَارَ من الناس أحدٌ إلا أخوك » ، إثباتٌ للأخ من السير ما هو مَنفيٌّ عن كل أحد من الناس. فكذلك قوله: « لئلا يكونَ للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم » ، نَفى عن أن يكون لأحد خُصومةٌ وجدلٌ قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطلٍ عليه وعَلى أصحابه، بسبب توجُّههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش, فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى باطلا بأن يقولوا: إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل.

وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل, فبيِّنٌ خطأُ قول من زعم أن معنى قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » : ولا الذين ظلموا منهم, وأن « إلا » بمعنى « الواو » . لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفيُ الأول عن جميع الناس - أنْ يكون لهم حُجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوُّلهم نحو الكعبة بوجوههم - مبيِّنًا عن المعنى المراد, ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك: « إلا الذين ظَلموا منهم » إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يُضافَ إليه أو يوصف به.

هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجّهت « إلا » إلى معنى « الواو » , ومعنى العطف من كلام العرب. وذلك أنه غيرُ موجودة « إلا » في شيء من كلامها بمعنى « الواو » ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها. كقول القائل: « سار القوم إلا عمرًا إلا أخاك » , بمعنى: إلا عمرًا وأخاك, فتكون « إلا » حينئذ مؤدّية عما تؤدي عنه « الواو » ، لتعلق « إلا » الثانية ب « إلا » الأولى. ويجمع فيها أيضًا بين « إلا » و « الواو » فيقال: « سار القوم إلا عمرًا وإلا أخاك » , فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها, فيقال: « سار القوم إلا عمرًا وأخاك - أو إلا عمرًا إلا أخاك » , لما وصفنا قبل.

وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدَّعٍ من الناس أن يدَّعي أنّ « إلا » في هذا الموضع بمعنى « الواو » التي تأتي بمعنى العطف.

وواضحٌ فسادُ قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوْهم. كقول القائل في الكلام: « الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [ لك ] المعتدي عليك » , فإن ذلك لا يعتدّ بعُدوَانه ولا بتركه الحمد، لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له, وقد سُمي ظالمًا لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادَّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدًا على خطأ مقالته إجماعُهم على تخطئتها.

وظاهر بُطُول قول من زَعَم: أنّ « الذين ظلموا » هاهنا، ناسٌ من العرب كانوا يَهودًا ونصارَى, فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائرُ العرب، فلم تكن لهم حجة, وكانت حُجة من يحتجُّ منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تَكسِر عليه حجته: « إنّ لك عليّ حجة ولكنها منكسرة, وإنك لتحتج بلا حجة, وحجتك ضعيفة » . ووَجَّه معنى: « إلا الذين ظَلموا منهم » إلى معنى: إلا الذينَ ظلموا منهم، منْ أهل الكتاب, فإنّ لَهُم عليكم حُجة وَاهية أو حجة ضعيفة.

ووَهْيُ قَولِ من قال: « إلا » في هذا الموضع بمعنى « لكن » .

وضَعْفُ قولِ من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم.

لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأنّ ذلك من الله عز وجل خَبرٌ عن الذين ظلموا منهم: أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا, ولم يقصِد في ذلك إلى الخبر عن صفة حُجتهم بالضعف ولا بالقوة - وإن كانت ضعيفةً لأنها باطلة- وإنما قصد فيه الإثباتَ للذين ظلموا، ما قد نَفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال، قال الربيع: إنّ يهوديًّا خاصم أبا العالية فقال: إن مُوسَى عليه السلام كان يصلِّي إلى صخرة بيت المقدس. فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجدُ صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقِبلتُه إلى البيت الحرام. قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين، وقِبلتُه إلى الكعبة.

وأما قوله: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) ، يعني: فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لَكم أمرهم من الظَّلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون في أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يَقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدِّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني, فخافوا عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه.

وذلك من الله جل ثناؤه تقدُّمٌ إلى عباده المؤمنين، بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها, وبالنهي عن التوجُّه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوْني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شَطرَ المسجد الحرام.

وقد حكي عن السدي في ذلك ما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فلا تخشوْهم واخشوْني » ، يقول: لا تخشوا أن أردَّكم في دينهم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 150 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ولأتمَّ نعمتي عليكم » ، ومن حيث خرجتَ من البلاد والأرض، وإلى أيّ بقعة شخصت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام, وحيثُ كنت، يا محمد والمؤمنون, فولُّوا وجوهكم في صلاتكم شَطرَه, واتخذوه قبلة لكم, كيلا يكون لأحد من الناس - سوى مشركي قريش- حجةٌ, ولأتمّ بذلك من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم, وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه.

وقوله: « ولعلكم تهتدون » ، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. و « لعلكم » عطف على قوله: « ولأتم نعمتي عليكم » ، « ولأتم نعمتي عليكم » عطف على قوله: لِئَلا يَكُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 151 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « كما أرسلنا فيكم رسولا » ، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية, وأهديَكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام, فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألنيها فقال: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ سورة البقرة: 128 ] ، كما جعلت لكُم دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ سورة البقرة: 129 ] ، فابتعثت منكم رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه من ذرّيتهما.

ف « كما » - إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ . ولا يكون قوله: « كما أرسلنا فيكم رسولا منكم » ، متعلقًا بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ .

وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، فأغرقوا النـزع، وبعدوا من الإصابة, وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم.

وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض: « كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن » - أن لا يَشترطوا للآخر, لأن « الكاف » في « كما » شرطٌ معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب: « اذكروني » بعده، وهو قوله: أَذْكُرْكُمْ ، أوضحُ دليل على أن قوله: « كما أرسلنا » من صلة الفعل الذي قبله, وأن قوله: « اذكروني أذكركم » خبرٌ مبتدأ منقطعٌ عن الأول, وأنه من سبب قوله: « كما أرْسلنا فيكم » بمعزل.

وقد زعم بعض النحويين أن قوله: فَاذْكُرُونِي - إذا جُعل قوله: « كما أرسلنا فيكم » جوابًا له، مع قوله: أَذْكُرْكُمْ - نظيرُ الجزاء الذي يجاب بجوابين, كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه « , فيصير قوله: » فأته « و » ترضه « جوابين لقوله: » إذا أتاك « , وكقوله: » إن تأتني أحسِن إليك أكرمك « . »

وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب, فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل.

ذكر من قَال: إنّ قوله: « كما أرسلنا » ، جوابُ قوله: « فاذكروني » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل: « كما أرسلنا فيكم رسولا منكم » ، كما فعلتُ فاذكروني.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

قوله: « كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم » ، فإنه يعني بذلك العرب, قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي, وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها, لتنقطع حُجة اليهود عنكم, فلا تكون لهم عليكم حجَة, ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا, كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم » ، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وأمّا قوله: « يتلو عليكم آياتنا » ، فإنه يعني آيات القرآن, وبقوله: « ويزكيكم » ويطهّركم من دَنَس الذنوب, و « يعلمكم الكتاب » وهو الفرقان, يعني: أنه يعلمهم أحكامه. ويعني: ب « الحكمة » السننَ والفقهَ في الدين. وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده.

وأمّا قوله: « ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون » ، فإنه يعني: ويعلمكم من أخبار الأنبياء, وقَصَص الأمم الخالية, والخبر عما هو حادثٌ وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها, فعلِموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه, أذكرْكم برحمتي إياكم ومغفرَتي لكم، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة, عن عطاء بن دينار, عن سعيد بن جبير: « فاذكروني أذكركم » قال، اذكروني بطاعتي, أذكركم بمغفرتي.

وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون » ، إن الله ذاكرُ من ذكره, وزَائدُ من شكره, ومعذِّبُ من كفَره.

حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « اذكروني أذكركم » قال، ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ, ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ( 152 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي، « ولا تكفرون » ، يقول: ولا تجحدوا إحساني إليكم, فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم, ولكن اشكروا لي عليها, وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم, وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه من عبادي, فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته, ومن كفرني حَرمته وسلبته ما أعطيتُه.

والعرب تقول: « نَصحتُ لك وشكرتُ لك » , ولا تكاد تقول: « نصحتك » , وربما قالت: « شكرتك ونصحتك » , من ذلك قول الشاعر:

هُـمُ جَـمَعُوا بُؤْسَـى ونُعْمَـى عَلَيْكُـمُ فَهَــلا شَـكَرْتَ القَـوْمَ إذْ لَــمْ تُقَـاتِلِ

وقال النابغة في « نصحتك » :

نَصَحْـتُ بَنِـي عَـوَفٍ فَلَـمْ يَتَقَبَّلُـوا رَسُـولِي ولَـمْ تَنْجَـحْ لَـدَيْهِمْ وسَـائِلِي

وقد دللنا على أن معنى « الشكر » ، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة, وأن معنى « الكفر » تغطية الشيء, فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 153 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية حضٌّ من الله تعالى ذكره على طاعته، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال, فقال: « يا أيها الذينَ آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة » على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عَما أنسخه منها إلى الذي أحدِثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي, والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه, والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه - وإن لحقكم في ذلك مكروهٌ من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل, أو مشقةٌ على أبدانكم في قيامكم به، أو نقصٌ في أموالكم- وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي, بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومَشقته عليكم, واحتمال عنائه وثقله, ثم بالفزع منكم فيما يَنوبكم من مُفظِعات الأمور إلى الصلاة لي, فإنكم بالصبر على المكاره تُدركون مرضاتي, وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبَلي، وتدركون حاجاتكم عندي, فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيَّ, أنصرهُم وأرعاهم وأكلَؤُهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأمَّلوا قِبَلي.

وقد بينت معنى « الصبر » و « الصلاة » فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته، كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: « واستعينوا بالصبر والصلاة » ، يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله, واعلموا أنهما من طاعة الله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة » ، اعلموا أنهما عَونٌ على طاعة الله.

وأما قوله: « إن الله مع الصابرين » ، فإن تأويله: فإن الله نَاصرُه وظَهيرهُ وراضٍ بفعله, كقول القائل: « افعل يَا فلان كذا وأنا معك » , يعني: إني ناصرُك على فعلك ذلك ومُعينك عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ( 154 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوّكم، وترك معاصيَّ، وأداء سائر فرائضي عليكم, ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت, فإن الميت من خَلقي مَنْ سلبته حياتَه وأعدمتُه حواسَّه, فلا يلتذّ لذة ولا يُدرك نعيما، فإنّ من قُتل منكم ومن سائر خَلقي في سبيلي، أحياءٌ عندي، في حياة ونعيم، وعيش هَنِيّ، ورزق سنيّ, فَرحين بما آتيتهم من فضلي، وَحبوتهم به من كرامتي، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « بل أحياء » عند ربهم، يرزقون من ثمر الجنة، ويَجدون ريحها، وليسوا فيها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تقولوا لمن يقتل في سَبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون » ، كنَّا نُحَدَّثَ أن أرواح الشهداء تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة, وأن مساكنهم سِدرة المنتهى, وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاثُ خصال من الخير: مَن قُتل في سبيل الله منهم صار حيًّا مرزوقًا, ومن غُلب آتاه الله أجرًا عظيمًا, ومن مات رَزَقه الله رزقًا حسنًا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء » قال، أرواحُ الشهداء في صُوَر طير بيضٍ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء » ، في صُوَر طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث. قال، سمعت عكرمة يقول في قوله: « ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون » قال، أرواح الشهداء في طير خُضر في الجنة.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما في قوله: « ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء » ، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعمَّ به غيره؟ وقد علمت تظاهُر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم, فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى الجنة يَشمون منها رَوْحها, ويستعجلون الله قيام الساعة، ليصيروا إلى مساكنهم منها، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها وعن الكافرين أنهم يُفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى النار يَنظرون إليها، ويصيبهم من نَتنها ومكروهها, ويُسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يَقمَعُهم فيها, ويسألون الله فيها تأخيرَ قيام الساعة، حِذارًا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها، مع أشباه ذلك من الأخبار. وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما الذي خُصَّ به القتيل في سبيل الله، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائرُ الكفار والمؤمنين غيرُه أحياءٌ في البرزخ, أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك, وأما المؤمنون فمنعَّمون بالروح والريحان ونَسيم الجنان؟

قيل: إنّ الذي خَصّ الله به الشهداء في ذلك، وأفادَ المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في بَرْزَخِهم قَبل بعثهم, ومنعَّمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها الذي لم يُطعمها الله أحدًا غيرَهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيلة التي فضَّلهم بها وخصهم بها من غيرهم, والفائدة التي أفادَ المؤمنين بالخبر عنهم, فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ سورة آل عمران: 169- 170 ] ، وبمثل الذي قُلنا جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, وَعَبدة بن سليمان, عن محمد بن إسحاق, عن الحارث بن فضيل, عن محمود بن لبيد, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الشهداءُ على بَارق، نهر بباب الجنة، في قبة خضراء - وقال عبدة: في روضة خضراء- يخرُج عليهم رزقهم من الجنه بُكرة وَعشيًّا. »

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي, عن ابن بشار السلمي - أو أبي بشار, شكّ أبو جعفر- قال: أرواح الشهداء في قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان, رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثَورٌ وحُوت, فأما الثور، ففيه طعم كلّ ثمرةٍ في الجنة, وأما الحوت ففيه طَعمُ كل شراب في الجنة.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإنّ الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكرُه أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصّهم بها في البرزخ غيرُ موجود في قوله: « ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء » ، وإنما فيه الخبرُ عن حَالهم، أمواتٌ هم أم أحياءٌ.

قيل: إنّ المقصود بذكر الخبر عن حياتهم، إنما هو الخبر عَمَّا هم فيه من النِّعمة, ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عبادَه عما خَصّ به الشهداء في قوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ سورة آل عمران: 169 ] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله: « ولا تقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء » ، نَهْيُ خَلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى تَرَك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم.

وأما قوله: « ولكنْ لا تَشعرُون » ، فإنه يعني به: ولكنكم لا تَرونهم فتعلموا أنهم أحياءٌ, وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به.

وإنما رفع قوله: « أمواتٌ » بإضمار مكنيّ عن أسماء « من يُقتل في سبيل الله » ، ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات. ولا يجوز النصب في « الأموات » , لأن القول لا يعمل فيهم، وكذلك قوله: « بل أحياء » , رفعٌ، بمعنى: هُمْ أحياء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( 155 )

قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباعَ رَسوله صلى الله عليه وسلم، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه, كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة, وكما امتحن أصفياءَه قَبلهم. ووَعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ سورة البقرة: 214 ] ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيرُه يقول.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع » ، ونحو هذا, قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء, وأنه مبتليهم فيها, وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال: « وبشر الصابرين » ، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا .

ومعنى قوله: « وَلنبلونكم » ، ولنختبرنكم. وقد أتينا على البيان عن أن معنى « الابتلاء » الاختبار، فيما مضى قبل.

وقوله: « بشيء من الخوف » ، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع - وهو القحط- يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسَنة تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، فتنقص لذلك أموالكم, وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار, فينقص لها عددكم, وموتُ ذراريكم وأولادكم, وجُدوب تحدُث, فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم, فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه, ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب.

كل ذلك خطابٌ منه لأتباع رَسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما:

حدثني هارون بن إدريس الكوفيّ الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن عبد الملك، عن عطاء في قوله: « ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع » قال، هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وإنما قال تعالى ذكره: « بشيء من الخوف » ولم يقل بأشياء، لاختلاف أنواع ما أعلم عبادَه أنه مُمتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفًا - وكانت « مِن » تَدلّ على أنّ كل نوع منها مُضمر « شيء » ، فإنّ معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر « الشيء » في أوله، من إعادته مع كل نوع منها.

ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم، وامتحنهم بضروب المحَن، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات » قال، قد كان ذلك, وسيكونُ ما هو أشد من ذلك.

قال الله عند ذلك: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .

ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، بشّر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نَهْيي عما أنهاهم عنه, والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به، القائلين إذا أصابتهم مصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ - بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد- أهلَ الصبر، الذين وصف الله صفتهم.

وأصل « التبشير » : إخبار الرجل الرجلَ الخبرَ، يَسرّه أو يسوءه، لم يسبقه به إلى غيره

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ( 156 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي, فيُقرون بعبوديتي, ويوحِّدونني بالربوبية, ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي, ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي, ويقولون - عند امتحاني إياهم ببعض مِحَني, وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به من الخوف والجوع ونَقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنهم بها- : إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون تسليمًا لقضائي ورضًا بأحكامي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( 157 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الصابرون، الذين وصفهم ونَعتهم - « عليهم » , يعني: لَهم، « صلوات » ، يعني: مغفرة. « وصلوات الله » على عباده، غُفرانه لعباده, كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى » .

يعني: اغفر لَهم. وقد بينا « الصلاة » وما أصلها في غير هذا الموضع.

وقوله: « ورحمة » ، يعني: ولهُم مع المغفرة، التي بها صَفح عن ذنوبهم وتغمَّدها، رحمة من الله ورأفة.

ثم أخبر تعالى ذكره - مع الذي ذكر أنه مُعطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه، من المغفرة والرحمة- أنهم هم المهتدون، المصيبون طريق الحقّ، والقائلون مَا يُرْضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب.

وقد بينا معنى « الاهتداء » ، فيما مضى، فإنه بمعنى الرشد للصواب.

وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « الذين إذا أصابتهم مُصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه رَاجعون أولئكَ عليهم صَلوات من ربهم وَرحمة وأولئك هم المهتدون » قال، أخبر الله أنّ المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى الله، ورَجع واسترْجع عند المصيبة, كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاةُ من الله, والرحمة, وتحقيق سَبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن استرْجع عند المصيبة، جبر الله مُصيبته, وأحسن عُقباه, وَجعل له خَلفًا صالحًا يرضاه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة » ، يقول: الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان العُصفُريّ, عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام, ألم تسمعْ إلى قوله: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ [ سورة يوسف: 84 ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: « والصفا » جمع « صَفاة » , وهي الصخرة الملساء, ومنه قول الطرمَّاح:

أَبَــى لِـي ذُو القُـوَى وَالطَّـوْلِ ألا يُــؤَبِّسَ حَــافِرٌ أَبَــدًا صَفَــاتِي

وقد قالوا إن « الصفا » واحد, وأنه يثنى « صَفَوان » ، ويجمع « أصفاء » و « صُفِيًّا، وصِفِيًّا » ، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز

كــأنَّ مَتْنَيْــهِ مِــنَ النَّفِــيِّ مَــوَاقِعُ الطَّــيْرِ عَــلَى الصُّفِــيِّ

وقالوا: هو نظير « عَصَا وعُصِيّ [ وعِصِيّ، وأَعْصاء ] ، ورَحَا ورُحِيّ [ وَرِحِيّ ] وأرْحاء » .

وأما « المروة » ، فإنها الحصاةُ الصغيرة، يجمع قليلها « مَرَوات » , وكثيرها « المرْو » ، مثل « تمرة وتمَرات وتمر » ، قال الأعشى ميمون بن قيس:

وَتَــرَى بــالأرْضِ خُفًّــا زائِـلا فَــإِذَا مَـا صَــادَفَ المَـرْوَ رَضَـح

يعني ب « المرو » : الصخرَ الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:

حَــتَّى كــأنِّي لِلْحَــوَادِثِ مَـرْوَةٌ بِصَفَـا المُشَــرِّقِ كُـلَّ يَـوْمٍ تُقْـرَعُ

ويقال « المشقِّر » .

وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: « إنّ الصفا والمروة » ، في هذا الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه، دون سائر الصفا والمرو. ولذلك أدخل فيهما « الألف واللام » , ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرْوِ.

وأما قوله: « منْ شَعائر الله » ، فإنه يعني: من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها, إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها. ومنه قول الكميت:

نُقَتِّلُهُــمْ جِـيَلا فَجِـيلا تَــرَاهُمُ شَـــعَائِرَ قُرْبَــانٍ بِهِــمْ يُتَقَــرَّبُ

وكان مجاهد يقول في الشعائر بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله » قال، من الخبر الذي أخبركم عنه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

فكأن مجاهدًا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع « شعيرة » ، من إشعار الله عباده أمرَ الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف بهما. فمعناه: إعلامُهم ذلك.

وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله: « إن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله » عبادَه المؤمنين أن السعي بينهما من مَشاعر الحج التي سنَّها لهم, وأمرَ بها خليله إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم, إذ سَأله أن يُريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر, فإنه مرادٌ به الأمر. لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [ سورة النحل: 123 ] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيمَ إمامًا لمنْ بَعده. فإذْ كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مَناسك الحج, فمعلوم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد عَمل به وسنه لمن بعده, وقد أُمرَ نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « فمن حج البيت » ، فمن أتاه عائدًا إليه بَعدَ بدء. وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو « حَاجٌّ إليه » ، ومنه قول الشاعر:

لأَشْـهَدَ مِـنْ عَـوْفٍ حُـلُولا كثِـيرَةً يَحُجُّـونَ سِــبَّ الزِّبْرِقَـانِ المُزَعْفَــرَا

يعني بقوله: « يحجون » ، يكثرون التردد إليه لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج « حاجّ » ، لأنه يَأتي البيت قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف, ثم ينصرف عنه إلى منى, ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ. فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له: « حاجٌّ » .

وأما « المعتمر » ، فإنما قيل له: « معتمر » ، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله: « أو اعتمر » ، أو اعتمرَ البيت, ويعني ب « الاعتمار » الزيارة. فكل قاصد لشيء فهو له « معتمر » ، ومنه قول العجاج:

لَقَـدْ سَـمَا ابْـنُ مَعْمَـرٍ حِـينَ اعْتَمَرْ غْــزًى بَعِيــدًا مـن بَعِيــدٍ وَضَــبَرْ

يعني بقوله: « حين اعتمر » ، حين قصده وأمَّه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما » ، يقول: فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه بهما.

فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام, وقد قلت لنا، إن قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، وإن كان ظاهرهُ ظاهرَ الخبر، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرًا بالطواف, ثم يقال: لا جُناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجُناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناحُ والحرجُ؟ والأمر بالطواف بهما, والترخيصُ في الطواف بهما، غيرُ جائز اجتماعهما في حال واحدة؟

قيل: إنّ ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ. وإنما معنى ذلك عند أقوام: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما, وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما, وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!

فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، يعني: إن الطوافَ بهما, فترك ذكر « الطواف بهما » ، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذْ كان معلومًا عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علَمًا لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر, فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما, من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما, فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا, وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري, فلا جُناح عليكم في الطواف بهما.

و « الجناح » ، الإثم، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما » ، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر.

وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين.

ذكر الأخبار التي رويت بذلك:

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود, عن الشعبي: أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى « إسافًا » ، ووثنًا على المرْوة يسمى « نائلة » ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان, قال المسلمون: إنّ الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين, وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنـزل الله: إنهما من الشعائر، « فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف بهما » .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عامر قال : كان صنم بالصفا يدعى « إسافًا » ، ووثَن بالمروة يدعى « نائلة » ، ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه, قال: فذكِّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه, وأنِّت المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثًا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد, وزاد فيه - قال: فجعله الله تطوُّعَ خير.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمرْوة حَتى نـزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بَينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نـزلت هذه الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .

حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان, عن عاصم قال، سألت أنسًا عن الصفا والمروة, فقال: كانتا من مَشاعر الجاهلية, فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما, فنـزلت: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .

حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية, عن جابر الجعفي, عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر: « إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما » قال، انطلق إلى ابن عباس فاسأله, فإنه أعلم من بقي بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فأتيته فسألته, فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ, فلما حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنـزلت: « إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهما » .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، وذلك أنّ ناسًا كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة, فأخبر الله أنهما من شعائره, والطواف بينهما أحبُّ إليه, فمضت السُّنة بالطَّواف بينهما.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما » قال، زعم أبو مالك، عن ابن عباس: أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة, وكانت بَينهما آلهة, فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة, فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنـزل الله: « فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ قال، قالت الأنصار: إنّ السَّعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنـزل الله تعالى ذكره: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن أبن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما » قال، كان أهل الجاهلية قد وَضَعوا على كل واحد منهما صَنمًا يعظمونهما، فلما أسلم المسلمون كرِهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين, فقال الله تعالى: « إن الصفا والمروةَ من شَعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما » ، وقرأ: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [ سورة الحج: 32 ] ، وسَن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عاصم قال، قلت لأنس: الصفا والمروة، أكنتم تكرَهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نُهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نـزلت: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: إنّ الصفا والمروة من مَشاعر قُريش في الجاهلية, فلما كان الإسلام تَركناهما.

وقال آخرون: بل أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سَبب قوم كانوا في الجاهلية لا يَسعوْن بينهما، فلما جاء الإسلام تخوَّفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوَّفونه في الجاهلية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الآية, فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما, فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله, وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال، كان ناس من أهل تِهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة, فأنـزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيتِ قول الله: « إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما » ؟ وقلت لعائشة: وَالله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي, إنّ هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها كانت: لا جُناح عليه أن لا يطوَّف بهما, ولكنها إنما أنـزلت في الأنصار: كانوا قبل أن يُسلموا يُهلُّون لمَناةَ، الطاغيةَ التي كانوا يعبدون بالمشلَّلِ، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يَطُوف بين الصفا والمروة, فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا: يا رسول الله إذا كنا نتحرج أن نَطُوف بين الصفا والمروة - أنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ الصفا والمروَة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما » . قالت عائشة: ثم قد سَن رَسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما, فليس لأحد أن يَترك الطواف بَينهما.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة قالت: كان رجالٌ من الأنصار مِمَّن يُهلُّ لمناةَ في الجاهلية - و « مناةُ » صنمٌ بين مكة والمدينة- قالوا: يا نبيّ الله، إنا كنا لا نطوفُ بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة, فهل علينا من حَرَج أن نَطوف بهما؟ فأنـزل الله تعالى ذكره : « إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمرَ فلا جناح عليه أن يطوف بهما » . قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة! قال الله: « فلا جُناح عليه » . قالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ! قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون: لما أنـزل الله الطوافَ بالبيت ولم يُنـزل الطواف بين الصفا والمروة, قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوفُ في الجاهلية بين الصفا والمروة, وإنّ الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطوافَ بين الصفا والمروةَ، فهل علينا من حرج أن لا نَطوفَ بهما؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمعُ أن هذه الآية نـزلت في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانَ ناسٌ من أهل تهامة لا يَطوفون بين الصفا والمروة, فأنـزل الله : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله, كما جعل الطواف بالبيت من شعائره.

فأما قوله: « فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما » ، فجائزٌ أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي, وبَعضُهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة.

وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره: « فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما » ، الآية, دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما, من أجل أن الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في وقت, ثم رخص فيه بقوله: « فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما » .

وإنما الاختلافُ في ذلك بين أهل العلم على أوجُهٍ. فرأى بعضُهم أن تارك الطواف بينهما تاركٌ من مَناسك حجه ما لا يُجزيه منه غيرُ قَضَائه بعينه, كما لا يُجزى تارك الطواف - الذي هو طَواف الإفاضة- إلا قضَاؤه بعينه. وقالوا: هما طَوافانَ: أمرَ الله بأحدهما بالبيت, والآخرُ بينَ الصفا والمروة.

ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يُجزيه من تَركه فِدية, ورأوا أن حُكم الطواف بهما حُكمُ رَمي بعض الجمرات, والوقوف بالمشعر, وطَواف الصَّدر وما أشبه ذلك، مما يُجزى تاركه من تَرْكه فِديةٌ، ولا يلزمه العَوْد لقضَائه بعينه.

ورأى آخرون أنّ الطواف بهما تطوع, إن فعله صاحبه كان مُحسنًا, وإن تَرَكه تاركٌ لم يلزمه بترْكه شيء.

ذكر من قال: إن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ ولا يجزي منه فدية، ومن تركه فعليه العَوْد.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: لَعمري ما حَجّ من لم يَسع بين الصفا والمروة, لأن الله قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .

2353م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: مَنْ نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع فَليسْع, وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرَة والهدي.

وكان الشافعي يقول: عَلى مَنْ تَرَك السعي بين الصفا والمروةَ حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يَطوف بينهما، لا يجزيه غير ذلك.

حدثنا بذلك عنه الربيع.

ذكر من قال: يجزي منه دم، وليس عليه عودٌ لقضائه.

قال الثوري بما:-

حدثني به علي بن سهل, عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه, وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عَاد تاركُ الطوافَ بينهما لقضائه فحسن, وإن لم يعُدْ فعليه دمٌ.

ذكر من قال: الطوافُ بينهما تطوّعٌ، ولا شيء على من تركه, ومنْ كان يقرأ: ( فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما )

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع, فأصابها - يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء, لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود: « فمنْ حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما » . فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سُنة النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ألا تسمعه يقول: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ، فأبى أن يجعل عليه شيئًا؟

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء, عن ابن عباس أنه كان يقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الآية « فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما » .

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن عاصم قال: سمعت أنسًا يقول: الطواف بينهما تطوع.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطُّوع.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوفَ بهما » قال، فلم يُحرِّج من لم يَطُفْ بهما.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد, عن عيسى بن قيس, عن عطاء, عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوُّع؟ قال: تطوعٌ.

والصواب من القول في ذلك عندنا أنّ الطواف بهما فرض واجب, وأن على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا يُجزيه غير ذلك, لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ بهما.

ذكر الرواية عنه بذلك:

حدثني يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر قال: لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه. .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن, عن أبي بكر بن عياش, عن ابن عطاء، عن أبيه, عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ , فأتى الصفا فبدأ بها, فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسَعى.

فإذ كان صحيحًا بإجماع الجميع من الأمة - أنّ الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، وعمله في حَجَّه وعُمرته وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمَّته جُمَلَ ما نَصّ الله في كتابه، وفَرَضه في تنـزيله, وأمرَ به مما لم يُدْرَك علمه إلا ببيانه، لازمًا العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا « كتاب البيان عن أصول الأحكام » - إذا اختلفت الأمة في وُجُوبه، ثم كان مُختلفًا في الطواف بينهما: هل هو واحبٌ أو غير واجب كان بينًا وجُوب فرضه على مَنْ حجَّ أو اعتمر، لما وصفنا.

وكذلك وُجوب العوْد لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلَفًا فيما عَلى مَنْ تركه، مع إجماع جَميعهم على أنّ ذلك مما فَعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علَّمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم, إذ علَّمهم مناسك حجهم وعُمْرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تُجْزي منه فديةٌ ولا بَدلٌ, ولا يجزي تاركه إلا العودُ لقضائه كان نظيرًا له الطوافُ بالصفا والمروة, ولا تجزي منه فدية وَلا جزاءٌ, ولا يجزي تاركَه إلا العودُ لقضائه, إذ كانا كلاهما طَوافين: أحدهما بالبيت، والآخرُ بالصفا والمروة.

ومن فَرَّق بين حكمهما عُكس عليه القولُ فيه, ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما.

فإن اعتل بقراءة من قرأ: « فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما » .

قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين، غيرُ جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قَرَأ ذلك كذلك قارئ, أو قرأ قارئ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ سورة الحج: 29 ] ، « فَلا جناح عليهم أنْ لا يَطَّوَّفوا به » . فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، كانت الأخرى نظيرَتها، وإلا كان مُجيزُ إحداهما - إذا منع الأخرى - مُتحكمًا, والتحكم لا يعجِزُ عنه أحدٌ.

وقد رُوي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنـزيل بها، عن عائشة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السِّن: أرأيت قول الله عز وجل: « إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله فَمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما » ، فما نرَى على أحد شَيئًا أنْ لا يَطَّوَّف بهما! فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول، كانت: « فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّف بهما » , إنما أنـزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلّون لمناة - وكانت مَناة حَذوَ قَديد- , وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فأنـزل الله: « إنّ الصفا والمرْوةَ من شَعائر الله فمن حَجّ البيت أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوف بهما » .

قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ: « فلا جُناحَ عَليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما » ، أن تكون « لا » التي مع « أن » ، صلةً في الكلام، إذْ كان قد تقدَّمها جَحْدٌ في الكلام قبلها, وهو قوله: ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [ سورة الأعراف: 12 ] ، بمعنى ما منعك أن تسجدَ, وكما قال الشاعر:

مَـا كَـانَ يَـرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا والطَّيِّبَـــانِ أبُـــو بَكْـــرٍ وَلا عُمَــرُ

ولو كان رسمُ المُصحف كذلك، لم يكن فيه لمحتجّ حجة، مع احتمال الكلام ما وصفنا. لما بيَّنا أن ذلك مما عَلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، على ما ذكرنا, ولدلالة القياس على صحته, فكيف وهو خلافُ رُسوم مصاحف المسلمين, ومما لو قَرَأه اليوم قارئ كان مستحقًّا العقوبةَ لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( 158 )

قال أبو جعفر: اختلف القرَأء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قُراء أهل المدينة والبصرة: « ومن تَطوَّع خَيرًا » على لفظ المضيّ ب « التاء » وفتح « العين » . وقرأته عامة قراء الكوفيين: « وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيرًا » ب « الياء » وجَزم « العين » وتشديد « الطاء » , بمعنى: ومن يَتطوع. وذُكر أنها في قراءة عبد الله: « ومَنْ يَتطوَّعْ » ، فقرأ ذلك قُرّاء أهل الكوفة، على ما وصفنا، اعتبارًا بالذي ذكرنا من قراءَة عبد الله - سوى عَاصم، فإنه وافق المدنيين- فشددوا « الطاءَ » طلبًا لإدغام « التاء » في « الطاء » . وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفقٌ معنياهما غيرُ مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ.

[ والصواب عندنا في ذلك، أن ] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قَضَاء حجته الواجبة عليه, فإن الله شاكرٌ له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاءَ وجهه، فمجازيه به, عليمٌ بما قصد وأراد بتطُّوعه بما تطوع به.

وَإنما قُلنا إنّ الصوابَ في معنى قوله: « فمن تطوَّع خيرًا » هو ما وصفنا، دون قول من زَعم أنه معنيٌّ به: فمن تَطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعًا بالسعي بينهما، إلا في حَج تطوع أو عُمرة تطوع، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنى بالتطوع بذلك، التطُّوعَ بما يعملُ ذلك فيه من حَجّ أو عمرة.

وأما الذين زعموا أنّ الطواف بهما تطوُّع لا واجب, فإنّ الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوَّع بالطواف بهما، فإنّ الله شاكر لأن للحاج والمعتمِر على قولهم الطوافَ بهما إن شاء، وتركَ الطواف. فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة, فإنّ اللهَ شَاكرٌ تطوُّعَه ذلك عليمٌ بما أراد ونَوَى الطائف بهما كذلك، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكرٌ عَليمٌ » قال، من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له, تطوَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خَيرًا فاعتمر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكر عليم » ، من تطوع خيرًا فاعتمر فإن الله شاكر عليمٌ. قال: فالحج فريضةٌ, والعمرةُ تطوع, ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا منَ البينات » , علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى, لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم, وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

و « البينات » التي أنـزلها الله: ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما.

ويعني تعالى ذكره ب « الهدى » ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنـزلها على أنبيائهم, فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنـزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، في الكتاب الذي أنـزلته إلى أنبيائهم أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا الآية. كما:-

حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير, أو عكرمة, عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج, نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة, وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه, وأبوْا أن يُخبروهم عنه, فأنـزل الله تعالى ذكره فيهم: « إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنـزلنا من البينات والهدى » قال، هم أهل الكتاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع في قوله: « إنّ الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى » قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم, فكتموه حسدًا وبغيًا.

حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إنّ الذين يَكتمون مَا أنـزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب » ، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله, وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم, وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

2374م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنّ الذين يَكتمونَ ما أنـزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب » ، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! قال: مُحمد: « البينات » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ

[ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « من بعد ما بيناه للناس » ] ، بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم, وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله: « للناس في الكتاب » ، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل.

وهذه الآية وإن كانت نـزلت في خاصٍّ من الناس, فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.

وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال

من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه, ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار. « »

وكان أبو هريرة يقول ما:-

حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني, عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا « إنّ الذين يكتمونَ مَا أنـزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون » ،

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب, قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنـزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ إلى آخر الآية، والآية الأخرى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ إلى آخر الآية [ سورة آل عمران: 187 ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ( 159 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك يَلعنهم الله » ، هؤلاء الذين يكتمون ما أنـزلهُ الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفَته وأمر دينه، أنه الحق - من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس.

و « اللعنة » « الفَعْلة » , من « لعنه الله » بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل « اللعن » : الطرْد، كما قال الشماخ بن ضرار, وذكر ماءً ورَد عليه:

ذَعَــرْتُ بِـهِ القَطَـا وَنَفَيْـتُ عَنْـهُ مَقَــامَ الـذِّئْبِ كَـــالرَّجُلِ الَّلعِيـــنِ

يعني: مقامَ الذئب الطريد. و « اللعين » من نعت « الذئب » , وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل.

فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته, ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا: « اللهم العنه » إذْ كان معنى « اللعن » هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.

وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم, وقولهم: « لعنه الله » أو « عليه لعنة الله » ، لأن:-

محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون » ، البهائم, قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم, لعنَ الله عُصَاة بني آدم!

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب « اللاعنين » . فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون » قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو، عن منصور, عن مجاهد: « ويلعنهم اللاعنون » قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم.

حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن عكرمة في قوله: « أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون » قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ويلعنهم اللاعنون » قال، اللاعنون: البهائم.

2383م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ويلعنهم اللاعنون » ، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون » ، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم, فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض.

فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله: « ويلعنهم اللاعنون » ، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض, وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، فإنما تجمعه بغير « الياء والنون » وغير « الواو والنون » , وإنما تجمعه ب « التاء » , وما خالفَ ما ذكرنا, فتقول: « اللاعنات » ونحو ذلك؟

قيل: الأمر وإن كان كذلك, فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب « التاء » وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم, كما قال تعالى ذكره: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [ سورة فصلت: 21 ] ، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها, وكما قال: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [ سورة النمل: 18 ] ، وكما قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [ سورة يوسف: 4 ] .

وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « ويَلعنهم اللاعنون » ، الملائكة والمؤمنين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ويَلعنهم اللاعنون » ، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ويلعنهم اللاعنون » ، الملائكة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: « اللاعنون » ، من ملائكة الله والمؤمنين.

وقال آخرون: يعني ب « اللاعنين » ، كل ما عدا بني آدم والجنّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويلعنهم اللاعنون » قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد, فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه, ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته, إلا الثقلين الجن والإنس.

حدثنا المثنى قال, حدثنا إسحاق قال, حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون » قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال: « اللاعنون » ، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين, فقال تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فكذلك اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنـزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، وهم « اللاعنون » , لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر.

وأما قول من قال إن « اللاعنين » هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة, ولا خبرَ بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم, فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك.

وإذْ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [ قول ] أهل التأويل، وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنـزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته, بعد علمهم به, وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب « اللاعنين » البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض, إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 160 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنـزله الله وبَيَّنه للناس, إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, والإقرار به وبنبوّته, وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنـزل الله في كتبه التي أنـزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنـزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه « فأولئك » , يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم, هم الذين أتوب عليهم, فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.

ثم قال تعالى ذكره: « وَأنا التواب الرحيم » ، يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنّى إليَّ, والرادُّها بعد إدبارها عَن طاعتي إلى طلب محبتي, والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إليَّ، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم.

فإن قال قائل: وكيف يُتاب على من تاب؟ وما وَجه قوله: « إلا الذينَ تابوا فأولئك أتوب عليهم » ؟ وهل يكون تائبٌ إلا وهو مَتُوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟

قيل: ذلك مما لا يكون أحدُهما إلا والآخر معه, فسواء قيل: إلا الذين تِيبَ عليهم فتابوا - أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم. وقد بيَّنا وَجه ذلك فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا, فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « إلا الذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنوا » ، يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله, وبيَّنوا الذي جاءهم من الله, فلم يكتموه ولم يجحدوا به: أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إلا الذين تَابوا وأصلحوا وبَينوا » قال، بيّنوا ما في كتاب الله للمؤمنين, وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود.

قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: « وبيَّنوا » ، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنـزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، على كتمانهم ما أنـزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان, فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله ويَلعنه اللاعنون ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل.

والذين استثنى اللهُ من الذين يكتمون ما أنـزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيَّنه للناس في الكتاب، عبدُ الله بن سلام وذَووه من أهل الكتاب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 161 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ الذين كفروا » ، إن الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان « وماتوا وهم كفار » ، يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، « أولئك عَليهم لَعنةُ الله والملائكة » , يعني: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته, « والملائكة » ، يعني ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم: « عليهم لعنة الله » .

وقد بينا معنى « اللعنة » فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.

فإن قال قائل: وكيف تَكونُ على الذي يموت كافرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم [ لعنةُ الناس أجمعين ] من أصناف الأمم، وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه؟

قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى الله بقوله: « والناس أجمعين » ، أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون سائر البشر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « والناس أجمعين » ، يعني: ب « الناس أجمعين » ، المؤمنين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع: « والناس أجمعين » ، يعني بـ « الناس أجمعين » ، المؤمنين.

وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: أن الكافر يُوقَف يوم القيامة فيلعنه الله, ثم تلعنه الملائكة, ثم يلعنه الناس أجمعون.

وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنًا من كان: « لَعنَ الله الظالم » , فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « أولئك عليهم لَعنة الله والملائكة والناس أجمعين » ، فإنه لا يتلاعن اثنان مُؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: « لعن الله الظالم » ، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم, فكل أحد من الخلق يلعنه.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قولُ من قال: عنى الله بذلك جَميعَ الناس، بمعنى لعنهم إياهم بقولهم: « لعن الله الظالم - أو الظالمين » .

فإن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان، ومن أي أهل ملة كان, فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا من كان. وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [ هود: 18 ]

وأما ما قاله قتادة، من أنه عنى به بعضَ الناس, فقولٌ ظاهرُ التنـزيل بخلافه, ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون أنفسهم ولا أولياءهم, فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة, وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه, وجحوده نعمةَ ربه, ومخالفته أمرَه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 162 )

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما الذي نصب « خالدين فيها » ؟

قيل: نُصب على الحال من « الهاء والميم » اللتين في « عليهم » . وذلك أنّ معنى قوله: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ ، أولئك يلعنهم الله والملائكةُ والناس أجمعون خالدين فيها. ولذلك قرأ ذلك: « أولئك عَليهم لعنة الله والملائكةُ والناس أجمعون » مَنْ قرأَهُ كذلك، توجيهًا منه إلى المعنى الذي وصفتُ. وذلك وإن كان جائزًا في العربية, فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به، لأنه خلافٌ لمصاحف المسلمين، وما جاء به المسلمون من القراءة مستفيضًا فيهم. فغير جائز الاعتراضُ بالشاذّ من القول، على ما قد ثبتت حُجته بالنقل المستفيض.

وأما « الهاء والألف » اللتان في قوله: « فيها » ، فإنهما عائدتان على « اللعنة » , والمرادُ بالكلام: ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس. والذي صار إليه بها، نارُ جهنم. وأجرى الكلام على « اللعنة » ، والمراد بها ما صار إليه الكافر، كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل، كما:-

حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: « خالدين فيها » ، يقول: خالدين في جهنم، في اللعنة.

وأما قوله: « لا يخفّف عنهم العذاب » ، فإنه خبرٌ من الله تعالى ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف, كما قال تعالى ذكره: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [ سورة فاطر: 36 ] ، وكما قال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [ سورة النساء: 56 ]

وأما قوله: « ولا هم يُنظرون » ، فإنه يعني: ولا هُم يُنظرون بمعذرة يَعتذرون، كما:-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: « ولا هم ينظرون » ، يقول: لا يُنظرون فيعتذرون, كقوله: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . [ سورة المرسلات: 35- 36 ]

 

القول في تأويل قوله عز وجل : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( 163 )

قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى « الألوهية » ، وأنها اعتباد الخلق.

فمعنى قوله: « وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم » : والذي يستحق عَليكم أيها الناس الطاعةَ له, ويستوجب منكم العبادة، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحد, فلا تعبدوا غيرَه، ولا تشركوا معه سواه، فإنّ من تُشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خَلقٌ من خلق إلهكم مثلكم, وإلهكم إله واحد، لا مثلَ لهُ وَلا نَظير.

واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره,

فقال بعضهم: معنى وحدانية الله، معنى نَفي الأشباه والأمثال عنه، كما يقال: « فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه » , يعني بذلك أنه ليسَ له في الناس مثل, ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ. فكذلك معنى قول: « اللهُ واحد » , يعني به: الله لا مثل له ولا نظير.

فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك، أنّ قول القائل: « واحد » يفهم لمعان أربعة. أحدها: أن يكون « واحدًا » من جنس، كالإنسان « الواحد » من الإنس. والآخر: أن يكون غير متفرِّق، كالجزء الذي لا ينقسم. والثالث: أن يكون معنيًّا به: المِثلُ والاتفاق، كقول القائل: « هذان الشيئان واحد » , يراد بذلك: أنهما متشابهان، حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد.

والرابع: أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه.

قالوا: فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني « الواحد » منتفيةً عنه، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه.

وقال آخرون: معنى « وحدانيته » تعالى ذكره، معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنما كان منفردًا وحده, لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل: « واحد » ، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون.

وأما قوله: « لا إله إلا هو » ، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيرُه, ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه, وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه, والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام. لأنّ جميع ذلك خلقُه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة, ولا تَنبغي الألوهة إلا له, إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك؛ وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه, وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفعُ في عاجل ولا في آجل, ولا في دنيا ولا في آخرة.

وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهلَ الشرك به على ضلالهم, ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم, والإنابة من شركهم.

ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم, فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان, فتدبروا حُججي وفكروا فيها, فإن من حُججي خَلق السموات والأرض, واختلاف الليل والنهار, والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس, وما أنـزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها, وما بثثتُ فيها من كل دابة, والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم, فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ, وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي, ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه.

 

القول في المعنى الذي من أجله أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال بعضهم: أنـزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فتلا ذلك عَلى أصحابه, وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك, ونحن نـزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنـزل الله عند ذلك: « إن في خَلق السموات والأرض » ، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نـزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، إلى قوله: لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ, وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آية ] ، فأنـزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله, وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنـزل الله تعالى ذكره: « إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال، حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ‍, فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنـزل الله: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنـزلت هذه الآية: « إنّ في خلق السموات والأرض » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر, عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات, فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنـزداد يقينًا, ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, فأوحى إليه: إنّي مُعطيهم, فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا, ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنـزل الله عليه: « إنّ في خَلق السموات والأرض » ، الآية: إن في ذَلك لآية لهم, إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا, فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نـزلت فيما قاله عطاء, وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى, ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ في خَلق السموات والأرض » ، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.

ومعنى « خلق » الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.

وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل: « الأرض » ، ولم تجمع كما جُمعت السموات, فأغنى ذلك عن إعادته

فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال: « إنّ في خلق السموات والأرض » ؟

قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية, وبالتي في سورة: الكهف: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [ سورة الكهف: 51 ] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله, والإرادة خلق لها.

وقال آخرون: خلق الشيء صفة له, لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا - بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.

وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق, هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.

فمعنى قوله: « إن في خلق السموات والأرض » : إنّ في السموات والأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « واختلاف الليل والنهار » ، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.

وإنما « الاختلاف » في هذا الموضع « الافتعال » من « خُلوف » كل واحد منهما الآخر، كما قال تعالى ذكره: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ سورة الفرقان: 62 ] .

بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده, وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل: « خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء » , ومنه قول زهير:

بِهَــا العِيـنُ وَالآرَامُ يَمْشِـينَ خِلْفَـةً وَأَطْلاؤُهَــا يَنْهَضْــنَ مِــنْ كُــلِّ مَجْـثَم

وأما « الليل » . فإنه جَمْع « ليلة » , نظيرُ « التمر » الذي هو جمع « تمرة » . وقد يجمع « ليالٍ » ، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم « الياء » في ذلك نظير زيادتهم إياها في « ربَاعية وثَمانية وكرَاهية » .

وأما « النهار » ، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنـزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه « النُّهُر » ، قال الشاعر:

لَــوْلا الــثّرِيدانِ هَلَكْنَـا بِـالضُّمُرْ ثَرِيــدُ لَيْـــلٍ وثَرِيــدٌ بِـــالنُّهُرْ

ولو قيل في جمع قليله « أنهِرَة » كان قياسًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.

و « الفلك » هو السُّفن, واحدُه وجمعه بلفظ واحد, ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [ سورة يس: 41 ] ، فذكَّره.

وقد قال في هذه الآية: « والفلك التي تجري في البحر » ، وهي مُجْراة، لأنها إذا أجريت فهي « الجارية » , فأضيف إليها من الصفة ما هو لها.

وأما قوله: « بما ينفع الناس » ، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وما أنـزل اللهُ من السماء من مَاء » ، وفيما أنـزلهُ الله من السماء من ماء, وهو المطر الذي يُنـزله الله من السماء.

وقوله: « فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها » ، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و « الهاء » التي في « به » عائدة على « الماء » و « الهاء والألف » في قوله: « بعد موتها » على الأرض.

و « موت الأرض » ، خرابها، ودُثور عمارتها, وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ

قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله: « وبث فيها منْ كلّ دَابة » ، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.

ومعنى قوله: « وبَث فيها » ، وفرَّقَ فيها, من قول القائل: « بث الأميرُ سراياه » ، يعنى: فرَّق.

و « الهاء والألف » في قوله: « فيها » ، عائدتان على الأَرْضَ .

« والدابة » « الفاعلة » ، من قول القائل: « دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة » . « والدابة » ، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتصريف الرياح » ، وفي تصريفه الرياح, فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول, كما تقول: « يعجبني إكرام أخيك » , تريد: إكرامُك أخَاك.

« وتصريف » الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ, ومرة يجعلها عَقيما, ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وتصريف الرياح والسحاب المسخر » قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك, إذا شَاء [ جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء ] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح, إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه.

وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: « وتصريف الرياح » ، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها, لأن « تصريفها » تصريفُ الله لها, « وتصرفها » اختلافُ هُبوبها.

وقد يجوز أن يكون معنى قوله: « وتصريف الرياح » ، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والسحاب المسخر » ، وفي السحاب، جمع « سحابة » . يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [ سورة الرعد: 12 ] فوحّد المسخر وذكره, كما قالوا: « هذه تَمرة وهذا تمر كثير » . في جمعه, « وهذه نخلة وهذا نخل » .

وإنما قيل للسحاب « سحاب » إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه, من قول القائل: « مرّ فلان يَجر ذَيله » ، يعني: « يسحبه » .

فأما معنى قوله: « لآيات » ، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ.

« لقوم يعقلون » ، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق, إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي, والمكلفين بالطاعة والعبادة, ولهم الثواب، وعليهم العقاب.

فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟

قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه, وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [ شيء ] , وبارئًا لا مِثْل له. وذلك وإن كان كذلك, فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم, غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. فحاجَّهم تعالى ذكره فقال - إذ أنكروا قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة- : [ إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر ] وذلك هو معنى قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - وأنـزل إليكم الغيثَ من السماء, فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه, وأمرعه بعد دُثوره, فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم - ، وذلك هو معنى قوله: وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل, ومنها جمالٌ ومراكبُ, ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودْقِه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله: « وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض » .

فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم, وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي, وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء, ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري, وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.

والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة, المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له

وقد بينا فيما مضى أن « الندّ » ، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته.

وأن الذين اتخذوا هذه « الأنداد » من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.

واختلف أهل التأويل في « الأنداد » التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟

فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله » ، من الكفار لأوثانهم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى ذكره: « يحبونهم كحب الله » ، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد، « والذين آمنوا أشد حبًا لله » ، من الكفار لأوثانهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله، « والذين آمنوا أشد حبًا لله » , أي من الكفار لأوثانهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتَهم.

وقال آخرون: بل « الأنداد » في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « كحب الله » ؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال: « يُحبونهم كحب الله » ؟

قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما ذلك نظير قول القائل: « بعت غُلامي كبيع غلامِك » , بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك غُلامَك, « واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك » , بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في « الغلام » و « الحق » , كما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيَّـا عَـــلَى زَيْــدٍ بِتَسْــلِيم الأمِــيرِ

يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.

فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( 165 )

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم: « ولوْ ترى الذين ظَلموا » بالتاء « إذ يَرون العذابَ » بالياء « أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب » بفتح « أنّ » و « أنّ » كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه « أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب » .

ثم في نصَبْ « أنّ » و « أنّ » في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه, فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا - ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا, وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ - إذا فتحت « أن » على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح « أن » ، على قراءة من قرأ: « ولو ترى » ب « التاء » .

والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ يَرى الذين ظلموا عذابَ الله, لأن القوة لله جميعًا, وأن الله شديد العذاب, لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف « اللام » ، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.

وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء: « ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب » . بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال: « إن القوة لله جميعًا » في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة, « وإن الله شديد العذاب » لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.

وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر « إن » في « ترى » بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ « القول » وتَكتفي منه بالمقول.

وقرأ ذلك آخرون: « ولو يَرَى الذين ظلموا » بالياء « إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب » بفتح « الألف » من « أنّ » « وأنّ » , بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, إذ يرون العذاب. فتكون « أن » الأولى منصوبة لتعلقها بجواب « لو » المحذوف، ويكون الجواب متروكًا, وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ: « ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب » بالياء في « يرى » وفتح « الألفين » في « أن » « وأن » - : ولو يعلمون، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم, فإذا قال: « ولو ترى » , فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو كسر « إنّ » على الابتداء، إذا قال: « ولو يرى » جاز, لأن « لو يرى » ، لو يعلم.

وقد تكون « لو » في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. تقول للرجل: « أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم » كما قال الشاعر:

إنْ يكُــنْ طِبَّـكِ الـدّلالُ, فلَـوْ فِـي سَـالِفِ الدَّهْــرِ والسِّـنِينَ الخَــوَالِي!

هذا ليس له جواب إلا في المعنى, وقال الشاعر

وَبِحَـــــظٍّ مِمَّــــا نَعِيشُ, وَلا تَــذْهَبْ بِـكَ التُّرَّهَـاتُ فِــي الأهْـوَالِ

فأضمر: فعيشي.

قال: وقرأ بعضهم: « ولو تَرى » ، وفتح « أن » على « ترى » . وليس بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم, ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ سورة السجدة: 3 ] ، ليخبر الناس عن جهلهم, وكما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة البقرة: 107 ] .

قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون « أنّ » عاملا فيها قوله: « ولو يرى » . وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا, فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في « أن » جواب « لو » الذي هو بمعنى « العلم » , لتقدم « العلم » الأول.

وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب: « أن القوة لله وأن الله شديد العذاب » ممن قرأ: « ولو يَرَى » بالياء، فإنما نصبها بإعمال « الرؤية » فيها, وجعل « الرؤية » واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ: « ولو ترى » بالتاء, فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا, ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.

وقال آخرون منهم: فتح « أنّ » في قراءة من قرأ: « ولو يَرَى الذين ظلموا » بالياء، بإعمال « يرى » , وجوابُ الكلام حينئذ متروك, كما ترك جواب: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ [ سورة الرعد: 31 ] ، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. وقالوا: جائز كسر « إن » ، في قراءة من قرأ ب « الياء » , وإيقاع « الرؤية » على « إذ » في المعنى, وأجازوا نصب « أن » على قراءة من قرأ ذلك ب « التاء » ، لمعنى نية فعل آخر, وأن يكون تأويل الكلام: « ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب » ، [ يرَون ] أنّ القوة لله جميعا، وزعموا أن كسر « إنّ » الوجهُ، إذا قرئت: « ولو تَرَى » ب « التاء » على الاستئناف, لأن قوله: « ولو ترى » قد وَقع على « الذين ظلموا » .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك: « ولو تَرَى الذين ظلموا » - بالتاء من « ترى » - « إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب » بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله: « لرأيت » الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله: « ولو ترى الذين ظلموا » ، عن ذكره, وإن كان جوابًا ل « لو » .

ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة البقرة: 107 ] وقد بيناه في موضعه.

وإنما اخترنا ذلك على قراءة « الياء » ، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال: « لو رأيت » ، لمن لم يرَ, فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له: « لو رأيت » .

ومعنى قوله: « إذ يَرون العذاب » ، إذ يُعاينون العذاب، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب » ، يقول: لو عاينوا العذاب.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: « ولو تَرَى الذين ظلموا » ، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي, حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم, لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة, وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا, ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم, وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.

القول في تأويل قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب » ، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله: « إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » ، فقال بعضهم بما:-

حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إذ تبرأ الذين اتُّبعوا » ، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك, « من الذين اتَّبعوا » ، وهم الأتباع الضعفاء, « ورأوا العذاب » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا » قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء: « إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.

وقال آخرون بما:-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا » ، أما « الذين اتُّبعوا » ، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض, بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.

وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله: « إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا » ، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.

وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، أن « الأنداد » في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر, ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم, كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره وفسد تأويل قول من قال: « إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » ، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ( 166 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا, وإذ تَقطعت بهم الأسباب.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الأسباب » . فقال بعضهم بما:-

حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير,- عن عبيد المكتب, عن مجاهد: « وتَقطعت بهمُ الأسباب » قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا.

حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد: « وتقطَّعت بهم الأسباب » قال، تواصلهم في الدنيا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد بمثله.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، المودّة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد, عن عطاء, عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: « وتقطّعت بهم الأسباب » قال، المودة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وتقطعت بهم الأسباب » ، أسبابُ الندامة يوم القيامة, وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها, فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [ سورة الزخرف: 67 ] ، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وتقطعت بهم الأسباب » ، يقول: الأسبابُ، الندامة.

وقال بعضهم: بل معنى « الأسباب » ، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وتقطعت بهم الأسباب » ، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، الأسباب المنازل.

وقال آخرون: « الأسباب » ، الأرحام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, وقال ابن عباس: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، الأرحام.

وقال آخرون : « الأسباب » ، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « وتقطعت بهم الأسباب » ، فالأعمال.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، أسباب أعمالهم, فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون, والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.

قال أبو جعفر: « والأسباب » ، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و « السبب » الحبل. « والأسباب » جمع « سَبب » , وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل « سبب » ، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق « سبب » ، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة « سبب » ، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة « سَبب » ، للوصول بها إلى الحاجة, وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو « سبب » لإدراكها.

فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم - من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ عند معاينتهم عذابَ الله المتبوعُ من التابع, وتتقطع بهم الأسباب.

وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا, وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [ سورة إبراهيم: 22 ] ، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين, وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا, فقال تعالى ذكره: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [ سورة الصافات:24- 25 ] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه, وإن كان نسيبه لله وليًّا, فقال تعالى ذكره في ذلك: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [ سورة التوبة: 114 ] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.

وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب, فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم،

ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم, ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.

فلا مَعْنِىَّ أبلغُ - في تأويل قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » - من صفة الله [ ذلك ] وذلك ما بيَّنا من [ تقطّع ] جَميع أسبابهم دون بَعضها، على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه, وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « وقَال الذين اتَّبعوا » ، وقال أتباع الرجال - الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله, ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم, إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة- : « لو أن لنا كرة » .

يعني « بالكرة » ، الرجعةَ إلى الدنيا, من قول القائل: « كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا » , و « الكرَّة » المرة الواحدة, وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:

وَلَقَـدْ عَطَفْـنَ عَـلَى فَـزَارَةَ عَطْفَـةً كَـرَّ الْمَنِيـحِ, وَجُـلْنَ ثَــمَّ مَجَــالا

وكما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا » ، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة » قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.

وقوله: « فنتبرأ منهم » منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب « الفاء » . لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم, و يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة الأنعام: 27 ]

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « كذلك يُريهمُ الله أعمالهم » ، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله: وَرَأَوُا الْعَذَابَ ، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا, فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله « حسرات عليهم » يعني: نَدامات.

« والحسرات » جَمع « حَسْرة » . وكذلك كل اسم كان واحده على « فَعْلة » مفتوح الأول ساكن الثاني, فإن جمعه على « فَعَلات » مثل « شَهوة وتَمرة » تجمع « شَهوات وتَمرات » مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل « ضخمة » ، تجمعها « ضخْمات » و « عَبْلة » تجمعها « عَبْلات » , وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر:

عَــلَّ صُـرُوفَ الدَّهْـرِ أوْ دُولاتِهَـا يُدِلْنَنَـــا اللَّمَّــة مِــنْ لَمَّاتِهَــا

فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا

فسكنّ الثاني من « الزفرات » ، وهي اسم. وقيل: إن « الحسرة » أشد الندامة.

فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم, وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه, فيريهم الله قليلَه! بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله, ولا حسرةَ عليهم في ذلك, وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟

قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون, فنذكر في ذلك ما قالوا, ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.

فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم غيرُهمْ بطاعته ربَّه. فصار ما فاتهم من الثواب - الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم » ، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله, فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين, فيرثونهم. فذلك حين يندمون.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله - في قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار, وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة, فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار, فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم!

فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟

قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [ له ] قبل أن يعمله: هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله, كما يقال للرجل يَحضُر غَداؤه قبل أن يَتغدى به: هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.

وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أعمالهم حسرات عليهم » قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [ فجعلها ] حسرات عليهم. قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم, وقرأ قول الله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [ سورة الحاقة: 24 ]

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله: « كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم » ، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.

فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية, فإنه مَنـزع بعيد. ولا أثر - بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنـزيل إلى باطن تأويل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله, فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة, وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها, ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا, ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ, ولكنهم فيها مخلدون.

وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ, وأنه إلى نهاية, ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 168 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنـزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها, إنه يعني بقوله: « إنه » إنّ الشيطان, و « الهاء » في قوله: « إنه » عائدة على الشيطان لكم أيها الناس « عدو مُبين » ، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة, وأكل من الشجرة.

يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة, ودعوا ما يأمركم به, والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم, دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.

ومعنى قوله: « حَلالا » ، طِلْقًا. وهو مصدر من قول القائل: « قد حَلَّ لك هذا الشيء » , أي صار لك مُطلقًا، « فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا » ، ومن كلام العرب: « هو لك حِلٌّ » , أي: طِلْق. .

وأما قوله: « طيبًا » فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.

وأما « الخطوات » فإنه جمع « خُطوة » , و « الخطوة » بعد ما بين قدمي الماشي. و « الخطوة » بفتح « الخاء » « الفعلة » الواحدة من قول القائل: « خَطوت خَطوة واحدةً » . وقد تجمع « الخُطوة » « خُطًا » و « الخَطْوة » تجمع « خَطوات » ، « وخِطاء » .

والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته, النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.

واختلف أهل التأويل في معنى « الخطوات » . فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « خطوات الشيطان » ، يقول: عمله.

وقال بعضهم: « خطوات الشيطان » ، خَطاياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « خُطُوات الشيطان » قال، خطيئته.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان » قال، خطاياه.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: « خطوات الشيطان » قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.

وقال آخرون: « خطوات الشيطان » ، طاعته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » ، يقول: طاعته.

وقال آخرون: « خطوات الشيطان » ، النذورُ في المعاصي.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن سليمان, عن أبي مجلز في قوله: « ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان » قال، هي النذور في المعاصي.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله: « خطوات الشيطان » ، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها « بعد ما بين قَدميه » ، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 169 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنما يأمرُكم » ، الشيطانَ، « بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون » .

« والسوء » : الإثم، مثل « الضُّرّ » ، من قول القائل: « ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا » ، وهو ما يَسوء الفاعل.

وأما « الفحشاء » ، فهي مصدر مثل « السراء والضراء » ، وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.

وقيل: إن « السوء » الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك, فإنما سَمَّاها الله « سوءًا » لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن « الفحشاء » ، الزنا: فإن كان ذلك كذلك, فإنما يُسمى [ كذلك ] ، لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء » ، أمّا « السوء » ، فالمعصية, وأما « الفحشاء » ، فالزنا.

وأما قوله: « وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون » ، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي, ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى ذكره لهم: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة المائدة: 103 ] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، أنّ قيلهم: « إنّ الله حرم هذا! » من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان, وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه, ولم يحرم أكله عليهم, ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان, واتباعًا منهم خطواته, واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال, الذين كانوا بالله وبما أنـزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم, كما أنـزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 170 )

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.

أحدهما: أن تكون « الهاء والميم » من قوله: « وإذا قيلَ لهم » عائدة على مَنْ في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا, وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنـزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.

والآخر: أن تكون « الهاء والميم » اللتان في قوله: « وإذا قيل لهم » ، من ذكر النَّاسُ الذين في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا ، فيكون ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ]

قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية أن تكون « الهاء والميم » في قوله: « لهم » ، من ذكر النَّاسُ , وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ . فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها وأنها نـزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه, وحذرهم عقاب الله ونقمته, فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنـزل الله في ذلك من قولهما « وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنـزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف.

وأما تأويل قوله: « اتبعوا ما أنـزلَ الله » ، فإنه: اعملوا بما أنـزل الله في كتابه على رسوله, فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه, واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به, وقائدًا تَتبعون أحكامه.

وقوله: « ألفينا عَليه آباءنا » ، يعني وَجدنا, كما قال الشاعر:

فَأَلْفَيْتُــــهُ غَـــيْرَ مُسْـــتَعْتِبٍ وَلا ذَاكِـــرِ اللــهَ إلا قَلِيــــلا

يعني: وجدته، وكما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا » ، أي: ما وجدنا عليه آباءنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.

قال الله تعالى ذكره: « أوَ لو كانَ آباؤهم » - يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم- « لا يعقلون شيئًا » من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه, فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم - « ولا يَهتدون » لرشد، فيهتدي بهم غيرهم, ويَقتدي بهم من طَلب الدين, وأراد الحق والصواب؟

يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه, فأما الجاهل فلا يتبعه - فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة، في قوله: « ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً » قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.

حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع » قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً » ، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها « كُلْ » - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعق بما لا يسمع » قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعِق » ، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل, كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً » ، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً » قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له : يقال: لا تعقل - يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها, فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد: « الذي ينعِق » ، الراعي « بما لا يسمع » من البهائم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعق » الراعي « بما لا يسمع » من البهائم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط, عن السدي: « كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً » ، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما « الذي ينعق » ، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له, إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [ سورة البقرة: 18 ]

قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم - : ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه ونعيقِه بها. فأضيف « المثل » إلى الذين كفروا, وترك ذكر « الوعظ والواعظ » ، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال: « إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان » , يراد به: كما تعظم السلطانَ, وكما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيًّـا عَــــلَى زَيْـــدٍ بِتَسْـــلِيمِ الأمِـــير

يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.

وقد يحتمل أن يكون المعنى - على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء- : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له: « اعتلف، أو رِدِ الماء » ، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر, مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه - بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق, كما قال نابغة بني ذبيان:

وَقَـدْ خِـفْتُ, حَـتَّى مَـا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَـلَى وَعِــلٍ فِــي ذِي المَطَـارَة عَاقِلِ

والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي, وكما قال الآخر:

كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـولُ, كَمَـا كَــانَ الزِّنَــاءُ فَرِيضَــةَ الرَّجْـــمِ

والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:

إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُه تَحْـلَى بِــهِ العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ

والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه, فتقول: « اعرِض الحوضَ على الناقة » , وإنما تعرض الناقة على الحوض, وما أشبه ذلك من كلامها.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل, كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً, وذلك الصدى الذي يسمع صوته, ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.

فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم - في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً, أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً » قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له « الصَّدى » . فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء, فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها, ولا ينفعه شيء.

قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه, فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.

فأما وَجه جَواز حذف « وعظ » اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ سورة البقرة: 17 ] ، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. .

وإنما اخترنا هذا التأويل, لأن هذه الآية نـزلت في اليهود, وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها, ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.

فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟

قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها, فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نـزلت, والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نـزلت فيهم. وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود، كان عطاء يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنـزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا إلى قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [ سورة البقرة: 174- 175 ] .

وأما قوله: « يَنعِق » ، فإنه: يُصوِّت بالغنم، « النَّعيق، والنُّعاق » , ومنه قول الأخطل:

فَـانْعِقْ بِضَـأْنِكَ يَـا جَـرِيرُ, فَإِنَّمَـا مَنَّتْـكَ نَفْسَـكَ فِـي الخَــلاءِ ضَــلالا

يعني: صوِّت به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 171 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ » ، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً « صُمٌ » عن الحق فهم لا يسمعون - « بُكمٌ » يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس, فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس - , « عُميٌّ » عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، . كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: « صُمٌ بكم عمي » ، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « صم بكم عمي » يقول: عن الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.

وأما الرفع في قوله: « صم بكم عمي » ، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف, يدل على ذلك قوله: « فهم لا يعقلون » ، كما يقال في الكلام: « هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 172 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله, وأقروا لله بالعبودية, وأذعنوا له بالطاعة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يقول: صدَّقوا.

« كلوا من طيبات ما رَزَقناكم » ، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم, فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم والمشارب. « واشكروا لله » ، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم. « إن كنتم إياه تعبدون » ، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين, فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم, ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.

وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم, وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه, إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم, وفصَّله لهم مُفسَّرًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك, بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنـزير، ومَا أهلّ به لغيري.

ومعنى قوله: « إنما حَرَّم عليكم الميتة » ، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.

« وإنما » : حرف واحدٌ, ولذلك نصبت « الميتة والدم » , وغير جائز في « الميتة » إذا جعلت « إنما » حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت « إنما » حرفين، وكانت منفصلة من « إنّ » ، لكانت « الميتة » مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنـزير، لا غير ذلك.

وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.

ولو قرئ في « حرّم » بضم الحاء من « حرّم » ، لكان في « الميتة » وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى, « وإنما » حرفٌ واحد.

والآخر: « إن » و « ما » في معنى حرفين, و « حرِّم » من صلة « ما » , « والميتة » خبر « الذي » مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت.

وأما « الميتة » ، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد, ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في: « هو هيّن ليّن » « الهيْن الليْن » ، كما قال الشاعر:

لَيْسَ مَــنْ مَـاتَ فَاسْـتَرَاحَ بِمَيْـتٍ إِنَّمَــا المَيْــتُ مَيِّــتُ الأحْيَـــاءِ

فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد.

وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل, وقالوا: إنما هو « مَيْوِت » , « فيعل » ، من الموت. ولكن « الياء » الساكنة و « الواو » المتحركة لما اجتمعتا، « والياء » مع سكونها متقدمة، قلبت « الواو » « ياء » وشددت، فصارتا « ياء » مشددة, كما فعلوا ذلك في « سيد وجيد » . قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في « ياء » « الميتة » لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب, فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.

وأما قوله: « وَمَا أهِلَّ به لغير الله » ، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.

وإنما قيل: « وما أهِلَّ به » ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم, فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر- : « مُهِلٌّ » . فرفعهم أصواتهم بذلك هو « الإهلال » الذي ذكره الله تعالى فقال: « وما أهِلَّ به لغير الله » . ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة « مُهِلّ » , لرفعه صوته بالتلبية. ومنه « استهلال » الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه, « واستهلال » المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض, كما قال عمرو بن قميئة:

ظَلَـمَ البِطَـاحَ لَـهُ انْهِـلالُ حَرِيصَـةٍ فَصَفَـا النِّطَـافُ لَـــهُ بُعَيْــدَ المُقْلَــعِ

واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله: « وما أهِلَّ به لغير الله » ، ما ذبح لغير الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، ما ذبح لغير الله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما أهلّ به لغير الله » قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما أهلّ به لغير الله » ، ما ذبح لغير الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال ابن عباس في قوله: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، ما أهِلّ به للطواغيت.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك قال: « وما أُهلّ به لغير الله » قال، ما أهل به للطواغيت.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما أهِلّ به لغير الله » ، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء في قول الله: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، هو ما ذبح لغير الله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « وما أهلّ به لغير الله » ، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قوله الله: « وما أهلّ به لغير الله » - قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: « باسم فلان » , كما تقول أنت: « باسم الله » قال، فذلك قوله: « وما أهلّ به لغير الله » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس, وما أهدي لها من خبز أو لحم, فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله: « وما أهِلّ به لغير الله » ؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فمن اضطر » ، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله - وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله.

وقوله: فمن « اضطر » « افتعل » من « الضّرورة » .

و « غيرَ بَاغ » نُصِب على الحال مِنْ « مَنْ » , فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله, فهو له حلال.

وقد قيل : إن معنى قوله: « فمن اضطر » ، فمن أكره على أكله فأكله, فلا إثم عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل, عن سالم الأفطس, عن مجاهد قوله: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.

وأما قوله: « غيرَ بَاغ ولا عَاد » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.

فقال بعضهم: يعني بقوله: « غير باغ » ، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور, ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد: « فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد » قال، غيرَ قاطع سبيل, ولا مفارق جماعة, ولا خارج في معصية الله, فله الرخصة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » ، يقول: لا قاطعًا للسبيل, ولا مفارقًا للأئمة, ولا خارجًا في معصية الله, فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله, فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: « غير باغ ولا عاد » قال، هو الذي يقطع الطريق, فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك, عن شريك، عن سالم - يعني الأفطس- عن سعيد في قوله: « فمن اضطُر غير باغ ولا عاد » قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد في قوله: « فمن اضطُر غير باغ ولا عاد » قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب, وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث, عن الحجاج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: « غيرَ باغ » على الأئمة، « ولا عاد » قال، قاطع السبيل.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » قال، غير قاطع السبيل, ولا مفارق الأئمة, ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الحكم, عن مجاهد : « فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد » قال، غير باغ على الأئمة, ولا عاد على ابن السبيل.

وقال آخرون في تأويل قوله: « غيرَ باغ ولا عاد » : غيرَ باغ الحرامَ في أكله, ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد » قال، غير باغ في أكله, ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عمن سمع الحسن يقول ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة قوله: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » ، « غير باغ » يَبتغيه, « ولا عادٍ » : يتعدى على ما يُمسك نفسه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » ، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه, ألا ترى أنه يقول: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ سورة المؤمنون: 7\ سورة المعارج: 31 ]

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ » قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام, ويترك الحلال وهو عنده, ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين, ويقول: هذا وهذا واحد!

وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » . أمَّا « باغ » ، فيبغي فيه شهوته. وأما « العادي » ، فيتعدى في أكله, يأكل حتى يشبع, ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله, وله عن ترك أكله - بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى.

وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما : من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض, فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما - ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا ] . فإذ كان ذلك كذلك, فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة, الأوبةُ إلى طاعة الله, والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه, والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة, فيزدادان إلى إثمهما إثمًا, وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا.

وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة, فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك - مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله, وإن كان للفظه مخالفًا.

فأما توجيه تأويل قوله: « ولا عاد » ، و لا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه.

فإذ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.

وأما تأويل قوله: « فلا إثم عليه » ، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « إنّ الله غَفور رحيم » ، « إنّ الله غَفورٌ » إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية, فصافحٌ عنكم, وتارك عقوبتكم عليه, « رحيم » بكم إن أطعتموه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ الذينَ يَكتمون ما أنـزل الله من الكتاب » ، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته, وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنّ الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب » الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنـزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( إنّ الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب ويَشترون به ثمنًا قليلا ) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنـزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الذين يكتمون مَا أنـزل الله منَ الكتاب » ، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « إنّ الذين يكتمونَ ما أنـزل الله من الكتاب » ، والتي في « آل عمران إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ سورة آل عمران: 77 ] نـزلتا جميعًا في يهود. »

وأما تأويل قوله: « ويَشترون به ثمنًا قليلا » ، فإنه يعني: يبتاعون به. « والهاء » التي في « به » ، من ذكر « الكتمان » . فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويشترون به ثمنًا قليلا » قال، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.

وقد بينت فيما مضى صفة « اشترائهم » ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 174 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها, فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها « ما يأكلون في بطونهم » - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، وما أخذوا عليه من الأجر « إلا النار » - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها, كما قال تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ سورة النساء: 10 ] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر « النار » وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر « ما يوردهم، أو يدخلهم » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار » ، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.

فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال: « ما يأكلون في بطونهم » ؟

قيل: قد تقول العرب: « جُعت في غير بطني, وشَبعتُ في غير بطني » , فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال: « فعل فُلان هذا نفسُه » . وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى.

وأما قوله: « ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة » ، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون, فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ الآيتين [ سورة المؤمنون: 107- 108 ] .

وأما قوله: « ولا يُزكِّيهم » ، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، « ولهم عذاب أليم » ، يعني: مُوجع

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى » ، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى, وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر « العذاب » و « المغفرة » ، من ذكر السبب الذي يُوجبهما, لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. وكذلك بينا وجه « اشتروا الضلالة بالهدى » باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( 175 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فما أصْبَرهم على النار » ، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فما أصْبَرهم على النار » ، يقول: فما أجرأهم عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن بشر، عن الحسن في قوله: « فما أصْبرهم على النار » قال، والله ما لهم عليها من صبر, ولكن ما أجرأهم على النار.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر ، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه: « فما أصبرهم على النار » ، ما أجرأهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فما أصبرهم على النار » ، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « فما أصْبرهم على النار » قال، ما أعملهم بالباطل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

واختلفوا في تأويل « ما » التي في قوله: « فما أصبرهم على النار » . فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فما أصبرَهم على النار » ، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟

حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء: « فما أصبرهم على النار » قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟

حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش: « فما أصبرهم على النار » قال، هذا استفهام, ولو كانت من الصبر قال: « فما أصبرُهم » ، رفعًا. قال: يقال للرجل: « ما أصبرك » , ما الذي فعل بك هذا؟

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فما أصبرهم على النار » قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟

وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد : « فما أصبرهم على النار » قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!

وهو قول الحسن وقتادة, وقد ذكرناه قبل.

فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ، فما أشد جراءتهم - بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [ سورة عبس: 17 ] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.

فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار - والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار, بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب: « ما أصبرَ فلانًا على الله » , بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنـزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته, واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.

وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم على عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر « النار » من ذكر « عذابها » ، كما يقال: « ما أشبه سخاءك بحاتم » , بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم, « وما أشبه شَجاعتك بعنترة » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَـزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 176 )

قال أبو جعفر: أما قوله: « ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق » ، فإنه اختلف في المعنيِّ ب « ذلك » .

فقال بعضهم: معنيُّ « ذلك » ، فعلُهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما أنـزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه من أجل أن الله تبارك تعالى « نـزل الكتاب بالحق » ، وتنـزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ سورة البقرة: 6- 7 ] فهم - مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

وقال آخرون: معناه: « ذلك » معلومٌ لهم، بأن الله نـزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم، والكتابُ حَق.

كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنـزيله أن النار للكافرين, وتنـزيله حق, فالخبر عن « ذلك » عندهم مُضمر.

*

وقال آخرون: معنى « ذلك » ، أن الله وصف أهل النار، فقال: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و « هذا » هاهنا عندهم، هي التي يجوز مكانها « ذلك » ، كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون « ذلك » - إذا كان ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله: « ذلك » ، إلى جميع ما حواه قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ، إلى قوله: « ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق » ، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك, فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس - وبخلافهم أمري وطاعتي وذلك - من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم, وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنـزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.

فيكون في « ذلك » حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع ب « الباء » , والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنـزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر « فكفروا به واختلفوا » ، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.

وأما قوله: « وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد » ، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه, وكفروا جميعًا بما أنـزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنـزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب, كما قال الله تعالى ذكره: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [ سورة البقرة: 137 ] كما:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي : « وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد » ، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى « الشقاق » ، فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها, ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل المشرق والمغرب » ، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا, فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة, ونـزلت الفرائض, وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.

حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس قال: هذه الآية نـزلت بالمدينة: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد: « ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب » ، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها, قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة, فأنـزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.

وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب, والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق, فأنـزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنـزلت: « ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر » ، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنـزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنـزل الله: « ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب » . وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق - « ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر » الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق, فنـزلت: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » .

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس : أن يكون عنى بقوله: « ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها, إذْ كان الأمر كذلك, - « ليس البر » ، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب, « ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب » الآية.

فإن قال قائل: فكيف قيل: « ولكن البر من آمن بالله » ، وقد علمت أن « البر » فعل, و « مَنْ » اسم, فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟

قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته, وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، فوضع « مَنْ » موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة, فتقول: « الجود حاتم، والشجاعة عنترة » ، و « إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة » , ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر « حاتم » إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر « الجود » بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع « جوده » ، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [ سورة يوسف: 82 ] والمعنى: أهل القرية, وكما قال الشاعر, وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:

حَسِــبْتَ بُغَــامَ رَاحِـلَتِي عَنَاقًـا! وَمَـا هـي, وَيْـبَ غَـيْرِكَ بالعَنَـاقِ

يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [ عناق ] ، كما يقال: « حسبت صياحي أخاك » , يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.

وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله, فيكون « البر » مصدرًا وُضع موضعَ الاسم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وآتى المالَ على حُبه » ، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، . كما:-

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا, عن زبيد, عن مرة بن شراحيل البكيلي, عن عبد الله بن مسعود: « وآتَى المالَ على حُبه » ، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا, عن سفيان, عن زُبيد الياميّ, عن مرة, عن عبد الله: « وآتى المالَ على حُبه » قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن زبيد اليامي, عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: « وآتى المال على حبه » قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.

حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين, عن شعبة بن الحجاج, عن زبيد اليامي, عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله: « وآتى المال على حبه ذوي القربى » , قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر.

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم, عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: « وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى « وآتى المال على حُبه » إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر, عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو, وطُروق الفحل, والحلَب.

حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, ذكره عن مرة الهمداني في: « وآتى المالَ على حُبه » قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله, عن أبي حمزة, عن عامر, عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « في المال حق سوى الزكاة » ، وتلا هذه الآية: « ليس البر » إلى آخر الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن زبيد اليامي, عن مرة بن شراحيل, عن عبد الله في قوله: « وآتى المالَ على حُبه » قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه, شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.

وإنما قلت عنى بقوله: « ذوي القرْبى » ، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس

وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح.

وأما « اليتامى » « والمساكين » ، فقد بينا معانيهما فيما مضى.

وأما « ابن السبيل » ، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: « وابن السبيل » قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت » . قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال, فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة.

وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر: « وابن السبيل » قال، المجتاز من أرض إلى أرض.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وقتادة في قوله: « وابن السبيل » قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عمن ذكره, عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.

وإنما قيل للمسافر « ابن السبيل » ، لملازمته الطريق - والطريق هو « السبيل » - فقيل لملازمته إياه في سفره: « ابنه » ، كما يقال لطير الماء « ابن الماء » لملازمته إياه, وللرجل الذي أتت عليه الدهور « ابن الأيام والليالي والأزمنة » , ومنه قول ذي الرمة:

وَرَدْتُ اعْتِسَــافًا وَالثُّرَيَّــا كَأَنَّهَــا عَـلَى قِمَّـةِ الـرَّأْسِ ابْـنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ

وأما قوله: « والسائلين » ، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس, عن حصين, عن عكرمة في قوله: « والسائلين » قال، الذي يسألك.

وأما قوله: « وفي الرقاب » ، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة, وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وأقامَ الصلاة » ، أدام العمل بها بحدودها, وبقوله « وآتى الزكاة » ، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه.

فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:

فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية, وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ، ومن سمى الله معهم, ثم قال بعد: « وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة » ، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى, ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له, علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة, وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.

وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة, ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده - بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك: « وآتى الزكاة » ، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ كانت عليهم, إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.

وأما قوله: « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا » ، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة, ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا » قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.

وقد بينت « العهد » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل « الصبر » فيما مضى قبل.

فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم - في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى « البأساء والضراء » بما:-

حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي, عن مرة الهمداني, عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر, وأما الضراء فالسقم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قوله: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البأساء الجوع, والضراء المرضُ.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة, والضراءُ المرضُ.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر, وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ سورة الأنبياء: 83 ] .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البؤس: الفاقة والفقر, والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « البأساء والضراء » قال، البأساء: البؤس, والضراء: الزمانة في الجسد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: « البأساء والضراء » ، المرض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البأساء: البؤس والفقر, والضراء: السقم والوجع.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية: « والصابرين في البأساء والضراء » ، أما البأساء: الفقر, والضراء: المرض.

قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: « البأساء والضراء » ، مصدر جاء على « فعلاء » ليس له « أفعل » لأنه اسم, كما قد جاء « أفعل » في الأسماء ليس له « فعلاء » ، نحو « أحمد » . وقد قالوا في الصفة « أفعل » ، ولم يجئ له « فعلاء » , فقالوا: « أنت من ذلك أوْجل » , ولم يقولوا: « وجلاء » .

وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن « البأساء » ، البؤس, « والضراء » الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:

فَتُنْتَــجْ لَكُـمْ غِلْمَـانَ أَشْـأَمَ, كُـلُّهُمْ كَـأَحْمَرِ عَـادٍ, ثُـمَّ تُـرْضِعْ فَتَفْطِـمِ

يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.

وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء « أفعل » في النكرة, ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله: « لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ » ، بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.

وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير, ولو وَقَع بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب « أفعل » لم يصرف إلى « فُعلى » , ومن سُمي ب « فُعلى » لم يصرف إلى « أفعل » , لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره, ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر « أشأم » , وإذا وقع « البأساء والضراء » ، وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على « الضراء » ، « الأضر » ، ولا على « الأشأم » ، « الشأماء » . لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث, كما قالوا: « امرأة حسناء » , ولم يقولوا: « رجل أحسن » . وقالوا: « رجل أمرد » , ولم يقولوا: « امرأة مرداء » . فإذا قيل: « الخصلة الضراء » و « الأمر الأشأم » ، دل على المصدر, ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا, وإن كان قد كَفَى من المصدر.

وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل « البأساء والضراء » ، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا « البأساء » بمعنى: البؤس, « والضراء » بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا « البأساءَ والضراء » إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب « البأساء والضراء » ، على قول أهل التأويل، أن تكون « البأساء والضراء » أسماء أفعال, فتكون « البأساء » اسمًا « للبؤس » , و « الضراء » اسمًا « للضر » .

وأما « الصابرين » فنصبٌ, وهو من نعت « مَن » على وجه المدح. لأن من شأن العرب - إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، كما قال الشاعر:

إلَــى المَلِـكِ القَـرْمِ وَابْـنِ الهُمَـامِ وَلَيْــثَ الكَتِيبَــةِ فِــي المُزْدَحَـمْ

وَذَا الــرَّأْيِ حِــينَ تُغَــمُّ الأمُـورُ بِـــذَاتِ الصَّلِيــلِ وذَاتِ اللُّجُــمْ

فنصب « ليث الكتيبة » وذا « الرأي » على المدح, والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر:

فَلَيْـتَ الَّتِـي فِيهَـا النُّجُـومُ تَوَاضَعَت عَــلَى كُــلِّ غَـثٍّ مِنْهُـمُ وسَـمِينِ

غيُـوثَ الـوَرَى فِـي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ أُسُـودَ الشَّـرَى يَحْـمِينَ كُـلَّ عَـرِينِ

وقد زعم بعضهم أن قوله: « والصابرين في البأساء » ، نُصب عطفًا على « السائلين » . كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول, وذلك أنّ « الصابرين في البأساء والضراء » ، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء - مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله: وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل « البأساء والضراء » , لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء, وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة « المساكين » الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله: « والصابرين في البأساء » . وإذا كان كذلك، ثم نصب « الصابرين في البأساء » بقوله وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر, والموفون بعهدهم إذا عاهدوا, والصابرين في البأساء والضراء. « وَالْمُوفُونَ » رفعٌ لأنه من صفة « مَنْ » , و « مَنْ » رفعٌ، فهو معرب بإعرابه. « والصابرين » نصب - وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ الْبَأْسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وحين البأس » ، والصابرين في وقت البأس, وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قول الله: « وحين البأس » قال، حين القتال.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وحين البأس » القتال.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « وحين البأس » ، أي عندَ مواطن القتال.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وحين البأس » ، القتال.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، « وحين البأس » ، عند لقاء العدو.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك: « وحين البأس » ، القتال

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: « وحين البأس » قال، القتال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك الذين صدقوا » ، من آمن بالله واليوم الآخر, ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.

وأما قوله: « وأولئك هُم المتقون » ، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه, فقاموا بأداء فرائضه.

وبمثل الذي قلنا في قوله: « أولئك الذين صَدقوا » ، كان الربيع بن أنس يقول:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أولئك الذين صدقوا » قال، فتكلموا بكلام الإيمان, فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل, فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، فُرض عليكم.

فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟

قيل: لا ولكنه مباح له ذلك, والعفو, وأخذُ الدية.

فإن قال قائل: وكيف قال: « كتب عليكم القصاص » ؟

قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ, فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل, والقصاصُ منه دون غيره من الناس, فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.

والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ .

وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نـزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا, فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين, ودياتُ رجالهم بديات رجالهم, وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى « القصاص » في هذه الآية.

فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال: « كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » ، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر, ولا للأنثى إلا من الأنثى؟

قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ سورة الإسراء: 33 ] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« المسلمون تتكافأ دماؤهم. »

فإن قال: فإذ كان ذلك, فما وجه تأويل هذه الآية؟

قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة, حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنـزل الله هذه الآية, فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره, وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال, وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار, فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله : « الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، نـزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة, فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان, وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنـزل الله: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان, فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة, فقتل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم, قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنـزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى, فنهاهم عن البغي. ثم أنـزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ سورة المائدة: 45 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنـزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم, فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنـزل الله: « الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود, عن عامر في هذه الآية: « كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، إنما ذلك في قتال عُمية، إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ, وفي المرأتين كذلك, وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره: « الحر بالحر » ، الرجل بالمرأة, والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء, فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر, وديات الرجال بالرجال, وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر, فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر, والعبد دية العبد, والأنثى دية الأنثى, فقاصَّهم بعضَهم من بعض.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان, عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ, كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم, فنـزلت هذه الآية: « الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر، والعبد بالعبد, والأنثى بالأنثى .

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية: « كتب عليكم القصاص في القتلى » قال، نـزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، نـزلت في قتال عُمية ، قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل, والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به, فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه, وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ, وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ, فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ, وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ, فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ, فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية, وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن قتادة, عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته, قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سعيد, عن عوف, عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك, عن الشعبي, قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا, فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه, ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في حال مَا نـزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ سورة المائدة: 45 ] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « والأنثى بالأنثى » ، وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة, فأنـزل الله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس, رجالهم ونساؤُهم.

قال أبو جعفر: فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نـزلت فيه هذه الآية, فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك, وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة - على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه - مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.

وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ, وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني, فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون الآية نـزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض, كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.

وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة, وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك, وكان قوله تعالى ذكره: « كُتب عليكم القصَاص » ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا, فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.

فإن قال قائل: إذْ ذكرتَ أن معنى قوله: « كتب عليكم القصاص » - بمعنى: فُرض عليكم القصاص : لا يعرف لقول القائل: « كتب » معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا, فما برهانك على أن معنى قوله: « كتب » فُرِض؟

قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ, وفي أشعارهم مستفيض, ومنه قول الشاعر:

كُــتِبَ القَتْــلُ وَالقِتَــالُ عَلَيْنَــا وَعَــلَى المُحْصَنَـاتِ جَـرُّ الذُّيُـولِ

وقولُ نَابغةَ بني جعدة:

يَـا بِنْـتَ عَمِّـي, كِتَـابُ اللهِ أَخْرَجَنِي عَنْكُـم, فَهَـلْ أَمْنَعَـنَّ اللـهَ مَـا فَعَلا!

وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض, فإنه عندي مأخوذ من « الكتاب » الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ, فقال تعالى ذكره في القرآن: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ سورة البروج: 21- 22 ] وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [ سورة الواقعة: 77- 78 ] . فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.

فمعنى قوله: - إذ كان ذلك كذلك- « كُتب عليكم القصاص » ، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.

وأما « القصاص » فإنه من قول القائل: « قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي, قصاصًا ومُقاصَّة » . فقتل القاتل بالذي قتله « قصاص » , لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله, وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه, فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا, إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله, فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه.

وأما « القتلى » فإنها جمع « قتيل » كما « الصرعى » جمع « صريع » , والجرحى جمع « جريح » . وإنما يجمع « الفعيل » على « الفعلى » , إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، نحو القتلى في معاركهم, والصرعى في مواضعهم, والجرحى، وما أشبه ذلك.

فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد, والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر « أن يقتص » اكتفاءً بدلالة قوله: « كُتب عليكم القصاص » عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص - وهو الشيء الذي قال الله: « فمن عُفي له من أخيه شيء » - فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن مجاهد, عن ابن عباس : « فمن عفي له من أخيه شيء » ، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس أنه قال في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب وأداء إليه بإحسان من المطلوب.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك, عن محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار, عن مجاهد, عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف, ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان » ، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء » قال، الدية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن يزيد, عن إبراهيم, عن الحسن: « وأداء إليه بإحسان » قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف, وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف » ، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم, ويأخذ الدية.

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن داود, عن الشعبي مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه, وقبلت منه الدية. يقول: « فاتباع بالمعروف » ، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف, وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص, لا عَقل فيه، إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف, ويؤدي المطلوب بإحسان.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية, يقول: « فاتباع بالمعروف » ، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف, وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ.

حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص, فذلك قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك, وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف, وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.

حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وأداء إليه بإحسان » قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، وهو الدية، أن يحسن الطالب وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء.

وقال آخرون معنى قوله: « فمن عُفي » ، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا : معنى قوله: « من أخيه شيء » : من دية أخيه شيء, أو من أرْش جراحته، فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.

وهذا قول من زعم أن الآية نـزلت - أعني قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل « العفو » - في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: حَتَّى عَفَوْا [ سورة الأعراف: 95 ] . فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمنَ عُفي له من أخيه شيء » ، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته, فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.

والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى, والعبد من الحر, والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله: « فمنْ عُفي له من أخيه شيء » ، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول, فاتباع من الوليّ بالمعروف, وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء » : فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه, فاتباعٌ بالمعروف من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك « العفو » أيضًا عن ذلك.

وأما معنى قَوله: « فاتباع بالمعروف » ، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:-

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من زاد أو ازداد بعيرًا » - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية.

وأما إحسان الآخر في الأداء, فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك, أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [ سورة محمد: 4 ] ؟ قيل: لو كان التنـزيل جاء بالنصب, وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر, كما يقال: « ضربًا ضَربًا وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا » ، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان, أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف.

وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب, والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ سورة المائدة: 95 ] ، وقوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ سورة البقرة: 229 ] . وأما قوله: فَضَرْبَ الرِّقَابِ ، فإن الصواب فيه النصب, وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال: « إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا » , على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم - أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة « تخفيف من ربكم » ، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم « ورحمة » ، مني لكم. كما:-

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية, فقال الله في هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد « ذلك تخفيف من ربكم » . يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك, عن محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار، عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية, فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ إلى آخر الآية، « ذلك تخفيفٌ من ربكم » ، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل, فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح, وذلك قول الله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الآية كلها [ سورة المائدة: 45 ] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة, وذلك قوله تعالى: « ذلك تخفيفٌ من ربكم » بينكم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » ، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية, وأحلَّها لهم, ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو, وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم, ولم تكن لأمة قبلهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله سواء, غير أنه قال: ليس بينهما شيء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى قال، لم يكن لمن قبلنا دية, إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنـزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار, عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص, وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار: « ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة » .

وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه, فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم.

وقد بينت معنى « الاعتداء » فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فقتل, « فله عذابٌ أليم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اعتدى » ، بعد أخذ الدية، « فله عذاب أليم » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل, فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه, فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية, فذلك « الاعتداء » .

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه, وأُخِذ من أوليائه الدية, ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول: « فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم » ؟

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل « فلا عذابٌ أليم » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم.

واختلفوا في معنى « العذاب الأليم » الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.

فقال بعضهم: ذلك « العذابُ » هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » قال، يقتل, وهو العذاب الأليم يقول: العذاب المُوجع.

حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان, عن عكرمة: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » قال، القتلُ.

وقال بعضهم: ذلك « العذابُ » عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث غير أنه لم ينسبه, وقال: ثقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، و « الاعتداء » الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ, أو يقضي السلطان فيما بين الجراح, ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى, والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [ يعفو ] لأن هذا من الأمر الذي أنـزل الله فيه قوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ سورة النساء: 59 ] .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد, عن يونس, عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية, ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » ، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية, فَقتلَ قاتلَ وليه, فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه, فقال تعالى ذكره وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ سورة الإسراء: 33 ] . فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه, لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة, على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول, فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه, ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب » ، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب » قال، نكالٌ, تَناهٍ.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، نكالٌ, تَناهٍ.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « ولكم في القصاص حياة » ، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها, ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين, والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب » قال، قد جعل الله في القصاص حياة, إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولكم في القصاص حياة » الآية, يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، نكالٌ, تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، حياةٌ، بقية. إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني, لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي, فيذكر أن يُقْتَل في القصاص, فيخشى أن يقتل بي, فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.

حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، بقاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر, وبالعبد الحرّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولكم في القصاص حياة » ، يقول: بقاء, لا يقتل إلا القاتل بجنايته.

وأما تأويل قوله: « يا أولي الألباب » ، فإنه: يا أولي العقول. « والألباب » جمع « اللب » , و « اللب » العقل.

وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول, لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « لعلكم تتقون » ، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لعلكم تتقون » قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « كُتب عليكم » ، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته حقًّا على المتقين يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.

فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟

قيل: نعم.

فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟

قيل : نعم.

فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟

قيل: قول الله تعالى ذكره: « كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين » ، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [ سورة البقرة: 183 ] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.

فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟

قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.

وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.

حدثني سَلم بن جنادة. قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [ مَوَال ] ، ولا كرامة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.

حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.

حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.

واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.

فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.

ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.

وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.

حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نـزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. .

حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: « الوصية للوالدين والأقربين » قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنـزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [ سورة النساء: 11 ] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : « إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف » قال، كان هذا من قبل أن تُنـزل « سورة النساء » , فلما نـزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: « إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، قالا في القرابة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.

وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين » الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم « سورة البقرة » ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: « إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين » قال، نُسخت هذه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.

حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نـزلت آية الميراث.

حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في « سُورة النساء » ، الآيةَ في « سُورة البقرة » في شأن الوصية.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : « إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في « سورة النساء » : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [ سورة النساء: 11 ]

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، أما الوالدان والأقربون، فيوم نـزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها « النساء » ، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.

حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة - يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ سورة الأنفال: 75 ] .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.

وأما « الخير » الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « إن تَرك خيرًا » ، يعني مالا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « إن ترك خيرًا » ، مالا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن أبي نجيح, عن مجاهد: « إن تَرَك خيرًا » ، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ سورة العاديات: 8 ] ، الخير: المال - إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ سورة ص: 32 ] ، المال - فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [ سورة النور: 33 ] ، المال و ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) ، المالُ.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إن ترك خيرًا الوصية » ، أي: مالا.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: « إن تَرك خيرًا الوصية » ، أما « خيرًا » ، فالمالُ.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إن ترك خيرًا » قال، إن ترك مالا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: « إن ترك خيرًا » قال، الخيرُ المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك في قوله: « إن ترك خيرًا الوصية » قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [ سورة هود: 84 ] يعني الغني.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح، تلا « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا » ، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.

ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.

فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة في هذه الآية: « إن تَرَك خيرًا الوصية » قال، الخيرُ ألف فما فوقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة, عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده, فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.

قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض, فذكر لهُ الوصية, فقال: لا تُوص، إنما قال الله: « إن تَرك خيرًا » ، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور بن صفية, عن عبد الله بن عيينة - أو: عتبة, الشك مني- : أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير, وترك أربعمئة دينار, فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم, فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله: « إن ترك خيرًا » ، وليس لك كثير مال.

وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة, عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله: « إن ترك خيرًا » قال، ألف درهم إلى خمسمئة.

وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: « كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية » ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه « خيرٌ » , ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف, كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي - من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.

فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت « الهاء » التي في قوله: « فمن بدّله » ؟

قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.

ومعنى الكلام: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم, فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.

وإنما قلنا إن « الهاء » في قوله: « فمن بدله » عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ من قول الله, وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون « الهاء » في قوله: « فمن بدله » عائده على « الوصية » .

وأما « الهاء » في قوله: « بعد ما سمعه » ، فعائدة على « الهاء » الأولى في قوله: « فمن بَدَّله » .

وأما « الهاء » التي في قوله: « فإنما إثمه » ، فإنها مكنيُّ « التبديل » ، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فمن بدَّله بَعد ما سمعه » قال، الوصية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه » ، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه, وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته, كما قال الله: غَيْرَ مُضَارٍّ [ سورة النساء: 12 ]

حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه » ، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه » ، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف, فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه » ، قال: يُمضَى كما قال.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن: « فمن بدّله بعد ما سمعه » ، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم, عن الحسن في هذه الآية: « فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه » ، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها, فإنما إثمه على من بَدَّله.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى, وزاد ابن بشار في حديثه قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته, وما يعجبني أن أنـزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به, قال الله عز وجل: « فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 181 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « إن الله سميع » لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها, أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف, أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ « عليمٌ » بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل, أم الجور والحيْف.

 

القول في المعنى الذي من أجله أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال بعضهم: أنـزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فتلا ذلك عَلى أصحابه, وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك, ونحن نـزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنـزل الله عند ذلك: « إن في خَلق السموات والأرض » ، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نـزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، إلى قوله: لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ, وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آية ] ، فأنـزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله, وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنـزل الله تعالى ذكره: « إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال، حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ‍, فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنـزل الله: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنـزلت هذه الآية: « إنّ في خلق السموات والأرض » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر, عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات, فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنـزداد يقينًا, ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, فأوحى إليه: إنّي مُعطيهم, فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا, ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنـزل الله عليه: « إنّ في خَلق السموات والأرض » ، الآية: إن في ذَلك لآية لهم, إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا, فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نـزلت فيما قاله عطاء, وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى, ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ في خَلق السموات والأرض » ، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.

ومعنى « خلق » الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.

وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل: « الأرض » ، ولم تجمع كما جُمعت السموات, فأغنى ذلك عن إعادته

فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال: « إنّ في خلق السموات والأرض » ؟

قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية, وبالتي في سورة: الكهف: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [ سورة الكهف: 51 ] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله, والإرادة خلق لها.

وقال آخرون: خلق الشيء صفة له, لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا - بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.

وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق, هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.

فمعنى قوله: « إن في خلق السموات والأرض » : إنّ في السموات والأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « واختلاف الليل والنهار » ، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.

وإنما « الاختلاف » في هذا الموضع « الافتعال » من « خُلوف » كل واحد منهما الآخر، كما قال تعالى ذكره: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ سورة الفرقان: 62 ] .

بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده, وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل: « خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء » , ومنه قول زهير:

بِهَــا العِيـنُ وَالآرَامُ يَمْشِـينَ خِلْفَـةً وَأَطْلاؤُهَــا يَنْهَضْــنَ مِــنْ كُــلِّ مَجْـثَم

وأما « الليل » . فإنه جَمْع « ليلة » , نظيرُ « التمر » الذي هو جمع « تمرة » . وقد يجمع « ليالٍ » ، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم « الياء » في ذلك نظير زيادتهم إياها في « ربَاعية وثَمانية وكرَاهية » .

وأما « النهار » ، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنـزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه « النُّهُر » ، قال الشاعر:

لَــوْلا الــثّرِيدانِ هَلَكْنَـا بِـالضُّمُرْ ثَرِيــدُ لَيْـــلٍ وثَرِيــدٌ بِـــالنُّهُرْ

ولو قيل في جمع قليله « أنهِرَة » كان قياسًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.

و « الفلك » هو السُّفن, واحدُه وجمعه بلفظ واحد, ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [ سورة يس: 41 ] ، فذكَّره.

وقد قال في هذه الآية: « والفلك التي تجري في البحر » ، وهي مُجْراة، لأنها إذا أجريت فهي « الجارية » , فأضيف إليها من الصفة ما هو لها.

وأما قوله: « بما ينفع الناس » ، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وما أنـزل اللهُ من السماء من مَاء » ، وفيما أنـزلهُ الله من السماء من ماء, وهو المطر الذي يُنـزله الله من السماء.

وقوله: « فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها » ، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و « الهاء » التي في « به » عائدة على « الماء » و « الهاء والألف » في قوله: « بعد موتها » على الأرض.

و « موت الأرض » ، خرابها، ودُثور عمارتها, وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ

قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله: « وبث فيها منْ كلّ دَابة » ، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.

ومعنى قوله: « وبَث فيها » ، وفرَّقَ فيها, من قول القائل: « بث الأميرُ سراياه » ، يعنى: فرَّق.

و « الهاء والألف » في قوله: « فيها » ، عائدتان على الأَرْضَ .

« والدابة » « الفاعلة » ، من قول القائل: « دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة » . « والدابة » ، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتصريف الرياح » ، وفي تصريفه الرياح, فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول, كما تقول: « يعجبني إكرام أخيك » , تريد: إكرامُك أخَاك.

« وتصريف » الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ, ومرة يجعلها عَقيما, ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وتصريف الرياح والسحاب المسخر » قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك, إذا شَاء [ جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء ] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح, إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه.

وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: « وتصريف الرياح » ، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها, لأن « تصريفها » تصريفُ الله لها, « وتصرفها » اختلافُ هُبوبها.

وقد يجوز أن يكون معنى قوله: « وتصريف الرياح » ، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والسحاب المسخر » ، وفي السحاب، جمع « سحابة » . يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [ سورة الرعد: 12 ] فوحّد المسخر وذكره, كما قالوا: « هذه تَمرة وهذا تمر كثير » . في جمعه, « وهذه نخلة وهذا نخل » .

وإنما قيل للسحاب « سحاب » إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه, من قول القائل: « مرّ فلان يَجر ذَيله » ، يعني: « يسحبه » .

فأما معنى قوله: « لآيات » ، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ.

« لقوم يعقلون » ، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق, إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي, والمكلفين بالطاعة والعبادة, ولهم الثواب، وعليهم العقاب.

فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟

قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه, وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [ شيء ] , وبارئًا لا مِثْل له. وذلك وإن كان كذلك, فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم, غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. فحاجَّهم تعالى ذكره فقال - إذ أنكروا قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة- : [ إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر ] وذلك هو معنى قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - وأنـزل إليكم الغيثَ من السماء, فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه, وأمرعه بعد دُثوره, فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم - ، وذلك هو معنى قوله: وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل, ومنها جمالٌ ومراكبُ, ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودْقِه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله: « وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض » .

فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم, وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي, وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء, ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري, وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.

والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة, المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له

وقد بينا فيما مضى أن « الندّ » ، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته.

وأن الذين اتخذوا هذه « الأنداد » من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.

واختلف أهل التأويل في « الأنداد » التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟

فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله » ، من الكفار لأوثانهم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى ذكره: « يحبونهم كحب الله » ، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد، « والذين آمنوا أشد حبًا لله » ، من الكفار لأوثانهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله، « والذين آمنوا أشد حبًا لله » , أي من الكفار لأوثانهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتَهم.

وقال آخرون: بل « الأنداد » في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « كحب الله » ؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال: « يُحبونهم كحب الله » ؟

قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما ذلك نظير قول القائل: « بعت غُلامي كبيع غلامِك » , بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك غُلامَك, « واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك » , بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في « الغلام » و « الحق » , كما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيَّـا عَـــلَى زَيْــدٍ بِتَسْــلِيم الأمِــيرِ

يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.

فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( 165 )

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم: « ولوْ ترى الذين ظَلموا » بالتاء « إذ يَرون العذابَ » بالياء « أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب » بفتح « أنّ » و « أنّ » كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه « أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب » .

ثم في نصَبْ « أنّ » و « أنّ » في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه, فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا - ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا, وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ - إذا فتحت « أن » على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح « أن » ، على قراءة من قرأ: « ولو ترى » ب « التاء » .

والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ يَرى الذين ظلموا عذابَ الله, لأن القوة لله جميعًا, وأن الله شديد العذاب, لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف « اللام » ، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.

وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء: « ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب » . بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال: « إن القوة لله جميعًا » في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة, « وإن الله شديد العذاب » لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.

وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر « إن » في « ترى » بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ « القول » وتَكتفي منه بالمقول.

وقرأ ذلك آخرون: « ولو يَرَى الذين ظلموا » بالياء « إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب » بفتح « الألف » من « أنّ » « وأنّ » , بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, إذ يرون العذاب. فتكون « أن » الأولى منصوبة لتعلقها بجواب « لو » المحذوف، ويكون الجواب متروكًا, وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ: « ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب » بالياء في « يرى » وفتح « الألفين » في « أن » « وأن » - : ولو يعلمون، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم, فإذا قال: « ولو ترى » , فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو كسر « إنّ » على الابتداء، إذا قال: « ولو يرى » جاز, لأن « لو يرى » ، لو يعلم.

وقد تكون « لو » في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. تقول للرجل: « أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم » كما قال الشاعر:

إنْ يكُــنْ طِبَّـكِ الـدّلالُ, فلَـوْ فِـي سَـالِفِ الدَّهْــرِ والسِّـنِينَ الخَــوَالِي!

هذا ليس له جواب إلا في المعنى, وقال الشاعر

وَبِحَـــــظٍّ مِمَّــــا نَعِيشُ, وَلا تَــذْهَبْ بِـكَ التُّرَّهَـاتُ فِــي الأهْـوَالِ

فأضمر: فعيشي.

قال: وقرأ بعضهم: « ولو تَرى » ، وفتح « أن » على « ترى » . وليس بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم, ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ سورة السجدة: 3 ] ، ليخبر الناس عن جهلهم, وكما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة البقرة: 107 ] .

قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون « أنّ » عاملا فيها قوله: « ولو يرى » . وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا, فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في « أن » جواب « لو » الذي هو بمعنى « العلم » , لتقدم « العلم » الأول.

وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب: « أن القوة لله وأن الله شديد العذاب » ممن قرأ: « ولو يَرَى » بالياء، فإنما نصبها بإعمال « الرؤية » فيها, وجعل « الرؤية » واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ: « ولو ترى » بالتاء, فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا, ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.

وقال آخرون منهم: فتح « أنّ » في قراءة من قرأ: « ولو يَرَى الذين ظلموا » بالياء، بإعمال « يرى » , وجوابُ الكلام حينئذ متروك, كما ترك جواب: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ [ سورة الرعد: 31 ] ، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. وقالوا: جائز كسر « إن » ، في قراءة من قرأ ب « الياء » , وإيقاع « الرؤية » على « إذ » في المعنى, وأجازوا نصب « أن » على قراءة من قرأ ذلك ب « التاء » ، لمعنى نية فعل آخر, وأن يكون تأويل الكلام: « ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب » ، [ يرَون ] أنّ القوة لله جميعا، وزعموا أن كسر « إنّ » الوجهُ، إذا قرئت: « ولو تَرَى » ب « التاء » على الاستئناف, لأن قوله: « ولو ترى » قد وَقع على « الذين ظلموا » .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك: « ولو تَرَى الذين ظلموا » - بالتاء من « ترى » - « إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب » بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله: « لرأيت » الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله: « ولو ترى الذين ظلموا » ، عن ذكره, وإن كان جوابًا ل « لو » .

ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة البقرة: 107 ] وقد بيناه في موضعه.

وإنما اخترنا ذلك على قراءة « الياء » ، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال: « لو رأيت » ، لمن لم يرَ, فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له: « لو رأيت » .

ومعنى قوله: « إذ يَرون العذاب » ، إذ يُعاينون العذاب، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب » ، يقول: لو عاينوا العذاب.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: « ولو تَرَى الذين ظلموا » ، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي, حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم, لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة, وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا, ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم, وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.

القول في تأويل قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب » ، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله: « إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » ، فقال بعضهم بما:-

حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إذ تبرأ الذين اتُّبعوا » ، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك, « من الذين اتَّبعوا » ، وهم الأتباع الضعفاء, « ورأوا العذاب » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا » قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء: « إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.

وقال آخرون بما:-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا » ، أما « الذين اتُّبعوا » ، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض, بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.

وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله: « إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا » ، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.

وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، أن « الأنداد » في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر, ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم, كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره وفسد تأويل قول من قال: « إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » ، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ( 166 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا, وإذ تَقطعت بهم الأسباب.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الأسباب » . فقال بعضهم بما:-

حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير,- عن عبيد المكتب, عن مجاهد: « وتَقطعت بهمُ الأسباب » قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا.

حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد: « وتقطَّعت بهم الأسباب » قال، تواصلهم في الدنيا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد بمثله.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، المودّة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد, عن عطاء, عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: « وتقطّعت بهم الأسباب » قال، المودة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وتقطعت بهم الأسباب » ، أسبابُ الندامة يوم القيامة, وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها, فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [ سورة الزخرف: 67 ] ، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وتقطعت بهم الأسباب » ، يقول: الأسبابُ، الندامة.

وقال بعضهم: بل معنى « الأسباب » ، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وتقطعت بهم الأسباب » ، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، الأسباب المنازل.

وقال آخرون: « الأسباب » ، الأرحام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, وقال ابن عباس: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، الأرحام.

وقال آخرون : « الأسباب » ، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « وتقطعت بهم الأسباب » ، فالأعمال.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، أسباب أعمالهم, فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون, والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.

قال أبو جعفر: « والأسباب » ، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و « السبب » الحبل. « والأسباب » جمع « سَبب » , وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل « سبب » ، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق « سبب » ، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة « سبب » ، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة « سَبب » ، للوصول بها إلى الحاجة, وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو « سبب » لإدراكها.

فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم - من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ عند معاينتهم عذابَ الله المتبوعُ من التابع, وتتقطع بهم الأسباب.

وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا, وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [ سورة إبراهيم: 22 ] ، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين, وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا, فقال تعالى ذكره: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [ سورة الصافات:24- 25 ] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه, وإن كان نسيبه لله وليًّا, فقال تعالى ذكره في ذلك: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [ سورة التوبة: 114 ] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.

وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب, فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم،

ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم, ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.

فلا مَعْنِىَّ أبلغُ - في تأويل قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » - من صفة الله [ ذلك ] وذلك ما بيَّنا من [ تقطّع ] جَميع أسبابهم دون بَعضها، على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه, وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « وقَال الذين اتَّبعوا » ، وقال أتباع الرجال - الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله, ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم, إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة- : « لو أن لنا كرة » .

يعني « بالكرة » ، الرجعةَ إلى الدنيا, من قول القائل: « كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا » , و « الكرَّة » المرة الواحدة, وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:

وَلَقَـدْ عَطَفْـنَ عَـلَى فَـزَارَةَ عَطْفَـةً كَـرَّ الْمَنِيـحِ, وَجُـلْنَ ثَــمَّ مَجَــالا

وكما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا » ، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة » قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.

وقوله: « فنتبرأ منهم » منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب « الفاء » . لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم, و يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة الأنعام: 27 ]

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « كذلك يُريهمُ الله أعمالهم » ، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله: وَرَأَوُا الْعَذَابَ ، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا, فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله « حسرات عليهم » يعني: نَدامات.

« والحسرات » جَمع « حَسْرة » . وكذلك كل اسم كان واحده على « فَعْلة » مفتوح الأول ساكن الثاني, فإن جمعه على « فَعَلات » مثل « شَهوة وتَمرة » تجمع « شَهوات وتَمرات » مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل « ضخمة » ، تجمعها « ضخْمات » و « عَبْلة » تجمعها « عَبْلات » , وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر:

عَــلَّ صُـرُوفَ الدَّهْـرِ أوْ دُولاتِهَـا يُدِلْنَنَـــا اللَّمَّــة مِــنْ لَمَّاتِهَــا

فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا

فسكنّ الثاني من « الزفرات » ، وهي اسم. وقيل: إن « الحسرة » أشد الندامة.

فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم, وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه, فيريهم الله قليلَه! بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله, ولا حسرةَ عليهم في ذلك, وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟

قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون, فنذكر في ذلك ما قالوا, ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.

فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم غيرُهمْ بطاعته ربَّه. فصار ما فاتهم من الثواب - الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم » ، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله, فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين, فيرثونهم. فذلك حين يندمون.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله - في قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار, وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة, فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار, فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم!

فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟

قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [ له ] قبل أن يعمله: هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله, كما يقال للرجل يَحضُر غَداؤه قبل أن يَتغدى به: هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.

وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أعمالهم حسرات عليهم » قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [ فجعلها ] حسرات عليهم. قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم, وقرأ قول الله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [ سورة الحاقة: 24 ]

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله: « كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم » ، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.

فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية, فإنه مَنـزع بعيد. ولا أثر - بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنـزيل إلى باطن تأويل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله, فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة, وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها, ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا, ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ, ولكنهم فيها مخلدون.

وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ, وأنه إلى نهاية, ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 168 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنـزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها, إنه يعني بقوله: « إنه » إنّ الشيطان, و « الهاء » في قوله: « إنه » عائدة على الشيطان لكم أيها الناس « عدو مُبين » ، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة, وأكل من الشجرة.

يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة, ودعوا ما يأمركم به, والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم, دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.

ومعنى قوله: « حَلالا » ، طِلْقًا. وهو مصدر من قول القائل: « قد حَلَّ لك هذا الشيء » , أي صار لك مُطلقًا، « فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا » ، ومن كلام العرب: « هو لك حِلٌّ » , أي: طِلْق. .

وأما قوله: « طيبًا » فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.

وأما « الخطوات » فإنه جمع « خُطوة » , و « الخطوة » بعد ما بين قدمي الماشي. و « الخطوة » بفتح « الخاء » « الفعلة » الواحدة من قول القائل: « خَطوت خَطوة واحدةً » . وقد تجمع « الخُطوة » « خُطًا » و « الخَطْوة » تجمع « خَطوات » ، « وخِطاء » .

والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته, النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.

واختلف أهل التأويل في معنى « الخطوات » . فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « خطوات الشيطان » ، يقول: عمله.

وقال بعضهم: « خطوات الشيطان » ، خَطاياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « خُطُوات الشيطان » قال، خطيئته.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان » قال، خطاياه.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: « خطوات الشيطان » قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.

وقال آخرون: « خطوات الشيطان » ، طاعته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » ، يقول: طاعته.

وقال آخرون: « خطوات الشيطان » ، النذورُ في المعاصي.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن سليمان, عن أبي مجلز في قوله: « ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان » قال، هي النذور في المعاصي.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله: « خطوات الشيطان » ، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها « بعد ما بين قَدميه » ، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 169 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنما يأمرُكم » ، الشيطانَ، « بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون » .

« والسوء » : الإثم، مثل « الضُّرّ » ، من قول القائل: « ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا » ، وهو ما يَسوء الفاعل.

وأما « الفحشاء » ، فهي مصدر مثل « السراء والضراء » ، وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.

وقيل: إن « السوء » الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك, فإنما سَمَّاها الله « سوءًا » لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن « الفحشاء » ، الزنا: فإن كان ذلك كذلك, فإنما يُسمى [ كذلك ] ، لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء » ، أمّا « السوء » ، فالمعصية, وأما « الفحشاء » ، فالزنا.

وأما قوله: « وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون » ، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي, ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى ذكره لهم: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة المائدة: 103 ] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، أنّ قيلهم: « إنّ الله حرم هذا! » من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان, وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه, ولم يحرم أكله عليهم, ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان, واتباعًا منهم خطواته, واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال, الذين كانوا بالله وبما أنـزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم, كما أنـزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .

=

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 170 )

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.

أحدهما: أن تكون « الهاء والميم » من قوله: « وإذا قيلَ لهم » عائدة على مَنْ في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا, وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنـزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.

والآخر: أن تكون « الهاء والميم » اللتان في قوله: « وإذا قيل لهم » ، من ذكر النَّاسُ الذين في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا ، فيكون ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ]

قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية أن تكون « الهاء والميم » في قوله: « لهم » ، من ذكر النَّاسُ , وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ . فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها وأنها نـزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه, وحذرهم عقاب الله ونقمته, فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنـزل الله في ذلك من قولهما « وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنـزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف.

وأما تأويل قوله: « اتبعوا ما أنـزلَ الله » ، فإنه: اعملوا بما أنـزل الله في كتابه على رسوله, فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه, واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به, وقائدًا تَتبعون أحكامه.

وقوله: « ألفينا عَليه آباءنا » ، يعني وَجدنا, كما قال الشاعر:

فَأَلْفَيْتُــــهُ غَـــيْرَ مُسْـــتَعْتِبٍ وَلا ذَاكِـــرِ اللــهَ إلا قَلِيــــلا

يعني: وجدته، وكما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا » ، أي: ما وجدنا عليه آباءنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.

قال الله تعالى ذكره: « أوَ لو كانَ آباؤهم » - يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم- « لا يعقلون شيئًا » من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه, فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم - « ولا يَهتدون » لرشد، فيهتدي بهم غيرهم, ويَقتدي بهم من طَلب الدين, وأراد الحق والصواب؟

يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه, فأما الجاهل فلا يتبعه - فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة، في قوله: « ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً » قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.

حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع » قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً » ، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها « كُلْ » - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعق بما لا يسمع » قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعِق » ، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل, كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً » ، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً » قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له : يقال: لا تعقل - يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها, فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد: « الذي ينعِق » ، الراعي « بما لا يسمع » من البهائم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعق » الراعي « بما لا يسمع » من البهائم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط, عن السدي: « كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً » ، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما « الذي ينعق » ، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له, إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [ سورة البقرة: 18 ]

قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم - : ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه ونعيقِه بها. فأضيف « المثل » إلى الذين كفروا, وترك ذكر « الوعظ والواعظ » ، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال: « إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان » , يراد به: كما تعظم السلطانَ, وكما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيًّـا عَــــلَى زَيْـــدٍ بِتَسْـــلِيمِ الأمِـــير

يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.

وقد يحتمل أن يكون المعنى - على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء- : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له: « اعتلف، أو رِدِ الماء » ، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر, مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه - بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق, كما قال نابغة بني ذبيان:

وَقَـدْ خِـفْتُ, حَـتَّى مَـا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَـلَى وَعِــلٍ فِــي ذِي المَطَـارَة عَاقِلِ

والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي, وكما قال الآخر:

كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـولُ, كَمَـا كَــانَ الزِّنَــاءُ فَرِيضَــةَ الرَّجْـــمِ

والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:

إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُه تَحْـلَى بِــهِ العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ

والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه, فتقول: « اعرِض الحوضَ على الناقة » , وإنما تعرض الناقة على الحوض, وما أشبه ذلك من كلامها.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل, كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً, وذلك الصدى الذي يسمع صوته, ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.

فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم - في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً, أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً » قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له « الصَّدى » . فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء, فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها, ولا ينفعه شيء.

قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه, فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.

فأما وَجه جَواز حذف « وعظ » اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ سورة البقرة: 17 ] ، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. .

وإنما اخترنا هذا التأويل, لأن هذه الآية نـزلت في اليهود, وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها, ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.

فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟

قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها, فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نـزلت, والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نـزلت فيهم. وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود، كان عطاء يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنـزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا إلى قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [ سورة البقرة: 174- 175 ] .

وأما قوله: « يَنعِق » ، فإنه: يُصوِّت بالغنم، « النَّعيق، والنُّعاق » , ومنه قول الأخطل:

فَـانْعِقْ بِضَـأْنِكَ يَـا جَـرِيرُ, فَإِنَّمَـا مَنَّتْـكَ نَفْسَـكَ فِـي الخَــلاءِ ضَــلالا

يعني: صوِّت به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 171 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ » ، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً « صُمٌ » عن الحق فهم لا يسمعون - « بُكمٌ » يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس, فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس - , « عُميٌّ » عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، . كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: « صُمٌ بكم عمي » ، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « صم بكم عمي » يقول: عن الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.

وأما الرفع في قوله: « صم بكم عمي » ، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف, يدل على ذلك قوله: « فهم لا يعقلون » ، كما يقال في الكلام: « هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 172 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله, وأقروا لله بالعبودية, وأذعنوا له بالطاعة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يقول: صدَّقوا.

« كلوا من طيبات ما رَزَقناكم » ، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم, فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم والمشارب. « واشكروا لله » ، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم. « إن كنتم إياه تعبدون » ، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين, فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم, ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.

وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم, وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه, إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم, وفصَّله لهم مُفسَّرًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك, بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنـزير، ومَا أهلّ به لغيري.

ومعنى قوله: « إنما حَرَّم عليكم الميتة » ، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.

« وإنما » : حرف واحدٌ, ولذلك نصبت « الميتة والدم » , وغير جائز في « الميتة » إذا جعلت « إنما » حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت « إنما » حرفين، وكانت منفصلة من « إنّ » ، لكانت « الميتة » مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنـزير، لا غير ذلك.

وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.

ولو قرئ في « حرّم » بضم الحاء من « حرّم » ، لكان في « الميتة » وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى, « وإنما » حرفٌ واحد.

والآخر: « إن » و « ما » في معنى حرفين, و « حرِّم » من صلة « ما » , « والميتة » خبر « الذي » مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت.

وأما « الميتة » ، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد, ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في: « هو هيّن ليّن » « الهيْن الليْن » ، كما قال الشاعر:

لَيْسَ مَــنْ مَـاتَ فَاسْـتَرَاحَ بِمَيْـتٍ إِنَّمَــا المَيْــتُ مَيِّــتُ الأحْيَـــاءِ

فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد.

وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل, وقالوا: إنما هو « مَيْوِت » , « فيعل » ، من الموت. ولكن « الياء » الساكنة و « الواو » المتحركة لما اجتمعتا، « والياء » مع سكونها متقدمة، قلبت « الواو » « ياء » وشددت، فصارتا « ياء » مشددة, كما فعلوا ذلك في « سيد وجيد » . قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في « ياء » « الميتة » لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب, فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.

وأما قوله: « وَمَا أهِلَّ به لغير الله » ، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.

وإنما قيل: « وما أهِلَّ به » ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم, فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر- : « مُهِلٌّ » . فرفعهم أصواتهم بذلك هو « الإهلال » الذي ذكره الله تعالى فقال: « وما أهِلَّ به لغير الله » . ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة « مُهِلّ » , لرفعه صوته بالتلبية. ومنه « استهلال » الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه, « واستهلال » المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض, كما قال عمرو بن قميئة:

ظَلَـمَ البِطَـاحَ لَـهُ انْهِـلالُ حَرِيصَـةٍ فَصَفَـا النِّطَـافُ لَـــهُ بُعَيْــدَ المُقْلَــعِ

واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله: « وما أهِلَّ به لغير الله » ، ما ذبح لغير الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، ما ذبح لغير الله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما أهلّ به لغير الله » قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما أهلّ به لغير الله » ، ما ذبح لغير الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال ابن عباس في قوله: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، ما أهِلّ به للطواغيت.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك قال: « وما أُهلّ به لغير الله » قال، ما أهل به للطواغيت.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما أهِلّ به لغير الله » ، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء في قول الله: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، هو ما ذبح لغير الله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « وما أهلّ به لغير الله » ، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قوله الله: « وما أهلّ به لغير الله » - قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: « باسم فلان » , كما تقول أنت: « باسم الله » قال، فذلك قوله: « وما أهلّ به لغير الله » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس, وما أهدي لها من خبز أو لحم, فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله: « وما أهِلّ به لغير الله » ؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فمن اضطر » ، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله - وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله.

وقوله: فمن « اضطر » « افتعل » من « الضّرورة » .

و « غيرَ بَاغ » نُصِب على الحال مِنْ « مَنْ » , فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله, فهو له حلال.

وقد قيل : إن معنى قوله: « فمن اضطر » ، فمن أكره على أكله فأكله, فلا إثم عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل, عن سالم الأفطس, عن مجاهد قوله: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.

وأما قوله: « غيرَ بَاغ ولا عَاد » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.

فقال بعضهم: يعني بقوله: « غير باغ » ، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور, ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد: « فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد » قال، غيرَ قاطع سبيل, ولا مفارق جماعة, ولا خارج في معصية الله, فله الرخصة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » ، يقول: لا قاطعًا للسبيل, ولا مفارقًا للأئمة, ولا خارجًا في معصية الله, فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله, فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: « غير باغ ولا عاد » قال، هو الذي يقطع الطريق, فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك, عن شريك، عن سالم - يعني الأفطس- عن سعيد في قوله: « فمن اضطُر غير باغ ولا عاد » قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد في قوله: « فمن اضطُر غير باغ ولا عاد » قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب, وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث, عن الحجاج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: « غيرَ باغ » على الأئمة، « ولا عاد » قال، قاطع السبيل.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » قال، غير قاطع السبيل, ولا مفارق الأئمة, ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الحكم, عن مجاهد : « فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد » قال، غير باغ على الأئمة, ولا عاد على ابن السبيل.

وقال آخرون في تأويل قوله: « غيرَ باغ ولا عاد » : غيرَ باغ الحرامَ في أكله, ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد » قال، غير باغ في أكله, ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عمن سمع الحسن يقول ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة قوله: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » ، « غير باغ » يَبتغيه, « ولا عادٍ » : يتعدى على ما يُمسك نفسه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » ، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه, ألا ترى أنه يقول: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ سورة المؤمنون: 7\ سورة المعارج: 31 ]

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ » قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام, ويترك الحلال وهو عنده, ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين, ويقول: هذا وهذا واحد!

وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » . أمَّا « باغ » ، فيبغي فيه شهوته. وأما « العادي » ، فيتعدى في أكله, يأكل حتى يشبع, ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله, وله عن ترك أكله - بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى.

وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما : من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض, فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما - ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا ] . فإذ كان ذلك كذلك, فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة, الأوبةُ إلى طاعة الله, والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه, والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة, فيزدادان إلى إثمهما إثمًا, وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا.

وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة, فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك - مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله, وإن كان للفظه مخالفًا.

فأما توجيه تأويل قوله: « ولا عاد » ، و لا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه.

فإذ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.

وأما تأويل قوله: « فلا إثم عليه » ، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « إنّ الله غَفور رحيم » ، « إنّ الله غَفورٌ » إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية, فصافحٌ عنكم, وتارك عقوبتكم عليه, « رحيم » بكم إن أطعتموه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ الذينَ يَكتمون ما أنـزل الله من الكتاب » ، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته, وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنّ الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب » الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنـزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( إنّ الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب ويَشترون به ثمنًا قليلا ) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنـزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الذين يكتمون مَا أنـزل الله منَ الكتاب » ، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « إنّ الذين يكتمونَ ما أنـزل الله من الكتاب » ، والتي في « آل عمران إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ سورة آل عمران: 77 ] نـزلتا جميعًا في يهود. »

وأما تأويل قوله: « ويَشترون به ثمنًا قليلا » ، فإنه يعني: يبتاعون به. « والهاء » التي في « به » ، من ذكر « الكتمان » . فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويشترون به ثمنًا قليلا » قال، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.

وقد بينت فيما مضى صفة « اشترائهم » ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 174 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها, فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها « ما يأكلون في بطونهم » - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، وما أخذوا عليه من الأجر « إلا النار » - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها, كما قال تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ سورة النساء: 10 ] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر « النار » وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر « ما يوردهم، أو يدخلهم » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار » ، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.

فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال: « ما يأكلون في بطونهم » ؟

قيل: قد تقول العرب: « جُعت في غير بطني, وشَبعتُ في غير بطني » , فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال: « فعل فُلان هذا نفسُه » . وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى.

وأما قوله: « ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة » ، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون, فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ الآيتين [ سورة المؤمنون: 107- 108 ] .

وأما قوله: « ولا يُزكِّيهم » ، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، « ولهم عذاب أليم » ، يعني: مُوجع

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى » ، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى, وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر « العذاب » و « المغفرة » ، من ذكر السبب الذي يُوجبهما, لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. وكذلك بينا وجه « اشتروا الضلالة بالهدى » باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( 175 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فما أصْبَرهم على النار » ، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فما أصْبَرهم على النار » ، يقول: فما أجرأهم عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن بشر، عن الحسن في قوله: « فما أصْبرهم على النار » قال، والله ما لهم عليها من صبر, ولكن ما أجرأهم على النار.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر ، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه: « فما أصبرهم على النار » ، ما أجرأهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فما أصبرهم على النار » ، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « فما أصْبرهم على النار » قال، ما أعملهم بالباطل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

واختلفوا في تأويل « ما » التي في قوله: « فما أصبرهم على النار » . فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فما أصبرَهم على النار » ، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟

حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء: « فما أصبرهم على النار » قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟

حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش: « فما أصبرهم على النار » قال، هذا استفهام, ولو كانت من الصبر قال: « فما أصبرُهم » ، رفعًا. قال: يقال للرجل: « ما أصبرك » , ما الذي فعل بك هذا؟

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فما أصبرهم على النار » قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟

وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد : « فما أصبرهم على النار » قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!

وهو قول الحسن وقتادة, وقد ذكرناه قبل.

فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ، فما أشد جراءتهم - بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [ سورة عبس: 17 ] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.

فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار - والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار, بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب: « ما أصبرَ فلانًا على الله » , بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنـزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته, واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.

وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم على عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر « النار » من ذكر « عذابها » ، كما يقال: « ما أشبه سخاءك بحاتم » , بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم, « وما أشبه شَجاعتك بعنترة » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَـزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 176 )

قال أبو جعفر: أما قوله: « ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق » ، فإنه اختلف في المعنيِّ ب « ذلك » .

فقال بعضهم: معنيُّ « ذلك » ، فعلُهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما أنـزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه من أجل أن الله تبارك تعالى « نـزل الكتاب بالحق » ، وتنـزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ سورة البقرة: 6- 7 ] فهم - مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

وقال آخرون: معناه: « ذلك » معلومٌ لهم، بأن الله نـزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم، والكتابُ حَق.

كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنـزيله أن النار للكافرين, وتنـزيله حق, فالخبر عن « ذلك » عندهم مُضمر.

*

وقال آخرون: معنى « ذلك » ، أن الله وصف أهل النار، فقال: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و « هذا » هاهنا عندهم، هي التي يجوز مكانها « ذلك » ، كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون « ذلك » - إذا كان ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله: « ذلك » ، إلى جميع ما حواه قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ، إلى قوله: « ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق » ، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك, فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس - وبخلافهم أمري وطاعتي وذلك - من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم, وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنـزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.

فيكون في « ذلك » حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع ب « الباء » , والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنـزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر « فكفروا به واختلفوا » ، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.

وأما قوله: « وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد » ، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه, وكفروا جميعًا بما أنـزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنـزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب, كما قال الله تعالى ذكره: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [ سورة البقرة: 137 ] كما:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي : « وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد » ، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى « الشقاق » ، فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها, ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل المشرق والمغرب » ، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا, فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة, ونـزلت الفرائض, وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.

حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس قال: هذه الآية نـزلت بالمدينة: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد: « ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب » ، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها, قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة, فأنـزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.

وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب, والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق, فأنـزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنـزلت: « ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر » ، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنـزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنـزل الله: « ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب » . وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق - « ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر » الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق, فنـزلت: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » .

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس : أن يكون عنى بقوله: « ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها, إذْ كان الأمر كذلك, - « ليس البر » ، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب, « ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب » الآية.

فإن قال قائل: فكيف قيل: « ولكن البر من آمن بالله » ، وقد علمت أن « البر » فعل, و « مَنْ » اسم, فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟

قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته, وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، فوضع « مَنْ » موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة, فتقول: « الجود حاتم، والشجاعة عنترة » ، و « إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة » , ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر « حاتم » إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر « الجود » بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع « جوده » ، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [ سورة يوسف: 82 ] والمعنى: أهل القرية, وكما قال الشاعر, وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:

حَسِــبْتَ بُغَــامَ رَاحِـلَتِي عَنَاقًـا! وَمَـا هـي, وَيْـبَ غَـيْرِكَ بالعَنَـاقِ

يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [ عناق ] ، كما يقال: « حسبت صياحي أخاك » , يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.

وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله, فيكون « البر » مصدرًا وُضع موضعَ الاسم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وآتى المالَ على حُبه » ، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، . كما:-

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا, عن زبيد, عن مرة بن شراحيل البكيلي, عن عبد الله بن مسعود: « وآتَى المالَ على حُبه » ، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا, عن سفيان, عن زُبيد الياميّ, عن مرة, عن عبد الله: « وآتى المالَ على حُبه » قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن زبيد اليامي, عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: « وآتى المال على حبه » قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.

حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين, عن شعبة بن الحجاج, عن زبيد اليامي, عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله: « وآتى المال على حبه ذوي القربى » , قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر.

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم, عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: « وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى « وآتى المال على حُبه » إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر, عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو, وطُروق الفحل, والحلَب.

حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, ذكره عن مرة الهمداني في: « وآتى المالَ على حُبه » قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله, عن أبي حمزة, عن عامر, عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « في المال حق سوى الزكاة » ، وتلا هذه الآية: « ليس البر » إلى آخر الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن زبيد اليامي, عن مرة بن شراحيل, عن عبد الله في قوله: « وآتى المالَ على حُبه » قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه, شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.

وإنما قلت عنى بقوله: « ذوي القرْبى » ، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس

وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح.

وأما « اليتامى » « والمساكين » ، فقد بينا معانيهما فيما مضى.

وأما « ابن السبيل » ، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: « وابن السبيل » قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت » . قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال, فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة.

وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر: « وابن السبيل » قال، المجتاز من أرض إلى أرض.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وقتادة في قوله: « وابن السبيل » قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عمن ذكره, عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.

وإنما قيل للمسافر « ابن السبيل » ، لملازمته الطريق - والطريق هو « السبيل » - فقيل لملازمته إياه في سفره: « ابنه » ، كما يقال لطير الماء « ابن الماء » لملازمته إياه, وللرجل الذي أتت عليه الدهور « ابن الأيام والليالي والأزمنة » , ومنه قول ذي الرمة:

وَرَدْتُ اعْتِسَــافًا وَالثُّرَيَّــا كَأَنَّهَــا عَـلَى قِمَّـةِ الـرَّأْسِ ابْـنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ

وأما قوله: « والسائلين » ، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس, عن حصين, عن عكرمة في قوله: « والسائلين » قال، الذي يسألك.

وأما قوله: « وفي الرقاب » ، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة, وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وأقامَ الصلاة » ، أدام العمل بها بحدودها, وبقوله « وآتى الزكاة » ، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه.

فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:

فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية, وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ، ومن سمى الله معهم, ثم قال بعد: « وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة » ، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى, ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له, علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة, وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.

وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة, ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده - بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك: « وآتى الزكاة » ، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ كانت عليهم, إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.

وأما قوله: « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا » ، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة, ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا » قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.

وقد بينت « العهد » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل « الصبر » فيما مضى قبل.

فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم - في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى « البأساء والضراء » بما:-

حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي, عن مرة الهمداني, عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر, وأما الضراء فالسقم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قوله: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البأساء الجوع, والضراء المرضُ.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة, والضراءُ المرضُ.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر, وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ سورة الأنبياء: 83 ] .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البؤس: الفاقة والفقر, والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « البأساء والضراء » قال، البأساء: البؤس, والضراء: الزمانة في الجسد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: « البأساء والضراء » ، المرض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البأساء: البؤس والفقر, والضراء: السقم والوجع.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية: « والصابرين في البأساء والضراء » ، أما البأساء: الفقر, والضراء: المرض.

قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: « البأساء والضراء » ، مصدر جاء على « فعلاء » ليس له « أفعل » لأنه اسم, كما قد جاء « أفعل » في الأسماء ليس له « فعلاء » ، نحو « أحمد » . وقد قالوا في الصفة « أفعل » ، ولم يجئ له « فعلاء » , فقالوا: « أنت من ذلك أوْجل » , ولم يقولوا: « وجلاء » .

وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن « البأساء » ، البؤس, « والضراء » الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:

فَتُنْتَــجْ لَكُـمْ غِلْمَـانَ أَشْـأَمَ, كُـلُّهُمْ كَـأَحْمَرِ عَـادٍ, ثُـمَّ تُـرْضِعْ فَتَفْطِـمِ

يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.

وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء « أفعل » في النكرة, ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله: « لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ » ، بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.

وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير, ولو وَقَع بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب « أفعل » لم يصرف إلى « فُعلى » , ومن سُمي ب « فُعلى » لم يصرف إلى « أفعل » , لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره, ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر « أشأم » , وإذا وقع « البأساء والضراء » ، وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على « الضراء » ، « الأضر » ، ولا على « الأشأم » ، « الشأماء » . لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث, كما قالوا: « امرأة حسناء » , ولم يقولوا: « رجل أحسن » . وقالوا: « رجل أمرد » , ولم يقولوا: « امرأة مرداء » . فإذا قيل: « الخصلة الضراء » و « الأمر الأشأم » ، دل على المصدر, ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا, وإن كان قد كَفَى من المصدر.

وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل « البأساء والضراء » ، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا « البأساء » بمعنى: البؤس, « والضراء » بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا « البأساءَ والضراء » إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب « البأساء والضراء » ، على قول أهل التأويل، أن تكون « البأساء والضراء » أسماء أفعال, فتكون « البأساء » اسمًا « للبؤس » , و « الضراء » اسمًا « للضر » .

وأما « الصابرين » فنصبٌ, وهو من نعت « مَن » على وجه المدح. لأن من شأن العرب - إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، كما قال الشاعر:

إلَــى المَلِـكِ القَـرْمِ وَابْـنِ الهُمَـامِ وَلَيْــثَ الكَتِيبَــةِ فِــي المُزْدَحَـمْ

وَذَا الــرَّأْيِ حِــينَ تُغَــمُّ الأمُـورُ بِـــذَاتِ الصَّلِيــلِ وذَاتِ اللُّجُــمْ

فنصب « ليث الكتيبة » وذا « الرأي » على المدح, والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر:

فَلَيْـتَ الَّتِـي فِيهَـا النُّجُـومُ تَوَاضَعَت عَــلَى كُــلِّ غَـثٍّ مِنْهُـمُ وسَـمِينِ

غيُـوثَ الـوَرَى فِـي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ أُسُـودَ الشَّـرَى يَحْـمِينَ كُـلَّ عَـرِينِ

وقد زعم بعضهم أن قوله: « والصابرين في البأساء » ، نُصب عطفًا على « السائلين » . كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول, وذلك أنّ « الصابرين في البأساء والضراء » ، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء - مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله: وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل « البأساء والضراء » , لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء, وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة « المساكين » الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله: « والصابرين في البأساء » . وإذا كان كذلك، ثم نصب « الصابرين في البأساء » بقوله وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر, والموفون بعهدهم إذا عاهدوا, والصابرين في البأساء والضراء. « وَالْمُوفُونَ » رفعٌ لأنه من صفة « مَنْ » , و « مَنْ » رفعٌ، فهو معرب بإعرابه. « والصابرين » نصب - وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ الْبَأْسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وحين البأس » ، والصابرين في وقت البأس, وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قول الله: « وحين البأس » قال، حين القتال.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وحين البأس » القتال.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « وحين البأس » ، أي عندَ مواطن القتال.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وحين البأس » ، القتال.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، « وحين البأس » ، عند لقاء العدو.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك: « وحين البأس » ، القتال

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: « وحين البأس » قال، القتال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك الذين صدقوا » ، من آمن بالله واليوم الآخر, ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.

وأما قوله: « وأولئك هُم المتقون » ، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه, فقاموا بأداء فرائضه.

وبمثل الذي قلنا في قوله: « أولئك الذين صَدقوا » ، كان الربيع بن أنس يقول:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أولئك الذين صدقوا » قال، فتكلموا بكلام الإيمان, فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل, فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، فُرض عليكم.

فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟

قيل: لا ولكنه مباح له ذلك, والعفو, وأخذُ الدية.

فإن قال قائل: وكيف قال: « كتب عليكم القصاص » ؟

قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ, فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل, والقصاصُ منه دون غيره من الناس, فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.

والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ .

وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نـزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا, فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين, ودياتُ رجالهم بديات رجالهم, وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى « القصاص » في هذه الآية.

فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال: « كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » ، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر, ولا للأنثى إلا من الأنثى؟

قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ سورة الإسراء: 33 ] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« المسلمون تتكافأ دماؤهم. »

فإن قال: فإذ كان ذلك, فما وجه تأويل هذه الآية؟

قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة, حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنـزل الله هذه الآية, فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره, وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال, وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار, فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله : « الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، نـزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة, فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان, وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنـزل الله: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان, فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة, فقتل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم, قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنـزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى, فنهاهم عن البغي. ثم أنـزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ سورة المائدة: 45 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنـزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم, فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنـزل الله: « الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود, عن عامر في هذه الآية: « كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، إنما ذلك في قتال عُمية، إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ, وفي المرأتين كذلك, وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره: « الحر بالحر » ، الرجل بالمرأة, والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء, فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر, وديات الرجال بالرجال, وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر, فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر, والعبد دية العبد, والأنثى دية الأنثى, فقاصَّهم بعضَهم من بعض.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان, عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ, كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم, فنـزلت هذه الآية: « الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر، والعبد بالعبد, والأنثى بالأنثى .

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية: « كتب عليكم القصاص في القتلى » قال، نـزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، نـزلت في قتال عُمية ، قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل, والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به, فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه, وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ, وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ, فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ, وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ, فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ, فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية, وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن قتادة, عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته, قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سعيد, عن عوف, عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك, عن الشعبي, قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا, فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه, ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في حال مَا نـزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ سورة المائدة: 45 ] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « والأنثى بالأنثى » ، وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة, فأنـزل الله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس, رجالهم ونساؤُهم.

قال أبو جعفر: فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نـزلت فيه هذه الآية, فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك, وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة - على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه - مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.

وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ, وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني, فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون الآية نـزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض, كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.

وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة, وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك, وكان قوله تعالى ذكره: « كُتب عليكم القصَاص » ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا, فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.

فإن قال قائل: إذْ ذكرتَ أن معنى قوله: « كتب عليكم القصاص » - بمعنى: فُرض عليكم القصاص : لا يعرف لقول القائل: « كتب » معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا, فما برهانك على أن معنى قوله: « كتب » فُرِض؟

قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ, وفي أشعارهم مستفيض, ومنه قول الشاعر:

كُــتِبَ القَتْــلُ وَالقِتَــالُ عَلَيْنَــا وَعَــلَى المُحْصَنَـاتِ جَـرُّ الذُّيُـولِ

وقولُ نَابغةَ بني جعدة:

يَـا بِنْـتَ عَمِّـي, كِتَـابُ اللهِ أَخْرَجَنِي عَنْكُـم, فَهَـلْ أَمْنَعَـنَّ اللـهَ مَـا فَعَلا!

وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض, فإنه عندي مأخوذ من « الكتاب » الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ, فقال تعالى ذكره في القرآن: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ سورة البروج: 21- 22 ] وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [ سورة الواقعة: 77- 78 ] . فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.

فمعنى قوله: - إذ كان ذلك كذلك- « كُتب عليكم القصاص » ، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.

وأما « القصاص » فإنه من قول القائل: « قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي, قصاصًا ومُقاصَّة » . فقتل القاتل بالذي قتله « قصاص » , لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله, وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه, فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا, إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله, فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه.

وأما « القتلى » فإنها جمع « قتيل » كما « الصرعى » جمع « صريع » , والجرحى جمع « جريح » . وإنما يجمع « الفعيل » على « الفعلى » , إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، نحو القتلى في معاركهم, والصرعى في مواضعهم, والجرحى، وما أشبه ذلك.

فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد, والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر « أن يقتص » اكتفاءً بدلالة قوله: « كُتب عليكم القصاص » عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص - وهو الشيء الذي قال الله: « فمن عُفي له من أخيه شيء » - فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن مجاهد, عن ابن عباس : « فمن عفي له من أخيه شيء » ، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس أنه قال في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب وأداء إليه بإحسان من المطلوب.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك, عن محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار, عن مجاهد, عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف, ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان » ، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء » قال، الدية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن يزيد, عن إبراهيم, عن الحسن: « وأداء إليه بإحسان » قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف, وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف » ، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم, ويأخذ الدية.

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن داود, عن الشعبي مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه, وقبلت منه الدية. يقول: « فاتباع بالمعروف » ، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف, وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص, لا عَقل فيه، إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف, ويؤدي المطلوب بإحسان.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية, يقول: « فاتباع بالمعروف » ، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف, وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ.

حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص, فذلك قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك, وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف, وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.

حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وأداء إليه بإحسان » قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، وهو الدية، أن يحسن الطالب وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء.

وقال آخرون معنى قوله: « فمن عُفي » ، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا : معنى قوله: « من أخيه شيء » : من دية أخيه شيء, أو من أرْش جراحته، فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.

وهذا قول من زعم أن الآية نـزلت - أعني قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل « العفو » - في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: حَتَّى عَفَوْا [ سورة الأعراف: 95 ] . فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمنَ عُفي له من أخيه شيء » ، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته, فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.

والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى, والعبد من الحر, والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله: « فمنْ عُفي له من أخيه شيء » ، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول, فاتباع من الوليّ بالمعروف, وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء » : فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه, فاتباعٌ بالمعروف من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك « العفو » أيضًا عن ذلك.

وأما معنى قَوله: « فاتباع بالمعروف » ، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:-

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من زاد أو ازداد بعيرًا » - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية.

وأما إحسان الآخر في الأداء, فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك, أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [ سورة محمد: 4 ] ؟ قيل: لو كان التنـزيل جاء بالنصب, وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر, كما يقال: « ضربًا ضَربًا وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا » ، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان, أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف.

وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب, والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ سورة المائدة: 95 ] ، وقوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ سورة البقرة: 229 ] . وأما قوله: فَضَرْبَ الرِّقَابِ ، فإن الصواب فيه النصب, وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال: « إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا » , على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم - أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة « تخفيف من ربكم » ، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم « ورحمة » ، مني لكم. كما:-

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية, فقال الله في هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد « ذلك تخفيف من ربكم » . يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك, عن محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار، عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية, فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ إلى آخر الآية، « ذلك تخفيفٌ من ربكم » ، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل, فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح, وذلك قول الله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الآية كلها [ سورة المائدة: 45 ] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة, وذلك قوله تعالى: « ذلك تخفيفٌ من ربكم » بينكم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » ، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية, وأحلَّها لهم, ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو, وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم, ولم تكن لأمة قبلهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله سواء, غير أنه قال: ليس بينهما شيء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى قال، لم يكن لمن قبلنا دية, إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنـزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار, عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص, وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار: « ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة » .

وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه, فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم.

وقد بينت معنى « الاعتداء » فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فقتل, « فله عذابٌ أليم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اعتدى » ، بعد أخذ الدية، « فله عذاب أليم » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل, فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه, فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية, فذلك « الاعتداء » .

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه, وأُخِذ من أوليائه الدية, ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول: « فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم » ؟

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل « فلا عذابٌ أليم » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم.

واختلفوا في معنى « العذاب الأليم » الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.

فقال بعضهم: ذلك « العذابُ » هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » قال، يقتل, وهو العذاب الأليم يقول: العذاب المُوجع.

حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان, عن عكرمة: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » قال، القتلُ.

وقال بعضهم: ذلك « العذابُ » عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث غير أنه لم ينسبه, وقال: ثقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، و « الاعتداء » الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ, أو يقضي السلطان فيما بين الجراح, ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى, والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [ يعفو ] لأن هذا من الأمر الذي أنـزل الله فيه قوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ سورة النساء: 59 ] .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد, عن يونس, عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية, ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » ، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية, فَقتلَ قاتلَ وليه, فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه, فقال تعالى ذكره وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ سورة الإسراء: 33 ] . فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه, لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة, على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول, فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه, ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب » ، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب » قال، نكالٌ, تَناهٍ.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، نكالٌ, تَناهٍ.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « ولكم في القصاص حياة » ، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها, ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين, والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب » قال، قد جعل الله في القصاص حياة, إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولكم في القصاص حياة » الآية, يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، نكالٌ, تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، حياةٌ، بقية. إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني, لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي, فيذكر أن يُقْتَل في القصاص, فيخشى أن يقتل بي, فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.

حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، بقاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر, وبالعبد الحرّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولكم في القصاص حياة » ، يقول: بقاء, لا يقتل إلا القاتل بجنايته.

وأما تأويل قوله: « يا أولي الألباب » ، فإنه: يا أولي العقول. « والألباب » جمع « اللب » , و « اللب » العقل.

وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول, لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « لعلكم تتقون » ، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لعلكم تتقون » قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « كُتب عليكم » ، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته حقًّا على المتقين يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.

فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟

قيل: نعم.

فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟

قيل : نعم.

فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟

قيل: قول الله تعالى ذكره: « كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين » ، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [ سورة البقرة: 183 ] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.

فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟

قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.

وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.

حدثني سَلم بن جنادة. قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [ مَوَال ] ، ولا كرامة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.

حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.

حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.

واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.

فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.

ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.

وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.

حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نـزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. .

حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: « الوصية للوالدين والأقربين » قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنـزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [ سورة النساء: 11 ] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : « إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف » قال، كان هذا من قبل أن تُنـزل « سورة النساء » , فلما نـزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: « إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، قالا في القرابة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.

وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين » الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم « سورة البقرة » ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: « إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين » قال، نُسخت هذه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.

حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نـزلت آية الميراث.

حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في « سُورة النساء » ، الآيةَ في « سُورة البقرة » في شأن الوصية.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : « إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في « سورة النساء » : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [ سورة النساء: 11 ]

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، أما الوالدان والأقربون، فيوم نـزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها « النساء » ، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.

حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة - يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ سورة الأنفال: 75 ] .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.

وأما « الخير » الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « إن تَرك خيرًا » ، يعني مالا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « إن ترك خيرًا » ، مالا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن أبي نجيح, عن مجاهد: « إن تَرَك خيرًا » ، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ سورة العاديات: 8 ] ، الخير: المال - إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ سورة ص: 32 ] ، المال - فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [ سورة النور: 33 ] ، المال و ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) ، المالُ.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إن ترك خيرًا الوصية » ، أي: مالا.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: « إن تَرك خيرًا الوصية » ، أما « خيرًا » ، فالمالُ.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إن ترك خيرًا » قال، إن ترك مالا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: « إن ترك خيرًا » قال، الخيرُ المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك في قوله: « إن ترك خيرًا الوصية » قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [ سورة هود: 84 ] يعني الغني.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح، تلا « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا » ، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.

ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.

فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة في هذه الآية: « إن تَرَك خيرًا الوصية » قال، الخيرُ ألف فما فوقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة, عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده, فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.

قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض, فذكر لهُ الوصية, فقال: لا تُوص، إنما قال الله: « إن تَرك خيرًا » ، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور بن صفية, عن عبد الله بن عيينة - أو: عتبة, الشك مني- : أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير, وترك أربعمئة دينار, فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم, فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله: « إن ترك خيرًا » ، وليس لك كثير مال.

وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة, عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله: « إن ترك خيرًا » قال، ألف درهم إلى خمسمئة.

وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: « كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية » ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه « خيرٌ » , ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف, كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي - من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.

فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت « الهاء » التي في قوله: « فمن بدّله » ؟

قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.

ومعنى الكلام: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم, فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.

وإنما قلنا إن « الهاء » في قوله: « فمن بدله » عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ من قول الله, وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون « الهاء » في قوله: « فمن بدله » عائده على « الوصية » .

وأما « الهاء » في قوله: « بعد ما سمعه » ، فعائدة على « الهاء » الأولى في قوله: « فمن بَدَّله » .

وأما « الهاء » التي في قوله: « فإنما إثمه » ، فإنها مكنيُّ « التبديل » ، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فمن بدَّله بَعد ما سمعه » قال، الوصية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه » ، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه, وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته, كما قال الله: غَيْرَ مُضَارٍّ [ سورة النساء: 12 ]

حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه » ، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه » ، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف, فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه » ، قال: يُمضَى كما قال.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن: « فمن بدّله بعد ما سمعه » ، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم, عن الحسن في هذه الآية: « فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه » ، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها, فإنما إثمه على من بَدَّله.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى, وزاد ابن بشار في حديثه قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته, وما يعجبني أن أنـزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به, قال الله عز وجل: « فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 181 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « إن الله سميع » لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها, أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف, أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ « عليمٌ » بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل, أم الجور والحيْف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 182 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.

فقال بعضهم: تأويلها: فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت, فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له، أو أن يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به, فلا حرج على من حَضره فسمع ذلك منه أنْ يصلح بينه وبين وَرَثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته, وأن ينهاهم عن مَنعه مما أذن الله له فيه وأباحه له.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه » ، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو يموت, فإذا أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصَّر قالوا: افعل كذا, أعطِ فلانًا كذا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « فمن خَافَ من مُوص جَنفا أو إثما » ، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو في الموت, فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل, وإذا قصر عن حق قالوا : افعل كذا, أعط فلانًا كذا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خافَ - من أولياء ميت، أو وَالِي أمر المسلمين - من مُوص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت, فأصلح بين وَرَثته وبين الموصى لهم بما أوصَى لهم به, فرد الوصية إلى العدل والحقّ، فلا حرج ولا إثم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, حدثنا أبو صالح كاتب الليث, حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فمن خاف من مُوص جَنفًا » - يعني: إثْمًا- يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها, فليس على الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب.

حدثنا الحسن بن يحيى، حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا » ، قال: هو الرجل يُوصي فيحيف في وصيته، فيردها الوليّ إلى الحقّ والعدل.

حدثنا بشر بن معاذ, حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا » ، وكان قتادة يقول: من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين، إلى كتاب الله وإلى العدل, فذاك له.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا » ، فمن أوصى بوصية بجور، فردَّه الوصيُّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه - قال عبد الرحمن في حديثه: « فاصلح بينهم » ، يقول: رده الوصيّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن أبيه, عن إبراهيم: « فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصْلح بينهم » ، قال: رده إلى الحق.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل, عن سعيد بن مسروق, عن إبراهيم قال، سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث؟ قال: اردُدها. ثم قرأ: « فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا » .

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: « فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه » ، قال: رده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم على الوصي.

وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته عند حضور أجله بعضَ ورثته دون بعض, فلا إثم على من أصلح بينهم يعني: بين الورثة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله: « فمن خاف من موص جَنفًا أو إثمًا » ، قال: الرجل يحيف أو يأثم عند موته، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض, يقول الله: فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء: أله أن يُعطي وارثه عند الموت, إنما هي وصية, ولا وصية لوارث؟ قال: ذلك فيما يَقسم بينهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من مُوص جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه، بما يرجع نفعه على من يَرثه، فأصلح بينَ وَرَثته، فلا إثم عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس, عن أبيه أنه كان يَقول: جَنفُه وإثمه، أنْ يوصي الرجل لبني ابنه ليكونَ المالُ لأبيهم, وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها؛ وذو الوارث الكثير والمالُ قليل، فيوصي بثلث ماله كله، فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير. قلت: أفي حياته أم بعد موته؟ قال: ما سمعنا أحدًا يقول إلا بعد موته, وإنه ليوعظ عند ذلك.

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: « فمن خافَ من موص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم » ، قال: هو الرجل يوصي لولد ابنته.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جَنفًا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه » . أما « جنفًا » : فخطأ في وصيته، وأما « إثمًا » : فعمدًا يَعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظمُ لأجره أن لا يُنفذها, ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق، ينقص بعضًا ويزيد بعضًا. قال: ونـزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه » ، قال: « الجنَف » أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية, « والإثم » أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض, « فأصلح بينهم » الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هُم « الأقربون » - فلا إثم عليه. فهذا الموصَى الذي أوْصى إليه بذلك، وجعل إليه، فرأى هذا قد أجنفَ لهذا على هذا، فأصلح بينهم فلا إثم عليه, فعجز الموصِي أن يوصي كما أمره الله تعالى، وعجز الموصَى إليه أن يصلح، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم، ففرضَ الفرائض.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثمًا في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله, وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة, وفي الوَرَثة كثرةٌ فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم، وبين ورثة الميت، وبين الميت, بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله, وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ، وذلك هو « الإصلاح » الذي قال الله تعالى ذكره: « فأصلح بينهم فلا إثم عليه » . وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة, فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه, فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم, ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.

وإنما اخترنا هذا القول، لأن الله تعالى ذكره قال: « فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا » ، يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم, فأما بعد وجوده منه، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم, بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم, ولوْ كان ذلك معناه لقيل: فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا - أو أيقن أو علم- ولم يقل: فمن خَافَ منه جَنفًا.

فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟

قيل: إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح, فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين، فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن « الإصلاح » ، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين, فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.

فإن قال قائل: فكيف قيل: « فأصلح بينهم » , ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكرٌ؟

قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم, وهم والدا المُوصي وأقربوه، والذين أمروا بالوصية في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ، ثم قال تعالى ذكره: « فمن خافَ من مُوص » - لمن أمرته بالوصية له- « جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم » - وبين من أمرته بالوصية له- « فلا إثم عليه » . والإصلاح بينه وبينهم، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.

قال أبو جعفر: وقد قرئ قوله: « فمنْ خَافَ منْ مُوص » بالتخفيف في « الصاد » والتسكين في « الواو » - وبتحريك « الواو » وتشديد « الصاد » .

فمن قرأ ذلك بتخفيف « الصاد » وتسكين « الواو » ، فإنما قرأه بلغة من قال: « أوصيتُ فلانًا بكذا » .

ومن قرأ بتحريك « الواو » وتشديد « الصاد » ، قرأه بلغة من يقول: « وصَّيت فلانًا بكذا » . وهما لغتان للعرب مشهورتان: « وصَّيتك، وأوصيتك »

وأما « الجنف » ، فهو الجورُ والعدول عن الحق في كلام العرب, ومنه قول الشاعر:

هُــمُ المَــوْلَى وَإِنْ جَـنَفُوا عَلَيْنَـا وَإِنَّـــا مِـــنْ لِقَــائِهِمُ لَــزُورُ

يقال منه: « جَنف الرجل على صاحبه يَجنَف » - إذا مال عليه وجَار- « جَنفًا » .

فمعنى الكلام من خاف من موص جَنفًا له بموضع الوصية, وميلا عن الصواب فيها, وجورًا عن القصد أو إثمًا بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك، فأصلح بينهم, فلا إثم عليه.

وبمثل الذي قلنا في معنى « الجنف » « والإثم » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « فمن خاف من موص جَنفًا » ، يعني بالجنف: الخطأ.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن عبد الملك, عن عطاء: « فمن خاف من موص جَنفًا » ، قال: ميلا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء مثله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هارون قالا حدثنا عبد الملك, عن عطاء مثله.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قال: الجنفُ الخطأ, والإثم العمد.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا [ أبو أحمد ] الزبيري قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن عطاء مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا » ، أما « جَنفًا » فخطأ في وصيته، وأما « إثمًا » : فعمدًا، يعمد في وصيته الظلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « فمن خَافَ من مُوص جنفًا أو إثمًا » ، قال: خطأً أو عمدًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر, عن الربيع: « فمن خَاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا » ، قال: الجنف الخطأ, والإثم العمد.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع بن أنس مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان، عن أبيه, عن إبراهيم: « فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا » ، قال: الجنف: الخطأ, والإثم العمد.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية: « فمن خاف من مُوص جَنفًا » ، قال: خطأ, « أو إثمًا » متعمدًا.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن ابن عيينة, عن ابن طاوس, عن أبيه: « فمن خَافَ من مُوص جَنفًا » ، قال: ميلا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « جَنفًا » حَيْفًا, « والإثم » ميله لبعض على بعض. وكلّه يصير إلى واحد، كما يكون « عفوًّا غَفورًا » و « غَفورًا رَحيمًا » .

حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الجنف الخطأ, والإثم: العمد.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قال: الجنف الخطأ, والإثم العمد.

وأما قوله: « إنّ الله غَفورٌ رَحيم » ، فإنه يعني: والله غَفورٌ للموصي فيما كان حدَّث به نفسه من الجنف والإثم, إذا تَرَك أن يأثم ويَجنف في وصيته, فتجاوزَ له عما كان حدَّث به نفسه من الجور, إذ لم يُمْضِ ذلك فيُغْفِل أن يؤاخذه به « رحيمٌ » بالمصلح بينَ المُوصي وبين من أراد أن يَحيف عليه لغيره، أو يَأثَم فيه له.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا.

ويعني بقوله: « كتب عليكم الصيام » ، فرض عليكم الصيام.

و « الصيام » مصدر، من قول القائل: « صُمت عن كذا وكذا » - يعني: كففت عنه- « أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا » . ومعنى « الصيام » ، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل: « صَامت الخيل » ، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان:

خَـيْلٌ صِيَـامٌ, وخَـيْلٌ غَـيْرُ صَائِمَةٍ تَحْـتَ العَجَـاجِ, وأُخْـرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا

ومنه قول الله تعالى ذكره: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [ سورة مريم: 26 ] يعني: صمتًا عن الكلام.

وقوله: « كما كُتب على الذين من قبلكم » ، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: « كما كُتبَ على الذين من قبلكم » ، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا.

فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن يحيى بن زياد, عن محمد بن أبان [ القرشي ] ، عن أبي أمية الطنافسي, عن الشعبي أنه قال: لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. فذلك قوله: « كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم » ،

وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ: أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله: « كما كُتبَ على الذين من قبلكم » ، النصارى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » ، أما الذين من قبلنا: فالنصارى, كتب عليهم رمضان, وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم, ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان, وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف, وقالوا: نـزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى, حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم » ، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة.

وقال آخرون: الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله: « كما كتب على الذين من قبلكم » ، أهل الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » ، أهل الكتاب.

وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم » ، قال: كتب شهرُ رمضان على الناس, كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينـزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » ، رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية:

يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب, « أيامًا معدودات » , وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم, وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا, وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ, فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء.

وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء.

وأما تأويل قوله: « لعلكم تَتقون » ، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. يقول: فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم.

وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: « لعلكم تتقون » ، يقول: فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره، كتب عليكم أيها الذين آمنوا - الصيامُ أيامًا معدودات.

ونصبَ « أيامًا » بمضمر من الفعل, كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم، أن تصوموا أيامًا معدودات, كما يقال: « أعجبني الضربُ، زيدًا » .

وقوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الصيام, كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم: أن تصوموا أيامًا معدودات.

ثم اختلف أهل التأويل فيما عَنى الله جل وعز بقوله: « أيامًا معدودات » .

فقال بعضهم: « الأيام المعدودات » ، صومُ ثلاثة أيام من كل شهر. قال: وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء قال: كان عليهم الصيامُ ثلاثة أيام من كل شهر, ولم يُسمِّ الشهرَ أيامًا معدودات. قال: وكان هذا صيام الناس قبل، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهرَ رمصان.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وكان ثلاثةَ أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك بالذي أنـزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول، من العتمة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة. عن عمرو بن مرة, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يومَ عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر, ثم أنـزل الله جل وعزّ فرضَ شهر رمضان, فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ حتى بلغ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قد كتب الله تعالى ذكره على الناس، قَبل أن ينـزل رمضان، صومَ ثلاثة أيام من كل شهر.

وقال آخرون: بل الأيام الثلاثةُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُها قبل أن يفرض رمضان، كان تَطوعًا صوْمهُنّ, وإنما عنى الله جل وعز بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ، أيامَ شَهر رمضان, لا الأيامَ التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صَوم شهر رمضان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة, عن عمرو بن مرة، قال، حدثنا أصحابنا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرَهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا لا فريضةً. قال: ثم نـزل صيام رمضان - قال أبو موسى: قوله: « قال عمرو بن مرة: حدثنا أصحابنا » يريد ابن أبي ليلى, كأنّ ابنَ أبي ليلى القائلُ: « حدثنا أصحابنا » .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى, فذكر نحوه.

قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من قال: عنى بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، شهرَ رمضان.

وأولى ذلك بالصواب عندي قولُ من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله: ( أيامًا معدودات ) ، أيامَ شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان, ثم نسخ بصوم شهر رمضان, وأن الله تعالى قَد بيَّن في سياق الآية، أنّ الصيامَ الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته, عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومَها بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ . فمن ادعى أن صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه - ثم نسخ ذلك- سئل البرهانَ على ذلك من خبر تقوم به حُجة, إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذرَ.

وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا, فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أيامًا معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضًا أن يكون معناه: « كتب عليكم الصيام » ، كتب عليكم شهر رمضان.

وأما « المعدودات » : فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله: « معدودات » ، مُحْصَيَاتٍ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فمن كان منكم مريضًا » ، من كان منكم مريضًا، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر، « فعدة من أيام أخر » ، يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره، « من أيام أخر » , يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.

والرفع في قوله: « فعدةٌ منْ أيام أخر » ، نظير الرفع في قوله: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ . وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طَعامُ مسكين » ، فإنّ قراءة كافة المسلمين: « وعلى الذين يُطيقونه » ، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافُها، لنقل جميعهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرن.

وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه: « وعلى الذين يُطوَّقونه » .

ثم اختلف قُرّاء ذلك: « وَعلى الذين يُطيقونه » في معناه.

فقال بعضهم: كان ذلك في أول ما فرض الصوم, وكان من أطاقه من المقيمين صامَه إن شاء, وإن شاء أفطره وَافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا، حتى نُسخ ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة, عن عمرو بن مرة, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن معاذ بن جبل قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر, ثم إنّ الله جل وعز فرض شهر رَمضان، فأنـزل الله تعالى ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ حتى بلغ « وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين » ، فكان من شاء صامَ, ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنـزل الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ إلى آخر الآية.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة, عن عمرو بن مرة, قال حَدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال: ثم نـزل صيام رمضان. قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال: وكان يشتد عليهم الصوم. قال: فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا, ثم نـزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فكانت الرخصة للمريض والمسافر, وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله: « قال عمرو: حدثنا أصحابنا » ، يريد ابنَ أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل: « حدثنا أصحابنا » .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة في قوله: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: كان من شاء صام, ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا, فنسخها: شَهْرُ رَمَضَانَ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم، بنحوه - وزاد فيه، قال: فنسختها هذه الآية, وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم، يتصدق مكانَ كل يوم على مسكين نصفَ صاع.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال، حدثنا الحسين, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قوله: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، فكان من شاء منهم أن يصومَ صَام, ومن شاء منهم أن يَفتدي بطعام مسكين افتدى وتَمَّ له صومه. ثم قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، ثم استثنى من ذلك فقال: « ومنْ كان مريضًا أوْ عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر » .

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن إدريس قال: سألت الأعمش عن قوله: « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، فحدثنا عن إبراهيم، عن علقمة. قال: نسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

حدثنا عمر بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله, عن نافع, عن ابن عمر قال: نَسَخت هذه الآية - يعني: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » - التي بَعدها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة في قوله: « وعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، قال: نسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مُسهر, عن عاصم, عن الشعبي قال: نـزلت هذه الآية : « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، كان الرجل يُفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعامًا, ثم نـزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فلم تنـزل الرّخصةُ إلا للمريض والمسافر.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا علي بن مسهر, عن عاصم, عن الشعبي قال: نـزلت هذه الآية للناس عامة: « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين, ثم نـزلت هذه الآية: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، قال : فلم تنـزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان، فقال: إني شيخ كبيرٌ، إن الصومَ نـزل, فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا, حتى نـزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فوجب الصوم على كل أحد، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يَفتدي.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، قال ابن شهاب: كتب الله الصيام علينا, فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيامَ من صحيح أو مريض أو مسافر, ولم يكن عليه غير ذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهرَ الصيامَ, فمن كان صحيحًا يُطيقه وضع عنه الفدية, وكان من كان على سفر أو كان مريضًا فعدة من أيام أخر. قال: وبقيت الفديةُ التي كانت تُقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يُطيق الصيام, والذي يعرض له العطشُ أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال، جعل الله في الصوم الأوّل فدية طعام مسكين, فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطر، كان ذلك رخصةً له. فأنـزل الله في الصوم الآخِر: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين, فنُسِخت الفدية, وَثبت في الصوم الآخر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ، وهو الإفطار في السفر, وجعله عدةً من أيام أخَر.

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، بكَيْر بن عبد الله, عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع, عن سلمة بن الأكوع أنه قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين, حتى أنـزلت: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عاصم الأحول, عن الشعبي في قوله : « وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، قال: كانت للناس كلهم: فلما نـزلت: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، أمِروا بالصوم والقضاء, فقال: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .

حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر, عن الأعمش, عن إبراهيم في قوله: « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: نسختها الآية التي بعدها: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن محمد بن سليمان, عن ابن سيرين, عن عبيدة: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: نسختها الآية التي تليها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ الآية, فُرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة, فإذا صلى الرجل العتمة حَرُم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نـزل الصوم الآخِر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله, وهو قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ، وأحل الجماع أيضًا فقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ، وكان في الصوم الأول الفدية, فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطرَ فعل ذلك, ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفديةَ, وقال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فنسخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ.

وقال آخرون: بل كان قوله: « وَعلى الذينَ يُطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، حُكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز الذين يُطيقان الصوم، كان مرخصًا لهما أن يَفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا, ثم نسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبلَ النسخ ثابتًا لهما حينئذ بحاله.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن عَزْرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا, ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، إذا كانا لا يطيقان الصوم, وللحبلى والمرضع إذا خافتا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سعيد, عن قتادة, عن عروة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « وَعلى الذين يُطيقونه » ، قال: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن عكرمة قال: كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويُطعما بقوله: « وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » . قال: فكانت لهم الرخصة، ثم نسخت بهذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم، وبقيت الحاملُ والمرضعُ أن يفطرَا ويُطعما.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال, حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول في قوله: « وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصومَ أن يطعما مكانَ كل يوم مسكينًا ويفطرا, ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ إلى قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يُرَوْن ويرجُون الرخصةَ تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصومَ أن يفطرا ويُطعما عن كل يوم مسكينًا, وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها, وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان, فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك, وعليهما الفدية لكل يَوم يفطرانه طعامُ مسكين, فأنـزل الله بعد ذلك: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، إلى قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ .

وقال آخرون ممن قرأ ذلك: « وَعلى الذين يُطيقونه » ، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه, وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نـزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم, وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل, أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين, فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له, ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة، عن عَزْرَة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان, قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة,...، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا, فقال: أنت بمنـزلة الذي لا يُطيقه, عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن سعيد, عن نافع, عن علي بن ثابت, عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن ابن عباس قال، لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت بمنـزلة الذين لا يطيقونه, عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن منصور، عن مجاهد, عن ابن عباس نحوه - غير أنه لم يقل: حين يُفطر وحين يَتسحر.

حدثنا هناد قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل, عن عبد الرحمن بن حرملة, عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره: « فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه, وهي الحامل التي ليس عليها الصيام. فعلى كل واحد منهما طعامُ مسكين: مُدٌّ من حنطة لكلّ يوم حتى يمضيَ رَمضان.

وقرأ ذلك آخرون: « وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ » ، وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم, فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه, فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنـزلت، لم تنسخ, وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, حدثنا ابن جريج, عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « يُطوَّقونه » .

حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر, عن عصام, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه كان يقرأ: « وَعلى الذين يُطوقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: فكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « وَعلى الذين يُطوَّقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: وكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.

حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « وعلى الذين يُطوَّقونه » ، ويقول: هو الشيخ الكبير يُفطر ويُطعِم عنه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب, عن عكرمة أنه قال في هذه الآية: « وعلى الذين يُطوَّقونه » ، - وكذلك كان يقرؤها- : إنها ليست منسوخة، كلِّف الشيخُ الكبير أن يُفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « وعلى الذين يُطوَّقونه » .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن عمران بن حدَير, عن عكرمة قال: « الذين يُطيقونه » يصومونه، ولكن الذين « يُطوَّقونه » ، يعجزون عنه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني محمد بن عباد بن جعفر, عن أبي عمرو مولى عائشة، أن عائشة كانت تقرأ: « يُطوَّقونه » .

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء أنه كان يقرؤها « يطوَّقونه » . قال ابن جريج: وكان مجاهد يقرؤها كذلك.

حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا خالد, عن عكرمة: « وعلى الذين يُطيقونه » قال، قال ابن عباس: هو الشيخُ الكبير.

حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ قال، أخبرنا شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « وعلى الذين يُطوَّقونه » قال: يَتجشمونه يَتكلفونه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن مسلم الملائي, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: « وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، قال: الشيخ الكبير الذي لا يُطيق فيفطر ويُطعم كل يوم مسكينًا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس في قول الله: « وَعلى الذين يُطيقونه » ، قال: يُكلَّفونه, فديةٌ طعامُ مسكين واحد. قال: فهذه آية منسوخةٌ لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يُطيق الصيام, أو مريض يعلم أنه لا يُشفى.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال: « الذين يطيقونه » ، يتكلَّفونه، فديةٌ طعام مسكين واحد، ولم يُرخَّص هذا إلا للشيخ الذي لا يُطيق الصوم, أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى - هذا عن مجاهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس أنه كان يقول: ليست بمنسوخة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، يقول: من لم يطق الصوم إلا على جَهد، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا, والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذي به سُقمٌ دائم.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: « وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: هو الشيخ الكبير، والمرء الذي كان يصومُ في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموتَ, فهو يطعم كل يوم مسكينًا - قال هناد: قال عبيدة: قيل لمنصور: الذي يطعم كل يوم نصف صاعٍ؟ قال: نعم.

حدثنا هناد قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن عثمان بن الأسود قال: سألتُ مجاهدًا عن امرأة لي وافقَ تاسعها شهرَ رَمضان, ووافق حرًّا شديدًا, فأمرني أن تُفطر وتُطعم. قال: وقال مجاهد: وتلك الرخصة أيضًا في المسافر والمريض, فإن الله يقول: « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، يفطرون في رمضان, ويطعمون عن كل يوم مسكينًا، ثم قرأ: « وعلى الذينَ يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » .

حدثنا علي بن سَعيد الكندي قال، حدثنا حفص، عن حجاج, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي في قوله: « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين » ، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوَم، يُفطر ويطعم مكانَ كل يوم مسكينًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال: « وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه, الشيخُ والشيخة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حَماد, عن الحجاج, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي قال: هو الشيخُ والشيخة.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد, عن عمران بن حُدير, عن عكرمة أنه كان يقرؤها: « وَعلى الذين يُطيقونه » فأفطروا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عاصم، عمن حدثه عن ابن عباس قال: هي مثبتةٌ للكبير والمرضع والحامل، وعلى الذين يُطيقونَ الصيام.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال, حدثنا ابن المبارك, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: « وعلى الذين يطيقونه » ؟ قال: بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت: الكبيرُ الذي لا يستطيعُ الصوم, أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد؟ قال: بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء, فأما مَن استطاع بجهد فليصمه، ولا عذر له في تركه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن أبي يزيد: « وَعلى الذين يُطيقونه » الآية, كأنه يعني الشيخَ الكبير - قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: نـزلت في الكبير الذي لا يَستطيع صيامَ رمضان، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له: كم طعامه؟ قال: لا أدري, غير أنه قال: طعام يوم.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك في قوله: « فديةٌ طعامُ مسكين » ، قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصومَ، يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: « وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين » ، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

لأن « الهاء » التي في قوله: « وَعلى الذين يُطيقونه » ، من ذكر « الصيام » ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك, وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ.

هذا، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نـزول هذه الآية على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسُقوط الفدية عنهم, وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نـزلت: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، فألزموا فرضَ صومه, وبطل الخيار والفديةُ.

فإن قال قائل: وكيف تدَّعي إجماعًا من أهل الإسلام على أنّ من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت، فغير جائز له إلا صومُه وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضعُ إذا خافتا على أولادهما، لهما الإفطار, وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما, مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:

حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أنس قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَتغدَّى، فقال: « تعالَ أحدِّثك, إن الله وَضع عن المسافر والحامل والمرضع الصومَ وشَطرَ الصلاة » ؟

قيل: إنّا لم ندَّع إجماعًا في الحامل والمرضع, وإنما ادعينا في الرجال الذين وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع، فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله: ( وعلى الذين يطيقونه ) وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به، لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال، لقيل: وعلى اللواتي يُطقنه فدية طعامُ مسكين، لأن ذلك كلام العرب، إذا أفرد الكلامُ بالخبر عنهنّ دُون الرجال. فلما قيل: « وعلى الذين يُطيقونه » ، كان معلومًا أنّ المعنيَّ به الرجالُ دون النساء, أو الرجالُ والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع - على أنّ من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صومُ شهر رمضان، فغيرُ مرخص له في الإفطار والافتداء, فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية, وعُلم أن النساء لم يُردن بها لما وصفنا: من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلامُ بالخبر عنهن: « وعلى اللواتي يطقنه » , والتنـزيل بغير ذلك.

وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان صحيحًا, فإنما معناه: أنه وضَع عن الحامل والمرضع الصومَ ما دامتا عاجزتين عنه، حتى تُطيقا فتقضيا, كما وُضع عن المسافر في سفره، حتى يقيم فيقضيه - لا أنهما أُمِرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء, ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم » ، دلالةٌ على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله: « وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين » ، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء, وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حُكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قولٌ، إن قاله قائلٌ، خلافٌ لظاهر كتاب الله، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.

وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله: « وعلى الذين يطيقونه » ، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ.

وأما قراءة من قرأ ذلك: « وعلى الذين يُطوَّقونه » فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلافٌ, وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وِرَاثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرًا قاطعًا للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين، هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله. ولا يُعترض على ما قد ثَبت وقامت به حُجة أنه من عند الله، بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.

وأما معنى « الفدية » فإنه: الجزاء، من قولك: « فديت هذا بهذا » ، أي جزيته به, وأعطيته بدلا منه.

ومعنى الكلام: وعلى الذين يُطيقون الصيام جزاءُ طعام مسكين، لكلّ يوم أفطرَه من أيام صيامه الذي كتب عليه.

وأما قوله: « فدية طعامُ مسكين » ، فإنّ القرأة مختلفةٌ في قراءته. فبعضٌ يقرأ بإضافة « الفدية » إلى « الطعام » , وخفض « الطعام » - وذلك قراءة عُظْم قراء أهل المدينة - بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعامَ مسكين. فلما جعل مكان « أن يفديه » « الفدية » أضيف إلى « الطعام » , كما يقال « لزمني غَرامةُ درهم لك » ، بمعنى: لزمني أن أغرَم لك درهمًا.

وآخرون يقرأونه بتنوين « الفدية » ، ورفع « الطعام » ، بمعنى الإبانة في « الطعام » عن معنى « الفدية » الواجبة على من أفطر في صومه الواجب, كما يقال: « لزمني غرامةٌ، درهمٌ لك » , فتبين « بالدرهم » عن معنى « الغرامة » ما هي؟ وما حدُّها؟ وذلك قراءةُ عُظْم قُراء أهل العراق.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ « فديةُ طعام » بإضافة « الفدية » إلى « الطعام » , لأن « الفدية » اسم للفعل, وهي غير « الطعام » المفديّ به الصوم.

وذلك أن « الفِدْية » مصدر من قول القائل: « فَديت صَوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية » , كما يقال: « جلست جِلْسة, ومَشيتُ مِشْية » . « والفدية » فعل، و « الطعام » غيرها. فإذْ كان ذلك كذلك, فبيِّنٌ أن أصَحّ القراءتين إضافة « الفدية » إلى « الطعام » ، وواضحٌ خطأ قول من قال: إن ترك إضافة « الفدية » إلى الطعام، أصح في المعنى، من أجل أن « الطعام » عنده هو « الفدية » . فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن « الفدية » مقتضية مفديًّا، ومفديًّا به، وفدية. فإن كان « الطعام » هو « الفدية » « والصوم » هو المفديّ به, فأين اسم فعل المفتدي الذي هو « فدية » إنّ هذا القول خطأ بين غير مشكل.

وأما « الطعام » فإنه مضاف إلى « المسكين » . والقرأة في قراءة ذلك مختلفون.

فقرأه بعضهم بتوحيد « المسكين » ، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره، كما:-

حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا حسين الجعفي, عن أبي عمرو أنه قرأ: « فديةٌ » - رفع منون- « طعام » - رفع بغير تنوين- « مسكين » ، وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قراء أهل العراق.

وقرأه آخرون بجمع « المساكين » ، « فدية طعام مَساكين » بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر، إذا أفطر الشهر كله، كما:-

حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي, عن يعقوب, عن بشار, عن عمرو, عن الحسن: « طعام مساكين » ، عن الشهر كله.

قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ: « طعام مسكين » على الواحد، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حُكم المفطر يومًا واحدًا، وصُولا إلى معرفة حُكم المفطر جميع الشهر - وليس في إبانة حكم المفطر جميعَ الشهر، وصولٌ إلى إبانة حكم المفطر يومًا واحدًا، وأيامًا هي أقل من أيام جميع الشهر - , وأن كل « واحد » يُترجم عن « الجميع » ، وأن « الجميع » لا يترجم به عن « الواحد » . فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد.

واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا.

فقال بعضهم: كان الواجبُ من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.

وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم، مدًّا من قمح ومن سائر أقواتهم.

وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح، أو صاعًا من تمر أو زبيب.

وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوَّته يومَه الذي أفطرَه.

وقال بعضهم: كان ذلك سحورًا وَعشاءً، يكون للمسكين إفطارًا.

وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل، فكرهنا إعادة ذكرها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وعطاء, عن ابن عباس: « فمن تطوع خيرًا » ، فزاد طعامَ مسكين آخر، « فهو خيرٌ له وأن تصومُوا خيرٌ لكم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: « فمن تطوع خيرًا » ، قال: من أطعم المسكين صاعًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه: « فمن تطَوع خيرًا فهو خيرٌ له » ، قال: إطعامُ مَساكين عن كل يوم، فهو خير له.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن حنظلة, عن طاوس: « فمن تطوع خيرًا » ، قال: طعامُ مسكين.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن حنظلة, عن طاوس نحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث، عن طاوس: « فمن تطوع خيرًا » ، قال: طعام مسكين.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد, عن ليث عن طاوس مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن هارون قال، حدثنا ابن جريج, عن عطاء أنه قرأ: « فمن تطوع » - بالتاء خفيفة [ الطاء ] - « خيرًا » , قال: زاد على مسكين.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن تَطوع خيرًا فهو خيرٌ له » ، فإن أطعم مسكينين فهو خير له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه: « فمن تطوع خيرًا فهو خير له » ، قال: من أطعم مسكينًا آخر.

وقال آخرون: معنى ذلك، فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس, عن ابن شهاب: « فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له » ، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرًا فزاد المسكين على قَدر طعامه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: « فمن تطوع خيرًا » ، فزاد طعامًا، « فهو خير له » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله: « فمن تطوع خيرًا » ، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله: « فمن تطوع خيرًا » ، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 184 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وأنْ تَصوموا » ، ما كتب عليكم من شهر رمضان، « فهو خير لكم » من أن تفطروه وتفتدوا، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وأنْ تَصوموا خيرٌ لكم » ، ومن تكلف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس, عن ابن شهاب: « وأن تَصُوموا خيرٌ لكم » ، أي: إن الصيامَ خير لكم من الفدية.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وأن تصومُوا خيرٌ لكم » ....

وأما قوله: « إن كنتم تعلمون » ، فإنه يعني: إن كنتم تعلمون خيرَ الأمرين لكم أيها الذين آمنوا، من الإفطار والفدية، أو الصوم على ما أمركم الله به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

قال أبو جعفر: « والشهر » ، فيما قيل، أصله من « الشهرة » . يقال منه: « قد شَهر فلانٌ سَيْفه » - إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه- « يشهرُه شهرًا » . وكذلك « شَهر الشهر » ، إذا طلع هلاله, « وأشهرْنا نحن » ، إذا دخلنا في الشهر.

وأما « رمضان » ، فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمى بذلك لشدة الحرِّ الذي كان يكون فيه، حتى تَرْمَض فيه الفِصَال، كما يقال للشهر الذي يُحجّ فيه « ذو الحجة » , والذي يُرتبع فيه « ربيع الأول، وربيع الآخر » .

وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال: « رمضان » ، ويقول: لعله اسمٌ من أسماء الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن مجاهد: أنه كره أن يقال: « رمضان » , ويقول: لعله اسم من أسماء الله لكن نقول كما قال الله: « شهر رمضان » .

وقد بينت فيما مضى أن « شهر » مرفوع على قوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ , هن شهر رمضان. وجائز أن يكون رفعه بمعنى: ذلك شهر رمضان, وبمعنى: كتب عليكم شهرُ رمضان.

وقد قرأه بعض القراء « شهرَ رَمضان » نصبًا, بمعنى: كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهرَ رمضان. وقرأه بعضهم نصبًا بمعنى: أن تصوموا شهرَ رمضان خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضًا نصبه على وجه الأمر بصومه، كأنه قيل: شهرَ رمضان فصومُوه. وجائز نصبه على الوقت، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في شهر رمضان.

وأما قوله: « الذي أنـزل فيه القرآن » ، فإنه ذكر أنه نـزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، في ليلة القدر من شهر رمضان. ثم أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنـزاله إليه، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن حسان بن أبي الأشرَس عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: أنـزل القرآن جملةً من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان, فجُعل في بيت العزَّة - قال أبو كريب: حدثنا أبو بكر, وقال ذلك السدي.

حدثني عيسى بن عثمان قال، حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن حسان, عن سعيد بن جبير قال: نـزل القرآن جملة واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان, فجعل في سماء الدنيا.

حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا عمران القطان, عن قتادة, عن أبي المليح، عن واثلة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « نـزلت صُحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان, وأنـزلت التوراةُ لست مَضَين من رمضان, وأنـزل الإنجيل لثلاثَ عَشرة خلت, وأنـزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان » .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « شهرُ رَمضان الذي أنـزل فيه القرآن » . أما « أنـزل فيه القرآن » , فإن ابن عباس قال: شهر رمضان, والليلةُ المباركة ليلةُ القدر, فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة, وهي في رمضان, نـزل القرآن جملةً واحدة من الزُّبُر إلى البيت المعمور, وهو « مواقع النجوم » في السماء الدنيا حيث وقع القرآن, ثم نـزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلا رَسَلا.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: أنـزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر, فكان الله إذا أراد أن يُوحِيَ منه شيئًا أوحاه, فهو قوله: إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ سورة القدر: 1 ] .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس، فذكر نحوه - وزاد فيه: فكان من أوله وآخره عشرون سنة.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: أنـزل القرآنُ كله جملةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان، إلى السماء الدنيا, فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شَيئًا أنـزله منه، حتى جمعه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن حكيم بن جبير, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: أنـزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة, ثم فرَّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [ سورة الواقعة:75 ] ، قال: نـزل مفرَّقًا.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي قال: بلغنا أن القرآن نـزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, قرأه ابن جريج في قوله: « شهرُ رَمضان الذي أنـزل فيه القرآن » ، قال: قال ابن عباس: أنـزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر, فكان لا ينـزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج: كان ينـزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينـزل من القرآن في تلك السنة. فنـزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، فلا ينـزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه. ومثل ذلك إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [ سورة الدخان: 3 ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السدي, عن محمد بن أبي المجالد, عن مقسم, عن ابن عباس، قال له رجل: إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله: « شهرُ رَمضان الذي أنـزل فيه القرآن » ، وقوله: إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وقوله إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وقد أنـزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره! قال: إنما أنـزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدةً, ثم أنـزل على مَواقع النجوم رَسَلا في الشهور والأيام.

وأما قوله: « هُدى للناس » ، فإنه يعني رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ وقَصْد المنهج.

وأما قوله: « وَبيِّنات » ، فإنه يعني: وواضحات « من الهدى » - يعني: من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه.

وقوله: « والفرقان » يعني: والفصل بين الحق والباطل، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدى: أما « وبينات من الهدى والفرقان » ، فبينات من الحلال والحرام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « شهود الشهر » .

فقال بعضهم: هو مُقام المقيم في داره. قالوا: فمن دخل عليه شهرُ رمضان وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله, غابَ بعدُ فسافر، أو أقام فلم يبرح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: « فمن شَهد منكم الشهر فليصمه » ، قال: هو إهلاله بالدار. يريد: إذا هلَّ وهو مُقيم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عمن حدثه, عن ابن عباس أنه قال. في قوله: « فمن شهد منكم الشهر فليصمه » ، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سَفر, فإن شاء صامَ وإن شَاء أفطر.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن محمد, عن عبيدة - في الرجل يُدركه رمضان ثم يُسافر - قال: إذا شهدتَ أوله فصُمْ آخره, ألا تراه يقول: « فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه » ؟

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن هشام القردوسي، عن محمد بن سيرين قال، سألت عَبيدة: عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم؟ قال: من صام أول الشهر فليصم آخره, ألا تراه يقول: « فَمنْ شهد منكم الشهرَ فليصمه » .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « منْ شَهد منكم الشهر فليصمه » , فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصُمه, وإن خَرج فيه فليصُمه، فإنه دَخل عليه وهو في أهله.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا قتادة, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني, عن علي - فيما يحسب حماد- قال: من أدرك رَمضان وهو مقيم لم يَخرج، فقد لزمه الصوم, لأن الله يقول: « فمن شَهد منكم الشهر فليصمه » .

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبد الرحمن, عن إسماعيل بن مسلم, عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله: « فمن شَهد منكم الشهر فليصمه » ، قال: من كان مقيمًا فليصُمه, ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: من شهد أول رمضان فليصم آخرَه.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن عليًّا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيمٌ ثم سافر، فعليه الصوم.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم, عن عُبيدة الضبي, عن إبراهيم قال: كان يقول: إذا أدركك رمضانُ فلا تسافر فيه, فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت، فلا تفطر، صُمه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرة, عن أبي البختري. قال: كنا عند عُبيدة فقرأ هذه الآية: « فَمن شَهد منكم الشهر فليصمه » ، قال: من صام شيئًا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج. قال: وكان ابن عباس يقول: إن شاء صَام وإن شَاء أفطر.

حدثنا محمد بن بشار قال, حدثنا عبد الوهاب - و حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- قالا جميعًا، حدثنا أيوب, عن أبي يزيد, عن أم ذرة، قالت: أتيت عائشه في رمضان, قالت: من أين جئتِ؟ قلت: من عند أخي حنين. قالت: ما شأنه؟ قالت: ودَّعته يُريد يرتحل. قالت: فأقرئيه السلام ومُريه فليُقم, فلو أدركني رمضانُ وأنا ببعض الطريق لأقمت له.

حدثنا هناد قال, حدثنا إسحاق بن عيسى, عن أفلح, عن عبد الرحمن, قال: جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يُسلّم عليها, قالت: وأين تريد؟ قال: أردتُ العمرة. قالت: فجلستَ حتى إذا دخل عليك الشهر خرجتَ فيه! قال: قد خرج ثَقَلي! قالت: اجلس، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهرَ رمضان.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن شهد منكم الشهر فليصُمْ ما شهد منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق: أن أبا مَيسرة خرج في رمضان، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب.

حدثنا هناد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا, فمرّ بالفرات وهو صائم, فأخذ منه كفًّا فشربه وأفطر.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن مرثد: أن أبا مَيسرة سافرَ في رمضان، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد، عن مرثد, وإنما هو أبو مَرثد.

حدثني محمد بن عمارة الأسديّ قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق, عن مرثد: أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان, فلما انتهى إلى الجسر أفطر.

حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع, عن المسعودي, عن الحسن بن سعد, عن أبيه قال: كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة, فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان، وعليٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ, قال: فصام - قال هناد: وأفطرت- قال أبو هشام: وأمرني فأفطرتُ.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عبد الرحمن بن عتبة, عن الحسن بن سعد, عن أبيه قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب وهو جَاءٍ من أرض له، فصام, وأمرني فأفطرت، فدخل المدينة ليلا وكان راكبًا وأنا ماشٍ.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع - وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي- قالا جميعًا، حدثنا سفيان, عن عيسى بن أبي عزة, عن الشعبي: أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر.

حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، قال لي سفيان: أحبُّ إليّ أن تُتمه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة قال: سألت الحكمَ وحمادًا، وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي: اخرج. وقال حماد، قال إبراهيم: أما إذا كان العَشر، فأحبُّ إليَّ أن يقيم.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد, عن قتادة, عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصومُ وهو مقيم رمضان ثم سافر, قالا إن شَاءَ أفطر.

وقال آخرون: « فَمن شهد منكم الشهر فليصمه » ، يعني: فمن شهده عاقلا بالغًا مكلفًا فليصمه.

وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه, كانوا يقولون: من دخل عليه شهرُ رمضان وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صومه, فإن جُنّ بعد دُخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا، ثم أفاقَ بعد انقضائه، لزمه قضاءُ ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبًا على عقله, لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فُرض.

قالوا: وكذلك لو دخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنونٌ، إلا أنه ممن لو كان صحيحَ العقل كان عليه صَوْمه, فلن ينقضي الشهر حتى صَح وَبرأ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك، فإنّ عليه قضاءُ صوْم الشهر كله، سوى اليوم الذي صامه بَعد إفاقته, لأنه ممن قد شَهد الشهر.

قالوا: ولو دَخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنون، فلم يفق حتى انقضى الشهرُ كله، ثم أفاق، لم يلزمه قضاء شيء منه, لأنه لم يكن ممن شَهده مكلَّفًا صَوْمَه.

قال أبو جعفر: وهذا تأويل لا معنى له, لأنّ الجنون إن كانَ يُسقط عمن كان به فَرْضَ الصومِ، من أجل فقد صاحبه عَقله جميع الشهر، فقد يجب أن يكونَ ذلك سبيلَ كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الجميعُ على أن من فقد عقله جميع شَهر الصوم بإغماء أو بِرْسام، ثم أفاق بعد انقضاء الشهر، أن عليه قضاءُ الشهر كله. ولم يخالف ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأمة. وإذ كان إجماعًا، فالواجب أن يكون سبيلُ كل من كان زائلَ العقل جميع شهر الصوم، سبيلَ المغمى عليه. وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن تأويل الآية غير الذي تأوَّلها قائلو هذه المقالة: من أنه شُهود الشهر أو بعضه مكلفًا صومَه. وإذا بطل ذلك، فتأويل المتأوِّل الذي زعم أن معناه: فمن شهد أوله مقيما حاضرًا فعليه صَوْم جميعه، أبطلُ وأفسدُ، لتظاهر الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عَام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صَام بعضه، وأفطرَ وأمر أصحابه بالإفطار.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « سافرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة, حتى إذا أتى عُسْفان نـزل به, فدعا بإناء فوضعه على يَده ليراه الناسُ, ثم شربه. »

حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, عن طاوس, عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه

حدثنا هناد, حدثنا عبيدة, عن منصور, عن مجاهد, عن طاوس, عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عباس قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان, فصامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصامَ الناسُ معه, حتى إذا أتى الكُدَيْد - ما بين عُسْفان وأَمَج- أفطر.

حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة, عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله, عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشرٍ - أو لعشرين- مضت من رَمضان عام الفتح, فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا عمر بن عامر, عن قتادة, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرَةَ مضتْ من رمضان, فمنا الصائم ومنا المفطر, فلم يَعِب المفطرُ على الصائم, ولا الصائم على المفطر.

فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان، بما عليه دَللنا من فسادهما - فَبيِّنٌ أن الصحيح من التأويل هو الثالث، وهو قول من قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، جميعَ ما شهد منه مقيمًا, ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر في الشهر فأفطر، فعليه صيامُ عدة الأيام التي أفطرها، من أيام أخرَ غير أيام شهر رمضان.

ثم اختلف أهل العلم في المرَض الذي أباح الله معه الإفطار، وأوجب معه عده من أيام أخر.

فقال بعضهم: هو المرض الذي لا يُطيق صاحبه معه القيام لصَلاته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا معاذ بن شعبة البصري قال، حدثنا شريك, عن مغيره, عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم, عن الحسن أنه قال: إذا لم يستطع المريضُ أن يُصَلِّي قائمًا أفطر.

حدثني يعقوب قال حدثنا هشيم, عن مغيرة - أو عبيدة- عن إبراهيم، في المريض إذا لم يستطع الصلاةَ قائمًا فليفطر. يعني: في رمضان.

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث, عن إسماعيل قال: سألت الحسن: متى يُفطر الصائم؟ قال: إذا جَهده الصوم. قال: إذا لم يستطع أن يُصلي الفرائض كما أمِر.

وقال بعضهم: وهو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةُ في علته زيادة غير مُحتملة. وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي, حدثنا بذلك عنه الربيع.

وقال آخرون: وهو [ كلّ ] مرض يسمى مرَضًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحسن بن خالد الربعي قال، حدثنا طريف بن شهاب العُطاردي: أنه دخل على محمد بن سيرين في رَمضان وهو يأكل، فلم يسأله. فلما فرغ قال: إنه وَجعتْ إصبعي هذه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن « المرض » الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غير محتمل, فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمرَ, فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلِّف عُسرًا، ومُنع يُسرًا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ . وأما من كان الصوم غيرَ جَاهدِه, فهو بمعنى الصحيح الذي يُطيق الصوم, فعليه أداءُ فرضه.

وأما قوله: « فعدة من أيام أخر » ، فإنّ معناها: أيامًا معدودة سوى هذه الأيام.

وأما « الأخَر » ، فإنها جمع « أخرى » كجمعهم « الكبرى » على « الكُبَر » و « القُربى » على « القُرَب » .

فإن قال قائل: أوَليست « الأخر » من صفة الأيام؟

قيل: بلى.

فإن قال: أوَليس واحدُ « الأيام » « يوم » وهو مذكر؟

قيل: بلى.

فإن قال: فكيف يكون واحدُ « الأخر » « أخرى » ، وهي صفة ل « اليوم » ، ولم يكن « آخر » ؟

قيل: إن واحد « الأيام » وإن كان إذا نُعت بواحد « الأخر » فهو « آخر » , فإن « الأيام » في الجمع تصير إلى التأنيث، فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث, كما يقال: « مضت الأيامُ جُمعَ » , ولا يقال: أجمعون, ولا أيام آخرون.

فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، ومعنى ذلك عندك: فعليه عدةٌ من أيام أخر، كما قد وصفت فيما مضى. فإن كان ذلك تأويله, فما قولك فيمن كان مريضًا أو عَلى سَفر فَصَام الشهر، وهو ممن له الإفطار, أُيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر, أو غيرُ مُجزيه ذلك، وفَرْضُ صوم عدة من أيام أخر ثابتٌ عليه بهيئته، وإن صام الشهر كله؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سَفر صيامُ شهر رمضان, أم ذلك محظور عليه, وغير جائز له صومه, والواجب عليه الإفطار فيه، حتى يقيم هذا ويبرأ هذا؟

قيل: قد اختلف أهل العلم في كل ذلك, ونحن ذاكرُو اختلافهم في ذلك, ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله.

فقال بعضهم: الإفطارُ في المرض عَزْمة من الله واجبةٌ, وليسَ بترخيص.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- جميعًا, عن سعيد, عن قتادة, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس قال: الإفطارُ في السفر عَزْمة.

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة, عن يعلى, عن يوسف بن الحكم قال: سألتُ ابن عمر - أو: سئل- عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك، ألم تغضب؟ فإنها صَدقة من الله تصدق بها عليكم.

حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد قال، قال أبو جعفر: كان أبي لا يَصُوم في السفر، ويَنهى عنه.

وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك: أنه كره الصومَ في السفر.

وقال أهل هذه المقالة: من صام في السفر فعليه القضاءُ إذا قام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا نصر بن علي الجهضميّ قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم, عن أبيه, عن رجل: أن عمرَ أمرَ الذي صام في السفر أن يُعيد. .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي, عن سعيد بن عمرو بن دينار, عن رجل من بني تميم، عن أبيه قال: أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيدَ صَوْمه.

حدثني ابن حميد الحمصي قال، حدثنا علي بن معبد, عن عبيد الله بن عمرو, عن عبد الكريم, عن عطاء, عن المحرَّر بن أبي هريرة قال: كنت مع أبي في سفر في رمضان, فكنت أصوم ويُفطر. فقال لي أبي: أما إنك إذا أقمتَ قَضيت.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة, عن عاصم مولى قريبة, قال: سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يَقضي.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة, عن عاصم مولى قريبة: أن رجلا صامَ في السفر، فأمرَهُ عروة أن يَقضي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن صبيح قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم, عن أبيه كلثوم: أنّ قومًا قدموا على عُمرَ بن الخطاب وقد صاموا رمضانَ في سفر, فقال لهم: والله لكأنكم كنتم تصُومون! فقالوا: والله يا أمير المؤمنين لقد صمنا! قال: فأطقتموه! قالوا: نعم. قال: فاقضوه، فاقضوه.

وعلة مَنْ قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره فرَضَ بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ صومَ شهر رمضان على من شهده مُقيمًا غير مسافر, وجعل على من كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله: « ومَنْ كان مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر » . قالوا: فكما غيرُ جائز للمقيم إفطارُ أيام شهر رمضان وَصَوم عدة أيام أخر مكانها - لأن الذي فرضَه الله عليه بشهوده الشهرَ صومُ الشهر دون غيره- فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيمًا، صوْمُه. لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر. واعتلوا أيضًا من الخبر بما:-

حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن موسى, عن أسامة بن زيد, عن الزهري, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. »

حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد قال، حدثنا يزيد بن عياض, عن الزهري, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصائمُ في السفر كالمفطر في الحضر » .

وقال آخرون: إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره، رخصها لعباده, والفرضُ الصوم. فمن صام فرضَه أدَّى, ومن أفطر فبرُخصة الله له أفطر. قالوا: وإن صام في سفر فلا قَضاءَ عليه إذا أقام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب قال، حدثنا عروة وسالم: أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أميرٌ على المدينة، فتذاكروا الصومَ في السفر، قال سالم: كان ابن عمر لا يصُوم في السفر. وقال عروة. وكانت عائشة تصوم. فقال سالم: إنما أخذت عن ابن عمر. وقال عروة: إنما أخذتُ عن عائشة. حتى ارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم عفوًا! إذا كان يُسرًا فصوموا، وإذا كان عُسرًا فأفطروا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال، حدثني رجل قال: ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق - عن الزهري، عن سالم بن عبد الله قال: خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان، فقال: إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه: أو: تَسعسع، ولم يشك يعقوب - فلو صمنا! فصام وصام الناس مَعه. ثم أقبل مرَّة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلالُ شهر رمضان، فقال: إن الله قد قَضَى السفر، فلو صمنا ولم نَثْلم شهرنا! قال: فصام وصام الناس معه. .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير، قال، حدثني أبي - وحدثنا محمد بن بشار قال، أخبرنا عبيد الله قال، أخبرنا بشير بن سلمان - عن خيثمةَ قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر، قال: قد أمرتُ غلامي أن يَصوم فأبى. قلت: فأين هذه الآية: « ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر » ؟ قال: نـزلت ونحن يومئذ نرتحلُ جياعًا وننـزل على غير شِبَع، وإنا اليوم نرتحل شِباعًا وننـزل على شِبَع .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة، عن أنس نحوه.

حدثنا هناد وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أنس: أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من أفطر فبرُخصة الله، ومن صام فالصومُ أفضل.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن أشعث بن عبد الملك، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص قال: الفطر في السفر رخصة، والصوم أفضل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو الفيض، قال: كان علي علينا أميرًا بالشام، فنهانا عن الصوم في السفر، فسألت أبا قِرْصافة - رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث، قال عبد الصمد: سمعتُ رجلا من قومه يَقول: إنه واثلة بن الأسقع - قال: لو صمتَ في السفر ما قضيت. .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بسطام بن مسلم، عن عطاء قال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرُخصة.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن كهمس قال: سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر، فقال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرخصة.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: من صام فحقٌّ أدَّاه، ومن أفطر فرُخصة أخذ بها.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، قال: الفطر في السفر رُخصة، والصومُ أفضل.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، قال: هو تَعليم، وليس بعَزم - يعني قول الله: « ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر » ، إن شاء صام وإن شاء لم يصم.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: في الرجل يسافر في رمضان، قال: إن شاء صام وإن شاء أفطر.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا العوّام بن حوشب قال: قلت لمجاهد: الصوم في السفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر. قال: قلت: فأيهما أحب إليك؟ قال: إنما هي رُخصة، وأن تصوم رمضان أحب إليّ.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد، أنهم قالوا: الصومُ في السفر، إن شاء صَام وإن شاء أفطر، والصوم أحب إليهم.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال لي مجاهد في الصوم في السفر - يعني صوم رمضان- : والله ما منهما إلا حلال، الصومُ والإفطار، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: صحبت أبا الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة، وكانوا يصومون رمضان وغيرَه في السفر.

حدثنا علي بن حسن الأزدي قال، حدثنا معافى بن عمران، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير: الفطرُ في السفر رُخصة، والصوم أفضل.

حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا صالح بن محمد بن صالح، عن أبيه قال: قلت للقاسم بن محمد: إنا نسافر في الشتاء في رمضان، فإن صمتُ فيه كان أهوَنَ عليَّ من أن أقضيه في الحر! فقال: قال الله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ما كان أيسرَ عليك فافعلْ .

قال أبو جعفر: وهذا القول عندنا أولى بالصواب، لإجماع الجميع على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضان - وهو ممن له الإفطار لمرضه- أنّ صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلومًا بذلك أن حكم المسافر حكمه في أنْ لا قضاءَ عليه إن صامه في سفره. لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمرَ به من قضاء عدة من أيام أخر، مثلُ الذي جعل من ذلك للمريض وأمرَ به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفايةٌ مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها. وذلك قول الله تعالى ذكره: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ، ولا عُسرَ أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عدةً من أيام أخر، وقد تكلف أداءَ فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدَّاه.

فإن ظن ذو غَباوة أنّ الذي صامه لم يكن فرضَهُ الواجبَ، فإن في قول الله تعالى ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، ما ينبئ أن المكتوبَ صومُه من الشهور على كل مُؤمن، هو شهرُ رمضان مسافرًا كان أو مقيمًا، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ شَهْرُ رَمَضَانَ وأن قوله: « ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر » معناه: ومن كان مريضًا أو على سفر فأفطرَ برُخصة الله، فعليه صوم عدة أيام أخر مكانَ الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله - إذْ سئل عن الصوم في السفر: « إن شئتَ فصم، وإن شئت فأفطر » - الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلال على صحة ما قُلنا في ذلك بغيره.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حَمزة سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر - وكانَ يسرُد الصوم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتَ فصُمْ وإن شئت فأفطر. .

حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهبّاري قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال: أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم، فأصومُ في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي رُخْصة من الله لعباده، فمن فعلها فحسنٌ جميل، ومن تركها فلا جُناح عليه. فكان حمزة يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر، حتى إنْ كان ليمرضُ فلا يُفطر. وكان أبو مُرَاوح يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. .

ففي هذا، مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا: من أن الإفطارَ رخصةٌ لا عزم، والبيانُ الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله: « وَمن كانَ مريضًا أو عَلى سَفر فعدةٌ من أيام أخر » .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرةً، فقد تظاهرت أيضًا بقوله: « ليس من البر الصيامُ في السفر » ؟

قيل: إن ذلك إذا كان الصيامُ في مثل الحال التي جَاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في ذلك لمن قال له.

حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجُلا في سفره قد ظُلِّل عليه، وعليه جماعة، فقال: « من هذا؟ قالوا: صائم. قال: ليس من البر الصوم في السفر » .

قال أبو جعفر: أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط، وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن، شعبة. .

2892م- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه، فقالوا: هذا رجل صائم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من البر أن تَصوموا في السفر. .

فمن بلغ منه الصوم ما بَلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك، فليس من البر صومه. لأن الله تعالى ذكره قد حرّم على كل أحد تعريضَ نفسه لما فيه هلاكها، وله إلى نجاتها سبيل. وإنما يُطلب البر بما نَدب الله إليه وَحضَّ عليه من الأعمال، لا بما نهى عنه.

وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر » فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظُلِّل عليه، إن كان قبل ذلك. وغيرُ جائز عليه أن يُضَاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيلُ ذلك، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاجُ بها في الدين.

فإن قال قائل: وكيف عطف على « المريض » ، وهو اسم بقوله: « أوْ على سفر » و « على » صفة لا اسم. .

قيل: جاز أن ينسق ب « على » على « المريض » ، لأنها في معنى الفعل. وتأويل ذلك: أو مسافرًا، كما قال تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [ يونس: 12 ] ، فعطف ب « القاعد، والقائم « على » اللام » التي في « لجنبه » ، لأن معناها الفعل، كأنه قال: دعانا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يريد الله بكم، أيها المؤمنون - بترخيصه لكم في حال مرضكم وسَفركم في الإفطار، وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد بُرئكم من مرضكم- التخفيفَ عليكم، والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال « ولا يُريد بكم العسر » ، يقول: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر » ، قال: اليسر: الإفطار في السفر، والعسر الصيام في السفر.

حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر، فقال: يُسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر. قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « يريد الله بكم اليسر » - قال: هو الإفطار في السفر، وَجعل عدةً من أيام أخر- « ولا يريد بكم العسر » .

حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يريد الله بكمُ اليسر ولا يُريد بكم العسر » ، فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس، عن ابن عباس قال: لا تَعِبْ على من صام ولا على من أفطر - يعنِي في السفر في رمضان- « يريد الله بكم اليسر ولا يُريد بكم العسر » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضيل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمانَ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله: « يريد الله بكمُ اليسر » - الإفطار في السفر- « ولا يريد بكم العسر » ، الصيام في السفر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولتكملوا العدة » ، عدةَ ما أفطرتم، من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاءَ عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم، كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولتكملوا العدة » ، قال: عدة ما أفطر المريض والمسافر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولتكملوا العدة » ، قال: إكمالُ العدة: أنَ يصومَ ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض [ إلى ] أنْ يُتمه، فإذا أتمه فقد أكمل العدة. .

فإن قال قائل: ما الذي عليه بهذه « الواو » التي في قوله: « ولتكملوا العدة » عَطَفَتْ؟ .

قيل: اختلف أهل العربية في ذلك.

فقال بعضهم: هي عاطفة على ما قبلها، كأنه قيل: ويُريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله.

وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه « اللام » التي في قوله: « ولتكملوا » لام « كي » لو ألقيتْ كان صوابًا. قال: والعرب تُدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها، ولا تكون شرطًا للفعل الذي قبلها وفيها « الواو » ، ألا ترى أنك تقول: « جئتك لتحسن إلي » ، ولا تقول: « جئتك ولتحسن إليّ » ، فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن جئتك. قال: وهذا في القرآن كثيرٌ، منه قوله: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [ سورة الأنعام: 113 ] ، وقوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [ سورة الأنعام: 75 ] ، ولو لم تكن فيه « الواو » كان شرطًا على قولك: أريْناهُ ملكوت السماوات والأرض ليكون. فإذا كانت « الواو » فيها فلها فعل « مضمر » بعدها، و « ليكون من الموقنين » ، أريناه. .

قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في العربية. لأن قوله: « ولتكملوا العدة » ، ليس قبله « لام » بمعنى « اللام » التي في قوله: « ولتكملوا العدة » فتعطف بقوله: « ولتكملوا العدة » عليها - وإن دخول « الواو » معها، يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها، إذ كانت « الواو » لو حذفت كانت شرطًا لما قبلها من الفعل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولتعظِّموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصَّكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه، وتشكروه على ذلك بالعبادة لهُ.

والذكر الذي حضهم الله على تعظيمه به، « التكبير » يوم الفطر، فيما تأوله جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن داود بن قيس، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: « ولتكبروا الله على ما هداكم » ، قال: إذا رأى الهلال، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول: « ولتكبِّروا الله على ما هداكم » ، قال: بلغنا أنه التكبير يوم الفطر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان ابن عباس يقول: حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبرِّوا الله حتى يفرغوا من عيدهم، لأن الله تعالى ذكره يقول: « ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم » . قال ابن زيد: يَنبغي لهم إذا غَدوا إلى المصلَّى كبروا، فإذا جلسوا كبروا، فإذا جاء الإمام صَمتوا، فإذا كبر الإمام كبروا، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس: قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: والجماعةُ عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلَّى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 185 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.

و « لعل » في هذا الموضع بمعنى « كي » ولذلك عطف به على قوله: « ولتكملوا العدة ولتكبروا الله عَلى ما هَداكم ولَعلكم تَشكرون » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( 186 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم.

وقد اختلف فيما أنـزلت فيه هذه الآية.

فقال بعضهم: نـزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنـزل الله: « وإذا سألك عبادي عَني فأني قريبٌ أجيبُ » الآية.

حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبدة السجستاني، عن الصُّلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أين ربُّنا؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا سألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان » الآية .

وقال آخرون: بل نـزلت جوابًا لمسألة قومٍ سَألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ ساعة يدعون الله فيها؟

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما نـزلت: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ سورة غافر: 60 ] قالوا: في أي ساعة؟ قال: فنـزلت: « وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب » إلى قوله: « لعلهم يَرُشدون » .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « أجيب دَعوَة الداع إذا دعان » ، قالوا: لو علمنا أيَّ ساعة نَدْعو! فنـزلت: « وإذا سَأَلكَ عِبَادي عَنّي فإني قريب » الآية.

حدثني القاسم. قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه: لما نـزلت: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو! فنـزلت: « وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون » .

حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا سَألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دَعان » ، قال: ليس من عَبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروهًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا الليث بن سعد عن ابن صالح، عمن حدثه: أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أعطى أحدٌ الدعاءَ ومُنع الإجابة، لأن الله يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ .

ومعنى متأوِّلي هذا التأويل: وإذا سألك عبادي عني: أي ساعة يدعونني؟ فإني منهم قريب في كل وقت، أجيب دعوة الداع إذا دعان.

وقال آخرون: بل نـزلت جوابًا لقول قوم قالوا - إذْ قالَ الله لهم: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ - : إلى أين ندعوه!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، قالوا: إلى أين؟ فنـزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ سورة البقرة: 115 ] .

وقال آخرون: بل نـزلت جوابًا لقوم قالوا: كيف ندعو؟

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما أنـزل الله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، قال رجال: كيف ندعو يا نبي الله؟ فأنـزل الله: « وإذا سَألك عبادي عَنّي فإنّي قريبٌ » إلى قوله: « يرشدون » .

وأما قوله: « فليستجيبوا لي » ، فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة. يقال منه: « استجبت له، واستجبته » ، بمعنى أجبته، كما قال كعب بن سعد الغنويّ:

وَدَاعٍ دَعَـا يَـامَنْ يُجِـيبُ إلَـى النَّدَى فَلَــمْ يَسْــتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيب

يريد: فلم يجبه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعةٌ غيره.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: « فليستجيبوا لي » ، قال: فليطيعوا لي، قال: « الاستجابة » ، الطاعة.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال: سألت عبد الله بن المبارك عن قوله: « فليستجيبوا لي » ، قال: طاعة الله.

وقال بعضهم: معنى « فليستجيبوا لي » : فليدعوني

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني، قال « فليستجيبوا لي » ، فليدعوني.

وأما قوله: « وليؤمنوا بي » فإنه يعني: وَليصدِّقوا. أي: وليؤمنوا بي، إذا همُ استجابوا لي بالطاعة، أني لهم من وَرَاء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها.

وأما الذي تأوَّل قوله: « فليستجيبوا لي » ، أنه بمعنى: فليدعوني، فإنه كان يتأوّل قوله: « وليؤمنوا بي » ، وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني: « وليؤمنوا بي » ، يقول: أني أستجيب لهم.

وأما قوله: « لعلهم يَرشُدُون » فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة، وليؤمنوا بي فيصدِّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم، وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا، كما:-

حدثني به المثني قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله: « لعلهم يَرشدون » ، يقول: لعلهم يهتدون.

فإن قال لنا قائل: وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره؟ فأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله فلا يجابُ لهم دُعاء، وقد قال: « أجيبُ دَعوة الداع إذا دَعان » ؟

قيل: إن لذلك وجهين من المعنى:

أحدهما: أن يكون معنيًّا « بالدعوة » ، العملُ بما نَدب الله إليه وأمر به. فيكون تأويل الكلام. وإذا سألك عبادي عَني فإنى قريبٌ ممن أطاعني وعَمل بما أمرته به، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني. فيكون معنى « الدعاء » : مسألة العبد ربَّه وما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى « الإجابة » من الله التي ضمنها له، الوفاءُ له بما وعد العاملين له بما أمرهم به، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: « إنّ الدعاء هو العبادة » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جويبر، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدعاءَ هُوَ العبادة. ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [ سورة غافر: 60 ] .

فأخبر صَلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته، بالعمل له والطاعة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسن كان يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني منصور بن هارون، عن عبد الله بن المبارك، عن الربيع بن أنس، عن الحسن أنه قال فيها: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حقٌّ على الله أنَ يستجيب للذين آمنوا وعَملوا الصالحات ويزيدُهم من فضله.

والوجه الآخر: أن يكون معناه: أجيب دعوة الداع إذا دَعان إن شئت. فيكون ذلك، وإن كان عامًّا مخرُجه في التلاوة، خاصًّا معناهُ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أحل لكم » ، أطلق لكم وأبيح .

ويعني بقوله: « ليلة الصيام » ، في ليلة الصيام.

فأما « الرفث » فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع، يقال: « هو الرفثُ والرُّفوث » . .

وقد روي أنها في قراءة عبد الله: « أحل لكم ليلة الصيام الرفوثُ إلى نسائكم » .

وبمثل الذي قلنا في تأويل « الرفث » قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر عن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الرفث، الجماعُ، ولكن الله كريم يَكني.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، مثله.

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث، النكاح.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الرفث: غِشيانُ النساء.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم » ، قال: الجماع.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: الرفث: هو النكاح.

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكبير البصري قال، حدثنا الضحاك بن عثمان قال، سألت سالم بن عبد الله عن قوله: « أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم » ، قال: هو الجماع.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم » ، يقول: الجماع.

« والرفث » في غير هذا الموضع، الإفحاشُ في المنطق، كما قال العجاج:

عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

 

القول في تأويل قوله تعالى : هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم لباسٌ لكمُ وأنتم لباسٌ لهن.

فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا، ونحن لهن لباسًا و « اللباس » إنما هو ما لبس؟

قيل: لذلك وجهان من المعاني:

أحدهما: أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا، لتجرُّدهما عند النوم، واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه، بمنـزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما: هو « لباس » لصاحبه، كما قال نابغة بني جعدة:

إِذَا مَــا الضَّجِــيعُ ثَنَــى عِطْفَهَـا تَــدَاعَتْ, فكَــانَتْ عَلَيْــهِ لِبَاسَـا

ويروي: « تثنت » فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد ب « اللباس » ، كما يكنى ب « الثياب » عن جسد الإنسان، كما قالت ليلى، وهي تصف إبلا ركبها قومٌ:

رَمَوْهَـا بِـأَثْوَابٍ خِفَـافٍ, فَـلا تَرَى لَهَــا شَــبَهًا إلا النَّعَــامَ المُنَفَّـرَا

يعني: رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذليّ تَــبَرَّأُ مِــنْ دَمِ القَتيــلِ وَوَتْـرِهِ وَقَـدْ عَلِقَـتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُهَا

يعني ب « إزارها » ، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول:

حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع: « هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهنّ » ، يقول: هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. .

والوجه الآخر: أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه « لباسًا » ، لأنه سَكنٌ له، كما قال جل ثناؤه: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا [ سورة الفرقان: 47 ] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [ سورة الأعراف: 189 ] فيكون كل واحد منهما « لباسًا » لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.

وقد يقال لما سَتر الشيء وَواراه عَن أبصار الناظرين إليه: « هو لباسه، وغشاؤه » ، فجائز أن يكونَ قيل: « هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن » ، بمعنى: أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه - فيما يكون بينكم من الجماع- عن أبصار سائر الناس.

وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما:-

حدثنا به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « هن لباس لكم وأنتم لباسٌ لهن » ، يقول: سكنٌ لهن.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن » ، قال قتادة: هُنّ سكنٌ لكم، وأنتم سكنٌ لهنّ.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « هن لباسٌ لكم » يقول: سكن لكم، « وأنتم لباس لهن » ، يقول: سكن لهن.

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله: « هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن » ، قال: المواقعة.

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم، عن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قوله: « هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن » ، قال: هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذه الخيانة التي كانَ القوم يختانونها أنفسهم، التي تابَ الله منها عليهم فعفا عنهم؟

قيل: كانت خيانتُهم أنفسَهم التي ذكرها الله في شيئين، أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشربُ في الوقت الذي كانَ حرامًا ذلك عليهم، كما:-

حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبه، عن عمرو بن مرة قال، حدثنا ابن أبي ليلى: أن الرجل كان إذا أفطرَ فنام لم يأتها، وإذا نام لم يطعم، حتى جاء عمر بن الخطاب يُريد امرأته، فقالت امرأته: قد كنتَ نمتَ! فظنّ أنها تعتلُّ فوقع بها. قال: وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالوا: نسخّن لك شيئًا؟...... قال: ثم نـزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ الآية.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلما دخل رَمضان كانوا يصومون، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام، لم يأكل إلى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخٌ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئًا سخنًا! قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إني قد نمت! فلم يعذرها، وظن أنها تعتلّ، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرًا وبطنًا، فأنـزل الله في ذلك: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ، وقال: « فالآن بَاشروهن » ، فعفا الله عن ذلك، وكانت سُنَّةً.

حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له، قال: فلما كان عند فطره نام، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي أرى بكَ جهدًا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء، فأنـزل الله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ، إلى آخر الآية. .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حَدّث به عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدهم، لم يأكُل شيئًا حتى يكون من الغد. فجاء رجلٌ من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلَّ، فغلبته عينه فنام، وأصبح من الغد مجهودًا، فنـزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ . .

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، وكان توجَّه ذلك اليوم فعمِل في أرضه، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نمت! فلم ينتصف النهارُ حتى غُشي عليه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت فيه هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ إلى مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ففرحوا بها فرحًا شديدًا .

حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: « علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشروهن » يعني انكحوهن، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .

حدثني المثني قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، قال: حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة: أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناسُ في رمضان إذا صامَ الرجل فأمسَى فنام، حُرِّم عليه الطعام والشراب والنساءُ حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت: إني قد نمت! فقال: ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنـزل الله تعالى ذكره: « علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عَليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن » ... الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا ثابت: أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان، فاشتد ذلك عليه، فأنـزل الله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ .

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ إلى: « وعفا عَنكم » . كان الناس أوّلَ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصوم يومه، حتى إذا أمسى طَعِم من الطعام فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صُليت حُرّم عليهم الطعامُ حتى يمسي من الليلة القابلة. وإنّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوّلت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته، فلما اغتسلَ أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيتَ من الملامة. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، فانها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ قال: لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعُذره في آية من القرآن، وأمر الله رسوله أن يَضَعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ إلى « علم الله أنكم كنتم تَختانون أنفسكم » يعني بذلك: الذي فعل عمر بن الخطاب فأنـزل الله عفوه. فقال: « فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن بَاشرُوهن » إلى: مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ قال: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رَقَد حرَّم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يَختانون أنفسهم في ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل [ ذلك ] لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان، فإذا أمسى - ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه: وكان منهم رجال يختانون أنفسهم، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه، فعفا الله عنهم، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله، وفي الليل كله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن شَرُوس، عن عكرمة مولى ابن عباس: أن رجلا - قد سَمَّاه [ فنسيته ] - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، جاء ليلةً وهو صائم، فقالت له امرأته: لا تَنمْ حتى نصنعَ لك طعامًا! فنام، فجاءت فقالت: نمت والله! فقال: لا والله! قالت: بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة، وأصبح صائمًا فَغُشى عليه، فأنـزلت الرخصة فيه .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « علم الله أنكم كُنتُم تَختانون أنفسكم » وكان بدءُ الصيام أمِروا بثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين غدوة، وركعتين عشية، فأحلّ الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا، وكان الطعام والشرابُ وغشيان النساءَ لهم حلالا ما لم يرقدوا، فإذا رَقَدوا حُرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يُصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، ثم أحل الله لهم [ بعد ] ذلك الطعام والشراب وغشيانَ النساء إلى طلوع الفجر .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ قال: كان الناس قبل هذه الآية إذا رَقَد أحدُهم من الليل رَقْدًة، لم يحلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة، فوقع بذلك بعض المسلمين، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب، ومنهم من وقع على امرأته، فرخص الله ذلك لهم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: كُتب على النصارى رَمَضان، وكُتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم، فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة، وكان يَعمل في حيطان المدينة بالأجر فأتى أهله بتمر فقال لامرأته: استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سَخينةً، لعليّ أن آكله، فإن التمر قد أحرق جَوْفي! فانطلقت فاستبدلت له، ثم صنعتْ فأبطأتْ عليه فنام، فأيقظته، فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، وأصبح صائما; فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشيّ، فقال: ما لك يا أبا قيس! أمسيتَ طليحا؟ فقص عليه القصة.

وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية لهُ - في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم- فلما سمع عمر كلام أبي قيس، رَهبَ أن ينـزل في أبي قيس شيء، فتذكّرُ هُو، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أعوذُ بالله إنّي وقعتُ على جاريتي، ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عُمر، تكلم أولئك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنتَ جديرًا بذلك يا ابن الخطاب! فنُسِخ ذلك عنهم، فقال: « أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفث إلى نسائكم هُن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن عَلم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم » ، - يقول: إنكم تقعون عليهن خيانةً- « فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم » - يقول: جامعوهن، ورجع إلى أبي قيس فقال- : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ قال: كانوا في رمضان لا يمسُّون النساءَ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة، فإن مسُّوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام، فقال: قد اختنت نفسي! فنـزل القرآن، فأحل لهم النساء والطعام والشرابَ حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال: وقال مجاهد: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائمُ منهم في رمضان، فإذا أمسى أكل وشرب وَجامع النساء، فإذا رَقد حرُم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة: وكان منهم رجال يختانون أنفسَهم في ذلك، فعفا عنهم وأحلَّ لهم بعد الرقاد وَقبله في الليل، فقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ... الآية.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ مثل قول مجاهد - وزاد فيه: أن عمر بن الخطاب قال لامرأته: لا ترقدي حتى أرْجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع، فقال لها: ما أنت براقدة! ثم أصابها، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنـزلت هذه الآية. قال عكرمة: نـزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الآية في أبي قيس بن صرْمة، من بني الخزرج، أكل بعد الرقاد.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخٌ كبيرٌ، وهو صائم فلم يُهيئوا له طعاما، فوضع رأسه فأغفى، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له: كل. فقال: إني قد نمتُ! قالت: إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا، فأنـزل الله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ .

فأما « المباشرة » في كلام العرب، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة، و « بشرة » الرجل: جلدته الظاهرة.

وإنما كنى الله بقوله: « فالآنَ باشروهن » عن الجماع. يقول: فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

وبالذي قلنا في « المباشرة » قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان وحدثنا عبد الحميد بن سنان، قال، حدثنا إسحاق، عن سفيان وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان ، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكنّ الله كريمٌ يكني.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس نحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فالآن باشرُوهن » انكحُوهنّ.

حدثني محمد بن سعد، قال حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: المباشرة النكاحُ.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: « فالآن باشرُوهن » قال: الجماع. وكل شيء في القرآن من ذكر « المباشرة » فهو الجماع نفسه، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء: في الطعام والشراب والنساء.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، قال أبو بشر، أخبرنا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فالآن بَاشروهن » يقول: جامعوهن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المباشرةُ الجماع.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: سمعت مجاهدا يقول: المباشرة، في كتاب الله، الجماع.

حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، قال الأوزاعي: حدثنا من سمع مجاهدا يقول: المباشرة في كتاب الله، الجماع.

واختلفوا في تأويل قوله: « وابتغوا مَا كتب الله لكم » فقال بعضهم: الولد.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبدة بن عبد الله الصفَّار البصري قال، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الولد .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود، عن شعبة قال: سمعت الحكم: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الولد.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد الله، عن عكرمة قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الولد.

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الولد.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى: « وابتغوا ما كتب الله لكم » فهو الولد.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وابتغوا ما كتب الله لكم » يعني: الولدَ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الولد، فإنْ لم تلد هذه فهذه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن في قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: هو الولد.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: ما كتب لكم من الولد.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الجماع.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: الولد .

وقال بعضهم: معنى ذلك ليلة القدر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: ليلةُ القدر. قال أبو هشام: هكذا قرأها معاذ.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » قال: ليلة القدر .

وقال آخرون: بل معناه: ما أحله الله لكم ورخصه لكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وابتغوا ما كتب الله لكم » يقول: ما أحله الله لكم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة في ذلك: ابتغوا الرخصة التي كتبتُ لكم.

وقرأ ذلك بعضهم: ( وَاتَّبِعُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ )

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الآية: « وابتغوا » أو « اتبعوا » ؟ قال: أيتهما شئت! قال: عليك بالقراءة الأولى.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال: « وابتغوا » - بمعنى: اطلبوا- « ما كتب الله لكم » يعني « الذي قَضَى الله تعالى لَكم. »

وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يُباح فيطلقُ لكم وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأةَ، مما كتب الله له في اللوح المحفوظ، وكذلك إن طلب ليلةَ القدر، فهو مما كتب الله له، وكذلك إن طلب ما أحلَّ الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ.

وقد يدخل في قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » جميعُ معاني الخير المطلوبة، غيرَ أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال: معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد، لأنه عَقِيبُ قوله: « فالآن باشرُوهن » بمعنى: جامعوهنّ، فَلأنْ يكون قوله: « وابتغوا ما كتب الله لكم » بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل، أشبهُ بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنـزيل، ولا خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود من الفجر » .

فقال بعضهم: يعني بقوله: « الخيط الأبيض » ، ضوءَ النهار، وبقوله: « الخيطِ الأسود » سوادَ الليل.

فتأويله على قول قائلي هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صَوْمكم، واشربوا، وبَاشروا نساءكم مبتغينَ ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوءُ النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أشعث، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره: « حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » قال: الليل من النهار.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » قال: حتى يتبين لكم النهار من الليل، « ثم أتموا الصيام إلى الليل » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وكلوا واشرَبوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل » فهما عَلَمان وحدَّان بَيِّنان فلا يمنعكم أذانُ مُؤذِّن مُراءٍ أو قليل العقل من سَحُوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يُرى بياضٌ ما على السحر يقال له: « الصبح الكاذب » كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سَحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقةٌ مُعترِضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا .

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود منَ الفجر » يعني الليل من النهار، فأحلَّ لكم المجامعة والأكل والشربَ حتى يتبين لكم الصبح، فإذا تبين الصبحُ حرِّم عليهم المجامعة والأكل والشربُ حتى يُتمُّوا الصيامَ إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل، وأمر بالإفطار بالليل.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، وقيل له: أرأيتَ قولَ الله تعالى: « الخيط الأبيضُ من الخيط الأسْود من الفجر » ؟ قال: إنك لعريض القفا، قال: هذا ذهابُ الليل ومجيءُ النهار. قيل له: الشعبي عن عدي بن حاتم؟ قال: نعم، حدثنا حصين .

وعلَّة من قال هذه المقالة، وتأوَّل الآية هذا التأويل ما:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت يا رسول الله، قول الله: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر » ؟ قال: هو بياض النهار وسوادُ الليل. .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَّمني الإسلام، ونَعت ليَ الصلوات، كيفَ أصَلي كلَّ صلاة لوقتها، ثم قال: إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتم الصيامَ إلى الليل. ولم أدر ما هو، ففعلتُ خَيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواءً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظتُ، غير « الخيط الأبيض من الخيط الأسود » ! قال: وما منعك يا ابن حاتم؟ وتبسَّم كأنه قد علم ما فعلت. قلتُ: فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرتُ فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نَواجذُه، ثم قال: ألم أقلْ لك « من الفجر » ؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن إسماعيل قال، حدثنا داود وابن علية جميعا، عن مطرِّف، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما « الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود » أهما خيطان أبيض وأسود؟ فقال: وإنك لعَريضُ القفا إن أبصرْت الخيطين. ثم قال: لا ولكنه سوادُ الليل وبياضُ النهار. .

حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: نـزلت هذه الآية: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود » فلم ينـزل « من الفجر » قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبَّين له. فأنـزل الله بعد ذلك: « من الفجر » فعلموا إنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ .

وقال متأولو قول الله تعالى ذكره: « حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » أنه بياض النهار وسواد الليل- : صفة ذلك البياض أن يكون منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءُهُ الطرق، فأما الضوء الساطع في السماء، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله: « الخيط الأبيض من الخيط الأسود » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز: الضوء الساطعُ في السماء ليس بالصبح، ولكن ذاك « الصبح الكاذب » ، إنما الصبح إذا انفضح الأفق .

حدثني سَلْم بن جنادة السوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: لم يكونوا يعدُّون الفجر فجرَكم هذا، كانوا يعدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرُق .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن مسلم: ما كانوا يرون إلا أنّ الفجر الذي يَستفيض في السماء.

حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطَع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرّم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرِّم الشراب.

حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن محمد بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: [ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ] : الفجر فجران، فالذي كأنه ذنَب السِّرحان لا يحرّم شيئا، وأما المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يُحل الصلاة ويُحرّم الصوم. .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة، عن أبي هلال، عن سَوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يمنعكم من سَحُوركم أذانُ بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجرُ المستطيرُ في الأفق » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال، حدثنا شعبة، عن سوادة قال: سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول: « لا يغرنّكم نداء بلال ولا هذا البياضُ حتى يبدوَ الفجرُ وَينفجر » .

وقال آخرون: الخيطُ الأبيض: هو ضوء الشمس، والخيط الأسود: هو سوادُ الليل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، قال: سافر أبي مع حُذيفة قال: فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجرُ قال: هل منكم من أحد آكلٍ أو شاربٍ؟ قال: قلت له: أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: بلى! قال: ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نـزل فتسحَّر .

حدثنا هناد وأبو السائب، قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان، فلما طلع الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أمَّا رجل يريدُ أن يصوم فلا. قال: لكنّي! قال: ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحَّر؟ قال: قلنا أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: لكنّي! ثم نـزل فتسحَّر، ثم صلى .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان - : « قد قامت الصلاة » . قال: وما رأيت أحدًا كان أفعلَ له من الأعمش، وذلك لما سمع، قال: حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال: هل منكم متسحِّرٌ الساعة؟ قال: ثم سار، ثم قال حذيفة: هل منكم متسحِّر الساعة؟ قال: ثم سار حتى استبطأنا الصلاة، قال: فنـزل فتسحّر .

حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة، عن علي: أنه لما صلى الفجرَ قال: هذا حين يتبيّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن الصلت قال، حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار، عن أبيه، عن البراء، قال: تسحرت في شهر رمضان، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود، فقال: اشربْ. فقلت: إنّي قد تسحَّرت! فقال: اشرب! فشربنا، ثم خرجنا والناس في الصلاة .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني، عن جبله بن سحيم، عن عامر بن مطر، قال: أتيت عبد الله بن مسعود في داره، فأخرجَ فضلا من سَحُوره، فأكلنا معه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا .

حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن معقل، عن سالم مولى أبي حذيفة قال، كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان، فأتيت ذات ليلة فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده: أنْ كُفَّ، ثم أتيته مرة أخرى، فقلت له: ألا تأكلُ يا خليفة رسول الله؟ فأومأ بيده: أنْ كُف. ثم أتيته مرة أخرى، فقلت: ألا تأكل يا خليفةَ رسول الله؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده: أنْ كُفّ. ثم أتيته فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ قال: هات غَداءك! قال: فأتيته به فأكل، ثم صلى ركعتين، ثم قام إلى الصلاة .

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الوتر بالليل والسَّحور بالنهار.

وقد رُوي عن إبراهيم غير ذلك:

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد، عن إبراهيم، قال: السحور بليل، والوتر بليل.

حدثنا حكام، عن ابن أبي جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: السحور والوتر ما بين التَّثْويب والإقامة.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن شبيب بن غرقدة، عن عروة، عن حبان، قال: تسحرنا مع عليّ، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة، فصلينا .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن شبيب، عن حبان بن الحارث، قال: مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحَّر، فلما انتهيتُ إلى المسجد أقيمت الصلاة .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: صلى عليُّ بن أبي طالب الفجرَ، ثم قال: هذا حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .

وعلة من قال هذا القول: أنَّ القول إنما هو النهارُ دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوعُ الشمس، كما أنّ آخرَه غروبُها. قالوا: ولو كان أوله طلوعُ الفجر، لوَجب أن يكون آخرَه غروبُ الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها. قالوا: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طُلوع الفجر، أوضحُ الدليل على صحة قولنا.

ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: قلت: تسحَّرتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لو أشاءُ لأقولُ هو النهارُ إلا أنّ الشمس لم تطلع .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ما كذب عاصمٌ على زرّ، ولا زرّ على حذيفة، قال: قلتُ له: يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم هو النهارُ إلا أن الشمس لم تطلع .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحَّر وأنا أرى مواقعَ النَّبل. قال: قلت أبعدَ الصبح؟ قال: هو الصبح، إلا أنه لم تطلع الشمس .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: أصبحت ذات يوم فغدوتُ إلى المسجد، فقلت: لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلتُ، فإذا هو يسخّن له طعامٌ، فقال: اجلس حتى تطعَم. فقلت: إنّي أريد الصوم. فقرّب طعامه فأكل وأكلت معه، ثم قام إلى لِقْحة في الدار، فأخذ يحلُب من جانب وأحلُب أنا من جانب، فناولني، فقلت: ألا ترى الصبح؟ فقال: اشرب! فشربتُ، ثم جئتُ إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة، فقلت له: أخبرني بآخر سَحور تسحَّرته مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمسُ .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يضعه حتى يقضيَ حاجته منه » .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله- وزاد فيه: وكان المؤذن يؤذن إذا بَزَغ الفجر .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد قالا جميعا، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: أقيمت الصلاة والإناءُ في يد عمر، قال: أشرَبُها يا رسول الله؟ قال: نعم!، فشربها .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال بلال: « أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنه بالصلاة وهو يريد الصوم، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرج إلى الصلاة . »

حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل، عن بلال قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرجنا إلى الصلاة .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، التأويلُ الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « الخيط الأبيض » بياض النهار، « والخيط الأسود » سوادُ الليل. وهو المعروف في كلام العرب، قال أبو دُؤاد الإياديّ:

فَلَمَّـــا أضَــاءت لَنَــا سُــدْفَةٌ وَلاحَ مِــنَ الصُّبْــحِ خَـيْطٌ أَنَـارَا

وأما الأخبارُ التي رويتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحَّر، ثم خرج إلى الصلاة، فإنه غير دافع صحةَ ما قلنا في ذلك؛ لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شَرب قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة، إذ كانت الصلاةُ - صلاة الفجر- هي على عهده كانت تُصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبيَّن طلوعه ويؤذَّن لها قبل طلوعه.

وأما الخبر الذي رُوي عن حذيفة: « أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مَواقعَ النَّبل » ، فإنه قد استُثبتَ فيه فقيل له: أبعد الصبح؟ فلم يجب في ذلك بأنه كان بعد الصبح، ولكنه قال: « هو الصبح » . وذلك من قوله يُحتمل أن يكون معناهُ: هو الصبح لقربه منه، وإن لم يكن هو بعينه، كما تقول العرب: « هذا فلان » شبها، وهي تشير إلى غير الذي سمَّته، فتقول: « هو هو » تشبيها منها له به، فكذلك قول حذيفة: « هو الصبح » ، معناه: هو الصبح شبها به وقربا منه.

وقال ابن زيد في معنى « الخيط الأبيض والأسود » ما:

حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر » قال: « الخيط الأبيض » الذي يكون من تحت الليل، يكشف الليل - « والأسود » ما فوقه.

وأما قوله: « من الفجر » فإنه تعالى ذكره يعني: حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود الذي هو من الفجر. وليس ذلك هوَ جميعَ الفجر، ولكنه إذا تبيَّن لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل، فمن حينئذ فصُوموا، ثم أتِمُّوا صيامكم من ذلك إلى الليل.

وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « منَ الفجر » قال: ذلك الخيط الأبيضُ هو من الفجر نسبةً إليه، وليس الفجر كله، فإذا جاء هذا الخيط، وهو أوله، فقد حلت الصلاةُ وحَرُم الطعام والشراب على الصائم.

قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره: « وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيامَ إلى الليل » أوضحُ الدلالة على خطأ قول من قال: حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزَمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة.

فمن زعم أنّ له أنْ يتجاوز ذلك الحدّ، قيل له: أرأيتَ إن أجازَ له آخَرُ ذلك ضحوةً أو نصف النهار؟

فإن قال: إنّ قائلَ ذلك مخالف للأمة.

قيل له: وأنتَ لما دلَّ عليه كتاب الله ونقلُ الأمة مخالفٌ، فما الفرق بينك وبينه من أصْل أو قياس؟

فإن قال: الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل، والنهارُ من طلوع الشمس.

قيل له: كذلك يقول مخالفوك، والنهار عندهم أوَّله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداءُ طلوعها دون أن يتتامَّ طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداءُ غروبها دون أن يتتامَّ غروبها.

ويقال لقائلي ذلك إن كان « النهار » عندكم كما وصفتم، هو ارتفاع الشمس، وتكامل طُلوعها وذهاب جميعُ سدْفة الليل وَغبَس سواده - فكذلك عندكم « الليل » : هو تتامُّ غروب الشمس، وذهاب ضيائها، وتكامل سواد الليل وظلامه؟

فإن قالوا: ذلك كذلك!

قيل لهم: فقد يجبُ أن يكون الصوم إلى مَغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!

فإن قالوا: ذلك كذلك! أوجبوا الصومَ إلى مغيب الشفق الذي هوَ بياضٌ. وذلك قولٌ إنْ قالوه مدفوعٌ بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مُجمعةً عليه - الخطأُ والسهوُ، [ وكفى بذلك شاهدا ] على تخطئته .

وإن قالوا: « بل أول الليل » ابتداء سُدْفته وظلامه ومَغيبُ عَين الشمس عنا.

قيل لهم: وكذلك « أول النهار » : طلوع أوّل ضياء الشمس ومغيب أوَائل سُدفة الليل.

ثم يعكس عليه القول في ذلك، ويُسأل الفرقَ بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأما « الفجر » فإنه مصدر من قول القائل: « تفجَّر الماءُ يتفجَّرُ فجرًا » ، إذا انبعثَ وجرى، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس « فجر » ، لانبعاث ضوئه عليهم، وتورُّده عليهم بطرُقهم ومحاجِّهم، تفجُّرَ الماء المتفجِّر من منبعه.

وأما قوله: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » فإنه تعالى ذكره حَدَّ الصوم بأن آخرَ وقته إقبالُ الليل - كما حدَّ الإفطارَ وإباحةَ الأكل والشرب والجماع وأوَّل الصوم بمجيء أول النهار وأوَّل إدبار آخر الليل، فدلّ بذلك على أن لا صومَ بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم وعلى أنّ المواصل مجوِّعٌ نفسه في غير طاعة ربه. كما: -

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم بن عمر، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل وأدبر النهارُ وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم. .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن الشيباني وحدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو معاوية وحدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني قالوا جميعا في حديثهم، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم، فلما غَرَبت الشمسُ قال لرجل: انـزل فاجدَحْ لي. قالوا: لو أمسيت يا رسول الله! فقال: انـزل فاجدح. فقال الرجل: يا رسول الله لو أمسيت! قال: انـزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله إن علينا نهارا! فقال له الثالثة، فنـزل فجدح له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا - وضرب بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رفيع، قال: فرض الله الصيام إلى الليل، فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل، وإن شئت فلا تأكل .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية: أنه سُئل عن الوصال في الصوم فقال: افترض الله على هذه الأمَّة صومَ النهار، فإذا جاءَ الليل فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.

حدثني يعقوب، قال: حدثني ابن علية، عن داود بن أبي هند، قال: قال أبو العالية في الوصال في الصوم، قال: قال الله: « ثم أتموا الصيام إلى الليل » فإذا جاء الليل فهو مفطر، فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.

حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين، عن مسعر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: أتموا الصيامَ إلى الليل - يعني: أنها كرهت الوصال.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه وصال مَنْ واصَل؟ فقد علمت بما:

حدثكم به أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، قال: كان عبد الله بن الزبير يُواصل سبعة أيام، فلما كبِر جعلها خمسا، فلما كبِر جدًّا جعلها ثلاثا.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن عبد الملك، قال: كان ابن أبي يعمر يفطر كل شهر مرة.

حدثنا ابن أبي بكر المقدّمي قال، حدثنا الفروي، قال: سمعت مالكا يقول: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلةَ ستَّ عشرة وليلة سبعَ عشرة من رمضان لا يفطر بينهما، فلقيته فقلت له: يا أبا الحارث ماذا تجدُه يقوِّيك في وصَالك؟ قال: السمْن أشرُبه أجده يُبلّ عروقي، فأما الماء فإنه يخرج من جسدي .

وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك، ممن يطولُ بذكرهم الكتاب؟

قيل: وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة لا على طلب البرّ لله بفعله. وفعلهم ذلك نظيرُ ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله:

« اخشَوشِنوا وَتمعْددوا، وانـزوا على الخيل نـزوًا، واقطعوا الرُّكُب وامشوا حُفاة » .

يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم، لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خَفْض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبُنوا ويحتموا عن أعدائهم.

وقد رَغِب - لمن واصل - عن الوصال كثيرٌ من أهل الفضل:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أنّ ابن أبي نُعم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقومَ، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرَك هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم رَجمُوه .

ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصال التي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مُكتفًى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن الوصال، قالوا: إنك تُواصلُ يا رَسول الله! قال: إني لست كأحدٍ منكم، إني أبيت أُطعَم وأسقَى .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذنُ بالوصال من السحر إلى السَّحر.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا شعيب، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل حتى السَّحر. قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إنّي أبيت لي مُطعم يُطعمني، وَساقٍ يسقيني .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو إسرائيل العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن أمِّ وَلد حاطب بن أبي بَلتعة: أنها مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحَّر، فدعاها إلى الطعام فقالت: إنّي صَائمة، قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمد صلى الله عليه وسلم من السَّحر إلى السَّحر. .

فتأويل الآية إذًا: ثم أتموا الكفَّ عما أمركم الله بالكفّ عنه، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل، ثم حَلّ لكم ذلك بعدَه إلى مثل ذلك الوقت. كما:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « ثم أتمُّوا الصيامَ إلى الليل » قال: من هذه الحدود الأربعة، فقرأ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فقرأ حتى بَلغ: « ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل » وكان أبي وغيره من مَشيختِنا يقولون هذا ويتلونه علينا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره - بقوله: « ولا تباشرُوهن » لا تجامعوا نساءكم .

وبقوله: « وأنتم عَاكفونَ في المساجد » يقول: في حال عُكوفكم في المساجد، وتلك حال حَبْسهم أنفسَهم على عبادة الله في مساجدهم.

« والعكوف » أصله المقام، وحبسُ النفس على الشيء كما قال الطِّرِمَّاح بن حَكيم:

فَبَــاتَ بَنَـاتُ اللَّيْـلِ حَـوْلِيَ عُكفًّـا عُكُــوفَ البَـواكِي بَيْنَهُـنَّ صَـرِيعُ

يعني بقوله: « عكفا » ، مقيمة، وكما قال الفرزدق:

تَــرَى حَــوْلَهُنَّ المُعْتَفِيـنَ كـأنَّهُمْ عَـلَى صَنَـمٍ فِـي الجَاهِلِيَّـةِ عُكَّـفُ

وقد اختلف أهل التأويل في معنى « المباشرة » التي عنى الله بقوله: « ولا تُباشروهن » . فقال بعضهم: معنى ذلك الجماعُ دون غيره من معاني « المباشرة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: « ولا تُباشروهنّ وأنتم عَاكفون في المساجد » - في رمضان أو في غير رمضان، فحرَّم الله أن يَنكح النساء ليلا ونهارا حتى يَقضي اعتكافه.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » قال: الجماع.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك، قال: كانوا يُجامعون وهم مُعتكفون، حتى نـزلت: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك في قوله: « ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد » قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » يقول: لا تقرَبوهن ما دمتم عاكفين في مسجد ولا غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كان أناس يُصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك.

وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » ، قال: كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأخبرهم أنّ ذلك لا يصلح حتى يَقضيَ اعتكافه.

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » يقول: من اعتكف فإنه يصوم، لا يَحل له النساء ما دام معتكفا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » قال: الجوارُ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان ابن عباس يقول: من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرَب النساء.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » ، قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرُج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته، ثم اغتسل، ثم رجع إلى اعتكافه، فنُهوا عن ذلك قال ابن جريج: قال مجاهد: نُهوا عن جماع النساء في المساجد، حيث كانت الأنصار تجامِع، فقال: « لا تباشروهن وأنتم عاكفون » قال: « عاكفون » ، الجوارُ قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجماعُ المباشرة؟ قال: الجماع نفسه! فقلت له: فالقُبلة في المسجد والمسَّة؟ فقال: أما ما حُرِّم فالجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد.

حدثت عن حسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: « ولا تباشروهن » يعني الجماع.

وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني « المباشرة » من لَمْس وقُبلة وجماع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال مالك بن أنس: لا يمس المعتكف امرأته، ولا يباشرُها، ولا يتلذذ منها بشيء، قُبلةٍ ولا غيرها .

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » قال: المباشرة الجماعُ وغيرُ الجماع، كلُّه محرم عليه، قال: « المباشرة » بغير جماع، إلصاقُ الجلد بالجلد.

قال أبو جعفر: وعلة من قال هذا القول: أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة، ولم يخصص منها شيئا دون شيء. فذلك على ما عمَّه، حتى تأتي حُجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرةً دون مباشرةٍ.

وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: الجماعُ، أو ما قام مقامَ الجماع، مما أوجبَ غسلا إيجابَه. وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين:

إما جعل حكم الآية عامًّا، أو جَعل حكمها في خاصٍّ من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نساءه كنّ يُرجِّلنه وهو معتكف، فلما صح ذلك عنه، عُلم أنّ الذي عنى به من معاني المباشرة، البعض دون الجميع.

حدثنا علي بن شعيب قال، حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال، أخبرنا مالك. عن الزهري، عن عروة وعن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه فأرَجِّله .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة: أن عائشة قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يدخل عليّ رأسَه وهو في المسجد فأرجِّلُه .

حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُدني إليَّ رأسه وهو مُجاورٌ في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض، فأغسله وأرَجِّله .

حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكفُ فيخرجُ إليَّ رأسه من المسجد وهو عاكفٌ، فأغسِله وأنا حائض .

حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخرج رَأسه فأرجّله وهو معتكف .

فإذْ كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غَسل عائشة رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله: « ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد » ، غيرُ جميع ما لزمه اسم « المباشرة » وأنه معنيٌّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مجمَعًا على أنّ الجماع مما عُني به، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كلُّ ما قام في الالتذاذ مقامه منَ المباشرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هذه الأشياء التي بيّنتها: من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد، يقول: هذه الأشياءَ حدّدتها لكم، وأمرْتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرَّمتها فيها عليكم، فلا تقرَبوها، وابعُدوا منها أن تركبوها، فتستحقُّوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدّى حُدودي، وخالف أمري وركب معاصيَّ.

وكان بعض أهل التأويل يقول: « حدود الله » : شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غيرَ أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة.

وذلك أن « حد » كل شيء: ما حَصره من المعاني وميَّز بينه وبين غيره، فقوله: « تلك حدود الله » من ذلك، يعني به المحارم التي ميّزها من الحلال المطلق فحدَّدها بنعوتها وصفاتها، وعرَّفها عبادَه.

ذكر من قال إنّ ذلك بمعنى الشُّروط:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أما « حدود الله » فشروطه.

وقال بعضهم: « حدود الله » معاصيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: « تلك حدود الله » يقول: معصية الله - يعني المباشرةَ في الاعتكاف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 187 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: كما بينت لكم أيها الناس واجبَ فرائضي عليكم من الصوم، وعرّفتكم حدودَه وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنُّبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميعَ ذلك لكم - فكذلك أبيِّن أحكامي، وحلالي وحرامي، وحدودي، وأمري ونهيي، في كتابي وتنـزيلي، وعلى لسان رسولي صلى الله عليه وسلم للناس.

ويعني بقوله: « لعلهم يتقون » يقول: أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 188 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل.

ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [ سورة الحجرات: 11 ] وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ سورة النساء: 29 ] بمعنى: لا يلمزْ بعضكم بعضا، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزُه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول: « أخي وأخوك أيُّنا أبطش » . يعني: أنا وأنت نصْطرع، فننظر أيُّنا أشدّ - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه، ومن ذلك قول الشاعر:

أخِــي وَأَخُــوكَ بِبَطْــنِ النُّسَـيْرِ لَيْسَ بِــهِ مِــنْ مَعَــدٍّ عَــرِيبْ

فتأويل الكلام: ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل.

« وأكله بالباطل » : أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.

وأما قوله: « وتُدلوا بها إلى الحكام » فإنه يعني: وتخاصموا بها - يعني: بأموالكم - إلى الحكام « لتأكلوا فريقا » طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.

ويعني بقوله: « بالإثم » بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم « وأنتم تعلمون » ، أي: وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم . . كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام » فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « وتُدلوا بها إلى الحكام » قال: لا تخاصم وأنت ظالم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام » وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبُطل للمحق، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وتدلوا بها إلى الحكام » قال: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون » أما « الباطل » يقول: يظلم الرجل منكم صاحبَه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله: « وتدلوا بها إلى الحكام » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني خالد الواسطي، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قوله: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » قال: هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام » يقول: يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [ سورة النساء: 29 ] قال: هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية.

وأصل « الإدلاء » : إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. فقيل للمحتج لدعواه: « أدلَى بحجة كيت وكيت » إذا كان حجته التي يحتج بها سببا له، هو به متعلقٌ في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب: « أدلى فلان بحجته، فهو يُدلي بها إدلاء وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء » .

فأما قوله: « وتدلوا بها إلى الحكام » ، فإن فيه وَجهين من الإعراب:

أحدهما: أن يكون قوله: « وتُدْلوا » جزما عطفا على قوله: « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل » أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي: « وَلا تدلوا بها إلى الحكام » .

والآخر منهما: النصب على الصرْف، فيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام، كما قال الشاعر:

لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُ عَــارٌ عَلَيْــكَ إذَا فَعَلْــتَ عَظِيـمُ

يعني: لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله.

وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ

قال أبو جعفر: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية، جوابا لًهُم فيما سألوا عنه.

ذكر الأخبار بذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قوله: « يَسألُونك عن الأهلة قُلْ هيَ مواقيت للناس » ، قال قتادة: سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جُعلت هذه الأهلة؟ فأنـزل الله فيها ما تَسمعون: « هي مَواقيتُ للناس » ، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجّهم، ولعدة نسائهم وَمحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم خُلقت الأهلة؟ فأنـزل الله تعالى: « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج » جعلها الله مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وَحلّ ديونهم .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « مواقيتُ للناس والحج » قال: هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونُسكهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الناس: لم خلقت الأهلة؟ فنـزلت: « يسألونك عن الأهلة قُل هي مواقيت للناس » ، لصَومهم وإفطارهم وَحجهم وَمَناسكهم - قال: قال ابن عباس: ووقتَ حجهم، وعدة نسائهم، وَحلّ دَينهم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس » فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس » ، يعني: حَلّ دينهم، ووقت حجهم، وعدة نسائهم.

حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنـزلت هذه الآية: « يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس » يعلمون بها حَلّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي: أنه سئل عن قوله: « مواقيت للناس » ، قال: هي مواقيتُ الشهر: هكذا وهكذا وهكذا - وقبض إبهامه - فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثَلاثين .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية - إذا كان الأمرُ على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنهُ قوله في ذلك- : يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ - فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس.

وأما قوله « والحج » ، فإنه يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها أيضًا ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 189 )

قال أبو جعفر: قيل: نـزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قبل أبوابها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حَجوا ورَجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظُهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنـزلت هذه الآية: « وليسَ البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها » .

حدثني سفيان بن وكيع، قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، أتُوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها، فنـزلت: « وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها » ..الآية .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال، سمعت داود، عن قيس بن حبتر: أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، ولا دارا من بابها أو بيتا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له: « رفاعة بن تابوت » فجاء فتسوَّر الحائط، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرَج من باب الدار - أو قال: من باب البيت - خرج معه رفاعة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، رأيتُك خرجتَ منه، فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي رجلٌ أحْمس! فقال: إن تكن رَجلا أحْمس، فإنّ ديننا واحد! فأنـزل الله تعالى ذكره: « وليسَ البر بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها » .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهورها » يقول: ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كُوَّات في ظهور البيوت، وأبواب في جنوبها، تجعلها أهل الجاهلية. فنُهوا أن يدخلوا منها، وأمِروا أن يدخلوا من أبوابها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان ناسٌ من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها، فنـزلت: « ولكن البر من اتقى » الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها » قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نَقب كُوَّة في ظهر بيته فجعل سُلَّمًا، فجعل يدخل منها. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين، قال: فأتى الباب ليدخل، فدخل منه. قال: فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إنّي أحمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أحمس.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلُّوا بالعمرة لم يَحل بينهم وبين السماء شيء يتحرَّجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سَقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من وَرَائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ زمنَ الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره، من الأنصار من بني سَلِمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! قال الزهري: وكانت الحُمس لا يبالون ذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس! يقول: وأنا على دينك، فأنـزل الله تعالى ذكره: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت » الآية كلها. قال قتادة: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهلَّ أحدُهم بحجّ أو عمرة لا يدخلُ دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسوُّرًا، وأسلموا وهم كذلك. فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » فإن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا يَنقبون في أدبارِها، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس! - يقول: إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون « الحُمس » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أيضا أحمس! فادخل. فدخل الرجل، فأنـزل الله تعالى ذكره: « وأتوا البيوت من أبوابها » .

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها » ، وأنّ رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئا أحرم فأمِن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نَقبا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجلٌ محرم كذلك - وأنّ أهل المدينة كانوا يُسمُّون البستان « الحُشّ » - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخل بُستانًا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجلٌ من ورائه: يا فلان، إنك محرم وقد دخلت! فقال: أنا أحمس! فقال: يا رسول الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمسَ فأنا أحمسُ! فأنـزل الله تعالى ذكره: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها » ، إلى آخر الآية، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها.

حدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وليسَ البر بأنْ تأتوا البيوتَ من ظهورها ولكن البر مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها » قال: كان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرمُوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوَّرُوها، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره. وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرم، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجل فاجرٌ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وقد أحرمت؟ فقال: رأيتك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! - وقريش يومئذ تُدعى الحُمس - فلما أن قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنصاري: إن ديني دينك! فأنـزل الله تعالى ذكره: « وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها » الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » قال: كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرَوْنه برًّا، فقال: « البر » ، ثم نعت « البر » وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: كانت هذه الآية في الأنصار، يأتون البيوت من ظهورها، يتبرَّرُون بذلك.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيانُ البيوت من ظهورها فلا برَّ لله فيه، فأتوها من حيثُ شئتُم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه، لأنه مما لم أحرمه عليكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واتقوا الله أيها الناس، فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاءَ في جَنَّاته والخلودَ في نعيمه.

وقد بينا معنى « الفلاح » فيما مضى قبلُ بما يدل عليه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 190 )

قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية.

فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نـزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كفّ عنهم، ثم نُسخت ب « براءة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله: « وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين » قال: هذه أوّل آية نـزلت في القتال بالمدينة، فلما نـزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نـزلت « براءة » - ولم يذكر عبد الرحمن: « المدينة » .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم » إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] ، وهذه الناسخة، وقرأ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى بلغ: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ سورة التوبة: 1- 5 ] .

وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صَدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله: « وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين » ، قال: فكتب إليّ: « إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم » لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم.

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة: « إني وَجَدتُ آية في كتاب الله: » وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين « أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان » .

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد.

وقد دَللنا على معنى « النسخ » ، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا - : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله: « قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم » لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا.

فمعنى قوله: « ولا تعتدوا » : لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس، « إنّ الله لا يُحب المعتدين » الذين يجاوزون حدوده، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مَقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله: « حيث ثقفتموهم » .

ومعنى « الثِّقْفَة » بالأمر الحِذق به والبصر، يقال: « إنه لثَقِفَ لَقفٌ » ، إذا كان جيد الحَذر في القتال، بصيرا بمواقع القتل. وأما « التَّثْقيف » فمعنى غير هذا، وهو التقويم.

فمعنى: « واقتلوهم حيث ثقفتموهم » ، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم، وأبصرتم مقاتلهم.

وأما قوله: « وأخرجوهم من حيث أخرجوكم » فإنه يُعنى بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم - وقد أخرجوكم من دياركم - من مساكنهم وديارهم كما أخرجوكم منها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والفتنة أشد من القتل » ، والشرك بالله أشدُّ من القتل.

وقد بينت فيما مضى أن أصل « الفتنة » الابتلاءُ والاختبار

فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجعَ عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكا عليه، مُحقًّا فيه. كما:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « والفتنة أشدُّ من القتل » قال: ارتداد المؤمن إلى الوَثن أشدُّ عليه من القتل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « والفتنة أشدُّ من القتل » يقول: الشرك أشدُّ من القتل.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.

حدثت عن عمار بن الحسن، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « والفتنة أشدُّ من القتل » يقول: الشرك أشدُّ من القتل.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « والفتنة أشدُّ من القتل » قال: الشرك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله: « والفتنة أشدُّ من القتل » قال: الفتنة الشركُ.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: « والفتنة أشدُّ من القتل » قال: الشرك أشدُّ من القتل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله جل ذكره: « والفتنة أشدُّ من القتل » قال: فتنة الكفر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ( 191 )

قال أبو جعفر: والقَرَأةُ مختلفة في قراءة ذلك.

فقرأته عامَّة قراء المدينة ومكة: « ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم » بمعنى: ولا تبتدئوا - أيها المؤمنون - المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدءوكم به، فإن بدءوكم به هناك عند المسجد الحرَام في الحرم، فاقتلوهم، فإن الله جعل ثَواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة، القتلُ في الدنيا، والخزي الطويل في الآخرة، كما:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا تقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه » كانوا لا يُقاتلون فيه حتى يُبدأوا بالقتال، ثم نسخ بعدُ ذلك فقال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ حتى لا يكون شركٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أن يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل نبيُّ الله، وإليها دعا.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم » ، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدءوا فيه بقتال، ثم نسخ الله ذلك بقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ سورة التوبة: 5 ] فأمر الله نبيَّه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحِلِّ والحرَم وعند البيت، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسولُ الله.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » فكانوا لا يقاتلونهم فيه، ثم نسخ ذلك بعدُ فقال: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة.

وقال بعضُهم: هذه آيةٌ محكمة غيرُ منسوخة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن قاتلوكم » في الحرم فَاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين، لا تقاتل أحدا فيه، فمن عَدا عليك فقاتلك فقاتِله كما يقاتلك.

وقرأ ذلك عُظْم قراء الكوفيين: « ولا تَقْتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يَقْتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم » بمعنى: ولا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أبي حماد، عن حمزة الزيات قال: قلت للأعمش: أرأيت قراءتك: « ولا تَقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم كذلك جَزاءُ الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رَحيم » ، إذا قَتلوهم كيف يقتلونهم؟ قال: إن العرب إذا قُتل منهم رجل قالوا: « قُتلنا » ، وإذا ضُرب منهم رجل قالوا: « ضربنا » .

قال أبو جعفر: وأولى هاتين القراءتين بالصواب، قراءةُ من قرأ: « ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم » لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حالٍ إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم حتى يَقتلوا منهم قتيلا بعد ما أذن لَهُ ولهم بقتالهم، فتكونَ القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يَقتلوا منهم، أولى من القراءة بما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه قد كان تعالى ذكره أذِن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قَبل أن يقتلوا منهم قتيلا وبعد أن يقتلوا منهم قتيلا.

وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ سورة التوبة: 5 ] ونحو ذلك من الآيات.

وقد ذكرنا بعضَ قول من قال هي منسوخة، وسنذكر قول من حضرنا ذكرُه ممن لم يُذكر.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه » قال: نسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه » قال: حتى يبدأوكم، كان هذا قد حُرِّم فأحل الله ذلك له، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعدُ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 192 )

قال أبوجعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا، « فإن الله غفور » لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وأيامه التي مَضت « رحيم » به في آخرته بفضله عليه، وإعطائه ما يعطى أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته. كما:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن انتهوا » فإن تابوا « فإن الله غفورٌ رَحيم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة يعني: حتى لا يكون شركٌ بالله، وحتى لا يُعبد دونه أحدٌ، وتضمحلَّ عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكونَ العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، كما قال قتادة فيما:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » قال: حتى لا يكون شرك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وقاتلوهم حَتى لا تكون فتنة » قال: حتى لا يكون شرك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » قال: الشرك « ويكون الدِّين لله » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني موسى بن هارون، قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » قال: أما الفتنة فالشرك.

حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة » ، يقول: قاتلوا حتى لا يكون شِرك.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وقاتلوهم حَتى لا تكونَ فتنة » أي شركٌ.

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » قال: حتى لا يكون كفر، وقرأ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [ سورة الفتح: 16 ] .

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » يقول: شركٌ.

وأما « الدين » ، الذي ذكره الله في هذا الموضع فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه، من ذلك قول الأعشى:

هُـوَ دَانَ الرِّبَـابَ, إِذْ كَرِهُـوا الـدِّي نَ, دِرَاكًـــا بِغَـــزْوَةٍ وَصِيَــالِ

يعني بقوله: « إذ كرهوا الدين » ، إذ كرهوا الطاعة وأبوْها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ويكونَ الدِّينُ لله » يقول: حتى لا يُعبد إلا الله، وذلك « لا إله إلا الله » ، عليه قاتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنّي أمرتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ويكون الدِّينُ لله » أن يقال: « لا إله إلا الله » . ذُكِر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « إنّ الله أمرَني أن أقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله » . ثم ذكر مثل حديث الربيع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ ( 193 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن انتهوا » فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودَخلوا في ملّتكم، وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين - وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غيرَ خالقهم.

فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال: « فَلا عُدوان إلا على الظالمين » ؟ .

قيل: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة، لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، كما يقال: « إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك » ، والثاني ليس بظلم، كما قال عمرو بن شأس الأسديّ:

جَزَيْنَـا ذَوِى العُـدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ قِصَاصًـا, سَـواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ

وإنما كان ذلك نظير قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [ سورة البقرة: 15 ] و فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [ سورة التوبة: 79 ] وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مَضى قبلُ .

وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فلا عُدوان إلا على الظالمين » والظالم الذي أبى أن يقول: « لا إله إلا الله » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. « فلا عُدوان إلا على الظالمين » قال: هم المشركون.

حدثني المثنى، قال، ثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث، قال، سمعت عكرمة في هذه الآية: « فلا عدوان إلا على الظالمين » ، قال: هُم من أبى أن يقول: « لا إله إلا الله » .

وقال آخرون: معنى قوله: « فلا عدوان إلا على الظالمين » فلا تقاتل إلا من قاتل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين » يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.

حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: « فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين » فإنّ الله لا يحب العُدوان على الظالمين ولا على غيرهم، ولكن يقول: اعتدُوا عليهم بمثل ما اعتدوْا عليكم.

قال أبو جعفر: فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله: « فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين » لا يجوز أن يقول: « فإن انتهوا » إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم، فأضمر كما قال: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [ سورة البقرة: 196 ] يريد: فعليه ما استيسر من الهدي، وكما يقول: « إلى مَن تقصد أقصد » يعني: إليه.

وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله: فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيم لمن انتهى، ولا عُدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « الشهر الحرام بالشهر الحرام » ذا القعدة، وهو الشهر الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عُمرة الحديبية، فصدّه مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة، سنة ست من هجرته، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة، على أن يعود من العام المقبل، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا، فلما كان العامُ المقبل، وذلك سنة سبع من هجرته، خرج معتمرا وأصحابه في ذي القَعدة - وهو الشهر الذي كان المشركون صدُّوه عن البيت فيه في سنة ست- وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقضى حاجته منها، وأتم عمرته، وأقام بها ثلاثا، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين مَعه « الشهرُ الحرام » يعني ذا القَعدة، الذي أوصَلكم الله فيه إلى حَرَمه وبيته، على كراهة مشركي قُريش ذلك، حتى قضيتم منه وَطَركم « بالشهر الحرام » ، الذي صدكم مشركو قريش العامَ الماضيَ قَبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم، فلم تدخلوه، ولم تصلوا إلى بيت الله، فأقصَّكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصدّ والمنْع من الوصول إلى البيت. كما:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف - يعني: ابن خالد السَّمْتيّ - قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « والحرمات قصاص » قال: هم المشركون، حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدة، فَرَجَعه الله في ذي القَعدة فأدخله البيتَ الحرام، فاقتص له منهم .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: « الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرماتُ قِصَاص » قال: فخرت قريش بردِّها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية محرِما في ذي القَعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القَعدة، فقضى عُمرته، وأقصَّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية.

حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قِصَاص » أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القَعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون، فصالحهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنحروا الهدْي بالحديبية، وحلَّقوا وَقصَّروا. حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيُّ الله وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، فأقاموا بها ثلاث ليال، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فأقصَّه الله منهم، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القَعدة، فقال الله: « الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن عثمان، عن مقسم في قوله: « الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص » قالا كان هذا في سَفر الحديبية، صدَّ المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام، فقاضوا المشركين يومئذ قضيّة: أنّ لكم أن تعتمروا في العام المقبل - في هذا الشهر الذي صدُّوهم فيه، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرًا حرامًا يعتمرون فيه، مكانَ شهرهم الذي صُدُّوا، فلذلك قال: « والحُرمات قصَاص » .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاص » قال: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ من مُهاجَره، صدَّه المشركون وأبوا أن يتركوه، ثم إنهم صالحوه في صُلحهم على أن يُخْلوا له مكة من عام قابل ثلاثةَ أيام، يخرجون ويتركونه فيها، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خَيْبر من السنة السابعة، فخَلَّوْا له مكة ثلاثة أيام، فنكح في عُمرته تلك مَيمونة بنت الحارث الهلالية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « الشهرُ الحرَام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص » ، أحصَرُوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدة عن البيت الحرام فأدخله الله البيت الحرامَ العامَ المقبلَ، واقتصَّ له منهم، فقال: « الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصاص » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرَموا بالعمرة في ذي القَعدة ومعهم الهدْي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العامَ حتى يرجع العامَ المقبل، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنحروا الهديَ بالحديبية وحلَّقوا وقصَّروا. حتى إذا كانوا من العام المقبل، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فقاصَّ الله له منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القعدة. قال الله جل ثناؤه: « الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص » .

حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « والحُرمات قصاص » فهم المشركون، كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت، ففخروا عليه بذلك، فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله الله البيت الحرام واقتصَّ له منهم.

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام » حتى فرغ من الآية، قال: هذا كله قد نُسخ، أمرَه أن يجاهد المشركين. وقرأ: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] وقرأ: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [ سورة التوبة: 123 ] العرب، فلما فرغ منهم، قال الله جل ثناؤه: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حتى بلغ قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ [ سورة التوبة: 29 ] قال: وهم الروم. قال: فوَجَّه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية: « الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحرماتُ قصاص » قال: أمركم الله بالقصاص، [ ويأخذ ] منكم العدوان .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء، وسألته عن قوله: « الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصاص » قال: نـزلت في الحديبية، مُنعوا في الشهر الحرام، فنـزلت: « الشهر الحرام بالشهر الحرام » : عمرة في شهر حرام، بعمرة في شهر حرام.

قال أبو جعفر: وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القَعدة « الشهرَ الحرام » ، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرِّم فيه القتال والقتل، وتضع فيه السلاح، ولا يقتل فيه أحدٌ أحدًا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه. وإنما كانوا سموه « ذا القَعدة » لقعودهم فيه عن المغازي والحروب، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تُسمِّيه به.

وأما « الحرمات » فإنها جمع « حُرْمة » ، « كالظلمات » جمع « ظلمة » ، « والحجرات » جمع « حُجرة » . وإنما قال جل ثناؤه: « والحرمات قصاص » فجمع، لأنه أراد: الشهرَ الحرام، والبلد الحرام وحُرمة الإحرام.

فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه: دخولكم الحرَم، بإحرامكم هذا، في شهركم هذا الحرام، قصاصُ مما مُنعتم من مثله عامَكم الماضي، وذلك هو « الحرمات » التي جعلها الله قصَاصًا.

وقد بينا أن « القصاص » هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البَدن ، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما نـزل فيه قوله: « فمن اعتدَى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » .

فقال بعضهم بما:

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » فهذا ونحوه نـزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل، وليس لهم سلطانٌ يقهرُ المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين، مَنْ يجازي منهم أن يجازِيَ بمثل ما أُتي إليه أو يصبر أو يعفوَ فَهو. أمثل فلما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأعزّ الله سلطانه أمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سُلطانهم، وأن لا يعدوَ بعضهم على بعض كأهل الجاهلية.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين، فقاتلوهم كما قاتلوكم. وقالوا: أنـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبعد عُمرة القضيَّة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم.

قال أبو جعفر: وأشبه التأويلين بما دلّ عليه ظاهر الآية، الذي حُكي عن مجاهد، لأن الآيات قبلها إنما هي أمرٌ من الله للمؤمنين بجهاد عدوهم على صفة، وذلك قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ والآيات بعدها، وقوله: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه » إنما هو في سياق الآيات التي فيها الأمرُ بالقتال والجهاد، واللهُ جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة.

فمعلوم بذلك أن قوله: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » مدنيّ لا مكيّ، إذ كان فرضُ قتال المشركين لم يكن وَجَب على المؤمنين بمكة، وأنّ قوله: « فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم » نظيرُ قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وأن معناه: فمن اعتدى عليكم في الحَرم فقاتَلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم، لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا، فمن استحلّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي، فاستحلوا منه مثله فيه.

وهذه الآية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرَم ابتداءً في الحرم وقوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] ...

... على نحو ما ذكرنا، من أنه بمعنى: المجازاة وإتباع لفظٍ لفظًا، وإن اختلف معنياهما، كما قال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [ سورة آل عمران: 54 ] وقد قال: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [ سورة التوبة: 79 ] وما أشبه ذلك مما أتبع لفظٌ لفظًا واختلف المعنيان .

والآخر: أن يكون بمعنى « العدو » الذي هو شدٌّ ووثوب. من قول القائل: « عدا الأسد على فَريسته » . فيكون معنى الكلام: فمن عَدا عليكم - أي فمن شد عليكم وَوثب - بظلم، فاعدوا عليه - أي فشُدُّوا عليه وثبُوا نحوَه - قصاصًا لما فعل عليكم لا ظلمًا. ثم تُدخل « التاء » « في عدا » ، فتقال: « افتعل » مكان « فعل » ، كما يقال: « اقترب هذا الأمر » بمعنى « قرب » ، و « اجتلب كذلك » بمعنى « جَلب » وما أشبه ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ( 194 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: واتقوا الله أيها المؤمنون في حُرُماته وحدوده أن تعتَدُوا فيها، فتتجاوزوا فيها ما بيَّنه وحدَّه لكم، واعلموا أن الله يُحب المتقين، الذين يتقونه بأداء فَرائضه وتجنب محارمه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 195 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، ومن عَنى بقوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » .

فقال بعضهم: عنى بذلك: « وأنفقوا في سبيل الله » - و « سبيل الله » طريقه الذي أمر أن يُسلك فيه إلى عدوِّه من المشركين لجهادهم وَحرْبهم « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » - يقول: ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يُعوِّضكم منها أجرًا ويرزقكم عاجلا .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب سلم بن جُنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سفيان، عن حذيفة: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: يعني في ترك النفقة.

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الأعمش وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم جميعا، عن شقيق، عن حذيفة، قال: هو ترك النفقة في سبيل الله.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: تنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ - أو: سَهمٌ - شعبة الذي يشك في ذلك .

حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن منصور، عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي، عن ابن عباس قال: إن لم يكن لَكَ إلا سَهم أو مشقصٌ أنفقته.

حدثني ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن أبي صالح، عن ابن عباس: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: في النفقة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ، قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عكرمة، قال: نـزلت في النفقات في سبيل الله، يعني قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب، قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة » قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزوَّد الرجل، فكان أفضل زادًا من الآخر. أنفقَ البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء، أحبَّ أن يواسيَ صاحبه، فأنـزل الله: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس في قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: لا يقولنَّ أحدكم إنّي لا أجد شيئًا، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهَّز به في سبيل الله.

حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر، قال: سمعت داود - يعني: ابنَ أبي هند - عن عامر: أن الأنصارَ كان احتبس عليهم بعضُ الرزق، وكانوا قد أنفقوا نَفقاتٍ، قال: فَساءَ ظنُّهم وأمسكوا. قال: فأنـزل الله: « وأنفقوا في سَبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: تمنعكم نَفقةً في حقٍّ خيفةُ العَيْلة .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: وكان قتادة يحدِّث أن الحسن حَدَّثه - : أنهم كانوا يُسافرون ويَغزُون ولا ينفقون من أموالهم أو قال: ولا ينفقون في ذلك فأمرهم الله أن يُنفقوا في مَغازيهم في سبيل الله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » يقول: لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وأنفقوا في سبيل الله » أنفق في سبيل الله ولو عقالا « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » - تقول: ليس عندي شيء .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة في قوله: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: لما أمر الله بالنفقة، فكانوا - أو بَعضُهم - يقولون: ننفق فيذهبُ مالنا ولا يبقى لما شيء! قال: فقال: أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: أنفقوا وأنا أرزقكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: نـزلت في النفقة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن همام الأهوازي، قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في « التهلكة » قال: أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله، وأخبرهم أن تَرك النفقة في سبيل الله التهلكة.

حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قوله: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: يقول: أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال: وقال لي عبد الله بن كثير: نـزلت في النفقة في سبيل الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لا يقولنّ الرجل لا أجد شيئا! قد هَلكتُ! فليتجهَّز ولو بمشقَص.

حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثنى عمي، قال، حدثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » يقول: أنفقوا مَا كان من قليل أو كثير. ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا.

حدثني المثنى، قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: « التهلكة » : أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن في قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ، فتدعوا النفقة في سبيل الله.

وقال آخرون ممن وجَّهوا تأويل ذَلك إلى أنه معنيَّة به النفقة: معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: إذا لم يكن عندك ما تنفق، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة: فتلقي بيدَيك إلى التهلكة.

وقال آخرون: بل معناه: أنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة، فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رَحمته واعملوا الخيرات.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: هو الرجل يُصيبُ الذنوبَ فيُلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجل: أحْمل على المشركين وَحدي فيقتلوني، أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟ فقال: لا إنما التهلكة في النفقة. بعثَ الله رسوله، فقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ [ سورة النساء: 84 ] .

حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع، قالا حدثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب في قول الله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: هو الرجل يُذنب الذنبَ فيقول: لا يغفر الله لهُ.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء وسأله رجل فقال: يا أبا عُمارة، أرأيتَ قول الله: « ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حَتى يُقتل؟ قال: لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي، ثم يلقي بيده ولا يتوب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رَجل فقال: الرجلُ يحمل على كتيبةٍ وحده فيقاتل، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال: لا ولكن التهلكة أن يُذنب الذنبَ فيلقي بيده، فيقول: لا تقبل لي توبة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة، الرجل يَلقى ألفًا من العدو فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، أيكون ممن قال: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ؟ فقال: لا ليقاتل حتى يُقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ .

حدثنا مجاهد بن موسى، قال، أخبرنا يزيد، قال، أخبرنا هشام وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام عن محمد قال: وسألت عبيدة عن قول الله: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » الآية. فقال عبيدة: كان الرجل يذنب الذنبَ - قال: حسبْته قال: العظيم - فيلقي بيده فيستهلك زاد يعقوب في حديثه: فنُهوا عن ذلك، فقيل: « أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: هو الرجل يذنب الذنبَ فيستسلم، ويلقي بيده إلى التهلكة، ويقول: لا توبة له! يعني قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، أخبرنا أيوب، عن محمد، عن عبيدة في قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: القُنوط.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن يونس وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم، يقول: لا توبة لي! فيلقي بيده.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، قال، حدثني أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: هي في الرجل يصيبُ الذنبَ العظيم فيلقي بيده، ويَرى أنه قد هلك.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تتركوا الجهاد في سبيله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني حَيْوَة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: غَزونا المدينة، يريد بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفَّين لم أر صَفين قط أعرضَ ولا أطولَ منهما، والروم مُلصقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: مَهْ! لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلونَ هذه الآية هكذا، أنْ حَمل رجلٌ يُقاتل يلتمس الشهادة، أو يُبلي من نفسه! إنما نـزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار! إنا لما نَصرَ الله نبيه وأظهرَ الإسلام، قُلنا بَيننا معشرَ الأنصار خَفيًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنـزل الله الخبرَ من السماء: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها، وندعُ الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، قال، أخبرني حيوة وابن لهيعة، قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال، حدثني أسلم أبو عمران مولى تُجِيب، قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فَضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صفٌّ عظيم من الروم، قال: وصففنا صفًّا عظيمًا من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صَفّ الروم حتى دخلَ فيهم، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنـزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار! إنا لما أعزّذ الله دينه وكثَّر ناصريه، قلنا فيما بيننا بعضُنا لبعض سرًّا من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضَاع منها! فأنـزل الله في كتابه يرُدُّ علينا ما هممنا به، فقال: « وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ، بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيًا في سبيل الله حتى قبضَه الله .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنْ يُقال: إنّ الله جل ثناؤه أمرَ بالإنفاق في سبيله بقوله: « وأنفقوا في سبيل الله » - وسبيلُه: طريقه الذي شَرَعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعتُه لكم، بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحربَ على الكفر بي، ونَهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » .

وذلك مثلٌ، والعرب تقول للمستسلم للأمر: « أعطَى فلان بيديه » ، وكذلك يقال للممكن من نفسه مما أريد به: « أعطى بيديه » .

فمعنى قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ، ولا تستسلموا للهلكة، فتُعطوها أزمَّتكم فتهلكوا.

والتارك النفقةَ في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه، مستسلم للهلكة بتركه أداءَ فرضِ الله عليه في ماله. وذلك أن الله جل ثناؤه جَعل أحد سِهام الصدقات المفروضات الثمانية « في سبيله » ، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلى قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [ سورة التوبة: 60 ] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه، كان للهلكة مستسلما، وبيديه للتهلكة ملقيا.

وكذلك الآئسُ من رحمة الله لذنب سلف منه، مُلق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [ سورة يوسف: 87 ] .

وكذلك التارك غزوَ المشركين وجهادَهم، في حال وجوب ذلك عليه، في حال حاجة المسلمين إليه، مُضيعٌ فرضا، مُلقٍ بيده إلى التهلكة.

فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه.

غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك - عذابي. كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة » قال: التهلكة عذابُ الله.

قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله، منَ العقوبة في المعاد.

فإنْ قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله: « ولا تلقوا بأيديكم » ، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب: « ألقيت إلى فلان درهما » ، دون « ألقيتُ إلى فلان بدرهم » ؟

قيل: قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل « الباء » في قوله: « جذبتُ بالثوب، وجذبت الثوب » « وتعلَّقتُ به وتَعلَّقته » ، و تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [ سورة المؤمنون: 20 ] وإنما هو: تُنبت الدهنَ .

وقال آخرون: « الباء » في قوله: « ولا تُلقوا بأيديكم » أصلٌ للكنية لأن كل فعل وَاقع كُنِي عنه فهو مضطرٌّ إليها نحو قولك في رجل « كلَّمته » فأردت الكناية عن فعله، فإذا أردت ذلك قلت: « فعلت به » قالوا: فلما كان « الباء » هي الأصل، جاز إدخال « الباء » وإخراجها في كل « فعلٍ » سبيلُه سبيلُ كُنْيته .

وأما « التهلكة » فإنها « التفعُلة » من « الهلاك » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وأحسنوا » أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتجنُّب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيَّ، ومن الإنفاق في سبيلي، وَعَوْدِ القوي منكم على الضعيف ذي الخَلَّة فإنّي أحبّ المحسنين في ذلك كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب، قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله: « وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين » قال: أداء الفرائض.

وقال بعضهم: معناه: أحسنوا الظن بالله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة: « وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين » : قال: أحسنوا الظن بالله، يبرَّكم.

وقال آخرون: أحسنوا بالعَوْد على المحتاج.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين » عودوا على من ليس في يده شيء.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: معنى ذلك أتِمّوا الحج بمناسكه وسُننِه، وأتموا العُمْرة بحدودها وسُننِها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاري، قال. ثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: « وأتِمّوا الحجّ والعمرة لله » قال: هو في قراءة عبد الله: « وَأَقِيمُوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إِلى الْبَيْتِ » قال: لا تجاوزُوا بالعمرة البيتَ قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ: « وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت » .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ: « وأقِيموا الحجَّ والعمرة إلى البيت » .

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وأتِمّوا الحج والعمرةَ لله » ، يقول: من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يُتمَّها تَمامُ الحجِّّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصفَّا والمروة، فقد حَلّ.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله » قال: ما أمِروا فيهما.

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وأتموا الحَج والعمرة لله » قال: قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال: « الحجُّ » : مناسك الحج، و « العمرة » : لا يجاوز بها البيت.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: « وأتِموا الحجّ والعمرة لله » قال: قال تَقْضى مناسكَ الحجَّ عرفة والمزدلفة وَمواطنَها، والعمرةُ للبيت أنْ يطوف بالبيت وبين الصفَّا والمروة ثم يَحلُّ.

وقال آخرون: تمامُهما أن تُحرِم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلِك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي أنه قال: جاء رَجُل إلى عليّ فقال له في هذه الآية: « وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله » أن تحرم من دُوَيْرة أهلِك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه، فقال: أرأيتَ قَول الله عز وجل: « وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله » ؟ قال: أن تحرم من دُوَيْرة أهلك.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: من تَمام العُمرة أن تحرم من دُوَيرة أهلك.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن طاوس، قال: تمامُهما إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك.

حدثني المثنى، قال: ثنا سفيان، عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاوس: « وأتموا الحج والعمرة لله » قال: تفردهما مؤقتتين من أهلك، فذلك تمامهما.

وقال آخرون: تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، وتمامُ الحج أن يُؤتى بمناسكه كلِّها، حتى لا يلزم عَامِلَه دمٌ بسبب قِران ولا مُتعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وأتِمُّوا الحجَّ والعمرة لله » قال: وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج.

ومن كان في أشهر الحج، ثم أقام حتى يَحُجّ، فهي مُتعة. عليه فيها الهْدي إن وُجد، وإلا صَام ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رَجع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » قال: ما كان في غير أشهر الحج فهي عمرة تامة، وما كان في أشهر الحج فهي مُتعة وعليه الهدي.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إنّ العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له: العمرة في المحرَّم؟ قال: كانوا يَرَونها تامَّة.

وقال آخرون: إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرَهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني رجل، عن سفيان، قال: هو يعني تمامهما أن تخرُج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهلّ من الميقات. ليس أن تخرُج لتجارةٍ ولا لحاجةً، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت. وذلك يجزئ، ولكن التمَّام أن تخرُج له لا تخرُج لغيره.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجَّ والعمرةَ لله إذا دخلتم فيهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قولُ الله تعالى: « وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله » ؟ قال: ليس من الخلقِ أحدٌ ينبغي له إذا دَخَل في أمر إلا أن يتمَّه، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يومًا أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يومًا لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار.

* وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرَا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوَّع، « وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله » . وقال أبو بردة: هي واجبة « وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله » .

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن عون، عن الشعبي أنه كان يقرأ: « وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةُ لله » .

وقد روي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا. وذلك ما:-

حدثني به المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبي، قال: العمرةُ واجبةٌ.

فقراءة من قال: العمرة واجبة- نصبُها، بمعنى أقيموا فرضَ الحجّ والعمرةَ، كما:-

حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت مسروقًا يقول: أُمرتم في كتاب الله بأربع: بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والعمرة. قال: ثم تلا هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [ سورة آل عمران: 97 ] « وأتموا الحجَّ والعُمْرةَ لله إلى البيت » .

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يروي عن الحسن، عن مسروق، قال: أمرنا بإقامة أربعةٍ: الصلاةِ والزكاةِ، والعمرةِ والحجّ، فنـزلت العُمْرة من الحج منـزلةَ الزكاة من الصلاة.

حدثنا ابن بشار، قال: أنبأنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن حريج، قال: قال علي بن حسين وسعيد بن جبير، وسُئلا أواجبةٌ. العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله: « وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله » .

حدثنا سَوَّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضَةٌ هي أم تطوعٌ؟ قال: فريضةٌ. قال: فإن الشعبي يقول: هي تطوع. قال: كَذَب الشعبي، وقرأ: « وأتموا الحجَّ والعمرةَ لله »

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله: « وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله » ، قال: هما وَاجبان: الحج، والعمرة.

قال أبو جعفر: فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى: « وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله » أنهما فرضَان واجبان أمرَ الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأوجب العمرة وجوبَ الحج. وهم عدد كثير من الصحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الخالفين، كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم.

وقالوا: معنى قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » وأقيموا الحج والعمرة.

* ذكر بعض من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله: « وأتموا الحج والعمرة لله » يقول: أقيموا الحج والعمرة.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، عن أبيه، عن علي: « وأقيموا الحج والعمرة للبيت » ثم هي واجبةٌ مثل الحج.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا ثوير، عن أبيه، عن عبد الله: « وأقِيمُوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيت » ثم قال عبد الله: والله لولا التحرُّجُ، وأنيّ لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا، لقلت إنّ العمرة واجبة مثل الحج.

قال أبو جعفر: وكأنهم عَنوا بقوله: « أقيمُوا الحج والعمرة » : ائتوا بهما، بحدودهما وأحكامِهما، على ما فُرِض عليكم.

وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب « العُمْرة » : العمرة تطوعٌ ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نَصْبهم « العمرة » في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبدَ عمله وإتمامُه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداءُ الدخول فيه فرضًا عليه. وذلك كالحج التطوُّع، لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أنّ عليه المضيَّ فيه وإتمامه، ولم يكن فرضًا عليه ابتداء الدخولُ فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غيرُ فرضٍ واجب الدخولُ فيها ابتداءً، غير أن على من دخل فيها وأوجبَها على نفسه إتمامَها بعد الدخول فيها. قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحج والعمرة دلالةٌ على وجوب فرضها. قالوا: وإنما أوَجبنا فرضَ الحجّ بقوله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [ سورة آل عمران: 97 ] .

وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: الحجُّ فريضة، والعمرةُ تطوُّع.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن ابن مسعود مثله.

وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، قال: العمرة ليست بواجبة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيره، عن سماك، قال: سألت إبراهيم عن العمرة فقال: سنة حسنة.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن الشعبي، قال: العمرة تطوع.

قال أبو جعفر: فأما الذين قرءوا ذلك برفع « العمرة » ، فإنهم قالوا: لا وجه لنَصْبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقًّا اسم معتمرٍ إلا وهو له زائر. قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته وهو متَى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يَبقى بعده يؤمَر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاجُّ بعد بلوغِه والطوافِ به وبالصفا والمروة بإتيان عَرَفة والمزدلفة والوقوفِ بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، وعملِ سائرِ أعمال الحج الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت لم يكن لقول القائل للمعتمر : « أتمَّ عمرتك » وجهٌ مفهوم. وإذا لم يكن له وجهٌ مفهوم. فالصواب من القراءة في « العمرة » الرفعُ على أنه من أعمال البِرِّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله: « لله » .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب « العمرة » على العطف بها على « الحجّ » ، بمعنى الأمر بإتمامهما له.

ولا معنى لاعتلال من اعتَلّ في رفعها بأن « العمرة » زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه. وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمامُ العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارَته البيت، وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنبُ ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عملٌ - وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه - غيرُ الزيارة. هذا، مع إجماع الحجة على قراءة « العمرة » بالنصب، ومخالفة جميع قرأة الأمصار قراءةَ من قرأ ذلك رفعًا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعًا.

وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله: « والعمرةَ لله » على قراءة من قرأ ذلك نصبًا فقولُ عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أنّ معنى ذلك: وأتمّوا الحج والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما لا أنَّ ذلك أمرٌ من الله عز وجل - بابتداء عَمَلهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه - بهذه الآية .

وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وَصَفْنا: من أن يكون أمرًا من الله عز وجل بإقامتهما ابتداءًا وإيجابًا منه على العبادِ فرضَهما، وأن يكون أمرًا منه بإتمامهما بعد الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبِهما على نفسه، فإذ كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذ كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبرٌ عن الحجة للعذرِ قاطعًا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة - لم يكن لقول قائلٍ: « هي فرض » بغير برهان دالّ على صحة قوله - معنى ، إذ كانت الفرُوض لا تلزم العباد إلا بدلالةٍ على لزومها إياهم واضحةٍ.

فإن ظن ظانٌّ أنها واجبة وجوبَ الحج، وأن تأويلَ من تأوّلَ قوله: « وأتمّوا الحج والعمرةَ لله » بمعنى: أقيموا حدُودَهما وفروضهما أوْلى من تأويلنا، بما:-

حدثني به حاتم بن بكير الضبي، قال: ثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن جحادة، عن رجل، عن زميل له، عن أبيه- وكان أبوه يكنى أبا المُنْتَفِق- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فدنوتُ منه، حتى اختلفتْ عُنق راحلتي وعُنُق راحلته، فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يُنجيني من عذاب الله ويُدخلُني جَنتَه ! قال: « اعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأدّ الزكاة المفروضة، وحُجّ واعتَمِر قال أشهل: وأظنه قال: » وصُمْ رمضان وانظر ماذا تحبُّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم، وما تكرهُ من الناس أن يأتوه إليك فذَرْهم منه « . »

وما :-

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال: قلت يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظَّعْن، وقد أدركه الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: « حُج عن أبيك واعتمر » .

وما:-

حدثني به يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطب فقال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحُجُّوا واعتمروا واستقيموا يَستقم لكم.

وما أشبه ذلك من الأخبار، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لِوَهْي أسانيدها، وأنها - معَ وَهْيِ أسانيدها- لها في الأخبار أشكالٌ تنبئ عن أنّ العمرة تطوعٌ لا فرض واجب. وهو ما:-

حدثنا به محمد بن حميد، ومحمد بن عيسى الدامغاني، قالا ثنا عبد الله بن المبارك، عن الحجاج بن أرطأة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟، فقال: « لا وأن تعتمروا خيرٌ لكم » .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير و حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك، عن معاوية بن إِسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحجُّ جهادٌ، والعمرة تطوع.

قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صحَّ عنده أن العمرة واجبةٌ، بأنه لم يجد تطوعًا، إلا وله إمامٌ من المكتوبة. فلما صح أنّ العمرة تطوُّع وجب أن يكون لها فَرْضٌ، لأن الفرض إمام التطوع في جميع الأعمال.

فيقال لقائل ذلك: فقد جُعِل الاعتكاف تطوُّعًا، فما الفرض منه الذي هو إمامُ مُتطوَّعه؟

ثم يسأل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب؟

فإن قال: « واجبٌ » ، خرج من قول جميع الأمة.

وإن قال: تطوع.

قيل: فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعًا والعمرةُ فرضًا، من الوجه الذي يجب التسليم له؟

فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

وبما استشهدنا من الأدلة، فإن أولى القراءتين بالصواب في « العمرة » قراءةُ من قرأها نصبًا- وأنّ أولى التأويلين في قوله « وأتموا الحج والعمرة لله » ، تأويلُ ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمرٌ من الله بإتمام أعمالهما بعد الدُّخول فيهما وإيجابهما على ما أمِر به من حدودهما وسنَنِهما - وأنّ أولى القولين في « العمرة » بالصواب قول من قال: « هي تطوّع لا فرض » - وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم، على ما أمركم الله من حدودهما.

وإنما أنـزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن البيت، معرِّفَهُ المؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خُلِّي بينهم وبين البيت ومبيِّنًا لهم فيها ما المُخْرِجَ لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصُدوا عن البيت .

ولذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية، وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتَتح بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ .

وقد دللنا فيما مضى على معنى « الحج » « والعمرة » بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الإحصار » الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي.

فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: « الحصر » الحبس كله. يقول: أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. قال: وقال مجاهد في قوله: « فإن أحصرتم » فإن أحْصِرتم: يَمرض إنسانٌ أو يُكْسر، أو يحبسه أمرٌ فغلبه كائنًا ما كان، فليرسل بما استيسَر من الهَدْي، ولا يحلِق رأسَه، ولا يحل، حتى يوم النحر.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الإحصار كل شيء يحبسه.

وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن قتادة أنه قال: في المحصَر: هو الخوفُ والمرض والحابسُ. إذا أصابه ذلك بَعَث بِهَدْيه، فإذا بلغ الهدي مَحِله حَلّ.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدْي » قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حَبَسه عن البيت يبعث بهَديه، فإذا بلغ مَحِله صار حلالا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كل شيء حَبَس المحرم فهو إحصارٌ.

حدثني المثنى قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إبراهيم قال أبو جعفر: أحسبه عن شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم: « فإن أحصِرْتم » قال: مرض أو كسر أو خَوفٌ.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله: « فإن أحصرتُم فما استيسر من الهدي » ، يقول: من أحرم بحج أو بعمرة، ثم حُبس عن البيت بمرض يُجْهده أو عذر يحبسه، فعليه قَضاؤها.

قال أبو جعفر: وعلة من قال بهذه المقالة: أن « الإحصار » معناه في كلام العَرب: مَنْع العلة من المرض وأشباهه، غيرِ القهرِ والغلبة من قاهر أو غالبٍ، إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما منعُ العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالبٍ حائل بين المحرِم والوصول إلى البيت من سُلطان، أو إنسان قاهرٍ مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب « حصرا » لا « إحصارا » .

قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [ الإسراء: 8 ] يعني به: حاصرًا، أي حابسًا.

قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا، يسمى « إحصارًا » لوجب أن يقال: « قد أُحْصرَ العدوُّ » .

قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على « حُوصر العدو ، والعدوّ محاصر » ، دون « أحصر العدو، وهم مُحْصَرون » ، و « أحْصِر الرجل » بالعلة من المرض والخوف- أكبر الدلالة على أنّ الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: « فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ » بمرض أو خوف أو علة مانعة.

قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى « حصر المرض » قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » إذ كان حبس العدو والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.

وقال آخرون: معنى قوله: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي » فإن حبسكم عدو عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله: « فإن أحصرتم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس أنه قال: « الحصْرُ » : حصرُ العدو، فيبعثُ الرجل بهديّتِه، فإن كان لا يستطيع أن يَصِل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويُحْرِم قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال: يُحِرِم، أو يَحِل من يومٍ يواعد فيه صاحبَ الهدْي إذا اشترى. فإذا أمن فعليه أن يحجَّ أو يعتمر. فإذا أصابه مَرَض يحبسه وليس معه هدْي، فإنه يَحِل حيث يُحبَس، فإن كان معه هدْي فلا يحل حتى يَبلغ الهدي مَحله، فإذا بعث به، فليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر إلا أن يشاء.

حدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حَبْس عدو.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم إلا أنه قال: فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعَد فيه صاحبَ الهدية إذا اشترى. ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.

وقال مالك بن أنس: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلَّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحَلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يَصِل إليه الهدي. ثم لم نَعْلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ أحدًا من أصحابه، ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئًا ولا أن يعودوا لشيء.

حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يَحلّ من كل شيء، ويَنْحر هَدْيه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء، إلا أن يكون لم يحج قَط، فعليه أن يحج حجة الإسلام.

قال: والأمر عندنا فيمن أحصِر بغير عدو بمرض أو ما أشبهه، أنْ يتداوَى بما لا بد منه، ويَفتدي، ثم يجعلها عُمرة، ويحج عامًا قابلا ويُهدِي.

قال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة - أعني: من قال قولَ مالك - أنّ هذه الآية نـزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيّه ومن معه بنحْر هَداياهم والإحلال.

قالوا: فإنما أنـزل الله هذه الآية في حَصْر العدو، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نـزلتْ فيه.

قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يُطِق لمرضه السَّير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجلٌ فاته الحج، عليه الخروج من إحرامه بما يخرُج به من فَاته الحج - وليس من معنى « المحصر » الذي نـزلت هذه الآية في شأنه.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في قوله: « فإن أحصرتم » ، تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحْصَرَكم خوفُ عَدٍّو أو مرضٌ أو علةٌ عن الوصول إلى البيت أي: صيَّركم خوفكم أو مرضكم تَحصُرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتُموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة. فلذا قيل: « أحصرتم » ، لمَّا أسقط ذكِر الخوف والمرض. يقال منه: « أحصرني خوفي من فلان عن لقائك، ومَرَضي عن فلان » ، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجلُ والإنسانُ، قيل: « حصرَني فلان عن لقائك » ، بمعنى حبسني عنه.

فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوِّل من قوله: « فإن أحصِرْتم » فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت- لوجب أن يكون: فإن حُصِرْتم.

ومما يُبَيِّن صحةَ ما قلناه من أن تأويل الآية مرادٌ بها إحصارُ غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدو، قولُه: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ .

و « الأمنُ » إنما يكون بزوال الخوف. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية، هو الخوف الذي يكون بزواله الأمنُ.

وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن حَبسُ الحابس الذي ليس مع حَبْسه خوف على النفس من حبسه داخلا في حكم الآية بظاهرها المتْلوّ، وإن كان قد يُلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حَبْس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالدِ، وزوج المرأة، إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنعٌ عن الشخوص لعمل الحج، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرامَ، غيرُ داخل في ظاهر قوله: « فإن أحصرتم » ، لما وصفنا من أن معناه: فإن أحصركم خوفُ عدوّ- بدلالة قوله: فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدو.

وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصده عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله: « فما استيسر من الهدي » .

فقال بعضهم: هو شاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: « ما استيسر من الهدي » شاة.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن و حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: « ما استيسر من الهدي » ، شاة.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن ابن عباس، مثله.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: تمتعت فسألت ابن عباس فقال: « ما استيسر من الهدي » قال: قلت شاة؟ قال: شاة.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عن « ما استيسر من الهدي » ، قال: من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن.

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله جل ثناؤه: « فما استيسر من الهدي » - قال: كان ابن عباس يقول: من الغنم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: « ما استيسر من الهدي » ، من الأزواج الثمانية.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: قيل للأشعث: ما قول الحسن: « فما استيسر من الهدي » ؟ قال: شاة.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتاده. ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قال: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله إلا أنه كان يقال: أعلاه بدنة، وذكر سائر الحديث مثله.

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس، قال: « فما استيسر من الهدي » ، شاة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن عطاء: « فما استيسر من الهدي » شاة.

حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا محمد بن نفيع، عن عطاء، مثله.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المحصر يبعث بهدي، شاة فما فوقها.

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، بعث بما استيسر من الهدي شاة. قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ما استيسر من الهدي » ، شاة فما فوقها.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة و حدثنا المثنى، قاله: حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة قال: حدثنا أبو جمرة، عن ابن عباس، قال: « ما استيسر من الهدي » ، جزور أو بقرة أو شاة، أو شرك في دم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن ابن عباس كان يرى أن الشاة « ما استيسر من الهدي » .

حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: « ما استيسر من الهدي » ، شاة.

حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: « ما استيسر من الهدي » ، شاة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سهل بن يوسف قال: حدثنا حميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي: شاة، فقيل له: أيكون دون بقرة؟ قال: فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة . ما في الظبي؟ قالوا: شاة، قال: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ المائدة: 95 ] .

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: شاة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن دلهم بن صالح، قال: سألت أبا جعفر، عن قوله: « ما استيسر من الهدي » ، فقال: شاة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدَّثه عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن علي بن أبي طالب كان يقول: « ما استيسر من الهدي » ، شاة.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: حدثنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، مثله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول: « ما استيسر من الهدي » ، شاة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحب إلي.

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: « فما استيسر من الهدي » ، قال: عليه - يعني المحصر - هدي . إن كان موسرا فمن الإبل، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: « ما استيسر من الهدي » ، شاة، وما عظمت شعائر الله، فهو أفضل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة: أن عطاء بن أبي رباح حدثه: أن « ما استيسر من الهدي » ، شاة.

وقال آخرون: « ما استيسر من الهدي » : من الإبل والبقر، سن دون سن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: « ما استيسر من الهدي » : البقرة دون البقرة، والبعير دون البعير.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز، قال: سأل رجل ابن عمر: « ما استيسر من الهدي » ؟ قال: أترضى شاة؟ كأنه لا يرضاه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن القاسم بن محمد ونافع، عن ابن عمر قال: « ما استيسر من الهدي » ، ناقة أو بقرة، فقيل له: « ما استيسر من الهدي » ؟ قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: « فما استيسر من الهدي » ، قال: جزور، أو بقرة.

حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله: « فما استيسر من الهدي » - قال: قال ابن عمر: من الإبل والبقر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه: « فما استيسر من الهدي » قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن القاسم، عن ابن عمر في قوله: « فما استيسر من الهدي » ، قال: الإبل والبقر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان: « ما استيسر من الهدي » : من الإبل والبقر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا الوليد بن أبي هشام، عن زياد بن جبير، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي؟ فقال: ناقة، قلت: ما تقول في الشاة؟ قال: أكلكم شاة؟ أكلكم شاة؟

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد وطاوس قالا « ما استيسر من الهدي » ، بقرة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة: « فما استيسر من الهدي » ، قال في قول ابن عمر: بقرة فما فوقها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: « ما استيسر من الهدي » ، قال: بدنة أو بقرة، فأما شاة فإنما هي نسك.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: البدنة دون البدنة، والبقرة دون البقرة، وإنما الشاة نسك، قال: تكون البقرة بأربعين وبخمسين.

حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن نافع، عن ابن عمر، كان يقول: « ما استيسر من الهدي » ، بقرة.

وحدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه، قال: رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عن « ما استيسر من الهدي » ويقولون: الشاة ! الشاة ! قال: فيرد عليهم: « الشاة ‍‍! ‍الشاة ! يحضهم - إلا أن الجزور دون الجزور، والبقرة دون البقرة، ولكن ما » استيسر من الهدي « ، بقرة. »

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب قول من قال: « ما استيسر من الهدي » شاة. لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خص من ذلك شيئا، فيكون ما خص من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنـزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحق اسم « هدي » .

فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي، بأنه لا يستحق اسم « هدي » كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا.

قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف، نحو الذي في المهدي الشاة، لكان سبيلهما واحدة: في أن كل واحد منهما قد أدى ما عليه بظاهر التنـزيل إذا لم يكن أحد الهديين مخرجه من أن يكون مؤديا - بإهدائه ما أهدى من ذلك - مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن، والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان - من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته - بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله: « فما استيسر من الهدي » وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.

ولما اختلف في الجذع من الضأن والثني من المعِز، كان مجزئًا ذلك عن مهديه لظاهر التنـزيل، لأنه مما استيسر من الهدي.

فإن قال قائل: فما محل « ما » التي في قوله جل وعز: « فما استيسر من الهدي » ؟ قيل: رفع.

فإن قال: بماذا؟

قيل: بمتروك. وذلك « فعليه » لأن تأويل الكلام: وأتموا الحج والعمرة أيها المؤمنون لله، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدو فعليكم - لإحلالكم، إن أردتم الإحلال من إحرامكم - ما استيسر من الهدي.

وإنما اخترنا الرفع في ذلك، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره، وذلك كقوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ وكقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ و ما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه.

ولو قيل موضع « ما » نصب، بمعنى: فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي، لكان غير مخطئ قائله.

وأما « الهدي » ، فإنه جمع، وأحدها « هديّه » ، على تقدير « جديّه السرج » والجمع « الجَدْي » مخفف.

حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، عن يونس، قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه.

وبتخفيف « الياء » وتسكين « الدال » من « الهدي » قرأه القرأة في كل مصر، إلا ما ذكر عن الأعرج، فإن:-

أبا هشام الرفاعي، حدثنا، قال: حدثنا يعقوب، عن بشار، عن أسد، عن الأعرج أنه قرأ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ سورة المائدة :95 ] بكسر « الدال » مثقلا وقرأ: « حتى يبلغ الهدي محله » ، بكسر « الدال » مثقلة. واختلف في ذلك عن عاصم، فروي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءه سائر القرأة.

و « الهدي » عندي إنما سمي « هديا » لأنه تقرب به إلى الله جل وعز مهديه، بمنـزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقربا بها إليه، يقال منه: « أهديت الهدي إلى بيت الله ، فأنا أهديه إهداء » . كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره: « أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها. » ، ويقال للبدنة « هدية » ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى، يذكر رجلا أسر، يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى:

فلــم أر معشــرا أســروا هديـا ولــم أر جــار بيــت يسـتباء!

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ

قال أبو جعفر:يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم، فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي. ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه، قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه محله. وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه. فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، حتى يبلغ الهدي - الذي أباح الله جل ثناؤه له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه - محله.

ثم اختلف أهل العلم في « محل » الهدي الذي عناه الله جل اسمه، الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه.

فقال بعضهم: محل هدي المحصر الذي يحل به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه إذا كان إحصاره من خوف عدو منعه ذبحه، إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحل ذبح أو نحر أو في الحرم [ حيث حبس ]

وإن كان من غير خوف عدو فلا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدو دون غيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع: أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة، فقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل بعمرة من أجل أن النبي كان أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد. قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة. قال: ثم طاف طوافا واحدا، ورأى أن ذلك مجز عنه وأهدى.

قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت.

قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت، فقال: يحل من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء، إلا أن يكون لم يحج قط، فعليه أن يحج حجة الإسلام.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي، وصرع في الحج ببعض الطريق، أن يتداوى بما لا بد منه، ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحج عاما قابلا ويهدي.

قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو.

قال: وقال مالك: وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض، أو خطأ في العدد، أو خفي عليه الهلال، فهو محصر، عليه ما على المحصر - يعني من المقام على إحرامه - حتى يطوف أو يسعى، ثم الحج من قابل والهدي.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره: أنه حج مرة فاشتكى، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة. فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك، وأن عطاء كتب إليه: أن أهرق دما

وعلة من قال بقول مالك: في أن محل الهدي في الإحصار بالعدو نحره حيث حبس صاحبه، ما:-

حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي، قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ، عن ابن عمر، قال: لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية، عرض له المشركون فردوا وجهه، قال: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه- وهي الحديبية- وحلق، وتأسى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق، وتربص آخرون فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين ! قال: رحم الله المحلقين ! قيل: والمقصرين ! قال: « والمقصرين » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية بينه وبين مشركي قريش- وذلك بالحديبية، عام الحديبية- قال لأصحابه: « قوموا فانحروا واحلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا نبي الله اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاقك فتحلق . فقام فخرج، فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. »

قالوا: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حين صده المشركون عن البيت بالحديبية، وحل هو وأصحابه. قالوا: والحديبية ليست من الحرم. قالوا: ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله: « حتى يبلغ الهدي محله » ، حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره.

كما روي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم - أتته بريرة - من صدقة كان تصدق به عليها، فقال: قربوه فقد بلغ محله.

يعني: فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة.

وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محل له غيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عمرو بن سعيد النخعي أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له، فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن سليمان بن مهران، عن عمارة بن عمير وإبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: خرجنا مهلين بعمرة فينا الأسود بن يزيد، حتى نـزلنا ذات الشقوق، فلدغ صاحب لنا، فشق ذلك عليه مشقة شديدة، فلم ندر كيف نصنع به، فخرج بعضنا إلى الطريق، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ، فكيف نصنع به؟ قال: يبعث معكم بثمن هدي، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة، فإذا نحر الهدي فليحل، وعليه عمرة في قابل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ، فمر علينا عبد الله فسألناه، فقال: اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فيبعث بثمن الهدي، فإذا نحر حل وعليه العمرة.

حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم النخعي يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: أهل رجل منا بعمرة، فلدغ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود، فسألوه، فقال: يبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا، فإذا كان ذلك اليوم فليحل وقال عمارة بن عمير: فكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله وعليه العمرة من قابل.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: خرجنا عمارا، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب، فقلنا له: لدغ صاحب لنا ؟ فقال: اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما، وليرسل بالهدي، فإذا نحر الهدي فليحلل، ثم عليه العمرة.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن الحجاج، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود: أن عمرو بن سعيد النخعي أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، يقول: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه.

ثم قال: « ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله » فإن كان أحرم بالحج فمحله يوم النحر، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، فهو الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس عن البيت، فيهدي إلى البيت، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه، فأتم الله له حجه. والإحصار أيضا أن يحال بينه وبين الحج، فعليه هدي: إن كان موسرا من الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، ويجعل حجه عمرة، ويبعث بهديه إلى البيت. فإذا نحر الهدي فقد حل، وعليه الحج من قابل.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سأل علي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي، فإذا نحر عنه حل، ولا يحل حتى ينحر هديه.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت عطاء يقول: من حبس في عمرته، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدق بشيء أو يصوم، ومن اعترض لهديته، وهو حاج، فإن محل الهدي والإحرام يوم النحر، وليس عليه شيء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، مثله.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله » ، الرجل يحرم ثم يخرج فيحصر، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير، وإما تنكسر راحلته، فإنه يقيم، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها. فإن هو صح فسار فأدرك فليس عليه هدي، وإن فاته الحج فإنها تكون عمرة، وعليه من قابل حجة. وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر.

فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة، فتنحر عنه بمكة، ويحل، وعليه من قابل حجة وعمرة - ومن الناس من يقول: عمرتان. وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه، فعليه من قابل عمرتان. وأناس يقولون: لا بل ثلاث عمر، نحوا مما صنعوا في الحج حين صنعوا، عليه حجة وعمرتان.

حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس، قال: إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو.

فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها مكانه، ويواعد صاحب الهدي. فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر. فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحل حيث يحبس. وإن كان معه هدي، فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به، وليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر، إلا أن يشاء.

وقال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة أن محل الهدايا والبدن الحرم أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ الحج: 32- 33 ] فجعل محلها الحرم، ولا محل للهدي دونه.

قالوا: وأما ما ادعاه المحتجون بنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه بالحديبية حين صد عن البيت، فليس ذلك بالقول المجتمع عليه، وذلك أن:

الفضل بن سهل حدثني، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن أبيه، عن ناجية بن جندب الأسلمي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد عن الهدي، فقلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم ! قال: كيف تصنع به؟ قلت: آخذ به أودية فلا يقدرون عليه‍‍‍‍‍! فانطلقت به حتى نحرته بالحرم.

قالوا: فقد بين هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هداياه في الحرم، فلا حجة لمحتج بنحره بالحديبية في غير الحرم.

وقال آخرون: معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا. وقالوا: إنما معنى ذلك: فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم - فمنعتم من المضي لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدو - وأداء اللازم لكم وحجكم، حتى فاتكم الوقوف بعرفة، فإن عليكم ما استيسر من الهدي، لما فاتكم من حجكم، مع قضاء الحج الذي فاتكم. فقال أهل هذه المقالة: ليس للمحصر في الحج - بالمرض والعلل غيره - الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحج. قالوا: فأما إن أطاق شهود المشاهد، فإنه غير محصر. قالوا: وأما العمرة فلا إحصار فيها، لأن وقتها موجود أبدا. قالوا: والمعتمر لا يحل إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه.

قالوا: ولم يدخل المعتمر في هذه الآية، وإنما عنى بها الحاج.

ثم اختلف أهل هذه المقالة. فقال بعضهم: لا إحصار اليوم بعدو، كما لا إحصار بمرض يجوز لمن فاته أن يحل من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن طاوس، قال: قال ابن عباس: لا إحصار اليوم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حبسه عدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة.

وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم.

ذكر من قال ذلك: وقال: معنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، قال: كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا.

حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت، ويقيم على إحرامه كما هو، إلا أن تصيبه جراحة - أو جرح - فيتداوى بما يصلحه ويفتدي. فإذا وصل إلى البيت، فإن كانت عمرة قضاها، وإن كانت حجة فسخها بعمرة، وعليه الحج من قابل والهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا، فرأى به كسرا، فاستفتاه، فأمره أن يقف كما هو لا يحل من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي. وكان أهل بالحج.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر، قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه خوف أو مرض أو خلأ له ظهر يحمله، أو شيء من الأمور كلها، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل من النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيام أو صدقة أو نسك. فإن فاته الحج وهو بمحبسه ذلك، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة، فقد فاته الحج، وصارت حجته عمرة : يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من المسجد الحرام، ثم حلق رأسه، أو قصر، ثم حل من النساء والطيب وغير ذلك. ثم عليه أن يحج قابلا ويهدي ما تيسر من الهدي.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه قال: المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة. وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى.

فهذا ما روي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه، وأما في المحصر بالعدو فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله.

حدثني تميم بن المنتصر، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر أراد الحج حين نـزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله، فقالا لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت ! قال: إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع.

وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم: « إنه لا إحصار فيها ولا حصر » ، فإنه:-

حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني هشيم، عن أبي بشر، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهل بعمرة فأحصر، قال: فكتب إلى ابن عباس وابن عمر، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي، ثم يقيم حتى يحل من عمرته. قال: فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يعقوب، عن أبي العلاء بن الشخير، قال: خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري، فكسرت رجلي، فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما، فقالا إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحج، لا تحل حتى تطوف بالبيت. قال: فأقمت بالدثينة أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال: خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس، فلم يرخص لي أحد أن أحل، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر، حتى أحللت بعمرة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر، قال: يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة، ويحلق أو يقصر، وليس عليه شيء.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال: إن الله عز وجل عنى بقوله : « فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله » كل محصر في إحرام، بعمرة كان إحرام المحصر أو بحج. وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله- . وتأول بـ « المحل » المنحر أو المذبح، وذلك حين حل نحره أو ذبحه، في حرم كان أو في حل، وألزمه قضاء ما حل منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلا وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صد عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة، فنحر هو وأصحابه بأمره الهدي، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده. ولم يدع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة، ولا تحفى وصول هديه إلى الحرم.

فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك فمن متأول معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذ نـزلت وفي حكم صد المشركين إياه عن البيت أوحيت.

وقد روي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى « قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا صدق. »

حدثني يعقوب، قال: حدثنا مروان، قال: حدثنا حجاج الصواف وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، عن الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وعن ابن عباس وأبي هريرة.

ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حل منها، نظير فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.

ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدو، إذا حل من إحرامه التطوع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء: ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء، وأسقطت عن الآخر، وكلاهما قد حل من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة ؟

فإن قال: لأن الآية إنما نـزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نـزلت فيه

قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو، إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والآخر بمنع مانع؟ ثم يسأل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحج سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيها ما سن، وأنـزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بيّن من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحج هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله، إلا أن يضطر إلى حلقه منكم مضطر، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوام أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محله، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك، فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما « أذى من رأسه » ؟ قال: القمل وغيره، والصدع، وما كان في رأسه.

وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحج بالنسك، أو الإطعام، إلا بعد التكفير. وإن أراد أن يفتدي بالصوم، حلق ثم صام.

ذكر من قال ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .

حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن، قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة، أو يطعم المساكين، وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيبا أو تداوى، كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، قال: من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر. فمن كان مريضا، أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه، فحلق، ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » هذا إذا كان قد بعث بهديه، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض، وإلى طيب، وإلى ثوب يلبسه، قميص أو غير ذلك: فعليه الفدية.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: من أحصر عن الحج فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه، فحلق رأسه في محبسه ذلك، فعليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه مرض أو خوف، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل له النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها: صيام، أو صدقة، أو نسك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثني بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه: « فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: هذا قبل أن ينحر الهدي، إن أصابه شيء فعليه الكفارة.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحلاق إذا أراد حلاقه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » فمن اشتد مرضه، أو آذاه رأسه وهو محرم، فعليه صيام، أو إطعام، أو نسك. ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك.

وعلة من قال هذه المقالة ما: -

حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » فقال: إن كعب بن عجرة مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبي عليه السلام: « هل عندك شاة » ؟ فقال كعب: ما أجدها! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأطعم ستة مساكين، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، ثم احلق رأسك.

قال أبو جعفر : فأما « المرض » الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.

وأما « الأذى » الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرة الحالة به، فيكون ذلك بعموم قول الله جل وعز : « أو به أذى من رأسه » .

وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نـزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية.

* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان، فقال: « إن هذا لأذى » ! قلت: أجل يا رسول الله، شديد ! قال: أمعك دم ؟ قلت: لا ! قال: فإن شئت فصمْ ثلاثة أيام، وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين، على كل مسكين نصف صاع.

حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عامر، عن كعب بن عجرة، عن النبي بنحوه.

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أسد بن عمرو، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر، قد قملت وأكلني الصئبان. فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « احلق ! » ففعلت، فقال: « هل لك هدي؟ » فقلت: ما أجد! فقال: إنه ما استيسر من الهدي، فقلت: ما أجد! فقال: « صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع. »

قال: ففي نـزلت هذه الآية: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » ، إلى آخر الآية

قال أبو جعفر: وهذا الخبر ينبئ عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق، وفساد قول من قال: يفتدي ثم يحلق; لأن كعبا يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالفدية، بعد ما أمره بالحلق فحلق.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام، أو فرق من طعام بين ستة مساكين.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، قال: قعدت إلى كعب وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » فقال كعب: نـزلت في كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: « ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ » فقلت: لا فنـزلت هذه الآية: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: فنـزلت في خاصة، وهي لكم عامة.

حدثني تميم، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، قال: سمعت عبد الله بن معقل المزني، يقول: سمعت كعب بن عجرة يقول: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فقال: ما كنت أرى هذا أصابك « ، ثم قال: ادعوا لي حلاقا ! فدعوه، فحلقني. ثم قال: أعندك شيء تنسكه عنك؟ قال: قلت لا. قال: » فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام. قال كعب: فنـزلت هذه الآية في خاصة: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » ثم كانت للناس عامة.

حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أتؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: قلت نعم! قال: احلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو اذبح شاة.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه قال: والقمل يتناثر علي- أو قال: على حاجبي. وقال أيضا: أو انسك نسيكة. قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، قال: في أنـزلت هذه الآية، قال: فقال لي: ادنه . فدنوت، فقال: « أيؤذيك هوامك؟ قال: أظنه قال نعم! قال: فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك، ما تيسر. »

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل عن مجاهد، عن كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوام رأسه تتناثر على وجهه، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: نعم! قال: احلق رأسك، وعليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك، تذبح ذبيحة، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تطعم ستة مساكين.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية، ثم ذكر نحوه.

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني سيف، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال قلت: نعم ! قال: فاحلق. قال: ففي نـزلت هذه الآية: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتهافت علي، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: قلت: نعم ! قال: فاحلق، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا بين ستة مساكين قال أيوب: انسك نسيكة، وقال ابن أبي نجيح: اذبح شاة

قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم ! فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنـزل الله الفدية، فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون. قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « أيؤذيك هوام رأسك؟ » قال: قلت نعم ! قال ونـزلت هذه الآية: « فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، عن كعب بن عجرة، قال: لفي نـزلت، وإياي عنى بها: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية، وهو عند الشجرة، وأنا محرم : أيؤذيك هوامه؟ قلت: نعم!- أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك - فأنـزل الله جل وعز: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » ، والنسك: شاة.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن مجاهد، قال: قال كعب بن عجرة، والذي نفسي بيده، لفي نـزلت هذه الآية، وإياي عنى بها، ثم ذكر نحوه، قال: وأمره أن يحلق رأسه.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأك « . »

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس، عن مجاهد، [ عن ابن أبي ليلى ] ، عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لعله آذاك هوامك؟ - يعني القمل - قال: فقلت: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدثه، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال: أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة، عن كعب بن عجرة أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي، ثم قال: احلق هذا، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين ! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن نافع، قال: حدثني أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة، قال كعب: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين; وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به.

حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا روح، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب، قال: سمعت كعب بن عجرة يقول: أمرني - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أحلق وأفتدي بشاة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق، فسألته عن حلق رأسه؟ فقال: أحرمت فآذاني القمل. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احلقه، وأطعم ستة مساكين.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريح، قال: أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتؤذيك هذه الهوام؟ قال: نعم. قال: فاحلق واجزز، ثم صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين. قال: قلت أسمى النبي صلى الله عليه وسلم مدين مدين؟ قال: نعم، كذلك بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك لكعب، ولم يسم النسك، قال: وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحلق والنحر، لا يدري عطاءكم بين الحلق والنحر.

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني الليث، عن ابن مسافر، عن ابن شهاب، عن فضالة بن محمد الأنصاري، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه: أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو الأسود، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: سمعت شعيبا يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: أيؤذيك دواب رأسك؟ قال: نعم، قال: فاحلقه وافتد إما بصوم ثلاثة أيام، وإما أن تطعم ستة مساكين، أو نسك شاة « ففعل. »

قال أبو جعفر: وقد بينا قبل معنى « الفدية » ، وأنها بمعنى الجزاء والبدل.

قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه.

فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلوا بالأخبار التي ذكرناها قبل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، مثله.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قالا الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا إلا أنه قال في إطعام المساكين: ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » إن صنع واحدا فعليه فدية، وإن صنع اثنين فعليه فديتان، وهو مخير أن يصنع أي الثلاثة شاء. أما الصيام فثلاثة أيام. وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأما النسك فشاة فما فوقها. نـزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه، فحلقه.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فمن كان مريضا أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق، ففدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة فرق بين ستة مساكين، أو نسك، والنسك: شاة.

حدثت عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق، ففدية من صيام أو صدقة، أو نسك. قال: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة: إطعام ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع. والنسك: شاة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما، قال: مدا لطعامه، ومدا لإدامه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة بإسناده مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب، وهو يذكر الرجل الذي نـزل فيه: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه » ، قال: فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الصيام: فثلاثة أيام، وأما المساكين فستة، وأما النسك فشاة.

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة. فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله - حلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى- كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. والصيام: ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك: شاة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد قوله: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قالا الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة.

وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم - من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن أبي عمران، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء. فالصيام: عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين، مكوكا من تمر، ومكوكا من بر، والنسك: شاة.

حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: حدثنا بشر بن عمرو، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » قال: إطعام عشرة مساكين.

وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم، أو صدقة جزاء من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله بدلا من دم، على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده. قالوا: فكل صوم وجب مكان دم، فمثله.

قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره. فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.

وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده. فإن لم تكن عنده قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » ، فأجابه بقوله: يحكم عليه إطعام، فإن كان عنده اشترى شاة، فإن لم تكن قومت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدق، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. فقال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر. قال: لما قال لي سعيد بن جبير: هذا ما أظرفه ! قال: قلت: هذا إبراهيم ! قال: ما أظرفه ! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت « يجالسنا » ، انتفض منها.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يحكم على الرجل في الصيد، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما، وكذلك الفدية.

وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث، يفتدي بأيها شاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » ، فهو بالخيار، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود، فأيهما خرج أخذته.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » فصاحبه بالخيار، يأخذ الأولى فالأولى.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: كل ما كان في القرآن: « كذا، فمن لم يجد فكذا » ، فالأول فالأول. وكل ما كان في القرآن « أو كذا » « أو كذا » ، فهو فيه بالخيار.

حدثني نصير بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد - وسئل عن قوله: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » فقال مجاهد: إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء « أو » « أو » ، فإن شئت فخذ بالأول، وإن شئت فخذ بالآخر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال لي عطاء وعمرو بن دينار- في قوله: « فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » - قالا له أيتهن شاء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: كل شيء في القرآن « أو » « أو » ، فلصاحبه أن يختار أيّه شاء.

قال ابن جريج: قال لي عمرو بن دينار: كل شيء في القرآن « أو » « أو » ، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا ما كان في القرآن « أو كذا » ، « أو كذا » ، فصاحبه بالخيار، أي ذلك شاء فعل.

حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا يزيد، عن سفيان، عن ليث ومجاهد، عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » ، فهو مخير فيه، فإن كان « فمن » « فمن » ، فالأول فالأول.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أسباط بن محمد، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » ، فليتخير أي الكفارات شاء، فإذا كان: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ، فالأول فالأول.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال: حدثت عن عطاء، قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » فهو خيار.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه، ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.

وللمفتدي الخيار بين أي ذلك شاء، لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أي الثلاث شاء.

ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير - إذا كان موسرا- في أن يكفر بأي الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال: « لا » ، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال: « بلى‍ » ، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به. ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.

وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز.

قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة الحلق قبل الحلق، وهدي المتعة قبل التمتع، ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك - فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق - فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

فإن اعتل في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة. قيل له: فرد الأخرى قياسا عليها، إذ كان فيها اختلاف.

وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى: من الصيام عشرة أيام، ومن الإطعام عشرة مساكين، فمخالفون نص الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سووا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية، وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية - من الإطعام والصيام . وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف.

وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام.

قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملا من الأعمال، وتركتم رد الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف، ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك، لاختلاف أمرهما فيما وصفنا فرق من أصل أو نظير؟

فلن يقولوا في ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟

واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته.

فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يحيى بن طلحة، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء.

حدثني يحيى بن طلحة، حدثنا فضيل، عن ليث، عن طاوس، قال: كل شيء من الحج فبمكة، إلا الصوم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سألت عطاء عن النسك، قال: النسك بمكة لا بد.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: الصدقة والنسك في الفدية بمكة، والصيام حيث شئت.

حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا ليث، عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو إطعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبل، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى، والطعام بمكة.

وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، قال: أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان ومعه علي والحسين بن علي رضوان الله عليهم، فارتحل عثمان قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر قال: فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلنا له: أيها النائم ! فاستيقظ، فإذا الحسين بن علي. قال: فحمله ابن جعفر حتى أتى به السقيا. قال: فأرسل إلى علي، فجاء ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: فقال علي للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ إلى رأسه. قال: فأمر به علي فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنحرها.

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر، يحدث: أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن علي، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس. قال أبو أسماء: فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع، فقال عبد الله بن جعفر: إن هذه لراحلة حسين. فلما دنا منه قال له: أيها النائم ! وهو يظن أنه نائم; فلما دنا منه وجده يشتكي، فحمله إلى السقيا، ثم كتب إلى علي فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة. ثم إن عليا قيل له: هذا حسين يشير إلى رأسه، فدعا علي بجزور فنحرها، ثم حلق رأسه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: أقبل حسين بن علي مع عثمان حراما - حسبت أنه اشتكى بالسقيا فذكر ذلك لعلي: فجاء هو وأسماء بنت عميس، فمرضوه عشرين ليلة، فأشار حسين إلى رأسه، فحلقه ونحر عنه جزورا. قلت: فرجع به؟ قال: لا أدري.

قال أبو جعفر: وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر علي عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه، ثم حلقه رأسه بعد النحر- إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد ، كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن الحج بالمرض الذي أصابه - وإن كان على ما رواه يعقوب، عن هشيم: من نحر علي عنه الناقة بعد حلقه رأسه: أن يكون على وجه الافتداء من الحلق، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزئ نحره دون مكة والحرم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفدية حيث شئت.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن الحكم، عن إبراهيم - في الفدية، في الصدقة والصوم والدم- : حيث شاء.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن إبراهيم أنه كان يقول، فذكر مثله.

وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، وعبد الملك، وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.

قال أبو جعفر: وعلة من قال: « الدم والإطعام بمكة » ، القياس على هدي جزاء الصيد. وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة، فقال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ المائدة: 95 ] . قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد.

وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحق ذلك الاسم كان مؤديا ما كلفه الله. لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة، لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه، دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.

وأما علة من قال: « النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء » ، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.

وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان ، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة. فليس لأحد أن يدعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه؛ كما ليس لأحد أن يدعي أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خص أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام، فيجزي عن المفتدي. وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يحب أن يكن مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها.

فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز رد حكمها على المفسرة قياسا.

ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنـزيل، إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله.

وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.

واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟

فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدق بجميعه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك، عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهن: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن سالم، عن عطاء قال: لا تأكل من فدية ولا من جزاء، ولا من نذر، وكل من المتعة، ومن الهدي والتطوع.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن سالم، عن مجاهد، قال: جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوع والتمتع.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن الحجاج، عن عطاء، قال: لا تأكل من جزاء، ولا من فدية، وتصدق به.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ولا من الفدية، ويؤكل مما سوى ذلك.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا: لا يؤكل من الفدية وقال مرة: من هدي الكفارة، ولا من جزاء الصيد.

وقال بعضهم: له أن يأكل منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، قال: من الفدية وجزاء الصيد والنذر.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء، ويتصدق على ستة مساكين.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني عبد الملك، قال: حدثني من سمع الحسن، يقول: كل من ذلك كله - يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية.

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا الأشعث عن الحسن : أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين.

قال أبو جعفر: وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره.

فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له .

أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه. لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال: « وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة » ، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه.

أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك، غير جائز أن يكون عليه، لما وصفنا.

وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.

قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.

وعلة من قال: « له أن يأكل من ذلك » ، أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي، وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية. قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحب منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته.

قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه دون غيره، أو ذبحه والتصدق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به. فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدق به، كما لو لزمته زكاة في ماله، لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم - على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره - دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.

ومعنى « النسك » ، الذبح لله، في لغة العرب، يقال: « نسك فلان لله نسيكة » بمعنى: ذبح لله ذبيحة « ينسكها نسكا » ، كما:-

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النسك: أن يذبح شاة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا أَمِنْتُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: « فإذا أمنتم » فإذا برأتم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: « فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » يقول: فإذا أمنت حين تحصر، إذا أمنت من كسرك، ومن وجعك، فعليك أن تأتي البيت، فيكون لك متعة، فلا تحل حتى تأتي البيت.

وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من خوفكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فإذا أمنتم » لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ.

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فإذا أمنتم » قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه.

قال أبو جعفر: وهذا القول أشبه بتأويل الآية. لأن « الأمن » هو خلاف « الخوف » ، لا خلاف « المرض » ، إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد.

وإنما قلنا: إن معناه: الخوف من العدو، لأن هذه الآيات نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة « التمتع » الذي عنى الله بهذه الآية.

فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج، أو مرض، أو عائق من العلل، حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأول إلى إحرامه الثاني من القابل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمران بن موسى البصري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبير وهو يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحصره عدو أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحج ويهدي هديا، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان ابن الزبير يقول: المتعة لمن أحصر، قال: وقال ابن عباس: هي لمن أحصر ومن خليت سبيله.

حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال عطاء: كان ابن الزبير يقول: إنما المتعة للمحصر وليست لمن خلي سبيله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج، ثم حللتم، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم فعليكم ما استيسر من الهدي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، قال: يبعث بما استيسر من الهدي، شاة. قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله وحلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك فَإِذَا أَمِنْتُمْ ، فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت، حل من حجه بعمرة وكان عليه الحج من قابل. وإن هو رجع ولم يتم إلى البيت من وجهه ذلك، فإن عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة. فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج، فإن عليه ما استيسر من الهدي، شاة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس في ذلك كله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه، فإذا بلغت محلها صار حلالا فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة، وأحل، وعليه الحج عاما قابلا. وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله، فعليه عمرة وحجة وهدي. قال قتادة: [ وهي ] والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » إلى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ، قال: هذا المحصر إذا أمن، فعليه المتعة في الحج وهدي المتمتع، فإن لم يجد فالصيام، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحج، فعليه فيها هدي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي: « فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج، فعليه الهدي.

وقال آخرون: عنى بذلك المحصر وغير المحصر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول: المتعة لمن أحصر، ولمن خُلِّي سبيله. وكان ابن عباس يقول: أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » ، أما المتعة فالرجل يحرم بحجة، ثم يهدمها بعمرة. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين حاجا، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب منكم أن يحل فليحل، قالوا: فما لك يا رسول الله ! قال: أنا معي هدي.

وقال آخرون: بل ذلك : الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلاله إلى إحرامه بالحج.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » ، من يوم الفطر إلى يوم عرفة، فعليه ما استيسر من الهدي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن نافع، قال: قدم ابن عمر مرة في شوال، فأقمنا حتى حججنا، فقال: إنكم قد استمتعتم إلى حجكم بعمرة، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد، ومن لا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله.

حدثنا ابن بشار، وعبد الحميد بن بيان قال ابن بشار: حدثنا، وقال عبد الحميد: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن نافع، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال، فأدركهما الحج وهما بمكة، فقال ابن عمر: من اعتمر معنا في شوال ثم حج، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحج، فساق هديا تطوعا، فقدم مكة في أشهر الحج، قال: إن لم يكن يريد الحج، فلينحر هديه، ثم ليرجع إن شاء، فإن هو نحر الهدي وحل، ثم بدا له أن يقيم حتى يحج، فلينحر هديا آخر لتمتعه، فإن لم يجد فليصم.

حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، مثل ذلك.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول: من اعتمر في شوال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحج، فهو متمتع، عليه ما على المتمتع.

حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن عطاء مثل ذلك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي » يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فما استيسر من الهدي.

حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع، قال: أخبرني ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: المتعة لخلق الله أجمعين، الرجل، والمرأة، والحر، والعبد، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحج ثم أقام ولم يبرح حتى يحج، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت « المتعة » ، من أجل أنه اعتمر في شهور الحج، فتمتع بعمرة إلى الحج، ولم تسم « المتعة » من أجل أنه يحل بتمتع النساء.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حل من إحرامه بالحج - بسبب الإحصار، بعمرة اعتمرها لفوته الحج في السنة القابلة في أشهر الحج - إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحج وقضاها ثم حل من عمرته وأقام حلالا حتى يحج من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله: « فمن تمتع بالعمرة إلى الحج » هو ما وصفنا، من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحج والعمرة من الأحكام في إحصاره. فكان مما أخبر تعالى ذكره: أنه عليه - إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحج - ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وكان معلوما بذلك أنه معني به اللازم له - عند أمنه من إحصاره - من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه، دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فما استيسر من الهدي، فهديه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حل منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها، وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج في حجه، وسبعة إذا رجع إلى أهله.

ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهن في الحج: أي في أيام الحج هن.

فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أي أيام شاء، بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، قال: قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر في قوله: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، قال: يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فاته صامها أيام منى.

حدثنا الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن عروة، قال: المتمتع يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، قال: آخرهن يوم عرفة.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج، قال: يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم: « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام » أنه قال: آخرها يوم عرفة.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا هُشيم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي: صام يوما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، وهارون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر إلى يوم عرفة.

قال: وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صوم ثلاثة أيام للمتمتع، إذا لم يجد ما يهدي، يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه، فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب بن عطاء، أن عطاء بن أبي رباح، كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن في قوله: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: آخرها يوم عرفة.

حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود وحدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود عن عامر في هذه الآية: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، قال: قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج » آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر.

حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، قال: فآخرها يوم عرفة.

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: آخرها يوم عرفة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن عطاء: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: آخرها يوم عرفة.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: عرفة وما قبلها من العشر.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، قالا « صيام ثلاثة أيام في الحج » ، في العشر، آخرهن عرفة.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، قال: سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: آخرهن يوم عرفة.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إلى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ، وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله.

حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا زياد بن المنذر، عن أبي جعفر: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: آخرها يوم عرفة.

وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.

حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحج، فليصم أيام التشريق فإنهن من الحج.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن محمد أن نافعا حدثه: أن عبد الله بن عمر قال: من اعتمر في أشهر الحج فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق، فليصم أيام منى.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وعن سالم، عن عبد الله بن عمر أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا هشام، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق، فإنها من أيام الحج.

وذكر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال:

حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن هشام بن عروة، عن أبيه في هذه الآية: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » قال: هي أيام التشريق.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن وبرة، عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة . قال: وقال عبيد بن عمير: يصوم أيام التشريق.

قال أبو جعفر: وعلة من قال: « آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهن في الحج على من لم يجد الهدي من المتمتعين - يوم عرفة » ، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهن في الحج بقوله: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » . قالوا: وإذا انقضى يوم عرفة، فقد انقضى الحج، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام. قالوا: وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر . قالوا: فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه ليس من أيام الحج، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحج، لأن أيام الحج متى انقضت من سنة، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها. أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه يوم عيد، فأيام التشريق التي بعده في معناه، لأنها أيام عيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صومهن، كما نهى عن صوم يوم النحر.

قالوا: وإذا كان يفوت صومهن بمضي يوم عرفة، لم يكن إلى صيامهن في الحج سبيل; لأن الله شرط صومهن في الحج، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته.

وعلة من قال: « آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى » ، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلا. قالوا: وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر، ولو كان له واجدا قبل ذلك. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلا. قالوا: والوقت الذي يلزمه فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره. قالوا: فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك، وإنما لزمه يوم النحر، فإنما لزمه الصوم يوم النحر، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده، فوجب عليه الصوم. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر. وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر. ومن ذلك الوقت إذا لم يجده، يكون له الصوم. قالوا: وإذا طلع فجر يوم لم يلزمه صومه قبل ذلك، إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق.

قالوا: ولا معنى لقول القائل: إن أيام منى ليست من أيام الحج; لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحج، كما ينسك غير ذلك من أعمال الحج في الأيام قبلها. قالوا: هذا مع شهادة الخبر الذي:-

حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر، أن يصوم أيام التشريق مكانها.

لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه.

حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكرٍ لله، إلا من كان عليه صوم من هدي.

واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل: « فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، والوقت الذي يجوز له فيه صومهن، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن.

فقال بعضهم: له أن يصومهن من أول أشهر الحج.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وطاوس: أنهما كانا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه. قال: وقال مجاهد: إذا لم يجد المتمتع ما يهدي، فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة، متى ما صام أجزأه. فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.

حدثني أحمد بن المغيرة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: من صام يوما في شوال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة، أجزأه عنه من صوم التمتع.

3474حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: إن شاء صام أول يوم من شوال.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قول الله جل وعز: « فصيام ثلاثة أيام في الحج » ، قال: إن شاء صامها في العشر، وإن شاء في ذي القعدة، وإن شاء في شوال.

وقال آخرون: يصومهن في عشر ذي الحجة دون غيرها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء: يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة، فليصم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الحجاج، عن أبي جعفر، قال: لا يصام إلا في العشر.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا الربيع، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: في تسع من ذي الحجة أيها شئت، فمن صام قبل ذلك في شوال وفي ذي القعدة، فهو بمنـزلة من لم يصم.

وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال.

وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهن إلا بعد ما يحرم بالحج.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يصومهن إلا وهو حرام.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو متمتع إلا أن يحرم. وقال مجاهد: يجزيه إذا صام في ذي القعدة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهن لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي، من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه، إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله، أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.

وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قبل، فإن صامهن قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته. وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم « متمتع » بعمرته إلى حجه. وإنما يقال له قبل إحرامه « معتمر » ، حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة. فإذا دخل في الحج محرما به - بعد قضاء عمرته في أشهر الحج، ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالا حتى حج من عامه - سمي « متمتعا » . فإذا استحق اسم « متمتع » لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده.

فأما إن صامه قبل دخوله في الحج - وإن كان من نيته الحج- فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين، ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.

فإن ظن ظان أن صوم المعتمر- بعد إحلاله من عمرته، أو قبله، وقبل دخوله في الحج - مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ. لأن الله جل ثناؤه جعل لليمين تحليلا هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها، محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم، تكفيرا لما يظن أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه.

ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟

فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحج التي أوجب الله في تضييعه على المحرم، أو في فعله، كفارة، فإن سوى بين جميع ذلك قاد قوله،

وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح، إذا كفر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسأل: عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن قاد قوله في ذلك، خرج من قول جميع الأمة.

وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحج، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.

فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحج إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟

قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهن بمكة، كان مؤديا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنـزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر.

وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: « وسبعة إذا رجعتم » ، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وسبعة إذا رجعتم » ، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، نحوه.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور: « وسبعة إذا رجعتم » ، قال: إن شاء صامها في الطريق، وإنما هي رخصة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، قال: إن شئت صم السبعة في الطريق، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن فطر، عن عطاء، قال: يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحب إلي.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: « وسبعة إذا رجعتم » ، قال: إن شئت في الطريق، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك.

فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله: « وسبعة إذا رجعتم » إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟

قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره.

* ذكر بعض من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « وسبعة إذا رجعتم » ، قال: إذا رجعت إلى أهلك.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « وسبعة إذا رجعتم » إذا رجعتم إلى أمصاركم.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير: « وسبعة إذا رجعتم » قال: إلى أهلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « كاملة » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن في قوله: « تلك عشرة كاملة » ، قال: كاملة من الهدي.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن، مثله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه، ولم يحل ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.

وقال آخرون: معنى ذلك: الأمر، وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله: « تلك عشرة كاملة » تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها.

وقال آخرون: بل قوله: « كاملة » ، توكيد للكلام، كما يقول القائل: « سمعته بأذني، ورأيته بعيني » ، وكما قال: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [ النحل: 26 ] ولا يكون « الخر » إلا من فوق، فأما من موضع آخر، فإنما يجوز على سعة الكلام.

وقال آخرون: إنما قال: « تلك عشرة كاملة » ، وقد ذكر « سبعة » وثَلاثَةِ ، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة، وليس يخبر عن عدتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله: « كاملة » إنما هو وافية؟.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي [ بالصواب ] قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « ذلك » ، أي التمتع بالعمرة إلى الحج، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما:-

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، يعني المتعة أنها لأهل الآفاق، ولا تصلح لأهل مكة.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة.

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم.

فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، قال: قال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مجاهد: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال: أهل الحرم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا عن ابن عباس في قوله: « حاضري المسجد الحرام » ، قال: هم أهل الحرم، والجماعة عليه.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة، إنه لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون، فيقدمون في أشهر الحج ثم يحجون، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام، أرخص لهم في ذلك، لقول الله عز وجل: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » .

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أهل الحرم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: المتعة للناس، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم، وذلك قول الله عز وجل: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. بالكلام

وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منـزله دون المواقيت إلى مكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال: من كان دون المواقيت.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله إلا أنه قال: ما كان دون المواقيت إلى مكة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عطاء، قال: من كان أهله من دون المواقيت، فهو كأهل مكة لا يتمتع.

وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منـزله منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال: عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، ونخلتان.

حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال: عرفة ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في هذه الآية قال: اليوم واليومين.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء: أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » .

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام » ، قال: أهل مكة وفج وذي طوي، وما يلي ذلك فهو من مكة.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات. لأن « حاضر الشيء » ، في كلام العرب، هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك وكان لا يستحق أن يسمى « غائبا » ، إلا من كان مسافرا شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم « غائب » عن وطنه ومنـزله كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة، غير مستحق أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.

وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام، من أجل أن « التمتع » إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحج، مرتفقا في ترك العود إلى المنـزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحج. وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحج، ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حج من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا. لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع، من ترك العود إلى الميقات، والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم. وكان المكي من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك، من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 196 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل اسمه: « واتقوا الله » ، بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرم فيها عليكم. « واعلموا » : تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وقت الحج أشهر معلومات.

« والأشهر » مرفوعات بـ « الحج » ، وإن كان له وقتا، لا صفة ونعتا، إذ لم تكن محصورات بتعريف، بإضافة إلى معرفة أو معهود، فصار الرفع فيهن كالرفع في قول العرب في نظير ذلك من المحل: « المسلمون جانب، والكفار جانب » ، برفع الجانب الذي لم يكن محصورا على حد معروف. ولو قيل: « جانب أرضهم، أو بلادهم » ، لكان النصب هو الكلام.

ثم اختلف أهل التأويل في قوله: « الحج أشهر معلومات » .

فقال بعضهم: يعني بـ « الأشهر المعلومات » : شوالا وذا القعدة، وعشرا من ذي الحجة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله: « الحج أشهر معلومات » قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وشريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « الحج أشهر معلومات » ، وهن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: « الحج أشهر معلومات » ، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري عن المغيرة، عن إبراهيم مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وإسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، مثله.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي وأخبرنا يونس، عن الحسن وأخبرنا جويبر، عن الضحاك وأخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد، مثله.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة في « الحج أشهر معلومات » .

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: « الحج أشهر معلومات » قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.

حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.

وقال آخرون: بل يعني بذلك شوالا وذا القعدة، وذا الحجة كله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أكان عبد الله يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، كان يسمي شوالا وذا القعدة، وذا الحجة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: « الحج أشهر معلومات » ، قال عطاء: فهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الحج أشهر معلومات » أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة وربما قال: وعشر ذي الحجة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « الحج أشهر معلومات » قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما وجه قائلي هذه المقالة، وقد علمت أن عمل الحج لا يعمل بعد تقضي أيام منى؟

قيل: إن معنى ذلك غير الذي توهمته، وإنما عنوا بقيلهم: الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن أشهر الحج لا أشهر العمرة، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة. ومما يدل على أن ذلك معناهم في قيلهم ذلك ما:-

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: أن تفصلوا بين أشهر الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته.

حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا شعبة، قال: ما لقيني - أيوب أو قال: ما لقيت أيوب - إلا سألني عن حديث قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قلت لعبد الله: امرأة منا قد حجت، أو هي تريد أن تحج، أفتجعل مع حجها عمرة؟ فقال: ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحج. قال: فيقول لي أيوب ومن عنده: مثل هذا الحديث حدثك قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد الله ؟ !.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له: العمرة في المحرم؟ فقال: كانوا يرونها تامة.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن عون، قال: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج، قال: كانوا لا يرونها تامة.

حدثنا ابن بيان الواسطي، قال: أخبرنا إسحاق عن عبد الله بن عون، عن ابن سيرين أنه كان يستحب العمرة في المحرم، قال: تكون في أشهر الحج ؟ قال: كانوا لا يرونها تامة.

حدثنا ابن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: قال ابن عمر للحكم بن الأعرج أو غيره: إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي يعقوب، قال: سمعت ابن عمر يقول: لأن أعتمر في عشر ذي الحجة أحب إلي من أن أعتمر في العشرين.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تجمع مع حجها عمرة، فقال: أسمع الله يقول: « الحج أشهر معلومات » ما أراها إلا أشهر الحج.

حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا حزام القطعي، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما أحد من أهل العلم شك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج.

ونظائر ذلك مما يطول باستيعاب ذكره الكتاب، مما يدل على أن معنى قيل من قال: وقت الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن من غير شهور العمرة، وأنهن شهور لعمل الحج دون عمل العمرة، وإن كان عمل الحج إنما يعمل في بعضهن لا في جميعهن.

وأما الذين قالوا: تأويل ذلك: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، فإنهم قالوا: إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: « الحج أشهر معلومات » إلى تعريف خلقه ميقات حجهم، لا الخبر عن وقت العمرة. قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحج، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الحج ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة، علم أن معنى قوله: « الحج أشهر معلومات » إنما هو ميقات الحج، شهران وبعض الثالث.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: إن معنى ذلك: الحج شهران وعشر من الثالث; لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحج، ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لم يكن معنيا به جميعه، صح قول من قال: وعشر ذي الحجة.

فإن قال قائل: فكيف قيل: « الحج أشهر معلومات » وهو شهران وبعض الثالث؟

قيل: إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول: « له اليوم يومان منذ لم أره » ، وإنما تعني بذلك: يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [ البقرة: 203 ] وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة، ثم يخرجه عاما على السنة والشهر، فيقول: « زرته العام، وأتيته اليوم » ، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك، وفي ذلك الحين، فكذلك « الحج أشهر » ، والمراد منه: الحج شهران وبعض آخر.

فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فمن فرض فيهن الحج » ، فمن أوجب الحج على نفسه وألزمها إياه فيهن - يعني: في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله، وترك جميع ما أمره الله بتركه.

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحج، بعد إجماع جميعهم، على أن معنى « الفرض » : الإيجاب والإلزام.

فقال بعضهم: فرض الحج الإهلال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد الله المدني بن دينار، عن ابن عمر قوله: « فمن فرض فيهن الحج » قال: من أهل بحج.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن عطاء، قال: التلبية.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران وحدثنا علي، قال: حدثنا زيد جميعا، عن سفيان الثوري: « فمن فرض فيهن الحج » قال: فالفريضة الإحرام، والإحرام التلبية.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم - يعني ابن مهاجر- ، عن مجاهد: « فمن فرض فيهن الحج » قال: الفريضة: التلبية.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: « فمن فرض فيهن الحج » قال: أهل.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الفرض التلبية، ويرجع إن شاء ما لم يحرم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فمن فرض فيهن الحج » قال: الفرض: الإهلال.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: « فمن فرض فيهن الحج » قال: التلبية.

حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن جبر بن حبيب، قال: سألت القاسم بن محمد عن: « من فرض فيهن الحج » ، قال: إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت، فقد فرضت الحج.

وقال آخرون: فرض الحج إحرامه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فمن فرض فيهن الحج » يقول: من أحرم بحج أو عمرة.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم قالوا جميعا: حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: « فمن فرض فيهن الحج » قال: فمن أحرم - واللفظ لحديث ابن بشار.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك والحسن بن صالح، عن ليث، عن عطاء، قال: الفرض: الإحرام.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الحسن في قوله: « فمن فرض فيهن الحج » قالا فرض الحج الإحرام.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « فمن فرض فيهن الحج » فهذا عند الإحرام.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الفرض الإحرام.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم: « فمن فرض فيهن الحج » قال: من أحرم.

قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام - كان عند قائله- الإيجاب بالعزم، ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية، كما قال القائلون القول الأول.

وإنما قلنا: إن فرض الحج الإحرام، لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه، على ما وصفنا آنفا، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة:

إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرد للإحرام، وأن يكون من لم يكن له متجردا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجردا من ثيابه، بإيجابه الإحرام ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلب، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام، كما التجرد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه، ما يدل على أن حكم غيره من مشاعره حكمه.

أو يكون - إذ فسد هذا القول - قد يكون محرما وإن لم يلب ولم يتجرد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه، إذا كان من أهل التكليف، ما ينبئ عن فساد هذا القول.

وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث، وهو أن الرجل قد يكون محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا، وإن لم يظهر ذلك بالتجرد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صح ذلك صح ما قلنا من أن فرض الحج، هو ما قرن إيجابه بالعزم، على نحو ما بينا قبل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلا رَفَثَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الرفث » في هذا الموضع،

فقال بعضهم: هو الإفحاش للمرأة في الكلام، وذلك بأن يقول: « إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا » ، لا يكني عنه، وما أشبه ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ويونس قالا حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن الرفث في قول الله: « فلا رفث ولا فسوق » قال: هو التعريض بذكر الجماع، وهي « العرابة » من كلام العرب، وهو أدنى الرفث.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم، عن ابن طاوس في قوله: « فلا رفث » قال: الرفث: العرابة والتعريض للنساء بالجماع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عون، قال: حدثنا زياد بن حصين، قال: حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصعدت مع ابن عباس في الحاج، وكنت له خليلا فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عباس، فأخذ بذنب بعيره، فجعل يلويه، وهو يرتجز ويقول:

وهـــن يمشــين بنــا هميســا إن تصــدق الطــير ننـك لميسـا

قال: فقلت: أترفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرياحي، عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم، ويقول:

وهـــن يمشــين بنــا هميســا إن تصــدق الطــير ننـك لميسـا

قال: قلت: تتكلم بالرفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيحل للمحرم أن يقول لامرأته: « إذا حللت أصبتك » ؟ قال: لا ذاك الرفث. قال: وقال عطاء: الرفث ما دون الجماع.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قول الرجل لامرأته: « إذا حللت أصبتك » ، قال: ذاك الرفث !.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن زيادة بن حصين، عن أبي العالية، قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم، وهو يرتجز ويقول:

وهـــن يمشــين بنــا هميســا إن تصــدق الطــير ننـك لميسـا

قال: قلت: أترفث يا ابن عباس وأنت محرم ؟ قال: إنما الرفث ما روجع به النساء.

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن الزبير السبائي وعطاء: أنه سمع طاوسا قال: سمعت ابن الزبير يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة . فذكرته لابن عباس، فقال: صدق! قلت لابن عباس: وما الإعراب ؟ قال: التعريض.

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس أنه كان يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة. قال طاوس: والإعرابة: أن يقول وهو محرم: « إذا حللت أصبتك » .

حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، قال: لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن عطاء قال: كانوا يكرهون الإعرابة - يعني التعريض بذكر الجماع - وهو محرم.

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس أنه سمع أباه أنه كان يقول: لا تحل الإعرابة. « والإعرابة » التعريض.

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: « فلا رفث » قال: الرفث الذي ذكر ههنا، ليس بالرفث الذي ذكر في: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ البقرة: 187 ] ومن « الرفث » ، التعريض بذكر الجماع، وهي الإعرابة بكلام العرب.

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية: قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء: أنه كره التعريب للمحرم.

حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاوس أن أباه كان يقول: الرفث: الإعرابة مما وراه من شأن النساء، والإعرابة: الإيضاح بالجماع.

حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة.

حدثني علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فلا رفث » قال: الرفث: غشيان النساء والقبل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يقول للحادي: لا تعرض بذكر النساء.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر وابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الرفث في « الصيام » : الجماع، والرفث في « الحج » الإعرابة. وكان يقول: الدخول والمسيس الجماع.

وقال آخرون: « الرفث » في هذا الموضع: الجماع نفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، قال: الرفث: الجماع.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الرفث: إتيان النساء.

حدثنا عبد الحميد قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن الرفث، فقال: الجماع.

حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الرفث: هو الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء.

حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية قال: سمعت ابن عباس يرتجز وهو محرم، يقول:

خرجــن يســرين بنــا هميســا إن تصــدق الطــير ننـك لميسـا

قال شريك: « إلا أنه لم يكن عن الجماع » - لميسا. فقلت: أليس هذا الرفث؟ قال: لا إنما الرفث: إتيان النساء والمجامعة.

حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن عون، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس بنحوه - إلا أن عونا صرح به.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، قال: الرفث الجماع.

حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله: « فلا رفث » قال: الرفث إتيان النساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: « فلا رفث » ، قال: الرفث: غشيان النساء.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الرفث: الجماع فما دونه من شأن النساء.

حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار بنحوه.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله: « فلا رفث » قال: الرفث الجماع.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد: « فلا رفث » ، قال: الرفث الجماع.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله: « فلا رفث » قال: كان قتادة يقول: الرفث: غشيان النساء.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع.

حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الرفث: الجماع.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الرفث: المجامعة.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فلا رفث » فلا جماع.

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فلا رفث » قال: الرفث: الجماع.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فلا رفث » قال: جماع النساء.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: « فلا رفث » قال: الرفث: الجماع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الرفث: الجماع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الرفث الجماع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الرفث: الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الرفث: الجماع.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن حسين بن عقيل وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قالا أخبرنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: الرفث: الجماع.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، مثله - قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قالا مثل ذلك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين - وأخبرنا مغيرة، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث: النكاح.

حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثني ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول الرفث: الجماع.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الرفث: غشيان النساء قال معمر: وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرفث: إتيان النساء، وقرأ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ البقرة: 187 ]

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « فلا رفث » قال: الرفث: الجماع.

حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى - من فرض الحج في أشهر الحج- عن الرفث، فقال: « فمن فرض فيهن الحج فلا رفث » . و « الرفث » في كلام العرب: أصله الإفحاش في المنطق على ما قد بينا فيما مضى، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين في تأويله، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني « الرفث » أم عن جميع معانيه؟ - وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر بخصوص « الرفث » الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني « الرفث » يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة.

فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها، منقول بإجماع. وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن « الرفث » عند غير النساء غير محظور على محرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معني بها بعض « الرفث » دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرم من معاني « الرفث » على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها.

قيل: إن ما خص من الآية فأبيح، خارج من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى « الرفث » بالآية، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخص منه شيء، لأن ما خص من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية - بعد الذي خص منها- على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خص منها، نظير العلة فيه قبل أن يخص منها شيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا فُسُوقَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الفسوق » ، التي نهى الله عنها في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي المعاصي كلها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال الفسوق: المعاصي.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء: « ولا فسوق » ، قال: الفسوق المعاصي.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الفسوق: المعاصي كلها، قال الله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [ البقرة: 282 ]

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: « ولا فسوق » ، قال: الفسوق المعاصي.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: الفسوق: المعصية.

حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي كلها.

حدثني يعقوب قال: أخبرنا ابن عيينة، عن روح بن القاسم، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « ولا فسوق » ، قال: الفسوق: المعاصي.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: « ولا فسوق » قال: الفسوق المعاصي كلها.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد جميعا، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: « ولا فسوق » ، قال: الفسوق المعاصي.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا فسوق » قال: المعاصي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الفسوق المعاصي قال: وقال مجاهد مثل قول سعيد.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الفسوق المعاصي.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ولا فسوق » ، قال: الفسوق: عصيان الله.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: « ولا فسوق » قال: الفسوق المعاصي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الفسوق المعاصي.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: « ولا فسوق » قال: المعاصي قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الفسوق معصية الله، لا صغير من معصية الله.

حدثني علي بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « ولا فسوق » قال: الفسوق: معاصي الله كلها.

حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي. وقال مثل ذلك الزهري وقتادة.

وقال آخرون: بل « الفسوق » في هذا الموضع: ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وما أشبه ذلك مما خص الله به الإحرام، وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي الله به، صيد أو غيره.

وقال آخرون: بل « الفسوق » في هذا الموضع: السباب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الفسوق: السباب.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب.

حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول: الفسوق: السباب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد: « ولا فسوق » ، قال: الفسوق السباب.

حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « ولا فسوق » ، قال: أما الفسوق: فهو السباب.

حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: الفسوق السباب.

حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.

حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن قال: وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قالا الفسوق السباب.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « ولا فسوق » قال: الفسوق: السباب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور عن إبراهيم، مثله.

وقال آخرون: « الفسوق » : الذبح للأصنام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في « الفسوق » : الذبح للأنصاب، وقرأ: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [ الأنعام: 145 ] فقطع ذلك أيضا، قطع الذبح للأنصاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين حج فعلم أمته المناسك.

وقال آخرون: « الفسوق » : التنابز بالألقاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك، قول من قال: معنى قوله: « ولا فسوق » النهي عن معصية الله في إصابة الصيد، وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه.

وذلك أن الله جل ثناؤه قال: « فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق » ، يعني بذلك: فلا يرفث، ولا يفسق، أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد، محرما كان أو غير محرم، وكذلك حرم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ [ الحجرات: 11 ] وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال، فرض الحج أو لم يفرضه.

فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحج، هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه، كما أن « الرفث » الذي نهاه عنه في حال فرضه الحج، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه. لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال: « لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال » . لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له، وقد عم به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.

فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من « الفسوق » فخص به حال إحرامه، وقيل له: « إذا فرضت الحج فلا تفعله » ، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحج، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه: من الطيب، واللباس، والحلق، وقص الأظفار، وقتل الصيد، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه.

فتأويل الآية إذا: فمن فرض الحج في أشهر الحج فأحرم فيهن، فلا يرفث عند النساء فيصرح لهن بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وغير ذلك مما حرم الله عليه فعله وهو محرم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحدا.

ثم اختلف قائلو هذا القول.

فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله: « ولا جدال في الحج » ، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن « الجدال » ، فقال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن سليمان، عن عطاء، قال: الجدال: أن يماري الرجل أخاه حتى يغضبه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: « ولا جدال في الحج » قال: أن تمحن صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن سلمة بن كهيل، قال: سألت مجاهدا عن قوله: « ولا جدال في الحج » ، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: الجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن، قال: الجدال: المراء.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الجدال: أن تصخب [ على ] صاحبك.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: « ولا جدال في الحج » قال: المراء.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم قالا حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا واقد الخلقاني، عن عطاء، قال: أما الجدال: فتماري صاحبك حتى تغضبه.

حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الجدال: المراء، أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: الجدال المراء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الجدال: أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة: « ولا جدال » الجدال الغضب، أن تغضب عليك مسلما، إلا أن تستعتب مملوكا فتعظه من غير أن تغضبه، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى في ذلك.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا الجدال هو الصخب والمراء وأنت محرم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الجدال ما أغضب صاحبك من الجدل.

حدثني علي، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « ولا جدال في الحج » ، قال: الجدال: المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: الجدال: المراء.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا هو الصخب والمراء وأنت محرم.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: « ولا جدال في الحج » ، كانوا يكرهون الجدال.

وقال آخرون منهم: « الجدال » في هذا الموضع، معناه: السباب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الجدال في الحج: السباب والمراء والخصومات.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب والمنازعة.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجدال: السباب.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية جميعا، عن سعيد، عن قتادة، قال: الجدال: السباب.

وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتم حجا من الحجاج.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: « الجدال » ، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: « حجنا أتم من حجكم! » ، وقال هؤلاء: « حجنا أتم من حجكم! » .

وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحج، فنهوا عن ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن جبر بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم: « الحج اليوم! » ، ويقول بعضهم: « الحج غدا! » .

وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحج أيهم المصيب موقف إبراهيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « ولا جدال في الحج » ، قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم. فقطعه الله حين أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمناسكهم.

وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه: « ولا جدال في الحج » ، خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد في قوله: « ولا جدال في الحج » ، قال: قد استقام الحج ولا جدال فيه.

حدثني محمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد « ولا جدال في الحج » ، قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج، قد بين. كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون: « صفران » لصفر وشهر ربيع الأول، ثم يقولون: « شهرا ربيع » لشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم يقولون: « جماديان » لجمادى الآخرة ولرجب، ثم يقولون لشعبان: « رجب » ، ثم يقولون لرمضان: « شعبان » ، ثم يقولون لشوال: « رمضان » ، ويقولون لذي القعدة: « شوال » ، ثم يقولون لذي الحجة: « ذا القعدة » ، ثم يقولون للمحرم: « ذا الحجة » ، فيحجون في المحرم. ثم يأتنفون فيحسبون على ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا، فيقولون: « المحرم وصفر وشهرا ربيع » ، فيحجون في المحرم ليحجوا في كل سنة مرتين، فيسقطون شهرا آخر، فيعدون على العدة الأولى، فيقولون: « صفران، وشهرا ربيع » نحو عدتهم في أول ما أسقطوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بني كنانة.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا جدال في الحج » قال: لا شبهة في الحج، قد بين الله أمر الحج.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي « ولا جدال في الحج » ، قال: قد استقام أمر الحج فلا تجادلوا فيه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا جدال في الحج » قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج قد بين.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد: « ولا جدال في الحج » ، قال: قد علم وقت الحج، فلا جدال فيه ولا شك.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز والعلاء، عن مجاهد، قال: هو شهر معلوم لا تنازع فيه.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن مجاهد: « ولا جدال في الحج » ، قال: لا شك في الحج.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: « ولا جدال في الحج » قال: المراء بالحج.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، « ولا جدال في الحج » ، فقد تبين الحج. قال: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين. وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض » .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « ولا جدال في الحج » قال: بين الله أمر الحج ومعالمه فليس فيه كلام.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في قوله: « ولا جدال في الحج » بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحج ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه.

وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك، ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه، لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله: وَلا فُسُوقَ ، أنه غير جائز أن يكون الذي خص بالنهي عنه في تلك الحال [ إلا ما هو ] مطلق مباح في الحال التي يخالفها، وهي حال الإحلال. وذلك أن حكم ما خص به من ذلك حكم حال الإحرام، إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لخصوصه به حالا دون حال، وقد عم به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله: « ولا جدال في الحج » ، أن تأويله: لا تمار صاحبك حتى تغضبه، إلا أحد معنيين:

إما أن يكون أراد: لا تماره بباطل حتى تغضبه، فذلك ما لا وجه له. لأن الله عز وجل، قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال، محرما كان المماري أو محلا فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي الله عنه.

أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك أيضا ما لا وجه له. لأن المحرم لو رأى رجلا يروم فاحشة، كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصبه عليه، كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه. والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الآخر غير جائز تركه بحال، فأي وجوهه التي خص بالنهي عنه حال الإحرام؟ وكذلك لا وجه لقول من تأوَّل ذلك أنه بمعنى السباب، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال، فقال صلى الله عليه وسلم:

« سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر » .

فإذا كان المسلم عن سب المسلم منهيا في كل حال من أحواله، محرما كان أو غير محرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه قي حال الإحرام إذا أحرمت وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي:-

حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج مثل يوم ولدته أمه » .

حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

حدثنا أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث ابن المثنى، عن وهب بن جرير.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله أيضا.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني منصور، قال: سمعت أبا حازم يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا محمد بن عبيد الله، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه » .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله - إلا أنه قال: رجع كما ولدته أمه.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: « رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر نحوه - إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت - يعني الكعبة- فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه.

حدثنا الفضل بن الصباح، قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كهيئة يوم ولدته أمه.

دلالة واضحة على أن قوله: « ولا جدال في الحج » بمعنى النفي عن الحج بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم.

وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حج فلم يرفث ولم يفسق، استحق من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه، تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاج عنهما في حجه، من غير أن يضم إليهما الجدال. فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله: « ولا جدال في الحج » مما نهاه الله عنه بهذه الآية - على نحو الذي تأول ذلك من تأوله: من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك - لما كان صلى الله عليه وسلم ليخص باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج الذي وصف أمره، باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما.

ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به - إذ كانتا بمعنى النهي- وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما ترك ذكر الثالثة، إذ لم تكن في معناهما، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما.

فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب « الجدال » وإعراب « الرفث والفسوق » ، ليعلم سامع ذلك - إذا كان من أهل الفهم باللغات- أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما.

وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضا بإعراب، مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام.

فأعجب القراءات إلي في ذلك - إذ كان الأمر على ما وصفت - قراءة من قرأ: « فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج » ، برفع « الرفث والفسوق » وتنوينهما، وفتح « الجدال » بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين، وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء.

وأما قول من قال: معناه : النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا، والقائلين:، معناه النهي عن قول القائل: « غدا الحج » مخالفا به قول الآخر: « اليوم الحج » ، فقول في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أوخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، فنـزلت الآية بالنهي عنه؛ أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.

وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفي من الله جل وعز عن شهور الحج، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا.

وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، مع دلالة قول الله تقدس اسمه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا [ التوبة: 37 ]

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم، من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم، لتستوجبوا به الثواب الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم، ولجميعه محص، حتى أوفيكم أجره، وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى علي خافية، ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم، وعالم بضمائر نفوسكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به.

* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:

حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا عمرو بن عبد الغفار، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر، فأنـزل الله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق.

حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كانوا يحجون ولا يتزودون، فنـزلت: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى »

حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير في قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: الكعك والزيت.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: هو الكعك والسويق.

وحدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان أناس يحجون، ولا يتزودون، فأنـزل الله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » .

حدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الملك بن عطاء، كوفي لنا

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الملك، عن الشعبي في قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » قال: التمر والسويق.

حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا حنظلة، قال: سئل سالم عن زاد الحاج، فقال: الخبز واللحم والتمر. قال عمرو: وسمعت أبا عاصم مرة يقول: حدثنا حنظلة سئل سالم عن زاد الحاج، فقال الخبز والتمر.

حدثنا عمرو، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد، ويقولون: « نتوكل على الله ! » ، فأنـزل الله جل ثناؤه: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » .

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كان الحاج منهم لا يتزود، فأنـزل الله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » .

حدثنا عمرو، قال: حدثنا يحيى، عن عمر بن ذر وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن ذر عن مجاهد قال: كانوا يسافرون ولا يتزودون، فنـزلت: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » |. وقال الحسن بن يحيى في حديثه: كانوا يحجون ولا يتزودون.

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد نحوه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث فذكر نحوه.

حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج يتوصلون بالناس بغير زاد، يقولون: « نحن متكلون » . فأنـزل الله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » .

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وتزودوا » ، قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج، يتوصلون بالناس بغير زاد، فأمروا أن يتزودوا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: كان أهل اليمن يتوصلون بالناس، فأمروا أن يتزودوا ولا يستمتعوا. قال: وخير الزاد التقوى.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: كانوا لا يتزودون، فأمروا بالزاد، وخير الزاد التقوى.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، فكان الحسن يقول: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون، ولا يتزودون، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة في قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: قال قتادة: كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون - ثم ذكر نحو حديث بشر عن يزيد.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: كان ناس من أهل اليمن يخرجون بغير زاد إلى مكة، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون: « نحج بيت الله ولا يطعمنا! » . فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، فكان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأنبأ أن خير الزاد التقوى.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: « وتزودوا » قال: السويق والدقيق والكعك.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: الخشكانج والسويق.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الملك بن عطاء البكائي، قال: سمعت الشعبي يقول في قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: هو الطعام، وكان يومئذ الطعام قليلا. قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التمر والسويق.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: كان الناس يتزودون إلى عقبة، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا ولم يتزودوا.

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، قال: قال سفيان في قوله: « وتزودوا » ، قال: أمروا بالسويق والكعك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرني أبي أنه سمع عكرمة يقول في قوله: « وتزودوا » ، قال: هو السويق والدقيق.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » ، قال: كانت قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس، فقال الله تبارك تعالى لهم: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة قال: كان الناس يقدمون مكة بغير زاد، فأنـزل الله: « وتزودوا فإن خير الزاد التقوى » .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: فمن فرض في أشهر الحج الحج فأحرم فيهن، فلا يرفثن ولا يفسقن. فإن أمر الحج قد استقام لكم، وعرفكم ربكم ميقاته وحدوده، فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه، يعلمه. وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا بر لله جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزود، فمنه تزودوا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن الضحاك بن مزاحم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « فإن خير الزاد التقوى » ، قال: والتقوى عمل بطاعة الله.

وقد بينا معنى « التقوى » فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ( 197 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقون يا أهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي.

وخص جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب، لأنهم هم أهل التمييز بين الحق والباطل، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشباحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضل سبيلا.

و « الألباب » : جمع « لب » ، وهو العقل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: ليس عليكم أيها المؤمنون جناح.

و « الجناح » ، الحرج، كما:-

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.

وقوله: « أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، يعني: أن تلتمسوا فضلا من عند ربكم.

يقال منه: ابتغيت فضلا من الله - ومن فضل الله- أبتغيه ابتغاء « ، إذا طلبته والتمسته، » وبغيته أبغيه بغيا « ، كما قال عبد بني الحسحاس: »

بغــاك, ومـا تبغيـه حـتى وجدتـه كــأنك قــد واعدتـه أمس موعـدا

يعني طلبك والتمسك.

وقيل: إن معنى « ابتغاء الفضل من الله » ، التماس رزق الله بالتجارة، وأن هذه الآية نـزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البر بذلك، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنـزل الله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: في الموسم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث قال: كان ناس لا يتجرون أيام الحج، فنـزلت فيهم « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: إذا كنتم محرمين، أن تبيعوا وتشتروا.

حدثنا طليق بن محمد الواسطي، قال: أخبرنا أسباط، قال: أخبرنا الحسن ابن عمرو، عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكرى، فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا: بلى! قال: جاء رجل إلى النبي: صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نـزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم حجاج.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: كانت تقرأ هذه الآية: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » .

حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور بن المعتمر في قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: هو التجارة في البيع والشراء، والاشتراء لا بأس به.

حدثت عن أبي هشام الرفاعي، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنـزل الله جل ثناؤه: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » .

حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة بن سوار، قال: حدثنا شعبة، عن أبي أميمة، قال: سمعت ابن عمر - وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة - فقرأ ابن عمر: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يتجرون في أيام الحج، فنـزلت: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قرأ: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » ، هكذا قرأها ابن عباس.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: التجارة، أحلت لهم في المواسم. قال: فكانوا لا يبيعون، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر، وكانوا يسمونها « ليلة الصدر » ، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعا، فأحل الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين، أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن الزبير يقرأ: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نـزلت: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » .

حدثنا أحمد بن حازم والمثنى، قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: كان بعض الحاج يسمون « الداج » ، فكانوا ينـزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاج ينـزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون، حتى نـزلت: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، فحجوا.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان ناس يحجون ولا يتجرون، حتى نـزلت: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد.

حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، هي التجارة. قال: اتجروا في الموسم.

حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم، يقولون: « أيام ذكر! » فأنـزل الله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، فحجوا.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج » .

حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، قال: لا بأس بالتجارة في الحج، ثم قرأ: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » .

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » ، قال: كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة، وكانوا يسمونها « ليلة الصدر » ، ولا يطلبون فيها تجارة . فأحل الله ذلك كله، أن يعرجوا على حاجتهم، وأن يطلبوا فضلا من ربهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم نكرى فيزعمون أنه ليس لنا حج ! قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى! قال: فأنت حاج! جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنـزلت هذه الآية: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » .

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة، ولم يعرجوا على كسير، ولا على ضالة، فأحل الله ذلك، فقال: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » إلى آخر الآية.

حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فكانوا يتجرون فيها. فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج. »

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فإذا أفضتم » ، فإذا رجعتم من حيث بدأتم.

ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار: « مفيض » ، لجمعه القداح، ثم إفاضته إياها بين الياسرين. ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي:

فقلــت لهــا ردي إليــه جنانـه فــردت كمــا رد المنيـح مفيـض

ثم اختلف أهل العربية في « عرفات » ، والعلة التي من أجلها صُرفت وهي معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع؟

فقال بعض نحويي البصريين: هي اسم كان لجماعة مثل « مسلمات، ومؤمنات » ، سميت به بقعة واحدة، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة، تركا منهم له على أصله. لأن « التاء » فيه صارت بمنـزلة « الياء والواو » في « مسلمين ومسلمون » ، لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنـزلة « النون » . فلما سمي به ترك على حاله، كما يترك « المسلمون » إذا سمي به على حاله. قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به، ويشبه « التاء » بهاء التأنيث، وذلك قبيح ضعيف، واستشهدوا بقول الشاعر:

تنورتهــا مــن أذرعـات وأهلهـا بيـثرب أدنـى دارهـا نظـر عـالي

ومنهم من لا ينون « أدرعات » وكذلك: « عانات » ، وهو مكان.

وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما انصرفت « عرفات » ، لأنهن على جماع مؤنث « بالتاء » . قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث « بالتاء » ، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة، انصرفت. قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا، ثم تجعله بعد ذلك واحدا.

وقال آخرون منهم: ليست « عرفات » حكاية، ولا هي اسم منقول، ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه « بعرفات » ، ثم سميت بها البقعة. اسم للموضع، ولا ينفرد واحدها. قال: وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء. قال: ولذلك نصبت العرب « التاء » في ذلك، لأنه موضع. ولو كان محكيا، لم يكن ذلك فيه جائزا، لأن من سمى رجلا « مسلمات » أو « مسلمين » لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل، فلذلك خالف: « عانات، وأذرعات » ، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية.

قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات « عرفات » . فقال بعضهم: قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سباسب، فتجمع بما حولها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج، فأجابوه بالتلبية، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها فخرج، فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية، فصده أيضا، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى ذا المجاز، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي: « ذا المجاز » . ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال: « قد عرفت! » فسمي: « عرفات » . فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت: « المزدلفة » ، فوقف بجمع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سليمان التيمي، عن نعيم بن أبي هند، قال: لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات، قال: « عرفت! » ، فسميت عرفات لذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال: « قد عرفت! » ، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، ولذلك سميت « عرفة » .

وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن مسلم القرشي، عن أبي طهفة، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: إنما سميت عرفات، لأن جبريل عليه السلام، كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، هذا موضع كذا، فيقول: « قد عرفت! » ، فلذلك سميت « عرفات » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك، فيقول: « عرفت، عرفت! » فسمي « عرفات » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف، حتى يأتي الجبل جبل عرفة.

وقال ابن أبي نجيح: عرفات: « النبعة » و « النبيعة » و « ذات النابت » ، وذلك قول الله: « فإذا أفضتم من عرفات » ، وهو الشعب الأوسط.

وقال زكريا: ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة، فهو من عرفة، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة.

وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا. وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة، إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه، « فاذكروا الله » ، يعني بذلك: الصلاة، والدعاء عند المشعر الحرام.

وقد بينا قبل أن « المشاعر » هي المعالم، من قول القائل: « شعرت بهذا الأمر » ، أي علمت، ف « المشعر » ، هو المعلم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده. وقد:-

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، قال: يستحب للحاج أن يصلي في منـزله بالمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال: « فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم » .

فأما « المشعر » : فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر.

وليس مأزما عرفة من « المشعر » .

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله: « فاذكروا الله عند المشعر الحرام » ، قال: هو الجبل وما حوله.

حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس قال: ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر.

حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري وحدثني أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان عن السدي، عن سعيد بن جبير، قال: سألته عن المشعر الحرام فقال: ما بين جبلي المزدلفة.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال: « المشعر الحرام » المزدلفة كلها قال معمر: وقاله قتادة.

حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، قال: أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير: « فاذكروا الله عند المشعر الحرام » ، قال: ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام.

حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا أبي، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام، فقال: إذا انطلقت معي أعلمتكه. قال: فانطلقت معه، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه، حتى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ أخذت فيه ! قلت: ما أخذت فيه؟ قال: كلها مشاعر إلى أقصى الحرم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن المشعر الحرام قال: إن تلزمني أركه. قال: فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك، قال: أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه ! قال: حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة.

حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي، قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام؟ فقال: الزمني ! فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.

حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: المشعر الحرام: المزدلفة كلها.

حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة، فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما.

قال: قف بينهما إن شئت، وأحب إلي أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس!.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح، فقال: علام يزدحم هؤلاء ؟ كل ما ههنا مشعر!.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام » وذلك ليلة جمع. قال قتادة: كان ابن عباس يقول: ما بين الجبلين مشعر.

حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة ويقال: هو قرن قزح.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فاذكروا الله عند المشعر الحرام » ، وهي المزدلفة، وهي جمع.

* وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما:-

حدثنا به هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: المشعر الحرام: ما بين جبلي مزدلفة.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المشعر الحرام فقال: ما أدري؟ وسألت ابن عباس، فقال: ما بين الجبلين.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجبيل وما حوله مشاعر.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ثوير، قال: وقفت مع مجاهد على الجبيل، فقال: هذا المشعر الحرام.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، الجبيل وما حوله مشاعر.

قال أبو جعفر: وإنما جعلنا أول حد المشعر مما يلي منى، منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة، لأن:-

المثنى حدثني قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « عرفة كلها موقف إلا عرنة، وجمع كلها موقف إلا محسرا » .

حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن حجاج، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، أنه قال: كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، قال: أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن هشام بن عروة، قال: قال عبد الله بن الزبير في خطبته: تعلمن أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، تعلمن أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر.

قال أبو جعفر: غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله، لأن:-

أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن زيد بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي قال: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، غدا فوقف على قزح، وأردف الفضل، ثم قال: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن الحسين، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثنا هناد وأحمد الدولابي، قالا حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث، قال: رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا ! أيها الناس أصبحوا ! ثم دفع.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عبد الله بن عثمان، عن يوسف بن ماهك، قال: حججت مع ابن عمر، فلما أصبح بجمع صلى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته.

وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة: « هذا كله مشاعر إلى مكة » ، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحج لا أن كل ذلك « المشعر الحرام » الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع.

وأما قول عبد الرحمن بن الأسود: « لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام » فلأنه يحتمل أن يكون أراد: لم أجد أحدا يخبرني عن حد أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه. لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان، لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها. غير أن ذلك وإن لم يقف على حد أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم. وكذلك سائر مشاعر الحج، والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ( 198 )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه، والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق وبعد الضلالة كذكره إياكم بالهدى، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله: « كما هداكم » .

وأما قوله: « وإن كنتم من قبله لمن الضالين » ، فإن من أهل العربية من يوجه تأويل « إن » إلى تأويل « ما » ، وتأويل اللام التي في « لمن » إلى « إلا » .

فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه إلا من الضالين.

ومنهم من يوجه تأويل « إن » إلى « قد » .

فمعناه على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، ومن المعني بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس؟ ومن « الناس » الذين أمروا بالإفاضة من موضع إفاضتهم؟

فقال بعضهم: المعني بقوله: « ثم أفيضوا » ، قريش ومن ولدته قريش، الذين كانوا يسمون في الجاهلية « الحمس » ، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات، وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس. وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش، كانوا يقولون: « لا نخرج من الحرم » . فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة معهم، فأمرهم الله بالوقوف معهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان على دينها - وهم الحمس- يقفون بالمزدلفة يقولون: « نحن قطين الله! » ، وكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنـزل الله: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس »

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان كتبت إلي في قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: « إني أحمس » وإني لا أدري أقالها النبي أم لا؟ غير أني سمعتها تحدث عنه. والحمس: ملة قريش- وهم مشركون- ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة، إنما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو المشعر الحرام، وكانت بنو عامر حمسا، وذلك أن قريشا ولدتهم، ولهم قيل: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ، وأن العرب كلها كانت تفيض من عرفة إلا الحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة.

حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حسين بن عبيد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنـزل الله: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الموقف إلى موقف العرب بعرفة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عبد الملك، عن عطاء: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » من حيث تفيض جماعة الناس.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن طلحة، عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي ! فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم » .

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ، قال: عرفة. قال: كانت قريش تقول نحن: « الحمس أهل الحرم، ولا نخلف الحرم، ونفيض عن المزدلفة » ، فأمروا أن يبلغوا عرفة.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ، قال قتادة: وكانت قريش وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، ويقولون: « إنما نحن أهل الله، فلا نخرج من حرمه » ، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات، وأخبرهم أن سنة إبراهيم وإسمعيل هكذا: الإفاضة من عرفات.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ، قال: كانت العرب تقف بعرفات، فتعظم قريش أن تقف معهم، فتقف قريش بالمزدلفة، فأمرهم الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ، قال: كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه، يقولون: « إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه » ؛ فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس; وكانت سنة إبراهيم وإسمعيل الإفاضة من عرفات.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: كانت قريش - لا أدري قبل الفيل أم بعده - ابتدعت أمر الحمس، رأيا رأوه بينهم، قالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنو مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منـزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم « وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس: أهل الحرم . »

ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فيحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا: « لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلئوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما » . ثم رفعوا في ذلك فقالوا: « لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل في الحرم، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة » . فحملوا على ذلك العرب فدانت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، فكانوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله- حين أحكم له دينه وشرع له حجه: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم » - يعني قريشا، و « الناس » العرب- فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها، والإفاضة منها. فوضع الله أمر الحمس- وما كانت قريش ابتدعت منه- عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله.

حدثنا بحر بن نصر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: كانت قريش تقف بقزح، وكان الناس يقفون بعرفة، قال: فأنـزله الله: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » .

وقال آخرون: المخاطبون بقوله: « ثم أفيضوا » ، المسلمون كلهم، والمعني بقوله: « من حيث أفاض الناس » ، من جمع، وبـ « الناس » ، إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.

ذكر من قال ذلك.

حدثت عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا هارون بن معاوية الفزاري، عن أبي بسطام عن الضحاك، قال: هو إبراهيم.

قال أبو جعفر: والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متحمسا معها من سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.

وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، وما تفعلوا من خير يعلمه الله.

وهذا، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، على نحو ما تقدم بياننا في مثله، ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله. لقلت: أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله: « من حيث أفاض الناس » ، من حيث أفاض إبراهيم. لأن الإفاضة من عرفات لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك، وكان الله عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس، بعد انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات، وبعد أمره بذكره عند المشعر الحرام، ثم قال بعد ذلك: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » كان معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم يفيضوا منه، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه، وكان الموضع الذي قد أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه، لا وجه لأن يقال: « أفض منه » .

فإذ كان لا وجه لذلك، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك، وفساد ما خالفه، لولا الإجماع الذي وصفناه، وتظاهر الأخبار بالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل.

فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه: « والناس » جماعة، « وإبراهيم » صلى الله عليه وسلم واحد، والله تعالى ذكره يقول: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس » ؟

قيل: إن العرب تفعل ذلك كثيرا، فتدل بذكر الجماعة على الواحد. ومن ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [ آل عمران: 173 ] والذي قال ذلك واحد، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير- نعيم بن مسعود الأشجعي، ومنه قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [ المؤمنون: 51 ] قيل: عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 199 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم من عرفات منصرفين إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله إبراهيم، فهداه له من شريعة دينه، بعد أن كنتم ضلالا عنه.

وفي ثُمَّ في قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، من التأويل وجهان:

أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفيضوا فانصرفوا راجعين إلى منى من حيث أفاض إبراهيم خليلي من المشعر الحرام، وسلوني المغفرة لذنوبكم، فإني لها غفور، وبكم رحيم. كما:-

حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا ابن كنانة- ويكنى أبا كنانة- ، عن أبيه، عن العباس بن مرداس السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني أن قد غفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي. فأعدت الدعاء يومئذ، فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته، وتغفر لهذا الظالم! فأجابني أن قد غفرت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه! قال: « ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور، ويضع التراب على رأسه »

حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: حدثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: « أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال: » أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي » .

فقد بين هذان الخبران أن غفران الله التبعات التي بين خلقه فيما بينهم، إنما هو غداة جمع، وذلك في الوقت الذي قال جل ثناؤه: « ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله » ، لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذ، تفضلا منه عليكم، رحيم بكم.

والآخر منهما: ثُمَّ أَفِيضُوا من عرفة إلى المشعر الحرام، فإذا أفضتم إليه منها فاذكروا الله عنده كما هداكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا

قال أبو جعفر: يعني بقول جل ثناؤه: « فإذا قضيتم مناسككم » ، فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم، فاذكروا الله

يقال منه: « نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة ومَنْسَكًا » ، إذا ذبح نُسُكه، و « المنسِك » اسم مثل « المشرق والمغرب » ، فأما « النُّسْك » في الدين، فإنه يقال منه: « ما كان الرجل نَاسكًا، ولقد نَسَك، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة » ، وذلك إذا تقرَّأ.

وبمثل الذي قلنا في معنى « المناسك » في هذا الموضع قال مجاهد:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإذا قَضَيتم مَناسككم » ، قال: إهراقة الدماء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وأما قوله: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا » ، فإنّ أهل التأويل اختلفوا في صفة « ذكر القوم آباءهم » ، الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا.

فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية، قال: كانوا يذكرون آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم: كان أبي جزَّ نواصي بني فلان!.

حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان آباؤنا ينحرون الجُزُر، ويفعلون كذا! فنـزلت هذه الآية: « اذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا » :

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا » ، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم.

حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، قال: كان أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم: كان أبي يُطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم » قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قوله: « اذكروا الله كذكركم آباءكم » ، قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم، فنـزلت هذه الآية.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم » قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم. قال: فنـزلت هذه الآية.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم » ، قال: تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم » قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به، يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا » قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكرَ الله، يذكرونه كذكرهم آبائهم، أو أشد ذكرًا.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة، فنـزلت هذه الآية.

حدثنا القاسم، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر، حين ينحرون. قال: قال « فاذكروا الله كذكركم آبائكم » قال: كانت العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها، فأمروا بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك:

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء أنه قال في هذه الآية: « كذكركم آباءَكم » قال: هو قول الصبيّ: يا أباه!.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « فاذكروا الله كذكركم آباءكم » يعني بالذكر، ذكر الأبناء الآباء.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء: « كذكركم آباءكم » : أبَهْ ! أمَّهْ !.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كالصبي، يَلهج بأبيه وأمه.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا » ، يقول: كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا » ، يقول: كما يذكر الأبناء الآباء.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « كذكركم آباءكم » يعني ذكر الأبناء الآباء.

وقال آخرون: بل قيل لهم: « اذكروا الله كذكركم آباءكم » ، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا » ، قال: كانت العرب إذا قَضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول: « اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيتَ أبي!! » ، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يُعطى في الدنيا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك « الذكر » جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [ سورة البقرة :203 ] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه.

وإنما قلنا: « الذكر » الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله: « فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا » : « جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا » ، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى.

فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ( 200 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قَضيتم مناسككم أيها المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته، وقولوا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، ولا تكونوا كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظَّ لهم في ثواب الله، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه، كما قال في ذلك أهل التأويل.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل: « فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا » ، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا ! « وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » .

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: كانوا في الجاهلية يقولون: « هبْ لنا إبلا! » ، ثم ذكر مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله: « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من خَلاق » ، قال: كانوا يَعني أهلَ الجاهلية يقفون - يعني بعد قضاء مناسكهم - فيقولون: « اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنمًا! » ، فأنـزل الله هذه الآية: « فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق » قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس: « فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق » ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة فيدعون فيقولون: « اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين! » .

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا » نَصرًا ورزقًا، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله: « فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق » ، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عملَ، ولها نَصِب.

حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق » ، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم، وإنما يذكر أباه، ويسأل أن يُعطَي في الدنيا.

حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الكفر، وأهلُ النفاق. فمن الناس من يقول: « ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق » إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا يؤمنون بها ومنهم من يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، الآية قال: والصنف الثالث: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية.

وأما معنى « الخلاق » فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( 201 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الحسنة » التي ذكر الله في هذا الموضع.

فقال بعضهم. يعني بذلك: ومن الناس مَن يقول: ربَّنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً » ، قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرة عافية. قال قتادة: وقال رجل: « اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا » ، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم شأنُه، فأتاه النبي عليه السلام، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله، ولكن قُل: « ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار » . فقالها، فما لبث إلا أيامًا أو: يسيرًا حتى بَرَأ.

حدثني المثنى، قال: حدثنا سعيد بن الحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: عاد رَسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرْخ المنتوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء؟- أو تسأل الله شيئًا؟ قال: قلت: « اللهم ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! » . قال: سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه؟ فهلا قلت: « اللهم آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار؟ » .

وقال آخرون: بل عَنى الله عز وجل بـ « الحسنة » - في هذا الموضع- في الدنيا، العلمَ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا عباد، عن هشام بن حسان، عن الحسن: « ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة » ، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرة: الجنة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله: « ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذابَ النار » ، قال: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن في قوله: « ربنا آتنا في الدنيا حَسنة » ، قال: الحسنة في الدنيا: الفهمُ في كتاب الله والعلم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان الثوري يقول [ في ] هذه الآية: « ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة » ، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والرزق الطيب، وفي الآخرة حَسنة الجنة.

وقال آخرون: « الحسنة » في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » ، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي « ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة » ، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال، وأما حَسنة الآخرة فالجنة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حجَّ بَيته، يسألون ربهم الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تجمع « الحسنةُ » من الله عز وجل العافيةَ في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة.

وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجَّنة، لأن من لم يَنلها يومئذ فقد حُرم جميع الحسنات، وفارق جميع مَعاني العافية.

وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله - مخبرًا عن قائل ذلك- من معاني « الحسنة » شيئًا، ولا نصب على خُصوصه دلالة دالَّةً على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فالواجب من القول فيه ما قلنا: من أنه لا يجوز أن يُخَصّ من معاني ذلك شيء، وأن يحكم له بعمومه على ما عَمَّه الله.

وأما قوله: « وقنا عذاب النار » ، فإنه يعني بذلك: اصرف عنا عَذاب النار.

ويقال منه: « وقيته كذا أقيه وِقاية وَوَقاية ووِقاء » ، ممدودًا، وربما قالوا: « وقاك الله وَقْيًا » ، إذا دفعت عنه أذى أو مكروهًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 202 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « أولئك » الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، رغبةً منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده، وعلمًا منهم بأن الخيرَ كله من عنده، وأن الفضل بيده يؤتيه من يَشاء. فأعلم جل ثناؤه أنّ لهم نصيبًا وحظًّا من حجِّهم ومناسكهم، وثوابًا جزيلا على عملهم الذي كسبوه، وبَاشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم، خاصًّا ذلك لهم دون الفريق الآخر، الذين عانوا ما عانوا من نَصَب أعمالهم وتعبها، وتكلَّفوا ما تكلفوا من أسفارهم، بغير رغبةٍ منهم فيما عند رَبهم من الأجر والثواب، ولكن رجاء خسيس من عَرض الدنيا، وابتغاء عَاجل حُطامها. كما:-

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، قال: فهذا عبد نوى الدنيا، لها عمل ولها نَصِب، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ، أي حظٌّ من أعمالهم.

وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، إنما حَجُّوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة ولا يؤمنون بها، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون « أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب » ، لهؤلاء الأجرُ بما عملوا في الدنيا.

وأما قوله: « والله سريع الحساب » ، فإنه يعني جل ثناؤه: أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ، ومن مسألة الآخر: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، فَمُحْصٍ له بأسرع الحساب، ثم إنه مجازٍ كلا الفريقين على عمله.

وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب، لأنه جل ذكره يُحصى ما يُحصى من أعمال عباده بغير عَقد أصابع، ولا فكرٍ ولا رَوية، فِعلَ العَجَزة الضَّعَفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يَعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ثم هو مُجازٍ عبادَه على كل ذلك. فلذلك امتدح نفسه جل ذكره بسرعة الحساب، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمِثْلِ، فيحتاجَ في حسابه إلى عَقد كف أو وَعْي صَدر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني جَلّ ذكره: اذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصَيات، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذ بالتكبير أدبارَ الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من حَصى الجمار يرمي بها جَمرةً من الجمار.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، قال: أيام التشريق.

حدثني محمد بن نافع البصري، قال: حدثنا غندر: قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، يعني الأيام المعدودات أيامَ التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.

وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، يعني أيام التشريق.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.

وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مخلد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: سمعه يوم الصَّدَر يَقول بعد ما صدر يُكبر في المسجد ويتأول: « واذكروا الله في أيام مَعدودات » .

حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، يعني أيام التشريق.

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز وجل: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، قال: هي أيام التشريق.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، قال أيام التشريق بمنى.

حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد وعطاء قالا هي أيام التشريق.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: الأيام المعدودات: الأيام بعد النحر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت إسماعيل بن أبي خالد عن « الأيام المعدودات » ، قال: أيام التشريق.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، فقال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، كنا نُحدَّث أنها أيام التشريق.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « واذكروا الله في أيام معدودات » ، قال: هي أيام التشريق.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « أما الأيام المعدوداتُ » : فهي أيام التشريق.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال: « الأيام المعدودات » ، ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر.

حدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « في أيام معدودات » قال: أيام التشريق الثلاثة.

حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن زيد عن « الأيام المعدودات » و « الأيام المعلومات » ، فقال: « الأيام المعدودات » أيام التشريق، « والأيام المعلومات » ، يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.

وإنما قلنا: إنّ « الأيام المعدودات » ، هي أيام منى وأيام رمي الجمار لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.

* ذكر الأخبار التي رويت بذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم، قال: حدثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيام التشريق أيام طُعْمٍ وذِكْر « . »

حدثنا خلاد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا صالح، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعثَ عبد الله بن حُذافة يطوف في منى: « لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل » .

3912م - وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية قالا جميعًا، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وقال: هي أيام أكل وشرب وذكر الله.

حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعث بشر بن سُحَيم، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله.

حدثني يعقوب. قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس فنادى في أيام التشريق فقال: « إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صومٌ من هَدْي » .

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى عليٍّ رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شِعْب الأنصار وهو يقول: « أيها الناس إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر » .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال في أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وذكر الله، لم يخبر أمَّته أنها « الأيام المعدودات » التي ذكرها الله في كتابه، فما تنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عنى بقوله: « وذكْر الله » ، « الأيامَ المعلومات » ؟

قيل: غير جائز أن يكون عنى ذلك. لأن الله لم يكن يُوجب في « الأيام المعلومات » من ذكره فيها ما أوجبَ في « الأيام المعدودات » . وإنما وصف « المعلومات » جل ذكره بأنها أيام يذكر فيها اسم الله على بهائم الأنعام، فقال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [ الحج: 28 ] ، فلم يوجب في « الأيام المعلومات » من ذكره كالذي أوجبه في « الأيام المعدودات » من ذكره، بل أخبر أنها أيام ذكره علىَ بهائم الأنعام. فكان معلومًا إذ قال صلى الله عليه وسلم لأيام التشريق: « إنها أيام أكل وشرب وذكر الله » فأخرج قوله: « وذكر الله » مطلقًا بغير شرط، ولا إضافة، إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقًا بغير شرط ولا إضافة إلى معنى في « الأيام المعدودات » ، وأنه لو كان أراد بذلك صلى الله عليه وسلم وصف « الأيام المعلومات » به، لوصل قوله: « وذكر » ، إلى أنه ذكر الله على ما رزقهم من بهائم الأنعام، كالذي وصف الله به ذلك، ولكنه أطلق ذلك باسم الذكر من غير وصله بشيء، كالذي أطلقه تبارك وتعالى باسم الذكر، فقال: « واذكروا الله في أيام معدودات » فكان ذلك من أوضح الدليل على أنه عنى بذلك ما ذكره الله في كتابه وأوجبه في « الأيام المعدودات » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: معناه: فمن تعجل في يَومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نَفْره وتعجله في النفر، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن عطاء، قال: لا إثم عليه في تعجيله، ولا إثم عليه في تأخيره.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال. حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، مثله.

حدثنا أحمد، قال. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن مغيره، عن عكرمة، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال. حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « فمن تعجَّل في يومين » ، يوم النَّفر، « فلا إثم عليه » ، لا حرج عليه، « ومن تأخر فلا إثم عليه » .

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما: « من تعجَّل في يومين فلا إثم عليه » ، يقول: من نَفَر في يومين فلا جُناح عليه، ومن تأخر فنفر في الثالث فلا جناح عليه.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فمن تعجَّل في يومين » ، يقول: فمن تعجَّل في يومين- أي: من أيام التشريق « فلا إثم عليه » ، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قبل أن ينفر، فلا نَفْر له حتى تزول الشمس من الغد « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، يقول: من تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال. أخبرنا عبد الرزاق، قال. أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه » ، قال: رخَّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاءوا، ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه.

حدثني محمد بن المثنى، قال. حدثنا محمد بن جعفر، قال. حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، قال في تعجيله.

حدثني هناد بن السريّ، قال: حدثنا ابن أبى زائدة، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم قال: « لا إثم عليه » ، لا إثم على من تعجل، ولا إثم على من تأخر.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، قال: هذا في التعجيل.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك وإسرائيل، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: حلَّ النَّفر في يومين لمن اتقى.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: « فمن تجعل في يومين فلا إثم عليه » في تعجله، « ومن تأخر فلا إثم عليه » في تأخره.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أللمكي أن ينفر في النفْر الأول؟ قال: نعم، قال الله عز وجل: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، فهي للناس أجمعين.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، قال: ليس عليه إثم

حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فمن تعجل في يومين » بعد يوم النحر، « فلا إثم عليه » ، بقول: من نَفَر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم عليه، « ومن تأخر فلا إثم عليه » في تأخره، فلا حرج عليه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » في تعجله، « ومن تأخر فلا إثم عليه » في تأخره.

وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه، ومن تأخر كذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبيه، عن عبد الله: « فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: ليس عليه إثم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، أي غفر له « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: غُفر له.

حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، أي غفر له.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد جميعًا، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: قد غُفر له.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في قوله: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قد غفر له.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال في هذه الآية: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه » قال: برئ من الإثم.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن ابن عمر: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » قال: رجع مغفورًا له.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عَليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: قد غفر له.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي عبد الله، عن ابن عباس: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، قال: قد غفر له، إنهم يتأولونها على غير تأويلها، إن العمرة لتكفِّر ما معها من الذنوب فكيف بالحج!.

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن إبراهيم وعامر: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قالا غفر له.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثني من أصدقه، عن ابن مسعود قوله: « فلا إثم عليه » ، قال: خرج من الإثم كله « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: برئ من الإثم كله، وذلك في الصَّدَر عن الحج قال ابن جريج: وسمعت رجلا يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: « فلا إثم عليه » ، قال. غفر له، « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: غُفر له.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال. حدثنا أسود بن سوادة القطان، قال: سمعت معاوية بن قُرة قال: يَخرج من ذنوبه.

وقال آخرون: معنى ذلك: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه » ، فيما بينه وبين السنة التي بَعدها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحه، قال: سألت مجاهدًا عن قول الله عز وجل: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: لمن في الحج، ليس عليه إثم حتى الحج من عام قابل.

وقال آخرون: بل معناه. فلا إثم عليه إن اتقى الله فيما بقي من عمره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.

حدثني يونس، قاله: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، قال: لمن اتقى بشرط.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، لا جُناح عليه « ومن تأخر » إلى اليوم الثالث فلا جناح عليه لمن اتقى وكان ابن عباس يقول: وددت أنّي من هؤلاء، ممن يُصيبه اسمُ التقوى.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: هي في مصحف عبد الله: « لِمَنِ اتَّقَى اللهَ » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه » ، فلا حرج عليه، يقول: لمن اتقى معاصيَ الله عز وجل.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « فمن تعجل في يومين » من أيام التشريق « فلا إثم عليه » ، أي فلا حرج عليه في تعجيله النفْر، إن هو اتقى قَتْل الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فلم ينفر فلا حرج عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا محمد بن أبي صالح: « لمن اتقى » أن يصيب شيئًا من الصيد حتى يمضي اليوم الثالث.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ، ولا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تخلو أيام التشريق.

وقال آخرون: بل معناه: « فمن تعجل في يومين » من أيام التشريق فنفر « فلا إثم عليه » ، أي مغفورٌ له- « ومن تأخر » فنفر في اليوم الثالث « فلا إثم عليه » ، أي مغفور له إن اتقى على حجه أن يصيبَ فيه شيئًا نهاه الله عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، فال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لمن اتقى » ، قال: يقول لمن اتقى على حجه قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه - أو: ما سلف من ذنبه.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك: « فمن تعجل في يومين » من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني « فلا إثم عليه » ، لحطِّ الله ذنوبَه، إن كان قد اتقى الله في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده « ومن تأخر » إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول، « فلا إثم عليه » ، لتكفير الله له ما سلف من آثامه وإجرامه، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.

وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته [ بالصحة ] ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ومن حجّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وأنه قال صلى الله عليه وسلم : » تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة « . »

حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون الجنة « . »

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثنا الفضل بن الصباح، قال: . حدثنا ابن عيينة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تابعوا بين الحج والعمرة، فإنّ متابعة ما بينهما تنفي الفقر والذنوبَ كما ينفي الكيرُ الخبَثَ أو: خبَثَ الحديد » .

حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا سعد بن عبد الحميد، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضيتَ حجَّك فأنت مثل ما ولدتك أمك.

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه: « فلا إثم عليه لمن اتقى » الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ: « فلا إثم عليه » ، أنه خارجٌ من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورَةٌ له أجْرامه وأنه لا معنى لقول من تأول قوله: « فلا إثم عليه » ، فلا حرج عليه في نفره في اليوم الثاني، ولا حرج عليه في مقامه إلى اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه ترْك عمله، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله؛ أو فيما كان عليه عمله، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه إن هو عَمله، وفرضُه عَملُه، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا عليه، حرجا بأدائه، فيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فيه الحرَج.

وإذ كان ذلك كذلك وكان الحاج لا يخلو عند من تأوّل قوله: « فلا إثم عليه » فلا حرج عليه، أو فلا جناح عليه، من أن يكون فرضه النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، فوضع عنه الحرَج في المقام، أو أن يكون فرضَه المقام، إلى اليوم الثالث، فوضع عنه الحرج في النفر في اليوم الثاني، فإن يكن فرضه في اليوم الثاني من أيام التشريق المقام إلى اليوم الثالث منها، فوضع عنه الحرج في نفره في اليوم الثاني منها - وذلك هو التعجُّل الذي قيل: « فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه » - فلا معنى لقوله على تأويل من تأوّل ذلك: « فلا إثم عليه » ، فلا جناح عليه، « ومن تأخر فلا إثمَ عليه » . لأن المتأخر إلى اليوم الثالث إنما هو متأخّرٌ عن أداء فرض عليه، تاركٌ قبولَ رُخصة النفر، فلا وجه لأن يقال: « لا حرج عليك في مقامك على أداء الواجب عليك » ، لما وصفنا قبل- أو يكون فرضُه في اليوم الثاني النفر، فرُخِّص له في المقام إلى اليوم الثالث، فلا معنى أن يقال: « لا حرج عليك في تعجُّلك النفر الذي هو فرضك وعليك فعله » ، للذي قدمنا من العلة.

وكذلك لا معنى لقول من قال: معناه: « فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه » ولا حرج عليه في نفره ذلك، إن اتقى قتل الصيد إلى انقضاء اليوم الثالث. لأن ذلك لو كان تأويلا مسلَّمًا لقائله لكان في قوله: « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، ما يُبطل دعواه، لأنه لا خلاف بين الأمة في أن الصيد للحاجّ بعد نفره من منى في اليوم الثالث حلال، فما الذي من أجله وَضَع عنه الحرج في قوله: « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، إذا هو تأخر إلى اليوم الثالث ثم نفر ؟ هذا، مع إجماعِ الحجة على أن المحرم إذا رمى وذبح وحلق وطافَ بالبيت، فقد حلَّ له كل شيء، وتصريحِ الرواية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك، التي:-

حدثنا بها هناد بن السري الحنظلي، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة قالت: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها متى يحلّ المحرم ؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رَميتم وذبحتم وحلقتم، حلّ لكم كل شيء إلا النساء قال: وذكر الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.

وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى: « لا إثم عليه إلى عام قابل » ، فلا وجه لتحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة مستقبَلة، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنـزيل، ولا على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، بل دلالةُ ظاهر التنـزيل تُبين عن أن المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال.

والخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بأنه بانقضاء حجه على ما أمر به، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك من دلالة ظاهر التنـزيل، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم دلالة واضحة على فساد قول من قال: معنى قوله: « فلا إثم عليه » ، فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: ما الجالب « اللام » في قوله: « لمن اتقى » ؟ وما معناها ؟

قيل: الجالبُ لها معنى قوله: « فلا إثم عليه » . لأن في قوله: « فلا إثم عليه » معنى: حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه، فترك ذكر « جعلنا تكفير الذنوب » ، اكتفاء بدلالة قوله: « فلا إثم عليه » .

وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر، فقال: « لمن اتقى » أي: هذا لمن اتقى. وأنكرَ بعضُهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة « قول » متروك، فكان معنى الكلام عنده « قلنا » : « ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى » ، وقام قوله: « ومن تأخر فلا إثم عليه » ، مقامَ « القول » .

وزعم بعضُ أهل العربية أنّ موضع طرْح الإثم في المتعجِّل، فجُعل في المتأخر وهو الذي أدَّى ولم يقصر مثل ما جُعل على المقصِّر، كما يقال في الكلام: « إن تصدقت سرًّا فحسنٌ، وإن أظهرتَ فحسنٌ » ، وهما مختلفان، لأن المتصدق علانية إذا لم يقصد الرياء فحسن، وإن كان الإسرار أحسن.

وليس في وصف حالتي المتصدقين بالحُسن وصف إحداهما بالإثم. وقد أخبر الله عز وجل عن النافرين بنفي الإثم عنهما، ومحال أن ينفي عنهما إلا ما كان في تركه الإثم على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة. وفي إجماع الجميع على أنهما جميعًا لو تركا النفر وأقاما بمنىً لم يكونا آثمين، ما يدل على فساد التأويل الذي تأوله من حكينا عنه هذا القول.

وقال أيضًا: فيه وجهٌ آخر، وهو معنى نهي الفريقين عن أن يُؤثِّم أحدُ الفريقين الآخر، كأنه أراد بقوله: « فلا إثم عليه » ، لا يقل المتعجل للمتأخر: « أنت آثم » ، ولا المتأخر للمتعجل: « أنت آثم » ، بمعنى: فلا يؤثِّمنَّ أحدهما الآخر.

وهذا أيضًا تأويل لقول جميع أهل التأويل مخالفٌ، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 203 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون فيما فَرض عليكما من فرائضه، فخافوه في تضييعها والتفريط فيها، وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككما أن ترتكبوه أو تأتوه وفيما كلفكم في إحرامكم لحجكم أن تقصِّروا في أدائه والقيام به، « واعلموا أنكم إليه تحشرون » ، فمجازيكم هو بأعمالكم- المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته- وموفٍّ كل نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ

قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، بقوله جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهرُ قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قلبه، وهو ألدُّ الخصام، جَدِلٌ بالباطل.

ثم اختلف أهل التأويل فيمن نـزلت فيه هذه الآية.

فقال بعضهم. نـزلت في الأخنس بن شرِيق، قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي : « ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام » ، قال: نـزلت في الأخنس بن شريق الثقفي- وهو حليفٌ لبني زُهرة- وأقبل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم أنّي صادق!‍ وذلك قوله: « ويشهد الله على ما في قلبه » ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وُحُمر، فأحرق الزرع، وعقر الحُمُرُ، فأنـزل الله عز وجل: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ . وأما « ألد الخصام » فأعوجُ الخصام، وفيه نـزلت: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [ الهمزة: 1 ] ونـزلت فيه: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ إلى عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [ القلم: 10- 13 ]

وقال آخرون: بل نـزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجيع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبى إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أصيبت هذه السرية أصحاب خُبَيْب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنـزل الله عز وجلّ في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله: « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا » أي: ما يُظهر بلسانه من الإسلام « ويشهد الله على ما في قلبه » أي من النفاق- « وهو ألد الخصام » أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك وَإِذَا تَوَلَّى - أي: خرج من عندك سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ - أي: لا يحبّ عمله ولا يرضاه وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك- يعني هذه السرّية.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس- أو: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- قال: لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرْثد بالرَّجيع، قال رجال من المنافقين:- ثم ذكر نحو حديث أبي كريب.

وقال آخرون: بل عنى بذلك جميعَ المنافقين، وعنى بقوله: « ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه » ، اختلافَ سريرته وعلانيته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبى أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد: إنّ في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر، لبسوا للناس مسوكَ الضأن من اللين، يجترُّون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعليّ يجترئون، وبي يغترُّون!! وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليمَ منهم حيران !! فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله ؟ قال: قول الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ فقال سعيد: قد عرفتَ فيمن أنـزلت هذه الآية ! فقال محمد بن كعب: إن الآية تنـزل في الرجل، ثم تكون عامة بعدُ.

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نَوْفٍ- وكان يقرأ الكتب- قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنـزل: « قومٌ يجتالون الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر، يلبسون للناس لباسَ مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعليّ يجترئون! وبي يغترُّون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيهم حيران » . قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها: « ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام » ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [ الحج: 11 ]

وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة قوله: « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه » قال: هو المنافق.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومن الناس من يُعجبك قوله » ، قال: علانيته في الدنيا، ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام » ، قال: هذا عبد كان حسن القول سيئ العمل، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا .

وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه » ، قال. يقول قولا في قلبه غيره، والله يعلم ذلك.

وفي قوله: « ويُشهد الله على ما في قلبه » ، وجهان من القراءة: فقرأته عامة القرأة: « ويُشهد الله على ما في قلبه » ، بمعنى أن المنافق الذي يُعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُه، يستشهدُ الله على ما في قلبه، أن قوله موافقٌ اعتقادَه، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب. كما:-

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا » إلى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ، كان رجلٌ يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله ! قال: حتى يُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ثم يقول: أما والله يا رسولَ الله ، إنّ الله ليعلم ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني! فذلك قوله: « ويُشهد الله على ما في قلبه » . قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ حتى بلغ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [ المنافقون: 1 ] بما يشهدون أنك رسول الله.

وقال السدي: « ويُشهد الله على ما في قلبه » ، يقول: الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام.

حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط.

وقال مجاهد: ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.

حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عنه.

وقرأ ذلك آخرون: ( وَيَشْهَدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ) بمعنى: والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق، وأنه مضمرٌ في قلبه غير الذي يُبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن مُحَيْصن، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفًا.

والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ: « ويشهد الله على ما في قلبه » ، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه، لإجماع الحجة من القرأةِ عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( 204 )

قال أبو جعفر: « الألد » من الرجال: الشديد الخصومة، يقال في « فعلت » منه: « قد لَدَدْتَ يا هذا، ولم تكن ألدَّ، فأنت تلُدُّ لَدَدًا ولَدَادةً » . فأما إذا غلب من خاصمه، فإنما يقال فيه: « لدَدْت يا فلانُ فلانًا فأنت تَلُدُّه لَدًّا، ومنه قول الشاعر: »

ثُــمَّ أُرَدِّي بِهِــمُ مــن تُــرْدِي تَلُـــدُّ أقْــرَانَ الخُــصُومِ اللُّــدِّ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: أنه ذو جدال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: « وهو ألد الخصام » ، أي: ذو جدال، إذا كلمك وراجعك.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وهو ألد الخصام » ، يقول: شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل، وإذا شئتَ رأيته عالم اللسان جاهلَ العمل، يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة.

حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وهو ألد الخصام » ، قال: جَدِلٌ بالباطل.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة، ولكنه معوَجُّها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وهو ألد الخصام » ، قال: ظالم لا يستقيم.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: « الألدُّ الخصام » ، الذي لا يستقيم على خصومة.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ألد الخصام » ، أعوجُ الخصام.

قال، أبو جعفر: وكلا هذين القولين متقاربُ المعنى، لأن الاعوجاجَ في الخصومة من الجدال واللدد.

وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذبٌ في قوله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا وكيع، عن بعض أصحابه، عن الحسن، قال: « الألد الخصام » ، الكاذب القول.

وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلا واعوجاجًا عن الحق.

وأما « الخصام » فهو مصدر من قول القائل: « خاصمت فلانًا خصامًا ومخاصمة » .

وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يُعجبه إذا تكلم قِيلُه ومنطقه، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك، لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وإذا تولى » ، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. كما:-

حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: « وإذا تولى » ، قال: يعني: وإذا خرج من عندك « سعى » .

وقال بعضهم: وإذا غضب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج في قوله: « وإذا تولى » ، قال: إذا غضب.

فمعنى الآية: وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان، عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه، وحاول فيها معصيةَ الله، وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه نـزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم.

و « السعي » في كلام العرب العمل، يقال منه: « فلان يسعى على أهله » ، يعني به: يعمل فيما يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى:

وَسَـعَى لِكِنْـدَةَ سَـعْيَ غَـيْرِ مُـوَاكِلٍ قَيْسٌ فَضَــرَّ عَدُوَّهــا وَبَنَـى لَهَـا

يعني بذلك: عمل لهم في المكارم.

وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله « وإذا تولى سعى » ، قال: عمل.

واختلف أهل التأويل في معنى « الإفساد » الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق.

فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.

وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: « سعَى في الأرض ليفسد فيها » ، قطع الرحم، وسفك الدماء، دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تَفعل كذا وكذا ؟ قال أتقرب به إلى الله عز وجل.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في « الإفساد » جميع المعاصي، وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني « الإفساد » دون بعض. وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنـزيل أن يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصَفه في سياق الآية بأنه « سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل » ، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع الرحم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه « إهلاك » هذا المنافق، الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة « إهلاك الحرث والنسل » .

فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم من المسلمين وعقرًا لحمُرهم.

حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد: « وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل » الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطرَ، فيُهلك الحرثَ والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الروم: 41 ] قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو « بحر » .

والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنـزيل من التأويل ما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه

وأما « الحرث » فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد.

« وإهلاكه الزرع » إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى: « إهلاكه النسل » : أن يكون كانَ بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نـزلت فيه هذه الآية إنما نـزلت في قتله حُمُرَ القوم من المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نـزلت فيه، والمراد بها كلُّ من سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق، بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا دون شيء بل عمَّه.

وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي أنه سأل ابن عباس: « ويهلك الحرث والنسل » ، قال: نسلَ كل دابة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، أنه سأل ابن عباس: قال: قلت أرأيت قوله: « الحرث والنسل » ؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل: نسل كل دابة.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن « الحرث والنسل » ، فقال: الحرثُ: مما تحرثون، والنسلُ: نسل كلّ دابة.

حدثنا ابن حميد، قال. حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ويهلك الحرثَ والنسل » ، فنسلَ كل دابة، والناس أيضًا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ويهلك الحرث » ، قال: نبات الأرض، « والنسل » من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ويهلك الحرث » ، قال: نبات الأرض، « والنسل » : نسل كل شيء.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الحرثُ النبات، والنسل: نسل كل دابة.

حدثني عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ويهلك الحرث » ، قال: « الحرث » الذي يحرثه الناس: نباتُ الأرض، « والنسل » نسل كل دابة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: « ويهلكَ الحرثَ والنسل » ، قال: الحرث: الزرع، والنسل من الناس والأنعام، قال: يقتُل نسْل الناس والأنعام قال: وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث- نباتَ الأرض- والنسل من كل شيء من الحيوان.

حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ويهلك الحرثَ والنسل » ، قال: الحرث: الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم.

حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، سئل سعيد بن عبد العزيز عن « فساد الحرث والنسل » وما هما: أيُّ حرث، وأيُّ نسل ؟ قال سعيد: قال مكحول: الحرث: ما تحرثون، وأما النسل: فنسْل كل شيء.

قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة : « ويهلكُ الحرث والنسل » برفع « يهلك » ، على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرثَ والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها، والله لا يجب الفساد فيردُّ « ويُهلكُ » على « ويشهدُ الله » عطفًا به عليه.

وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك، قراءةَ « ويهلكَ الحرثَ والنسل » ، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه - فيما ذكر لنا: « ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل » ، وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك « ويهلك » بالنصب، عطفًا به على: لِيُفْسِدَ فِيهَا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ( 205 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ، وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق.

و « الفساد » مصدر من قول القائل: « فسد الشيء يفسُد » ، نظير قولهم: « ذهب يذهب ذهابًا » . ومن العرب من يجعل مصدر « فسد » « فسودًا » ، ومصدر « ذهب يذهب ذُهوبًا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 206 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا قيل لهذا المنافق الذي نعَتَ نعتَه لنبيه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أنه يُعجبه قوله في الحياة الدنيا: اتق الله وخَفْهُ في إفسادك في أرْض الله، وسعيكَ فيها بما حرَّم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم- استكبر ودخلته عِزة وحَمية بما حرّم الله عليه، وتمادى في غيِّه وضلاله. قال الله جل ثناؤه: فكفاه عقوبة من غيه وضلاله، صِلِيُّ نارِ جهنم، ولبئس المهاد لصاليها.

واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.

فقال بعضهم: عنى بها كل فاسق ومنافق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا بسطام بن مسلم، قال: حدثنا أبو رجاء العطارديّ قال: سمعت عليًّا في هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إلى: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ، قال علي: « اقتَتَلا وربِّ الكعبة » .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم » إلى قوله: وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبْحة وفرغ، دخل مربدًا له، فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة، قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية: « وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم » ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان؟ فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت ؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين! قال: ماذا قلت ؟ اقتَتل الرجلان ؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي ! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر: لله بلادك يا ابن عباس.

وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى.

وأما قوله: « ولبئس المهاد » ، فإنه يعني: ولبئس الفراشُ والوِطاء جهنمُ التي أوعدَ بها جل ثناؤه هذا المنافق، ووطَّأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرُّده على ربه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [ التوبة: 111 ] .

وقد دللنا على أن معنى « شرى » باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: « ابتغاءَ مرضات الله » فإنه يعني أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلبَ مرضاة الله.

ونصب « ابتغاء » بقوله: « يشري » ، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [ نفسه ] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك « من أجل » وعَمل فيه الفعل.

وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، على « يشري » ، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نـزع « اللام » عمل الفعل، قال: ومثله: حَذَرَ الْمَوْتِ [ البقرة: 19 ] وقال الشاعر وهو حاتم:

وَأَغْفِــرُ عَــوْرَاءَ الكَـرِيمِ ادِّخَـارَهُ وَأُعْـرِضُ عَـنْ قَـوْلِ الَّلئِـيمِ تَكَرُّمَـا

وقال: لما أذهب « اللام » أعمل فيه الفعل.

وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، وموضع « أن » فتحسن فيها « الباء » و « اللام » ، فتقول: « أتيتك من خوف الشرّ - ولخوف الشر- وبأن خفتُ الشرَّ » ، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال: « فعلت هذا لك ولفلان » أن يسقط « اللام » .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن نـزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم: نـزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » ، قال: المهاجرون والأنصار.

وقال بعضهم: نـزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: « ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » ، قال: نـزلت في صُهيب بن سنان، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا الرجل ! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه ! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج; فأنـزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » ، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك ؟ قال: أنـزل فيك كذا وكذا.

وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله، أو أمرٍ بمعروف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده !! فقال أبو هريرة: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد » ؟

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال أبو هريرة: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » .

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد » ، أتدرون فيم أنـزلت ؟ نـزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له: « قل لا إله إلا الله » ، فإذا قلتها عصمتَ دمك ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل.

حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » ، قال: استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عُني بها الآمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر.

وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.

وأما ما رُوي من نـزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نـزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها.

فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، فمعنيٌّ بقوله: « ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله » - في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 207 )

قد دللنا فيما مضى على معنى « الرأفة » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة

فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع.

فقال بعضهم: معناه: الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ادخلوا في السِّلم » ، قال: ادخلوا في الإسلام.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « ادخلوا في السلم » ، قال: ادخلوا في الإسلام.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ادخلوا في السلم كافة » ، قال: السلم: الإسلام.

حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ادخلوا في السلم » ، يقول: في الإسلام.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ادخلوا في الإسلام.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « ادخلوا في السلم » . قال: السلم: الإسلام.

حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: « ادخلوا في السلم » : في الإسلام.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ادخلوا في السلم » ، يقول: ادخلوا في الطاعة.

وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز: « ادخلوا في السَّلم » بفتح السين، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين.

فأما الذين فتحوا « السين » من « السلم » ، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية.

وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من « السين » فإنهم مختلفون في تأويله.

فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد على أن « السين » تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير بن أبي سلمى:

وَقَـدْ قُلْتُمَـا إنْ نُـدْرِكِ السِّـلْمَ وَاسِعًا بِمَـالٍ وَمَعْـرُوفٍ مِـنَ الأمْـرِ نَسْـلَمِ

وأولى التأويلات بقوله: « ادخلوا في السلم » ، قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة.

وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر « السين » لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة:

دَعَــوْتُ عَشِــيرَتِي لِلسِّــلْمِ لَمّـا رَأَيْتُهُــــمُ تَوَلَّـــوْا مُدْبِرينَـــا

بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بعد وَفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائر‍َ ما في القرآن من ذكر « السلم » بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها.

وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله: « ادخلوا في السلم » وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين:

إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: « ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم » ، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له: « صالح فلانا » ، ولا حرب بينهما ولا عداوة.

أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم: « ادخلوا في السلم » ، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح فقال: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [ محمد: 35 ] وإنما أباحَ له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا [ الأنفال: 61 ] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله: « ادخلوا في السلم » إلى ذلك.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافة ؟

قيل قد اختلف في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: دعي إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.

وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد.

فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟

قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله « كافة » من صفة « السلم » ، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به.

وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « ادخلوا في السلم كافة » ، قال: نـزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل ! فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان »

فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.

وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم: « ادخلوا فيه » بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله: « ادخلوا في السلم كافة » ، يعني أهل الكتاب.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل: « ادخلوا في السلم كافة » ، قال: يعني أهل الكتاب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في « الذين آمنوا » المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم « الإيمان » ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.

وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ادخلوا في السلم كافة » ، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَافَّةً

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله « كافة » عامة، جميعًا، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « في السلم كافة » قال: جميعًا.

حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « في السلم كافة » ، قال: جميعًا.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع « في السلم كافة » ، قال: جميعًا وعن أبيه، عن قتادة مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، عن النضر، عن مجاهد، ادخلوا في الإسلام جميعًا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: « كافة » ، : جميعًا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « كافة » جميعًا، وقرأ. وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ التوبة: 36 ] جميعًا.

حدثت عن الحسين، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « ادخلوا في السلم كافة » ، قال: جميعًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 208 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.

وقد بينت معنى « الخطوات » بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 209 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتم الحق،

فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعد ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون فاعلموا أن الله ذو عزة، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع « حكيم » فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه، بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره.

وقد قال عدد من أهل التأويل إن « البينات » هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.

وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق، لأن الله جل ثناؤه، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله: « فإن زللتم » :

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « فإن زللتم » ، يقول: فإن ضللتم.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فإن زللتم » قال: الزلل: الشرك.

ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله: « من بعد ما جاءتكم البينات » :

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « من بعد ما جاءتكم البينات » ، يقول: من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم.

وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: « فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات » ، قال: الإسلام والقرآن.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فاعلموا أن الله عزيز حكيم » ، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: هل ينظرُ المكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام والملائكة ؟.

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: « والملائكة » .

فقرأ بعضهم: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة » ، بالرفع، عطفًا بـ « الملائكة » على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال- في قراءة أبيّ بن كعب: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام » ، قال: تأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عزّ وجل فيما شاء.

وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة » الآية، وقال أبو جعفر الرازي: وهي في بعض القراءة: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام » ، كقوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْـزِيلا [ الفرقان: 25 ]

وقرأ ذلك آخرون: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكةِ » بالخفض عطفًا بـ « الملائكة » على « الظلل » ، بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة.

وكذلك اختلفت القرأة في قراءة « ظلل » ، فقرأها بعضُهم: « في ظُلَل » ، وبعضهم: « في ظلال » .

فمن قرأها « في ظُلل » ، فإنه وجهها إلى أنها جمع « ظُلَّة » ، و « الظُلَّة » ، تجمع « ظُلل وظِلال » ، كما تجمع « الخُلَّة » ، « خُلَل وخِلال » ، و « الجلَّة » ، « جُلَلٌ وجلال » .

وأما الذي قرأها « في ظلال » ، فإنه جعلها جمع « ظُلَّة » ، كما ذكرنا من جمعهم « الخلة » « خلال » .

وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك، وجَّهه إلى أنّ ذلك جمع « ظِلّ » ، لأن « الظلُّة » و « الظِّل » قد يجمعان جميعًا « ظِلالا » .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُللٍ من الغمام » ، لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا. فدل بقوله « طاقات » ، على أنها ظلل لا ظلال، لأن واحد « الظلل » « ظلة » ، وهي الطاق واتباعًا لخط المصحف. وكذلك الواجبُ في كل ما اتفقت معانيه واختلفتْ في قراءته القرأة، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خطّ المصحف، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رَسم المصحف.

وأما الذي هو أولى القراءتين في: « والملائكة » ، فالصواب بالرفع، عطفًا بها على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وإلا أن تأتيهم الملائكة، على ما روي عن أبيّ بن كعب، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم، فقال جل ثناؤه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [ الفجر: 22 ] ، وقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [ الأنعام: 158 ] فإن أشكلَ على امرئ قول الله جل ثناؤه: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا فظن أنه مخالفٌ معناه معنى قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة » ، إذ كان قوله: « والملائكة » في هذه الآية بلفظ جمع، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظنّ، وذلك أن « الملك » في قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ بمعنى الجميع، ومعنى « الملائكة » . والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع، فتقول: « فلان كثير الدرهم والدينار » يراد به: الدراهم والدنانير و « هلك البعير والشاةُ » ، بمعنى جماعة الإبل والشاء، فكذلك قوله: « والملك » بمعنى « الملائكة » .

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله: « ظُلل من الغمام » ، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه، أو من صلة فعل « الملائكة » ، ومن الذي يأتي فيها ؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل الله، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وأن تأتيهم الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام » ، قال: هو غير السحاب لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة : « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام » ، قال: يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة في قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام » ، قال: طاقات من الغمام، والملائكة حوله قال ابن جريج، وقال غيره: والملائكةُ بالموت

وقول عكرمة هذا، وإن كان موافقًا قولَ من قال: إن قوله: « في ظُلل من الغمام » من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه، فإنه له مخالف في صفة الملائكة. وذلك أن الواجب من القراءة على تأويل قول عكرمة هذا في « الملائكة » الخفضُ، لأنه تأول الآية: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة، لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكةُ حوله.

هذا إن كان وجَّه قوله: « والملائكة حوله » ، إلى أنهم حول الغمام، وجعل « الهاء » في « حوله » من ذكر « الغمام » . وإن كان وجَّه قوله: « والملائكة حوله » إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى، وجعل « الهاء » في « حوله » من ذكر الرب عز وجل ، فقوله نظيرُ قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم، غيرُ مخالفهم في ذلك.

وقال آخرون: بل قوله: « في ظلل من الغمام » من صلة فعل « الملائكة » ، وإنما تأتي الملائكة فيها، وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة » الآية، قال: ذلك يوم القيامة، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام. قال: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والرب تعالى يجيء فيما شاء.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجَّه قوله: « في ظُلل من الغمام » إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل، وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة، لما:-

حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا، وذلك قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر » .

وأما معنى قوله: « هل ينظرون » ، فإنه ما ينظرون، وقد بيّنا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل.

ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله » .

فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنـزول، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول في صفات الله وأسمائه، فغيرُ جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا.

وقال آخرون: إتيانه عز وجل، نظيرُ ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع، وانتقاله من مكان إلى مكان.

وقال آخرون: معنى قوله: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله » ، يعني به: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله، كما يقال: « قد خشينا أن يأتينا بنو أمية » ، يراد به: حُكمهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [ سبأ: 33 ] وكما يقالُ: « قطع الوالي اللص أو ضربه » ، وإنما قطعه أعوانُه.

وقد بينا معنى « الغمام » فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره، لأن معناه ههنا هو معناه هنالك.

قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خُطوات الشيطان، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المديني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توقفون موقفًا واحدًا يوم القيامة مقدار سَبعين عامًا، لا يُنظر إليكم ولا يُقضى بينكم، قد حُصر عليكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دمًا، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان، أو يلجمكم فتصيحون، ثم تقولون: من يشَفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فيقولون من أحقُّ بذلك من أبيكم آدم ؟ جبل الله تُربته، وخلَقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلَّمه قِبَلا فيؤتى آدم، فيطلبَ ذلك إليه، فيأبى، ثم يستقرئون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلما جاءوا نبيًّا أبى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفَحْص قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الفَحْص ؟ قال: قُدّام العرش فأخرّ ساجدًا، فلا أزال ساجدًا حتى يبعث الله إليَّ ملَكًا، فيأخذ بعضديّ فيرفعني، ثم يقول الله لي: يا محمد ! فأقول: نعم! وهو أعلم. فيقول: ما شأنك ؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفِّعني في خلقك، فاقض بينهم . فيقول: قد شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينا نحن وقوفٌ سمعنا حِسًّا من السماء شديدًا، فهالنا، فنـزل أهل السماء الدنيا بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقَت الأرضُ بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا ؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نـزل أهل السماء الثانية بمثْليْ من نـزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجنّ والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا ؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نـزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نـزل من الملائكة، وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا ؟ قالوا: لا ! وهو آتٍ، ثم نـزل أهلُ السموات على عدد ذلك من التضعيف، حتى نـزل الجبار في ظُلل من الغمام والملائكة، ولهم زجَلٌ من تسبيحهم يقولون: » سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ربّ العرش ذي الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يُميت الخلائق ولا يموت! سبوح قدوس، رب الملائكة والروح! قدّوس قدّوس! سبحان ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدًا أبدًا « ! فينـزل تبارك وتعالى، يحملُ عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة ، أقدامهم على تُخوم الأرض السفلى والسموات إلى حُجَزهم ، والعرشُ على مناكبهم. فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي مناد نداءً يُسمع الخلائق، فيقول: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتُّ منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليّ، فإنما هي صُحُفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه ليقتصُّ يومئذ للجمَّاءِ من ذات القَرْن » .

قال أبو جعفر: وهذا الخبر يدلّ على خطأ قول قتادة في تأويله قوله: « والملائكة » أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت . لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب، حين تشقَّقُ السماء، وبمثل ذلك روي الخبر عن جماعة من الصحابة والتابعين، كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك، ويوضحُ أيضًا صحة ما اخترنا في قراءة قوله: « والملائكة » بالرفع على معنى: وتأتيهم الملائكة ويُبينُ عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تَفَطَّر السماء، قبل أن يأتيهم ربُّهم، في ظلل من الغمام. إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وفي الملائكة الذين يأتون أهلَ الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيكون ذلك وجهًا من التأويل، وإن كان بعيدًا من قول أهل العلم، ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 210 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وفُصِل القضاء بالعدل بين الخلق، على ما ذكرناه قبلُ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أخْذ الحق لكلّ مظلوم من كل ظالم، حتى القصاص للجمّاء من القرناء من البهائم « . »

وأما قوله: « وإلى الله تُرجع الأمور » ، فإنه يعني: وإلى الله يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة، والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا، من ظلم بعضهم بعضًا، واعتداءِ المعتدي منهم حدودَ الله، وخلافَ أمره، وإحسانِ المحسن منهم، وطاعته إياه فيما أمرَه به- فيفصلُ بين المتظالمين، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بما رأى، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرًا فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه: « وإلى الله تُرجع الأمور » ، وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرةِ، من عنده مبدؤها، وإليه مصيرها، إذْ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون، ويلي النظرَ بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقه، فيحكم بينهم بعضُ عبيده، فيجورُ بعضٌ ويعدل بعضٌ، ويصيبُ واحد ويخطئ واحد، ويمكَّن من تنفيذ الحكم على بعض، ويتعذَّر ذلك على بعض، لمنعة جانبه وغلبته بالقوة. فأعلم عبادَه تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة، فينصف كُلا من كُلٍّ، ويجازي حق الجزاء كُلا حيثُ لا ظلمَ ولا مُمْتَنَعَ من نفوذ حكمه عليه، وحيث يستوي الضعيف والقويّ، والفقير والغني، ويضمحل الظلم وينـزلُ سلطان العدل.

وإنما أدخل جل وعزّ « الألف واللام » في « الأمور » ، لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور، ولم يعن بها بعضًا دون بعض، فكان ذلك بمعنى قول القائل: « يعجبني العسل- والبغل أقوى من الحمار » ، فيدخل فيه « الألف واللام » ، لأنه لم يُقصد به قصد بعض دون بعض، إنما يراد به العموم والجمع.

القول في تأويل قوله عز ذكره : سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنـزلت إليك من كتبي، وفرضت عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.

وأما « الآية » ، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية وهي ها هنا. ما:-

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة » ، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة » ، يقول: آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم، مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودِ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [ بذلك ] ، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 211 )

قال أبو جعفر: يعني « بالنعم » جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من شرائع دينه.

ويعني بقوله: « ومن يُبدّل نعمة الله » ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه.

فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة.

وبمثل الذي قلنا في قوله: « ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته » ، قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته » ، قال: يكفر بها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ومن يبدِّل نعمة الله » ، قال: يقول: من يبدِّلها كفرًا.

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع « ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته » ، يقول: ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزينتها من الرياش والأموال، بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي وأقبلوا على طاعتي، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي، واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ فوق الذين كفروا يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا » ، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها « ويسخرون من الذين آمنوا » ، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا‍! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » ، قال: « فوقهم » في الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 212 )

قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته.

فإن قال لنا قائل: وما في قوله: « يرزق من يشاء بغير حساب » من المدح ؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله: « والله يرزق من يشاء بغير حساب »

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الأمة » : في هذا الموضع، وفي « الناس » الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة.

فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله « كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.

قال أبو جعفر: فتأويل « الأمة » على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس « الدين » ، كما قال النابغة الذبياني:

حَــلَفْتُ فَلَـمْ أَتْـرُكْ لِنَفْسِـكَ رِيبَـةً وَهَـلْ يَـأثَمَنْ ذُو أُمَّـةٍ وَهْـوَ طَائِعُ?

يعني ذا الدين.

فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

وأصل « الأمة » ، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن « الأمة » من الخبر عن « الدين » ، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [ سورة المائدة:48 سورة النحل: 93 ] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.

وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى « الأمة » إلى الطاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [ سورة النحل: 120 ] ، يعني بقوله « أمة » ، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: آدم.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه،

وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ « الأمة » ، كما يقال: « فلان أمة وحده » ، يقول مقام الأمة.

وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك « أمة » .

وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « كان الناس أمة واحدة » - وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم فكان أبيّ يقرأ: « كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين » إلى « فيما اختلفوا فيه » . وإن الله إنما بعث الرسل وأنـزل الكتب عند الاختلاف.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم « فبعث الله النبيين » ، قال: هذا حين تفرقت الأمم.

وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.

وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، على دين واحد، فبعث الله النبيين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « كان الناس أمة واحدة » ، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود: « اختلفوا عنه » عن الإسلام.

فاختلفوا في دينهم، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين، « وأنـزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » ، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.

وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة.

وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً،

غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها « يونس » : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [ يونس: 19 ] . فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين » ، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب ويعني بقوله: « ومنذرين » ، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار « وأنـزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » ، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه « الحكم » إلى « الكتاب » ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنـزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وما اختلف فيه » ، وما اختلف في الكتاب الذي أنـزله وهو التوراة « إلا الذين أوتوه » ، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها و « الهاء » في قوله: « أوتوه » عائدة على « الكتاب » الذي أنـزله الله « من بعد ما جاءتهم البينات » ، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه.

فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.

ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم.

و « البغي » مصدر من قول القائل: « بغى فلانٌ على فلان بغيًا » ، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: « بَغَى » كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده.

فمعنى قوله جل ثناؤه: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم » ، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنـزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه » يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم « من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم » ، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في « مِنْ » التي في قوله: « من بعد ما جاءتهم البينات » ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم » ؟

فقال بعضهم: « من » ، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم « البغي » قبل « من » ، لأن « من » إذا كان الجالب لها « البغي » ، فخطأ أن تتقدمه لأن « البغي » مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن « الذين » مستثنى، وأنّ « من بعد ما جاءتهم البينات » مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات فكأنه كرر الكلام توكيدًا.

قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فهدى الله » ، فوفق [ الله ] الذي آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.

وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: « الجمُعة » ، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها « السبت » ، فقال صلى الله عليه وسلم: « نحن الآخِرون السابقون ، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد » .

حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه » ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا لليهود، وبعد غد للنصارى.

* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « فهدى الله الذين آمنوا » للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.

واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا‍! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه » .

قال أبو جعفر: فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما جاء به لما اختلف - هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحق مَنْ كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: ( وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يوم القيامة ( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه » ، عن الإسلام.

قال أبو جعفر: وأمّا قوله: « بإذنه » ، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى « الإذن » إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا.

وأما قوله: « والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » ، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز.

فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل، « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ؟

قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و « مِنْ » إنما هي في كتاب الله في « الحق » و « اللام » في قوله: « لما اختلفوا فيه » ، وأنت تحول « اللام » في « الحق » ، و « من » في « الاختلاف » ، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا ؟

قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر:

كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـول كمـا كَــانَ الزِّنَــاءُ فَريضَــةَ الرَّجْـمِ

وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:

إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُهْ تَحْــلَى بـه العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ

وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.

وقد قال بعضهم: إن معنى قوله « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق » ، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.

وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( 214 )

قال أبو جعفر: وأما قوله: « أم حسبتم » ، كأنه استفهم بـ « أم » في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، ولو لم يكن قبله كلام يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر: « أم عندك أخوك » ؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال: « أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟ » كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.

فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من « البأساء » - وهو شدة الحاجة والفاقة « والضراء » - وهي العلل والأوصاب - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.

وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نـزلت يومَ الخندق، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا إلى قوله: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [ الأحزاب: 9- 11 ]

* ذكر من قال نـزلت هذه الآية يوم الأحزاب:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا » ، قال: نـزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا [ الأحزاب: 12 ]

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا » ، قال: نـزلت في يوم الأحزاب، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ

وأما قوله: « ولما يأتكم » ، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن « ما » صلة وحشو، وقد بينت القول في « ما » التي يسميها أهل العربية « صلة » ، ما حكمها؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.

وأما معنى قوله: « مثل الذين خلوا من قبلكم » ، فإنه يعني: شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم.

وقد دللت في غير هذا الموضع على أن « المثل » ، الشبه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا » ...

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج، قال قوله: « حتى يقول الرسول والذين آمنوا » ، قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله.

وفي قوله: « حتى يقول الرسول » ، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه « فعَل » أبطل عمل « حتى » فيها، لأن « حتى » غير عاملة في « فعل » ، وإنما تعمل في « يفعل » ، وإذا تقدمها « فعل » ، وكان الذي بعدها « يفعل » ، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في « يفعل » وإبطال عمل « حتى » عنه، وذلك نحو قول القائل: « قمت إلى فلان حتى أضربُه » ، والرفع هو الكلام الصحيح في « أضربه » ، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل « حتى » من الفعل على لفظ « فعل » متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب « يفعل » ، وإعمال « حتى » ، وذلك نحو قول القائل: « ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك وجعل ينظر إليك حتى يثبتك » ، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ « حتى » ، كما قال الشاعر:

مَطَــوْتُ بِهِـمْ حَـتَّى تَكِـلَّ مَطِيُّهـمْ وَحَـتَّى الجِيَـادُ مَـا يُقَـدْنَ بِأَرْسَـانِ

فنصب « تكل » ، والفعل الذي بعد « حتى » ماض، لأن الذي قبلها من « المطو » متطاول.

والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك- : « وزلزلوا حتى يقولَ الرسول » ، نصب « يقول » ، إذ كانت « الزلزلة » فعلا متطاولا مثل « المطو بالإبل » .

وإنما « الزلزلة » في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا « زلزلة الأرض » ، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في « يقول » وإن كان بمعنى « فعل » أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 215 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه.

و « الخير » الذي قال جل ثناؤه في قوله: « قل ما أنفقتم من خير » ، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.

وفي قوله: « ماذا » ، وجهان من الإعراب.

أحدهما: أن يكون « ماذا » بمعنى: أيّ شيء ؟، فيكون نصبًا بقوله: « ينفقون » .

فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ « يسألونك » . والآخر منهما الرفع. وللرفع في « ذلك » وجهان: أحدهما أن يكون « ذا » الذي مع « ما » بمعنى « الذي » ، فيرفع « ما » ب « ذا » و « ذا » لِ « ما » ، و « ينفقون » من صلة « ذا » ، فإن العرب قد تصل « ذا » و « هذا » ، كما قال الشاعر:

عَــدَسْ! مَـا لِعَبَّـادٍ عَلَيْـكِ إمَـارَةٌ أمنْــتِ وهــذَا تَحْــمِلِينَ طَلِيـقُ!

فـ « تحملين » من صلة « هذا » .

فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟

والآخر من وجهي الرفع أن تكون « ماذا » بمعنى أيّ شيء، فيرفع « ماذا » ، وإن كان قوله: « ينفقون » واقعًا عليه، إذ كان العاملُ فيه، وهو « ينفقون » ، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر:

ألا تَسْــأَلانِ المَـرْءَ مَـاذَا يُحَـاِولُ أَنَحْـبٌ فَيُقْضَـى أَمْ ضـلالٌ وَبَـاطِلُ

وكما قال الآخر:

وَقَـالُوا تَعَرَّفْهـَا المَنَـازِلَ مِـنْ مِنًى وَمَـا كُـلُّ مَـنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ

فرفع « كل » ولم ينصبه « بعارف » ، إذ كان معنى قوله: « وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف » جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. وهذه الآية [ نـزلت ] - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » ، قال: يوم نـزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم ؟ فنـزلت: « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل » ، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك: « ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » وما ذكر معهما.

حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله: « يسألونك ماذا ينفقون » ، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك: « فللوالدين والأقربين » وما ذكر معهما.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وسألته عن قوله: « قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي : من أنه لم يكن يوم نـزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله: « قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [ سورة البقرة: 177 ] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.

وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته.

القول في تأويل قوله عز ذكره : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله : « كتب عليكم القتال » ، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .

واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.

فقال بعضهم: عني بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً دون غيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » ، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها ؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » ، قال نسختها وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [ سورة البقرة: 285 ]

قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.

حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم ؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. »

وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين .

قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [ سورة النساء: 95 ] ، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.

وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي.

وقد بينا فيما مضى معنى قوله: « كتب » بما فيه الكفاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر « ذو » اكتفاء بدلالة قوله: « كره لكم » ، عليه، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « وهو كره لكم » قال: كُرّه إليكم حينئذ.

« والكره » بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه، « والكَرْهُ » بفتح « الكاف » ، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.

وقد كان بعض أهل العربية يقول: « الكُره والكَره » لغتان بمعنى واحد، مثل: « الغُسْل والغَسْل » و « الضُّعف والضَّعف » ، و « الرُّهبْ والرَّهبْ » . وقال بعضهم: « الكره » بضم « الكاف » اسم و « الكره » بفتحها مصدر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم » ، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال: « عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم » يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا.

حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن ! قال: في قوله: « وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 216 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام وذلك رَجبٌ عن قتالٍ فيه.

وخفضُ « القتال » على معنى تكرير « عن » عليه، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:-

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ، قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها: « عن قتال فيه » .

قال أبو جعفر: « قل » يا محمد: « قتالٌ فيه » - يعني في الشهر الحرام « كبيرٌ » ، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه.

ومعنى قوله: « قتال فيه » ، قل القتال فيه كبير. وإنما قال: « قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له، وتسميه مضر « الأصمَّ » لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد:-

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ.

وقوله جل ثناؤه: « وصَدٌّ عن سبيل الله » . ومعنى « الصدّ » عن الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل: « صدّ فلان بوجهه عن فلان » ، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.

وقوله: « وكفرٌ به » ، يعني: وكفر بالله، و « الباء » في « به » عائدة على اسم الله الذي في « سبيل الله » . وتأويل الكلام: وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.

فـ « الصدُّ عن سييل الله » مرفوع بقوله: « أكبر عند الله » . وقوله: « وإخراج أهله منه » عطف على « الصد » . ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال: « والفتنة أكبر من القتل » ، يعني: الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام.

قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله: « والمسجد الحرام » معطوف على « القتال » وأن معناه: يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » من القتال في الشهر الحرام.

وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم ؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.

ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله.

* ذكر الرواية عمن قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.

وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [ بن عتبة ] بن ربيعة- ومن بني أمية- بن عبد شمس، ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.

فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: « إذا نظرت إلى كتابي هذا، فسرْ حتى تنـزل نخلة بين مكة والطائف، فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم » . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: « سمعا وطاعة » ، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه [ منهم ] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نـزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نـزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار‍! فلا بأس علينا منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.

وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمُس.

وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [ فيه الرجال ] فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! وقالت يهود - تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم- : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! « عمرو » ، عمرت الحرب! و « الحضرميّ » ، حَضَرت الحربُ! « وواقد بن عبد الله » ، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم.

فلما أكثر الناسُ في ذلك أنـزل الله جل وعز على رسوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ،

أي: عن قتالٍ فيه « قل قتال فيه كبيرٌ » إلى قوله: « والفتنة أكبر من القتل » ، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم، « والفتنة أكبر من القتل » ، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نـزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العيرَ والأسيرين.

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ » ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينـزل [ بطن ] مَلَل، فلما نـزل ببطن ملل فتحَ الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنـزل بطن نخلة، فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا ! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب ! فقال المسلمون : إنما قتلناه في جُمادى ! - وقيل : في أول ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنـزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير » لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام، فذلك قوله: « وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم أبا عبيدة . فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا : « ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك » . فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله ! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم : أمن رَجب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام ! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثوه الحديث، فأنـزل الله عز وجل : « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل » - والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال - : كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحد ! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت ! وإن يكن ذنبًا فقد عملت !

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه » ، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنـزل الله جل وعز: « قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به » وصد عن المسجد الحرام « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا : أتقتلون في الشهر الحرام ! فأنـزل الله : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام » يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله « والمسجد الحرام » وصد عن المسجد الحرام « وإخراج أهله منه أكبر عند الله » ، من قتل عمرو بن الحضرميّ « والفتنة » ، يقول: الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا قال الزهري وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم أحِلّ [ له ] بعدُ.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله : « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير » ، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام، فقال الله جل وعز: « وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله » من القتل فيه وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير » وغير ذلك أكبر منه، « صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه » إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نـزلت: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير » إلى قوله: « والفتنة أكبرُ من القتل » ، استكبروه. فقال: والفتنة الشرك الذي أنتم عليه مقيمون أكبر مما استكبرتم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام ، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنـزل الله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه » إلى قوله « أكبر عند الله » من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و « الفتنة » - التي أنتم عليها مقيمون، يعني الشركَ - « أكبر من القتل » .

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: وكان يسميها - يقول: لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ، فيمن نـزلت؟ قال: لا أدري قال ابن جريج: وقال عكرمة ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي حسين، عن الزهري ذلك أيضًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: « قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام » ، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد الحرام « وإخراج أهله منه » - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي - « والفتنة أكبر من القتل » - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ من هذا كله.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير » ، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام.

قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع « الصد » و « الكفر به » ، وأن رافعه « أكبر عند الله » . وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على « الكبير » ، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله، وزعم أن قوله: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » ، خبر منقطع عما قبله مبتدأ.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله: « والفتنة أكبر من القتل » ، قال: يعني به الكفر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال: « والفتنة أكبر من القتل » ، أي الشرك بالله أكبر من القتل.

وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيِّرونه بذلك، فقال: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، وغيرُ ذلك أكبر منه: « صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر » من الذي أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر : وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله: « وصدٌّ عن سبيل الله » .

فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما ، أن يكون « الصدُّ » مردودًا على « الكبير » ، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به . وإن شئت جعلت « الصد » « كبيرًا » ، يريد به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به .

قال أبو جعفر : قال فأخطأ - يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع « الصد » عطفًا به على « كبير » ، يصير تأويل الكلام: قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا . لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك: « وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله » ؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » . وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول.

وأما إذا رفع « الصد » ، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل: « وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله » - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه .

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع « الصد » ، ويزعم أنه معطوف به على « الكبير » ، ويجعل قوله: « وإخراج أهله » مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟

فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] ، وبقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ سورة التوبة: 5 ]

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في « براءة » قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] : يقول: فيهن وفي غيرهن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] .

وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.

وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان بالرسالة، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرُم.

فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، وأنه منسوخ.

فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا . وذلك أن هذه الآية - أعني قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنـزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير: « ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا » ، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين ولا نازعين يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردُّوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا » ، قال: كفار قريش.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 217 )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: « ومن يرتدد منكم عن دينه » ، من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [ سورة الكهف: 64 ] يعني بقوله: « فارتدَّا » ، رجعا. ومن ذلك قيل: « استردّ فلان حقه من فلان » ، إذا استرجعه منه.

وإنما أظهر التضعيف في قوله: « يرتدد » لأن لام الفعل ساكنة بالجزم، وإذا سكِّنت فالقياس ترك التضعيف، وقد تضعَّف وتدغم وهي ساكنة ، بناء على التثنية والجمع.

وقوله: « فيمت وهو كافر » ، يقول: من يرجع عن دينه دين الإسلام، « فيمت وهو كافر » ، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت أعمالهم.

يعني بقوله: « حبطت أعمالهم » ، بطلت وذهبت. وبُطولها: ذهابُ ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.

وقوله: « وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » ، يعني: الذين ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلَّدون فيها.

وإنما جعلهم « أهلها » لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها، كما يقال: « هؤلاء أهل محلة كذا » ، يعني: سكانها المقيمون فيها.

ويعني بقوله: « هم فيها خالدون » ، هم فيها لابثون لَبْثًا، من غير أمَدٍ ولا نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 218 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به وبقوله: « والذين هاجروا » الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم، إلى غيرها هجرة... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة: « المفاعلة » من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم « مهاجرين » ، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النـزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.

وأما قوله: « وجاهدوا » فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا.

وأصل « المجاهدة » « المفاعلة » من قول الرجل: « قد جَهَد فلان فلانًا على كذا » - إذا كرَبَه وشقّ عليه- « يجهده جهدًا » . فإذا كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة، قيل: « فلانٌ يجاهد فلانًا » - يعني: أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه - « فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا » .

وأما « سبيل الله » ، فطريقه ودينه.

فمعنى قوله إذًا : « والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله » ، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله « أولئك يرجون رَحمة الله » ، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.

« والله غفور » ، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة.

وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نـزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان ، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم - أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنـزل الله: « إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنـزل الله عز وجل القرآنَ بما أنـزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نـزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنـزل الله عز وجل فيهم: « إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ » . فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناء فقال: « إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيم » ، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجَا طلب، ومن خاف هرب.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشُربها.

و « الخمر » كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل: « خَمَرت الإناء » إذا غطيته، و « خَمِر الرجل » ، إذا دخل في الخَمَر. ويقال: « هو في خُمار الناس وغُمارهم » ، يراد به دخل في عُرْض الناس. ويقال للضبع: « خامري أم عامر » ، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو « خمر » . ومن ذلك أيضا « خِمار المرأة » ، وذلك لأنها تستر [ به ] رأسها فتغطيه. ومنه يقال: « هو يمشي لك الخمَر » ، أي مستخفيًا ، كما قال العجاج:

فِـي لامِـعِ العِقْبَـانِ لا يَـأتي الْخَمَرْ يُوَجِّــهُ الأرْضَ وَيَسْــتَاقُ الشَّـجَرْ

ويعني بقوله: « لا يأتي الخمر » ، لا يأتي مستخفيًا ولا مُسارَقةً، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و « العقبان » جمع « عُقاب » ، وهي الرايات.

وأما « الميسر » فإنها « المفعل » من قول القائل: « يسَرَ لي هذا الأمر » ، إذا وجب لي « فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا » و « الياسر » الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك. ثم قيل للمقامر، « ياسرٌ ويَسَر » ، كما قال الشاعر:

فَبِـــتُّ كَــأَنَّنِي يَسَــرٌ غَبِيــنٌ يُقَلِّــبُ, بَعْـدَ مَـا اخْـتُلِعَ, القِدَاحَـا

وكما قال النابغة :

أَوْ يَاسِــرٌ ذَهَــبَ القِـدَاح بوَفْـرِهِ أَسِــفٌ تآكَلَــهُ الصِّــدِيقُ مُخَـلَّعُ

يعني « بالياسر » : المقامر. وقيل للقمار « ميسر » .

وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « يسألونك عن الخمر والميسر » قال: القمار، وإنما سمّي « الميسر » لقولهم: « أيْسِروا واجْزُرُوا » ، كقولك: ضع كذا وكذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا ، فإنهن من الميسر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا، فإنها من الميسر.

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار ميسرٌ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خَطَرٌ أو: في خَطَر ، أبو عامر شك فهو من الميسر.

حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: الميسر القمار.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا ، فإنهما من الميسر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن عليه، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: أما قوله: « والميسر » ، فهو القمار كله.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد « ميسر » ، أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله.

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله: « والميسر » ، قال: القمار.

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الميسر القمار.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسرُ، قداح العرب وكِعابُ فارس قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار كله.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار.

حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر القمار.

وأما قوله: « قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس » ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهم : « فيهما » ، يعني في الخمر والميسر « إثم كبير » ، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:-

حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: « فيهما إثمٌ كبير » ، فإثم الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قل فيهما إثم كبير » ، قال: هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « قل فيهما إثم كبير » ، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها.

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل « الإثم الكبير » الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر: في « الخمر » ما قاله السدي: زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في « الميسر » ، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [ سورة المائدة: 91 ]

وأما قوله: « ومنافع للناس » ، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في صفتها.

لَنَـا مِـنْ ضُحَاهـا خُـبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ وذِكْــرَى هُمُـوم مَـا تُغِـبُّ أَذَاتُهَـا

وَعِنْــد العِشَـاءِ طِيـبُ نَفْسٍ وَلَـذَّةٌ وَمَــالٌ كَثِــير, عِــزَّةٌ نَشَـوَاتُهَا

وكما قال حسان:

فَنَشْـــرَبُهَا فَتَتْرُكُنَـــا مُلُوكًـــا وَأُسْــدًا, مَــا يُنَهْنِهُنَــا اللِّقَــاءُ

وأما منافع الميسر ، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:

وَجَـزُورِ أَيْسَـارٍ دَعَـوْتُ إلَـى النَّدَى وَنِيَــاطِ مُقْفِــرَةٍ أَخَـافُ ضَلالَهَـا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون من الجَزور.

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما منافعهُما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس » ، قال: منافعهما قبل أن يحرَّما.

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس: « ومنافع للناس » ، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها.

واختلف القرأة في قراءة ذلك:

فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين: « قل فيهما إثم كبيرٌ » بالباء، بمعنى قل: في شرب هذه، والقمار هذا، كبيرٌ من الآثام.

وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة: « قل فيهما إثمٌ كثيرٌ » ، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن « الإثم » بمعنى « الآثام » ، وإن كان في اللفظ واحدًا، فوصفوه بمعناه من الكثرة.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه « بالباء » : « قل فيهما إثم كبير » ، لإجماع جميعهم على قوله: « وإثمهما أكبر من نفعهما » ، وقراءته بالباء. وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك، هو العظم والكبَر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

قال أبو جعفر : يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [ الخمر ] هذه والقمار هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتَل بعضهم بعضًا، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه بسببه الشرُّ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.

ونـزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.

وقد قال عددٌ من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وإثمهما أكبر من نفعهما » ، قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدَ ما حرِّما.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا » ينـزل المنافعَ قبل التحريم، والإثم بعد ما حرِّم.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإثمهما أكبرُ من نفعهما » ، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وإثمهما أكبرُ من نفعهما » ، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نـزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم.

* ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نـزلت قبل تحريم الخمر:

حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فكرهها قوم لقوله: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ، وشربها قوم لقوله: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، حتى نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ سورة النساء: 43 ] ، قال: فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نـزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [ سورة المائدة: 90 ] فقال عمر: ضَيْعَةً لك ! اليوم قُرِنْتِ بالميسر !

حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال، سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنـزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا، فكان أول ما أنـزل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نـزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال: ثم نـزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حُرِّمت الخمر » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ و « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما » ، فنسختها الآية التي في المائدة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، الآية.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف، عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال: أنـزل الله عز وجلّ في الخمر ثلاثَ مرات. فأول ما أنـزل قال الله: « يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما » ، قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما هو، فأنـزل الله عز وجل فيهما: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ، فجعل ينوح على قتلى بدر:

تُحَـــيِّي بِالسَّـــلامَةِ أُمُّ عَمْــروٍ وَهَـلْ لَـكِ بَعْـدَ رَهْطِـكِ مِـنْ سَلامِ

ذَرِينــي أَصْطَبِــحْ بَكْــرًا, فَـإنِّي رَأَيْــتُ المَـوْتَ نَقَّـبَ عَـنْ هِشَـامِ

وَوَدَّ بَنُــو المُغِــيرَةِ لَــوْ فَــدَوْهُ بِــأَلْـفٍ مِـنْ رِجَــالٍ أَوْ سَـــوَامِ

كَــــــــأَيٍّ بـــــــالطَّو مِــنْ الشِّــيزَى يُكَلَّــلُ بالسَّــنَامِ

كَــأَيٍّ بــالطَّوِىِّ طَــوِيِّ بَــدْرٍ مِــنَ الفِتْيَــانِ والحُــلَلِ الكِـرَامِ

قال: فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزِعًا يجرُّ رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ! والله لا أطعمُها أبدًا ! فأنـزل الله تحريمها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا !!

حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحق الأزرق، عن زكريا، عن سماك، عن الشعبي قال: نـزلت في الخمر أربعُ آيات: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، فتركوها، ثم نـزلت: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [ سورة النحل: 67 ] ، فشربوها ثم نـزلت الآيتان في « المائدة » : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال نـزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، ولم يفهمها. فأنـزل الله عز وجل يشدد في الخمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون، ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لَحْي البعير فكسر أنف سعد، فأنـزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة - وعن رجل، عن مجاهد - في قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، قال: لما نـزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعضٌ، حتى نـزل تحريمها في « سورة المائدة » .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قل فيهما إثمٌ كبير » ، قال: هذا أول ما عِيبت به الخمر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنـزل الله في « سورة النساء » أشد منها: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم حرامًا. ثم أنـزل الله جل وعز في « سورة المائدة » بعد غزوة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم منها.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قوله: « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما » ، قال: لما نـزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر، قال: ثم نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال: ثم نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ، فحرّمت الخمر عند ذلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية كلها، قال: نسخت ثلاثةً، في « سورة المائدة » ، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ، وقرأ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا منها العفوَ.

واختلف أهل التأويل في معنى: « العفو » في هذا الموضع.

فقال بعضهم: معناه: الفضل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: العفوُ ما فضل عن أهلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قل العفو » ، أي الفضْل.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: « العفو » ، قال: الفضل.

حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: « العفو » ، يقول: الفضل.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن العيال قدَّموه، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على الناس.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في قوله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: هو الفضل، فضل المال.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو تصدّق به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، يقول: ما لا يتبيَّن في أموالكم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: اليسير من كل شيء.

وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن في قوله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، يقول: لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم يَقتروا في الحق قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظَهْر غنى.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: هو أن لا تجهد مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك: « قل العفو » ، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرًا.

* ذكر ذلك من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما طابَ من أموالكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: يقول: الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيبَه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد - شك أبو عاصم قول الله جل وعز: « قل العفو » ، قال: الصدقة المفروضة.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى « العفو » : الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصَدقته في وجوه البر:

* ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك:

حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار! قال: « أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال: » أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر ! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر؛ قال: فأنتَ أبْصَرُ!

حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج، قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم « . »

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبًا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال: « يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن ظهر غِنًى. »

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرّمي قال: سمعت أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ارضَخْ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تُلام على كَفاف.

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب.

فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته، الصدقةَ من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو « العفو » من مال الرجل، إذْ كان « العفو » ، في كلام العرب، في المال وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه: حَتَّى عَفَوْا بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، ومنه قول الشاعر:

وَلكِنَّــا نُعِــضُّ السَّــيْفَ منــا بِأَسْــوُقِ عَافِيَــاتِ الشَّــحْمِ كُـومِ

يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل: « خذ ما عفا لك من فلان » ، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله: « قل العفو » لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بيّن لأمته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « خير الصدقة ما أنفقت عن غنى » ، وأذِنهم به.

فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك « العفو » هو الصدقة المفروضة ؟ قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم « عفوا » ، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم « جهد » في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى « العفو » هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه: « ما لم يتبيّن في أموالكم » ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة: « إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة » ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يكفيك من ذلك الثلث! » ، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك. والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [ سورة الفرقان: 67 ] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [ سورة الإسراء: 29 ] ، وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.

ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ سورة الأعراف: 199 ] ، ثم نـزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً.

حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، هذه نسختها الزكاة.

وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد أو عيسى، عن قيس عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله: « قل العفو » ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما أدَّبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: « إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده » ، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو « القَوام » بين الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه إن شاء الله تعالى.

ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع الجميعُ لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً وهِبهً ووصيةً، الثلثَ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟

فإن زعم أنه يعني بقوله: « إنه منسوخ » ، أنّ إخراج العفو من المال غير لازم فرضًا، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال

قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه فرضُ الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم يكن أمرٌ من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟

ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى.

قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة « العفو » . فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين: « قل العفو » نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين: « قل العفو » رفعًا.

فمن قرأه نصبًا جعل « ماذا » حرفًا واحدًا، ونصبه بقوله: « ينفقون » ، على ما قد بيَّنت قبل - ثم نصب « العفو » على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟

ومن قرأ رفعًا جعل « ما » من صلة « ذا » ، ورفعوا « العفو » . فيكون معنى الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو.

ولو نصب « العفو » ، ثم جعل « ماذا » حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: ينفقون العفو ورفع الذين جعلوا « ماذا » حرفًا واحدًا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرًا كان صوابًا صحيحًا في العربية.

وبأي القراءتين قرئ ذلك، فهو عندي صواب، لتقارب معنييهما، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين إليّ، وإن كان الأمر كذلك، قراءةُ من قرأه بالنصب، لأن من قرأ به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهرُ.

 

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 ) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ، هكذا يبين أي: ما بينت لكم أعلامي وحُججي - وهي « آياته » - في هذه السورة، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبَّهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حُجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنـزلته على نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحُججي وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده إليّ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: « كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ » قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة » ، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قوله: « كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » ، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » ، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة.

القول في تأويل قوله عز ذكره : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ

اختلف أهل التأويل فيمَ نـزلت هذه الآية.

فقال بعضهم: نـزلت [ في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نـزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ سورة الأنعام: 152 ] ، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [ سورة النساء : 10 ] .

ذكر من قال ذلك ] :

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ سورة الأنعام: 152، والإسراء: 34 ] عزلوا أموال اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنـزلت: « وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح، ولو شاء الله لأعنتكم » ، فخالطوهم.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ سورة النساء: 10 ] ، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله عز وجل: « ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، قال: كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء، فيتركونه حتى يَفسد، فأنـزل الله: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » .

حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم قال: سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، اجتُنبت مخالطتهم، واتقوا كل شيء، حتى اتقوا الماء، فلما نـزلت « وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، قال: فخالطوهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ويسألونك عن اليتامى » الآية كلها، قال: كان الله أنـزل قبل ذلك في « سورة بني إسرائيل » وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنـزل الله الرخصة فقال: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل: « ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم » .

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم » الآية، قال: فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنـزل في « بني إسرائيل » : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم، فأنـزل الله الرخصة فقال: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم.

وقال آخرون في ذلك بما:-

حدثني عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ الآية، قال: كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنـزل الله: « وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح » ، فأحل خُلطتهم.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي قال: لما نـزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ، قال: فاجتنب الناس الأيتامَ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فاشتد ذلك على الناس، فنـزلت: « وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح » . قال الشعبي: فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير » ، وذلك أن الله لما أنـزل: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله: « قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، قال: لما نـزلت « سورة النساء » ، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنـزلت: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، فشقّ ذلك عليهم، فنـزلت: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، قال: مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم قال ابن جريج، وقال ابن عباس: الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة قال ابن جريج: وفي المساكن، قال: والمساكن يومئذ عزيزةٌ.

حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ، قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير »

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد أو عيسى، عن قيس بن سعد، شك أبو عاصم - عن مجاهد: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، قال: مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم.

وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح » ، قال: كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال: « قل إصلاح لهم خيرٌ » ، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ » إلى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية، مخافة الوِزر، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى، فقال الله: « قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم » إلى آخر الآية.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « ويسألونك عن اليتامى » ، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم، فأنـزل الله: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، يعني « بالمخالطة » : ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشربَ اللبن.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم، وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ لكم أجرًا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم « وإنْ تخالطوهم » فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويكنُفُ بعضهم بعضًا، فذو المال يعينُ ذا الفاقة، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك، إن خالطتموهم بأموالكم فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه فذلك لكم حلالٌ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن تخالطوهم فإخوانكم » ، قال: قد يخالط الرجل أخاه.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مسكين، عن إبراهيم قال: إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال: « فإخوانُكم » ، فرفع « الإخوان » ؟ وقال في موضع آخر: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا [ سورة البقرة: 239 ]

قيل: لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و « الإخوان » مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره، وهو « هم » لدلالة الكلام عليه وأنه لم يرد « بالإخوان » الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد، لكانت القراءة نصبًا، وكان معناه حينئذ: وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت: من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم، خالطوهم أو لم يخالطوهم.

وأما قوله: فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا ، فنصبٌ، لأنهما حالان للفعل، غير دائمين، ولا يصلح معهما « هو » . وذلك أنك لو أظهرت « هو » معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل: « إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب » ، لبطل المعنى المرادُ بالكلام ؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم، فصلوا رجالا أو ركبانًا . ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام، كما تقول في نحوه من الكلام: « إن لبست ثيابًا فالبياض » فتنصبه، لأنك تريد: إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت: « إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ » رفعًا، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ . لأنك تريد حينئذ: إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ.

فإن قال: فهل يجوز النصب في قوله: « فإخوانكم » .

قيل: جائز في العربية . فأما في القراءة، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية، فإنما أجزناه، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما: وإن تخالطوهم، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه : إفسَاد ماله وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء، ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفسادَه. كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: « والله يعلم المفسد من المصلح » قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله : أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق؟

حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي: « والله يعلم المفسد من المصلح » ، قال الشعبي: فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم، رحمةً بكم ورأفةً.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « لأعنتكم » . فقال بعضهم بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد - أو عيسى، عن قيس بن سعد - عن مجاهد شك أبو عاصم في قول الله تعالى ذكره: « ولو شاء الله لأعنتكم » لحرم عليكم المرعى والأدْم.

قال أبو جعفر: يعني بذلك مجاهد : رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم ، والأكلَ من إدامه . لأنه كان يتأول في قوله: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولو شاء الله لأعنتكم » ، يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [ سورة النساء: 6 ]

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده: « ولو شاء الله لأعنتكم » ، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع نحوه إلا أنه قال: فلم تعملوا بحقّ.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولو شاء الله لأعنتكم » ، لشدد عليكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: « ولو شاء الله لأعنتكم » ، قال: لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قوله: « ولو شاء الله لأعنتكم » ، قال: ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا.

وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك الشيء، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه: الشدة والمشقة.

ولذلك قيل: « عَنِت فلانٌ » إذا شق عليه الأمر، وجهده، « فهو يعنَتُ عَنَتًا » ، كما قال تعالى ذكره: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [ سورة التوبة: 128 ] ، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [ سورة النساء: 25 ] . فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك، قيل: « أعنته فلانٌ في كذا » إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به « يُعْنِته إعناتًا » . فكذلك قوله: « لأعنتكم » معناه: لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم، مما لا تطيقون القيام باجتنابه، وأداء الواجب له عليكم فيه.

وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قرأ علينا: « ولو شاء الله لأعنتكم » ، قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل - وجرير، عن منصور وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: « ولو شاء الله لأعنتكم » قال: لجعل ما أصبتم مُوبقًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 220 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله « عزيز » في سلطانه، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله، ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك وهو « حكيم » في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نـزلت مرادًا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟

فقال بعضهم: نـزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ إلى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [ سورة المائدة: 4- 5 ]

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن واقد قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ » ، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لكم إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ » ، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » ، قال: نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولا تنكحوا المشركات » إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنـزل في « سورة المائدة » ، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .

وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن » ، يعني : مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ » ، قال: المشركات، مَنْ ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ » ، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير قوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ » ، قال: مشركات أهل الأوثان.

وقال آخرون: بل أنـزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً، ولا نُسخ منها شيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله تعالى ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [ سورة المائدة: 5 ] ، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب! فقال: لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً.

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة : من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ » من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ - للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.

وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان ) : أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود، أن قوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ » . فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك، فقول القائل: « هذه ناسخة هذه » ، دعوى لا برهان له عليها، والمدعي دعوَى لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ.

وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه : من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك، بإسناد هو أصح منه، وهو ما:-

حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال، قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة.

وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما. كما:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: « خلِّ سبيلها » ، فكتب إليه: « أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ » ، فقال: « لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن » .

وقد :-

حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا.

فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به، لإجماع الجميع على صحة القول به، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب.

فمعنى الكلام إذًا: ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ، غير أهل الكتاب، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنـزل عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « ولأمة مؤمنة » بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجل نكح أمة، فعُذل في ذلك، وعُرضت عليه حرة مشركة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم » ، قال: نـزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداءُ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: هذه مؤمنة! فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنـزل الله فيهم: » ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة « و » عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك « . »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج قال، قال ابن جريج في قوله: « ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ » ، قال: المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال، فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها.

وإنما وضعت « لو » موضع « إن » لتقارب مخرجيهما، ومعنييهما، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها، على ما قد بينا فيما مضى قبْل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، ولو شرُف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.

وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القولُ من الله تعالى ذكره، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.

حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال، أخبرنا حفص بن غياث، عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله، ثم قرأ: « ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا » برفع التاء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري في قوله: « ولا تنكحوا المشركين » ، قال: لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: « ولا تنكحوا المشركين » - لشرفهم - « حتى يؤمنوا » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري: « ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا » ، قال: حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 221 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم، يدعونكم إلى النار يعني: يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم، فيعفو عنها ويسترها عليكم.

وأما قوله: « بإذنه » ، فإنه يعني : أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.

ثم قال تعالى ذكره: « ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون » ، يقول: ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنـزله على لسان رسوله لعباده، ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [ غَبين ] الرأي مدخول العقل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « ويسألونك عن المحيض » ، ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض.

وقيل : « المحيض » ، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل، وكسرها في الاستقبال، مثل قول القائل: « ضرَب يضرِب، وحبَس يحبِس، ونـزل ينـزل » ، فإن العرب تبني مصدره على « المفعَل » والاسم على « المفعِل » ، مثل « المضرَب، والمضرِب » من « ضربتُ » ، « ونـزلت منـزلا ومنـزلا » . ومسموع في ذوات الياء والألف والياء، « المعيش والمعاش » و « المعيبُ والمعاب » ، كما قال رؤبة في المعيش:

إلَيْـــكَ أَشْـــكُو شِــدَّةَ المَعيشِ وَمَــرَّ أَعْــوَامٍ نَتَفْــنَ رِيشِــي

وإنما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر لنا - عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضًا في بيت، ولا يؤاكلونهنَّ في إناء ولا يشاربونهن. فعرَّفهم الله بهذه الآية، أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم : أن يجتنَّبوا جماعهن فقط، دون ما عدا ذلك من مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن، كما :-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ويسألونك عن المحيض » حتى بلغ: حَتَّى يَطْهُرْنَ فكان أهلُ الجاهلية لا تساكنهم حائضٌ في بيت، ولا تؤاكلهم في إناءٍ، فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرَّم فرْجها ما دامت حائضًا، وأحل ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزارٌ محتجزةً به دونك.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهنّ في أدبارهن، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم - إذا تطهَّرن من حيضهن - في إتيانهن من حيث أمرَهم باعتزالهنَّ، وحرم إتيانهن في أدبارهنَّ بكل حال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد قال، كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنـزل الله: « ويسألونك عن المحيض » إلى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ - في الفرج لا تعدوه.

وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابتَ بن الدَّحداح الأنصاري.

حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هُوَ أَذًى

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض : « هو أذى » .

« والأذى » هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى « أذى » لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى، غير واحدة.

وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض.

فقال بعضهم : قوله: « قل هو أذى » ، قل هو قَذَر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « قل هو أذى » ، قال: أما « أذى » فقذرٌ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « قل هو أذى » ، قال: « قل هو أذى » ، قال: قذرٌ.

وقال آخرون: قل هو دمٌ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ويسألونك عن المحيض قل هو أذى » ، قال: الأذى الدم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « فاعتزلوا النساء في المحيض » ، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهنّ، كما:-

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « فاعتزلوا النساء في المحيض » ، يقول: اعتزلوا نكاحَ فُروجهنّ.

واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض.

فقال بعضهم: الواجبُ على الرجل، اعتزالُ جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يحلُّ لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى.

حدثني تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا محمد، عن الزهري، عن عروة، عن ندبة مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث - أو: حفصة ابنة عمر - إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابةٌ من قبل النساء، فوجدت فراشَها معتزلا فراشَه، فظنت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشِه فراشَها، فقالت: إنيّ طامث، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونة - أو حفصة - فردَّتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوبٌ ما يجاوز الركبتين.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى، فإن لم يجد إلا أن يردَّ عليها من ثوبه، ردَّ عليها منه.

واعتل قائلو هذه المقالة: بأنّ الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهنّ، ولم يخصصن منهن شيئًا دون شيء، وذلك عامٌّ على جميع أجسادهنّ، واجبٌ اعتزالُ كل شيء من أبدانهن في حيضهنّ.

وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن، موضع الأذى، وذلك موضعُ مخرج الدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال، حدثنا مروان الأصفر، عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سعيد بن زريع قال، حدثنا سعيد وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشَين وذو اللحافين؟!

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت : فرجها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أنّ مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة! مرحبًا! فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك، وأنت ابني! فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي معشر قال: سألتُ عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال، قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكفُّ الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزار.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتق من الدم مثل موضع النعل.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج - يعني وهي حائض.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن قال: يبيتان في لحاف واحد - يعني الحائض - إذا كان على الفرج ثوب.

حدثنا تميم قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن ليث قال: تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة، ما لم يكن في الدبر أو الحيض.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال: يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفَّت الأذى.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عمران بن حدير قال، سمعت عكرمة يقول، كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم.

قال أبو جعفر : وعلة قائل هذه المقالة، قيامُ الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعهنّ، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله: « فاعتزلوا النساءَ في المحيض » ، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قُبُلها، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها.

وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهنّ في حال حيضهن، ما بين السرّة إلى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح قال : له ما فوق السرة - وذكر الحائض.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن الحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قال شريح: له ما فوق سُرَّتها.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: سئل سعيد بن المسيب: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما فوق الإزار.

وعلة من قال هذه المقالة، صحةُ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:-

حدثني به ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني وحدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الشيباني قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال، سمعت ميمونة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها فأتزرت « . »

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار.

حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرَها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر، ثم يباشرها.

ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب

قالوا: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرة، وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجبٌ اعتزالُه، لعموم الآية.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتَزَر ودونه، لما ذكرنا من العلة لهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: « حتى يطهرن » بضم « الهاء » وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديد « الهاء » وفتحها.

وأما الذين قرءوه بتخفيف « الهاء » وضمها، فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهنّ حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطهُرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ولا تقربوهن حتى يطهرن » ، قال: انقطاع الدم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، - أو عثمان بن الأسود - : « ولا تقربوهن حتى يطهرن » ، حتى ينقطع الدم عنهن.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله: « ولا تقربوهن حتى يطهرن » ، قال: حتى ينقطع الدم.

وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد « الهاء » وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء. وشددوا « الطاء » لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهَّرْنَ، أدغمت « التاء » في « الطاء » لتقارب مخرجيهما.

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: ( حَتَّى يَطَّهَّرْنَ ) بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن - لإجماع الجميع على أن حرامًا على الرجل أن يقرَب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر.

وإنما اختُلف في « التطهر » الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحل له جماعها.

فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها.

وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة.

وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها، فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانُها.

فإذا كان إجماعٌ من الجميع أنها لا تحلُّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطَّهر، كان بيِّنًا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للَّبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف « الهاء » وضمها، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن لزوج الحائض غشيانَها بعد انقطاع دم حيضها عنها، وقبل اغتسالها وتطهُّرها.

فتأويل الآية إذًا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهنّ، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « فإذا تطهَّرن فأتوهن » ، فإذا اغتسلن فتطهَّرن بالماء فجامعوهن.

فإن قال قائل: أففرض جماعهن حينئذ؟

قيل: لا.

فإن قال: فما معنى قوله إذًا: « فأتوهن » ؟

قيل: ذلك إباحة ما كان منَع قبل ذلك من جماعهن، وإطلاقٌ لما كان حَظَر في حال الحيض، وذلك كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ سورة المائدة: 2 ] ، وقوله : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [ سورة الجمعة: 10 ] ، وما أشبه ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : « فإذا تطهرن » .

فقال بعضهم: معنى ذلك، فإذا اغتسلن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاومة بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فإذا تطهَّرن » يقول: فإذا طهُرت من الدم وتطهَّرت بالماء.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإذا تطهرن » ، فإذا اغتسلن.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله: « فإذا تطهرن » ، يقول: اغتسلن.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو عثمان بن الأسود:- « فإذا تطهرن » ، إذا اغتسلن.

حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الحسن: في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجُها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيره، عن إبراهيم: أنه كره أن يطأها حتى تغتسل - يعني المرأة إذا طهُرت.

وقال آخرون: معنى ذلك : فإذا تطهَّرن للصلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا إذا طهُرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرَها بالوضوء قبل أن تغتسل - إذا أدركه الشَّبَق فليُصب.

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال : معنى قوله : « فإذا تطهَّرن » ، فإذا اغتسلن، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرًا الطُّهرَ الذي يحل لها به الصلاة. وإن القولَ لا يخلو في ذلك من أحد أمرين :

إما أن يكون معناه: فإذا تطهَّرن من النجاسة فأتوهن.

فإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائزٌ لزوجها جماعُها، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا، إن كان قوله: « فإذا تطهَّرن » جائزًا استعماله في التطهُّر من النجاسة، ولا أعلمه جائزًا إلا على استكراه الكلام.

أو يكون معناه: فإذا تطهَّرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، إذا لم يكن هنالك نجاسة، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته أدلُّ الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهرَ الذي يجزيهن به الصلاة.

وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا: من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله: « فإذا تطهرن » ، فإذا اغتسلن فصرن طواهرَ الطهرَ الذي يجزيهنّ به الصلاة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهَّرن من الوجه الذي نهيتُكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك : الفرجُ الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس في قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهُنَّ.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، يقول: في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدَى.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو : يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ قال: بلى! فقرأ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، منْ ثَمَّ أمِرت أن تأتي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن عثمان، عن مجاهد قال: دبُر المرأة مثله من الرجل، ثم قرأ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: أمِروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه.

حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، في الفرج، ولا تعْدوه.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، يقول: إذا تطهرن فأتوهن من حيث نُهي عنه في المحيض.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو: عثمان بن الأسود- : « فأتوهن من حيث أمركم الله » باعتزالهنّ منه.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، أي : من الوجه الذي يأتي منه المحيض، طاهرًا غيرَ حائض، ولا تعدوا ذلك إلى غيره.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: طواهرَ من غير جماع ومن غير حيض، من الوجه الذي يأتي [ منه ] المحيض، ولا يتعدَّه إلى غيره قال سعيد: ولا أعلمه إلا عن ابن عباس.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله » ، من حيث نُهِيتم عنه في المحيض وعن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله » ، من حيث نُهيتهم عنه، واتقوا الأدبار.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم في قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: في الفرج.

وقال آخرون: معناها: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتوهنّ من قُبْل طُهرهنّ لا من قُبْل حيضهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، يعني أن يأتيها طاهرًا غيرَ حائض.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: من قُبْل الطهر.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بمثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، يقول: ائتوهنّ من عند الطهر.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا علي بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبي رزين: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: من قُبْل الطهر، ولا تأتوهن من قُبْل الحيضة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حُيَّض.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال يقول: طواهر غيرَ حُيَّض.

حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « من حيث أمركم الله » ، من الطهر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: « فأتوهن » ، طُهَّرًا غير حيَّض.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: ائتوهن طاهرات غير حُيَّض.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: طهَّرًا غير حيَّض في القُبُل.

وقال آخرون: بلى معنى ذلك: فأتوا النساء من قِبل النكاح، لا من قِبل الفُجور.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل الأزرق، عن أبي عمر الأسدي، عن ابن الحنفية: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، قال: من قِبل الحلال، من قِبل التزويج.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قولُ من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى، فنهيٌ عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمرٌ بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، فأتوهن من قِبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ، تأويله: ولا تقربوهن في مخرج الدم، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن.

وفي إجماع الجميع : على أن الله تعالى ذكره لم يُطْلِق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئًا حرَّمه في حال الطُّهر، ولا حرِّم من ذلك في حال الطهر شيئًا أحله في حال الحيض ما يُعلم به فسادُ هذا القول.

وبعد، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة، لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله، ويكون ذلك أمرًا بإتيانهن في فروجهن. لأنّ الكلام المعروفَ إذا أريد ذلك، أن يقال: « أتى فلان زَوجته من قِبَل فرجها » - ولا يقال: أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قِبَل فرجها في مكان غير الفرج.

فإن قال لنا قائل: فإنَّ ذلك وإنْ كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه : فأتوهن من قِبَل قُبُلهن في فروجهن - ، كما يقال: « أتيتُ هذا الأمرَ من مَأتاه » .

قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله: « فأتوهن من حيث أمركم الله » ، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم، ومن حيث أمِرتم باعتزالهن - ولكن الواجبُ أن يكون تأويلُه على ذلك: فأتوهن من قبل وُجوههنّ في أقبالهن، كما كان قول القائل: « ائت الأمر من مأتاه » ، إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلبُ الأمر غيرُ الأمر المطلوب. فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج.

وإذا كان كذلك، وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرَّمًا إتيانهن في فروجهن من قِبل أدبارهن. وذلك إن قالوه، خرج من قاله من قِيل أهل الإسلام، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك أن الله يقول: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ، وأذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن.

فقد تبين إذًا إذْ كان الأمر على ما وصفنا، فسادُ تأويل من قال ذلك: فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهن وصحةُ القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهنّ من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهْرهن وتطهُّرهن، دون حال حيضهن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( 222 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « إن الله يحب التوابين » ، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته، إليه وإلى طاعته. وقد بينا معنى « التوبة » قبل.

واختلف في معنى قوله: « ويحب المتطهِّرين » .

فقال بعضهم: هم المتطهِّرون بالماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة، عن عطاء قوله: « إن الله يحب التوابين » ، قال: التوابين من الذنوب « ويحب المتطهرين » قال: المتطهرين بالماء للصلاة.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا طلحة، عن عطاء، مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: « إن الله يحب التوابين » من الذنوب، لم يصيبوها « ويحب المتطهرين » ، بالماء للصلوات.

وقال آخرون: معنى ذلك : « إن الله يحب التوابين » ، من الذنوب « ويحب المتطهرين » ، من أدبار النساء أن يأتوها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت سليمان مولى أم علي قال، سمعت مجاهدًا يقول: من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين.

وقال آخرون: معنى ذلك: « ويحب المتطهرين » ، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « يحب التوابين » ، من الذنوب، لم يصيبوها « ويحب المتطهرين » ، من الذنوب، لا يعودون فيها.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال: « إنّ الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة » . لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه.

وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمرَ المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم : من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحابُ رسولِ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أوحى الله تعالى إليه في ذلك، فبيَّن لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبًا مما يكرهه.

وكان مما بيَّن لهم من ذلك، أنه قد حرّم عليهم إتيان نسائهم وإن طهُرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ، فإن الله يحب المتطهرين يعني بذلك : المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء - من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث - من النساء.

وإنما قال: « ويحب المتطهرين » - ولم يقل « المتطهرات » - وإنما جرى قبل ذلك ذكرُ التطهر للنساء، لأن ذلك بذكر « المتطهرين » يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر « المتطهرات » ، لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميعَ عباده المكلفين، إذ كان قد تعبَّد جميعَهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني، واتفقت في بعض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم مُزدَرَعُ أولادكم، فأتوا مُزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم.

وإنما عني بـ « الحرث » المزدَرَع، و « الحرث » هو الزرع، ولكنهن لما كن من أسباب الحرث، جعلن « حرثًا » ، إذ كان مفهومًا معنى الكلام.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس: « فأتوا حرثكم » ، قال: منبت الولد.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « نساؤكم حرث لكم » ، أما « الحرث » ، فهي مَزْرَعة يحرث فيها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: فانكحوا مزدرَع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى.

و « الإتيان » في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « أنى شئتم » .

فقال بعضهم: معنى « أنَّى » ، كيف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فأتوا حرثكم أنّى شئتم » ، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: « نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، قال: ائتها أنى شئت، مقبلةً ومدبرةً، ما لم تأتها في الدُّبر والمحيض.

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، يعني بالحرث الفرجَ. يقول: تأتيه كيف شئت، مستقبلهُ ومستدبرهُ وعلى أيّ ذلك أردت، بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره، وهو قوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة: « فأتوا حرثكم أنّى شئتم » ، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، قال: يأتيها كيف شاء، واتَّق الدبر والحيض.

حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي قال، حدثني يزيد : أن ابن كعب كان يقول: إنما قوله: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، يقول: ائتها مضجعةً وقائمة ومنحرفةً ومقبلةً ومدبرةً كيف شئت، إذا كان في قُبُلها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن مرة الهمداني قال: سمعته يحدث أن رجلا من اليهود لقي رجلا من المسلمين فقال له: أيأتي أحدكم أهلهُ باركًا؟ قال: نعم. قال: فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فنـزلت هذه الآية: « نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم » ، يقول: كيف شاء، بعد أن يكون في الفرج.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، إن شئت قائمًا أو قاعدًا أو على جنب، إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيضُ، ولا يتعدَّى ذلك إلى غيره.

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فأتوا حرثكم أنّى شئتم » ، ائت حرثك كيف شئتَ من قُبُلها، ولا تأتيها في دبرها. « أنى شئتم » ، قال: كيف شئتم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال : أن عبد الله بن علي حدثه: أنه بلغه أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يومًا ورجل من اليهود قريبٌ منهم، فجعل بعضهم يقول: إنيّ لآتي امرأتي وهي مضطجعة. ويقول الآخر: إني لآتيها وهي قائمة. ويقول الآخر: إني لآتيها على جنبها وباركةً. فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم ! ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة ! فأنـزل الله تعالى ذكره: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ، فهو القُبُل.

وقال آخرون: معنى: « أنى شئتم » ، من حيث شئتم، وأي وجه أحببتم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكره أن تُؤتى المرأة في دبرها، ويقول: إنما الحرث من القُبُل الذي يكون منه النسل والحيض وينهى عن إتيان المرأة في دُبُرها ويقول: إنما نـزلت هذه الآية: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، يقول: من أيّ وجه شئتم.

حدثنا ابن حميد قال حدثنا ابن واضح قال، حدثنا العتكي، عن عكرمة: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، قال: ظهرها لبطنها غير مُعاجَزة - يعني الدبر.

حدثنا عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن يزيد، [ عن الحارث بن كعب ] ، عن محمد بن كعب، قال: إن ابن عباس كان يقول: اسق نباتك من حيث نباته.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « فأتوا حرثكم أنّى شئتم » ، يقول: من أين شئتم. ذكر لنا - والله أعلم - أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قِبَل إعجازهن، فإذا فعلوا ذلك، جاء الولد أحول، فأكذب الله أحدوثتهم فقال: « نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال يقول: ائتوا النساء في [ غير ] أدبارهن على كل نحو قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: تذاكرنا هذا عند ابن عباس، فقال ابن عباس: ائتوهن من حيث شئتم، مُقبلة ومدبرةً. فقال رجل: كأنَّ هذا حلالٌ! فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا، وأنكره، كأنه إنما يريد الفرج، مقبلةً ومدبرة في الفرج.

وقال آخرون معنى قوله: « أنى شئتم » ، متى شئتم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن حسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، يقول: مَتى شئتم.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي - وهو عمار الدُّهني - ، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس، أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو : يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ فقال: بلى! فقرأ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، من ثَمَّ أمرت أن تأتي. فقال له الرجل: يا أبا الفضل، كيف بالآية التي تتبعها : « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ؟ فقال: إي! ويحك! وفي الدُّبُر من حَرْث!! لو كان ما تقول حقًّا، لكان المحيض منسوخًا! إذا اشتغل من ههنا، جئتَ من ههنا! ولكن : أنى شئتم من الليل والنهار.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتم، وحيث شئتم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن عون، عن نافع قال، كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم. قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية: « نساؤكم حرثٌ لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، فقال: أتدري فيمن نـزلت هذه الآية؟ قلت: لا! قال: نـزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

4326 م - حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا ابن عون، عن نافع، قال: قرأتُ ذاتَ يوم: « نساؤكم حرْثٌ لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم » ، فقال ابن عمر : أتدري فيمَ نـزلتْ

؟ قلتُ : لا ! قال : نـزلتْ في إتيان النساء في أدْبارهنّ ) .

حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس، عن ابن عون، عن نافع قال: كنت أمسك على ابن عُمر المصحف، إذ تلا هذه الآية: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، فقال: أن يأتيها في دبرها.

حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال، حدثنا الدراوردي قال، قيل لزيد بن أسلم: إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد: أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله.

حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر قال : حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبد الله، إن الناس يروون عن سالم: « كذب العبد، أو: العلجُ، على أبي » ! فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له: فإنَّ الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار : أنه سأل ابن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نشتري الجواري فنُحمِّض لهن؟ فقال: وما التحميض؟ قال: الدُّبُر. فقال ابن عمر: أفْ ! أفْ ! يفعل ذلك مؤمن ! - أو قال : مسلم ! - فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب، عن ابن عمر، مثل ما قال نافع.

حدثني محمد بن إسحاق قال، أخبرنا عمرو بن طارق قال، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن موسى بن أيوب الغافقي قال : قلت لأبي ماجد الزيادي : إنّ نافعًا يحدث عن ابن عمر في دُبر المرأة. فقال: كذب نافع! صحبت ابن عمر ونافعٌ مملوكٌ، فسمعته يقول: ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا.

حدثني أبو قلابة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، قال: في الدبر.

حدثني أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر! قال روح: فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك فقال: قد أردته من جارية لي البارحةَ فاعتاص عليّ، فاستعنت بدهن أو بشحم. قال: فقلت له، سبحان الله!! أخبرنا قتادة أنّ أبا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر! فقال: لعنك الله ولعن قتادة! فقلت: لا أحدث عنك شيئًا أبدًا! ثم ندمت بعد ذلك.

قال أبو جعفر واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم، بما:-

حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك، فأنـزل الله: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .

حدثني يونس قال، أخبرني ابن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنكر الناس ذلك وقالوا: أثْفَرها! فأنـزل الله تعالى ذكره: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » الآية.

وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتم - إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن عيسى بن سنان، عن سعيد بن المسيب: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن زائدة بن عمير، عن ابن عباس قال: إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل.

قال أبو جعفر : وأما الذين قالوا: معنى قوله: « أنى شئتم » ، كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرْج والقُبُل، فإنهم قالوا: إن الآية إنما نـزلت في استنكار قوم من اليهود، استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبل أدبارهن. قالوا: وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا، من أن معنى ذلك على ما قلنا. واعتلوا لقيلهم ذلك بما:-

حدثني به أبو كريب قال، حدثنا المحاربي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأساله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذذون بهن مقبلاتٍ ومدبراتٍ. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نُؤْتَى عليه ! فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث. يقول: ائت الحرث من حيث شئت .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرًا يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول. فأنـزل الله تعالى ذكره: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دُبُرها، وكان بينهما ولد، كان أحول. فأنـزل الله تعالى ذكره: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة زوح النبي صلى الله عليه وسلم قالت: تزوج رجل امرأةً فأراد أن يجبِّيَها ، فأبت عليه، وقالت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قالت أم سلمة: فذكرتْ ذلك لي، فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أرسلي إليها. فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نساؤكم حرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، صِمامًا واحدًا، صِمامًا واحدًا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن ابن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة قالت: قدِم المهاجرون فتزوجوا في الأنصار، وكانوا يُجَبُّون، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك، فقالت امرأة لزوجها: حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك ! فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستحيت أن تسأله، فسألتُ أنا، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليها: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، « صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا » .

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله : « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، قال: صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا « . »

حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثني وهيب قال، حدثني عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لحفصة، إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحيي منك أن أسألك؟ قالت: سل يا بنيّ عما بدا لك! قلت: أسألك عن غِشيان النساء في أدبارهن؟ قالت: حدثتني أم سلمة قالت: كانت الأنصار لا تُجَبِّي، وكان المهاجرون يُجَبُّون، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن معاوية بن هشام.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول. فنـزلت « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » .

حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي قال، حدثنا الحسن بن موسى قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكتُ!! قال: وما الذي أهلكك؟ قال: حوَّلتُ رحلي الليلة! قال: فلم يردّ عليه شيئًا، قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، أقبِل وأدبِر، واتق الدُّبر والحيْضة « . »

حدثنا زكريا بن يحيى المصري قال، حدثنا أبو صالح الحراني قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عامر بن يحيى أخبره، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس: أن ناسًا من حميرَ أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول الله، إنّي رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنـزل الله تعالى ذكره في « سورة البقرة » بيان ما سألوا عنه، وأنـزل فيما سأل عنه الرجل: « نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتها مُقبلةً ومُدبرةً، إذا كان ذلك في الفرج « . »

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا قولُ من قال: معنى قوله « أنى شئتم » ، من أيّ وجه شئتم. وذلك أن « أنَّى » في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام - على المسألة عن الوجوه والمذاهب. فكأن القائل إذا قال لرجل: « أنى لك هذا المال » ؟ يريد: من أيّ الوجوه لك. ولذلك يجيب المجيبُ فيه بأن يقول: « من كذا وكذا » ، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم: أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [ سورة آل عمران: 37 ] . وهي مقاربة « أين » و « كيف » في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت « أنَّى » على سامعيها ومتأوِّليها، حتى تأوَّلها بعضهم بمعنى: « أين » ، وبعضهم بمعنى « كيف » ، وآخرون بمعنى : « متى » - وهي مخالفة جميع ذلك في معناها، وهن لها مخالفات.

وذلك أن « أين » إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال - وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال: « أين مالك » ؟ لقال: « بمكان كذا » ، ولو قال له: « أين أخوك » ؟ لكان الجواب أن يقول: « ببلدة كذا أو بموضع كذا » ، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله. فيعلم أن « أين » مسألة عن المحل.

ولو قال قائل لآخر: « كيف أنت » ؟ لقال: « صالح، أو بخير، أو في عافية » ، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن « كيف » مسألةٌ عن حال المسؤول عن حاله.

ولو قال له: « أنَّى يحيي الله هذا الميت؟ » ، لكان الجواب أن يقال: « من وجه كذا ووجه كذا » ، فيصف قولا نظيرَ ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [ سورة البقرة: 259 ] فعلا حين بعثه من بعد مماته.

وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد:

تَذَكَّـر مِـنْ أَنَّـى وَمِـنْ أَيْـنَ شُرْبَهُ يُؤَامِـرُ نَفْسَـيْهِ كَـذِي الهَجْمَـةِ الأبِلْ

وقال أيضًا:

أَنَّـى وَمِـنْ أَيْـنَ - آبَـكَ - الطَّرَبُ مِــنْ حَــيْثُ لا صَبْـوَةٌ وَلا رِيَـبُ

فيجاء بـ « أنى » للمسألة عن الوجه، و بـ « أين » للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟

والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم أو بمعنى: متى شئتم أو بمعنى: أين شئتم أن قائلا لو قال لآخر: « أنى تأتي أهلك؟ » ، لكان الجواب أن يقول: « من قُبُلها، أو: من دُبُرها » ، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذْ سئلت: أَنَّى لَكِ هَذَا أنها قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .

وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل.

وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله: « فأتوا حرثكم أنى شئتم » ، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، وإنما قال تعالى ذكره: « حرث لكم » ، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نـزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين: « إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك:

فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الخيرَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: « وقدموا لأنفسكم » ، فالخيرَ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدموا لأنفسكم ذكرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن عطاء - قال: أراه عن ابن عباس:- « وقدموا لأنفسكم » ، قال: يقول: « بسم الله » ، التسمية عند الجماع.

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الآية ما روينا عن السدي، وهو أن قوله: « وقدموا لأنفسكم » ، أمرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه بتقديم الخير والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم، عُدّةً منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب، فإنه قال تعالى ذكره: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [ سورة البقرة: 110 \ وسورة المزمل: 20 ] .

وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره عقَّب قوله: « وقدموا لأنفسكم » بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه. فكان الذي هو أولى بأن يكون قبلَ التهدُّد على المعصية - إذ كان التهدُّد على المعصية عامًّا - الأمرُ بالطاعة عامًّا.

فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بالطاعة بقوله: « وقدِّموا لأنفسكم » ، من قوله: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ؟

قيل: إن ذلك لم يقصد به ما توهمتَه: وإنما عنى به: وقدموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ، وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجيبوا عنه، مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات. ثم قال تعالى ذكره: قد بيّنا لكم ما فيه رَشَدكم وهدايتكم إلى ما يُرضي ربكم عنكم، فقدِّموا لأنفسكم الخيرَ الذي أمركم به، واتخذوا عنده به عهدًا، لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم واتقوه في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تُضِيعوها، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم، فَمُجازٍ المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 223 )

قال أبو جعفر : وهذا تحذيرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه: أن يأتوا شيئًا مما نهاهم عنه من معاصيه وتخويفٌ لهم عقابَه عند لقائه، كما قد بيَّنا قبل وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده، بالفوز يوم القيامة وبكرامة الآخرة وبالخلود في الجنة، من كان منهم محسنًا مؤمنًا بكتبه ورسله، وبلقائه، مصدِّقًا إيمانَه قولا بعمله ما أمره به ربُّه، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه، وبتجنُّبه ما أمره بتجنُّبه من معاصيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » .

فقال بعضهم: معناه: ولا تجعلوه عِلَّة لأيمانكم، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس قال: « عليّ يمين بالله ألا أفعل ذلك » - أو « قد حلفت بالله أن لا أفعله » ، فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: « ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يعتلّ بيمينه، يقول الله: « أن تبرُّوا وتتقوا » هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح، وإن حلفت كفَّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خيرٌ لك.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله إلا أنه قال: وإن حلفت فكفِّر عن يمينك، وافعل الذي هو خير.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » ، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول: « قد حلفت » . قال: يكفّر عن يمينه: « ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا » ، يقول: لا تعتلُّوا بالله، أن يقول أحدكم إنه تألَّى أن لا يصل رَحمًا، ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدَّق من ماله. مهلا مهلا بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيء من نذروكم ولا أيمانكم.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبر، فإذا قيل له، قال: « قد حلفتُ » .

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: « ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » ، قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير، الأمرَ الحسن، يقول: « حلفت » ! قال الله: افعل الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضةً.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » الآية: هو الرجل يحرّم ما أحل الله له على نفسه، فيقول: « قد حلفت! فلا يصلح إلا أن أبرَّ يميني » ، فأمرهم الله أن يكفّروا أيمانهم ويأتوا الحلال.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » ، أما « عُرضة » ، فيعرض بينك وبين الرجل الأمرُ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله. وأما « تبرُّوا » ، فالرجل يحلف لا يبرُّ ذا رحمه فيقول: « قد حلفت! » ، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبَرَّه، ولا يبالي بيمينه. وأما « تصلحوا » ، فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه، فيحلف أن لا يصلح بينهما، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه. وهذا قبل أن تنـزل الكفَّارات.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين، فلا يمنعه يمينُه.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير.

* ذكر من مال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » ، كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. يقول: فليفعل، وليكفِّر عن يمينه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن إبراهيم النخعي في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » ، قال: لا تحلف أن لا تتقي الله، ولا تحلف أن لا تبرَّ ولا تعمل خيرًا، ولا تحلف أن لا تصل، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطَع.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن سعيد بن جبير ومغيرة، عن إبراهيم في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة » الآية، قالا هو الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يتقي، ولا يصلح بين الناس. وأمِر أن يتقي الله، ويصلحَ بين الناس، ويكفّر عن يمينه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله، وليدع يمينه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » الآية، قال: ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه، ويصل رحمه، ويأمر بالمعروف، ويصلح بين الناس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » ، قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: حُدثت أن قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، الآية، نـزلت في أبي بكر، في شأن مِسْطَح.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » الآية، قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يصل رحمه.

حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. فلا يمنعه يمينه.

حدثني ابن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبى سلمة، عن سعيد، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » ، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرًا، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. نهاهم الله عن ذلك.

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية، تأويلُ من قال: معنى ذلك : « لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس » .

وذلك أن « العُرْضة » ، في كلام العرب، القوة والشدة. يقال منه: « هذا الأمر عُرْضة لك » يعني بذلك: قوة لك على أسبابك، ويقال: « فلانة عُرْضة للنكاح » ، أي قوة، ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق:

مِـنْ كُـلِّ نَضَّاحةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ, عُرْضَتُهَـا طَـامِسُ الأَعْـلامِ مَجْهُولُ

يعني بـ « عرضتها » : قوتها وشدتها.

فمعنى قوله تعالى ذكره: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » إذًا: لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس، فليحنث في يمينه، وليبرَّ، وليتق الله، وليصلح بين الناس، وليكفّر عن يمينه.

وترك ذكر « لا » من الكلام، لدلالة الكلام عليها، واكتفاءً بما ذُكر عما تُرِك، كما قال أمرؤ القيس:

فَقُلْــتُ يَمِيــنَ اللـهِ أَبْـرَحُ قَـاعِدًا وَلَـوْ قَطَّعُـوا رَأْسِـي لَدَيكَ وَأَوْصَالِي

بمعنى: فقلت: يمين الله لا أبرح، فحذف « لا » ، اكتفاء بدلالة الكلام عليها.

وأما قوله: « أن تبروا » ، فإنه اختلف في تأويل « البر » ، الذي عناه الله تعالى ذكره.

فقال بعضهم: هو فعل الخير كله. وقال آخرون: هو البر بذي رحمه، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى.

وأولى ذلك بالصواب قول من قال: « عني به فعل الخير كله » . وذلك أن أفعال الخير كلها من « البر » ، ولم يخصص الله في قوله: « أن تبرُّوا » معنى دون معنى من معاني « البر » ، فهو على عمومه، والبر بذوي القرابة أحد معاني « البر » .

وأما قوله: « وتتقوا » ، فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدَّوْها. وقد ذكرنا تأويل من تأوَّل ذلك أنه بمعنى « التقوى » قبل.

وقال آخرون في تأويله بما:-

حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: « أن تبروا وتتقوا » قال: كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال: « ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس » الآية. قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضًا بي، تحلفون بي وأنتم كاذبون، ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم، فذلك قوله: « أن تبروا وتتقوا » ، الآية.

وأما قوله: « وتصلحوا بين الناس » ، فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مَأثَم فيه، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه.

وأما الذي ذكرنا عن السدي: من أنّ هذه الآية نـزلت قبل نـزول كفارات الأيمان، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة. والخبر عما كان، لا تدرك صحته إلا بخبر صادق، وإلا كان دعوى لا يتعذر مِثلها وخلافها على أحد.

وغير محال أن تكون هذه الآية نـزلت بعد بيان كفارات الأيمان في « سوره المائدة » ، واكتفى بذكرها هناك عن إعادتها ههنا، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجبَ من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 224 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: « والله سميع » لما يقوله الحالفُ منكم بالله إذا حلف فقال: « والله لا أبر ولا أتقي ولا أصلح بين الناس » ، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم « عليم » بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، ألخير تريدون أم غيره؟ لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور، لا تخفى عليّ خافية، ولا ينكتم عني أمر عَلَن فطهر، أو خَفي فبَطَن.

وهذا من الله تعالى ذكره تهدُّد ووعيدٌ. يقول تعالى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه - أو تضمروا في أنفسكم وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات بفعل ما زجرتكم عنه، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفتكموها، فإنّي مطَّلع على جميع ما تعلنونه أو تُسرُّونه.

القول في تأويل قوله تعالى : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، وفي معنى « اللغو » .

فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين. وذلك كقول القائل: « فعلت هذا والله، أو: أفعله والله، أو: لا أفعله والله » ، على سبوق المتكلم بذلك لسانُه، بما وصل به كلامه من اليمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هي « بلى والله » ، و « لا والله » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله » ، و « بلى والله » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة نحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لغو اليمين، قالت: هو « لا والله » و « بلى والله » ، ما يتراجع به الناس.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله » و « بلى والله » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله » و « بلى والله » ، يصل بها كلامه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين، قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ؟ قالت: هو « لا والله » ، و « بلى والله » ، ليس مما عقَّدتم الأيمان.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: أتيت عائشة مع عبيد بن عمير، فسألها عبيد عن قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، فقالت عائشة: هو قول الرجل: « لا والله » و « بلى والله » ، ما لم يعقد عليه قلبه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثَبِير، فسألها عبيد عن لغو اليمين، قالت: « لا والله » و « بلى والله » .

حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال، حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو قول الرجل في بيته : « كلا والله » و « بلى والله » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: هم القوم يتدارءون في الأمر، فيقول هذا: « لا والله، وبلى والله، وكلا والله » ، يتدارءون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: قول الرجل: « لا والله، وبلى والله » ، يصل به كلامه، ليس فيه كفارة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن الشعبي قال: هو الرجل يقول: « لا والله، وبلى والله » ، يصلُ حديثه.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال، سألت عامرًا عن قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو « لا والله، وبلى والله » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي جميعًا، عن ابن عون، عن الشعبي مثله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب قال، قال أبو قلابة في : « لا والله، وبلى والله » ، أرجو أن يكون لغة وقال يعقوب في حديثه: أرجو أن يكون لغوًا وقال ابن وكيع في حديثه: أرجو أن يكون لغة، ولم يشك.

حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد قالوا، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: لا والله، وبلى والله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن مالك، عن عطاء، قال: سمعت عائشة تقول في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عطاء مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو قول الناس: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي وعكرمة قالا « لا والله وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فسألها، فقالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، وأشعث، عن عطاء، عن عائشة: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » قالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع وهناد قالا حدثنا يعلى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: قالت عائشة في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: هو قولك: « لا والله، وبلى والله » ، ليس لها عَقد الأيمان.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو قول الرجل: « لا والله، وبلى والله » ، يصل به كلامه، ما لم يشك شيئًا يعقِد عليه قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو، أن سعيد بن أبي هلال حدثه: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عائشة تقول: لغو اليمين قول الرجل: « لا والله، وبلى والله » ، فيما لم يعقد عليه قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عمرو وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي، عن عطاء، عن عائشة بذلك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما: « والله لا أبيعك بكذا وكذا » ، ويقول الآخر: « والله لا أشتريه بكذا وكذا » ، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به.

وقال آخرون: بل اللغو في اليمين، اليمينُ التي يحلفُ بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك، وأنه بخلاف الذي حلف عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني ابن نافع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين، حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، واللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًا، وليس بحق.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، هذا في الرجل يحلف على أمرِ إضرارٍ أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. ومن اللغو أيضًا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق، وقد أخطأ في يمينه، فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: خطأ غير عَمد.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية، « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو أن تحلف على الشيء، وأنت يُخيَّل إليك أنه كما حلفت، وليس كذلك. فلا يؤاخذه الله ولا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن قال: هو الرجل يحلف على اليمين، لا يرى إلا أنه كما حلف.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك، وليست كذلك.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الشي، وهو يرى أنه كذلك، فلا يكون كما قال، فلا كفارة عليه.

حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع قالوا، حدثنا وكيع، عن سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الشيء لا يرى إلا أنها كما حلف عليه، وليست كذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، حلِف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه، فلا يكون كما حلف، كقوله: « إن هذا البيت لفلان » ، وليس له و « إن هذا الثوب لفلان » ، وليس له.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. قال: فلا يؤاخذكم بذلك. قال: وكان يحبّ أن يُكفّر.

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو، لا يؤاخذ به.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم نحوه إلا أنه قال: إن حلفت على الشيء، وأنت ترى أنك صادق، وليس كذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك أنه قال: اللغو، الرجل يحلف على الأيمان، وهو يرى أنه كما حلف.

حدثني إسحاق بن [ إبراهيم بن ] حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن زياد قال: هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثنا بكير بن أبي السميط، عن قتادة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الخطأ غير العمد، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، ويونس، عن الحسن قال: اللغو، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، فليس عليه فيه كفارة.

حدثنا هناد وابن وكيع قال هناد: حدثنا وكيع، وقال ابن وكيع: حدثني أبي عن عمران بن حدير قال: سمعت زرارة بن أوفى قال: هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عمر بن بشير قال: سئل عامر عن هذه الآية: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اللغو أن يحلف الرجل لا يألو عن الحق، فيكون غير ذلك. فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، فاللغو اليمين الخطأ غير العمد، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه، ثم لا يكون كذلك. فهذا لا كفارة عليه ولا مأثم فيه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، أما اللغو: فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنها كذلك، فلا تكون كذلك. فليس عليه كفارة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اللغو اليمين الخطأ في غير عمد: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه. وهذا ما ليس عليه فيه كفارة.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق، فذلك اللغو.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك مثله إلا أنه قال: الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن ابن أبي طلحة - كذا قال ابن أبي جعفر - قالا من قال: « والله لقد فعلت كذا وكذا » وهو يظن أن قد فعله، ثم تبيَّن له أنه لم يفعله، فهذا لغو اليمين، وليس عليه فيه كفارة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الخطأ غيرُ العمد، كقول الرجل: « والله إن هذا لكذا وكذا » ، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك قال معمر: وقاله قتادة أيضًا.

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال: سئل سعيد عن اللغو في اليمين، قال سعيد، وقال مكحول: الخطأ غيرُ العمد، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم.

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، فلا يؤاخذ به، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب، فذاك، الذي يؤاخذ به.

وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب، على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلةً للكلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن خالد، عن عطاء، عن وَسيم ، [ عن طاوس ] ، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاوس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان، فلا كفَّارة عليه فيها، قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم »

وعلة من قال هذه المقالة، ما:-

حدثني به أحمد بن منصور المروزي قال، حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال، حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمين في غضب « . »

وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: الحلفُ على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: هو الذي يحلف على المعصية، فلا يفي ويكفِّر يمينه، قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » .

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير قال: لغو اليمين: أنْ يحلِف الرجل على المعصية لله، لا يؤاخذه الله بإلغائها.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن جبير بنحوه وزاد فيه، قال: وعليه كفارة.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون، عن داود، عن سعيد بنحوه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله أن يكفِّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها.

حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا إسحاق، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند قال، حدثنا خالد بن إلياس، عن أم أبيه: أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها - ابنة أبي الجهم - فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير فقالوا: لا يمين في معصية، ولا كفارة عليها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: فكيف يصنع؟ قال: يكفر عن يمينه ويترك المعصية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الحرام، فلا يؤاخذه الله بتركه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال في لغو اليمين قال: هي اليمين في المعصية، قال: أو لا تقرأ فتفهم؟ قال الله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [ سورة المائدة: 89 ] ، قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء ، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. قال: وقال: « لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » إلى قوله: « فإنّ الله غفور حليم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها، ويكفِّر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن مسروق، في الرجل يحلف على المعصية، فقال: أيكفِّر خُطوات الشيطان؟ ليس عليه كفارة.

حدثني ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، في الرجل يحلف على المعصية، قال: كفارتها أن يتوب منها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي أنه كان يقول: يترك المعصية ولا يكفر، ولو أمرتُه بالكفارة لأمرته أن يَتِمّ على قوله.

حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر، عن مسروق قال: كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها، فليس فيها كفارة.

وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية لله فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رَحِمٍ فلا يمينَ له « . »

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينِ قطيعةِ رحم أو معصية لله، فبِرُّه أن يحنَث بها ويرجع عن يمينه .

وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصَل الرجل بها كلامه، على غير قصدٍ منه إيجابَها على نفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: لغو اليمين، أن يصل الرجل كلامه بالحلف: « والله ليأكلن، والله ليشربن » ونحو هذا، لا يتعمد به اليمين، ولا يريد به حلفًا. ليس عليه كفارة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم: لغو اليمين، ما يصل به كلامه: « والله لتأكلن، والله لتشربن » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد: « لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم » ، قال: هما الرجلان يتساومان بالشيء، فيقول أحدهما: « والله لا أشتريه منك بكذا » ، ويقول الآخر: « والله لا أبيعك بكذا وكذا » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدثه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أيمان اللغو، ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب.

وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-

حدثنا به محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي قال، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون - يعني : يرمون - ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت! فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله ! قال: كلا أيمان الرُّماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة .

وقال آخرون: اللغو من الأيمان، ما كان من يمينٍ بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه: إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو كقول الرجل: « أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا - أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدًا » ، فهو هذا، ولا يترك الله له مالا ولا ولدًا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئًا.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن زيد بن أسلم بمثله.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، مثل قول الرجل: « هو كافر، وهو مشرك » . قال: لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اللغو في هذا: الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول: « هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا » ، فهذا اللغو الذي قال الله في « سورة البقرة » .

وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه، ويأتي الذي هو خير.

حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اليمين المكفرة.

وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرني مغيرة، عن إبراهيم قال: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه، يعني في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » .

قال أبو جعفر: و « اللغو » من الكلام في كلام العرب، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا، يقال منه: « لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا » إذا قال قبيحًا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [ سورة القصص: 55 ] ، وقوله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [ سورة الفرقان: 72 ] . ومسموع من العرب: « لَغَيْتُ باسم فلان » ، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح. فمن قال: « لَغَيْت » ، قال: « ألْغَى لَغًا » ، وهي لغة لبعض العرب، ومنه قول الراجز:

وَرَبِّ أَسْـــرَابِ حَجــيجٍ كُــظَّم عَـــنِ اللَّغَــا وَرَفَــثِ التَّكَــلُّمِ

فإذا كان « اللغو » ما وصفت، وكان الحالفُ بالله: « ما فعلت كذا » وقد فعل، « ولقد فعلتُ كذا » وما فعل - واصلا بذلك كلامه على سبيل سُبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام والقائلُ: « والله إنّ هذا لَفُلان » وهو يراه كما قال، أو: « والله ما هذا فلان! » وهو يراه ليس به والقائلُ: « ليفعلنّ كذا والله - أو: لا يفعل كذا والله » على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام وسبوق اللسان للعادة، على غير تعمد حلف على باطل والقائل: « هو مشرك، أو هو يهودي أو نصراني، إن لم يفعل كذا - أو إن فعل كذا » من غير عزم على كفر أو يهودية أو نصرانية جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق، وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثمَ قلوبهم كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيمانهم، لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الآجل، لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عبادَه، بما لغوا من أيمانهم، وأنّ الذي هو مؤاخذهم به، ما تعمدت فيه الإثمَ قلوبُهم.

وإذ كان ذلك كذلك وكان صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه » ، فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه، مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامةُ في المال - أو إلزام الجزاء من المجزيِّ أبْدالَ الجازين لا شك عقوبةً كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالا لخلقه فيما تعدَّوا من حدوده، وإن كان يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه كان بينًا أنّ من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنِث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه، فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجَّل من عقوبته إياه على ذلك، مُسْقطًا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغيرُ جائز لقائل أن يقول وقد وأخذه بها: هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله.

فإذ كان ذلك غيرَ جائز، فبيِّنٌ فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال: « اللغو الحلف على المعصية » ، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن على الحالف على معصية الله كفارة بحِنْثه في يمينه. وفي إيجاب سعيدٍ عليه الكفارة، دليلٌ واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ، لما وصفنا من أن من لزمه الكفارة في يمينه، فليس ممن لم يؤاخذ بها.

فإذا كان « اللغو » هو ما وصفنا مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به - وكلُّ يمين لزمت صاحبَها بحنثه فيها الكفارةُ في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبةَ عليها في الآجل، وإن كان وَضَع عنه كفارتها في العاجل - فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين. وما عدا ذلك فهو « اللغو » ، وقد بينا وجوهه فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون قوةً لأيمانكم، وحجة لأنفسكم في إقسامكم، في أن لا تبرُّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لَغَتْه ألسنتكم من أيمانكم فنطقت به من قبيح الأيمان وذميمها، على غير تعمُّدكم الإثم، وقصدِكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عَقْد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمان على ما حلفتم عليه بقصدٍ منكم وإرادة، فيلزمكم حينئذ إمّا كفارة في العاجل، وإمّا عقوبة في الآجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » عبادَه أنه مؤاخذهم به، بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله: « بما كسبت قلوبكم » ، ما تعمدت.

فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به: هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ بها. وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، قال: أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، أن تحلف وأنت كاذب.

حدثني المثنى قال، [ حدثنا عبد الله بن صالح ] حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [ سورة المائدة: 89 ] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم، أو يرد ذلك المال إلى أهله، وهو قوله تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا إلى قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ سورة آل عمران: 77 ] .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، ما عَقَدتْ عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال: لا تؤاخذ حتى تُصْعِد للأمر، ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فتعقد عليه يمينك.

قال أبو جعفر : والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوًا، فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجبُ فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل.

وإذ كان ذلك تأويلَ الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، واحفظوا أيمانكم.

وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفًا.

وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عبادَه المؤاخذةَ بهذه الآية، هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا. وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف، وليس ذلك كذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، يقول: بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة.

4473 م - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله سواء.

وكأنَّ قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل مؤاخذة الله عبدَه على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذةٌ منه له بها بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمينَ الفاجرةَ، منهم عطاءٌ والحكم.

حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء والحكم، أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبًا متعمدًا: يكفِّر.

وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارةَ منه، والآخر منهما مؤاخذٌ به في الآخرة إلا أن يعفو.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » أمَّا، « ما كسبت قلوبكم » فما عقدت قلوبكم، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادةَ أن يقضي أمرَه. والأيمان ثلاثة: « اللغو، والعمد، والغَموس » . والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل، ثم يرى خيرًا من ذلك، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، فهذه لها كفارة.

وكأنَّ قائل هذه المقالة، وجَّه تأويل قوله: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، إلى غير ما وجَّه إليه تأويل قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، وجعل قوله: « بما كسبت قلوبكم » ، الغموسَ من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، اليمينَ التي يستأنف فيها الحِنث أو البرَّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرَّ فيها.

وقال آخرون: بل ذلك: هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد - يعني ابن عجلان - : أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، مثل قول الرجل: « هو كافر، هو مشرك » ، قال: لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: اللغو في هذا، الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول: « هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا » ، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في « سورة البقرة » : « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، قال: بما كان في قلوبكم صدقًا، واخذك به. فإن لم يكن في قلبك صدقًا لم يؤاخذك به، وإن أثمتَ.

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده، وذلك يكون منها على وجهين:

أحدهما: على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثمًا، وبفعله مستحقًا المؤاخذةَ من الله عليها. وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله، قاصدًا قِيلَ الكذب، وذاكرًا أنه قد فعل ما حلف عليه أنه لم يفعله، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء واخذه به في الآخرة، وإن شاء عفا عنه بتفضله، ولا كفارة عليه فيها في العاجل، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث، فتلزم فيه الكفارة.

والوجه الآخر منهما: على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 225 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: « والله غفورٌ » لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء وَاخذهم بها ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها، وغير ذلك من ذنوبهم « حليمٌ » في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « للذين يؤلون » ، للذين يقسمون أليَّة، « والألية » الحلف، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: « للذين يؤلون » ، يحلفون.

يقال: « آلى فلان يُؤْلي إيلاء وأليَّة » ، كما قال الشاعر:

كَفَيْنَــا مَــنْ تَغَيَّـبَ فـي تُـرَابٍ وَأَحْنَثْنَــــا أَليَّـــةَ مُقْسِـــمِينَا

ويقال: « أَلْوة وأُلْوة » ، كما قال الراجز:

* يَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَتِي *

وقد حكي عنهم أيضًا أنهم يقولون: « إلوة » مكسورة الألف.

« والتربص » : النظر والتوقف.

ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر « أن يعتزلوا » ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.

واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته.

فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته: أن يحلف عليها في - حال غضب على وجه الضِّرار - أن لا يجامعها في فرجها، فأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير غضب، فليس هو موليًا منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن حريث بن عميرة، عن أم عطية قالت، قال جبير: أرضعي ابن أخي مع ابنك! فقالت: ما أستطيع أن أرضع اثنين! فحلف أن لا يقرَبها حتى تفطِمه. فلما فطمته مرّ به على المجلس، فقال له القوم: حسنًا ما غَذَوْتموه! قال جبير: إنيّ حلفت ألا أقربها حتى تفطمه! فقال له القوم: هذا إيلاءٌ!! فأتى عليًا فاستفتاه، فقال: إن كنتَ فعلت ذلك غضبًا فلا تصلح لك امرأتك، وإلا فهي امرأتك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، أنه سمع عطية بن جبير قال: توفيت أمُّ صبيٍّ نسيبةٌ لي، فكانت امرأة أبي تُرضعه، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه. فلما مضت أربعة أشهر قيل له: قد بانت منك! - وأحسب، شك أبو جعفر، قال - : فأتى عليًا يستفتيه فقال: إن كنت قلت ذلك غضبًا فلا امرأة لك، وإلا فهي امرأتك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني سماك قال، سمعت عطية بن جبير - يذكر نحوه عن علي.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال، حدثنا داود، عن سماك، عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية: أنه توفي أخوه وترك ابنًا له صغيرًا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه! فقالت: إنى أخشى أن تُغِيلهما، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا: لَحُسْنَ ما غذا أبو عطية ابن أخيه! قال: كلا! زعمت أم عطية أنيّ أغيلهما، فحلفتُ أن لا أقربها حتى تفطمهما. فقالوا له: قد حرُمت عليك امرأتك! فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه، فقال علي: إنما أردتَ الخيرَ، وإنما الإيلاء في الغضب.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك، عن أبي عطية: أن أخاه توفي - فذكر نحوه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب: أن رجلا هلك أخوه فقال لامرأته: أرضعي ابن أخي. فقالت: أخاف أن تقع عليّ! فحلف أن لا يمسَّها حتى تفطِم. فأمسك عنها، حتى إذا فطمته أخرج الغلامَ إلى قومه، فقالوا: لقد أحسنت غذاءه! فذكر لهم شأنه، فذكروا امرأته، قال: فذهب إلى علي - فاستحلفه بالله: « ما أردت بذلك؟ » ، يعني إيلاءً، قال: فردَّها عليه.

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن أشعث بن سوار، عن سماك، عن عطية بن أبي عطية قال، توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعًا، وكنت رجلا معسرًا، لم يكن بيدي ما أسترضع له. قال: فقالت لي امرأتي، وكان لي منها ابن ترضعه - إن كفيتني نفسَك كفيتكهما! فقلت: وكيف أكفيك نفسي؟ قالت: لا تقربني. فقلت: والله لا أقربك حتى تفطميهما. قال: ففطمتهما وخرجا على القوم، فقالوا: ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما! قال: فقصصت عليهم القصة، فقالوا: ما نراك إلا آليت منها وبانت منك! قال: فأتيت عليًا فقصصت عليه القصة، فقال: إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن وكيع، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن عليّ قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، أن عليا قال: إذا قال الرجل لامرأته وهي تُرضع: « والله لا قرَبتُك حتى تفطمي ولدي » ، يريد به صلاحَ ولده، قال: ليس عليه إيلاء.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ فقال: إني قلت لامرأتي لا أقرَبُها سنتين. قال: قد آليت منها. قال: إنما قلت لأنها ترضع! قال: فلا إذًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن علي أنه كان يقول: إنما الإيلاء ما كان في غضب، يقول الرجل: « والله لا أقربك، والله لا أمسُّك! » . فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره، فإنه لا يكون إيلاء، ولا تَبِين منه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حفص، عن الحسن: أنه سئل عنها فقال: لا والله، ما هو بإيلاء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا بشر بن منصور، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إذا حلف من أجل الرَّضاع فليس بإيلاء.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: سألت ابن شهاب عن الرجل يقول: والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي! قال: لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله، فيما يريد المرء أن يضارَّ به امرأتَه من اعتزالها، ولا نعلم فريضةَ الإيلاء إلا على أولئك، فلا ترى أنّ هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده، أقسم إلا على أمر يتحرَّى به فيه الخير، فلا نرى وَجبَ على هذا ما وجب على المولي الذي يُولِي في الغضب.

وقال آخرون : سواءٌ إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها، كان حلفه في غضب أو غير غضب، كلّ ذلك إيلاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم - في رجل قال لامرأته: « إن غَشِيتُك حتى تفطمي ولدَك فأنت طالق » ، فتركها أربعة أشهر. قال: هو إيلاء.

حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي قال: كل شيء يحول بينه وبين غشيانها، فتركها حتى تمضي أربعة أشهر، فهو داخلٌ عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيًا، فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها، فقال: ما أرى هذا بغضب، وإنما الإيلاء في الغضب قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الذي يحدِّثون؟! إنما قال الله: « للذين يؤلون من نسائهم » إلى فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، إذا مضت أربعة أشهر، فليخطبها إن رغب فيها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم - في رجل حلفَ أن لا يكلم امرأته - قال: كانوا يرون الإيلاء في الجماع.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، قال: كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعه أشهر، فهي إيلاء.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل وأشعث، عن الشعبي مثله.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء.

وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مَسَاءة امرأته، فهي إيلاء منه منها، على الجماع حلف أو غيره، في رضًا حلف أو سخط.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن خصيف، عن الشعبي قال: كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، إذا قال: « والله لأغضبنَّك، والله لأسوأنَّك، والله لأضربنَّك » ، وأشباه هذا.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن أبي ذئب العامريّ: أن رجلا من أهله قال لامرأته: « إن كلمتك سنة فأنت طالق » ، واستفتى القاسم وسالمًا فقالا إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمها فهي طالقٌ إذا مضت أربعة أشهر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، سمعت حمادًا قال، قلت لإبراهيم: الإيلاء: أن يحلفَ أن لا يجامعها ولا يكلمها ولا يجمع رأسه برأسها، أو ليغضبنَّها، أو ليحرِمنَّها، أو ليسوأنَّها؟ قال: نعم.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم عن رجل قال لامرأته: « والله لأغيظنك » ! فتركها أربعة أشهر، قال: هو إيلاء.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، سمعت شعبة قال: سألت، الحكم فذكر مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنا يونس قال، قال ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب: أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يومًا أو شهرًا، قال: فإنا نرى ذلك يكون إيلاءً. وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها، فكان يمسُّها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفَيْءُ، أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها. فمن فعل ذلك، قبل أن تمضي الأربعة أشهر، فقد فاء. ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عِدَّتها، فقد فاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطليقة.

قال أبو جعفر : وعلة من قال: « إنما الإيلاء في الغضب والضَرار » : أنّ الله تعالى ذكره إنما جعل الأجلَ الذي أجَّل في الإيلاء مخرجًا للمرأة من عَضْل الرجل وضراره إياها، فيما لها عليه من حُسن الصحبة والعِشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلا ولا مُضارًا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبًا بذلك رضاها، وقاضيًا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك مُوليًا، لأنه لا معنى هنالك لَحِق المرأةَ به من قِبَل بعلها مساءةٌ وسوء عشرة، فيجعل الأجل - الذي جُعل للمولي - لها مخرجًا منه.

وأما علة من قال: « الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء » ، عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله: « للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر » بعضًا دون بعض، بل عمّ به كلَّ مُولٍ ومُقسِم. فكل مقسِم على امرأته أن لا يغشاها مدةً هي أكثر من الأجل الذي جَعل الله له تربُّصه، فمُولٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مُولٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جُعل له تربُّصه.

وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم: أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدَّه للمُولي مخرجًا للمرأة مِن سوء عشرتها بعلها إياها وضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقرَبها، بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضِّرار، من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءَها أو يغيظها. لأن كل ذلك ضررٌ عليها وسوء عشرة لها.

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب، قولُ من قال: كل يمين منَعت المقسم الجماعَ أكثر من المدة التي جعل الله للمولي تربُّصَها، قائلا في غضب كان ذلك أو رضًا. وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.

وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا ( كتاب اللطيف ) بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: فإن رجعوا إلى ترك ما حلَفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن، فجامعوهن وحنِثوا في أيمانهم « فإن الله غفورٌ » ، لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهُن، ولما سلف منهم إليهن، من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه « رحيم » بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين.

وأصل « الفيء » ، الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا إلى قوله حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ سورة الحجرات: 9 ] ، يعني: حتى ترجع إلى أمر الله. ومنه قول الشاعر:

فَفـاءَتْ وَلَـمْ تَقْـضِ الَّـذِي أَقْبَلَتْ لَهُ وَمِـنْ حَاجَـةِ الإنْسَـانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا

يقال منه: « فاء فلان يفيء فَيْئة » - مثل « الجيئة » و « فَيْأ » . و « الفَيْئة » المرة. فأما في الظلّ فإنه يقال: « فاء الظلّ يفيء فُيُوءًا وفَيْأ » ، وقد يقال: « فيوءًا » أيضًا في المعنى الأول، لأن « الفيء » في كل الأشياء بمعنى الرجوع.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيًا.

فقال بعضهم: لا يكون فائيًا إلا بالجماع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق قال: الفيءُ الجماع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق مثله.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع.

حدثنا تميم بن المنتصر قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر بمثله.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: الفيء الجماع.

حدثنا أبو عبد الله النشائي قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: الفيءُ الجماع، لا عذرَ له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيدٌ القائل.

حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن جبير أنه قال: لا عذرَ له حتى يغشى.

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حماد وإياس، عن الشعبي قال أحدهما: عن مسروق قال: الفيء الجماع وقال الآخر: عن الشعبي: الفيء الجماع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته، ثم شغله مرض - قال: لا عذر له حتى يغشى.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها، فيعرض له عارضٌ يحبسه، أو لا يجد ما يَسُوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر، أنها أحق بنفسها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته، ثم أراد أن يفيء، فلا فيء إلا الجماع.

وقال آخرون: « الفيء » : المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذرٌ فأشهد، فذاك له يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرضٌ أو طريق، فأشهد على مراجعة امرأته.

حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم قال: تذاكرنا أنا والنخعي ذاك، فقال النخعي: إذا كان له عذر فأشهد، فقد فاء. وقلت أنا: لا عذر له حتى يغشى. فانطلقنا إلى أبي وائل، فقال: إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد، جاز.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إنْ آلى، ثم مرض أو سُجن أو سافر فراجع، فإنّ له عذرًا أن لا يجامع قال: وسمعت الزهري يقول مثل ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النفساء يُولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارِب، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا: إذا لم يستطع كفَّر عن يمينه، وأشهد على الفيء.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: نـزل به ضيفٌ فآلى من امرأته فنفست، فأراد أن يفيء، فلم يستطع أن يقرَبها من أجل نفاسها، فأتى علقمة فذكر ذلك له، فقال: أليس قد فئتَ بقلبك ورَضيت؟ قال: بلى! قال: فقد فئت! هي امرأتك!

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم: أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال: أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال: بلى! قال: فهي امرأتك.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، أخبرنا عامر، عن الحسن قال: إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر، قال: يُشهد أنه قد فاء، وهي امرأته.

حدثنا عمران قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا عامر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بمثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنى أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: وحدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة قال: إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع، فله أن يُشهد على رَجْعتها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته، فشغله أمر، فأشهد على مراجعة امرأته، قالا إذا كان له عذرٌ فذاك له.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء، فحدَّث أن رجلا من بني سعد بن همّام آلى من امرأته فنُفِست، فلم يستطع أن يقرَبها، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال: إذا أشهد فهي امرأته.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: إن كان له عذرٌ فأشهد، فذلك له - يعني المُولي من امرأته.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء، عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنُفِست - قالوا: إذا أشهد فهي امرأته.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء، فليشهد على فَيْئه. وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته، فليشهد على فيئه. فإن أشهدَ وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها، فهي امرأته. وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر، فقد بانتْ منه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب: أنه إذا آلى الرجل من امرأته، قال: فإن كان به مرضٌ ولا يستطيع أن يمسَّها، أو كان مسافرًا فحبس، قال: فإذا فاء وكفَّر عن يمينه، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر، فلا نراه إلا قد صلح له أن يُمسك امرأته، ولم يذهب من طلاقها شيء. قال، وقال ابن شهاب - في رجل يُولي من امرأته، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال: نرى، والله أعلم، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته، بعد أن يشهد على ذلك، ويكفِّر عن يمينه، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقًا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفيء الجماع. فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبًا أو كان محرمًا أو شيء له فيه عذر، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا، فإنّ ذلك له فيءٌ إن شاء الله.

وقال آخرون: « الفيء » المراجعة باللسان بكلّ حال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيم قال: الفيء أن يفيء بلسانه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن قال: الفيء الإشهاد.

حدثنا المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن فاء في نفسه أجزأه، يقول: قد فاء.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن رجاء قال: ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال: أرأيت إن لم ينتشر ذكره؟ إذا أشهدَ فهي امرأته.

قال أبو جعفر: وإنما اختلف المختلفون في تأويل « الفيء » على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون « إيلاءً » .

فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون موليًا من امرأته الإيلاءَ الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيءَ الرجوعَ إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماعُ في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداثَ النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه، وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون، في قول من قال ذلك.

وأما قولُ من رأى أنّ الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائقَ له عذرًا، ولم يجعل له مخرجًا من يمينه غيرَ الرجوع إلى ما حلف على تركه، وهو الجماع.

وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليًا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءَها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوعُ إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه، وإبداء ذلك بلسانه في كل حال عزم فيها على الفيء.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا، قولُ من قال: « الفيء هو الجماع » ، لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء، فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا. لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه، كان الفيء إلى ذلك، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه، وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي هو جماعٌ - بعذر، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة . لأن المرء إنما يكون تاركًا ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائنٍ تاركَهُ.

وإذ كان ذلك كذلك، فإحداث العزم في نفسه على جماعها، مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء، كان أعجبَ إليّ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 226 )

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: « فإن الله غفورٌ » لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ « رحيم » بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن، ثم حنِثتم فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: « فإن فاءوا فإن الله غفور رحيمٌ » ، قال: لا كفارة عليه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا فاء فلا كفَّارة عليه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في قول الله: « فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم » : أن كفارته فيؤه.

قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجبُ على قول من زعم أنّ كل حانث في يمين هو في المُقام عليها حَرِجٌ، فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وأن كفارته الحنث فيها.

وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها [ كفارة ] ، برًّا كان الحنِث فيها أو غير بِرّ، فإن تأويله: « فإن الله غفور » للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة « رحيم » بهم، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة، فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ - قال: وتلك رحمة الله! مَلَّكه أمرَها الأربعة الأشهر إلا من معذرة. لأن الله قال: وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [ سورة النساء: 34 ] .

* ذكر بعض من قال: إذا فاء المولي فعليه الكفارة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربَّص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال: حدثني يونس قال، حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب بنحوه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم قال: إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر، كفَّر عن يمينه.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النُّفَساء يولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارب، سئل عنها أصحاب عبد الله، فقالوا: إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إن فاء فيها كفَّر يمينه، وهي امرأته.

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: يوقَف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته، وعليه يمين: يكفِّرها إذا حنِث.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك، لما قد بينا من العلل في كتابنا ( كتاب الأيمان ) ، من أن الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف، على معصية كانت اليمين أو على طاعة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 227 )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره : « وإن عزموا الطلاق » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهنّ من العِشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربُّصهم عنهن وعن جماعهن، وعشرتهن في ذلك بالواجب « فإن الله لهم غفور رحيم » . وإن تركوا الفيء إليهن، في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهنّ حتى ينقضين، طُلِّق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهن بمضيهن. ومضيُّهن عند قائلي ذلك: هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي إلى منها.

ثم اختلف متأوِّلو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة.

فقال بعضهم: هو تطليقة بائنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن خِلاس أو الحسن، عن علي قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة: أن عليًا وابن مسعود كانا يجعلانها تطليقة، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها قال قتادة: وقولُ عليّ وعبد الله أعجبُ إليّ في الإيلاء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنّ عليًا قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة.

حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة: أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي واحدة بائنة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا عطاء الخراساني قال: سمعني أبو سلمة بن عبد الرحمن أسأل ابن المسيب عن الإيلاء، فمررت به فقال: ما قال لك ابن المسيب؟ فحدثته بقوله، فقال: أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولان؟ قلت: بلى! قال: كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة، وهي أحق بنفسها.

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء الخراساني قال، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عثمان بن عفان قال: إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلى، فتطليقة بائنة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن معمر أو حُدثت عنه عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد: أنهما كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، فمكثت ستة أشهر، فأتى ابن مسعود فسأله، فقال: أعلمها أنها قد مُلِّكت أمرَها. فأتاها فأخبرها، وأصْدقها رطلا من وَرِقٍ.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: أنه كان يقول في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي تطليقة بائنة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثل ذلك.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، قال: فخرج فغاب عنها ستة أشهر، ثم جاء فدخل عليها، فقيل: إنها قد بانت منك! فأتى عبد الله، فذكر ذلك له، فقال له عبد الله: قد بانت منك، فَأتها فأعلمها واخطبها إلى نفسها. فأتاها فأعلمها أنها قد بانت منه، وخطبها إلى نفسها، وأصدقها رِطلا من وَرِق.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، عن عطاء قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال، في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من بني هلال يقال له فلان ابن أنيس أو: عبد الله بن أنيس أراد من أهله ما يريد الرجلُ من أهله، فأبت، فحلف أن لا يقرَبها. فطرأ على الناس بعثٌ من الغد، فخرج فغاب ستة أشهر ثم قدم، فأتى أهله ما يرى أن عليه بأسًا! فخرج إلى القوم فحدثهم بسَخَطه على أهله حيث خرج، وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم: فإنها قد حرُمت عليك! فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك، فقال ابن مسعود: أما علمت أنها حرُمت عليك؟ قال لا! قال: فانطلق فاستأذن عليها، فإنها ستنكر ذلك، ثم أخبرها أنّ يمينك التي كنت حلفتَ عليها صارت طلاقًا، وأخبرها أنها واحدة، وأنها أملك بنفسها، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك على ثنتين، وإلا فهي أملكُ بنفسها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال، في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدّ ثلاثة قروء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان،

عن منصور والأعمش ومغيرة، عن إبراهيم: أن عبد الله بن أنيس آلى من امرأته، فمضت أربعةُ أشهر، ثم جامعها وهو ناسٍ، فأتى علقمة، فذهب به إلى عبد الله، فقال عبد الله: بانت منك فاخطبها إلى نفسها، فأصدقها رطلا من فضة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب عن أبي قلابة: أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فضرب ابنُ مسعود فخذَه وقال: إذا مضت أربعة أشهر فاعترفْ بتطليقة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر: أن ابن مسعود قال في المُولي: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فقد بانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: عَزْم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن جعفر بن برقان، عن عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن عكرمة أنه قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة فذكر ذلك عن ابن عباس.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير: أن أمير مكة سأله عن المُولي، فقال: كان ابن عمر يقول: إذا مضت أربعة أشهر مُلِّكت أمرها وكان ابن عباس يقول ذلك.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، مثله.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبى وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبان بن صالح، عن ابن شهاب: أن قبيصة بن ذؤيب قال في الإيلاء: هي تطليقة بائنة وتأتنف العدة وهي أملكُ بأمرها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن شريح: أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيء ؟ فقال شريح: « وإذ عزموا الطلاقَ فإن الله سميع عليم » - لم يزده عليها. فأتى مسروقًا فذكر ذلك له، فقال: يرحم الله أبا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرِّج أحد عنه! وإنما أتاه ليفرِّج عنه! ثم قال: هي تطليقة بائنة، وأنت خاطبٌ من الخطَّاب.

حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة أنه سمع الشعبي، يحدث: أنه شهد شُرَيحًا - وسأله رجل عن الإيلاء - فقال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الآية قال: فقمت من عنده، فأتيتُ مسروقًا، فقلت: يا أبا عائشة وأخبرته بقول شريح، فقال: يرحم الله أبا أمية، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا، منْ كان يفرج عنا مثل هذا! ثم قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم قال، قرأت في كتاب أبي قلابة عند أيوب: سألت سالم بن عبد الله وأبا سلمة بن عبد الرحمن فقالا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال، إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة، ويخطبها في العِدَّة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه- في الرجل يقول لامرأته: « والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدًا! » ، ويحلف أن لا يقربها أبدًا فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ، كانت تطليقة بائنة، وهو خاطب- قول علي وابن مسعود وابن عباس والحسن.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنه سئل عن رجل قال لامرأته: « إن قرَبتُك فأنت طالق ثلاثًا » ، قال، فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وسقط ذلك.

حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل وحدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع جميعًا، عن يزيد بن إبراهيم، قال، سمعت الحسن ومحمدًا في الإيلاء، قالا إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت بتطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال، كنا نتحدث في الأليَّة أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: إن مضت يعني: أربعة أشهر بانت منه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النخعي قال: إن قرَبها قبل الأربعة الأشهر فقد بانت منه بثلاث، وإن تركها حتى تمضي الأربعة الأشهر بانت منه بالإيلاء في رجل قال لامرأته: « أنت طالق ثلاثًا إن قربتك سنة » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: أعتم عبيد الله بن زياد عند هندٍ في ليلة أم عثمان ابنة عمر بن عبيد الله، فلما أتاها أمرت جواريها، فأغلقنَ الأبواب دونه، فحلف أن لا يأتيها حتى تأتيه، فقيل له: إن مضت أربعة أشهر ذهبتْ منك.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف قال: بلغني أن الرجل إذا آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ويخطبها إن شاء.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ - في الذي يُقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرُمت عليه، فتعتدُّ عدّة المطلقة وهو أحد الخطاب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب قال، إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وهذا في الرجل يولي من امرأته ويقول: « والله لا يجتمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك! » ، فكان أهل الجاهلية يعدُّونه طلاقًا، فحدّ الله لهما أربعة أشهر، فإن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته، وإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ فهي تطليقة بائنة، وهي أحق بنفسها، وهو أحد الخطاب.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، قال: كان ابن مسعود وعمر بن الخطاب يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة، وهي أحقُّ بنفسها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو وهب، عن جويبر، عن الضحاك: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ الآية، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ولم يطلِّق، بانت منه بالإيلاء. فإن رجعت إليه فمهرٌ جديد، ونكاح ببيِّنة، ورضًا من الوليّ.

وقال آخرون: بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر: تطليقةٌ، يملك فيها الزوجُ الرحعةَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر، فواحدة وهو أملك برجعتها.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة يملك الرَّجعة.

حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول قال، إذا مضت أربعة اشهر فهي تطليقة، يملك الرجعة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال، هي واحدة وهو أحق بها يعني إذا مضت الأربعة الأشهر وكان الزهري يفتي بقول أبي بكر هذا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني يونس قال، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة وهو أملك بها ما كانت في عِدَّتها.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا أبو يونس القوي قال، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق! قال، لعلك ممن يقول: « إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت! » ، لا! ولو مضت أربع سنين.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج بن رِشْدين قال: حدثنا عبد الحبار بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وتستقبل عِدَّتها، وزوجها أحق برجعتها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، كان ابن شبرمة يقول: إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة ويخاصِم بالقرآن، ويتأوَّل هذه الآية: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [ سورة البقرة: 228 ] ، ثم نـزع: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمر: ونحن في ذلك يعني في الإيلاء على قول أصحابنا الزهريّ ومكحول أنها تطليقة - يعني مضيّ الأربعة الأشهر - وهو أملك بها في عدتها.

وقال آخرون: معنى قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ إلى قوله: « فإنّ الله سميع عليم » لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ على الاعتزال من نسائهم، تنظُّرُ أربعة أشهر بأمره وأمرها فَإِنْ فَاءُوا بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف، وترك هجرانهن، وأتوْا إلى غشيانهن وجماعهن فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فأحدثوا لهن طلاقًا بعد الأشهر الأربعة « فإن الله سميع » لطلاقهم إياهن « عليم » بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة.

وقال متأوِّلو هذا التأويل: مضي الأشهر الأربعة يوجب للمراة المطالبةَ على زوجها المُولي منها، بالفيء أو الطلاق، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك، فإن فاء أو طلَّق، وإلا طلَّق عليه السلطان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال في الإيلاء: لا شيء عليه حتى يُوقَف، فيطلق أو يمسك.

حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبَّويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال، سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن عمر بن الخطاب: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لم يجعله شيئًا.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: أنه كان يقف المولي بعد الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: قال في الإيلاء: يُوقَف.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يَقِفُه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يوقفه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن على قال: يُوَقف المُولي عند انقضاء الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق قال أبو كريب، قال ابن إدريس: وهو قول أهل المدينة.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان، عن علي مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن علي قال، المُولي إمَّا أن يفيء، وإما أن يطلّق.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، أن عثمان كان يقف المولي بقول أهل المدينة.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، لقيت طاوسًا فسألته، فقال: كان عثمان يأخذ بقول أهل المدينة.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء أنه قال: ليس له أجل وهي معصية، يوقف في الإيلاء، فإما أن يمسك، وإما أن يطلق.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء: قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فانه يوقف، إما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أبا الدرداء كان يقول: هي معصية، ولا تحرم عليه امرأته بعد الأربعة الأشهر، ويجعل عليها العدّة بعد الأربعة الأشهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبا الدرداء وسعيد بن المسيب قالا يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يزال مقيما على معصية حتى يفيء أو يطلق.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب، نحوه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، قال، حدثنا الحسن، عن ابن أبى مليكة قال، قالت عائشة: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. قال: قلت: أنتَ سمعتها؟ قال: لا تُبَكِّتْني.

حدثنا إبراهيم بن مسلم بن عبد الله قال، حدثنا عمران بن ميسرة قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة، مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكه، عن عائشة، مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إذا آلى الرجل أن لا يمسَّ امرأته، فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها لا يوجب عليه الذي صَنع طلاقًا ولا غيره.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبي الزناد، عن أبي الزناد قال، أخبرني القاسم بن محمد: أنّ خالد ابن العاص المخزومي كانت عنده ابنة أبي سعيد بن هشام، وكان يحلف فيها مرارًا كثيرة أن لا يقربها الزمانَ الطويلَ قال، فسمعت عائشة تقول له: ألا تتقي الله يا ابن العاص في ابنة أبي سعيد؟ أما تخْرج؛ أما تقرأ هذه الآية التي في « سورة البقرة » ؟ قال: فكأنها تؤثِّمه، ولا ترى أنه فارق أهله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المولي: لا يحلّ له إلا ما أحل الله له: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عيد الله بن نمير قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال، لا يجوز للمُولي أن لا يفعل ما أمره الله، يقول: يبيِّن رجعتها، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر - يبين رجعتها، أو يطلق قال أبو كريب. قال ابن إدريس وزاد فيه. وراجعته فيه، فقال قولا معناه: إن له الرجعة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جبير أن عمر قال نحوا من قول ابن عمر.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم قال، أخبرنا نافع أن ابن عمر قال في الإيلاء: يوقف عند الأربعة الأشهر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل أن لا يمس امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها ولا يوجب عليه الذي صنعَ طلاقًا ولا غيره.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال: الأمراء يقضون بذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال، يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة. فإما أن يطلِّق، وإما أن يفيء.

حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال، سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب - في الرجل يولي من امرأته- قال: كان لا يرى أن تدخل عليه فرقه حتى يطلق.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن المسيب: في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر: إنما جعله الله وقتًا لا يحل له أن يجاوزَ حتى يفيء أو يطلِّق، فإن جاوز فقد عصى الله لا تحرُمُ عليه امرأته.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلِّق.

حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن ابن المسيب: في الإيلاء: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن معمر أو حدثته عنه عن عطاء الخراساني قال، سألت ابن المسيب عن الإيلاء، فقال: يُوقف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن ابن المسيب وعن ابن طاوس، عن أبيه، قالا يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني مالك بن أنس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مثل ذلك يعني مثل قول عمر بن الخطاب في الإيلاء: لا شيء عليه، حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال في الإيلاء: يوقف.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فيوقف حتى يراجع أهله، أو يطلِّق.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: أن مروان وَقفه بعد ستة أشهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عمر بن عبد العزيز في الإيلاء قال، يوقف عند الأربعة الأشهر حتى يفيء، أو يطلق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفيء فيراجع، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه.

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا الآية، قال: كان علي وابن عباس يقولان: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقف فيقال له: أمسكتَ أو طلَّقت، فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قال: هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا، فجعل الله له أربعة أشهر يتربص بها. وقال: قول الله تعالى ذكره: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، يتربص بها فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فإذا رفعته إلى الإمام ضرب له أجلَ أربعةِ أشهر، فإن فاء وإلا طَلَّق عليه، فإن لم ترفعه فإنما هو حقٌّ لها تركته.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك قال، لا يقع على المولي طلاق حتى يوقف، ولا يكون موليًا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه، لأنه يوقف عند الأربعة الأشهر، وقد سقطت عنه اليمين، فذهب الإيلاء .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد قال، قال ابن عمر: حتى يرفع إلى السلطان، وكان أبي يقول ذلك ويقول: لا والله وإن مضت أربعُ سنين حتى يوقَف.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فطر قال، قال محمد بن كعب القرظي وأنا معه: لو أن رجلا آلى من امرأته أربعَ سنين لم نُبِنْها منه حتى نجمع بينهما، فإن فاء فاء، وإن عزم الطلاق عزم.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد العزيز الماجشون، عن داود بن الحصين قال، سمعت القاسم بن محمد يقول: يوقف إذا مضت الأربعة.

وقال آخرون: ليس الإيلاء بشيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن علية، عن عمرو بن دينار قال، سألت ابن المسيَّب عن الإيلاء فقال: ليس بشيء.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثني جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال، سألت ابن عمر عن رجل آلى من امرأته، فمضتْ أربعة أشهر فلم يفئ إليها، فتلا هذه الآية: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الآية.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي، فقال: لا علم لي به.

وقال آخرون من أهل هذه المقالة: بل معنى قوله: « وإن عزموا الطلاق » : وإن امتنعوا من الفيئة، بعد استيقاف الإمام إيّاهم على الفيء أو الطلاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن فاء جعلها امرأته، وإن لم يفئ جعلها تطليقة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن لم يفئ فهي تطليقة بائنة.

قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره، قولُ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن قال بقولهم في الطلاق أن قوله: « فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إنما معناه: فإن فاءوا بعد وَقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللائي آلوا منهن، فإن الله لهم غفور رحيم » وإن عزموا الطلاق « فطلَّقوهن » فإن الله سميع « ، لطلاقهم إذا طلَّقوا » عليم « بما أتوا إليهن. »

وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال: « وإن عزموا الطلاق » ، « فإن الله سميع عليم » ومعلوم أنّ انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان « عزم الطلاق » انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه « سميع عليم » ، كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته في مراجعة المولي زوجته التي آلى منها، وأداء حقها إليها بذكر الخبر عن أنه « شديد العقاب » ، إذْ لم يكن موضعَ وعيد على معصية، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه « غفور رحيم » ، إذْ كان موضعَ وَعد المنيب على إنابته إلى طاعته، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام « سميع » وبالفعل « عليم » ، فقال تعالى ذكره: وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم « فإن الله سميع » لطلاقهم إيّاهن إن طلقوهن « عليم » بما أتوا إليهنّ، مما يحل لهم، ويحرُم عليهم. .

وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين ) ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « والمطلقات » اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر- « يتربصن بأنفسهن » عن نكاح الأزواج « ثلاثةَ قُرُوْءٍ » .

واختلف أهل التأويل في تأويل « القرء » الذي عناه الله بقوله: « يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء » فقال بعضهم: هو الحيض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » قال: حِيَضٍ.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ثلاثة قروء » أي ثلاث حِيَض. يقول: تعتدّ ثلاث حِيَض.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة في قوله: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » يقول: حمل عدة المطلقات ثلاث حيض، ثم نُسخ منها المطلقة التي طُلِّقت قبل أن يدخل بها زوجها، واللائي يَئِسْن من المحيض، واللائي لم يحضن، والحامل.

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال، القروءُ الحِيَض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » قال: ثلاث حيض.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار: الأقراءُ الحيَض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل سمع عكرمة قال: الأقراءُ الحِيَض، وليس بالطهر، قال تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، ولم يقل: « لقروئهن » .

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » قالا ثلاث حيض.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » أما ثلاثة قروء: فثلاث حيض.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي: أنه رُفِع إلى عمر، فقال لعبد الله بن مسعود: لتقولنَّ فيها. فقال: أنت أحق أن تقول ! قال: لتقولن. قال: أقول: إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال، ذاك رأيي وافقتَ ما في نفسي! فقضى بذلك عُمر.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أن عمر بن الخطاب وابن مسعود قالا زُوجُها أحق بها ما لم تغتسل أو قالا تحلَّ لها الصلاة.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال، حدثنا مطر، أن الحسن حدثهم: أن رجلا طلق امرأته، ووكَّل بذلك رجلا من أهله أو إنسانًا من أهله فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، وقرَّبت ماءها لتغتسل، فانطلق الذي وُكِّل بذلك إلى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغُسل، فقال: يا فلانة، قالت: ما تشاء؟ قال: إني قد راجعتك! قالت: والله ما لك ذلك! قال: بلى والله! قال: فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو: إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك. قالت: لا والله، ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل. فردها على زوجها، وقال: أنتَ أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري بنحوه.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال، قال عمر: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن يونس بن جبير: أن عمر بن الخطاب طلق امرأته، فأرادت أن تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال عمر بن الخطاب: امرأتي ورب الكعبة! فراجعها قال ابن بشار: فذكرت هذا الحديث لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: سمعتُ هذا الحديث من أبي هلال، عن قتاده، وأبو هلال لا يحتمل هذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة فقالت: إن زوجي طلقني واحدة أو ثنتين، فجاء وقد وضعت مائي، وأغلقت بابي، ونـزعت ثيابي. فقال عمر لعبد الله: ما ترى؟ قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه قال- في رجل طلق امرأته ثم تركها حتى دخلت في الحيضة الثالثة، فأرادت أن تغتسل، ووضعت ماءها لتغتسل، فراجعها- : فأجازه عمر وعبد الله بن مسعود.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، بمثله إلا أنه قال: ووضعت الماء للغسل، فراجعها، فسأل عبد الله وعمر، فقال: هو أحق بها ما لم تغتسل.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يقولان: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة يملك الرجعة، فهو أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين، فهو أحق برجعتها، وبينهما الميراث ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن الحسن: أن رجلا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم وكلَّ بها بعض أهله، فغفل الإنسان حتى دخلت مغتسلها، وقرَّبت غسلها. فأتاه فآذنه، فجاء فقال: إني قد راجعتك! فقالت: كلا والله! قال: بلى والله! قالت: كلا والله! قال: بلى والله! قال: فتخالفا، فارتفعا إلى الأشعريّ، واستحلفها بالله لقد كنتِ اغتسلت وحلَّت لك الصلاة. فأبت أن تحلف، فردَّها عليه.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أنّ عمر استشار ابن مسعود في الذي طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فحاضت الحيضة الثالثة، فقال ابن مسعود: أراه أحق بها ما لم تغتسل، فقال عمر: وافقت الذي في نفسي. فردّها على زوجها.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عليا كان يقول: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: إذا انقطع الدم فلا رجعة.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الحيضة التي طهُرت منها.

حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، أن عمر سأل أبا موسى عنها- وكان بلغه قضاؤه فيها- فقال أبو موسى: قضيتُ أن زوجها أحقُّ بها ما لم تغتسل.

فقال عمر: لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن علي بن أبي طالب قال - في الرجل يتزوَّج المرأة فيطلقها تطليقة أو ثنتين- قال، لزوجها الرجعة عليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال، أرسل عثمان إلى أبي يسأله عنها، فقال أبي: وكيف يفتى منافق؟ فقال عثمان: أعيذُك بالله أن تكون منافقًا، ونعوذ بالله أن نسمِّيك منافقًا، ونعيذك بالله أن يَكون مثلُ هذا كان في الإسلام، ثم تموت ولم تبيِّنه! قال: فإني أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. قال: فلا أعلم عثمان إلا أخذ بذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال، وأخبرنا معمر، عن قتادة قالا راجع رجل امرأته حين وضعت ثيابها تريدُ الاغتسال فقال: قد راجعتك. فقالت: كلا! فاغتسلت. ثم خاصمها إلى الأشعري، فردَّها عليه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن معبد الجهني قال، إذا غسلت المطلقة فرجها من الحيضة الثالثة بانت منه وحلَّت للأزواج.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يحلّ لزوجها الرجعةُ عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، ويحلّ لها الصوم.

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن يحيى. قال: حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي، مثله.

وقال آخرون: بل « القرء » الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: الطهر.

* ذكره من قال ذلك:

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. قالت: الأقراء الأطهار.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: الأقراء الأطهار.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عمرة وعروة، عن عائشة قالت: إذا دحلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج قال الزهري: قالت عمرة: كانت عائشة تقول: القرء: الطُّهر، وليس بالحيضة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، مثل قول زيد وعائشة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول زيد.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال: إذا دخلت المطلَّقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج قال معمر: وكان الزهري يفتي بقول زيد.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: بلغني أن عائشة قالت: إنما الأقراء: الأطهار.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب: في رجل طلق امرأته واحدة أو ثنتين قال- قال زيد بن ثابت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها وزاد ابن أبي عدي قال: قال علي بن أبي طالب: هو أحق بها ما لم تغتسل.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد وعلي، بمثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا ميراثَ لها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قالا جميعً، حدثنا أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن الأحوص - رجل من أشراف أهل الشام- طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فمات وهي في الحيضة الثالثة، فرُفعت إلى معاوية، فلم يوجد عنده فيها علم. فسأل عنها فضالة بن عبيد ومَنْ هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوجد عندهم فيها علم، فبعث معاوية راكبًا إلى زيد بن ثابت، فقال: لا ترثه، ولو ماتت لم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطليقة، فمات وقد دخلت في الحيضة الثالثة، فرفع إلى معاوية، فلم يدر ما يقول، فكتب فيها إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد: « إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فلا ميراث بينهما » .

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا يقال له الأحوص، فذكر نحوه عن معاوية وزيد.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع قال، قال ابن عمر: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المطلقة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمر بن محمد، أن نافعًا أخبره، عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا دخلت المرأة في الدم من الحيضة الثالثة، فإنها لا ترثه ولا يرثها، وقد برئت منه وبرئ منها.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، بلغني، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلقت المرأة، فدخلت في الحيضة الثالثة أنه ليس بينهما ميراث ولا رجعة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت سالم بن عبد الله يقول مثل قول زيد بن ثابت.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، وسمعت يحيى يقول: بلغني عن أبان بن عثمان أنه كان يقول ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد بن ثابت، مثل ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع: أن معاوية بعث إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد: « إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت » ، وكان ابن عمر يقوله.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان وزيد بن ثابت أنهما قالا إذا حاضت الحيضة الثالثة فلا رجعة، ولا ميراث.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن زيد بن ثابت قال، إذا طلق الرجل امرأته، فرأت الدم في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن موسى بن شداد، عن عمر بن ثابت الأنصاري قال، كان زيد بن ثابت يقول: إذا حاضت المطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يملك رَجعتها.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.

قال أبو جعفر: « والقروء » في كلام العرب: جمع « قُرْء » ، وقد تجمعه العرب « أقراء » يقال في « فعل » منه: « أقرأت المراة » - إذا صارت ذات حيض وطُهر- « فهي تقرئ إقراء » . وأصل « القُرء » في كلام العرب: الوقتُ لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدبارُه لوقت معلوم. ولذلك قالت العرب: « قرأت حاجةُ فلان عندي » ، بمعنى: دنا قضاؤها، وحَان وقت قضائها « واقرأ النجم » إذا جاء وقت أفوله، « وأقرأ » إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر:

إذَا مَــا الثُّرَيَّــا وَقَــدْ أقْــرَأَتْ أَحَــسَّ السِّــمَا كَـانِ مِنْهـا أُفُـولا

وقيل: « أقرأت الريح » ، إذا هبت لوقتها، كما قال الهذلي:

شَــنِئْتُ العَقْـرَ عَقْـرَ بَنِـي شُـلَيْلٍ إِذَا هَبَّـــتْ لِقَارِئِهَـــا الرِّيَــاحُ

بمعنى: هبت لوقتها وحين هُبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض « قُرءًا » ، إذا كان دمًا يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونُه في آخر، فسمي وقت مجيئه « قُرءًا » ، كما سمَّى الذين سمَّوا وقت مجيء الريح لوقتها « قُرءًا » .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبّيْش: دعي الصلاة أيام أقرائك.

بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك.

وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر « قُرءًا » ، إذْ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئُه لوقت معلوم. فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس:

وَفـيِ كُـلِّ عَـامٍ أَنْـتَ جَاشِـمُ غَزْوَةٍ تَشُــدُّ لأقْصَاهَــا عَـزِيمَ عَزَائِكَـا

مُوَرِّثَــةٍ مَـالا وَفِـي الذِّكْـرِ رِفْعـةً لِمَـا ضَـاعَ فِيهَـا مِـنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا

فجعل « القُرء » : وقت الطهر.

قال أبو جعفر: ولما وصفنا من معنى: « القُرء » أشكل تأويل قول الله: « والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء » على أهل التأويل.

فرأى بعضهم أن الذي أمِرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء، أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث حيَض بنفسها عن خطبة الأزواج.

ورأى آخرون: أنّ الذي أمرت به من ذلك، إنما هو أقراءُ الطهر- وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث أطهار.

فإذْ كان معنى « القُرء » ما وصفنا لما بيَّنا، وكان الله تعالى ذكره قد أمرَ المريدَ طلاقَ امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرًا غير مُجامعة، وحرَّم عليه طلاقها حائضًا كان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها إذا كانت ذات أقراء تربُّص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها، أن تنظرَ إلى ثلاثة قروء بين طهريْ كل قرءٍ منهنّ قرءٌ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدّتها، وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربَّصُ من المطلقات بنفسها ثلاثةَ قروء، بين طُهريْ كل قرءٍ منهن قرءٌ له مخالفٌ. وإذا فعلت ذلك، كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنـزيله.

فقد تبيَّن إذًا - إذ كان الأمر على ما وصفنا- أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها على ما بينا، الطهرُ الثالث وأنّ بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه، انقضاءُ عدّتها.

فإن ظن ذو غباء أنَّا إذْ كنا قد نسمِّي وقت مجيء الطهر « قُرءًا » ، ووقت مجيء الحيض « قرءًا » ، أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهرُ الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها، « أقراءً » كلها فقد ظن جهلا.

وذلك أن الحكم عندنا- في كل ما أنـزله الله في كتابه- على ما احتمله ظاهرُ التنـزيل، ما لم يبيّن الله تعالى ذكره لعباده، أنّ مراده منه الخصوص، إما بتنـزيل في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خصَّ من ذلك غيرَ داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها، كما قد بيَّنا في كتابنا: ( كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام ) وغيره من كتبنا.

فـ « الأقراء » التي هي أقراءُ الحيض بين طُهريْ أقراء الطهر، غير محتسبة من أقراء المتربِّصة بنفسها بعد الطلاق، لإجماع الجميع من أهل الإسلام: أن « الأقراء » التي أوجبَ الله عليها تربَّصُهن، ثلاثة قروء، بين كل قرء منهن أوقات مخالفاتُ المعنى لأقرائها التي تربَّصُهن، وإذْ كن مستحقات عندنا اسم « أقراء » ، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يُجِزْ لها التربّص إلا على ما وصفنا قبل.

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليل واضح على خطأ قول من قال: « إن امرأة المُولي التي آلى منها، تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة، إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة » . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجبَ عليها العدّة بعد عزم المُولي على طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله: « وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ، فأوجب تعالى ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة- تربُّص ثَلاثة قروء فمعلوم أنها لم تكن مطلقة يوم آلى منها زوجها، لإجماع الجميع على أنّ الإيلاء ليس بطلاق موجب على المولى منها العِدّة. »

وإذ كان ذلك كذلك، فالعدة إنما تلزمها بعد الطلاق، والطلاق إنما يلحقها بما قد بيناه قبل.

قال أبو جعفر: وأما معنى قوله: « والمطلقات » فإنه: والمخلَّياتُ السبيل، غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات، وقول القائل: « فلانة مطلقه » إنما هو « مفعَّلة » من قول القائل: « طلَّق الرجل زوجته فهي مطلَّقة » . وأما قولهم: « هي طالق » ، فمن قولهم: « طلَّقها زوجها فطّلُقت هي، وهي تطلُق طلاقًا، وهي طالق » . وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول: « طَلَقت المرأة » . وإنما قيل ذلك لها، إذا خلاها زوجها، كما يقال للنعجة المهملة بغير راع ولا كالئ، إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مُخلاةً سبيلها: « هي طالق » ، فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها، وسُميت بما سُميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم: « طُلِقت المرأة » ، فمعنى غير هذا، إنما يقال في هذا إذا نُفِست. هذا من « الطَّلْق » ، والأول من « الطلاق » .

وقد بينا أن « التربُّص » إنما هو التوقف عن النكاح، وحبسُ النفس عنه في غير هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: تأويله: « ولا يحلّ » ، لهن يعني للمطلقات « أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، من الحيض إذا طُلِّقن، حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال، قال الله تعالى ذكره: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ إلى قوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال: بلغنا أنّ « ما خلق في أرحامهن » الحمل، وبلغنا أن الحيضة، فلا يحل لهنّ أن يكتمن ذلك، لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: الحيض

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: أكبرُ ذلك الحيض.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرّفًا، عن الحكم قال، قال إبراهيم في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ » قال: الحيض

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: الحيض ثم قال خالد: الدم.

وقال آخرون: هو الحيض، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانَه فيما خلق في رحمها من ذلك، هو أن تقول لزوجها المطلِّق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة: « قد حضتُ الحيضةَ الثالثة » كاذبةً لتبطل حقه بقيلها الباطلَ في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة بن معتِّب، عن إبراهيم في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: الحيض، المرأةُ تعتد قُرْأين، ثم يريد زوجها أن يراجعها، فتقول: قد حضتُ الثالثة « »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن « قال: أكثر ما عني به الحيض. »

وقال آخرون: بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانه زوجَها المطلِّقَ: الحبلُ والحيضُ جميعًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، من الحيض والحمل، لا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتُم حيضها، ولا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتُم حملها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرِّفًا، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: « ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، قال: الحمل والحيض قال أبو كريب: قال ابن إدريس: هذا أوَّل حديث سمعته من مطرِّف.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن الحكم، عن مجاهد، مثله إلا أنه قال: الحبل.

حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: من الحيض والولد

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، قال: من الحيض والولد

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: لا يحلّ للمطلَّقة أن تقول: « إني حائض » ، وليست بحائض ولا تقول: « إني حبلى » وليست بحبلى ولا تقول: « لستُ بحبلى » ، وهي حُبلى.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن مجاهد قال، الحيض والحبل قال، تفسيره أن لا تقول: « إني حائض » ، وليست بحائض « ولا لست بحائض » ، وهي حائض: ولا « أني حبلى » ، وليست بحبلى ولا « لست بحبلى » ، وهي حبلى.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد نحو هذا التفسير في هذه الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله وزاد فيه: قال: وذلك كله في بُغض المرأة زوجها وحبِّه

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » يقول: لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل، لا يحلّ لها أن تقول: « إني قد حضت » ولم تحض ولا يحلّ أن تقول: « إني لم أحض » ، وقد حاضت ولا يحل لها أن تقول: « إني حبلى » وليست بحبلى ولا أن تقول: « لست بحبلى » ، وهي حبلى

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » الآية قال، لا يكتمن الحيض ولا الولد، ولا يحل لها أن تكتمه وهو لا يعلم متى تحلّ، لئلا يرتجعها- تُضارُّة

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يحل لهن أن يتكتمن ما خلق الله في أرحامهن » يعني الولد قال: الحيضُ والولدُ هو الذي ائتُمِن عليه النساء.

وقال آخرون: بل عنى بذلك الحبل.

ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ، فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: اتل هذه الآية فتلا. فقال: إن فلانة ممن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ وكانت طُلِّقت وهي حبلى، فكتمت حتى وضعت

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله: « ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنْ كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر »

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: الطلاق مرّتان بينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلِّقها بعد هاتين فهي ثالثة، وإن طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. إنما اللاتي ذكرن في القرآن: « ولا يحلُّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ » ، هي التي طلقت واحدة أو ثنتين، ثم كتمتْ حملها لكي تنجو من زوجها، فأما إذا بتَّ الثلاثَ التطليقات، فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجًا غيره.

وقال آخرون: السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن، خوف مراجعتهم إياهُنّ، حتى يتزوجن غيرهم، فيُلحق نسب الحمل- الذي هو من الزوج المطلِّق- بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: كانت المرأة إذا طُلِّقت كتمت ما في بطنها وحملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه، فكره الله ذلك لهنّ.

حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: علم الله أنّ منهن كواتم يكتمن الولد. وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلّق امرأته وهي حامل، فتكتم الولد وتذهبُ به إلى غيره، وتكتُم مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وقدَّم فيه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر منها

وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ؟ كيلا يطلقها، وهي حامل منه للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها: هل بك حمل؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه، عقوبةً لما كتمته، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها- الحيضُ والحبَل. لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث، في قول من قال: « القُرء » الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض، إذا انقطع من الحيضة الثالثة، فتطهرت بالاغتسال.

فإذا كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن، وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل علم أنهن منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما، - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية، مثل ما في الآخر.

ويُسأل من خصّ ذلك- فجعله لأحد المعنيين دون الآخر- عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأما الذي قاله السدي من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنـزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال: « والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن » ، بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر.

وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به، من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن: أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن ضرارًا منهنّ لهم، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك، بأن يكون من صفة ما يليه قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: ما معنى قوله: « إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر » ؟ أوَ يحل لهن كتمان ذلك أزواجهنً إنْ كن لا يؤمنَّ بالله ولا باليوم الآخر حتى خصّ النهيُ عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر؟

قيل: معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أن كتمان المراة المطلَّقة زوجَها المطلَّقَها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارًا له، ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وأخلاقِهنَّ من النساء الكوافر فلا تتخلَّقن أيتها المؤمنات بأخلاقهنّ، فإنّ ذلك لا يحل لكنّ إن كنتن تؤمنّ بالله واليوم الآخر وكنتن من المسلمات لا أنّ المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهن دون الكوافر، بل الواجب على كل من لزمته فرائضُ الله من النساء اللواتي لهن أقراء- إذا طلِّقت بعد الدخول بها في عدتها- أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبَل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا

قال أبو جعفر: « والبعولة » جمع « بعل » ، وهو الزوج للمرأة، ومنه قول جرير:

أَعِـدُّوا مَـعَ الحَـلْيِ المَـلابَ فَإنَّمَـا جَــرِيرٌ لَكُـمْ بَعْـلٌ وَأَنْتُـمْ حَلائِلُـهْ

وقد يجمع « البعل » « البعولة، والبعول » ، كما يجمع « الفحل » « والفحول والفحولة » ، و « الذكر » « الذكور والذكورة » . وكذلك ما كان على مثال « فعول » من الجمع، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه « الهاء » ، فإما ما كان منها على مثال « فِعال » ، فقليل في كلامهم دخول « الهاء » فيه، وقد حكى عنهم. « العِظامُ والعِظامة » ، ومنه قول الزاجر:

* ثُمَّ دَفَنْتَ الْفَرْثَ وَالعِظَامهْ *

وقد قيل: « الحجارة والحِجار » و « المِهارة والمِهار » و « الذِكّارة والذِكّار » ، للذكور.

وأما تأويل الكلام، فإنه: وأزواج المطلقات اللاتي فرضنا عليهن أن يتربَّصن بأنفسهن ثلاثه قروء، وحرَّمنا عليهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن أحق وأولى بردهن إلى أنفسهم في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة، وأيام الحيل، وارتجاعهن إلى حبالهم منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك كما:-

حدثي المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا » ، يقول: إذ طلق الرجل امرأته تطليقة أو ثنتين، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « وبعولتهن أحق بردهن » قال: في العدة

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا قال الله تعالى ذكره: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا » ، وذلك أنّ الرجل كان إذا طلَّق امرأته كان أحقَّ برجعتها وإن طلاقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ الآية.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » في عدتهن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال، في العدة

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك » ، أي في القروء في الثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، أو كانت حاملا فإذا طلَّقها زوجها واحدة أو اثنتين رَاجعها إن شاء ما كانت في عدتها

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك » قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، فنهاهنّ الله عن ذلك وقال: « وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك » ، قال قتادة: أحق برجعتهن في العدة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وبعولتهن أحقُّ بردهن في ذلك » ، يقول: في العدة ما لم يطلقها ثلاثًا.

حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » ، يقول: أحق برجعتها صاغرة عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وبعولتهن أحق بردهن » ، أحقّ برجعتهنّ، ما لم تنقض العِدّة.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: « وبعولتهنّ أحق بردهنّ في ذلك » ، قال: ما كانت في العدة إذا أراد المراجعة

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما لزوج- طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها- عليها رجعة في أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدًا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟

قيل: أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز إذا أراد ضرارها بالرجعة، لا إصلاح أمرها وأمره مراجعتُها.

وأما في الحكم فإنه مقضيٌّ له عليها بالرجعة، نظيرُ ما حكمنا عليه ببطول رَجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارًا منها له، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك، فكان سواءً في الحكم في بطول رَجعة زوجها عليها، وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها هي والتي أطاعت الله بتركها كتمانَ ذلك منه، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته، فكذلك المراجع زوجتَه المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حُرَّان وإن أراد ضرار المُراجعة برجعته- فمحكوم له بالرجعة، وإن كان آثمًا بريائه في فعله، ومقدِمًا على ما لم يُبحه الله له، والله وليّ مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غيرُ جائز لهم الحوْلُ بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجتُه، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له، أخِذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات حتى يعود ضررُ ما أراد من ذلك عليه دونها.

قال أبو جعفر: وفي قوله: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » ، أبين الدلالة على صحة قول من قال: إنّ المولي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها، أنّ له عليها الرّجعة في طلاقه ذلك وعلى فساد قول من قال: إن مضي الأشهر الأربعة عزُم الطلاق، وأنه تطليقه بائنة، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمُهم إذا آلوا من نسائهم، وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو عاصم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف » ، قال: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن، فعليه أن يُحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، ويُنفق عليها من سَعَته.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف » ، قال: يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجهن من التَّصنُّع والمواتاة، مثل الذي عليهن لهم في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إني أحبُّ أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي; لأن الله تعالى ذكره يقول: « ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف »

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية عندي: وللمطلقات واحدة أو ثنتين - بعد الإفضاء إليهن- على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ في أقرائهن الثلاثة إذا أرادوا رجْعتهن فيهن، إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم، وأن لا يراجعوهن ضرارًا كما عليهن لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ، أن لا يكتمنَ ما خلق الله في أرحامهنّ من الولد ودم الحيض ضرارًا منهن لهم لِيَفُتْنهم بأنفسهنّ،

ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهنّ في أقرائهنَّ ما خلق الله في أرحامهنّ، إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر، وجعل أزواجهن أحق بردّهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا، فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله: « ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف » فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته، مثل الذي له على صاحبه من ذلك.

فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنـزيل من غيره.

وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك، وإن كانت الآية نـزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى « الدرجة » التي جعل الله للرجال على النساء، الفضلُ الذي فضّلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وللرجال عليهن درجة » قال: فَضْل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفَضْل ميراثه، على ميراثه، وكل ما فضِّل به عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: عن قتادة: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: للرجال درجةٌ في الفضل على النساء

وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمْرة والطاعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: إمارةٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: طاعةٌ. قال: يطعن الأزواجَ الرجال، وليس الرجال يطيعونهن

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن محمد في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: لا أعلم إلا أن لهن مثل الذي عليهن، إذا عرفن تلك الدرجة

وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدَّت، وإذا قذفها لاعنَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة، عن الشعبي في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: بما أعطاها من صَداقها، وأنه إذا قذفها لاعَنها، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده.

وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها، إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما أحب أن استنظف جميع حقي عليها، لأن الله تعالى ذكره يقول: « وللرجال عليهن درجة »

وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا عبيد بن الصباح قال، حدثنا حميد قال، « وللرجال عليهن درجة » قال: لحية.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن « الدرجة » التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه.

وذلك أن الله تعالى ذكره قال: « وللرجال عليهن درجة » عَقيب قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.

ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره: « وللرجال عليهن درجة » بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله: « ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها » لأن الله تعالى ذكره يقول: « وللرجال عليهن درجة » .

ومعنى « الدرجة » ، الرتبة والمنـزلة.

وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 228 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « والله عزيز » في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدَّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضَل امرأته بإيلائه، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن، ونكحن في عددهن، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن، وركبن غير ذلك من معاصيه « حكيم » فيما دبَّر في خلقه، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه، كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « والله عزيز حكيم » ، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إلى قوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.

* ذكر من قال إن هذه الآية أنـزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نـزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه.

* ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له: كيف؟ قال: أطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تعالى ذكره: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف » الآية.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤيك، ولا أدَعك تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك، فمتى تحلّين؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلق ومن لم يكن طلق .

حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حَّد في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الطلاق مرتان » ، قال كان الطلاق- قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له، وطلق رجلٌ امرأته، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا، مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، أما قوله: « الطلاق مرتان » ، فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » قال: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كن مدخولا بهن تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين، إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.

وقال آخرون إنما أنـزلت هذه الآية على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن- لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من زوجها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » قال: يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، قال: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحب أن يفعل، فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة: « إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان » ، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: فحاضت الحيضة الثانية، كما طلق الأولى، فهذان تطليقتان وقرءان، ثمّ قال: الثالثة- وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبى عاصم .

قال أبو جعفر: وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرحوهن بإحسان.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر التنـزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ- ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه.

وأما قوله: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، فإنّ في تأويله وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل.

فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية- من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: « الطلاق مرتان » ، قال: يقول عند الثالثة: إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره قالها قال: وقال مجاهد: الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل، وتعتدّ لغيره .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان » هي الثالثة « . »

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، « الطلاق مرتان » ، فأين الثالثة؟ قال: « إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن أبي رزين قال، قال رجل: يا رسول الله، يقول الله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف » فأين الثالثة؟ قال: « التسريح بإحسان » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد: « أو تسريح بإحسان » قال في الثالثة .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان الطلاق ليس له وقت حتى أنـزل الله: « الطلاق مرتان » قال: الثالثة: « إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان » .

وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: ذلك: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، إذا طلق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك « ويمسك » : يراجع بمعروف، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها.

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: « أو تسريح بإحسان » والتسريحُ: أن يدعها حتى تمضي عدتها.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تصريح بإحسان » ، قال: يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان. قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره .

قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساك في كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف، أو تسريحٌ لهن بإحسان.

وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنـزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره.

فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: هو ما:-

حدثنا به علي بن عبد الأعلى المحاربي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « فإمساك بمعروف » ، قال: المعروف: أن يحسن صحبتها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فإمساك بمعروف » ، قال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها .

فإن قال: فما التسريح بإحسان؟

قيل: هو ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « أو تسريح بإحسان » ، قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئًا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، قال: هو الميثاق الغليظ.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أو تسريح بإحسان » قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها .

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: « أو تسريحٌ بإحسان » ، قال: التسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قَدْر الميسرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: « وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا » قال قوله: « فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان » .

فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟

قيل: محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه: الطلاق مرتان، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [ سورة البقرة: 178 ] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا » ، ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن- لطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم « إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله » .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، وذلك قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه: ( إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) .

والعرب قد تضع « الظن » موضع « الخوف » ، « والخوف » موضع « الظن » في كلامها، لتقارب معنييهما، كما قال الشاعر:

أتــاني كـلام عـن نصيـب يقولـه ومـا خـفت يـا سـلام أنـك عائبي

بمعنى: ما ظننت.

وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) .

فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: ( إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله ) . وقراءة ذلك كذلك، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه، خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في « أن » وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر:

إذا مـت فـادفني إلـى جـنب كرمة تـروي عظـامي بعـد موتي عروقها

ولا تـــدفنني بـــالفلاة فــإنني أخــاف إذا مـا مـت أن لا أذوقهـا

فأما قارئه: « إلا أن يخافا » بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكة تسميته، وفي « أن » - فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسم فاعله، وفي « أن » التي تنوب عن شيئين، ولا تقول العرب في كلامها: « ظنا أن يقوما » .

ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله- أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في « أن » غير « الخوف » ، ويكون « الخوف » ، عاملا فيما لم يسم فاعله. وذلك هو الصواب عندنا من القراءة لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.

فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟

قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف على زوجها - بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه، بغضا منها له، كما:-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، قرأت على فضيل، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة، هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام، أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! قال زوجها: يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي! حديقة، فإن ردت على حديقتي! قال: « ما تقولين؟ » قالت: نعم، وإن شاء زدته! قال: ففرق بينهما.

حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد الله- يعني ابن أبي بكر- ، عن عمرة عن عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فاشتكته، فدعا رسول الله ثابتا، فقال: خذ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلح ذاك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال، فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « خذهما وفارقها. ففعل. »

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، لا أنا ولا ثابت بن قيس!! لزوجها فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر! . فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها. فأخذ منها، وجلست في بيتها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة » قالت: نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما.

قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في شأنهما- أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، نـزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم! فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال: « نعم » ، قال ثابت: قد فعلت فنـزلت: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها » .

وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى « الخوف » منهما أن لا يقيما حدود الله.

فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، قال ابن جريح: أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحل الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول: « لا يحل له » ، حتى تقول: « لا أبر لك قسما، ولا اغتسل لك من جنابة » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار قال، قال جابر بن زيد: إذا كان الشر من قبلها حل الفداء.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها .

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا محمد بن كثير، عن حماد، عن هشام، عن أبيه أنه قال: لا يصلح الخلع، حتى يكون الفساد من قبل المرأة .

حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في امرأة قالت لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة! قال: ما هذا- وحرك يده- « لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا » !! إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف » إلى قوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . قال: إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتى تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك، فما أحذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها، فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، قال: لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك منها، فأما أن يكون يضارها حتى تختلع، فإن ذلك لا يصلح، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حل له خلعها .

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، قال: الصداق « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره ولا يكلمها، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته، فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية .

وقال آخرون: بل « الخوف » من ذلك: أن لا تبر له قسما، ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطيع لك أمرا‍ فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن: إذا قالت: « لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا » ، فحينئذ حل الخلع .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال، إذا قالت المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم حدا من حدود الله « ، فقد حل له مالها . »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن محمد بن سالم قال، سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت: « لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تحل الفدية حتى تقول: « لا أغتسل لك من جنابة » . وقال: إن الزاني يزني ثم يغتسل ! .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في الناشز قال، إن المرأة ربما عصت زوجها، ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه، فعند ذلك تحل الفدية .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، لا يحل له أن يأخذ من مهرها شيئا « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، فإذا لم يقيما حدود الله، فقد حل له الفداء، وذلك أن تقول: « والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة » ، فهو حدود الله، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن ) [ سورة النساء: 19 ] ، في قراءة ابن مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك ما أخذت منها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، قال: الخلع، قال: ولا يحل له إلا أن تقول المرأة: « لا أبر قسمه ولا أطيع أمره » ، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق.

وقال آخرون: بل « الخوف » من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها: « إني لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك » - وتطيب نفسا بالخلع.

وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية، أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا داود، عن عامر حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، قال: قال عامر : أحل له مالها بنشوزه ونشوزها .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال ابن جريج، قال طاوس: يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره، ولم يكن يقول قول السفهاء: « لا أبر لك قسما » ، ولكن يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة .

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » قال: فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها؟ قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد. وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله » - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به » قال: هو تركها إقامة حدود الله، واستخفافها بحق زوجها، وسوء خلقها، فتقول له: « والله لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا » ، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبى بن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به » قال: إذا قالت: « لا اغتسل لك من جنابة » ، حل له أن يأخذ منها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما .

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عامر: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله » قال: أن لا يطيعا الله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحدود: الطاعة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما أوجب الله عليهما من الفرائض، فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه، من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به.

وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي، وما رويناه عن الحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، وأن لا تؤذيه بقول، ولا تؤذيه بقول تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها.

وأما معنى « إقامة حدود الله » ، فإنه العمل بها، والمخالفة عليها، وترك تضييعها- وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ

قال أبو جعفر : يعني قوله تعالى ذكره بذلك: فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما فيما أعطت هذه على فراق زوجها إياها ولا على هذا فيما أخذ منها من الجعل والعوض عليه.

فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، فيكون « لا جناح عليهما » فيما أعطته من الفدية على فراقها إذا كان النشوز من قبلها.

قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما حل لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حق لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم.

وهي إذا أعطته على هذا الوجه باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، ولذلك قال تعالى ذكره: « فلا جناح عليهما » فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذ كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم.

وقد يتجه قوله: « فلا جناح عليهما » وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس وذلك لكراهتها أخلاق زوجها، أو دمامة خلقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض- ولكن على الانصراف منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحل لها- كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها. وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك الوجه - التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها « منافقة » ، كما:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة » .

وقال: « المختلعات هن المنافقات »

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علية، عن أبيه، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والمختلعات هن المنافقات « »

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.

فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح، إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها: « لا جناح عليهما فيما افتدت به » من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.

قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في « سورة الرحمن » : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [ سورة الرحمن: 22 ] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله. فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا [ سورة الكهف: 61 ] ، وإنما الناسي صاحب موسى وحده. قال: ومثله في الكلام أن تقول: « عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما » وإنما تركب إحداهما. وتستقي على الأخرى، وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.

قالوا: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.

قال أبو جعفر: فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ .

فأما قوله: « فلا جناح عليهما » فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول: « إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما » ، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال: « إنما هو خبر عن أحدهما » .

وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.

قال أبو جعفر: ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » أمعني به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟

فقال بعضهم: عنى بذلك: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتيتموهن. قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك - عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله- هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه، أن ترد ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع أنه كان يقول: لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، ويقول: إن الله يقول: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » منه، يقول: من المهر - وكذلك كان يقرؤها: « فيما افتدت به منه » .

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز: لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .

حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن الشعبي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك .

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي، قال: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها - يعني المختلعة .

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة، قال: كان علي رضي الله عنه يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها .

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن الحكم أنه قال في المختلعة: أحب إلي أن لا يزداد .

حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج امرأة على مائتي درهم، فأراد أن يخلعها، هل له أن يأخذ أربعمائة؟ فقال: لا والله، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها! .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها قال معمر: وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن المسيب، قال: ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها .

وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني! فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، قال: أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزا فوعظها، فلم تقبل بخير، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام وذكر نحو حديث ابن علية .

حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى، قالا حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز؟ فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك! قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال: خذ ولو عقاصها.

حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها، فلم يعب ذلك ابن عمر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا معتمر، قال: سمعت عبيد الله يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا هشيم، عن حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها . ثم تلا هذه الآية: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال في الخلع: خذ ما دون عقاص شعرها، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع ما دون عقاص الرأس.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة: خذ منها ولو عقاصها .

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع بما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع ابنة معوذ بن عفراء حدثته قالت: كأن لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم! قال: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه- أو قالت: ما دون عقاص الرأس.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير، ولو عقصها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ليأخذ منها حتى قرطها- يعني في الخلع .

حدثني المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » قال: يأخذ أكثر مما أعطاها.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عدي، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوه: إن الحسن يقول في المختلعة: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول: « ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » قال رجاء: فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به »

وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ سورة النساء: 20 ]

ذكر من قال ذلك:

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا! وقرأ: « وأخذن منكم ميثاقا غليظا » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول الله تعالى ذكره في كتابه: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » ؟ قال: هذه نسخت. قلت: فإني حفظت؟ قال: حفظت في « سورة النساء » قول الله تعالى ذكره: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [ النساء: 20 ]

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه- فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها.

فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين: أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.

والآخر: أن الآية التي في « سورة النساء » إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، ولا نشوز من المرأة على الرجل. و إذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا.

وأما الآية التي في « سورة البقرة » فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في « سورة البقرة » ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في « سورة النساء » ، كما الحظر في « سورة النساء » ، غير الإطلاق والإباحة في « سورة البقرة » . فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.

وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.

وأما الذي قاله الربيع بن أنس من أن معنى الآية: فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك: مما آتيتموهن - فنظير قول بكر في دعواه نسخ قوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » بقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا لادعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه.

ويقال لمن قال بقوله: قد قال من قد علمت من أئمة الدين: إنما معنى ذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها فهل من حجة تبين بها منهم غير الدعوى؟ فقد احتجوا بظاهر التنـزيل، وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال: للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية، التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا ( كتاب اللطيف ) فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 229 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، قلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » ، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت: من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله: « تلك حدود الله » ، مما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أمر ونهى.

ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء - التي بينت لكم حلالها من حرامها- « حدودي » يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي، فلا تعتدوها يقول: فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، فإن من تعدى ذلك يعني من تخطاه وتجاوزه إلى ما حرمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم- وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على معنى « الظلم » وأصله بشواهده الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [ يؤول ] إلى معنى ما قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » يعني بالحدود: الطاعة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » يقول: من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه، « ومن يتعد حدود الله، فأولئك هم الظالمون » .

قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر، فيقال: « تلك حدود الله » ، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره.

فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: « الطلاق مرتان » فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره- يعني به غير المطلق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره »

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » يقول: إن طلقها ثلاثا، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله: « فإن طلقها » - يعني بالثالثة- فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، بنحوه.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فإن طلقها » - بعد التطليقتين- « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، وهذه الثالثة

وقال آخرون: بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ قالوا: وإنما بين الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » قال: عاد إلى قوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

قال أبو جعفر: والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب، للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال- أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ قال: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله: « فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره » من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟

قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح، لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها.

فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟

قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ . وكذلك قوله: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، وإن لم يكن مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده.

* ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك « . »

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، فذكر مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله - إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

حدثنا محمد بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه » .

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول « . »

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى الليثي، عن زائدة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه » .

حدثني العباس بن أبي طالب، قال: أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « حتى يذوق عسيلتها » .

حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوج زوجا غيره، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال: « لا حتى يذوق عسيلتها » .

حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا محمد بن دينار، قال: حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الأول؟ قال: « لا حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، ويعقوب بن ماهان، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن العباس: أن الغميصاء- أو: الرميصاء- جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إليها، قال: فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره « . »

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين الأحمري، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها ألبتة، فتتزوج زوجا آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول؟ قال: « لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل، فأغلق الباب، فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الآخر؟ قال: « لا حتى يذوق عسيلتها » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته، فتزوجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوجها الأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن طلقها » فإن طلق المرأة- التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني- ، زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول « فلا جناح عليهما » يقول تعالى ذكره: فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول، وبعد نكاحه إياها- ، وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات أن يتراجعا بنكاح جديد. كما:

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: « فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله » يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال: والثالثة قوله: « فإن طلقها » يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره، فيدخل بها، « فإن طلقها » هذا الأخير بعد ما يدخل بها، « فلا جناح عليهما أن يتراجعا » يعنى الأول « إن ظنا أن يقيما حدود الله » .

قال أبو جعفر: وأما قوله: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » فإن معناه: إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى « الحدود » ، ومعنى « إقامة » ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وكان مجاهد يقول في تأويل قوله: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » ما:-

حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

قال أبو جعفر: وقد وجه بعض أهل التأويل قوله « إن ظنا » إلى أنه بمعنى: إن أيقنا. وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره: « إن ظنا » بمعنى طمعا بذلك ورجوا

« وأن » التي في قوله: « أن يقيما » ، في موضع نصب بـ « ظنا » ، و « أن » التي في « أن يتراجعا » جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض، لأن معنى الكلام: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا- فلما حذفت « في » التي كانت تخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح عليهما تراجعهما.

وكان بعضهم يقول: موضعه خفض، وإن لم يكن معها خافضها، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 230 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتلك حدود الله » هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات « حدود الله » - معالم فصول حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته « يبينها » يفصلها، فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من الله، وأنها تنـزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به.

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « وإذا طلقتم » ، أيها الرجال نساءكم « فبلغن أجلهن » , يعني: ميقاتهن الذي وقته لهن، من انقضاء الأقراء الثلاثة، إن كانت من أهل القرء، وانقضاء الأشهر, إن كانت من أهل الشهور « فأمسكوهن » ، يقول: فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة: وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين، كما قال تعالى ذكره: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .

وأما قوله: « بمعروف » ، فإنه عنى: بما أذن به من الرجعة، من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة، دون الرجعة بالوطء والجماع. لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة, وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس « أو سرحوهن بمعروف » ، يقول: أو خلوهن يقضين تمام عدتهن وينقضي بقية أجلهن الذي أجلته لهن لعددهن، بمعروف. يقول: بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم، على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم « وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا » يقول: ولا تراجعوهن، إن راجعتموهن في عددهن، مضارة لهن، لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن, أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم، لمضارتكم إياهن، بإمساككم إياهن, ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء.

وقوله: « لتعتدوا » ، يقول: لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي التي بينتها لكم.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق: « وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا » ، قال: يطلقها، حتى إذا كادت تنقضي راجعها, ثم يطلقها, فيدعها, حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها, ولا يريد إمساكها: فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن قوله تعالى: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » ، قال: كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها, ثم يطلقها ثم يراجعها، يضارها، فنهاهم الله عن ذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف » ، قال: نهى الله عن الضرار « ضرارا » ، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل، حتى يفي لها تسعة أشهر، ليضارها به.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال: نهى عن الضرار, والضرار في الطلاق أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » ، كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها, ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها, فأنـزل الله هذه الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » ، قال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة، ثم يدعها, حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها, ثم يطلقها, حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها. ولا حاجة له فيها, إنما يريد أن يضارها بذلك. فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه, وقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث, عن يونس, عن ابن شهاب قال: قال الله تعالى ذكره: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » ، فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها، فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان, ولا يحل له أن يراجعها ضرارا, وليست له فيها رغبة، إلا أن يضارها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » ، قال: هو في الرجل يحلف بطلاق امرأته, فإذا بقي من عدتها شيء راجعها، يضارها بذلك ويطول عليها، فنهاهم الله عن ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, عن مالك بن أنس, عن ثور بن زيد الديلي: أن رجلا كان يطلق امرأته ثم يراجعها, ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها, كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها، فأنـزل الله تعالى ذكره: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه » ، يعظم ذلك.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « ولا تمسكوهن ضرارا » ، هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم يراجعها, ثم يطلقها ثم يراجعها, ثم يطلقها، ليضارها بذلك، لتختلع منه.

حدثنا موسى قال حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا » ، قال: نـزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، ثم طلقها, ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر، مضارَّةً يضارُّها, فأنـزل الله تعالى ذكره: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » .

حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، سمعت عبد العزيز يسأل عن طلاق الضرار فقال: يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع, فهذا الضرار الذي قال الله: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق , عن عطية: « ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا » ، قال: الرجل يطلق امرأته تطليقة, ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض, ثم يراجعها, ثم يطلقها تطليقة, ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض , ثم يراجعها « لتعتدوا » ، قال: لا يطاول عليهن.

قال أبو جعفر: وأصل « التسريح » ، من « سرح القوم » , وهو ما أطلق من نَعَمهم للرعي. يقال للمواشي المرسلة للرعي « هذا سرْح القوم » يراد به مواشيهم المرسلة للرعي. ومنه قول الله تعالى ذكره: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [ سورة النحل: 5 ، 6 ] يعني بقوله: « حين تسرحون » ، حين ترسلونها للرعي. فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه: سرحها, تمثيلا لذلك ب « تسريح » المسرح ماشيته للرعي، وتشبيها به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حد الله في أمرها, فقد ظلم نفسه, يعني: فأكسبها بذلك إثما, وأوجب لها من الله عقوبة بذلك.

وقد بينا معنى « الظلم » فيما مضى, وأنه وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما ليس للفاعل فعله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، في وحيه وتنـزيله استهزاء ولعبا, فإنه قد بين لكم في تنـزيله وآي كتابه، ما لكم من الرجعة على نسائكم، في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة, وما ليس لكم منها, وما الوجه الجائز لكم منها، وما الذي لا يجوز, وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم ذلك فيه, وكيف وجوه ذلك، رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم, ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه، إن كان فيه من صاحبه ما يؤذيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق، وجعل ما جعل لكم عليهن من الرجعة سبيلا لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه، بعد فراقه إياهن منهن, لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن, إنعاما منه بذلك عليكم , لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنـزيلي - تفضلا مني ببيانه عليكم وإنعاما ورحمة مني بكم- لعبا وسخريا.

وبمعنى ما قلنا في ذلك قال، أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أيوب بن سليمان قال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس, عن سليمان بن بلال, عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة, عن ابن شهاب, عن سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، يطلق الرجل أو يعتق فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه قال الحسن: وفيه نـزلت: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » . .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » ، قال: كان الرجل يطلق امرأته فيقول: إنما طلقت لاعبا! فنهوا عن ذلك, فقال تعالى ذكره: « ولا تتخذوا آيات الله هزوا » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور, عن عبد السلام بن حرب, عن يزيد بن عبد الرحمن, عن أبي العلاء, عن حميد بن عبد الرحمن, عن أبي موسى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم غضب على الأشعريين - فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، غضبت على الأشعريين! فقال: يقول أحدكم: « قد طلقت، قد راجعت » !! ليس هذا طلاق المسلمين , طلقوا المرأة في قبل عدتها.

حدثنا أبو زيد, عن ابن شبة قال، حدثنا أبو غسان النهدي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب, عن يزيد بن أبي خالد - يعني الدالاني- عن أبي العلاء الأودي, عن حميد بن عبد الرحمن, عن أبي موسى الأشعري, عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: « لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك, قد راجعتك » ؟ ليس هذا بطلاق المسلمين , طلقوا المرأة في قبل طهرها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام, الذي أنعم عليكم به فهداكم له, وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه, فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه, واذكروا أيضا مع ذلك ما أنـزل عليكم من كتابه، وذلك: القرآن الذي أنـزله على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم، واذكروا ذلك فاعملوا به, واحفظوا حدوده فيه و « الحكمة » ، يعني: وما أنـزل عليكم من الحكمة، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنها لكم.

وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى « الحكمة » فيما مضى قبل في قوله: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ سورة البقرة: 129 ] ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 231 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يعظكم به » ، يعظكم بالكتاب الذي أنـزل عليكم والهاء التي في قوله: « به » ، عائدة على الكتاب.

« واتقوا الله » ، يقول: وخافوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنـزله عليكم, وفيما أنـزله فبينه على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده, فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ونكال عذابه.

وقوله: « واعلموا أن الله بكل شيء عليم » ، يقول: واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حد لكم هذه الحدود, وشرع لكم هذه الشرائع, وفرض عليكم هذه الفرائض، في كتابه وفي تنـزيله على رسوله محمد صلي الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه- من خير وشر, وحسن وسيئ, وطاعة ومعصية, عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره، شيء, وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا, وبالسيئ سيئا, إلا أن يعفو ويصفح، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجل كانت له أخت كان زوجها من ابن عم لها فطلقها، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها, ثم خطبها منه, فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه، وهي فيه راغبة.

ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك، فنـزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم كان ذلك الرجل: « معقل بن يسار المزني » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة عن الحسن, عن معقل بن يسار قال: كانت أخته تحت رجل فطلقها، ثم خلا عنها، حتى إذا انقضت عدتها خطبها, فحمي معقل من ذلك، أَنَفًا، وقال: خلا عنها وهو يقدر عليها!! فحال بينه وبينها، فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن الفضل بن دلهم, عن الحسن, عن معقل بن يسار: أن أخته طلقها زوجها, فأراد أن يراجعها, فمنعها معقل، فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » إلى آخر الآية.

حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب وأمنعها الناس, حتى خطب إلي ابن عم لي فأنكحتها, فاصطحبا ما شاء الله, ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة, ثم تركها حتى انقضت عدتها, ثم خطبت إلي، فأتاني يخطبها مع الخطاب, فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس, فآثرتك بها, ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة, فلما خُطبت إلي آتيتني تخطبها مع الخطاب! والله لا أنكحكها أبدا! قال: ففي نـزلت هذه الآية: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، ذكر لنا أن رجلا طلق امرأته تطليقة, ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها, ثم قرب بعد ذلك يخطبها والمرأة أخت معقل بن يسار فأنف من ذلك معقل بن يسار, وقال: خلا عنها وهي في عدتها، ولو شاء راجعها, ثم يريد أن يراجعها وقد بانت منه! فأبى عليها أن يزوجها إياه. وذكر لنا أن نبي لله، لما نـزلت هذه الآية، دعاه فتلاها عليه, فترك الحمية واستقاد لأمر الله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن يونس , عن الحسن قوله تعالى: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن » ، إلى آخر الآية, قال: نـزلت هذه الآية في معقل بن يسار. قال الحسن: حدثني معقل بن يسار أنها نـزلت فيه, قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها, حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها , فقلت له: زوجتك وفرشتك أختي وأكرمتك, ثم طلقتها, ثم جئت تخطبها! لا تعود إليك أبدا! قال: وكان رجل صدق لا بأس به, وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه, قال الله تعالى ذكره: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » .

قال، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! فزوجها منه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو بكر الهذلي, عن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها, فخطب إليه فمنعها أخوها، فنـزلت: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن » إلى آخر الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله : « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » الآية, قال: نـزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه, فنكحها آخر, فعضلها أخوها معقل بن يسار، يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأول قال ابن جريج، وقال عكرمة: نـزلت في معقل بن يسار. قال ابن جريج: أخته جمل ابنة يسار، كانت تحت أبي البداح، طلقها, فانقضت عدتها, فخطبها, فعضلها معقل بن يسار.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، نـزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها، فعضلها أخوها أن ترجع إلى زوجها الأول وهو معقل بن يسار أخوها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله إلا أنه لم يقل فيه: « وهو معقل بن يسار » .

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا سفيان, عن أبي إسحاق الهمداني: أن فاطمة بنت يسار طلقها زوجها, ثم بدا له فخطبها, فأبى معقل, فقال: زوجناك فطلقتها وفعلت! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن وقتادة في قوله: « فلا تعضلوهن » ، قال: نـزلت في معقل بن يسار, كانت أخته تحت رجل فطلقها, حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها, فعضلها معقل فأبى أن ينكحها إياه, فنـزلت فيها هذه الآية، يعني به الأولياء، يقول: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن رجل, عن معقل بن يسار قال: كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة, فخطبها, فأبيت أن أزوجها منه, فأنـزل الله تعالى ذكره: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » ، الآية.

وقال آخرون كان الرجل: « جابر بن عبد الله الأنصاري » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، قال: نـزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري, وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة, فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته. فنـزلت هذه الآية.

وقال آخرون: نـزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارة وليَّته من النساء, يعضلها عن النكاح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، فتنقضي عدتها, ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها, وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك, فنهى الله سبحانه أن يمنعوها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي , عن أبيه, عن ابن عباس: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، كان الرجل يطلق امرأته تبين منه وينقضي أجلها، ويريد أن يراجعها وترضى بذلك, فيأبى أهلها, قال الله تعالى ذكره: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » .

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق في قوله: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يبدو له أن يتزوجها, فيأبى أولياء المرأة أن يزوجوها, فقال الله تعالى ذكره: « فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أصحابه, عن إبراهيم في قوله: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » ، قال: المرأة تكون عند الرجل فيطلقها, ثم يريد أن يعود إليها، فلا يعضلها وليها أن ينكحها إياه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث, عن يونس, عن ابن شهاب: قال الله تعالى ذكره: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن » الآية, فإذا طلق الرجل المرأة وهو وليها, فانقضت عدتها, فليس له أن يعضلها حتى يرثها، ويمنعها أن تستعف بزوج.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن » ، هو الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يسكت عنها فيكون خاطبا من الخطاب, فقال الله لأولياء المرأة: « لا تعضلوهن » , يقول: لا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهن بنكاح جديد « إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، إذا رضيت المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنـزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهن, فبن منهن بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نـزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته، أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه. وأي ذلك كان، فالآية دالة على ما ذكرت.

ويعني بقوله تعالى: « فلا تعضلوهن » ، لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد، تبتغون بذلك مضارتهن.

يقال منه: « عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلا » ، وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها: « عضل يعضل » . فمن كان من لغته « عضل » , فإنه إن صار إلى « يفعَل » , قال: « يعضَل » بفتح « الضاد » . والقراءة على ضم « الضاد » دون كسرها, والضم من لغة من قال « عضل » .

وأصل « العضل » ، الضيق, ومنه قول عمر رحمة الله عليه: « وقد أعضل بي أهل العراق, لا يرضون عن وال, ولا يرضى عنهم وال » , يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به.

ومنه أيضا « الداء العضال » وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج, وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج, ومنه قول ذي الرمة:

ولــم أقــذف لمؤمنــة حصـان بــإذن اللــه موجبــة عضــالا

ومنه قيل: « عضل الفضاء بالجيش لكثرتم » ، إذا ضاق عنهم من كثرتهم. وقيل: « عضلت المرأة » ، إذا نشب الولد في رحمها فضاق عليه الخروج منها, ومنه قول أوس بن حجر:

وليس أخــوك الـدائم العهـد بـالذي يــذمك إن ولـى ويـرضيك مقبـلا

ولكنــه النــائي إذا كــنت آمنـا وصـاحبك الأدنـى إذا الأمـر أعضلا

و « أن » التي في قوله: « أن ينكحن » ، في موضع نصب قوله: « تعضلوهن » .

ومعنى قوله: « إذا تراضوا بينهم بالمعروف » ، إذا تراضى الأزواج والنساء بما يحل, ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور، ونكاح جديد مستأنف، كما:-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عمير بن عبد الله, عن عبد الملك بن المغيرة, عن عبد الرحمن بن البيلماني, قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أنكحوا الأيامى. فقال رجل: يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهلوهم » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن الحارث قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني, عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم، بنحو منه.

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: « لا نكاح إلا بولي من العصبة » . وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها, أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها - لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم, إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله إنكاحها، فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه، صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقا لا يصح عقده إلا به. وهو المعنى الذي أمر الله به الولي: من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به, وكان رضى عند أوليائها، جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله ونهاه عن خلافه: من عضلها, ومنعها عما أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله ذلك، ما ذكر في هذه الآية: من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح، يقول: فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح، عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر- يعني يصدق بالله، فيوحده, ويقر بربوبيته، « واليوم الآخر » يقول: ومن يؤمن باليوم الآخر، فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، ليتقي الله في نفسه, فلا يظلمها بضرار وليته ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها، ممن أذنت لها في نكاحه.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « ذلك يوعظ به » ، وهو خطاب لجميع, وقد قال من قبل : فَلا تَعْضُلُوهُنَّ ؟ وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع « ذلك » ، أفيجوز أن تقول لجماعة من الناس وأنت تخاطبهم: « أيها القوم، هذا غلامك، وهذا خادمك » , وأنت تريد: هذا خادمكم، وهذا غلامكم ؟

قيل: لا إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات، لأن ما أضيف له الأسماء غيرها، فلا يفهم سامع سمع قول قائل لجماعة: « أيها القوم، هذا غلامك » , أنه عنى بذلك هذا غلامكم - إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك. فإن طلب لمنطقه ذلك وجها في الصواب، صرف كلامه ذلك إلى أنه انصرف عن خطاب القوم بما أراد خطابهم به، إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم , وترك مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام. وليس ذلك كذلك في « ذلك » لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها, حتى صارت « الكاف » - التي هي كناية اسم المخاطب فيها- كهيئة حرف من حروف الكلمة التي هي متصلة. وصارت الكلمة بها كقول القائل: « هذا » , كأنها ليس معها اسم مخاطب. فمن قال: « ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر » ، أقر « الكاف » من « ذلك » موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء، والواحد من الرجال, والتثنية ، والجمع. ومن قال: « ذلكم يوعظ به » ، كسر « الكاف » في خطاب الواحدة من النساء, وفتح في خطاب الواحد من الرجال، فقال في خطاب الاثنين منهم: « ذلكما » , وفي خطاب الجمع « ذلكم » .

وقد قيل : إن قوله: « ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله » ، خطاب للنبي صلي الله عليه وسلم, ولذلك وحد ثم رجع إلى خطاب المؤمنين بقوله: « من كان منكم يؤمن بالله » . وإذا وجه التأويل إلى هذا الوجه، لم يكن فيه مؤونة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 232 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله « ذلكم » نكاحهن أزواجهن, ومراجعة أزواجهن إياهن، بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد « أزكى لكم » ، أيها الأولياء والأزواج والزوجات.

ويعني بقوله: « أزكى لكم » ، أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن. وقد دللنا فيما مضى على معنى « الزكاة » , فأغنى ذلك عن إعادته.

وأما قوله: « وأطهر » ، فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة. وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب, لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما, ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره الأولياء - إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة، بنكاح مستأنف، في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك, وأن يزوجها. لأن ذلك أفضل لجميعهم, وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة.

ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض, ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع، أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف, ونهاهم عن عضلهن عن ذلك لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة, فقال لهم تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به، إن كنتم تؤمنون بي، وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة, فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة. وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم, وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بن من أزواجهن، ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق، أو ولدنهم منهم، بعد فراقهم إياهن، من وطء كان منهم لهن قبل البينونة « يرضعن أولادهن » , يعني بذلك: أنهن أحق برضاعهم من غيرهم.

وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم, إذا كان المولود له ولد، حيا موسرا. لأن الله تعالى ذكره قال في « سورة النساء القصرى » وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [ سورة الطلاق: 6 ] ، فأخبر تعالى ذكره: أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها, أن أخرى سواها ترضعه, فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها. فكان معلوما بذلك أن قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين » ، دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الوالدان في رضاع المولود بعده, جعل حدا يفصل به بينهما, لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « حولين » ، فإنه يعني به سنتين, كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، سنتين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

وأصل « الحول » من قول القائل: « حال هذا الشيء » ، إذا انتقل. ومنه قيل: « تحول فلان من مكان كذا » ، إذا انتقل عنه.

فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر « كاملين » في قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، بعد قوله: « يرضعن حولين » ، وفي ذكر « الحولين » مستغنى عن ذكر « الكاملين » ، إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين » ما يراد به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟.

قيل: إن العرب قد تقول: « أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين، أو شهرين » ، وإنما أقام به يوما وبعض آخر، أو شهرا وبعض آخر, أو حولا وبعض آخر، فقيل: « حولين كاملين » ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، لا حول وبعض آخر. وذلك كما قال الله تعالى ذكره: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [ سورة البقرة: 203 ] . ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف, وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، وأنه ليس منه شيء تام, ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول: « اليوم يومان منذ لم أره » , وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر. وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة، على العام والزمان واليوم, فتقول: « زرته عام كذا - وقتل فلان فلانا زمان صفين » ، وإنما تفعل ذلك، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين, وإنما تعني بذلك الإخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه, فجاز أن ينطق « بالحولين » ، و « اليومين » ، على ما وصفت قبل. لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك, وفي ذلك الوقت.

فكذلك قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين وكان الكلام لو أطلق في ذلك، بغير تضمين الحولين بالكمال، وقيل: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين » ، محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر نفي اللبس عن سامعيه بقوله: « كاملين » أن يكون مرادا به حول وبعض آخر, وأبين بقوله: « كاملين » عن وقت تمام حد الرضاع, وأنه تمام الحولين بانقضائهما، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية، من مبلغ غاية رضاع المولودين: أهو حد لكل مولود, أو هو حد لبعض دون بعض؟ فقال بعضهم : هو حد لبعض دون بعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في التي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولين كاملين, وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا, وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة، بمثله, ولم يرفعه إلى ابن عباس.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري، عن أبي عبيد، قال: رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر, فقال: إنها رفعت [ إلي امرأة ] ، لا أراها إلا قد جاءت بشر - أو نحو هذا- ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس: إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. قال: وتلا ابن عباس: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [ سورة الأحقاف: 15 ] , فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. فخلى عثمان سبيلها.

وقال آخرون: بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه، فأراد أحدهما البلوغ إليه, والآخر التقصير عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة, ثم قال: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ، إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه - لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران

وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء جميعا, عن الثوري في قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » ، والتمام الحولان. قال: فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك. وإذا قالت المرأة: « أنا أفطمه قبل الحولين » ، وقال الأب: « لا » ، فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه, وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ .

وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، على أن لا رضاع بعد الحولين, فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، أخبرنا ابن أبي ذئب قال، حدثنا الزهري, عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا إن الله تعالى ذكره يقول: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن يونس بن يزيد, عن الزهري, قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: لا رضاع بعد الحولين.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص, عن الشيباني, عن أبي الضحى, عن أبي عبد الرحمن, عن عبد الله قال: ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم عن علقمة، أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين فقال: لا ترضعيه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الشيباني قال: سمعت الشعبي يقول: ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم, وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة, عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن عبد الله، أنه قال: لا رضاع بعد فصال، أو بعد حولين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن عبد الأعلى, عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ليس يحرم من الرضاع بعد التمام, إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس قال: لا رضاع بعد فصال السنتين.

حدثنا هلال بن العلاء الرقي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبيد الله, عن زيد, عن عمرو بن مرة, عن أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس يقول: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، قال: لا رضاع إلا في هذين الحولين.

وقال آخرون: بل كان قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، دلالة من الله تعالى ذكره عباده، على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين, ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله: « لمن أراد أن يتم الرضاعة » ، فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين, وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ثم أنـزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك، فقال تعالى ذكره: « لمن أراد أن يتم الرضاعة » .

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، يعني المطلقات، يرضعن أودهن حولين كاملين. ثم أنـزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك, فقال: « لمن أراد أن يتم الرضاعة » .

* ذكر من قال: إن « الوالدات » ، اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع: البائنات من أزوجهن، على ما وصفنا قبل.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » إلى إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، أما « الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد, وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, بنحوه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » ، القول الذي رواه علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس, ووافقه على القول به عطاء والثوري والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر: وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه, وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا, وأنه معني به كل مولود، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة.

فأما قولنا: « إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه » ، فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك حدا, كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه. لأن ذلك لو كان كذلك, لم يكن للحد معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك, فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل، لما كان وقت رضاع, كان ما وراءه غير وقت له, وأنه وقت لترك الرضاع وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين, وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة فيه, كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما, كان ما وراءه غير محرم.

وإنما قلنا: « هو دلالة على أنه معني به كل مولود، لأي وقت كان ولاده, لستة أشهر أو سبعة أو تسعة » , لأن الله تعالى ذكره عم بقوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » ، ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض.

وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه, أو على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم- في كتابنا ( كتاب البيان عن أصول الأحكام ) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره: قد بين ذلك بقوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [ سورة الأحقاف: 15 ] ، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما, فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره. فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر, فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة الحمل، نقص من مدة الرضاع. وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا, كما حده الله تعالى ذكره.

قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل - على هذه المقالة- إن بلغت حولين كاملين, ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر, وإن بلغت أربع سنين، أن يبطل الرضاع فلا ترضع, لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته أو يزعم قائل هذه المقالة: أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر, فيخرج من قول جميع الحجة, ويكابر الموجود والمشاهد, وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك. فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة، وضح لذوي الفهم فساد قوله.

فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله - إن كان الأمر على ما وصفت- : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ، وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره، نظير ما دون حده في الحكم؟ وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟

قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه، كما جعل قوله: « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة » ، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع، وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه, وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه. فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به.

فإذ كان ذلك كذلك, وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها، فيضعنه متى شئن، ويتركن وضعه إذا شئن كان معلوما أن قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [ سورة الأحقاف: 15 ] .

فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا, فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [ سورة الأحقاف: 15 ] ، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية.

وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله، وكفرانه نعم ربه عليه, وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده, بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض, وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر، أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر.

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك, فقرأ عامة أهل المدينة والعراق والشام: « لم أراد أن يتم الرضاعة » ب « الياء » في « يتم » ونصب « الرضاعة » - بمعنى: لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده.

وقرأه بعض أهل الحجاز: « لمن أراد أن تتم الرضاعة » ب « التاء » في « تتم » , ورفع « الرضاعة » بصفتها.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ ب « الياء » في « يتم » ونصب « الرضاعة » . لأن الله تعالى ذكره قال: « والوالدات يرضعن أولادهن » ، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها وأنها القراءة التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة، دون القراءة الأخرى.

وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر « الراء » التي فيها. فإن تكن صحيحة، فهي نظيرة « الوكالة والوكالة » و « الدلالة والدلالة » , و « مهرت الشيء مهارة ومهارة » - فيجوز حينئذ « الرضاع » و « الرضاع » , كما قيل: « الحصاد، والحصاد » . وأما القراءة فبالفتح لا غير.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وعلى المولود له » ، وعلى آباء الصبيان للمراضع « رزقهن » , يعني: رزق والدتهن.

ويعني ب « الرزق » : ما يقوتهن من طعام, وما لا بد لهن من غذاء ومطعم.

و « كسوتهن » , ويعني: ب « الكسوة » : الملبس.

ويعني بقوله: « بالمعروف » ، بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر, وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته, كما قال تعالى ذكره: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا [ سورة الطلاق: 7 ] ، وكما: -

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » ، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا, فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين, فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة, لا نكلف نفسا إلا وسعها.

حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران عن سفيان قوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ، والتمام الحولان « ، وعلى المولود له » على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف » ، قال: على الأب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [ سورة الطلاق: 7 ] ، كما: -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان: « لا تكلف نفس إلا وسعها » ، إلا ما أطاقت.

« والوسع » « الفعل » من قول القائل: « وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة » - ويقال: « هذا الذي أعطيتك وسعي » , أي: ما يتسع لي أن أعطيك، فلا يضيق علي إعطاؤكه و « أعطيتك من جهدي » ، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه.

فمعنى قوله: « لا تكلف نفس إلا وسعها » ، هو ما وصفت: من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله, فلا يضيق عليها ولا يجهدها لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه: لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات. لأن ذلك لو كان كما زعمت، لكان قوله تعالى ذكره: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا [ سورة الإسراء: 48 وسورة الفرقان: 9 ] ، إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه واجبا أن يكون القوم في حال واحدة، قد أعطوا الاستطاعة على ما منعوها عليه. وذلك من قائله إن قاله، إحالة في كلامه, ودعوى باطل لا يخيل بطوله. وإذ كان بينا فساد هذا القول , فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام: « لا تضار والدة بولدها » بفتح « الراء » ، بتأويل: لا تضارَرْ على وجه النهي، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم, غير أنه حرك, إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر.

وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة: « لا تضار والدة بولدها » ، رفع. ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي, ولكنها تكون [ على معنى ] الخبر، عطفا بقوله: « لا تضار » على قوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع: « لا تضار والدة بولدها » ، هكذا في الحكم: - أنه لا تضار والدة بولدها- أي: ما ينبغي أن تضار. فلما حذفت « ينبغي » ، وصار « تضار » في وضعه، صار على لفظه, واستشهد لذلك بقول الشاعر:

عـلى الحـكم المـأتي يوما إذا قضى قضيتــه, أن لا يجــور ويقصــد

فزعم أنه رفع « يقصد » بمعنى « ينبغي » . والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال. وذلك أنه روي عنهم سماعا: « فتصنع ماذا » , إذا أرادوا أن يقولوا: « فتريد أن تصنع ماذا » , فينصبونه بنية « أن. وإذا لم ينووا » أن « ولم يريدوها, قالوا: » فتريد ماذا « , فيرفعون » تريد « , لأن لا جالب ل » أن « قبله, كما كان له جالب قبل » تصنع « . فلو كان معنى قوله » لا تضار « إذا قرئ رفعا بمعنى: » ينبغي أن لا تضار « أو » ما ينبغي أن تضار « ، ثم حذف « ينبغي » و » أن « , وأقيم » تضار « مقام « ينبغي » ، لكان الواجب أن يقرأ- إذا قرئ بذلك المعنى- نصبا لا رفعا, ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد, كما فعل بقوله: « فتصنع ماذا » , ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على » تكلف « : ليست تكلف نفس إلا وسعها, وليست تضار والدة بولدها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين. »

قال أبو جعفر: وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب, لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان ذلك خبرا، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك.

وبما قلنا في ذلك - من أن ذلك بمعنى النهي- تأوله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لا تضار والدة بولدها » ، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده, فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح,عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده » ، قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه, فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لا تضار والدة بولدها » ، ترمي به إلى أبيه ضرارا، « ولا مولود له بولده » ، يقول: ولا الوالد، فينتزعه منها ضرارا، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها, فهي أحق به إذا رضيت بذلك.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن يونس, عن الحسن: « لا تضار والدة بولدها » ، قال: ذلك إذا طلقها, فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق، إذا كان إنسانا مسكينا، فتقذف إليه ولده.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير,عن جويبر, عن الضحاك: « لا تضار والدة بولدها » ، لا تضار أم بولدها ولا أب بولده. يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا، أو إلى عصبته إذا كان الأب ميتا. ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لا تضار والدة بولدها » ، يقول لا ينـزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به ولا تضار والدة بولدها، فتطرح الأم إليه ولده، تقول: « لا أليه ساعة » تضيعه، ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب- وسئل عن قول الله تعالى ذكره « والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين » إلى « لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده » ، قال ابن شهاب: والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه، مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر. وليس للمولود له أن ينـزع ولده من والدته مضارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران, وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان في قوله: « لا تضار والدة بولدها » ، لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها، تضاره بذلك « ولا مولود له بولده » ، ولا ينـزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده » ، قال: لا ينـزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه، ولا يجد ما يسترضعه به.

حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني ابن جريج, عن عطاء في قوله: « لا تضار والدة بولدها » ، قال: لا تدعنه ورضاعه، من شنآنها مضارة لأبيه، ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها.

وقال بعضهم: « الوالدة » التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله: « لا تضار والدة بولدها » ، قال: هي الظئر.

فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها, ولا والدة مولود والده بمولودها منه. ثم ترك ذكر الفاعل في « يضار » , فقيل: لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده، كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله، ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه: « لا يكرم عمرو، ولا يجلس إلى أخيه » , ثم ترك التضعيف فقيل: « لا تضار » فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة- لو أظهر التضعيف- بحركة الراء الأولى.

وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع، لأنه آخر الحركات. وليس للذي قال من ذلك معنى. لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك، لو كان معنى الكلام: لا تضارر والدة بولدها، وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة. على أن معنى الكلام لو كان كذلك، لكان الكسر في « تضار » أفصح من الفتح, والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح, كما أن: « مد بالثوب » أفصح من « مد به » . وفي إجماع القرأة على قراءة: « لا تضار » بالفتح دون الكسر، دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك.

فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تضارر والدة، وأن « الوالدة » مرفوعة بفعلها, وأن « الراء » الأولى حظها الكسر، فقد أغفل تأويل الكلام، وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل. وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل أحد من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود. وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي, والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد؟ فلو كان ذلك معناه, لكل التنـزيل: لا تضر والدة بولدها.

وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في « تضار » جائز. والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز، لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى:لا تضارَرْ « - الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله- إلى معنى » لاتضارر « ، الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله. »

قال أبو جعفر: فإذ كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما, فحق على إمام المسلمين إذا أراد الرجل نـزع ولده من أمه بعد بينونتها منه, وهي تحضنه وتكلفه وترضعه، بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها، ما دام محتاجا الصبي، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير والدته, أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه, أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده. أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته. لأن الله تعالى ذكره إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، فالإضرار به أحرى أن يكون محرما، مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الوارث » الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، وأي وارث هو: ووارث من هو؟

فقال بعضهم: هو وارث الصبي. وقالوا: معنى الآية: وعلى وارث الصبي إذا كان [ أبوه ] ميتا، مثل الذي كان على أبيه في حياته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قالا حدثنا سعيد, عن قتادة: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، على وارث الولد.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، على وارث الولد.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: وعلى وارث الصبي مثل ما على أبيه.

ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود، الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف. فقال بعضهم: هم وارث الصبي من قبل أبيه من عصبته، كائنا من كان، أخا كان، أو عما، أو ابن عم، أو ابن أخ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج: أن عمرو بن شعيب أخبره: أن سعيد بن المسيب أخبره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه، مثل العاقلة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: أن الحسن كان يقول: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، على العصبة.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو عاصم قالا حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب, عن سعيد بن المسيب قال: وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا توفي الرجل وامرأته حامل, فنفقتها من نصيبها, ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له, فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته.

قال: وكان يتأول قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، على الرجال.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا هشيم, عن يونس, عن الحسن قال: على العصبة الرجال، دون النساء.

حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام عن ابن سيرين: أتي عبد الله بن عتبة مع اليتيم وليه, ومع اليتيم من يتكلم في نفقته , فقال لولي اليتيم: لو لم يكن له مال لقضيت عليك بنفقته, لأن الله تعالى يقول: « وعلى الوارث مثل ذلك » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد بن سيرين قال: أُتي عبد الله بن عتبة في رضاع صبي, فجعل رضاعه في ماله, وقال لوليه: لو لم يكن له مال جعلنا رضاعه في مالك, ألا تراه يقول: « وعلى الوارث مثل ذلك » ؟

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: على الوارث ما على الأب، إذا لم يكن للصبي مال. وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه، فعليه النفقة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: الولي من كان.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن أبي بشر ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يعقوب- يعني ابن القاسم- عن عطاء وقتادة- في يتيم ليس له شيء، أيجبر أولياؤه على نفقته؟ قالا نعم, ينفق عليه حتى يدرك.

حدثت عن يعلى بن عبيد, عن جويبر, عن الضحاك قال: إن مات أبو الصبي وللصبي مال، أخذ رضاعه من المال. وإن لم يكن له مال، أخذ من العصبة. فإن لم يكن للعصبة مال، أجبرت عليه أمه.

وقال آخرون منهم: بل ذلك على وارث المولود من كان، من الرجال والنساء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أنه كان يقول: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، على وارث المولود ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة، كلهم يرث الصبي، أجر رضاعه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين: أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة صبي من ماله, وقال لوارثه: أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك بنفقته, ألا ترى أنه يقول: « وعلى الوارث مثل ذلك » .

وقال آخرون منهم: هو من ورثته، من كان منهم ذا رحم محرم للمولود, فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم، كابن العم والمولى ومن أشبههما، فليس من عناه الله بقوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » . والذين قالوا هذه المقالة: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد.

وقالت فرقةأخرى: بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، المولود نفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة. أن بشير بن نصر المزني - وكان قاضيا قبل ابن حجيرة في زمان عبد العزيز- كان يقول: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: الوارث هو الصبي.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال، أخبرنا حيوة. قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة, عن قبيصة بن ذؤيب: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: هو الصبي.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن حيوة بن شريح قال، أخبرني جعفر بن ربيعة: أن قبيصة بن ذؤيب كان يقول: الوارث هو الصبي يعني قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: يعني بالوارث: الولد الذي يرضع.

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك على ما تأوله هؤلاء: وعلى الوارث المولود، مثل ما كان على المولود له.

وقال آخرون: بل هو الباقي من والدي المولود، بعد وفاة الآخر منهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، أخبرنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في صبي له عم وأم وهي ترضعه, قال: يكون رضاعه بينهما, ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم, لأن الأم تجبر على النفقة على ولدها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مِثْلُ ذَلِكَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « مثل ذلك » .

فقال بعضهم: تأويله: وعلى الوارث للصبي بعد وفاة أبويه، مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته، إذا لم يكن للمولود مال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم,عن مغيرة, عن إبراهيم في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: على الوارث رضاع الصبي.

حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة, عن منصور, عن إبراهيم: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: أجر الرضاع.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن المغيرة , عن إبراهيم: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: الرضاع.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة, عن المغيرة, عن إبراهيم في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: أجر الرضاع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن أيوب, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله بن عتبة: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: الرضاع.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن أيوب, عن محمد, عن عبد الله بن عتبة في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: النفقة بالمعروف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: على الوارث ما على الأب من الرضاع، إذا لم يكن للصبي مال.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن مغيرة, عن إبراهيم قال: الرضاع والنفقة.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن إبراهيم: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: الرضاع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة, عن عطاء بن السائب, عن الشعبي، قال: الرضاع.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبو عوانة، عن مطرف, عن الشعبي: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: أجر الرضاع.

حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة, عن مغيرة, عن إبراهيم, والشعبي مثله.

حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس قال، سمعت هشاما عن الحسن في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: الرضاع.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن هشام وأشعث, عن الحسن مثله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن يونس, عن الحسن: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، يقول في النفقة على الوارث، إذا لم يكن له مال.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد, عن مجاهد مثله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد , عن مجاهد: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: النفقة بالمعروف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، على الولي كفله ورضاعه، إن لم يكن للمولود مال.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: وعلى الوارث من كان، مثل ما وصف من الرضاع قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: مثل ذلك في الرضاعة قال: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال : وعلى الوارث أيضا كفله ورضاعه، إن لم يكن له مال, وأن لا يضار أمه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج, عن ابن جريح, عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: نفقته حتى يفطم، إن كان أبوه لم يترك له مالا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له.

حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: على وارث الصبي مثل ما على أبيه, إذا كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال، فإن على الوارث أجر الرضاع.

حدثنا ابن حميد, قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: إذا مات وليس له مال، كان على الوارث رضاع الصبي.

وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى الوارث مثل ذلك: أن لا يضار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد, عن علي بن الحكم, عن الضحاك بن مزاحم: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: أن لا يضار.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عاصم الأحول , عن الشعبي في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: لا يضار, ولا غرم عليه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد في قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، أن لا يضار.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ ، قال: الوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر. وليس لوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة, وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينـزع ولده من والدته ضرارا لها, وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها « وعلى الوارث مثل ذلك » ، مثل الذي على الوالد في ذلك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران, وحدثنا علي قال: حدثنا زيد, عن سفيان: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: أن لا يضار، وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة.

وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود، مثل الذي كان على المولود له، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال: على الوارث عند الموت, مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة قال: ويعني بالوارث: الولد الذي يرضع: أن يؤخذ من ماله- إن كان له مال- أجر ما أرضعته أمه.

فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته، فليس لأمه أجر, وتجبر على أن ترضع ولدها بغير أجر.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، قال : على وارث الولد، مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة.

وقال آخرون: معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله تعالى ذكره: « وعلى الوارث مثل ذلك » ؟ قال: مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » : أن يكون المعني بالوارث ما قاله قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم؛ ومن ذكرنا قوله آنفا: من أنه معني بالوارث: المولود وفي قوله: « مثل ذلك » ، أن يكون معنيا به: مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف، إن كانت من أهل الحاجة, ومن هي ذات زمانة وعاهة، ومن لا احتراف فيها، ولا زوج لها تستغني به, وإن كانت من أهل الغنى والصحة، فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه.

وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها, لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة، على ما قد بينا في أول كتابنا هذا. وإذ كان ذلك كذلك, وكان قوله: « وعلى الوارث مثل ذلك » ، محتملا ظاهره: وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود , وغير ذلك من التأويلات، على نحو ما قد قدمنا ذكرها وكان الجميع من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه وصح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قبل أبيه أو أمه، في حكمه, في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع, إذ كان مولى النعمة من ورثته, وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني- حكمه.

وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا- من أنه معني به ورثة المولود- فبطول القول الآخر وهو أنه معني به ورثة المولود له سوى المولود أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه - إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه- فالذي هو أبعد منه قرابة، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه.

وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها - إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا - على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له, فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا. فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه. وما عدا ذلك من التأويلات، فمتنازع فيه, وقد دللنا على فساده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن أرادا » ، إن أراد والد المولود ووالدته « فصالا » , يعني: فصال ولدهما من اللبن.

ويعني ب « الفصال » : الفطام, وهو مصدر من قول القائل: « فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفصالا » ، إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. فكذلك « فصال الفطيم » , إنما هو منعه اللبن، وقطعه شربه, وفراقه ثدي أمه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال.

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « فإن أرادا فصالا » ، يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « فإن أرادا فصالا » ، فإن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما » ، قال: الفطام.

وأما قوله: « عن تراض منهما وتشاور » ، فإنه يعني بذلك: عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما.

ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنهما، إن فطماه عن تراض منهما وتشاور, وأي الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » .

فقال بعضهم: عنى بذلك، فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور, فلا جناح عليهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » ، يقول: إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك, فليفطماه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين, فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور, فلا بأس به.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » ، قال: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى, وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين, « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » دون الحولين « فلا جناح عليهما » , فإن لم يجتمعا، فليس لها أن تفطمه دون الحولين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان عن ليث, عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين, ليس لها حتى يجتمعا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني الليث قال، أخبرنا عقيل, عن ابن شهاب: « فإن أرادا فصالا » ، يفصلان ولدهما « عن تراض منهما وتشاور » ، دون الحولين الكاملين « فلا جناح عليهما » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان قال: التشاور ما دون الحولين، إذا اصطلحا دون ذلك, وذلك قوله: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » . فإن قالت المرأة: « أنا أفطمه قبل الحولين » , وقال الأب: « لا » , فليس لها أن تفطمه قبل الحولين. وإن لم ترض الأم، فليس له ذلك، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه, وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » ، قال: قبل السنتين « فلا جناح عليهما » .

وقال آخرون: معنى ذلك: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما » ، في أي وقت أرادا ذلك, قبل الحولين أرادا أم بعد ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية , عن علي, عن ابن عباس: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما » ، أن يفطماه قبل الحولين وبعده.

وأما قوله: « عن تراض منهما وتشاور » ، فإنه يعني: عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه، كما: -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور » ، قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما « فلا جناح عليهما » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: « فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور » , لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه , ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته.

فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا إذ كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه فإن ذلك إذا كان كذلك, فإنما هو علاج، كالعلاج بشرب بعض الأدوية، لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما، قبل انقضاء آخر مدته, فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل.

وأما الجناح، فالحرج، كما: -

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « فلا جناح عليهما » ، فلا حرج عليهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر, أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم، أو غير ذلك من الأسباب فلا حرج عليكم في استرضاعهن، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم » ، خيفة الضيعة على الصبي، « فلا جناح عليكم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو بشر ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم » ، إن قالت المرأة: « لا طاقة لي به فقد ذهب لبني » ‍‍‍‍‍ فتُسترْضَع له أخرى.

‍حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جويبر, عن الضحاك قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع, ويسلمان، ويجبران على ذلك. قال: فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع، فإنه يعرض على الصبي المراضع. فإن قبل مرضعا جاز ذلك وأرضعته، وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته. فإن لم يكن له مال ولا لعصبته، أكرهت على رضاعه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم » ، إذا أبت الأم أن ترضعه، فلا جناح على الأب أن يسترضع له غيرها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، قال: إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها، ورضي الأب أن يسترضع ولده, فليس عليهما جناح.

واختلفوا في قوله: « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » .

فقال بعضهم: معناه: إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهن عليه من الأجرة على رضاعهن، بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها أو الحال التي عذر أبو الصبي بطلب مرضع لولده غير أمه، واسترضاعه له.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، قال: حساب ما أرضع به الصبي.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد : « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، حساب ما يرضع به الصبي.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، إن قالت - يعني الأم - : « لا طاقة لي به، فقد ذهب لبني » , فتسترضع له أخرى, وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت.

حدثني المثنى قال، حدثني سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت - يعني لعطاء- : « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم » ؟ قال: أمه وغيرها « فلا جناح عليكم إذا سلمتم » ، قال: إذا سلمت لها أجرها « ما آتيتم » ، قال: ما أعطيتم.

وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم, وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، أخبرني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب: لا جناح عليهما أن يسترضعا أولادهما- يعني أبوي المولود- إذا سلما ولم يتضارا.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع : « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع، من الأجرة، بالمعروف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان في قوله: « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » ، قال: إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف- يعني: إلى من استرضع للمولود، إذا أبت الأم رضاعه.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: « تأويله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن, ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، ولم تروا ذلك من صلاحهم, فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة، إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف. »

يعني بذلك المعنى: الذي أوجبه الله لهن عليكم, وهو أن يوفيهن أجورهن على ما فارقهن عليه، في حال الاسترضاع،، ووقت عقد الإجارة.

وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج, ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك.

وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره, لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله: « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم » ، أمر فصالهم, وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين فقال: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا ، في الحولين الكاملين فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا . فالذي هو أولى بحكم الآية- إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين- أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته وأن يكون- إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة- أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم، بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه، كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى, وذلك في قوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [ سورة الطلاق: 6 ] . فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن, ذكر بيان امتناعهن من رضاعهن, فكذلك ذلك في قوله : « وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم » .

وإنما اخترنا في قوله: « إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف » - ما اخترنا من التأويل، لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حق والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه, كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل، وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده. فلم يكن قوله: « إذا سلمتم » بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن، بأولى منه بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن ولا الغرائب من المولود، بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من استأجره لرضاع ولده، من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى. فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنـزيل إلى باطن، ولا نقل عام إلى خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها- فصح بذلك ما قلنا.

قال أبو جعفر: وأما معنى قوله: « بالمعروف » ، فإن معناه: بالإجمال والإحسان، وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 233 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « واتقوا الله » ، وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق , وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم, وفيما أوجب عليكم لأولادكم، فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا - في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه - حدوده، فتستوجبوا بذلك عقوبته « واعلموا أن الله بما تعملون » من الأعمال، أيها الناس، سرها وعلانيتها, وخفيها وظاهرها, وخيرها وشرها « بصير » ، يراه ويعلمه, فلا يخفى عليه شيء, ولا يتغيب عنه منه شيء، فهو يحصي ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم بخير ذلك وشره.

ومعنى « بصير » ، ذو إبصار, وهو في معنى « مبصر » .

القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم، من الرجال، أيها الناس, فيموتون، ويذرون أزواجا، يتربص أزواجهن بأنفسهن.

فإن قال قائل: فأين الخبر عن « الذين يتوفون » ؟

قيل: متروك، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم, وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن, فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات، إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة, إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام: « بعض جبتك متخرقة » ، في ترك الخبر عما ابتدئ به الكلام، إلى الخبر عن بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن، صرف الكلام عن خبر من ابتدئ بذكره، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه, كما قال الشاعر:

لعـلي إن مـالت بـي الـرٌيح ميلـة عــلى ابـن أبـي ذبـان أن يتندمـا

فقال « لعلي » , ثم قال: « أن يتندما » , لأن معنى الكلام: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، إن مالت بي الريح ميلة عليه فرجع بالخبر إلى الذي أراد به, وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر:

ألــم تعلمــوا أن ابـن قيس وقتلـه بغـــير دم, دار المذلــة حــلت

فألغى « ابن قيس » وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذل.

وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر « الذين يتوفون » متروك, وأن معنى الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر « موتهم » ، كما يحذف بعض الكلام- وأن « يتربصن » رفع، إذ وقع موقع « ينبغي » , و « ينبغي » رفع. وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع « يتربصن » بوقوعه موقع « ينبغي » فيما مضى, فأغنى عن إعادته.

وقال آخر منهم: إنما لم يذكر « الذين » بشيء, لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء: « من يلقك منا تصب خيرا » الذي يلقاك منا تصيب خيرا. قال: ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء.

قال أبو جعفر: وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا.

قال أبوجعفر: وأما قوله: « يتربصن بأنفسهن » ، فإنه يعني به: يحتبسن بأنفسهن معتدات عن الأزواج، والطيب، والزينة، والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن- أربعة أشهر وعشرا، إلا أن يكن حوامل, فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن، انقضت عددهن حينئذ.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب في قول الله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، قال ابن شهاب: جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها, فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها, وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر, لا يحلها إلا أن تضع حملها.

قال أبو جعفر: وإنما قلنا: عنى ب « التربص » ما وصفنا، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بما: -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وأبو أسامة, عن شعبة وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة ، عن حميد بن نافع قال: سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدث قال أبو كريب: قال أبو أسامة: عن أم سلمة أن امرأة توفى عنها زوجها واشتكت عينها, فأتت النبي صلي الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل, فقال: لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، فتمكث في بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها, فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا « ! »

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، سمعت نافعا, عن صفية ابنة أبي عبيد: أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي صلي الله عليه وسلم تحدث، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا « قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، ولا تكتحل، ولا تزين. »

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى, عن نافع, عن صفية ابنة أبي عبيد, عن حفصة ابنة عمر: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول، أخبرني حميد بن نافع: أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته، عن أم سلمة - أو أم حبيبة- زوج النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم, فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها, وأنها قد خافت على عينها فزعم حميد عن زينب: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول, وإنما هي أربعة أشهر وعشر. .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد , عن حميد بن نافع: أنه سمع زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها, فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول, وإنما هي أربعة أشهر وعشر قال ابن بشار، قال يزيد, قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا شعبة, عن يحيى, عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ابن عيينة, عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد, عن حميد بن نافع, عن زينب ابنة أم سلمة, عن أم سلمة: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها, أفتكتحل؟ فقال، قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول, وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! قال، قلت: وما « ترمي بالبعرة على رأس الحول » ؟ قال: كان نساء الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، لبست أطمار ثيابها، وجلست في أخس بيوتها, فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت: قد حللت!

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة, عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها, وقد خفت على عينها, وهي تريد الكحل؟ قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول! وإنما هي أربعة أشهر وعشر! قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ قالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها، عمدت إلى أشر بيت لها فجلست فيه، حتى إذا مرت بها سنة خرجت, ثم رمت ببعرة وراءها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن معمر, عن الزهري, عن عروة عن عائشة: أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها، أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها, ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا معصفرا, ولا تكتحل بالإثمد, ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها, ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب, ولا تلبس حليا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها: لا تكتحل, ولا تطيب, ولا تبيت عن بيتها, ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب تجلبب به.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن جريج, عن عطاء قال: بلغني عن ابن عباس قال: تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب.

حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر قال: إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا, ولا تمس طيبا, ولا تكتحل, ولا تمتشط وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد.

وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة, فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنـزل، فلم تنه عن ذلك, ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن: أنه كان يرخص في التزين والتصنع, ولا يرى الإحداد شيئا.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، لم يقل تعتد في بيتها, تعتد حيث شاءت.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثنا ابن جريج, عن عطاء قال، قال ابن عباس: إنما قال الله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، ولم يقل تعتد في بيتها, فلتعتد حيث شاءت.

واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره، إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص وبما: -

حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي قال، حدثنا أبو عاصم, وحدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا أبو عامر قالا جميعا، حدثنا محمد بن طلحة, عن الحكم بن عتيبة, عن عبد الله بن شداد بن الهاد, عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم وابن الصلت, عن محمد بن طلحة, عن الحكم بن عتيبة, عن عبد الله بن شداد, عن أسماء عن النبي صلي الله عليه وسلم بمثله.

قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم: أن لا إحداد على المتوفى عنها زوحها, وأن القول في تأويل قوله: « يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره.

قال أبو جعفر: وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها, وترك النقلة عن منـزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها, فإنهم اعتلوا بظاهر التنـزيل، وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا, فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنـزيل بعينه, بل عم بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء, إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة، مما هو داخل في عموم الآية، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا: وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب، أما في النقلة فإن: -

أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن محمد, عن فليح بن سليمان, عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته، عن الفريعة ابنة مالك، أخت أبي سعيد الخدري، قالت: قتل زوجي وأنا في دار, فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة, فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت, فرجعت إليه, فقال: يا فريعة، حتى يبلغ الكتاب أجله.

قالوا: فبين رسول الله صلي الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها، [ وبطل ] ما خالفه. قالوا: وأما ما روي عن ابن عباس: فإنه لا معنى له، بخروجه عن ظاهر التنـزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم.

قالوا: وأما الخبر الذي روي عن أسماء ابنة عميس، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا, ثم أن تصنع ما بدا لها - فإنه غير دال على أن لا حداد على المرأة، بل إنما دل على أمر النبي صلي الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا, ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه، مما لم يكن زينة ولا مطيبا، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب، وذلك كالذي أذن صلي الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن, فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه, فإن لها لبسه, لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.

قال أبوجعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، ولم يقل: وعشرة؟ وإذ كان التنـزيل كذلك: أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر، أم بالأيام؟

قيل: بل تعتد بالأيام بلياليها.

فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل: « وعشرا » ؟ ولم يقل: وعشرة؟ والعشر بغير « الهاء » من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت، فهل تجيز: « عندي عشر » ، وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟

قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام, وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة، إذا أبهمت العدد، غلبت فيه الليالي, حتى إنهم فيما روي لنا عنهم ليقولون: « صمنا عشرا من شهر رمضان » ، لتغليبهم الليالي على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره،

أسقطوا من عدد المؤنث « الهاء » , وأثبتوها في عدد المذكر, كما قال تعالى ذكره: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [ سورة الحاقة: 7 ] ، فأسقط « الهاء » من « سبع » وأثبتها في « الثمانية » .

وأما بنو آدم, فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء، ثم أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم, وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى, كما قيل للذكر والأنثى « شاة » , وقيل للذكور والإناث من البقر: « بقر » , وليس كذلك في بني آدم.

فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟

قيل: قد قيل في ذلك، فيما: -

حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا » ، قال: قلت: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو عاصم, عن سعيد, عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن- وذلك بعد انقضاء عددهن , ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة « فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » ، يقول: فلا حرج عليكم أيها الأولياء - أولياء المرأة- فيما فعل المتوفى عنهن حينئذ في أنفسهن، من تطيب وتزين ونقله من المسكن الذي كن يعتددن فيه، ونكاح من يجوز لهن نكاحه « بالمعروف » ، يعني بذلك: على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. .

وقد قيل: إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل إن معنى قوله: « بالمعروف » إنما هو النكاح الحلال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » ، قال: الحلال الطيب.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » ، قال: المعروف النكاح الحلال الطيب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال ابن جريج, قال مجاهد: قوله: « فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » ، قال: هو النكاح الحلال الطيب.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هو النكاح.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب: « فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف » ، قال: في نكاح من هويته، إذا كان معروفا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 234 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « والله بما تعملون » ، أيها الأولياء، في أمر من أنتم وليه من نسائكم، من عضلهن وإنكاحهن ممن أردن نكاحه بالمعروف, ولغير ذلك من أموركم وأمورهم, « خبير » ، يعني ذو خبرة وعلم, لا يخفى عليه منه شيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم، أيها الرجال، فيما عرضتم به من خطبة النساء، للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن, ولم تصرحوا بعقد نكاح.

والتعريض الذي أبيح في ذلك, هو ما: -

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد، عن ابن عباس قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: التعريض أن يقول: « إني أريد التزويج » , و « إني لأحب امرأة من أمرها وأمرها » , يعرض لها بالقول بالمعروف.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس: « لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: « إني أريد أن أتزوج » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد: عن ابن عباس قال: التعريض ما لم ينصب للخطبة، قال مجاهد: قال رجل لامرأة في جنازة زوجها: لا تسبقيني بنفسك! قالت: قد سبقت!

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: في هذه الآية: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: التعريض، ما لم ينصب للخطبة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس: « فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: التعريض أن يقول للمرأة في عدتها: « إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله » , و « لوددت أني وجدت امرأة صالحة » , ولا ينصب لها ما دامت في عدتها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، يقول: يعرض لها في عدتها, يقول لها: « إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك, ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك » ، ونحو هذا من الكلام، فلا حرج.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: هو أن يقول لها في عدتها: « إني أريد التزويج, ووددت أن الله رزقني امرأة » ، ونحو هذا, ولا ينصب للخطبة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون , عن محمد, عن عبيدة في هذه الآية, قال: يذكرها إلى وليها، يقول: « لا تسبقني بها » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: يقول: « إنك لجميلة, وإنك لنافقة, وإنك إلى خير » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان , عن ليث, عن مجاهد أنه كره أن يقول: « لا تسبقيني بنفسك » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قل: هو قول الرجل للمرأة: « إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: يعرض للمرأة في عدتها فيقول: والله إنك لجميلة, وإن النساء لمن حاجتي, وإنك إلى خير إن شاء الله « . »

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير قال: هو قول الرجل: « إني أريد أن أتزوج, وإني إن تزوجت أحسنت إلى امرأتي » , هذا التعريض.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: يقول: « لأعطينك, لأحسنن إليك, لأفعلن بك كذا وكذا. »

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، أخبرني عبد الرحمن بن القاسم في قوله: « فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: قول الرجل للمرأة في عدتها يعرض بالخطبة: « والله إني فيك لراغب, وإني عليك لحريص » , ونحو هذا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول: « فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، هو قول الرجل للمرأة: « إنك لجميلة, وإنك لنافقة, وإنك إلى خير » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: كيف يقول الخاطب؟ قال: يعرض تعريضا، ولا يبوح بشيء. يقول: « إن لي حاجة، وأبشري, وأنت بحمد الله نافقة » , ولا يبوح بشيء. قال عطاء: وتقول هي: « قد أسمع ما تقول » ، ولا تعده شيئا, ولا تقول: « لعل ذاك » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن يحيى بن سعيد قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم يقول في المرأة يتوفى عنها زوجها, والرجل يريد خطبتها ويريد كلامها، ما الذي يجمل به من القول؟ قال يقول: « إني فيك لراغب, وإني عليك لحريص, وإني بك لمعجب » , وأشباه هذا من القول.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد, عن إبراهيم في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: لا بأس بالهدية في تعريض النكاح.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة قال: كان إبراهيم لا يرى بأسا أن يهدي لها في العدة، إذا كانت من شأنه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال يقول: « إنك لنافقة, وإنك لمعجبة, وإنك لجميلة » وإن قضى الله شيئا كان « . »

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: كان إبراهيم النخعي يقول: « إنك لمعجبة, وإني فيك لراغب » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني - يعني شبيبا- عن سعيد, عن شعبة, عن منصور, عن الشعبي أنه قال في هذه الآية: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: لا تأخذ ميثاقها ألا تنكح غيرك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: كان أبي يقول: كل شيء كان، دون أن يعزما عقدة النكاح, فهو كما قال الله تعالى ذكره: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال حدثنا زيد جميعا, عن سفيان قوله: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، والتعريض فيما سمعنا أن يقول الرجل وهي في عدتها: « إنك لجميلة, إنك إلى خير, إنك لنافقة, إنك لتعجبيني » , ونحو هذا, فهذا التعريض.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عبد الرحمن بن سليمان, عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي, فقال: يا ابنة حنظلة، أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام. فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي, وأنت يؤخذ عنك! فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي! قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة, فتوفي عنها, فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منـزلته من الله وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شده تحامله على يده, فما كانت تلك خطبة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » ، قال: لا جناح على من عرض لهن بالخطبة قبل أن يحللن، إذا كنوا في أنفسهن من ذلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أييه أنه كان يقول في قول الله تعالى ذكره: « ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء » : أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدة من وفاة زوجها: « إنك علي لكريمة, وإني فيك لراغب, وإن الله سائق إليك خيرا ورزقا » , ونحو هذا من الكلام.

قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في معنى « الخطبة » .

فقال بعضهم: « الخطبة » الذكر, و « الخطبة » : التشهد.

وكأن قائل هذا القول، تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال: لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا , لأنه لما قال: « ولا جناح عليكم » , كأنه قال: اذكروهن, ولكن لا تواعدوهن سرا.

وقال آخرون منهم: « خطبه، خطبة وخطبا » . قال: وقول الله تعالى ذكره: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [ سورة طه: 95 ] ، يقال إنه من هذا. قال: وأما « الخطبة » فهو المخطوب [ به ] ، من قولهم: « خطب على المنبر واختطب » .

قال أبو جعفر: « والخطبة » عندي هي « الفعلة » من قول القائل: « خطبت فلانة » ك « الجلسة » ، من قوله: « جلس » أو « القعدة » من قوله « قعد » .

ومعنى قولهم: « خطب فلان فلانة » ، سألها خطبه إليها في نفسها, وذلك حاجته, من قولهم: « ما خطبك » ؟ بمعنى: ما حاجتك، وما أمرك؟

وأما « التعريض » ، فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفهم ما يفهم بصريحه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أو أكننتم في أنفسكم » ، أو أخفيتم في أنفسكم, فأسررتموه، من خطبتهن، وعزم نكاحهن وهن في عددهن, فلا جناح عليكم أيضا في ذلك، إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله.

يقال منه: « أكن فلان هذا الأمر في نفسه, فهو يكنه إكنانا » ، و « كنه » ، إذا ستره، « يكنه كنا وكنونا » , و « جلس في الكن » ولم يسمع « كننته في نفسي » ، وإنما يقال: « كننته في البيت أو في الأرض » ، إذا خبأته فيه, ومنه قوله تعالى ذكره: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [ سورة الصافات: 49 ] ، أي مخبوء, ومنه قول الشاعر:

ثــلاث مــن ثــلاث قداميــات مــن اللائـي تكـن مـن الصقيـع

و « تكن » بالتاء، وهو أجود، و « يكن » . ويقال: « أكنته ثيابه من البرد » « وأكنه البيت من الريح » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو أكننتم في أنفسكم » ، قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « أو أكننتم في أنفسكم » ، قال: أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول, فذكر نحوه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أو أكننتم في أنفسكم » ، قال: جعلت في نفسك نكاحها وأضمرت ذلك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان: « أو أكننتم في أنفسكم » ، أن يسر في نفسه أن يتزوجها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف, عن الحسن في قوله: « أو أكننتم في أنفسكم » ، قال: أسررتم.

قال أبو جعفر: وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح، منه. وإذا كان ذلك كذلك، تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به, وأن الحد بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة، نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها. وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك، الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.

 

القول في تأويل قوله : عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم، كما: -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن: « علم الله أنكم ستذكرونهن » ، قال: الخطبة.

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في قوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ، قال: ذكرك إياها في نفسك. قال: فهو قول الله: « علم الله أنكم ستذكرونهن » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن في قوله: « علم الله أنكم ستذكرونهن » ، قال: هي الخطبة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « السر » الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به.

فقال بعضهم: هو الزنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا همام, عن صالح الدهان, عن جابر بن زيد: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: الزنا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن أبي مجلز قوله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » قال: الزنا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سليمان التيمي, عن أبي مجلز مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن أبي مجلز: « ولكن لا تواعدوهن سرا » قال: الزنا قيل لسفيان التيمي: ذكره؟ قال: نعم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر, عن أبيه, عن رجل, عن الحسن في المواعدة مثل قولة أبي مجلز.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم, عن الحسن قال: الزنا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا أشعث وعمران, عن الحسن مثله.

حدثنا ابن بشار قال حدثنا، عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان, عن السدي قال: سمعت إبراهيم يقول: « لا تواعدوهن سرا » قال: الزنا.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن إبراهيم مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « لا تواعدوهن سرا » قال: الزنا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن: « ولكن لا تواعدوهن سرا » قال: الزنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة, عن الحسن في قوله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » قال: الفاحشة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك وحدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر عن الضحاك: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: السر: الزنا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: فذلك السر: الريبة. كان الرجل يدخل من أجل الريبة وهو يعرض بالنكاح, فنهى الله عن ذلك إلا من قال معروفا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور, عن الحسن وجويبر, عن الضحاك وسليمان التيمي, عن أبي مجلز أنهم قالوا: الزنا.

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، للفحش والخضع من القول.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن الحسن: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: هو الفاحشة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « لا تواعدوهن سرا » ، يقول: لا تقل لها: « إني عاشق, وعاهديني أن لا تتزوجي غيري » , ونحو هذا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير في قوله: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: لا يقاضها على كذا وكذا أن لا تتزوج غيره.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل, عن جابر، عن عامر. ومجاهد وعكرمة قالوا: لا يأخذ ميثاقها في عدتها، أن لا تتزوج غيره.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور قال: ذكر في عن الشعبي أنه قال في هذه الآية: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن الشعبي: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: لا يأخذ ميثاقها في أن لا تتزوج غيره.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: سمعته يقول في قوله: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك, ولا يوجب العقدة حتى تنقضي العدة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن الشعبي: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: لا يأخذ عليها ميثاقا أن لا تتزوج غيره.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولكن لا تواعدهن سرا » ، يقول: « أمسكي علي نفسك, فأنا أتزوج » ويأخذ عليها عهدا « لا تنكحي غيري » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تتزوج غيره, فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف, ونهى عن الفاحشة والخضع من القول.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران, وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: إن تواعدها سرا على كذا وكذا، « على أن لا تنكحي غيري » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « لا تواعدوهن سرا » ، قال: موعدة السر أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا أن تحبس نفسها عليه, ولا تنكح غيره.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل: « لا تسبقيني بنفسك » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن أبن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: قول الرجل للمرأة: « لا تفوتيني بنفسك, فإني ناكحك » ، هذا لا يحل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن أبن أبي نجيح, عن مجاهد قال: هو قول الرجل للمرأة: « لا تفوتيني » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، قال: المواعدة أن يقول: « لا تفوتيني بنفسك » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، أن يقول: « لا تفوتيني بنفسك » .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سرا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » يقول: لا تنكحوهن سرا, ثم تمسكها، حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكن تواعدوهن سرا » ، قال: كان أبي يقول: لا تواعدوهن سرا, ثم تمسكها, وقد ملكت عقدة نكاحها, فإذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك, تأويل من قال: « السر » ، في هذا الموضع، الزنا. وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة « سرا » , لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه, فيسمى لخفائه « سرا » ، من ذلك قوله رؤبة بن العجاج:

فعـف عـن أسـرارها بعـد العسـق ولــم يضعهـا بيـن فـرك وعشـق

يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك، ومنه قول الحطيئة:

ويحــرم ســر جــارتهم عليهـم ويــأكل جــارهم أنـف القصـاع

وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه: « سرا » . ويقال: « هو في سر قومه » , يعني: في خيارهم وشرفهم.

فلما كان « السر » إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة, وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » ، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو « السر » الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعد بين المتواعدين، « والسر » الذي بمعنى الغشيان والجماع.

فلما لم يبق غيرهما, وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به، صح أن الآخر هو المعني به.

فإن قال [ قائل ] : فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا، غير معني به على ما قال من قال إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره, أو على ما قال من قال: قول الرجل لها: « لا تسبقيني بنفسك » ؟

قيل: لأن « السر » إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك, فلن يخلو ذلك « السر » من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره أو يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه، بعد انقضاء عدتها، وبعد عقده له، دون الناس غيره. فإن كان « السر » الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات، هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره, فقد بطل أن يكون « السر » معناه: ما أخفى من الأمور في النفوس, أو نطق به فلم يطلع عليه, وصارت العلانية من الأمر سرا. وذلك خلاف المعقول في لغة من نـزل القرآن بلسانه.

إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن, لا أن نفس الكلام بذلك - وإن كان قد أعلن- سر.

فيقال له إن قال ذلك: فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية, إذ كان المنهي عنه من المواعدة، إنما هو ما كان منها سرا.

فإن قال: إن ذلك كذلك، خرج من قول جميع الأمة. على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأول الآية أن « السر » ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد.

وإن قال: ذلك غير جائز.

قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة. لأن معنى ذلك، لو كان كذلك، لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية. وفي كون ذلك عليه محرما سرا وعلانية، ما أبان أن معنى « السر » في هذا الموضع، غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها أو يكون، إذا بطل هذا الوجه، معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره. فذلك إذا كان, فإنما يكون بولي وشهود علانية غير سر. وكيف يجوز أن يسمى سرا، وهو علانية لا يجوز إسراره؟

وفي بطول هذه الأوجه أن يكون تأويلا لقوله: « ولكن لا تواعدوهن سرا » بما عليه دللنا من الأدلة، وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع.

وإذ كان ذلك صحيحا, فتأويل الآية: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما عرضتم به للمعتدات من وفاة أزوجهن، من خطبة النساء، وذلك حاجتكم إليهن, فلم تصرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن، إذا أكننتم في أنفسكم, فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكم إياهن في أنفسكم، ما دمن في عددهن؛ علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن، فأباح لكم التعريض بذلك لهن, وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم - حكم منه ولكن حرم عليكم أن تواعدوهن جماعا في عددهن, بأن يقول أحدكم لإحداهن في عدتها: « قد تزوجتك في نفسي, وإنما أنتظر انقضاء عدتك » , فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة, فحرم الله تعالى ذكره ذلك.

 

القول في تأويل قوله : إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا

قال أبو جعفر: ثم قال تعالى ذكره: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، فاستثنى القول المعروف مما نهى عنه, من مواعدة الرجل المرأة السر, وهو من غير جنسه، ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل: أن يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة, وتكون « إلا » فيه بمعنى « لكن » ، فقوله: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » منه- ومعناه: ولكن قولوا قولا معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدتها، وذلك هو ما أذن له بقوله: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ، كما: -

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال: يقول: إني فيك لراغب, وإني لأرجو أن نجتمع.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال: هو قوله: « إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال: يعني التعريض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال: يعني التعريض.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ إلى حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، قال: هو الرجل يدخل على المرأة وهي في عدتها فيقول: « والله إنكم لأكفاء كرام, وإنكم لرغبة، وإنك لتعجبيني, وإن يقدر شيء يكن » . فهذا القول المعروف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران, وحدثني علي قال، حدثنا زيد- قالا جميعا، قال سفيان: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال يقول: « إني فيك لراغب, وإني أرجو إن شاء الله أن نجتمع » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال يقول: « إن لك عندي كذا, ولك عندي كذا, وأنا معطيك كذا وكذا » . قال: هذا كله وما كان قبل أن يعقد عقدة النكاح, فهذا كله نسخه قوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك: « إلا أن تقولوا قولا معروفا » ، قال: المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها, فيأتيها الرجل فيقول: « احبسي علي نفسك, فإن لي بك رغبة, فتقول: » وأنا مثل ذلك « ، فتتوق نفسه لها. فذلك القول المعروف. »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولا تعزموا عقدة النكاح » ، ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة, فتوجبوها بينكم وبينهن, وتعقدوها قبل انقضاء العدة « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، يعني: يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فجعل بلوغ الأجل للكتاب، والمعنى للمتناكحين، أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة، فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها, فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها، كما: -

حدثنا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, وحدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن ليث, عن مجاهد: « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: حتى تنقضي العدة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: حتى تنقضي العدة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: تنقضي العدة.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: « ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: حتى تنقضي العدة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: لا يتزوجها حتى يخلو أجلها.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق, عن الشعبي في قوله: « ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: مخافة أن تتزوج المرأة قبل انقضاء العدة.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله » ، حتى تنقضي العدة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان قوله: « حتى يبلغ الكتاب أجله » ، قال: حتى تنقضي العدة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 235 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واعلموا، أيها الناس، أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم، فاحذروه. يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه، من عزم عقدة نكاحهن، أو مواعدتهن السر في عددهن, وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات, وفي غير ذلك « واعلموا أن الله غفور » ، يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها، فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتدات، وذكرهم إياهن في حال عددهن, وفي غير ذلك من خطاياهم وقوله: « حليم » ، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.

 

القول في تأويل قوله : لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « لا جناح عليكم » ، لا حرج عليكم إن طلقتم النساء.

يقول: لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم، « ما لم تماسوهن » ، يعني بذلك: ما لم تجامعوهن.

« والمماسة » ، في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع، كما: -

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قالا جميعا، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: المس الجماع, ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: المس: النكاح.

قال أبو جعفر: وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والبصرة: « ما لم تمسوهن » ، بفتح « التاء » من « تمسوهن » , بغير « ألف » ، من قولك: مسسته أمسه مسا ومسيسا ومسيسى « مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك، إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [ سورة آل عمران: 47، سورة مريم: 20 ] . »

وقرأ ذلك آخرون: « ما لم تماسوهن » ، بضم « التاء والألف » بعد « الميم » ، إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ سورة المجادلة: 3 ] ، وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك: « ماسست الشيء أماسه مماسة ومساسا. »

قال أبو جعفر: والذي نرى في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متفقتا التأويل, وإن كان في إحداهما زيادة معنى، غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم.

وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له: « مسست زوجتي » ، أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماس، ما لاقاه مثله من بدن الماس. فكل واحد منهما وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي ماس صاحبه معقول بذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه. فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين مع اتفاق معانيهما, وكثرة القرأة بكل واحدة منهما بأنها أولى بالصواب من الأخرى, بل الواجب أن يكون القارئ، بأيتهما قرأ، مصيب الحق في قراءته.

قال أبو جعفر: وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: « لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن » ، المطلقات قبل الإفضاء إليهن في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا أن ذلك كذلك, لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين: إما مسمى لها الصداق, أو غير مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره، أن المعنية بقوله: « لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن » ، إنما هي المسمى لها. لأن المعنية بذلك، لو كانت غير المفروض لها الصداق، لما كان لقوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، معنى معقول. إذ كان لا معنى لقول قائل: « لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه، أو ما لم تفرضوا لهن فريضة » . فإذا كان لا معنى لذلك, فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تماسوهن, وغير المفروض لهن قبل الفرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أو تفرضوا لهن » ، أو توجبوا لهن. وبقوله: « فريضة » ، صداقا واجبا. كما: -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « أو تفرضوا لهن فريضة » ، قال: الفريضة: الصداق.

وأصل « الفرض » : الواجب, كما قال الشاعر:

كــانت فريضــة مـا أتيـت كمـا كــان الزنــاء فريضــة الرجـم

يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا. ولذلك قيل: « فرض السلطان لفلان ألفين » , يعني بذلك: أوجب له ذلك، ورزقه من الديوان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ومتعوهن » ، وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم، على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار.

ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك.

فقال بعضهم: أعلاه الخادم, ودون ذلك الورق, ودونه الكسوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم, ودون ذلك الورق, ودون ذلك الكسوة.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن أمية, عن عكرمة, عن ابن عباس بنحوه.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن داود, عن الشعبي قوله: « ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » ، قلت له: ما أوسط متعة المطلقة؟ قال: خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين » ، فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها, فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره. فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك, وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي في قوله: « ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » ، قال: قلت للشعبي: ما وسط ذلك؟ قال: كسوتها في بيتها، ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها.

قال الشعبي: فكان شريح يمتع بخمسمئة.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عامر: أن شريحا كان يمتع بخمسمئة، قلت لعامر: ما وسط ذلك؟ قال: ثيابها في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن عمار الشعبي أنه قال: وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا داود, عن الشعبي: أن شريحا متع بخمسمئة. وقال الشعبي: وسط من المتعة، درع وخمار وجلباب وملحفة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ » ، قال: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا, ثم يطلقها قبل أن يدخل بها, فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب، درع وخمار، وجلباب وإزار.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ حتى بلغ: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا, ثم يطلقها قبل أن يدخل بها, فلها متاع بالمعروف, ولا فريضة لها. وكان يقال: إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن صالح بن صالح، قال: سئل عامر: بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله.

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا شعبة, عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت: كأني أنظر إلى جارية سوداء، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها.

قيل لشعبة: ما « حممها » ؟ قال. متعها.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سعد بن إبراهيم, عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه، بنحوه, عن عبد الرحمن بن عوف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين قال، كان يمتع بالخادم، أو بالنفقة أو الكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال: بعشرة آلاف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن سعد بن إبراهيم: أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم.

حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري, عن سعيد بن أبي أيوب قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب: أنه كان يقول في متعة المطلقة: أعلاه الخادم، وأدناه الكسوة والنفقة. ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره »

وقال آخرون: مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده. وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله: من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره, كما قال الله تعالى ذكره: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » ، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » ، معنى مفهوم ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.

وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره, لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها، ما يبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثلها المال العظيم, والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا, فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه, فكيف المقدور عليه؟ وإذا فعل ذلك به, كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » - ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره, لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها, إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها, وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك, قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله. « ومتعوهن » ، هل هو على الوجوب, أو على الندب؟

فقال بعضهم: هو على الوجوب، يقضى بالمتعة في مال المطلق, كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره. وقالوا: ذلك واجب عليه لكل مطلقة، كائنة من كانت من نسائه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن وأبو العالية يقولان: لكل مطلقة متاع, دخل بها أو لم يدخل بها، وإن كان قد فرض لها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس: أن الحسن كان يقول: لكل مطلقة متاع, وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب, عن سعيد عن جبير في هذه الآية: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ سورة البقرة: 241 ] ، قال: كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: لكل مطلقة متاع.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: كان أبو العالية يقول: لكل مطلقة متعة. وكان الحسن يقول: لكل مطلقة متعة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة قال، سئل الحسن, عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها: هل لها متاع؟ قال الحسن: نعم والله! فقيل للسائل وهو أبو بكر الهذلي أو ما تقرأ هذه الآية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ؟ قال: نعم والله!

وقال آخرون: المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة, ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق. فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها, فإنها لا متعة لها, وإنما لها نصف الصداق المسمى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله, عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: لكل مطلقة متعة, إلا التي طلقها ولم يدخل بها، وقد فرض لها, فلها نصف الصداق، ولا متعة لها.

حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عبد الله بن نمير, عن عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر بنحوه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب- في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها- أنه قال في المتاع: قد كان لها المتاع في الآية التي في « الأحزاب » ، فلما نـزلت الآية التي في « البقرة » , جعل لها النصف من صداقها إذا سمى, ولا متاع لها, وإذا لم يسم فلها المتاع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد نحوه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول: إذا لم يدخل بها جعل لها في « سورة الأحزاب » المتاع, ثم أنـزلت الآية التي في « سورة البقرة » : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها، وكان قد سمى لها صداقا, فجعل لها النصف ولا متاع لها.

حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ [ سورة الأحزاب: 49 ] الآية التي في « البقرة » .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حميد, عن مجاهد قال: لكل مطلقة متعة, إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد- في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها, قال: ليس لها متعة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها، ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فلها نصف الصداق، ولا متاع لها. وإذا لم يفرض لها، فإنما لها المتاع.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع: عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها, هل لها متاع؟ قال: كان عطاء يقول: لا متاع لها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر- في التي فرض لها ولم يدخل بها, قال: إن طلقت، فلها نصف الصداق ولا متعة لها.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن إبراهيم: أن شريحا كان يقول - في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد سمى لها صداقا- قال: لها في النصف متاع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن, عن شعبة, عن الحكم, عن إبراهيم, عن شريح قال: لها في النصف متاع.

وقال آخرون: المتعة حق لكل مطلقة, غير أن منها ما يقضى به على المطلق, ومنها ما لا يقضى به عليه, ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري قال: متعتان، إحداهما يقضى بها السلطان, والأخرى حق على المتقين: من طلق قبل أن يفرض ويدخل، فإنه يؤخذ بالمتعة، فإنه لا صداق عليه. ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض، فالمتعة حق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث, عن يونس, عن ابن شهاب، قال الله: « لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ » ، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها, ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها, فليس عليه إلا متاع بالمعروف، يفرض لها السلطان بقدر, وليس عليها عدة. وقال الله تعالى ذكره: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، فإذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسسها, فلها نصف صداقها, ولا عدة عليها.

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، أخبرنا زهير, عن معمر, عن الزهري أنه قال: متعتان يقضى بإحداهما السلطان، ولا يقضى بالأخرى: فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين, والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين.

وقال آخرون: لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق, وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم: أن رجلا طلق امرأته, فخاصمته إلى شريح, فقرأ الآية: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ سورة البقرة: 241 ] ، قال: إن كنت من المتقين، فعليك المتعة. ولم يقض لها. قال شعبة: وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن محمد قال: كان شريح يقول في متاع المطلقة، لا تأب أن تكون من المحسنين, لا تأب أن تكون من المتقين.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها: إن كنت من المتقين فمتع.

قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا للمطلقات، إلى أن قول الله تعالى ذكره: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، وقوله: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم, بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس.

وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق, فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، كان ذلك دليلا على أن لكل مطلقة متاعا سوى من استثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها, لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس، فيما لها على الزوج من الحقوق.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي، قول من قال: « لكل مطلقة متعة » ، لأن الله تعالى ذكره قال: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنـزيل عام، إلى باطن خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها.

فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس، إذا كان مفروضا لها، بقوله: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة؟

قيل: إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنـزيله, ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه، الكفاية عن تكريره, حتى يدل على بطول فرضه. وقد دل بقوله، وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، على وجوب المتعة لكل مطلقة, فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها، دلالة على بطول المتعة عنه. لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ والمتعة. فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة, ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا. وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها, وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى ثبت وصح وجوبهما لها.

هذا، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل المسيس، دلالة غير قول الله تعالى ذكره: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره: « لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ » ، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء: أحدهما المفروض له, والآخر غير المفروض له. وذلك أنه لما قال: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس. لأنه قال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ثم قال تعالى ذكره: « ومتعوهن » ، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا، المفروض لهن, وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين, سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير, ثم عكس عليه القول في ذلك. فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

قال أبو جعفر: وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب، إذا طلقت، على زوجها المطلقها، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها, لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه, أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله، يحبس بها إن طلقها فيها، إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه، إذا امتنع من إعطائها ذلك.

وإنما قلنا ذلك, لأن الله تعالى ذكره قال: « ومتعوهن ، » فأمر الرجال أن يمتعوهن, وأمره فرض، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد، لما قد بينا في كتابنا المسمى ( بلطيف البيان عن أصول الأحكام ) , لقوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ . ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك: وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك, فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل، من أداء أو إبراء على ما قد بينا.

فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ و حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، أنها غير واجبة، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن, والمتقي وغير المتقي فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين, وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى, فهو على غيرهم أوجب, ولهم ألزم.

وبعد, فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله: « ومتعوهن » ، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره فيما أوجب لهما من ذلك الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وإن كان قال: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ .

ومن أنكر ما قلنا في ذلك, سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس. فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة، ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة, والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة, وما أشبه ذلك. فإن أوجب ذلك لها, سئل الفرق بين وجوب ذلك لها, والوجوب لكل مطلقة, وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين, كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين. فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

قال أبو جعفر: واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس, لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة.

* ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم:

حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها, فليس لها إلا المتاع.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن يونس قال، قال الحسن: إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها, فليس لها إلا المتاع.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب, عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها, فإنما لها المتاع.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث, عن يونس, عن ابن شهاب قال: إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها, ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها, فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً قال: ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: ولا متاع إلا بالمعروف.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ إلى: « ومتعوهن » قال: هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها, فإنما عليه المتعة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال في هذه الآية: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا, ثم يطلقها قبل أن يدخل بها, فلها متاع بالمعروف, ولا فريضة لها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، [ حدثنا عبيد بن سليمان قال ] ، سمعت الضحاك يقول في قوله: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، هذا رجل وهبت له امرأته، فطلقها من قبل أن يمسها, فلها المتعة ولا فريضة لها, وليست عليها عدة.

قال أبو جعفر: وأما « الموسع » , فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى, يقال منه: « أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع » .

وأما « المقتر » ، فهو المقل من المال, يقال: « قد أقتر فهو يقتر إقتارا, وهو مقتر » .

واختلف القرأة في قراءة « القدر » .

فقرأه بعضهم: « على الموسع قدره وعلى المقتر قدره » . بتحريك « الدال » إلى الفتح من « القدر » , توجيها منهم ذلك إلى الاسم من « التقدير » , الذي هو من قول القائل: « قدر فلان هذا الأمر » .

وقرأ آخرون بتسكين « الدال » منه, توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك, كما قال الشاعر.

ومـا صـب رجـلي في حديد مجاشع مـع القـدر, إلا حاجـة لـي أريدهـا

والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة, ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى, بل هما متفقتا المعنى. فبأي- القراءتين قرأ القارئ ذلك, فهو للصواب مصيب.

وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها. وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة, فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا حرج عليكم، أيها الناس، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن، وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن, ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته, وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( 236 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومتعوهن متاعا. وقد يجوز أن يكون « متاعا » منصوبا قطعا من « القدر » . لأن « المتاع » نكرة, و « القدر » معرفة.

ويعني بقوله: « بالمعروف » ، بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك، بغير ظلم, ولا مدافعة منكم لهن به.

ويعني بقوله: « حقا على المحسنين » ، متاعا بالمعروف الحق على المحسنين. فلما دل إدخال « الألف واللام » على « الحق » , وهو من نعت « المعروف » , و « المعروف » معرفة, و « الحق » نكرة، نصب على القطع منه، كما يقال: « أتاني الرجل راكبا » .

وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله, كقول القائل: « عبد الله عالم حقا » , ف « الحق » منصوب من نية كلام المخبر، كأنه قال: أخبركم بذلك حقا.

والتأويل الأول هو وجه الكلام, لأن معنى الكلام: فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا.

وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى: أحق ذلك حقا. والذي قاله من ذلك، بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة. لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواجهن , فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين. فتأويل الكلام إذا- إذ كان الأمر كذلك- : ومتعوهن على الموسع قدره, وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين.

ويعني بقوله: « المحسنين » ، الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به, وأدائهم ما كلفهم من فرائضه.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إنك قد ذكرت أن « الجناح » هو الحرج، وقد قال الله تعالى ذكره: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس, فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس؟ قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات » .

حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى, عن سعيد, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ما بال أقوام يلعبون بحدود الله, يقولون: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك » .

حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي بردة, عن أبيه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فجائز أن يكون « الجناح » الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس, هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن, كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كان بعضهم يقول: معنى قوله في هذا الموضع: لا جُنَاحَ ، لا سبيل عليكم للنساء- إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن, ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة - في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء: أحدهما المفروض لها, والآخر غير المفروض لها. فإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لأن يقال: لا سبيل لهن عليكم في صداق، إذا كان الأمر على ما وصفنا.

وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر: وهو أن يكون معناه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن, في أي وقت شئتم طلاقهن. لأنه لا سنة في طلاقهن, فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب. وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء- إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه. فيكون « الجناح » الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها، هو « الجناح » الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها، أو في طهر قد جامعها فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ

قال أبو جعفر: وهذا الحكم من الله تعالى ذكره، إبانة عن قوله: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً . وتأويل ذلك: لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن وقد فرضتم لهن فريضة, فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاكم إياهن, يعني بذلك: فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن.

وإنما قلنا: إن تأويل ذلك كذلك، لما قد قدمنا البيان عنه من أن قوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، بيان من الله تعالى ذكره لعباده حكم غير المفروض لهن إذا طلقهن قبل المسيس. فكان معلوما بذلك أن حكم اللواتي عطف عليهن ب « أو » ، غير حكم المعطوف بهن بها.

وإنما كرر تعالى ذكره قوله: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة » ، وقد مضى ذكرهن في قوله: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ليزول الشك عن سامعيه واللبس عليهم، من أن يظنوا أن التي حكمها الحكم الذي وصفه في هذه الآية، هي غير التي ابتدأ بذكرها وذكر حكمها في الآية التي قبلها.

وأما قوله: « إِلا أَنْ يَعْفُونَ » ، فإنه يعني: إلا أن يعفو اللواتي وجب لهن عليكم نصف تلك الفريضة، فيتركنه لكم, ويصفحن لكم عنه تفضلا منهن بذلك عليكم, إن كن ممن يجوز حكمه في ماله وهن بوالغ رشيدات, فيجوز عفوهن حينئذ ما عفون عنكم من ذلك, فيسقط عنكم ما كن عفون لكم عنه منه. وذلك النصف الذي كان وجب لهن من الفريضة بعد الطلاق وقيل العفو إن عفت عنه- أو ما عفت عنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قالة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ » ؛ فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقا, ثم يطلقها من قبل أن يمسها, فلها نصف صداقها, ليس لها أكثر من ذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ » ، قال: إن طلق الرجل امرأته وقد فرض لها، فنصف ما فرض, إلا أن يعفون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها وقد كان سمى لها صداقا, فجعل لها النصف ولا متاع لها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » ، قال: هو الرجل يتزوج المرأة وقد فرض لها صداقا ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فلها نصف ما فرض لها, ولها المتاع, ولا عدة عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث، عن يونس, عن ابن شهاب: « وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم » ، قال: إذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسها, فلها نصف صداقها ولا عدة عليها.

* ذكر من قال في قوله: « إلا أن يعفون » القول الذي ذكرناه من التأويل:

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك, قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول: إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها, فنصف الفريضة لها عليه, إلا أن تعفو عنه فتتركه.

حدثنا عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا أن يعفون » ، قال: المرأة تترك الذي لها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « إلا أن يعفون » ، هي المرأة الثيب أو البكر يزوجها غير أبيها, فجعل الله العفو إليهن: إن شئن عفون فتركن, وإن شئن أخذن نصف الصداق.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إلا أن يعفون » ، تترك المرأة شطر صداقها, وهو الذي لها كله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « إلا إذ يعفون » ، قال: المرأة تدع لزوحها النصف.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عبد الله بن عون, عن محمد بن سيرين, عن شريح: « إلا أن يعفون » ، قال: إن شاءت المرأة عفت فتركت الصداق.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون, عن محمد بن سيرين, عن شريح مثله.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله, عن نافع قوله: « إلا أن يعفون » ، هي المرأة يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها, فتعفو عن النصف لزوجها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إلا أن يعفون » ، أما أن « يعفون » ، فالثيب أن تدع من صداقها، أو تدعه كله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث, عن يونس, عن ابن شهاب: « إلا أن يعفون » ، قال: العفو إليهن، إذا كانت المرأة ثيبا فهي أولى بذلك, ولا يملك ذلك عليها ولي، لأنها قد ملكت أمرها. فإن أرادت أن تعفو فتضع له نصفها الذي عليه من حقها، جاز ذلك. وإن أرادت أخذه، فهي أملك بذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا معمر قال، وحدثني ابن شهاب: « إلا أن يعفون » ، قال: النساء.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي صالح: « إلا أن يعفون » ، قال: الثيب تدع صداقها.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل, عن الشعبي, عن شريح: « إلا أن يعفون » ، قال قال: تعفو المرأة عن الذي لها كله.

قال أبو جعفر: ما سمعت أحدا يقول: « حماد بن زيد بن أسامة » ، إلا أبا هشام.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبدة, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال: إن شاءت عفت عن صداقها يعني في قوله: « إلا أن يعفون » .

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي حصين, عن شريح قال: تعفو المرأة وتدع نصف الصداق.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن جريج قال، قال الزهري: « إلا أن يعفون » ، الثيبات.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: « إلا أن يعفون » ، قال: تترك المرأة شطرها.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إلا أن يعفون » ، يعني النساء.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « إلا أن يعفون » ، إن كانت ثيبا عفت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري قوله: « إلا أن يعفون » ، يعني المرأة.

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران جميعا, عن سفيان: « إلا أن يعفون » ، قال: المرأة إذا لم يدخل بها: أن تترك له المهر, فلا تأخذ منه شيئا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله: « الذي بيده عقدة النكاح » .

فقال بعضهم: هو ولي البكر. وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن جريج, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: أذن الله في العفو وأمر به, فإن عفت فكما عفت, وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، وهو أبو الجارية البكر, جعل الله سبحانه العفو إليه, ليس لها معه أمر إذا طلقت، ما كانت في حجره.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الولي.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, قال، قال علقمة: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة أنه قال: هو الولي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر, عن حجاج, عن النخعي, عن علقمة قال: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله, عن بيان النحوي، عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة وأصحاب عبد الله قالوا: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة أنه قال: هو الولي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر, عن حجاج, أن الأسود بن زيد, قال: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد, عن شعبة, عن أبي بشر قال: قال طاوس ومجاهد: هو الولي ثم رجعا فقالا هو الزوج.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر قال، قال مجاهد وطاوس: هو الولي ثم رجعا فقالا هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة قال: هو الولي.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي قال: زوج رجل أخته, فطلقها زوجها قبل أن يدخل بها, فعفا أخوها عن المهر, فأجازه شريح ثم قال: أنا أعفو عن نساء بني مرة. فقال عامر: لا والله، ما قضى قضاء قط أحق منه: أن يجيز عفو الأخ في قوله: « إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، فقال فيها شريح بعد: هو الزوج، إن عفا عن الصداق كله فسلمه إليها كله, أو عفت هي عن النصف الذي سمى لها, وإن تشاحا كلاهما أخذت نصف صداقها, قال: « وأن تعفوا هو أقرب للتقوى » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم, عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: هو الولي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، قال مغيرة، أخبرنا عن الشعبي, عن شريح أنه كان يقول: الذي بيده عقدة النكاح هو الولي - ثم ترك ذلك فقال: هو الزوج.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيار, عن الشعبي: أن رجلا تزوج امرأة فوجدها دميمة فطلقها قبل أن يدخل بها, فعفا وليها عن نصف الصداق، قال: فخاصمته إلى شريح فقال لها شريح: قد عفا وليك. قال: ثم إنه رجع بعد ذلك, فجعل الذي بيده عقدة النكاح: الزوج.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن - في الذي بيده عقدة النكاح - قال: الولي.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم, عن منصور أو غيره, عن الحسن, قال: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن الحسن قال: هو الولي.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن الذي بيده عقدة النكاح، قال: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن, قال: هو الذي أنكحها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح, هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع وابن مهدي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قال: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي, عن أبي عوانة, عن مغيرة, عن إبراهيم والشعبي قالا هو الولي.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء قال: هو الولي.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي صالح: « أو يعفو الذي بيد عقدة النكاح » ، قال: ولي العذراء.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن جريج قال: قال لي الزهري: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، ولي البكر.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، هو الولي.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس, عن أبيه وعن رجل, عن عكرمة قال معمر: وقاله الحسن أيضا قالوا: الذي بيده عقدة النكاح، الولي.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري قال: الذي بيده عقدة النكاح، الأب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور, عن إبراهيم عن علقمة قال: هو الولي.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن مجاهد قال: هو الولي.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذي بيده عقدة النكاح » ، هو ولي البكر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - في الذي بيده عقدة النكاح- : الوالد ذكره ابن زيد عن أبيه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن مالك, عن زيد وربيعة: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الأب في ابنته البكر, والسيد في أمته.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك: وذلك إذا طلقت قبل الدخول بها, فله أن يعفو عن نصف الصداق الذي وجب لها عليه، ما لم يقع طلاق....

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث, عن يونس, عن ابن شهاب قال: الذي بيدة عقدة النكاح، هي البكر التي يعفو وليها, فيجوز ذلك, ولا يجوز عفوها هي.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول: إِلا أَنْ يَعْفُونَ ، أن تعفو المرأة عن نصف الفريضة لها عليه فتتركه. فإن هي شحت إلا أن تأخذه، فلها ولوليها الذي أنكحها الرجل عم، أو أخ، أو أب أن يعفو عن النصف, فإنه إن شاء فعل وإن كرهت المرأة.

حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به, فإن امرأة عفت جاز عفوها, وإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه. .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، الولي.

وقال آخرون: بل الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو شحمة قال، حدثنا حبيب, عن الليث, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن علي قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم, عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح فقال: هو الولي. فقال علي: لا ولكنه الزوج.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا قال: قال: قال لي علي: من الذي بيده عقدة النكاح؟ قلت: ولي المرأة. قال: لا بل هو الزوج.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس قال: هو الزوج.

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال: قلت لحماد بن سلمة: من الذي بيده عقده النكاح؟ فذكر عن علي بن زيد, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس قال: الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن ابن عباس وشريح قالا هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي, عن عبد الله بن جعفر, عن واصل بن أبي سعيد, عن محمد بن جبير بن مطعم: أن أباه تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فأرسل بالصداق وقال: أنا أحق بالعفو.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم تزوج امرأه, فطلقها قبل أن يبني بها، وأكمل لها الصداق, وتأوّل: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح »

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس, عن محمد بن عمرو, عن نافع, عن جبير: أنه طلق امرأته قبل أن يدخل بها, فأتم لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عبد الله بن عون, عن محمد بن سيرين, عن شريح: « أو يعفو الذي بيدة عقدة النكاح » ، قال: إن شاء الزوج أعطاها الصداق كاملا.

حدثنا حميد قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون, عن محمد بن سيرين بنحوه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عامر: أن شريحا قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. فرد ذلك عليه.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. قال، وقال إبراهيم: وما يدري شريحا!

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر قال، حدثنا حجاج, عن شريح قال: هو الزوج.

حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح قال: هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل, عن الشعبي, عن شريح: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، وهو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي حصين, عن شريح قال: « الذي بيده عقدة النكاح » ، قال: الزوج يتم لها الصداق.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن الشعبي, وعن الحجاج, عن الحكم, عن شريح, وعن الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح قال: هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل, عن الشعبي, عن شريح قال: هو الزوج، إن شاء أتم لها الصداق, وإن شاءت عفت عن الذي لها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن محمد قال: قال شريح: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن أيون, عن ابن سيرين, عن شريح: « أن يعفو الذي بيدة عقدة النكاح » ، قال: إن شاء الزوج عفا فكمل الصداق.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور, عن إبراهيم, عن شريح قال: هو الزوج.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن عبد الأعلى, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال: « الذي بيده عقدة النكاح » ، قال: هو الزوج.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبدة, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، قال: هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدى, عن حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: الزوج.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، زوجها: أن يتم لها الصداق كاملا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب وعن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وعن أيوب, وعن ابن سيرين, عن شريح قالوا: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج « أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، إتمام الزوج الصداق كله.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن جريج, عن عبد الله بن أبي مليكة قال، قال سعيد بن جبير: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير قال: « الذي بيده عقدة النكاح » ، هو الزوج. قال: وقال مجاهد وطاوس: هو الولي. قال قلت لسعيد: فإن مجاهدا وطاوسا يقولان: هو الولي؟ قال سعيد: « فما تأمرني إذا؟ » قال: أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة، أكان يجوز ذلك؟ فرجعت إليهما فحدثتهما, فرجعا عن قولهما وتابعا سعيدا.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حميد, عن الحسن بن صالح, عن سالم الأفطس, عن سعيد قال: هو الزوج.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد قال: هو الزوج وقال طاوس ومجاهد: هو الولي- فكلمتهما في ذلك حتى تابعا سعيدا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد بنحوه.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو الحسين, يعني زيد بن الحباب, عن أفلح بن سعيد قال، سمعت محمد بن كعب القرظي قال: هو الزوج، أعطى ما عنده عفوا.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود الطيالسي, عن زهير, عن أبي إسحاق, عن الشعبي قال: هو الزوج.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله, عن نافع قال: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج- « إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، قال: أما قوله: إِلا أَنْ يَعْفُونَ ، فهي المرأة التي يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها. فإما أن تعفو عن النصف لزوجها, وأما أن يعفو الزوج فيكمل لها صداقها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن المسعودي, عن القاسم قال: كان شريح يجاثيهم على الركب ويقول: هو الزوج.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة, عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج, يعفو أو تعفو « . »

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان, قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، قال: الزوج، وهذا في المرأة يطلقها زوجها ولم يدخل بها وقد فرض لها, فلها نصف المهر, فإن شاءت تركت الذي لها وهو النصف, وإن شاءت قبضته.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران, وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قال: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة, عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية: « إلا أن يعفون » ، النساء, فلا يأخذن شيئا « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج, فيترك ذلك فلا يطلب شيئا.

ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور قال، قال شريح في قوله: « إلا أن يعفون » ، قال: يعفو النساء « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعني بقوله: « الذي بيده عقدة النكاح » ، الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب, صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة, لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها, أو وهبه له أو عفا له عنه- أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل, وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها.

وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها, لو وهب لزوجها المطلقها بعد بينونتها منه درهما من مالها، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها, فحكمه حكم سائر أموالها.

وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها, وأن بعضهم لو عفا عن مالها [ لزوجها، قبل دخوله بها ] أو بعد دخوله بها - : إن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل, وإن حق المرأة ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنا من كان من الأولياء, والدا كان أو جدا أو خالا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه, إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.

ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن « الذي بيده عقدة النكاح » ، ولي المرأة: هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك: إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته, أو يكون ذلك بعضهم دون بعض؟ فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلا.

فإن قال: إن ذلك كذلك.

قيل له: فأي ذلك عني به؟

فإن قال: لكل ولي جاز له تزويج وليته.

قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟

فإن قال نعم!

قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس؟

فإن قال: نعم خرج من قول الجميع. وإن قال: لا! قيل له: ولم؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها؟

ثم يعكس القول عليه في ذلك, ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره.

وإن قال: لبعض دون بعض.

سئل البرهان على خصوص ذلك, وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضا دون بعض.

ويقال له: من المعني به، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟

فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم, سئل البرهان عليه, وعكس القول فيه، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها, والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة، فكان معلوما بذلك أن الزوج غير معني به، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج, صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي فقد غفل وظن خطأ.

وذلك أن معنى ذلك: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه, وإنما أدخلت « الألف واللام » في « النكاح » بدلا من الإضافة إلى « الهاء » التي كان « النكاح » - لو لم يكونا فيه مضافا إليها, كما قال الله تعالى ذكره: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ سورة النازعات: 41 ] ، بمعنى: فإن الجنة مأواه, وكما قال نابغة بني ذبيان:

لهـم شـيمة لـم يعطهـا اللـه غيرهم مـن النـاس, فـالأحلام غير عوازب

بمعنى: فأحلامهم غير عوازب. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.

فتأويل الكلام: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده لأن معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه الولي ولي المرأة. لأن ولي المرأة لا يملك عقدة نكاح المرأة بغير إذنها، إلا في حال طفولتها, وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها، في قول أكثر من رأى أن الذي بيده عقدة النكاح الولي. ولم يخصص الله تعالى ذكره بقوله: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » بعضا منهم, فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأولوه, لو كان لما قالوا في ذلك وجه.

وبعد, فإن الله تعالى ذكره إنما كنى بقوله: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ عن ذكر النساء اللاتي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها, وذلك قوله: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ، والصبايا لا يسمين « نساء » ، وإنما يسمين صبيا أو جواري, وإنما « النساء » في كلام العرب أجمع، اسم المرأة, ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة « امرأة » , كما لا تقول للصبي الصغير « رجل » .

وإذ كان ذلك كذلك, وكان قوله: « أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح » ، عند الزاعمين أنه الولي إنما هو: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما الصغر وإما السفه، والله تعالى ذكره إنما اقتص في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه, وجعل لهن العفو بقوله: إِلا أَنْ يَعْفُونَ كان معلوما بقوله: إِلا أَنْ يَعْفُونَ ، أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعض, إذ كان معلوما أن عفو من تولى عليه ماله منهن باطل.

وإذ كان ذلك كذلك, فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن, يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ، من العفو عما وهب لهن من الصداق بالطلاق قبل المسيس، مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار المولى عليهن أموالهن السفه. وفي إنكار القائلين: « إن الذي بيده عقدة النكاح الولي » , عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفنا, وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر- ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك.

ويسأل القائلون بقولهم في ذلك، الفرق بين ذلك من أصل أو نظير, فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في خلافه مثله.

 

القول في تأويل قوله : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: « وأن تعفوا أقرب للتقوى » .

فقال بعضهم: خوطب بذلك الرجال والنساء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت أبن جريج يحدث، عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس: « وأن تعفوا أقرب للتقوى » ، قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة, عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية: « وأن تعفوا أقرب للتقوى » ، قال: يعفون جميعا.

فتأويل الآية على هذا القول: وأن يعفوا، أيها الناس، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق, أقرب له إلى تقوى الله.

وقال آخرون: بل الذي خوطبوا بذلك أزواج المطلقات.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي: « وأن تعفوا أقرب للتقوى » ، : وأن يعفو هو أقرب للتقوى.

فتأويل ذلك على هذا القول: وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم, فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن, أو تتموا لهن- بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن- أقرب لكم إلى تقوى الله.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين بتأويل الآية عندي في ذلك. ما قاله ابن عباس, وهو أن معنى ذلك: وأن يعفو بعضكم لبعض أيها الأزواج والزوجات، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض, فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له, فبأن يوفيه بتمامه أقرب لكم إلى تقوى الله.

فإن قال قائل: وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله, فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه: فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله؟ قيل له: الذي في ذلك من قربه من تقوى الله، مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه, ودعاه وحضه عليه. فكان فعله ذلك- إذا فعله ابتغاء مرضاة الله, وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه- معلوما به, إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه, أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا, ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تغفلوا، أيها الناس، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه، ولكن ليتفضل الرجل المطلق زوجته قبل مسيسها, فيكمل لها تمام صداقها إن كان لم يعطها جميعه. وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرض لها, فليتفضل عليها بالعفو عما يجب له ويجوز له الرجوع به عليها, وذلك نصفه. فإن شح الرجل بذلك وأبى إلا الرجوع بنصفه عليها, فالتتفضل المرأة المطلقة عليه برد جميعه عليه، إن كانت قد قبضته منه. وإن لم تكن قبضته، فتعفو [ عن ] جميعه. فإن هما لم يفعلا ذلك وشحا وتركا ما ندبهما الله إليه - من أخذ أحدهما على صاحبه بالفضل - فلها نصف ما كان فرض لها في عقد النكاح وله نصفه.

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن أبي ذئب, عن سعيد بن جبير بن مطعم, عن أبيه جبير: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها, فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق. قال: قيل له: فلم تزوجتها؟ قال: عرضها علي فكرهت ردها! قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا تنسوا الفضل بينكم » . قال: إتمام الزوج الصداق, أو ترك المرأة الشطر.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: إتمام الصداق, أو ترك المرأة شطره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، في هذا وفي غيره.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: يقول ليتعاطفا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير » ، يرغبكم الله في المعروف, ويحثكم على الفضل.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها, فلها نصف الصداق. فأمر الله أن يترك لها نصيبها, وإن شاء أن يتم المهر كاملا. وهو الذي ذكر الله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدى: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، حض كل واحد على الصلة- يعني الزوج والمرأة، على الصلة.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخيرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قول الله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، وذلك الفضل هو النصف من الصداق, وأن تعفو عنه المرأة للزوج أو يعفو عنه وليها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: يعفى عن نصف الصداق أو بعضه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا, عن سفيان: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: حث بعضهم على بعض في هذا وفي غيره, حتى في عفو المرأة عن الصداق، والزوج بالإتمام.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: المعروف.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو, عن سعيد قال، سمعت تفسير هذه الآية: « ولا تنسوا الفضل بينكم » ، قال: لا تنسوا الإحسان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 237 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « إن الله بما تعملون » ، أيها الناس، مما ندبكم إليه وحضكم عليه، من عفو بعضكم لبعض عما وجب له قبله من حق بسبب النكاح الذي كان بينكم وبين أزواجكم, وتفضل بعضكم على بعض في ذلك، وفي غيره مما تأتون وتذرون من أموركم في أنفسكم وغيركم مما حثكم الله عليه وأمركم به أو نهاكم عنه « بصير » ، يعني بذلك: ذو بصر، لا يخفى عليه منه شيء من ذلك, بل هو يحصيه عليكم ويحفظه, حتى يجازي ذا الإحسان منكم على إحسانه, وذا الإساءة منكم على إساءته.

 

القول في تأويل قوله : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن, وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ.

وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا أبو زهير, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق في قوله: « حافظوا على الصلوات » ، قال: المحافظة عليها: المحافظة على وقتها, وعدم السهو عنها.

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق في هذه الآية: « حافظوا على الصلوات » ، فالحفاظ عليها: الصلاة لوقتها والسهو عنها: ترك وقتها.

ثم اختلفوا في « الصلاة الوسطى » . فقال بعضهم: هي صلاة العصر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد جميعا قالا حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن الحارث, عن علي قال: « والصلاة الوسطى » صلاة العصر. .

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص, عن أبي إسحاق قال، حدثني من سمع ابن عباس وهو يقول: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قال: العصر.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام, عن أبي حيان, عن أبيه, عن علي قال: والصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيان, عن أبيه, عن علي مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب عن الأجلح, عن أبي إسحاق, عن الحارث قال: سمعت عليا يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق, عن الحارث قال: سألت عليا عن الصلاة الوسطى, فقال: صلاة العصر.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري يقول: سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى فقال: هي صلاة العصر, وهي التي فتن بها سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا سليمان التيمي وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا التيمي عن أبي صالح, عن أبي هريرة أنه قال: « الصلاة الوسطى » صلاة العصر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عبد الله بن عثمان بن غنم, عن ابن لبيبة, عن أبي هريرة: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، ألا وهي العصر, ألا وهي العصر.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبي وشعيب بن الليث, عن الليث, عن يزيد بن الهاد, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله, عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » ، « فكان ابن عمر يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أنها الصلاة الوسطى » .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر, عن أبيه قال، زعم أبو صالح, عن أبي هريرة أنه قال: هي صلاة العصر.

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث, عن ابن شهاب, عن سالم, عن أبيه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه قال ابن شهاب، وكان ابن عمر يرى أنها الصلاة الوسطى.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا همام, عن قتادة, عن الحسن, عن أبي سعيد الخدري قال: الصلاة الوسطى: صلاة العصر.

حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا ابن عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد, عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة قالت: أوصت عائشة لنا بمتاعها, فوجدت في مصحف عائشة: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ . »

حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا عبد الملك بن عبد الرحمن: أن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن سألت عائشة عن الصلاة الوسطى, قالت: كنا نقرؤها في الحرف الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ قال أبو جعفر: أنه قال ] صلاة العصر وقوموا لله قانتين » .

حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد ابنة عبد الرحمن: أنها سألت عائشة، فذكر نحوه إلا أنه قال: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن محمد بن عمرو أبي سهل الأنصاري, عن القاسم بن محمد, عن عائشة في قوله: « الصلاة الوسطى » ، قالت: صلاة العصر.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن داود بن قيس قال، حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني. فأعلمتها, فأملت علي: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر » .

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: كان الحسن يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر, عن أبيه قال، حدثنا قتادة, عن أبي أيوب, عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سليمان التيمي, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عائشة مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن المغيرة, عن إبراهيم قال: كان يقال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال: صلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سالم, عن حفصة: أنها أمرت رجلا يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذا المكان فأعلمني. فلما بلغ « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قال: اكتب « صلاة العصر » .

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع, عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخبرها قالت: اكتب, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر » .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش قال: صلاة الوسطى هي العصر.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، كنا نحدث أنها صلاة العصر, قبلها صلاتان من النهار، وبعدها صلاتان من الليل.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قال: أمروا بالمحافظة على الصلوات. قال: وخص العصر، « والصلاة الوسطى » ، يعني العصر.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « والصلاة الوسطى » ، هي العصر.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال: « الصلاة الوسطى » صلاة العصر.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « حافظوا على الصلوات » - يعني المكتوبات- « والصلاة الوسطى » ، يعني صلاة العصر.

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس, عن أبي إسحاق, عن رزين بن عبيد, عن ابن عباس قال: سمعته يقول: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قال: صلاة العصر.

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن ثوير, عن مجاهد قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن رزين بن عبيد قال: سمعت ابن عباس يقول: هي صلاة العصر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، أنبأنا إسماعيل بن مسلم, عن الحسن, عن سمرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الصلاة الوسطى صلاة العصر » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب, عن مرة بن مخمر, عن سعيد بن الحكم قال: سمعت أبا أيوب يقول: صلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثنا ابن سفيان قال، حدثنا أبو عاصم, عن مبارك, عن الحسن قال: صلاة الوسطى صلاة العصر.

وعلة من قال هذا القول ما: -

حدثني به محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد - يعني ابن طلحة- عن زبيد, عن مرة, عن عبد الله قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرَّت، أو احمرت- فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا‍‍‍‍‍‍‍‍

حدثني أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا محمد بن طلحة, عن زبيد عن مرة, عن عبد الله, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه- إلا أنه قال: « ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى » . ‍‍

حدثنا محمد بن المثنى‍‍ ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث, عن أبي حسان, عن عبيدة السلماني, عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس, ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا أو بطونهم نارا شك شعبة في البطون والبيوت.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زر قال: قلت لعبيدة السلماني: سل علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى. فسأله، فقال: كنا نراها الصبح أو الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا » ‍!

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن شتير بن شكل, عن علي قال: شغلونا يوم الأحزاب عن صلاة العصر, حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا أو أجوافهم نارا

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار عن علي, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، يوم الأحزاب، على فرضة من فرض الخندق، فقال: « شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم، نارا أو بطونهم وبيوتهم نارا » .

حدثني أبو السائب وسعيد بن نمير قالا حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن شتير بن شكل, عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! ثم صلاها بين العشاءين, بين المغرب والعشاء.

حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا علي بن عاصم, عن خالد, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة السلماني, عن علي قال، لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلا بعد ما غربت الشمس, فقال: ما لهم! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا! منعونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس.

حدثنا زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن عاصم, عن زر قال: انطلقت أنا وعبيدة السلماني إلى علي, فأمرت عبيدة أن يسأله عن الصلاة الوسطى فقال: يا أمير المؤمنين، ما الصلاة الوسطى؟ فقال: كنا نراها صلاة الصبح, فبينا نحن نقاتل أهل خيبر, فقاتلوا, حتى أرهقونا عن الصلاة, وكان قبيل غروب الشمس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ قلوب هؤلاء القوم الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى وأجوافهم نارا أو املأ قلوبهم نار قال: فعرفنا يومئذ أنها الصلاة الوسطى.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي حسان الأعرج, عن عبيدة السلماني, عن علي بن أبي طالب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا أو: كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس!

حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا ثابت بن محمد قال، حدثنا محمد بن طلحة, عن زبيد, عن مرة, عن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس أو: احمرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله بيوتهم وقلوبهم نارا أو حشا الله قلوبهم وبيوتهم نارا.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول قال، سمعت طلحة قال: صليت مع مرة في بيته فسها أو قال: نسي فقام قائما يحدثنا وقد كان يعجبني أن أسمعه من ثقة قال: لما كان يوم الخندق - يعني يوم الأحزاب - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم! شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا.

حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا عبد الوهاب, عن ابن عطاء, عن التيمي, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا عباد بن العوام, عن هلال بن خباب, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له, فحبسه المشركون عن صلاة العصر حتى أمسى بها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى!

حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا إسحاق, عن عبد الواحد الموصلي قال، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا!

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا خالد, عن ابن أبي ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال: شغل الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا أو أجوافهم نارا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن أحمد الحرشي الواسطي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني صدقة بن خالد قال، حدثني خالد بن دهقان, عن جابر بن سيلان, عن كهيل بن حرملة قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس, فقال: أنا أعلم لكم ذلك. فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدخل عليه, ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر.

حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي, وحدثنا ابن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قالا جميعا، حدثنا فضيل بن مرزوق, عن شقيق بن عقبة العبدي, عن البراء بن عازب قال: نـزلت هذه الآية: « حافظوا على الصلوات وصلاة العصر » ، قال: فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن نقرأها. ثم إن الله نسخها فأنـزل: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين » ، قال: فقال رجل كان مع شقيق: فهي صلاة العصر ! قال: قد حدثتك كيف نـزلت, وكيف نسخها الله, والله أعلم.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع, وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر ومحمد بن عبد الله الأنصاري قالا جميعا، حدثنا سعيد بن أبي عروبة, وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل, عن سعيد عن أقتادة, عن الحسن, عن سمرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.

حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سعيد بن بشير, عن قتادة, عن الحسن عن سمرة قال: أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي العصر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن أبي الضحى, عن شتير بن شكل, عن أم حبيبة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، وهي العصر

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام, عن سالم مولى أبي نصير قال، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال: يا فلان، اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله عن الصلاة الوسطى, فأخذ إصبعي الصغيرة فقال: هذه الفجر- وقبض التي تليها. وقال: هذه الظهر- ثم قبض الإبهام فقال: هذه المغرب- ثم قبض التي تليها ثم قال: هذه العشاء- ثم قال: أي أصابعك بقيت؟ فقلت: الوسطى: فقال: أي صلاة بقيت؟ قلت: العصر. قال: هي العصر.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: ذكر لنا أن المشركين شغلوهم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غابت الشمس, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس! ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا!

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو, عن أبي سلمة قال، حدثنا صدقة, عن سعيد, عن قتادة, عن أبي حسان, عن عبيدة السلماني, عن علي بن أبي طالب, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب: اللهم املأ بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس.

حدثني محمد بن عوف الطائي قال، حدثني محمد بن إسماعيل بن عياش قال، حدثنا أبي قال، حدثني ضمضم بن زرعة, عن شريح بن عبيد, عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الصلاة الوسطى صلاة العصر » .

وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة الظهر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال، حدثنا قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن ابن عمر, عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر.

حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن ابن عمر, عن زيد, يعني ابن ثابت- مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى الظهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة, وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن شعبة قال، أخبرني عمر بن سليمان - من ولد عمر بن الخطاب- قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان, يحدث عن أبيه, عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر.

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة, عن عمر بن سليمان هكذا قال أبو زائدة، عن عبد الرحمن بن أبان, عن أبيه, عن زيد بن ثابت في حديثه، رفعه - : الصلاة الوسطى صلاة الظهر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد: أن سعيد بن المسيب حدثه أنه كان قاعدا هو وعروة بن الزبير وإبراهيم بن طلحة, فقال سعيد بن المسيب: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الصلاة الوسطى هي الظهر. فمر علينا عبد الله بن عمر، فقال عروة: أرسلوا إلى ابن عمر فاسألوه. فأرسلوا إليه غلاما فسأله, ثم جاءنا الرسول فقال: يقول: هي صلاة الظهر. فشككنا في قول الغلام, فقمنا جميعا فذهبنا إلى ابن عمر, فسألناه فقال: هي صلاة الظهر.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب قال، حدثني رجل من الأنصار, عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: هي الظهر.

حدثني أحمد بن إسحاق, حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن أبي ذئب وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان بن عمرو, عن زيد بن ثابت قال، الصلاة الوسطى صلاة الظهر.

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عبيد الله, عن نافع, عن زيد بن ثابت أنه قال: الصلاة الوسطى: هي صلاة الظهر.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان قال، حدثني عبد الله بن دينار, عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن الصلاة الوسطى قال: هي التي على أثر الضحى.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد: أن سلمة بن أبي مريم حدثه: أن نفرا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال له: هي التي على أثر صلاة الضحى. فقالوا له: ارجع واسأله, فما زادنا إلا عياء بها !! فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح مولى عبد الله بن عمر, فأرسلوا إليه أيضا فقال: هي التي توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة.

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، حدثني زهرة بن معبد قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه كان قاعدا هو وعروة وإبراهيم بن طلحة, فقال له سعيد: سمعت أبا سعيد يقول: إن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى. فمر علينا ابن عمر، فقال عروة: أرسلوا إليه فاسألوه. فسأله الغلام فقال: هي الظهر. فشككنا في قول الغلام, فقمنا إليه جميعا فسألناه, فقال: هي الظهر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر, عن عبد الرحمن بن قيس, عن ابن أبي رافع, عن أبيه - وكان مولى لحفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت لي: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرأنيها. فلما أتيت على هذه الآية: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، أتيتها فقالت: اكتب: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » . فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر، إن حفصة قالت كذا وكذا!! قال: هو كما قالت, أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في غنمنا ونواضحنا!

وعلة من قال ذلك، ما: -

حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن أبي حكيم قال: سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير, عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة, ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها, قال: فنـزلت: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » . وقال: « إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين » .

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا ابن أبي ذئب, عن الزبرقان قال: إن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت فأرسلوا إليه رجلين يسألانه عن الصلاة الوسطى. فقال زيد: هي الظهر. فقام رجلان منهم فأتيا أسامة بن زيد فسألاه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير, فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان, الناس يكونون في قائلتهم وفي تجارتهم, فقال رسول الله: « لقد هممت أن أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة بيوتهم! قال: فنـزلت هذه الآية: » حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى « . »

وكان آخرون يقرءون ذلك: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » .

* ذكر من كان يقول ذلك كذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن عبد الله بن يزيد الأزدي, عن سالم بن عبد الله: « أن حفصة أمرت إنسانا فكتب مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية: » حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى « فآذني. فلما بلغ آذنها, فقالت: اكتب: » حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر « . »

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله, عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت هذه الآية: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فلما بلغها، أمرته فكتبها: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا الله قانتين » قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه « الواو » .

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى آمرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو سلمة, عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان مكتوبا في مصحف حفصة: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين » .

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبي وشعيب, عن الليث قال، حدثنا خالد بن يزيد, عن ابن أبي هلال, عن زيد, عن عمرو بن رافع قال: دعتني حفصة فكتبت لها مصحفا فقالت: إذا بلغت آية الصلاة فأخبرني. فلما كتبت: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قالت: « وصلاة العصر » ، أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث, عن الليث قال، أخبرني خالد بن يزيد, عن ابن أبي هلال, عن زيد: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة مثل ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد, عن سعيد, عن زيد بن أسلم: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة, عن عائشة مثل ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قالا أخبرنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن عمير بن مريم, عن ابن عباس: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » .

- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء قال: كان عبيد بن عمير يقرأ: « وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر, عن عبد الرحمن بن قيس, عن ابن أبي رافع, عن أبيه - وكان مولى حفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرئتها. فلما أتيت على هذه الآية: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، أتيتها فقالت: اكتب: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر » ، فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت فقلت: يا أبا المنذر، إن حفصه قالت كذا وكذا. قال: هو كما قالت‍! أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في نواضحنا وغنمنا؟

وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة المغرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام, عن إسحاق بن أبي فروة, عن رجل عن قبيصة بن ذؤيب قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب, ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها؟

قال أبو جعفر: ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله: « الوسطى » إلى معنى: التوسط الذي يكون صفة للشيء، يكون عدلا بين الأمرين, كالرجل المعتدل القامة, الذي لا يكون مفرطا طوله ولا قصيرة قامته, ولذلك قال: « ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها » .

وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى التي عناها الله بقوله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، هي صلاة الغداة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال، حدثنا قتادة, عن صالح أبي الخليل, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس قال: الصلاة الوسطى صلاة الفجر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر, عن عوف, عن أبي رجاء قال: صليت مع ابن عباس الغداه في مسجد البصرة, فقنت بنا قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن عوف, عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس، فذكر نحوه.

حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا شريك, عن عوف الأعرابي, عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الفجر, فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف, عن أبي رجاء قال: صلى بنا ابن عباس الفجر, فلما فرغ قال: إن الله قال في كتابه: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، فهذه الصلاة الوسطى .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان, يعني ابن معاوية - , عن عوف, عن أبي رجاء العطاردي, عن ابن عباس نحوه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف, عن أبي المنهال, عن أبي العالية, عن ابن عباس: أنه صلى الغداة في مسجد البصرة, فقنت قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكر الله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين » .

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا المهاجر, عن أبي العالية قال: سألت ابن عباس بالبصرة ها هنا, وإن فخذه لعلى فخذي, فقلت: يا أبا فلان، أرأيتك صلاة الوسطى التي ذكر الله في القرآن, ألا تحدثني أي صلاة هي؟ قال: وذلك حين انصرفوا من صلاة الغداة, فقال: أليس قد صليت المغرب والعشاء الآخرة؟ قال قلت: بلى! قال: ثم صليت هذه؟ قال: ثم تصلي الأولى والعصر؟ قال قلت: بلى! قال: فهي هذه.

حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا الربيع بن أنس, عن أبي العالية قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر صلاة الغداة, قال: فقلت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذا الصلاة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عوف, عن خلاس بن عمرو, عن ابن عباس: أنه صلى الفجر فقنت قبل الركوع, ورفع إصبعيه وقال: هذه الصلاة الوسطى.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: أنه صلى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة, فلما أن فرغوا قال، قلت لهم: أيتهن الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي صليتها قبل.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشير, عن قتادة, عن جابر بن عبد الله قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: كان عطاء يرى أن الصلاة الوسطى صلاة الغداة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة في قوله: « والصلاة الوسطى » ، قال: صلاة الغداة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قال: الصبح.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن حصين , عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » ، قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة.

وعلة من قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره قال: « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين » ، بمعنى : وقوموا لله فيها قانتين. قال: فلا صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت سوى صلاة الصبح, فعلم بذلك أنها هي دون غيرها.

وقال آخرون: هي إحدى الصلوات الخمس, ولا نعرفها بعينها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد قال: كنا عند نافع، ومعنا رجاء بن حيوة, فقال لنا رجاء: سلوا نافعا عن الصلاة الوسطى. فسألناه , فقال: قد سأل عنها عبد الله بن عمر رجل فقال: هي فيهن, فحافظوا عليهن كلهن.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد, عن قيس بن الربيع, عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة قال: سألت الربيع بن خثيم عن الصلاة الوسطى, قال: أرأيت إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قلت: لا! فقالا فإنك إن حافظت عليهن فقد حافظت عليها.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه هكذا يعني مختلفين في الصلاة الوسطى وشبك بين أصابعه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله: وهو أنها العصر.

والذي حث الله تعالى ذكره عليه من ذلك, نظير الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث عليه. كما: -

حدثني به أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب, عن خير بن نعيم الحضرمي, عن عبد الله بن هبيرة النسائي قال: وكان ثقة، عن أبي تميم الجيشاني, عن أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر, فلما انصرف قال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فتوانوا فيها وتركوها, فمن صلاها منكم أضعف أجره ضعفين, ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد والشاهد: النجم.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خير بن نعيم, عن ابن هبيرة, عن أبي تميم الجيشاني: أن أبا بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص فقال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فضيعوها وتركوها, فمن حافظ عليها منكم أوتي أجرها مرتين.

وقال صلى الله عليه وسلم: « بكروا بالصلاة في يوم الغيم, فإنه من فاتته العصر حبط عمله » .

حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا وكيع, وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد, [ عن الأوزاعي، عن يحيى بن كثير ] عن أبي قلابة, عن أبي المهاجر, عن بريدة, عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » .

وقال صلى الله عليه وسلم: « من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يلج النار » .

فحث صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها حثا لم يحث مثله على غيرها من الصلوات، وإن كانت المحافظة على جميعها واجبة, فكان بينا بذلك أن التي خص الله بالحث على المحافظة عليها، بعد ما عم الأمر بها جميع المكتوبات، هي التي اتبعه فيها نبيه صلى الله عليه وسلم, فخصها من الحض عليها بما لم يخصص به غيرها من الصلوات, وحذر أمته من تضييعها ما حل بمن قبلهم من الأمم التي وصف أمرها, ووعدهم من الأجر على المحافظة عليها ضعفي ما وعد على غيرها من سائر الصلوات.

وأحسب أن ذلك كان كذلك, لأن الله تعالى ذكره جعل الليل سكنا، والناس من شغلهم بطلب المعاش والتصرف في أسباب المكاسب هادئون، إلا القليل منهم, وللمحافظة على فرائض الله وإقام الصلوات المكتوبات فارغون. وكذلك ذلك في صلاة الصبح, لأن ذلك وقت قليل من يتصرف فيه للمكاسب والمطالب, ولا مؤونة عليهم في المحافظة عليها. وأما صلاة الظهر، فان وقتها وقت قائلة الناس واستراحتهم من مطالبهم، في أوقات شدة الحر وامتداد ساعات النهار، ووقت توديع النفوس والتفرغ لراحة الأبدان في أوان البرد وأيام الشتاء وأن المعروف من الأوقات لتصرف الناس في مطالبهم ومكاسبهم، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم- وقتان من النهار.

أحدهما أول النهار بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت, وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم, وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه, من غير أن يفرضها عليهم, وهي صلاة الضحى.

والآخر منهما آخر النهار, وذلك من بعد إبراد الناس إمكان التصرف وطلب المعاش صيفا وشتاء، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر, ثم حث على المحافظة عليها لئلا يضيعوها لما علم من إيثار عباده أسباب عاجل دنياهم وطلب معايشهم فيها، على أسباب آجل آخرتهم بما حثهم به عليه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, ووعدهم من جزيل ثوابه على المحافظة عليها ما قد ذكرت بعضه في كتابنا هذا، وسنذكر باقيه في كتابنا الأكبر إن شاء الله من ( كتاب أحكام الشرائع ) .

قال أبو جعفر: وإنما قيل لها « الوسطى » لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس, وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين, وهي بين ذلك وسطاهن.

« والوسطى » « الفعلى » من قول القائل: « وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطا » ، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذكر فيه: « هو أوسطنا » وللأنثى: « هي وسطانا » .

 

القول في تأويل قوله : وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ( 238 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله « قانتين » .

فقال بعضهم: معنى « القنوت » ، الطاعة. ومعنى ذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له فيما أمركم به فيها ونهاكم عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك, عن ابن عون, عن الشعبي في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: مطيعين.

حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس, عن ابن عون, عن الشعبي مثله.

حدثني ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو المنيب, عن جابر بن زيد: « وقوموا لله قانتين » ، يقول: مطيعين. .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن عثمان بن الأسود, عن عطاء: « وقوموا لله قانتين » ، قال: مطيعين.

حدثنا أحمد بن عبدة الحمصي قال، حدثنا أبو عوانة, عن ابن يشر, عن سعيد بن جبير في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: مطيعين.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الربيع بن أبي راشد, عن سعيد بن جبير أنه سئل عن « القنوت » , فقال: القنوت الطاعة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قال: القنوت، الذي ذكره الله في القرآن, إنما يعني به الطاعة.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك: « وقوموا لله قانتين » ، قال: إن أهل كل دين يقومون لله عاصين, فقوموا أنتم لله طائعين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال : قوموا لله مطيعين في كل شيء, وأطيعوه في صلاتكم.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول: « وقوموا لله قانتين » ، القنوت الطاعة, يقول: لكل أهل دين صلاة, يقومون في صلاتهم لله عاصين, فقوموا لله مطيعين.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « قانتين » ، يقول: مطيعين.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: مطيعين.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثني شريك, عن سالم, عن سعيد: « وقوموا لله قانتين » ، يقول: مطيعين.

حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا خطاب بن عثمان قال، حدثنا أبو روح عبد الرحمن بن سنان السكوني حمصي لقيته بأرمينية قال، سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: طائعين.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: مطيعين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وقوموا لله قانتين » ، يقول: مطيعين.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية قال: كانوا يأمرون في الصلاة بحوائجهم, حتى أنـزلت: « وقوموا لله قانتين » ، فتركوا الكلام. قال: « قانتين » ، مطيعين.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل, عن عطية في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم حتى نـزلت: « وقوموا لله قانتين » ، فتركوا الكلام في الصلاة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: كان أهل دين يقومون فيها عاصين, فقوموا أنتم لله مطيعين.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثنا دراج, عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل حرف في القرآن فيه « القنوت » , فإنما هو « الطاعة » .

حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: القنوت طاعة الله, يقول الله تعالى ذكره: « وقوموا لله قانتين » ، مطيعين.

حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان قال، قال ابن طاوس: كان أبي يقول: القنوت طاعة الله.

وقال آخرون: « القنوت » في هذه الآية، السكوت. وقالوا: تأويل الآية: وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وقوموا لله قانتين » ، القنوت، في هذه الآية، السكوت.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدى في خبر ذكره, عن مرة, عن ابن مسعود قال: كنا نقوم في الصلاة فنتكلم, ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته, ويخبره, ويردون عليه إذا سلم، حتى أتيت أنا فسلمت فلم يردوا علي السلام, فاشتد ذلك علي، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة والقنوت: السكوت.

حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظهير, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: كنا نتكلم في الصلاة, فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي, فلما انصرف قال: قد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة، ونـزلت هذه الآية: « وقوموا لله قانتين » .

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال، أخبرنا محمد بن يزيد, وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، وابن نمير، ووكيع، ويعلى بن عبيد جميعا, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الحارث بن شبل, عن أبي عمرو الشيباني, عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة, حتى نـزلت هذه الآية: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) ، فأمرنا بالسكوت.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته, فنهوا عن الكلام.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة, عن الزبير بن عدي, عن كلثوم بن المصطلق, عن عبد الله بن مسعود قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عودني أن يرد علي السلام في الصلاة, فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد علي، وقال: إن الله يحدث في أمره ما يشاء, وإنه قد أحدث لكم في الصلاة أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله, وما ينبغي من تسبيح وتمجيد: « وقوموا لله قانتين » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: إذا قمتم في الصلاة فاسكتوا, لا تكلموا أحدا حتى تفرغوا منها. قال: والقانت المصلي الذي لا يتكلم.

وقال آخرون: « القنوت » في هذه الآية، الركوع في الصلاة والخشوع فيها. وقالوا في تأويل الآية: وقوموا لله في صلاتكم خاشعين, خافضي الأجنحة, غير عابثين ولا لاعبين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد: « وقوموا لله قانتين » ، قال: فمن القنوت طول الركوع, وغض البصر, وخفض الجناح, والخشوع من رهبة الله. كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت, أو أن يقلب الحصى, أو يعبث بشيء, أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد نحوه إلا أنه قال: فمن القنوت الركود والخشوع.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد: « وقوموا لله قانتين » ، قال: من القنوت الخشوع, وخفض الجناح من رهبة الله. وكان الفقهاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدهم إلى الصلاة، لم يلتفت، ولم يقلب الحصى، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد في قوله « وقوموا لله قانتين » ، قال: إن من القنوت الركود, ثم ذكر نحوه.

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قال: القنوت الركود- يعني القيام في الصلاة والانتصاب له.

وقال آخرون: بل « القنوت » ، في هذا الموضع، الدعاء. قالوا: تأويل الآية: وقوموا لله راغبين في صلاتكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر جميعا, عن عوف, عن أبي رجاء, قال: صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة, فقنت بنا قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله: « وقوموا لله قانتين » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: « وقوموا لله قانتين » ، قول من قال: تأويله: « مطيعين » .

وذلك أن أصل « القنوت » ، الطاعة, وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله [ عنه ] من الكلام فيها. ولذلك وجه من وجه تأويل « القنوت » في هذا الموضع، إلى السكوت في الصلاة أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله. ومما يدل على أنهم قالوا ذلك كما وصفنا, قول النخعي ومجاهد الذي: -

حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم، ومجاهد قالا كانوا يتكلمون في الصلاة, يأمر أحدهم أخاه بالحاجة، فنـزلت « وقوموا لله قانتين » ، قال: فقطعوا الكلام. و « القنوت » : السكوت, و « القنوت » الطاعة.

فجعل إبراهيم ومجاهد « القنوت » سكوتا في طاعة الله، على ما قلنا في ذلك من التأويل.

وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع، وخفض الجناح, وإطالة القيام, وبالدعاء, لأن كل [ ذلك ] غير خارج من أحد معنيين: من أن يكون مما أمر به المصلي, أو مما ندب إليه, والعبد بكل ذلك لله مطيع, وهو لربه فيه قانت. و « القنوت » : أصله الطاعة لله, ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد.

فتأويل الآية إذا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى, وقوموا لله فيها مطيعين، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام, سوى قراءة القرآن فيها, أو ذكر الله بالذي هو أهله، أو دعائه فيها, غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها, والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له لما قد بيناه من معناه فإن خفتم من عدو لكم، أيها الناس, تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله فصلوا « رجالا » ، مشاة على أرجلكم, وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم « أو ركبانا » ، على ظهور دوابكم, فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم، قانتين.

ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك, جاز نصب « الرجال » بالمعنى المحذوف. وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله. ويبين ذلك أنهم يقولون: « إن خيرا فخيرا, وإن شرا فشرا » , بمعنى: إن تفعل خيرا تصب خيرا, وإن تفعل شرا تصب شرا, فيعطفون الجواب على الأول لانجزام الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، بمعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض، فصلوا رجالا.

« والرجال » جمع « راجل » و « رجل » ، وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد « الرجال » « رجل » , مسموع منهم: « مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا » ، وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم « رجلان » , كما قال بعض بني عقيل:

عــلى إذا أبصــرت ليـلى بخـلوة أن ازدار بيـت اللـه رجـلان حافيـا

فمن قال « رجلان » للذكر, قال للأنثى « رجلى » , وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال: « أتى القوم رجالى ورجالى » مثل « كسالى وكسالى » .

وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: « فإن خفتم فرجالا » مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ: « فرجالا » ، وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين.

وأما « الركبان » , فجمع « راكب » , يقال: « هو راكب، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب » , يقال: « جاءنا أركوب من الناس وأراكيب » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم قال: سألته عن قوله: « فرجالا أو ركبانا » ، قال: عند المطاردة، يصلى حيث كان وجهه, راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع, ويصلي ركعتين يومئ إيماء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان, عن مغيرة عن إبراهيم في قوله: « فرجالا أو ركبانا » قال: صلاة الضراب ركعتين، يومئ إيماء.

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد, عن سفيان, عن مغيرة , عن إبراهيم قوله: « فرجالا أو ركبانا » ، قال: يصلي ركعتين حيث كان وجهه، يومئ إيماء.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن سالم, عن سعيد بن جبير. « فرجالا أو ركبانا » ، قال: إذا طردت الخيل فأومئ إيماء.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن مالك, عن سعيد قال: يومئ إيماء.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم, عن يونس, عن الحسن: « فرجالا أو ركبانا » ، قال: إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه، يومئ إيماء.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القتال على الخيل, فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا, أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال: أو راكبا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا: أو راكبا, أو ما قدر أن يومئ برأسه وسائر الحديث مثله.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، قال: إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع, فصلاتهم تكبيرتان إيماء، أي جهة كانت.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « رجالا أو ركبانا » ، قال: ذلك عند القتال، يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا إذا كان يطلب أو يطلبه سبع, فليصل ركعة، يومئ إيماء, فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الفضل بن دلهم, عن الحسن: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، قال: ركعة وأنت تمشي, وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك، على أي جهة كان.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، أما « رجالا » فعلى أرجلكم، إذا قاتلتم, يصلي الرجل يومئ برأسه أينما توجه, والراكب على دابته يومئ برأسه أينما توجه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، الآية، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأنت تسعى, تومئ برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين, وإلا فواحدة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس , عن أبيه: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، قال: ذاك عند المسايفة.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن الزهري في قوله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، قال: إذا طلب الأعداء فقد حلَّ لهم أن يصلوا قِبَل أي جهة كانوا، رجالا أو ركبانا، يومئون إيماء ركعتين وقال قتادة: تجزي ركعة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، قال: كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين، راكبا كان أو راجلا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة,عن إبراهيم في قوله: « فإن خفتم فرجالا أو راكبانا » ، قال : يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان جهه, يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود, ولكن السجود أخفض من الركوع. فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا، هذا في المطاردة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي قال: كان قتادة يقول: إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة، يومئ إيماء, إن شاء راكبا أو راجلا قال الله تعالى ذكره: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن الحسن قال، في الخائف الذي يطلبه العدو, قال: إن استطاع أن يصلي ركعتين , وإلا صلى ركعة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن يونس, عن الحسن قال: ركعة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة, فقالوا: ركعة .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة، عن صلاة المسايفة, فقالوا: يومئ إيماء حيث كان وجهه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن حماد والحكم وقتادة: أنهم سئلوا عن الصلاة عند المسايفة, فقالوا: ركعة حيث وجهك.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث بن سوار قال: سألت ابن سيرين عن صلاة المنهزم فقال: كيف استطاع.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن سعيد بن يزيد, عن أبي نضرة, عن جابر بن غراب قال: كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان, فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة، الصلاة ! فقال هرم: يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة. قال: ونحن مستقبلو المشرق.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن الجريري, عن أبي نضرة قال: كان هرم بن حيان على جيش، فحضروا العدو فقال: يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة, أو ما استيسر فقلت لأبي نضرة : ما « ما استيسر » ؟ قال: يومئ.

حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا أبو مسلمة, عن أبي نضرة قال، حدثني جابر بن غراب قال: كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق, فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة! فقال : يسجد الرجل تحت جنته سجدة.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء في قوله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، قال: تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا, وحيث توجهت بك دابتك, تومئ إيماء للمكتوبة.

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا هبة بن الوليد قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير, عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا موسى بن محمد الأنصاري، عن عبد الملك, عن عطاء في هذه الآية قال: إذا كان خائفا صلى على أي حال كان. .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك- وسألته عن قول الله: « فرجالا أو ركبانا » - قال: راكبا وماشيا, ولو كانت إنما عنى بها الناس, لم يأت إلا « رجالا » وانقطعت الآية. إنما هي « رجال » : مشاة، وقرأ: يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [ سورة الحج: 27 ] قال: يأتون مشاة وركبانا.

قال أبو جعفر: الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر بقتاله، من عدو للمسلمين, أو محارب, أو طلب سبع, أو جمل صائل، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه.

وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك, فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه، يومئ إيماء لعموم كتاب الله: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع, بعد أن يكون الخوف، صفته ما ذكرت.

وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها, وذلك حال شدة الخوف، لأن: -

محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا حدثنا جرير, عن عبد الله بن نافع, عن أبيه, عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف : يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة, ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم, ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا, ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه, وإن كان خوف أشد من ذلك « فرجالا أو ركبانا » .

حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريح, عن موسى بن عقبة, عن نافع , عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنما هو الذكر, وأشارة بالرأس. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « وإن كانوا أكثر من ذلك، فيصلون قياما وركبانا » .

ففصل النبي بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة, على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره: « فإن خفتم فرجالا أو ركبانا » ، إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته.

وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن ابن عمر أنه كان يقول:

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر أنه قال: في صلاة الخوف: يصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم. ثم يحيي أولئك فيصلي بهم ركعة, ثم يسلم, وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. قال: فإن كان خوف أشد من ذلك « فرجالا أو ركبانا » .

وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة, فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن. وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة، رأيتها مجزئة, لأن: -

بشر بن معاذ حدثني قال، حدثنا أبو عوانة, عن بكر بن الأخنس, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا, وفي السفر ركعتين, وفي الخوف ركعة.

 

القول في تأويل قوله : فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 239 )

قال أبو جعفر: وتأويل ذلك : « فإذا أمنتم » ، أيها المؤمنون، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم- ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم- فاطمأننتم, « فاذكروا الله » في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه, على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله, كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه, وحلاله وحرامه, وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة, والأنباء الحادثة بعدكم- في عاجل الدنيا وآجل الآخرة, التي جهلها غيركم وبصركم، من ذلك وغيره, إنعاما منه عليكم بذلك, فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون.

وكان مجاهد يقول في قوله: « فإذا أمنتم » ، ما: -

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: « فإذا أمنتم » ، قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.

وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فإذا أمنتم فاذكروا الله » ، قال: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم- إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة.

وقوله ها هنا: « فاذكروا الله » ، قال: الصلاة، « كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون » .

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد، قول غيره أولى بالصواب منه, لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال، فواجب على المصلي المكتوبة- وإن كان في سفر- أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها, وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب, كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده, إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر, فيتوجه قوله: « فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون » ، إليه. وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن، وحال شده الخوف, فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. ثم قال: « فإذا أمنتم » فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم وذكري فيها وفي غيرها، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف.

وبعد، فإن كان جرى للسفر ذكر, ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم، لقال: فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ولم يقل: « فإذا أمنتم » .

وفي قوله تعالى ذكره: « فإذا أمنتم » ، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه, وخلاف قول مجاهد.

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « والذين يتوفون منكم » ، أيها الرجال ويذرون أزواجا يعني زوجات كن له نساء في حياته, بنكاح لا ملك يمين. ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره, نظير الذي مضى من ذلك في قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ سورة البقرة: 234 ] إلى الخبر عن ذكر أزواجهم. وقد ذكرنا وجه ذلك, ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

ثم قال تعالى ذكره: « وصية لأزواجهم » ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأ بعضهم: « وصية لأزواجهم » ، بنصب « الوصية » ، بمعنى: فليوصوا وصية لأزواجهم, أو: عليهم [ أن يوصوا ] وصية لأزواجهم.

و قرأ آخرون: ( وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ ) برفع « الوصية » .

ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع « الوصية » .

فقال بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية. واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله.

فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر « كتبت » , ورفعت « الوصية » بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره.

وقال آخرون منهم: بل « الوصية » مرفوعة بقوله: « لأزواجهم » فتأول: لأزواجهم وصية.

والقول الأول أولى بالصواب في ذلك, وهو أن تكون « الوصية » إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتبت عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت, فإذا أظهرت بدأت به قبلها, فتقول: « جاءني رجل اليوم » , وإذا قالوا: « رجل جاءني اليوم » لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب « هذا » , أو غائب قد علم المخبر عنه خبره, أو بحذف « هذا » وإضماره وإن حذفوه، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم, كما قال الله تعالى ذكره: سُورَةٌ أَنْـزَلْنَاهَا [ سورة النور: 1 ] و بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ سورة التوبة: 1 ] ، فكذلك ذلك في قوله: « وصية لأزواجهم » .

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نـزول قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ سورة البقرة: 234 ] ، وقبل نـزول آية الميراث ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك, أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به.

فإن قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟

قيل: لما قال الله تعالى ذكره: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم » ، وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته, وكان محالا أن يوصي بعد وفاته, كان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته ، علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه لها, إذ كان الميت مستحيلا أن يكون منه وصية بعد وفاته.

ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال: « فليوص وصية » , لكان التنـزيل: والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [ سورة البقرة: 180 ]

وبعدُ, فلو كان ذلك واجبًا لهن بوصية من أزواجهن المتوفّين, لم يكن ذلك حقًّا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن قبل وفاتهم, ولكان قد كان لورثتهم إخراجهن قبل الحول، وقد قال الله تعالى ذكره: « غير إخراج » . ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئُه: « وصيةً لأزواجهم » ، بمعنى: أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ. وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في « سورة النساء غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [ سورة النساء: 12 ] ، ثم ترك ذكر: » كتب الله « ، اكتفاء بدلالة الكلام عليه, ورفعت » الوصية « بالمعنى الذي قلنا قبل. »

فإن قال قائل: فهل يجوز نصب « الوصية » [ على الحال، بمعتى موصين ] لهن وصية؟

قيل: لا لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم « الوصية » من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه, فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه, فغير جائز نصبها بذلك المعنى.

* ذكر بعض من قال: إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم على ما قلنا أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به, وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر والميراث.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في « سورة النساء » , فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد, والربع إن لم يكن له ولد, وعدتها أربعة أشهر وعشرا, فقال تعالى ذكره: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ سورة البقرة: 234 ] ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » الآية، قال: كان هذا من قبل أن تنـزل آية الميراث, فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت, فنسخ ذلك في « سورة النساء » , فجعل لها فريضة معلومة: جعل لها الثمن إن كان له ولد, وإن لم يكن له ولد فلها الربع، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر, فقال: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته, اعتدت سنة في بيته, ينفق عليها من ماله، ثم أنـزل الله تعالى ذكره بعد: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها. إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [ سورة النساء: 12 ] ، فبين الله ميراث المرأة, وترك الوصية والنفقة.

حدثنا عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول, ولا تزوج حتى تستكمل الحول. وهذا منسوخ: نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث, ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، قال: الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول, ولا تزوج حتى يمضي الحول, فأنـزل الله تعالى ذكره: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، فنسخ الأجل الحول, ونسخ النفقة الميراث الربع والثمن.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، قال: كان ميراث المرأة من زوجها من ربعه: أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول, يقول: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ الآية، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث قال، وقال مجاهد: « وصية لأزواجهم » سكنى الحول, ثم نسخ هذه الآية الميراث.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية، نفقة سنة. فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث, فجعل لها الربع أو الثمن وفي قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، قال: هذه الناسخة.

* ذكر من قال: كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا » الآية، قال: كانت هذه من قبل الفرائض, فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء. ثم نسخ ذلك بعد, فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم, وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن, وإن لم يكن له ولد فلها الربع. وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها, ثم تحول من بيته. فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا, ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم » ، إلى فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ، يوم نـزلت هذه الآية، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته بنفقتها وسكناها سنة, وكانت عدتها

أربعة أشهر وعشرا, فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا، انقطعت عنها النفقة, فذلك قوله: فَإِنْ خَرَجْنَ ، وهذا قبل أن تنـزل آية الفرائض, فنسخه الربع والثمن, فأخذت نصيبها, ولم يكن لها سكنى ولا نفقة.

حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول.

* ذكر من قال: « نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن » :

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب, عن إبراهيم في قوله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول » ، قال: هي منسوخة.

حدثنا الحسن بن الزبرقان قال، حدثنا أسامة, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم يقول, فذكر نحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن حصين, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن, ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام يخطب الناس ها هنا, فقرأ لهم سورة البقرة, فبين لهم فيها، فأتى على هذه الآية : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [ سورة البقرة: 180 ] ، قال: فنسخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا » إلى قوله: ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) ، فقال: وهذه .

وقال آخرون: هذه الآية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ سورة البقرة: 234 ] ، قال: كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها, فأنـزل الله: « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » ، إلى قوله: مِنْ مَعْرُوفٍ . قال: جعل الله لهم تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها, وإن شاءت خرجت, وهو قول الله تعالى ذكره: ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) ، قال: والعدة كما هي واجبة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد حيث شاءت, وهو قول الله: ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) . قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها, وإن شاءت خرجت، لقول الله تعالى ذكره: فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ قال عطاء: جاء الميراث بنسخ السكنى، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم، سكنى حول في منـزله, ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه, وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج. ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث, وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة, وردهن إلى أربعة أشهر وعشر، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج قال، أخبرنا حيوة بن شريح, عن ابن عجلان, عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة, وأخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة, عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري: أن زوجها خرج في طلب عبد له, فلحقه بمكان قريب فقاتله، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها خرج في طلب عبد له, فلقيه علوج فقتلوه, وإني في مكان ليس فيه أحد غيري, وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله.

وأما قوله: « متاعا » ، فإن معناه: جعل ذلك لهن متاعا, أي الوصية التي كتبها الله لهن.

وإنما نصب « المتاع » , لأن في قوله: « وصية لأزواجهم » ، معنى متعهن الله, فقيل: « متاعا » ، مصدرا من معناه لا من لفظه.

وقوله: ( غَيْرَ إِخْرَاجٍ ) ، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول، لا إخراجا من مسكن زوجها يعني: لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول. فنصب « غير » على النعت ل « لمتاع » ، كقول القائل: « هذا قيام غير قعود » , بمعنى: هذا قيام لا قعود معه, أو: لا قعود فيه.

وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى: لا تخرجوهن إخراجا، وذلك خطأ من القول. لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل، كان نصبه من كلام آخر غير الأول, وإنما هو منصوب بما نصب « المتاع » على النعت له.

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 240 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم، ونهى ورثته عن إخراجهن, إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن, وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن، بغير إخراج من ورثة الميت.

ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن. لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل، لم يكن فرضا عليهن, وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات. فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف, وذلك ترك الحداد. يقول: فلا حرج عليكم في التزين إن تزينّ وتطيبن وتزوجن, لأن ذلك لهن.

وإنما قلنا: « لا حرج عليهنّ في خروجهن » , وإن كان إنما قال تعالى ذكره: « فلا جناح عليكم » ، لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح, لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج، مع قدرتهم على منعهنّ من ذلك. ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد, وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف, وذلك في أنفسهن.

وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلناه في ذلك قبل.

وأما قوله: ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، فإنه يعني تعالى ذكره: « والله عزيز » ، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء, فمنع من كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الآيات التي مضت قبل: من المتعة والصداق والوصية، وإخراجهن قبل انقضاء الحول، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات « حكيم » ، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الآيات قبل قوله: ( وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته.

القول في تأويل قوله جل ذكره وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 241 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج، « متاع » . يعني بذلك: ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم، وغير ذلك مما يستمتع به. وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك, واختلاف أهل العلم فيه، والصواب من القول من ذلك عندنا، بما فيه الكفاية من إعادته.

وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات.

فقال بعضهم: عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا: وإنما قلنا ذلك، لأن [ الحقوق اللازمة للمطلقات ] غير المدخول بهن في المتعة، قد بينها الله تعالى ذكره في الآيات قبلها, فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء في قوله: « وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين » ، قال: المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله وزاد فيه: ذكره شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء.

وقال آخرون: بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة، وإنما أنـزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة, إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت, وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين » ، قال: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يونس، عن الزهري- في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى- قال: تعتد في بيتها. وقال: لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره, وقد قال الله تعالى ذكره: « متاع بالمعروف حقا على المتقين » ، ولها المتعة حتى تضع.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء قال: قلت له: أللأمة من الحر متعة؟ قال: لا. قلت: فالحرة عند العبد؟ قال: لا وقال عمرو بن دينار: نعم, « وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين » .

وقال آخرون: إنما نـزلت هذه الآية, لأن الله تعالى ذكره لما أنـزل قوله : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [ سورة البقرة: 236 ] ، قال رجل من المسلمين: فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنـزل الله: « وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين » ، فوجب ذلك عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، فقال رجل: فإن أحسنت فعلت, وإن لم أرد ذلك لم أفعل! فأنـزل الله: « وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير, من أن الله تعالى ذكره أنـزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة. لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء، خصوصا من النساء, فبين في الآية التي قال فيها: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [ سورة البقرة: 236 ] ، وفي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [ سورة الأحزاب: 49 ] ، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس, وبقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ [ سورة الأحزاب: 28 ] ، حكم المدخول بهن، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن, وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله: « وللمطلقات متاع بالمعروف » ذكر جميعهن, وأخبر بأن لهن المتاع, كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية.

وأما قوله: ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، فإنا قد بينا معنى قوله: « حقا » , ووجه نصبه, والاختلاف من أهل العربية في قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [ سورة البقرة: 236 ] ، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع.

فأما « المتقون » : فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده, فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له, ووجلا منهم من عقابه.

وقد تقدم بيان تأويل ذلك نصا بالرواية.

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 242 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم، أيها المؤمنون, وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض في هذه الآيات, فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنـزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب, لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي, فتفهموا اللازم لكم من فرائضي, وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم, فتعلموا به ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.

 

القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « ألم تر » ، ألم تعلم، يا محمد؟ وهو من « رؤية القلب » لا « رؤية العين » ، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، و « رؤية القلب » : ما رآه، وعلمه به. فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : « وهم ألوف » .

فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع « ألف » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سفيان, عن ميسرة النهدي, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » ، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون, قالوا: « نأتي أرضا ليس فيها موت » ! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا, قال لهم الله : « موتوا » . فمر عليهم نبي من الأنبياء, فدعا ربه أن يحييهم, فأحياهم، فتلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ميسرة النهدي, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » ، قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون, فأماتهم الله, فمر عليهم نبي من الأنبياء, فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه, فأحياهم.

حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان, فشكوا ما أصابهم وقالوا: « يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه » ! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء, وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا, وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا, فإن فيها أربعة آلاف قال وهب: وهم الذين قال الله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت, فرقتها الطير والسباع. فناداهم حزقيل فقال: « يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي » ! فاجتمع عظام كل إنسان منهم معا. ثم نادى ثانية حزقيل فقال: « أيتها العظام, إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم » ، فاكتست اللحم, وبعد اللحم جلدا, فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال: « أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك » ! فقاموا بإذن الله, وكبروا تكبيرة واحدة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف » ، يقول: عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله, فأماتهم الله, ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أشعث بن أسلم البصري قال: بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى فقال أحدهم لصاحبه، أهو هو؟ فلما انفتل عمر قال: أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ فقالا إنا نجده في كتابنا: « قرنا من حديد، يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيى الموتى بإذن الله » . فقال عمر: ما نجد في كتاب الله « حزقيل » ولا « أحيى الموتى بإذن الله » ، إلا عيسى. فقالا أما تجد في كتاب الله وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، [ سورة النساء: 164 ] ، فقال عمر: بلى! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك: إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء, فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله, فبنوا عليهم حائطا, حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله, فبعثهم الله له, فأنـزل الله في ذلك: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف » ، الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن الحجاج بن أرطأة قال: كانوا أربعة آلاف.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف » ، إلى قوله: ( ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، قال: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون, فهرب عامة أهلها فنـزلوا ناحية منها, فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون, فلم يمت منهم كبير. فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين, فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا, لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا, وهم بضعة وثلاثون ألفا, حتى نـزلوا ذلك المكان, وهو واد أفيح, فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا ! فماتوا, حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم, مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه, فأوحى الله إليه: يا حزقيل, أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم فقال: نعم! فقيل له: ناد! فنادى: « يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي! » ، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد: « يا أيتها العظام, إن الله يأمرك أن تكتسي لحما » ، فاكتست لحما ودما، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له: ناد ! فنادى: « يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي » , فقاموا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, قال: فزعم منصور بن المعتمر, عن مجاهد: أنهم قالوا حين أحيوا: « سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت » ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى, سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة, عن عطاء الخراساني: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف » ، قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، حظر عليهم حظائر, وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح, وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله, فأماتهم الله ثم أحياهم, فأمرهم بالجهاد, فذلك قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع, خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز، وإنما سمي « ابن العجوز » أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت, فوهبه الله لها, فلذلك قيل له « ابن العجوز » وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون » . .

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت, وهم ألوف، حتى إذا نـزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله: « موتوا » ، فماتوا جميعا. فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع, ثم تركوهم فيها, وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور, حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوزى, فوقف عليهم, فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم، فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم! فقيل له: نادهم فقل: « أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت, ليرجع كل عظم إلى صاحبه » . فناداهم بذلك, فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا. ثم قيل له: قل: « أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك » ، قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار, حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة, فتغشاه من السماء شيء كربه حتى غشي عليه منه، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون: « سبحان الله, سبحان الله » قد أحياهم الله.

وقال آخرون: معنى قوله « وهم ألوف » وهم مؤتلفون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قول الله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم » ، قال: قرية كانت نـزل بها الطاعون, فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت, والتي خرجت لم يصبهم شيء. ثم ارتفع, ثم نـزل العام القابل, فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث، نـزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم, فقال الله تعالى ذكره: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف » ، ليست الفرقة أخرجتهم، كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة, إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة, قال لهم الله: « موتوا » ، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا، ثم أحياهم الله، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ . قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر فقال: « أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ » ، فأماته الله مائة عام.

* ذكر الأخبار عمن قال: كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن الأشعث, عن الحسن في قوله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » ، قال. خرجوا فرارا من الطاعون, فأماتهم قبل آجالهم, ثم أحياهم إلى آجالهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » ، قال: فروا من الطاعون, فقال لهم الله: ( مُوتُوا ) ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » ، قال: وقع الطاعون في قريتهم, فخرج أناس وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية, فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا, وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [ وقد أنكروا قريتهم، ومن تركوا ] . وكثروا بها, حتى يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف » الآية، مقتهم الله على فرارهم من الموت, فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها, ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن حصين, عن هلال بن يساف في قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين خرجوا » الآية، قال: هؤلاء القوم من بني إسرائيل، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال: فاستحر الموت على المقيمين منهم, ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد, أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال: فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد, فمر بهم نبي فقال: يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال: فقل: كذا وكذا، فتكلم به, فنظر إلى العظام , وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر, فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به, فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن حماد بن عثمان, عن الحسن: أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال: هم قوم فروا من الطاعون, فأماتهم الله عقوبة ومقتا, ثم أحياهم لآجالهم.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل قوله: « وهم ألوف » بالصواب, قول من قال: « عنى بالألوف كثرة العدد » دون قول من قال: « عنى به الائتلاف » ، بمعنى ائتلاف قلوبهم, وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض, ولكن فرارا: إما من الجهاد, وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية, ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين.

وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب, قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا, وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم: « ألوف » . وإنما يقال « هم آلاف » ، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف.

وإنما جمع قليله على « أفعال » ، ولم يجمع على « أفعل » مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل حرف كان أوله، ياء أو واوا أو ألفا، اختيار جمع قليله على أفعال, كما جمعوا « الوقت » « أوقاتا » و « اليوم » « أياما » , و « اليسر » و « أيسارا » ، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على « أفعل » , إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا, ومنه قول الشاعر:

كــانوا ثلاثــة آلــف وكتيبــة ألفيــن أعجــم مـن بنـي الفـدام

وأما قوله: « حذر الموت » ، فإنه يعني: أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه. كما: -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « حذر الموت » ، فرارا من عدوهم, حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ سورة البقرة: 246 ]

قال أبو جعفر: وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته, ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نـزل بعقوته, كما لم ينفع الهاربين من الطاعون الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت » فرارهم من أوطانهم, وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة, وبالموئل النجاة من المنية, حتى أتاهم أمر الله, فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى, ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ( 243 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لذو فضل ومن. على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طرق الردى, وغير ذلك من نعمه التي ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، عبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده, فيستسلموا لقضائه, ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه.

ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة, يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره, ويتخذ إلها من دونه, كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله, فقال تعالى ذكره: « ولكن أكثر الناس لا يشكرون » ، يقول: لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم, بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا, ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا.

 

القول في تأويل قوله : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 244 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « وقاتلوا » ، أيها المؤمنون « في سبيل الله » ، يعني: في دينه الذي هداكم له, لا في طاعة الشيطان أعداء دينكم, الصادين عن سبيل ربكم, ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم, ولا تجبنوا عن حربهم، فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم, فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم, فتذلوا, ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه, كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت, الذين قصصت عليكم قصتهم, فلم ينجهم فرارهم منه من نـزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي, ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم , وصرفتها عن حوبائهم, فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني, فإن من حيي منكم فأنا أحييه, ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.

ثم قال تعالى ذكره لهم: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم « سميع » لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا « عليم » بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم، وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.

يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي, وغير ذلك من أمري ونهيي, إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيط بذلك كله, حتى أجازي كلا بعمله, إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.

قال أبو جعفر: ولا وجه لقول من زعم أن قوله: « وقاتلوا في سبيل الله » ، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم. لأن قوله: « وقاتلوا في سبيل الله » ، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة:

إما أن يكون عطفا على قوله: فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.

أو يكون عطفا على قوله: ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله: « وقاتلوا في سبيل الله » ، أمر من الله بالقتال, وقوله: ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟

أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله, ثم أسقط « القول » , كما قال تعالى ذكره: إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [ سورة السجدة: 12 ] ، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه, فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها.

 

القول في تأويل قوله : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله, فيعين مضعفا، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله, ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه.

وإنما سماه الله تعالى ذكره « قرضا » , لأن معنى « القرض » إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة, سماه « قرضا » , إذ كان معنى « القرض » في لغة العرب ما وصفنا.

وإنما جعله تعالى ذكره « حسنا » , لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشياطين معصية. وليس ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه, ولكن ذلك كقول العرب: « عندي لك قرض صدق، وقرض سوء » ، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته, كما قال الشاعر:

كـل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو ســيئا, ومدينــا بــالذي دانـا

فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ سورة البقرة: 261 ] .

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » ، قال : هذا في سبيل الله « فيضاعفه له أضعافا كثيرة » ، قال: بالواحد سبعمئة ضعف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن زيد بن أسلم قال: لما نـزلت: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة » ، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله, ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية, والأخرى بالسافلة, وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة » ! .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال: « أنا أقرض الله » ، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به. قال، وقال قتادة: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده.

حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال، حدثنا خلف بن خليفة, عن حميد الأعرج, عن عبد الله بن الحارث, عن عبد الله بن مسعود قال: لما نـزلت: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » ، قال أبو الدحداح: يا رسول الله, أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: .

فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها, فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك ! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة.

وأما قوله: « فيضاعفه له أضعافا كثيرة » ، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حد له ولا نهاية، كما: -

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة » ، قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو.

وقد: -

وقد حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال: إن الله أعطاكم الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا, فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم، كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى.

قال أبو جعفر: وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: ( فيضاعفه ) بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له نسق « يضاعف » على قوله: « يقرض » .

وقرأه آخرون بذلك المعنى: ( فيضعفه ) , غير أنهم قرءوا بتشديد « العين » وإسقاط « الألف » .

وقرأه آخرون: ( فيضاعفه له ) بإثبات « الألف » في « يضاعف » ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله: « فيضاعفه » جوابا للاستفهام, وجعلوا: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » اسما. لأن « الذي » وصلته، بمنـزلة « عمرو » و « زيد » . فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل: « من أخوك فتكرمه » ، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل نصبه.

قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: ( فيضاعفه له ) بإثبات « الألف » . ورفع « يضاعف » . لأن في قوله: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا » معنى الجزاء . والجزاء إذا دخل في جوابه « الفاء » ، لم يكن جوابه ب « الفاء » لا رفعا. فلذلك كان الرفع في « يضاعفه » أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا « الألف » في « يضاعف » من حذفها وتشديد « العين » , لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: -

حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت وحميد وقتادة, عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله الباسط القابض الرازق, وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال » . .

قال أبو جعفر: يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره:، « والله يقبض ويبسط » ، يعني بقوله: « يقبض » ، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويعني بقوله: و « يبسط » يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم.

وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله, فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله, ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله, فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي, فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني - أيها الموسع- الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه, لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك, فأنظر كيف طاعتك إياي فيه, فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق, عند رجوعكما إلي في آخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا الآية، قال: علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة , وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى, فندب هؤلاء فقال: « من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط » ؟ قال: بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده, وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له, فقوه مما في يدك، يكن لك في ذلك حظ.

 

القول في تأويل قوله : وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 245 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإلى الله معادكم، أيها الناس, فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده, وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه, وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته, والتقدم على ما نهاه، فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه.

وكان قتادة يتأول قوله: « وإليه ترجعون » ، وإلى التراب ترجعون.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وإليه ترجعون » ، من التراب خلقهم, وإلى التراب يعودنه.

 

القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ألم تر » ، ألم تر، يا محمد، بقلبك, فتعلم بخبري إياك، يا محمد « إلى الملأ » ، يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم « من بعد موسى » ، يقول: من بعد ما قبض موسى فمات « إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » . فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل بن بالى بن علقمة بن يرحام بن إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن وهب بن منبه.

وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق.

وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي « شمعون » ، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما, فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها, فولدت غلاما فسمته « شمعون » ، تقول: الله تعالى سمع دعائي.

حدثني [ بذلك ] موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي.

فكأن « شمعون » « فعلون » عند السدي, من قولها: إنَّه سمع الله دعاءها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم » ، قال: شمؤل.

وقال آخرون : بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما.

وأما قوله: « ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » ، فاختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك.

فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما: -

حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل بن بوزي، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل, وعظمت في بني إسرائيل الأحداث, ونسوا ما كان من عهد الله إليهم, حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس بن نسى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب, وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله, فجعل إلياس يدعوهم إلى الله, وجعلوا لا يسمعون منه شيئا, إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام, كل ملك له ناحية منها يأكلها. فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل - قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه, يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، ما ينقص من دنياهم [ أمرهم الذي تزعم أنه باطل ] ؟ وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون - والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه, عبد الأوثان, وصنع ما يصنعون. ثم خلف من بعده فيهم اليسع, فكان فيهم ما شاء الله أن يكون, ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف, وعظمت فيهم الخطايا, وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر, فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم, إلا هزم الله ذلك العدو. ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء , وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم - فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة, ثم ينبذ فيه الحب , فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم, نـزل بهم عدو فخرجوا إليه, وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه, ثم زحفوا به, فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب, فمالت عنقه, فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم، ووطئهم عدوهم, حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا لا يقبلون منه شيئا، يقال له « شمويل » , وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد: « ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » إلى قوله: وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ، يقول الله: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ ، إلى قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: أنه لما نـزل بهم البلاء ووطئت بلادهم, كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا: « ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » . وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك, وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم, فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل, ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا, وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له: « ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » . فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونـزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو, فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد, فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل » إلى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، قال الربيع: ذكر لنا - والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل, وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر, فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم, فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا ، إلى قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج في قوله: « ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا » ، قال قال ابن عباس: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان, وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله : « إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا » ، قال: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان.

وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك, ما: -

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » ، قال: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة, وكان ملك العمالقة جالوت، وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا, فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى, فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام, لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما, فولدت غلاما فسمته شمعون. فكبر الغلام، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس, وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يتمن عليه أحدا غيره فدعاه بلحن الشيخ: « يا شماول! » ، فقام الغلام فزعا إلى الشيخ, فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول: « لا » فيفزع الغلام, فقال: يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية, فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم, فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك, فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك! فقال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا.

قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره: « نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » إذا قرئ « بالنون » غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون، بمعنى: الذي نقاتل به في سبيل الله, فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. ولكن لو كان قرئ ذلك « بالياء » لجاز رفعه, لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل « الملك » , فيصير تأويل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله, كما قال تعالى ذكره: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [ سورة البقرة: 129 ] ، لأن قوله يَتْلُو من صلة الرسول.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 246 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله: « هل عسيتم » ، هل، تعدون « إن كتب » , يعني: إن فرض عليكم القتال « ألا تقاتلوا » ، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ « قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله » ، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله « وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا » ، بالقهر والغلبة؟

فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول « أن » في قوله: « وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله » ، وحذفه من قوله: وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ؟ [ سورة الحديد: 8 ]

قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف « أن » مرة مع قولها: « ما لك » , فتقول: « ما لك لا تفعل كذا » ، بمعنى: ما لك غير فاعله, كما قال الشاعر:

* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف *

وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.

وتثبت « أن » فيه أخرى, توجيها لقولها: « ما لك » إلى معناه, إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [ سورة الأعراف: 12 ] ، ثم قال في سورة أخرى في نظيره : مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [ سورة الحجر: 32 ] ، فوضع « مَا مَنَعَكَ » موضع « ما لك » ، و « ما لك » موضع « ما منعك » ، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما, كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه, كما قال الشاعر:

يقـول إذا اقلـولى عليهـا وأقـردت: ألا هــل أخــو عيش لذيـذ بـدائم?

فأدخل في « دائم » « الباء » مع « هل » ، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر « ما » التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد.

وكان بعض أهل العربية يقول: أدخلت « أن » في: « ألا تقاتلوا » ، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال: « ما لك أن قمت وما لك أنك قائم » ، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال, كما يقال: « منعتك أن تقوم » ، ولا يقال: « منعتك أن قمت » ، فلذلك قيل في « مالك » : « مالك ألا تقوم » ولم يقل: « ما لك أن قمت » .

وقال آخرون منهم: « أن » ها هنا زائدة بعد « ما لنا » ، كما تزاد بعد « لما » و « لو » ، وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل « أن » وهي زائدة، وقال الفرزدق:

لـو لـم تكـن غطفـان لا ذنوب لها إذن لــلام ذوو أحســابها عمــرا

والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب « ولا » زائدة فأعملها.

وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل « أن » زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن « أن » زائدة, معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله:

* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها *

فإن « لا » غير زائدة في هذا الموضع, لأنه جحد, والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله: « لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها » ، إثبات الذنوب لها, كما يقال: « ما أخوك ليس يقوم » ، بمعنى: هو يقوم.

وقال آخرون: معنى قوله: « ما لنا ألا نقاتل » : ما لنا ولأن لا نقاتل, ثم حذفت « الواو » فتركت, كما يقال في الكلام: « ما لك ولأن تذهب إلى فلان » ، فألقي منها « الواو » , لأن « أن » حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال: « ما لك أن تقوم » ، ولا نجيز: « ما لك القيام » ، لأن القيام اسم صحيح و « أن » اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب: « إياك أن تتكلم » ، بمعنى: إياك وأن تتكلم.

وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله, لوجب أن يكون جائزا: « ضربتك بالجارية وأنت كفيل » , بمعنى: وأنت كفيل بالجارية وأن تقول: « رأيتك إيانا وتريد » , بمعنى : « رأيتك وإيانا تريد » . لأن العرب تقول: « إياك بالباطل تنطق » ، قالوا: فلو كانت « الواو » مضمرة في « أن » ، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز, لأن ما بعد « الواو » من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، واستشهدوا على فساد قول من زعم أن « الواو » مضمرة مع « أن » بقول الشاعر:

فبـــح بالســرائر فــي أهلهــا إيــاك فــي غــيرهم أن تبوحـا

وأنَّ « أن تبوحا » ، لو كان فيها « واو » مضمرة، لم يجز تقديم « في غيرهم » عليها.

وأما تأويل قوله تعالى: « وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا » ، فإنه يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم: « ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » ، كانوا في ديارهم وأوطانهم, وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم.

وأما قوله: « فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ » ، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله « تولوا إلا قليلا منهم » ، يقول: أدبروا مولين عن القتال, وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد.

والقليل الذي استثناهم الله منهم, هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه.

يقول الله تعالى ذكره: « وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » ، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه, فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه.

وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه فيه, فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى.

وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: « قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا » فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا, وكتب عليهم القتال « فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل: إن الله قد أعطاكم ما سألتم, وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الملك علينا, وهو من سبط بنيامين بن يعقوب وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة ونحن أحق بالملك منه, لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب « ولم يؤت سعة من المال » ، يعني: ولم يؤت طالوت كثيرا من المال, لأنه سقاء وقيل: كان دباغا.

وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال » ، ما: -

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه قال: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له, سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث لهم ملكا, فقال الله له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك, فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن, فهو ملك بني إسرائيل, فادهن رأسه منه وملكه عليهم، وأخبره بالذي جاءه- فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه. وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم, وكان من سبط بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته، ومعه غلام له. فمرا ببيت النبي عليه السلام, فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه, فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها, إذ نش الدهن الذي في القرن, فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه, ثم قال لطالوت: قرب رأسك! فقربه, فدهنه منه، ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! وكان اسم « طالوت » بالسريانية: شاول بن قيس بن أبيال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن آيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فجلس عنده، وقال الناس: ملك طالوت!! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس في بيت النبوة المملكة ؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا ! فقال لهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل, عن عبد الكريم, عن عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه قال : قالت بنو إسرائيل لأشمويل: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ! قال: قد كفاكم الله القتال ! قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه ! فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا, وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت,

فأرسله وغلاما له يطلبانها, فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها, فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال: أنا؟ قال: نعم! قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال : بلى. قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي؟! قال: بلى! قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال: بلى! قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره, وإذا كنت بمكان كذا وكذا نـزل عليك الوحي! فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم » .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط , عن السدي قال: لما كذبت بنو إسرائيل شمعون, وقالوا له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك. قال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية دعا الله، فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا, فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له, فضل حماره, فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها, فكان مثلها , فقال لهم نبيهم: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » . قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة، وليس هو من سبط المملكة, ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال النبي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك , عن عمرو بن دينار, عن عكرمة قال: كان طالوت سقاء يبيع الماء.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بعث الله طالوت ملكا , وكان من سبط بنيامين، سبط لم يكن فيهم مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة, وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي، إليه موسى وسبط المملكة يهوذا، إليه داود وسليمان. فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه » ؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ! فقال الله تعالى ذكره: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ، قال لهم نبيهم: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » . قالوا: « أنى يكون له الملك علينا » ؟ قال: وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة, فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » ، وكان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة, وسبط خلافة، فلذلك قالوا: « أنى يكون له الملك علينا » ؟ يقولون: « ومن أين يكون له الملك علينا, وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة » ؟ قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان, قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: « أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا » ، فذكر نحوه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ؟ الآية، قال: فبعث الله طالوت ملكا. قال: وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة, ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم ملكا، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال » ؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة؟ فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ الآية.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: أما ذكر طالوت إذ قالوا: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال » ؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان: كان في أحدهما النبوة, وكان في الآخر الملك، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة, ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين، واختاره عليهم، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن أجل ذلك قالوا: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه » ، وليس من واحد من السبطين؟ قال: ف إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ إلى: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى الآية، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان, وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم « فلما كتب عليهم القتال » ، وذلك حين أتاهم التابوت. قال: وكان من بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط خلافة, فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة, ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة, فقال لهم نبيهم: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه » ، وليس من أحد السبطين: لا من سبط النبوة، ولا سبط الخلافة؟ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ، الآية.

وقد قيل: إن معنى « الْمُلْكُ » في هذا الموضع: الإمرة على الجيش.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » ، قال: كان أمير الجيش.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله إلا أنه قال: كان أميرا على الجيش.

قال أبو جعفر: وقد بينا معنى « أنى » , ومعنى « الملك » ، فيما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إن الله اصطفاه عليكم » ، قال نبيهم شمويل لهم: « إن الله اصطفاه عليكم » ، يعني: اختاره عليكم، كما: -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « اصطفاه عليكم » ، اختاره.

حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك : « إن الله اصطفاه عليكم » ، قال: اختاره عليكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « إن الله اصطفاه عليكم » ، اختاره.

وأما قوله: « وزاده بسطة في العلم والجسم » ، فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم, وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله، وأما « في الجسم » , فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم. كما: -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل, عن وهب بن منبه قال: لما قالت بنو إسرائيل: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم » . قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا.

وقال السدي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها.

حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « إن الله اصطفاه عليكم وزاده » مع اصطفائه إياه « بسطة في العلم والجسم » . يعني بذلك: بسط له مع ذلك في العلم والجسم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم » ، بعد هذا.

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 247 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه « يؤتيه » ، يقول: يؤتي ذلك من يشاء، فيضعه عنده ويخصه به, ويمنعه من أحب من خلقه. يقول: فلا تستنكروا، يا معشر الملإ من بني إسرائيل، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة, فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف, ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه, فلا تتخيروا على الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه: « والله يؤتي ملكه من يشاء » ، الملك بيد الله يضعه حيث شاء, ليس لكم أن تختاروا فيه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: ملكه سلطانه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « والله يؤتي ملكه من يشاء » ، سلطانه.

وأما قوله: « والله واسع عليم » ، فإنه يعني بذلك « والله واسع » بفضله فينعم به على من أحب, ويريد به من يشاء « عليم » بمن هو أهل لملكه الذي يؤتيه, وفضله الذي يعطيه, فيعطيه ذلك لعلمه به, وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ

قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا : « والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم » ، فقالوا له: ما آية ذلك إن كنت من الصادقين؟ « قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت » . وهذه القصة وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله, ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته، ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله، من الجهاد في سبيل الله، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه, وفتح الله على القليل من الفئة، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير, وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقيقة نبوته, بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته, وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي, مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقية نبوته, وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم، ابتداء منهم بذلك نبيهم, وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله, وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدو، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت, وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب, وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ سورة البقرة: 249 ] , وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر.

وأما تأويل قوله: « قال لهم نبيهم » ، فإنه يعني: للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم: « ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله » .

وقوله: « إن آية ملكه » ، : إن علامة ملك طالوت التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا, وإن كان من غير سبط المملكة « أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم » ، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم، وزحفوا معه, فلا يقوم لهم معه عدو، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم, حتى ضيعوا أمر الله، وكثر اختلافهم على أنبيائهم, فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة، يرده إليهم في كل ذلك, حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم، ولن يرد إليهم آخر الأبد.

ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت, أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟

فقال بعضهم: بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه، حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به, ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت. وقال في سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما: -

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: كان لعيلي الذي ربى شمويل، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، فجعله ابناه كلاليب. وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن. فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي, إذ سمع صوتا يقول: أشمويل!! فوثب إلى عيلي فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لا! ارجع فنم! فرجع فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويل !! فوثب إلى عيلي أيضا, فقال: لبيك ! ما لك ! دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم, فإن سمعت شيئا فقل: « لبيك » مكانك، « مرني فأفعل » ! فرجع فنام, فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل !! فقال: لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال: انطلق إلى عيلي فقل له: « منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني, فلأنـزعن منه الكهانة ومن ولده, ولأهلكنه وإياهما » ! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره, ففزع لذلك فزعا شديدا. فسار إليهم عدو ممن حولهم, فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به. فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم, جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال : فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو! قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه, فوضعوه تحت الصنم، والصنم من فوقه, فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت, فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه, وأصبح ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض: قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء, فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم, فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم, فقالوا: ما هذا؟! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا: كذبت! قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط , ثم تضعوا وراءهم العجل, ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين, حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما, وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما, وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه, فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل: اعترضوا, فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس , فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل، أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما, وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت, فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم , عن وهب بن منبه قال: قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، وإن آية ملكه وإن تمليكه من قبل الله أن يأتيكم التابوت, فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون, وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو, وتظهرون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر, وكانوا أصحاب أوثان, وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب, مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها: « أزدود » , فكانوا قد جعلوا التابوت في كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان: من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم- جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها, وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا, تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا، قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا: تعلمون والله، لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله, وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت, ثم علقوها بثورين, ثم ضربوا على جنوبهما, وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما, فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران, حتى وقف على بني إسرائيل, فكبروا وحمدوا الله, وجدوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم- أبوا أن يسلموا له الرياسة، حتى قال لهم: « إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم » . فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!! وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها. فنـزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم , عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها. قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت- والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا- فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا: نعم ! فسلموا له وملكوه. قال: وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم. ويقولون: إن آدم نـزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية, وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب, وقف في ناحية الجبل فقال: « أنى يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام » . ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته, يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة، رد الله إليه روحه، وقد عمرت, فهي على حالتها الأولى.

فلما أراد أن يرد عليهم التابوت , أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم: إما دانيال وإما غيره: إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض, فأخرجوا عنكم هذا التابوت ! قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط, فإذا نطرتا إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما, ثم يشد التابوت على عجل, ثم يعلق على البقرتين, ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرا سريعا , حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما, وقطعتا حبالهما, وذهبتا. فنـزل إليهما داود ومن معه، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به فقلنا لوهب: ما حجل إليه، قال : شبيه بالرقص فقالت له امرأته: لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال: أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها.

وقال آخرون: بل التابوت الذي جعله الله آية لملك طالوت كان في البرية, وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع, فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد, قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم » ، الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية, وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت » الآية, قال: كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت, فأصبح التابوت في داره.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل : « إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت » ، و « الألف واللام » لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به, فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.

فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع, فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع, بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما, وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع, فإن الذين قالوا هذه المقالة، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه, فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها, فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، أبين الدلالة على صحة القول الآخر, إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما.

وكانت صفة التابوت فيما بلغنا، كما: -

حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال: سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى: ما كان؟ قال: كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين.

 

القول في تأويل قوله : فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فيه » ، في التابوت « سكينة من ربكم » .

واختلف أهل التأويل في معنى « السكينة » .

فقال بعضهم: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا محمد بن جحادة, عن سلمة بن كهيل, عن أبي وائل, عن علي بن أبي طالب قال: السكينة، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل, عن أبي الأحوص, عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان, ثم هي ريح هفافة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن العوام بن حوشب, عن سلمة بن كهيل, عن علي بن أبي طالب في قوله: « فيه سكينة من ربكم » ، قال: ريح هفافة لها صورة وقال يعقوب في حديثه: لها وجه وقال ابن المثنى: كوجه الإنسان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن سلمة بن كهيل قال، قال علي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان, وهي ريح هفافة.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك بن حرب, عن خالد بن عرعرة قال، قال علي: السكينة ريح خجوج, ولها رأسان.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة، يحدث عن علي, نحوه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, وحماد بن سلمة, وأبو الأحوص, كلهم عن سماك, عن خالد بن عرعرة, عن علي, نحوه.

وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرة وجناحان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى: « فيه سكينة من ربكم » ، قال: أقبلت السكينة [ والصرد ] وجبريل مع إبراهيم من الشأم قال ابن أبي نجيح، سمعت مجاهدا يقول: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: السكينة لها جناحان وذنب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة.

وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن وهب بن منبه, عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.

وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا الحكم بن ظهير, عن السدي, عن أبي مالك, عن ابن عباس : « فيه سكينة من ربكم » ، قال: طست من ذهب من الجنة, كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فيه سكينة من ربكم » ، السكينة: طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء, أعطاها الله موسى, وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد.

وقال آخرون: « السكينة » ، روح من الله تتكلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله، قال، سألنا وهب بن منبه فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.

حدثنا محمد بن عسكر قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا بكار بن عبد الله: أنه سمع وهب بن منبه، فذكر نحوه.

وقال آخرون: « السكينة » ، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: « فيه سكينة من ربكم » ، الآية، قال: أما السكينة فما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها.

وقال آخرون: « السكينة » ، الرحمة.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فيه سكينة من ربكم » ، أي رحمة من ربكم.

وقال آخرون: « السكينة » ، هي الوقار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فيه سكينة من ربكم » ، أي وقار.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى « السكينة » , ما قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن « السكينة » في كلام العرب « الفعيلة » ، من قول القائل: « سكن فلان إلى كذا وكذا » إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه « فهو يسكن سكونا وسكينة » , مثل قولك: « عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة » , و « قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية » , ومنه قول الشاعر:

للــه قــبر غالهـا! مـاذا يجـن? لقـــد أجــن ســكينة ووقــارا

وإذا كان معنى « السكينة » ما وصفت, فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه, وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه, وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى « السكينة » ما وصفنا, فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره، لدلالة الكلام عليه.

 

القول في تأويل قوله : وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وبقية » ، الشيء الباقي، من قول القائل: « قد بقي من هذا الأمر بقية » , وهي « فعلية » منه, نظير « السكينة » من « سكن » .

وقوله: « مما ترك آل موسى وآل هارون » ، يعني به: من تركة آل موسى , وآل هارون.

واختلف أهل التأويل في « البقية » التي كانت بقيت من تركتهم.

فقال بعضهم : كانت تلك « البقية » عصا موسى ورضاض الألواح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن عكرمة قال: أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: رضاض الألواح.

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر قال، حدثنا داود، عن عكرمة قال داود: وأحسبه عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس في هذه الآية: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: عصا موسى ورضاض الألواح .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح, فيما ذكر لنا .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: البقية عصا موسى ورضاض الألواح.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، أما البقية، فإنها عصا موسى ورضاضة الألواح.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع : « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، عصا موسى وأثور من التوراة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي, عن خالد الحذاء, عن عكرمة في هذه الآية: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: التوراة ورضاض الألواح والعصا قال إسحاق، قال وكيع: ورضاضه كسره.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن خالد, عن عكرمة في قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: رضاض الألواح.

وقال آخرون: بل تلك « البقية » عصا موسى وعصا هارون, وشيء من الألواح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن إسماعيل, عن ابن أبي خالد, عن أبي صالح: « أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: كان فيه عصا موسى وعصا هارون, ولوحان من التوراة, والمن.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي, عن عطية بن سعد في قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: عصا موسى، وعصا هارون, وثياب موسى, وثياب هارون, ورضاض الألواح.

وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، سألت الثوري عن قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: منهم من يقول: البقية قفيز من من ورضاض الألواح- ومنهم من يقول: العصا والنعلان.

وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، قلنا لوهب بن منبه: ما كان فيه؟ يعني في التابوت قال: كان فيه عصا موسى والسكينة.

وقال آخرون: بل كان ذلك، رضاض الألواح وما تكسر منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، قال: كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها, فجعل الباقي في ذلك التابوت.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، [ قال ] العلم والتوراة.

وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون » ، يعني ب « البقية » ، القتال في سبيل الله, وبذلك قاتلوا مع طالوت, وبذلك أمروا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه الذي قال لأمته: « إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا » أن فيه سكينة منه, وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. وجائز أن يكون تلك البقية: العصا, وكسر الألواح، والتوراة, أو بعضها، والنعلين, والثياب, والجهاد في سبيل الله وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة, ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك, فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره, إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول.

 

القول في تأويل قوله : تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.

فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه, حتى وضعته عند طالوت.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قال لهم يعني النبي، لبني إسرائيل: « والله يؤتي ملكه من يشاء » . قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك فيه! قال: إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون، فإن آية ملكه: أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، الآية. قال: فنـزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا, حتى وضعوه بين أظهرهم, فأقروا غير راضين, وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما قال لهم نبيهم: « إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم » ، قالوا: فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك ! قال: « إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة » . وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت, فآمنوا بنبوة شمعون, وسلموا ملك طالوت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « تحمله الملائكة » ، قال : تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.

وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن بعض أشياخه قال: تحمله الملائكة على عجلة على بقرة.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما, فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: « حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل » . وذلك أن الله تعالى ذكره قال: « تحمله الملائكة » ، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها, فهي غير حاملته. لأن « الحمل » المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل, فأما ما حمله على غيره وإن كان جائزا في اللغة أن يقال « حمله » بمعنى معونته الحامل, وبأن حمله كان عن سببه فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، ما وُجد إلى ذلك سبيل.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 248 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة « لآية لكم » ، يعني: لعلامة لكم ودلالة، أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك « إن كنتم مؤمنين » ، يعني بذلك: إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.

وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ، بقولهم: « أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه » ، وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا,

فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه, لأنهم سألوا الآية على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه, فقال لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ

قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة, فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم, وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله: « فلما فصل طالوت بالجنود » . وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له, لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها.

وأما قوله: « فصل » فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم.

وأصل « الفصل » القطع, يقال، منه: « فصل الرجل من موضع كذا وكذا » , يعني به قطع ذلك, فجاوزه شاخصا إلى غيره, « يفصل فصولا » ، و « فصل العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا » ، إذا قطعه فأبانه، و « فصل الصبي فصالا » ، إذا قطعه عن اللبن . و « قول فصل » ، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.

وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل, لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته, أو كبير لهرمه, أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له, ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة, أو ضرير معذور, أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون, وسلموا ملك طالوت, فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا.

قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال: « إن الله مبتليكم بنهر » ، يقول: إن الله مختبركم بنهر, ليعلم كيف طاعتكم له.

وقد دللنا على أن معنى « الابتلاء » ، الاختبار، فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قول الله تعالى: « إن الله مبتليكم بنهر » ، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.

وقيل: إن طالوت قال: « إن الله مبتليكم بنهر » ، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم, وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا, فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله: « إن الله مبتليكم بنهر » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا, فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت: « إن الله مبتليكم بنهر » الآية.

« والنهر » الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: « إن الله مبتليكم بنهر » ، قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إن الله مبتليكم بنهر » ، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: « إن الله مبتليكم بنهر » ، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت, قال طالوت لبني إسرائيل: « إن الله مبتليكم بنهر » ، قال: نهر بين فلسطين والأردن, نهر عذب الماء طيبه.

وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: « إن الله مبتليكم بنهر » ، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الله مبتليكم بنهر » ، هو نهر فلسطين.

وأما قوله: « فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم » . فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش, فأخبر أن الله مبتليهم بنهر, ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر, هو أن من شرب من مائه فليس هو منه يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته, ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه يعني: من لم يطعم الماء من ذلك النهر. « والهاء » في قوله: « فمن شرب منه » ، وفي قوله: « ومن لم يطعمه » ، عائدة على « النهر » , والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر « الماء » اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: أن المراد به الماء الذي فيه.

ومعنى قوله: « لم يطعمه » ، لم يذقه, يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من « من » في قوله: « ومن لم يطعمه » ، المغترفين بأيديهم غرفة, فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني.

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: « إلا من اغترف غرفة بيده » .

فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: ( غرفة ) ، بنصب « الغين » من « الغرفة » بمعنى الغرفة الواحدة, من قولك، « اغترفت غرفة » , و « الغرفة » ، و « الغرفة » هي الفعل بعينه من « الاغتراف » . .

وقرأه آخرون بالضم, بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف « الغرفة » الاسم, و « الغرفة » المصدر.

وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم « الغين » في « الغرفة » ، بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء لاختلاف « غرفة » إذا فتحت غينها, وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر « اغترف » ، « اغترافة » , وإنما « غرفة » مصدر: « غرفت » . فلما كانت « غرفة » مخالفة مصدر « اغترف » ، كانت « الغرفة » التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها ب « الغرفة » التي هي بمعنى الفعل.

قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء, فكان من شرب منه عطش, ومن اغترف غرفة روي .

ذكر من قال ذلك:

حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم » ، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون, وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده » ، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون, وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم » ، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت, آمنوا بنبوة شمعون, وسلموا ملك طالوت, فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا, فخرج يسير بين يدي الجند, ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت: « إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني » ، فشربوا منه هيبة من جالوت, فعبر منهم أربعة آلاف, ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش, ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود, فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن, ولم يتبعه منافق،... رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا: « لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير » وذلك أنه قال لهم: « إن الله مبتليكم بنهر » ، الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة قال: وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم, وفضل منهم. قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: « فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده » ، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. ومن شرب فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في حديث ذكره, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه في قوله: « فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده » ، يقول الله تعالى ذكره: « فشربوا منه إلا قليلا منهم » ، وكان - فيما يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه, ومن لم يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فلما جاوزه هو » ، فلما جاوز النهر طالوت. « والهاء » في « جاوزه » عائدة على « النهر » , و « هو » كناية اسم طالوت وقوله: « والذين آمنوا معه » ، يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.

ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » .

فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق, عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه, ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه, وما جاز معه إلا مؤمن.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء بنحوه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر, وما جاوز معه إلا مسلم.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مسعر, عن أبي إسحاق, عن البراء مثله.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر، وكانوا ثلثمئة, وفوق العشرة ودون العشرين, فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة.

وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف, وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف, فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا وقالوا: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » . فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون, وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر، عدة أهل بدر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه, قال الذين شربوا: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » .

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة, والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه, وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق وهم الذين قالوا: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم, وهم أهل الثبات على الإيمان, فقالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .

فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم, ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة, لأن الله تعالى ذكره قال: « فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ » ، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان, على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب, ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر, وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم, عن المؤمنين بالمجاوزة, لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر, وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين .

والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره: « فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » ، فأوجب الله تعالى ذكره أن الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ ، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله- وأن « الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله » ، هم الذين قالوا: ( لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ) وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 249 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين أعني القائلين: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » ، والقائلين: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » ، من هما؟

فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » ، هم أهل كفر بالله ونفاق, وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده, لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه, وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي بذلك.

وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله » ، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون, وجلس الذين شكوا.

وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان, ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة, بل كانوا جميعا أهل طاعة, ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » . والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين » ، ويكون [ والله ] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض, وهم مؤمنون كلهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله » ، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت: ثلثمئة. قال قتادة: وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا, وهم الذين قالوا : « كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين » .

ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز النهر مع طالوت إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا.

وأما تأويل قوله: « قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله » ، فإنه يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي « قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله » ، الذين يستيقنون.

فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله، للذين قالوا: « لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده » « كم من فئة قليلة » ، يعني ب « كم » ، كثيرا، غلبت فئة قليلة « فئة كثيرة بإذن الله » , يعني: بقضاء الله وقدره « والله مع الصابرين » ، يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته.

وقد أتينا على البيان عن وجوه « الظن » ، وأن أحد معانيه: العلم اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى, فكرهنا إعادته.

وأما « الفئة » ، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه, وهو مثل « الرهط » و « النفر » ، يجمع « فئات » ، و « فئون » في الرفع، و « فئين » في النصب والخفض، بفتح نونها في كل حال. و « فئين » بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها, وفي النصب « فئينا » , وفي الخفض « فئين » , فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها « الياء » على حالها. فإن أضيفت قيل: « هؤلاء فئينك » ، بإقرار النون وحذف التنوين, كما قال الذين لغتهم: « هذه سنين » ، في جمع « السنة » : « هذه سنينك » ، بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل منقوص مثل « مئة » و « ثبة » و « قلة » و « عزة » : فأما ما كان نقصه من أوله، فإن جمعه بالتاء، مثل « عدة وعدات » ، و « صلة وصلات » .

وأما قوله: « والله مع الصابرين » فإنه يعني: والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته, وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله, المخالفين منهاج دينه.

وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره: « هو معه » ، بمعنى هو معه بالعون له والنصرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 250 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : « ولما برزوا لجالوت وجنوده » ، ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده.

ومعنى قوله: « برزوا » صاروا بالبراز من الأرض, وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته: « تبرز » ، لأن الناس قديما في الجاهلية، إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل: « تغوط » ، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في « الغائط » من الأرض، وهو المطمئن منها, فقيل للرجال: « تغوط » أي صار إلى الغائط من الأرض.

وأما قوله: « ربنا أفرغ علينا صبرا » ، فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا: « ربنا أفرغ علينا صبرا » ، يعني أنـزل علينا صبرا.

وقوله: « وثبت أقدامنا » ، يعني: وقو قلوبنا على جهادهم، لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم « وانصرنا على القوم الكافرين » ، الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك، واتخذوا الأوثان أربابا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فهزموهم » ، فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت, وقتل داود جالوت.

وفي هذا الكلام متروك، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه. وذلك أن معنى الكلام: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، فاستجاب لهم ربهم, فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم، ونصرهم على القوم الكافرين « فهزموهم بإذن الله » ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله: « فهزموهم بإذن الله » ، على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به.

ومعنى قوله: « فهزموهم بإذن الله » ، فلوهم بقضاء الله وقدره. يقال منه: « هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى » .

« وقتل داود جالوت » . وداود هذا هو داود بن إيشى، نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه، كما: -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، سمعت وهب بن منبه يحدث قال: لما خرج أو قال: لما برز طالوت لجالوت, قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني, فإن قتلني فلكم ملكي, وإن قتلته فلي ملككم! فأتي بداود إلى طالوت, فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا, فكره داود أن يقاتله بسلاح، وقال: إن الله لم ينصرني عليه، لم يغن السلاح! فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار, ثم برز له. قال له جالوت: أنت تقاتلني! ! قال داود: نعم! قال: ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! لأبددن لحمك, ولأطعمنّه اليوم الطير والسباع! فقال له داود: بل أنت عدو الله شر من الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع, فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه, فصرع جالوت وانهزم من معه, واحتز داود رأسه. فلما رجعوا إلى طالوت، ادّعى الناس قتل جالوت, فمنهم من يأتي بالسيف، وبالشيء من سلاحه أو جسده, وخبأ داود رأسه. فقال طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود، ثم قال لطالوت: أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له, وقال: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع, فاحتمل صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم، وجاء بها. فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل, فنهض إليه طالوت فحاصره. فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه, فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ, وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه, ثم رجع داود إلى مكانه فناده: أن [ قد نمت ونام ] حرسك, فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت, فإنه هذا إبريقك، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [ به ] إليه، فعلم طالوت أنه لو شاء قتله, فعطفه ذلك عليه فأمنه, وعاهده بالله لا يرى منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم, حتى مات قال بكار: وسئل وهب وأنا أسمع: أنبيا كان طالوت يوحى إليه؟ فقال: لم يأته وحي, ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه, وهو الذي ملك طالوت.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، كان داود النبي وإخوة له أربعة, معهم أبوهم شيخ كبير, فتخلف أبوهم، وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له, وكان من أصغرهم. وخرج إخوته الأربعة مع طالوت، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض.

قال ابن إسحاق: وكان داود، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: رجلا قصيرا أزرق، قليل شعر الرأس, وكان طاهر القلب نقيه فقال له أبوه: يا بني، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم, فاخرج به إليهم, فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا! فقال: أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته, ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة، ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه. حتى إذا فصل من عند أبيه, فمر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت, فإني حجر يعقوب! فأخذه فجعله في مخلاته, ومشى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت, فإني حجر إسحاق ! فأخذه فجعله في مخلاته, ثم مضى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت, فإني حجر إبراهيم! فأخذه فجعله في مخلاته. ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم, فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه. وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت وعظم شأنه فيهم, وبهيبة الناس إياه, وبما يعظمون من أمره, فقال لهم: والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما أدري ما هو! ! والله إني لو أراه لقتلته! فأدخلوني على الملك. فأدخل على الملك طالوت, فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو! والله إني لو أراه لقتلته! فقال: يا بني! ما عندك من القوة على ذلك؟ وما جربت من نفسك؟ قال: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه، فآخذ برأسه, فأفك لحييه عنها, فآخذها من فيه, فادع لي بدرع حتى ألقيها علي. فأتي بدرع فقذفها في عنقه، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره من بني إسرائيل, فقال طالوت: والله، لعسى الله أن يهلكه به! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت, فلما التقى الناس قال داود: أروني جالوت! فأروه إياه على فرس عليه لأمته، فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته, فيقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه, ثم فتله به, ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت فدمغه, وتنكس عن دابته، فقتله. ثم انهزم جنده, وقال الناس: قتل داود جالوت! وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه, حتى لم يسمع لطالوت بذكر إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود, هم بأن يغتال داود وأراد قتله، فصرف الله ذلك عنه وعن داود، وعرف خطيئته, والتمس التوبة منها إلى الله.

وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل, وهو ما: -

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى إلى نبي بني إسرائيل: أن قل لطالوت فليغز أهل مدين, فلا يترك فيها حيا إلا قتله, فإني سأظهره عليهم. فخرج بالناس حتى أتى مدين, فقتل من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره, وساق مواشيهم. فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه, فجاء بملكهم أسيرا, وساق مواشيهم! فالقه. فقل له: لأنـزعن الملك من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة, فإني إنما أكرم من أطاعني, وأهين من هان عليه أمري! فلقيه فقال له: ما صنعت!! لم جئت بملكهم أسيرا, ولم سقتَ مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقربها. قال له أشمويل: إن الله قد نـزع من بيتك الملك, ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة! فأوحى الله إلى أشمويل: أن انطلق إلى إيشى, فيعرض عليك بنيه, فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى فقال: اعرض علي بنيك! فدعا إيشى أكبر ولده, فأقبل رجل جسيم حسن المنظر, فلما نظر إليه أشمويل أعجبه فقال: الحمد لله، إن الله لبصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك يبصران ما ظهر, وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال : ليس بهذا، اعرض علي غيره, فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول: ليس بهذا. فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى! لي غلام أمغر، وهو راع في الغنم . فقال: أرسل إليه. فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر, فدهنه بدهن القدس وقال لأبيه: اكتم هذا, فإن طالوت لو يطلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل, فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر, وتهيئوا للقتال. فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يقتل قومي وقومك؟ ابرز لي، أو أبرز لي من شئت, فإن قتلتك كان الملك لي, وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحا: من يبرز لجالوت, فإن قتله فإن الملك يُنْكحه ابنته, ويشركه في ملكه. فأرسل إيشى داود إلى إخوته قال الطبري، هو أيشى، ولكن قال المحدث: إشى وكانوا في العسكر فقال: اذهب فزود إخوتك, وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا؟ فجاء إلى إخوته وسمع صوتا: إن الملك يقول: من يبرز لجالوت! فإن قتله أنكحه الملك ابنته. فقال داود لإخوته: ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله وينكح ابنة الملك؟ فقالوا: إنك غلام أحمق! ومن يطيق جالوت، وهو من بقية الجبارين!! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال: فأنا أذهب فأقتله! فانتهروه وغضبوا عليه، فلما غفلوا عنه ذهب حتى جاء الصائح فقال: أنا أبرز لجالوت! فذهب به إلى الملك, فقال له: لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل، هو هذا! قال : يا بني، أنت تبرز لجالوت فتقاتله! قال: نعم. قال: وهل آنست من نفسك شيئا؟ قال: نعم, كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد, فأخذت بلحييه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة, فلبسها وركب الفرس, ثم سار منهم قريبا، ثم صرف فرسه, فرجع إلى الملك, فقال الملك ومن حوله: جبن الغلام! فجاء فوقف على الملك, فقال: ما شأنك؟ قال داود: إن لم يقتله الله لي، لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح! فدعني فأقاتل كما أريد. فقال: نعم يا بني. فأخذ داود مخلاته فتقلدها، وألقى فيها أحجارا, وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به، ثم مضى نحو جالوت. فلما دنا من عسكره قال: أين جالوت يبرز لي؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله, فلما رآه جالوت قال: إليك أبرز؟! قال نعم. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كم يؤتى إلى الكلب! قال: هو ذاك. قال: لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض! قال داود: أو يقسم الله لحمك! فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت, فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه, فوقع من فرسه. فمضى داود إليه فقطع رأسه بسيفه, فأقبل به في مخلاته, وبسلبه يجره, حتى ألقاه بين يدي طالوت, ففرحوا فرحا شديدا. وانصرف طالوت، فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود, فوجد في نفسه. فجاءه داود فقال: أعطني امرأتي! فقال: أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود: ما اشترطت علي صداقا, وما لي من شيء!! قال: لا أكلفك إلا ما تطيق, أنت رجل جريء, وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس، وهم غلف, فإذا قتلت منهم مئتي رجل فأتني بغلفهم. فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط, حتى نظم مئتي غلفة. ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه فقال: ادفع إلي امرأتي، قد جئت بما اشترطت. فزوجه ابنته، وأكثر الناس ذكر داود, وزاده عند الناس عجبا. فقال طالوت لابنه: لتقتلن داود! قال: سبحان الله، ليس بأهل ذلك منك! قال: إنك غلام أحمق! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك! فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها: إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود, فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه. فقالت له امرأته ذلك، فتغيب. فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود, وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته. فلما جاء رسول طالوت قال: أين داود؟ ليجب الملك! فقالت له: بات شاكيا ونام الآن، ترونه على الفراش. فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك, فمكث ساعة ثم أرسل إليه, فقالت: هو نائم لم يستيقظ بعد. فرجعوا إلى الملك فقال: ائتوني به وإن كان نائما ! فجاؤوا إلى الفراش فلم يجدوا عليه أحدا، فجاؤوا الملك فأخبروه، فأرسل إلى ابنته فقال: ما حملك على أن تكذبين؟ قالت: هو أمرني بذلك, وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك داود بعده.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان طالوت أميرا على الجيش, فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته, فقال داود لطالوت: ماذا لي فأقتل جالوت؟ قال: لك ثلث ملكي, وأنكحك ابنتي. فأخذ مخلاته, فجعل فيها ثلاث مروات, ثم سمى حجارته تلك: « إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب » , ثم أدخل يده فقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فخرج على « إبراهيم » , فجعله في مرجمته, فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه, وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر، مع ثلاثة عشر ابنا له, وكان داود أصغر بنيه. فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته! فقال: أبشر يا بني! فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا, فركبت عليه فأخذت بأذنيه, فلم يهجني! قال: أبشر يا بني! فإن هذا خير يعطيكه الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح, فما يبقى جبل إلا سبح معي! فقال: أبشر يا بني! فإن هذا خير أعطاكه الله. وكان داود راعيا, وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام. فأتى النبي [ عليه السلام ] بقرن فيه دهن، وسَنَوَّرٍ من حديد, فبعث به إلى طالوت فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه، ولا يسيل على وجهه, يكون على رأسه كهيئة الإكليل, ويدخل في هذا السَّنَوَّر فيملأه. فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به، فلم يوافقه منهم أحد. فلما فرغوا, قال طالوت لأبي داود: هل بقي لك من ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم! بقي ابني داود, وهو يأتينا بطعام. فلما أتاه داود، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت ! قال: فأخذهن فجعلهن في مخلاته. وكان طالوت قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلما جاء داود، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه, ولبس السَّنَوَّر فملأه وكان رجلا مسقاما مصفارا ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه. فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تنقض. . ثم مشى إلى جالوت وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه, فقال له: يا فتى! ارجع، فإني أرحمك أن أقتلك! قال داود: لا بل أنا أقتلك! فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة, كلما رفع حجرا سماه, فقال: هذا باسم أبي إبراهيم, والثاني باسم أبي إسحاق, والثالث باسم أبي إسرائيل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا, ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت, فنقبتُ رأسَه فقتلته، ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد. فهزموهم عند ذلك, وقتل داود جالوت، ورجع طالوت, فأنكح داود ابنته, وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود فأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده, فأراد قتله. فعلم به داود أنه يريد به ذلك, فسجى له زق خمر في مضجعه, فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه, فسالت الخمر منه, فوقعت قطرة من خمر في فيه, فقال: يرحم الله داود! ما كان أكثر شربه للخمر!! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم, فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه، وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، ثم نـزل. فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها, فقال: يرحم الله داود! هو خير مني, ظفرت به فقتلته, وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس, فقال طالوت: اليوم أقتل داود ! وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت, ففزع داود فاشتد فدخل غارا, وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا. فلما انتهى طالوت إلى الغار، نظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو كان دخل ها هنا لخرق بيت العنكبوت!! فخيل إليه، فتركه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم فنادى: ألا رجل لرجل ! فقال طالوت: من يبرز له؟ وإلا برزت له؟ فقام داود فقال: أنا! فقام له طالوت فشد عليه درعه, فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع، فعجب من ذلك طالوت, فشد عليه أداته كلها وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة، فأصاب في القوم, ثم رمى الثانية بحجر، فأصاب فيهم, ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء, وصار هو الرئيس عليهم, وأعطوه الطاعة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فقرأ حتى بلغ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، قال: أوحى الله إلى نبيهم: إن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت, ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه فيفيض ماء. فأتاه فقال: إن الله أوحى إلي أن في ولدك رجلا يقتل الله به جالوت! فقال: نعم يا نبي الله! قال: فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري, وفيهم رجل بارع عليهم, فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا, فيقول لذلك الجسيم: ارجع! فيردده عليه. فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صورهم, ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم. قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره! فقال: كذب! فقال: إن ربي قد كذبك! وقال: إن لك ولدا غيرهم! فقال: صدق يا نبي الله, . لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس, فجعلته في الغنم! قال: فأين هو؟ قال في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا. فخرج إليه, فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها، قال: ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل. فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه! هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض. فقال له: ابن أخي! هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك؟ قال: نعم، إذا سبحت, سبحت معي الجبال, وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة، قمت إليه فافتح لحييه عنها فلا يهيجني! قال: وألفى معه صفنه. قال: فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض، كل واحد منها يقول: أنا الذي يأخذ! ويقول هذا: لا! بل إياي يأخذ! ويقول الآخر مثل ذلك. قال: فأخذهن جميعا فطرحهن في صُفْنِه. فلما جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا، قال لهم نبيهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ، فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه, وقرأ حتى بلغ: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . قال: واجتمع أمرهم وكانوا جميعا, وقرأ: وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . وبرز جالوت على بِرْذَوْن له أبلق, في يده قوس نُشَّاب, فقال: من يبرز؟ أبرزوا إلي رأسكم! قال: ففظع به طالوت, قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: من رجل يكفيني اليوم جالوت؟ فقال داود: أنا. فقال: تعال! قال: فنـزع درعا له, فألبسه إياها. قال: ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه. قال: فرمى بنشابة فوضعها في الدرع. قال: فكسرها داود ولم تضره شيئا، ثلاث مرات, ثم قال له: خذ الآن! فقال داود: اللهم اجعله حجرا واحدا. قال: وسمى واحدا إبراهيم, وآخر إسحاق, وآخر يعقوب. قال: فجمعهن جميعا فكن حجرا واحدا. قال: فأخذهن وأخذ مقلاعا, فأدارها ليرمي بها فقال: أترميني كما يرمي السبع والذئب؟ أرمني بالقوس! قال: لا أرميك اليوم إلا بها! فقال له مثل ذلك أيضا، فقال: نعم! وأنت أهون علي من الذئب! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله. قال: فخلى سبيلها مأمورة. قال: فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه, ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا, وهزمهم الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: لما قطعوا ذلك يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالوت لجنوده: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ وجاء جالوت، وشق على طالوت قتاله, فقال طالوت للناس: لو أن جالوت قتل، أعطيت الذي يقتله نصف ملكي, وناصفته كل شيء أملكه! فبعث الله داود وداود يومئذ في الجبل راعي غنم, وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود, وهم أبدّ منه، وأغنى منه, وأعرف في الناس منه, وأوجه عند طالوت منه, فغزوا وتركوه في غنمهم فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى، وأكرمه: لأستودعن ربي غنمي اليوم, ولآتين الناس، فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت! فأتى داود إخوته, فلاموه حين أتاهم, فقالوا: لم جئت؟ قال: لأقتل جالوت, فإن الله قادر أن أقتله. فسخروا منه قال ابن جريج، قال مجاهد: كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته, فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات, ثم سماهن « إبراهيم » و « إسحاق » و « يعقوب » قال ابن جريج، قالوا: وهو ضعيف رث الحال, فمر بثلاثة أحجار فقلن له: خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت! فأخذهن داود وألقاهن في مخلاته. فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه: أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثاني: أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثالث: أنا حجر داود الذي أقتل جالوت! فقال الحجران: يا حجر داود، نحن أعوان لك! فصرن حجرا واحدا. وقال الحجر : يا داود، اقذف بي، فإني سأستعين بالريح وكانت بيضته، فيما يقولون والله أعلم، فيها ستمئة رطل فأقع في رأس جالوت فأقتله! قال ابن جريج، وقال مجاهد: سمى واحدا إبراهيم, والآخر إسحاق, والآخر يعقوب, وقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! وجعلهن في مرجمته- قال ابن جريج: فانطلق حتى نفذ إلى طالوت فقال: إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه! أفلي ذلك إن قتلته؟ قال: نعم! والناس يستهزئون بداود, وإخوة داود أشد من هنالك عليه. وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده, فإذا لم تكن قدرا عليه نـزعها عنها. وكانت درعا سابغة من دروع طالوت, فألبسها داود، فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم. فتقدم داود, فقام مقاما لا يقوم فيه أحد، وعليه الدرع. فقال له جالوت: ويحك! من أنت؟ إني أرحمك! ليتقدم إلي غيرك من هذه الملوك! أنت إنسان ضعيف مسكين! فارجع. فقال داود: أنا الذي أقتلك بإذن الله, ولن أرجع حتى أقتلك! فلما أبي داود إلا قتاله, تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه, فأخرج الحجر من المخلاة, فدعا ربه ورماه بالحجر, فألقت الريح بيضته عن رأسه, فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله قال ابن جريج، وقال مجاهد: لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه, وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا, قال الله تعالى: « وقتل داود جالوت » . فقال داود لطالوت: ف لي بما جعلت. فأبى طالوت أن يعطيه ذلك. فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل حتى مات طالوت. فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود فجاؤوا به فملّكوه, وأعطوه خزائن طالوت, وقالوا: لم يقتل جالوت إلا نبي! قال الله: « وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه مما يشاء « والهاء » في قوله: « وآتاه الله » ، عائدة على داود « والملك » السلطان « والحكمة » ، النبوة. وقوله: « وعلمه مما يشاء » ، يعني: علمه صنعة الدروع والتقدير في السرد, كما قال الله تعالى ذكره: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [ سورة الأنبياء: 80 ] .

وقد قيل إن معنى قوله: « وآتاه الله الملك والحكمة » ، أن الله آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ, وجعله الله نبيًّا, وذلك قوله: « وآتاه الله الملك والحكمة » ، قال: الحكمة هي النبوة, آتاه نبوّة شمعون وملك طالوت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 251 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الطاعة له والإيمان به بعضًا، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به- كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً: من بَعْثةِ ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر, جالوتَ وجنوده « لفسدت الأرض » , يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم, ففسدت بذلك الأرض ولكن الله ذو منٍّ على خلقه وتطوُّلٍ عليهم، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر, وبالمطيع عن العاصي منهم, وبالمؤمن عن الكافر.

وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم، والمشركين وأهلِ الكفر منهم, وأنه إنما يدفع عنهم معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله, الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله, وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله، من النصر في العاجل, والفوز بجنانه في الآجل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمر قال، حدثنا أبو عاصم عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « ولولا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض » ، يقول: ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر, وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض، « لفسدت الأرض » ، بهلاك أهلها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض » ، يقول: ولولا دفاع الله بالبَرِّ عن الفاجر, وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لهلك أهلها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن حنظلة, عن أبي مسلم قال: سمعت عليًّا يقول: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض » ، يقول: لهلك من في الأرض .

حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا حفص بن سليمان, عن محمد بن سوقة, عن وبرة بن عبد الرحمن, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مئةِ أهلِ بيت من جيرانه البلاءَ » ، ثم قرأ ابن عمر: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض » .

حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن, عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولدِه، وأهلَ دُوَيْرَته ودُويْراتٍ حوله, ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

قال أبو جعفر: وقد دللنا على قوله: « العالمين » , وذكرنا الرواية فيه .

وأما القرأة، فإنها اختلفت في قراءة قوله: « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض » .

فقرأته جماعة من القرأة: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ ) على وجه المصدر، من قول القائل: « دفعَ الله عن خلقه فهو يدفع دفعًا » . واحتجت لاختيارها ذلك، بأن الله تعالى ذكره هو المتفرِّد بالدفع عن خلقه, ولا أحد يُدافعه فيغالبه.

وقرأت ذلك جماعة أُخَر من القرأة: ( وَلَوْلا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ ) على وجه المصدر، من قول القائل: « دافع الله عن خلقه فهو يُدافع مدافعة ودفاعًا » واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرًا من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به, فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم، لله مُدافعون بظنونهم, ومغالبون بجهلهم, والله مُدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به.

قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة، وجاءت بهما جماعة الأمة, وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع. ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع, فهو لمدافعه مدافع. ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده, وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو معنى « مدافعة الله » عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) ، وقراءة من قرأ : ( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض ) ، في التأويل والمعنى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 252 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « تلك آيات الله » هذه الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله : وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ .

ويعني بقوله : « آيات الله » ، حججه وأعلامه وأدلته. .

يقول الله تعالى ذكره: فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد، وأعلمتك من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل، بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة، وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي، ونصرتي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم حججي على من جحد نعمتي، وخالف أمري، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية، التي يعلمون أنها من عندي، .

لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد، لأنك أمي، ولست ممن قرأ الكتب، فيلتبس عليهم أمرك، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم ولكنها حججي عليهم أتلوها عليك يا محمد، بالحق اليقين كما كان، لا زيادة فيه، ولا تحريف، ولا تغيير شيء منه عما كان « وإنك » يا محمد « لمن المرسلين » ، يقول: إنك لمرسل متبع في طاعتي، وإيثار مرضاتي على هواك، فسالكٌ في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي الذين أقاموا على أمري، وآثروا رضاي على هواهم، ولم تغيرهم الأهواء، ومطامع الدنيا، كما غير طالوت هواه، وإيثاره ملكه، على ما عندي لأهل ولايتي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « تلك » ، الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنـزلة، كما:-

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: « تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض » ، قال: يقول: منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.

ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ

قال أبو جعفر :يعني تعالى ذكره بقوله: « وآتينا عيسى ابن مريم البينات » ، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته: من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الإنجيل الذي أنـزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه.

ويعني تعالى ذكره بقوله: « وأيدناه » ، وقويناه وأعناه « بروح القدس » ، يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله « ما اقتتل الذين من بعدهم » ، يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه.

ويعني بقوله: « من بعد ما جاءتهم البينات » ، يعني: من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.

وقد قيل: إن « الهاء » و « الميم » في قوله: « من بعدهم » ، من ذكر موسى وعيسى. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات » ، يقول: من بعد موسى وعيسى.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات » يقول: من بعد موسى وعيسى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 253 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي، بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته.

ثم قال تعالى ذكره لعباده: « ولو شاء الله ما اقتتلوا » ، يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم- عن معصيته فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا « ولكن الله يفعل ما يريد » ، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 254 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم » ، قال: من الزكاة والتطوع.

« من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة » ، يقول: ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم، بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم « من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه » ، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه- بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها- بما أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ- أو بالعمل بطاعة الله، سبيل .

ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ كما قال الله تعالى ذكره، وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الإخوان لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [ الشعراء: 100- 101 ]

وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص، وإنما معناه: « من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة » ، لأهل الكفر بالله، لأن أهل ولاية الله والإيمان به، يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وكان قتادة يقول في ذلك بما:-

حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة » ، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين.

وأما قوله: « والكافرون هم الظالمون » ، فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله « هم الظالمون » ، يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله.

وقد دللنا على معنى « الظلم » بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .

قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع: « والكافرون هم الظالمون » ، دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله: « ولا خلة ولا شفاعة » ، إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك: « والكافرون هم الظالمون » . فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.

فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟

قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله: وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ . ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام لعبيدي. وقد:-

حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: « والكافرون هم الظالمون » ، ولم يقل: « الظالمون هم الكافرون » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله: « الله » .

وأما تأويل قوله: « لا إله إلا هو » فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول: « الله » الذي له عبادة الخلق « الحي القيوم » ، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سِنة ولا نوم، والذي صفته ما وصف في هذه الآية.

وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض واختلفوا فيه، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به، ووفقنا للإقرار.

وأما قوله: « الحي » فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها.

وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « الحي » حي لا يموت.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك .

فقال بعضهم: إنما سمى الله نفسه « حيا » ، لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة.

وقال آخرون: بل هو حي بحياة هي له صفة.

وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به، فقلناه تسليما لأمره .

وأما قوله: « القيوم » ، فإنه « الفيعول » من « القيام » وأصله « القيووم » ،: سبق عين الفعل، وهي « واو » ، « ياء » ساكنة، فأدغمتا فصارتا « ياء » مشددة.

وكذلك تفعل العرب في كل « واو » كانت للفعل عينا، سبقتها « ياء » ساكنة. ومعنى قوله: « القيوم » ، القائم برزق ما خلق وحفظه، كما قال أمية: .

لــم تخــلق الســماء والنجــوم والشــمس معهــا قمــر يعــوم

قــــدره المهيمـــن القيـــوم والجســـر والجنـــة والجحــيم

إلا لأمــر شـأنه عظيــم

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « القيوم » ، قال: القائم على كل شيء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « القيوم » ، قيم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « القيوم » وهو القائم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « الحي القيوم » ، قال: القائم الدائم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « لا تأخذه سنة » ، لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما.

« والوسن » خثورة النوم، ومنه قول عدي بن الرقاع:

وســنان أقصـده النعـاس فـرنقت فــي عينــه ســنة وليس بنـائم

ومن الدليل على ما قلنا: من أنها خثورة النوم في عين الإنسان، قول الأعشى ميمون بن قيس:

تعـــاطى الضجــيع إذا أقبلــت بعيــد النعــاس وقبــل الوســن

وقال آخر:

باكرتهـا الأغـراب فـي سـنة النـو م فتجــري خـلال شـوك السـيال

يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها، يقال منه: « وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان » ، إذا كان كذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله تعالى: « لا تأخذه سنة » قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم .

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « لا تأخذه سنة » السنة: النعاس.

حدثنا الحسن بن يحيي، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله: « لا تأخذه سنة » قالا نعسة.

حدثني المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « لا تأخذه سنة ولا نوم » قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال،

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « لا تأخذه سنة ولا نوم » السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال.

حدثني يحيي بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله سواء.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « لا تأخذه سنة ولا نوم » أما « سنة » ، فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان .

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « لا تأخذه سنة ولا نوم » قال: « السنة » ، الوسنان بين النائم واليقظان.

حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا منجاب بن الحرث، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع: « لا تأخذه سنة » قال: النعاس .

حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « لا تأخذه سنة ولا نوم » قال: « الوسنان » : الذي يقوم من النوم لا يعقل، حتى ربما أخذ السيف على أهله.

قال أبو جعفر: وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: « لا تأخذه سنة ولا نوم » لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن « السنة » و « النوم » ، معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه.

فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الذي لا يموت الْقَيُّومُ على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال « لا تأخذه سنة ولا نوم » ، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكا، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه. كما:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: « لا يأخذه سنة ولا نوم » أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلى الملائكة، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يديه، في كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله، يقول: فكذلك السماوات والأرض في يديه.

حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال: وقع في نفس موسى: هل ينام الله تعالى ذكره؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، أمره أن يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « له ما في السماوات وما في الأرض » أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود .

وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه.

وأما قوله: « من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه » يعني بذلك: من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم، إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم. وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم: « يعلم ما بين أيديهم » ، الدنيا « وما خلفهم » ، الآخرة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يعلم ما بين أيديهم » ، ما مضى من الدنيا « وما خلفهم » من الآخرة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج قوله: « يعلم ما بين أيديهم » ما مضى أمامهم من الدنيا « وما خلفهم » ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « يعلم ما بين أيديهم » ، قال: [ وأما ] « ما بين أيديهم » ، فالدنيا « وما خلفهم » ، فالآخرة .

وأما قوله: « ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء » ، فإنه يعني تعالى ذكره: أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله، محص له دون سائر من دونه وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم ؟! يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها، يعلمها، لا يخفي عليه صغيرها وكبيرها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا يحيطون بشيء من علمه » يقول: لا يعلمون بشيء من علمه « إلا بما شاء » ، هو أن يعلمهم .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الكرسي » الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السماوات والأرض.

فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة، قالا حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « وسع كرسيه » قال: كرسيه علمه.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله وزاد فيه: ألا ترى إلى قوله: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ؟

وقال آخرون: « الكرسي » : موضع القدمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى، قال: الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل .

حدثني موسى بن هاوون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وسع كرسيه السماوات والأرض » ، فإن السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: « وسع كرسيه السماوات والأرض » ، قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم،

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، قال: الكرسي: موضع القدمين .

حدثني عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وسع كرسيه السماوات والأرض » ، قال: لما نـزلت: « وسع كرسيه السماوات والأرض » قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنـزل الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى قوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ الزمر: 67 ] .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « وسع كرسيه السماوات والأرض » قال ابن زيد: فحدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس » قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض .

وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: الكرسي هو العرش.

قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-

حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: « إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله » .

حدثني عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نحوه .

وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال: « هو علمه » . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السماوات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [ غافر: 7 ] ، فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله: « وسع كرسيه السماوات والأرض » .

قال أبو جعفر: وأصل « الكرسي » العلم. ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب « كراسة » ، ومنه قول الراجز في صفة قانص:

* حتى إذا ما احتازها تكرسا *

.

يعني علم. ومنه يقال للعلماء « الكراسي » ، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: « أوتاد الأرض » . يعني بذلك أنهم العلماء الذي تصلح بهم الأرض، ومنه قول الشاعر:

يحـف بهـم بيـض الوجـوه وعصبة كراســي بــالأحداث حـين تنـوب

يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء « الكرس » ، يقال منه: « فلان كريم الكرس » ، أي كريم الأصل، قال العجاج:

قــد علـم القـدوس مـولى القـدس أن أبـــا العبـــاس أولــى نفس

* بمعدن الملك الكريم الكِرْس *

يعني بذلك: الكريم الأصل، ويروى:

* في معدن العز الكريم الكِرْس *

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( 255 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولا يئوده حفظهما » ، ولا يشق عليه ولا يثقله.

يقال منه: « قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا » ، ويقال: « ما آدك فهو لي آئد » ، يعني بذلك: ما أثقلك فهو لي مثقل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولا يؤوده حفظهما » يقول: لا يثقل عليه.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ولا يؤوده حفظهما » قال: لا يثقل عليه حفظهما.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا يؤوده حفظهما » لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: « ولا يؤوده حفظهما » قال: لا يثقل عليه شيء.

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « ولا يؤود حفظهما » قال: لا يثقل عليه حفظهما.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة وحدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن الضحاك: « ولا يؤوده حفظهما » قال: لا يثقل عليه.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن عبيد، عن الضحاك، مثله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته يعني خلادا يقول: سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية: « ولا يؤوده حفظهما » ، قال: لا يكبر عليه .

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ولا يؤوده حفظهما » قال: لا يكرثه .

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا يؤوده حفظهما » قال: لا يثقل عليه.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولا يؤوده حفظهما » يقول: لا يثقل عليه حفظهما.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « ولا يؤوده حفظهما » قال: لا يعز عليه حفظهما.

قال أبو جعفر: « والهاء » ، و « الميم » و « الألف » في قوله: « حفظهما » ، من ذكر السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ . فتأويل الكلام: وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض.

وأما تأويل قوله: « وهو العلي » فإنه يعني: والله العلي.

و « العلي » « الفعيل » من قولك: « علا يعلو علوا » ، إذا ارتفع، « فهو عال وعلي » ، « والعلي » ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته.

وكذلك قوله: « العظيم » ، ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. كما:-

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « العظيم » ، الذي قد كمل في عظمته.

قال أبو جعفر: واختلف أهل البحث في معنى قوله: .

« وهو العلي » .

فقال بعضهم: يعني بذلك; وهو العلي عن النظير والأشباه، وأنكروا أن يكون معنى ذلك: « وهو العلي المكان » . وقالوا: غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان.

وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم.

وكذلك اختلفوا في معنى قوله: « العظيم » .

فقال بعضهم: معنى « العظيم » في هذا الموضع: المعظم، صرف « المفعل » إلى « فعيل » ، كما قيل للخمر المعتقة، « خمر عتيق » ، كما قال الشاعر: .

وكــأن الخـمر العتيـق مـن الإس فنـــط ممزوجـــة بمــاء زلال

وإنما هي « معتقة » . قالوا: فقوله « العظيم » معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإنما يحتمل قول القائل: « هو عظيم » ، أحد معنين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم، والآخر: أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا: وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيم في المساحة والوزن، صحة القول بما قلنا.

وقال آخرون: بل تأويل قوله: « العظيم » هو أن له عظمة هي له صفة.

وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات، .

وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد. لأن ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه « معظم » ، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال.

وقال آخرون: بل قوله: إنه « العظيم » وصف منه نفسه بالعظم. وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته.

 

القول في تأويل قوله : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنـزل الله تعالى ذكره: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد قال شعبة. وإنما هو مقلات فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنـزلت هذه الآية: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » . قال: من شاء أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب .

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود عن عامر، قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا‍‍! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم! فنـزلت: « لا إكراه في الدين » ، فكان فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام، فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الإسلام ولفظ الحديث لحميد.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه إلا أنه قال: فكان فصل ما بينهم، إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر بنحوه إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن اختار الإسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر .

حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » ، قال: نـزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنـزل الله فيه ذلك .

حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » قال: نـزلت هذه في الأنصار، قال: قلت خاصة! قال: خاصة! قال: كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تعالى ذكره: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم » قال: فأجلوهم معهم .

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » إلى: لا انْفِصَامَ لَهَا قال: نـزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال: « لا إكراه في الدين » .

ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنـزلت: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ سورة النساء: 65 ] ثم إنه نسخ: « لا إكراه في الدين » فأمر بقتال أهل الكتاب في « سورة براءة » .

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « لا إكراه في الدين » قال: كانت اليهود ، يهود بني النضير، أرضعوا رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نـزلت هذه الآية.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد جميعا، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد: « لا إكراه في الدين » ، قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنـزلت: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا، ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم قال ابن جريج، وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد: أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس، دانوا بدين النضير.

حدثني المثنى، قال: لنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار: يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام، .

أفلا نكرههم على الإسلام؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » .

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود، عن الشعبي مثله وزاد: قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام .

حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « لا إكراه في الدين » إلى قوله: « العروة الوثقى » قال: قال منسوخ.

حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ووائل، عن الحسن: أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنـزلت: « لا إكراه في الدين » .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص من الكفار، ولم ينسخ منها شيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » ، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لأنهم كانوا أمة أميه ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم .

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله: « لا إكراه في الدين » ، قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « لا إكراه في الدين » ، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا « لا إله إلا الله » ، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا إكراه في الدين » ، قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس، إذا أعطوا الجزية.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني: يا جرير أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي » ، قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية.

وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نـزلت قبل أن يفرض القتال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره: « لا إكراه في الدين » ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نـزلت هذه الآية في خاص من الناس- وقال: عنى بقوله تعالى ذكره: « لا إكراه في الدين » ، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا .

وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد دللنا عليه في كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام ) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي، وباطنه الخصوص، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل .

وإذ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم كان بينا بذلك أن معنى قوله: « لا إكراه في الدين » ، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام.

ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم، بالإذن بالمحاربة.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه: من أنها نـزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام؟

قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنـزل في خاص من الأمر، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنـزلت فيه. فالذين أنـزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام، وأنـزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها، على النحو الذي قلنا في ذلك.

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « لا إكراه في الدين » . لا يكره أحد في دين الإسلام عليه، وإنما أدخلت « الألف واللام » في « الدين » ، تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله: « لا إكراه فيه » ، وأنه هو الإسلام.

وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من « الهاء » المنوية في « الدين » ، فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي العظيم، لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « قد تبين الرشد » ، فإنه مصدر من قول القائل: « رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا » ، وذلك إذا أصاب الحق والصواب .

وأما « الغي » ، فإنه مصدر من قول القائل: « قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية » ، وبعض العرب يقول: « غوى فلان يغوى » ، والذي عليه قراءة القرأة: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [ سورة النجم: 2 ] بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه، فضل.

فتأويل الكلام إذا: قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابين ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه، .

[ أحدا ] على دينكم، دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده.

 

القول في تأويل قوله : فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الطاغوت » .

فقال بعضهم: هو الشيطان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر بن الخطاب: الطاغوت: الشيطان .

حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر، مثله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الطاغوت: الشيطان.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « فمن يكفر بالطاغوت » قال: الشيطان.

حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: الطاغوت: الشيطان.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « فمن يكفر بالطاغوت » بالشيطان.

وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود، عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر.

وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية، وأنا أذكر الخلاف بعد .

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن محمد، قال: الطاغوت: الساحر .

وقال آخرون: بل « الطاغوت » هو الكاهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الطاغوت: الكاهن .

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفيع، قال: الطاغوت: الكاهن .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: « فمن يكفر بالطاغوت » ، قال: كهان تنـزل عليها شياطين، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال- : كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينـزل عليها الشيطان.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في « الطاغوت » ، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانا كان ذلك المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من شيء.

وأرى أن أصل « الطاغوت » ، « الطغووت » من قول القائل: « طغا فلان يطغوا » ، إذا عدا قدره، فتجاوز حده، ك « الجبروت » « من التجبر » ، و « الخلبوت » من « الخلب » ، . ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير « فعلوت » بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه - أعني لام « الطغووت » فجعلت له عينا، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما قيل: « جذب وجبذ » ، و « جاذب وجابذ » ، و « صاعقة وصاقعه » ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال.

فتأويل الكلام إذا: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله، فيكفر به « ويؤمن بالله » ، يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ، يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه، كما:-

حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته، فوجده في السوق وهو يغرغر، لا يفقهون ما يريد.

فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم يريد أن يقول: « آمنت بالله وكفرت بالطاغوت » . قال أبو الدرداء: وما علمكم بذلك؟ قالوا: لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم ! إن الله يقول: « فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا الفصام لها والله سميع عليم » .

 

القول في تأويل قوله : فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى

قال أبو جعفر: « والعروة » ، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته.

وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله، ومن أوثق عرى الأشياء بقوله: « الوثقى »

و « الوثقى » ، « فعلى » من « الوثاقة » . يقال في الذكر: « هو الأوثق » ، وفي الأنثى: « هي الوثقى » ، كما يقال: « فلان الأفضل، وفلانة الفضلى » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « بالعروة الوثقى » ، قال: الإيمان.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: « العروة الوثقى » ، هو الإسلام.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير قوله: « فقد استمسك بالعروة الوثقى » ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن جبير مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، الضحاك: « فقد استمسك بالعروة الوثقى » ، مثله.

 

القول في تأويل قوله : لا انْفِصَامَ لَهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « لا انفصام لها » ، لا انكسار لها. « والهاء والألف » ، في قوله: « لها » عائد على « العروة » .

ومعنى الكلام: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها .

وأصل « الفصم » الكسر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:

ومبســمها عــن شــتيت النبـات غـــير أكـــس ولا منفصـــم

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « لا انفصام لها » ، قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « لا انفصام لها » ، قال: لا انقطاع لها.

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « والله سميع » ، إيمان المؤمن بالله وحده، الكافر بالطاغوت، عند إقراره بوحدانية الله، وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد من دون الله « عليم » بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه، وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه، لا ينكتم عنه سر، ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازي كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه، وأضمرته نفسه، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.

 

القول في تأويل قوله : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « الله ولي الذين آمنوا » ، نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه « يخرجهم من الظلمات » يعني بذلك: .

يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب « الظلمات » في هذا الموضع، الكفر. وإنما جعل « الظلمات » للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [ عن ] أبصار القلوب. .

ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به، فقال: « والذين كفروا » ، يعني الجاحدين وحدانيته « أولياؤهم » ، يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم « الطاغوت » ، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله « يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، يعني ب « النور » الإيمان، على نحو ما بينا « إلى الظلمات » ، ويعني ب « الظلمات » ظلمات الكفر وشكوكه، الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، يقول: من الضلالة إلى الهدى « والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت » ، الشيطان: « يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، يقول: من الهدى إلى الضلالة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان « والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر. .

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله تعالى ذكره: « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، يقول: من الكفر إلى الإيمان « والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، يقول: من الإيمان إلى الكفر.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد أو مقسم في قول الله: « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، قال: كان قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى أي: يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم « والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت » ، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: « يخرجونهم من النور إلى الظلمات » . .

حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية: « الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور » ، إلى أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، وأنـزلت فيهم هذه الآية. .

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة يدل على أن الآية معناها الخصوص، وأنها - إذ كان الأمر كما وصفنا- نـزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى، وسائر الملل التي كان أهلها يكذِّب بعيسى.

فإن قال قائل: أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فكذَّبوا به؟

قيل: من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فكان على حق، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ النساء: 136 ] .

فإن قال قائل: فهل يحتمل أن يكون قوله: « والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة: أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى، أو غير أهل الردة والإسلام؟ .

قيل: نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان، ويضلونهم فيكفرون، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان، يعني صدهم إياهم عنه، وحرمانهم إياهم خيره، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل، كقول الرجل: « أخرجني والدي من ميراثه » ، إذا ملك ذلك في حياته غيره، فحرمه منه حظَّه ولم يملك ذلك القائل هذا الميراث قط فيخرج منه، ولكنه لما حرمه، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه، قيل: « أخرجه منه » ، وكقول القائل: « أخبرني فلان من كتيبته » ، يعني لم يجعلني من أهلها، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله: « يخرجونهم من النور إلى الظلمات » ، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى، وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية. .

فإن قال لنا قائل: وكيف قال: « والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور » ، فجمع خبر « الطاغوت » بقوله: « يخرجونهم » ، و « الطاغوت » واحد؟

قيل: إن « الطاغوت » اسم لجماع وواحد، وقد يجمع « طواغيت » . وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد، كان نظير قولهم: « رجل عدل، وقوم عدل » و « رجل فطر وقوم فطر » ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها، وكما قال العباس بن مرداس:

فَقُلْنَـــا أَسْــلِمُوا إِنَّــا أَخُــوكُمْ فَقَـدْ بَـرِئَتْ مِـنَ الإِحَـنِ الصُّـدُورُ

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 257 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هؤلاء الذين كفروا « أصحاب النار » ، أهل النار الذين يخلدون فيها- يعني في نار جهنم- دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. .

 

القول في تأويل قوله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه » ألم تر، يا محمد، بقلبك .

« الذي حاج إبراهيم » ، يعني الذي خاصم « إبراهيم » ، يعني: إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم « في ربه أن آتاه الله الملك » ، يعني بذلك: حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك.

وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت « إلى » في قوله: « ألم تر إلى الذي حاج » ، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا: « ما ترى إلى هذا » ؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟! .

وقيل: إن « الذي حاج إبراهيم في ربه » جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك » ، قال: هو نمرود بن كنعان.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد، مثله. .

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه » ، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو اسمه نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك » ، قال: ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ، وهو أول جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.

حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نمروذ.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو نمرود قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول ملك في الأرض.

 

القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم: « ربي الذي يحيي ويميت » ، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له وذلك عند العرب يسمى « إحياء » ، كما قال تعالى ذكره: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ سورة المائدة: 32 ] وأقتل آخر، فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها- إن كنت صادقا أنك إله- من مغربها! قال الله تعالى ذكره: « فبهت الذي كفر » ، يعني انقطع وبطلت حجته.

يقال منه: « بهت يبهت بهتا » . وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى: « بهت » . ويقال: « بهت الرجل » إذا افتريت عليه كذبا « بهتا وبهتانا وبهاتة » . .

وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ: « فبهت الذي كفر » ، بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت » ، وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحي الآخر، فقال: أنا أحيي هذا‍! أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك: « فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ » ، « فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: « أنا أحيي وأميت » ، أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله. وقال: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمروذ، . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت! حتى مر إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله، .

فمر على كثيب أعفر، فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله. وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [ النحل: 26 ] .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ، قال: هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه، فإذا دخلوا عليه، قال: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم. فلما دخل إبراهيم، ومعه بعير خرج يمتار به لولده، قال: فعرضهم كلهم، فيقول: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم! حتى عرض إبراهيم مرتين، فقال: من ربك!؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت! قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت استحييتك. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!! « فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » . قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا، وجوالقا إبراهيم يصطفقان، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله، قال: ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق! لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء، فذهبت بهما، قرت عينا صبيي، حتى إذا كان الليل أهرقته! قال: فملأهما، ثم خيطهما، ثم جاء بهما. فترامى عليهما الصبيان فرحا، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا، لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط، فأخذت منه فعجنته وخبزته، فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شيء هذا يا سارة؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير‍ قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت‍ قال هو - يعني نمروذ: فأنا أحيي وأميت‍ فدعا برجلين، فاستحي أحدهما، وقتل الآخر، قال: أنا أحيي وأميت ،‍ قال: أي أستحيي من شئت فقال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب‍ « فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » .

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما خرج إبراهيم من النار، أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه، وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت‍ قال نمروذ: أنا أحيي وأميت‍‍! أنا أدخل أربعة نفر بيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك، قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون! فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله تعالى ذكره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [ سورة الأنعام: 83 ] ، فكان يزعم أنه رب وأمر بإبراهيم فأخرج.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت قال ابن جريج، كان أتى برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي قال: استحيي فلا أقتل.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لنا والله أعلم: أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره: « فبهت الذي كفر » ، يعني وقعت عليه الحجة يعني نمروذ.

قال أبو جعفر: وقوله: « وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » ، يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة.

وقد بينا أن معنى « الظلم » وضع الشيء في غير موضعه، والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق: « وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » ، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة.

 

القول في تأويل قوله : أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أو كالذي مر على قرية » ، نظير الذي عنى بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ، من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.

وقوله: « أو كالذي مر على قرية » عطف على قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ، وإنما عطف قوله: « أو كالذي » على قوله: إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ ثم عطف عليه بقوله: « أو كالذي مر على قرية » لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن « الكاف » في قوله، « أو كالذي مر على قرية » ، زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر على قرية.

وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. .

واختلف أهل التأويل في « الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » .

فقال بعضهم: هو عزير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناحية بن كعب. « أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها » قال: عزير. .

حدثنا ابن حميد. قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله: « أو كالذي مر على قرية » قال: هو عزير.

حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » قال، ذكر لنا أنه عزير.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده [ مثله ] . .

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: « أو كالذي مر على قرية » قال: قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج عن ابن حريج، عن عكرمة: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » قال: عزير.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي: « أو كالذي مر على قرية » قال: عزير.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » إنه هو عزير.

حدثني يونس، قال: قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير. .

وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر.

حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران. .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا . .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو أورميا.

حدثني محمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » ، قال: كان نبيا وكان اسمه أورميا.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن [ مضر ] ، قال: يقولون والله أعلم: إنه أورميا. .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها- أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.

واختلف أهل التأويل في « القرية » التي مر عليها القائل: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا .

فقال بعضهم: هي بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بيت المقدس.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها » ، أنه مر على الأرض المقدسة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: « أو كالذي مر على قرية » قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر. .

حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « أو كالذي مر على قرية » قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.

وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ، قال: قرية كان نـزل بها الطاعون ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، فماتوا ثم أحياهم الله، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [ سورة البقرة: 243 ] . قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ إلى قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ . .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا سواءً لا يختلفان.

 

القول في تأويل قوله : وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وهي خاوية » وهي خالية من أهلها وسكانها.

يقال من ذلك: « خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا » ، وقد يقال للقرية: « خَوِيَت » ، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نُفَساء فإنه يقال: « خَوِيَت تَخْوَى خَوًى » منقوصًا، وقد يقال فيها: « خَوَت تخوِي » ، كما يقال في الدار. وكذلك: « خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى شديدًا » ، ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابًا، غير أن الفصيح ما ذكرت.

وأما « العُرُوش » ، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها « عَرْش » ، وجمع قليله « أعرُش » . .

وكل بناء فإنه « عرش » . ويقال: « عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا » ، ومنه قول الله تعالى ذكره: وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [ سورة الأعراف: 137 ] يعني يبنون، ومنه قيل: « عريش مكة » ، يعني به: خيامها وأبنيتها .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: « خاوية » ، خراب قال ابن جريج: بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرَّبه بخت نصَّر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ والمال ما كان!‍! فحزن. .

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « وهي خاوية على عروشها » قال: هي خراب.

حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر.

حدثت موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وهي خاوية على عروشها » يقول: ساقطة على سُقُفِها.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ

قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا : .

أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال: أنَّى يحيي هذه الله بعد خرابها؟ .

فقال بعضهم: . كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه. فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه, ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه, أحيا ما رآه قبل خرابه, وأعمرَ ما كان قبل خرابه. .

وذلك أن قائل ذلك كان - فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله وسكانه, ثم رآه خاويًا على عروشه, قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء, فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ, وخربت منازلهم ودورهم, فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها, قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها، . استنكارًا فيما - قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إدواته وفي طعامه, . ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره , فلما رأى ذلك قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

وكان سبب قِيله ذلك، كالذي: -

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى بني إسرائيل: . « يا أرميا » ، من قبل أنْ أخلقك اخترتك, ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك, . ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك, ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك, . ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك, . ولأمر عظيم اجتبيتك, فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده, ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه; قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل, وركبوا المعاصي, واستحلّوا المحارم, ونسوا ما كان الله صنع بهم, وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب, فأوحى الله إلى أورميا: . أن ائت قومك من بني إسرائيل, فاقصص عليهم ما آمرك به, وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل . قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافثُ أهل بابل, وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ ربّه, صاح وبكى وشقّ ثيابه, ونبذ الرماد على رأسه, فقال: ملعون يومٌ ولدت فيه, ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة, . ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه, فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! . لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول، . ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به, . فقال الله: وعزتي العزيزة، . لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه, وطابت نفسه, وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق, لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! . ثم أتى ملكَ بني إسرائيل, وأخبره بما أوحى الله إليه, ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا, وإن عفا عنا فبقدرته.

ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية, وتمادوا في الشر, . وذلك حين اقترب هلاكهم, فقلّ الوحيُ, حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة, . وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها, فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله, وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم, . فإن ربكم قريب التوبة, مبسوط اليدين بالخير, رحيم بمن تاب إليه! . فأبوا عليه أن ينـزعوا عن شيء مما هم عليه, . وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان [ بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، الذي حاجّه في ربّه ] . أن يسير إلى بيت المقدس, ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله, فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس; فلما فصَل سائرًا، أتى ملكَ بني إسرائيل الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك إلى أرميا, فجاءه فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أنّ ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمرُ في ذلك؟ .

. فقال أرميا للملك: إنّ ربي لا يخلف الميعاد, وأنا به واثق.

فلما اقترب الأجل, ودنا انقطاع ملكهم, وعزم الله على هلاكهم, بعث الله مَلَكًا من عنده, فقال له: اذهب إلى أرميا فاستفته وأمره بالذي يستفتيه فيه.

فأقبل الملك إلى أرميا, وقد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل, . فقال له أرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري, فأذن له, فقال المَلَك: يا نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي, وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به, لم آت إليهم إلا حَسَنًا, ولم آلُهم كرامة, فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي, فأفتني فيهم يا نبي الله؟ فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله, وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل, وأبشر بخير. فانصرف عنه الملَك; فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه, فقعد بين يديه, فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! . فقال له نبي الله, أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد, . ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله, والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضلَ من ذلك! فقال النبي: ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم, أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم, . وأن يجمعكم على مرضاته, ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك من عنده, فلبث أيامًا, وقد نـزل بخت نصّر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد, . ففزع بنو إسرائيل فزعًا شديدًا, وشق ذلك على ملك بني إسرائيل, فدعا أرميا, فقال: يا نبي الله, أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق.

ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده, فقعد بين يديه, فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين, . فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه, وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي, . فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله, ولا يحبه الله, فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله, فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي, . وصبرتُ لهم ورَجوتهم, ولكن غضبتُ اليوم لله ولك, . فأتيتك لأخبرك خبرهم, وإني أسألك بالله - الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. . فقال أرميا: يا مالك السماوات والأرض, . إن كانوا على حق وصواب فأبقهم, وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه, فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس, فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها; فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه, ونَبَذ الرَّماد على رأسه, فقال يا ملك السماء, ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا, فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات, وأنه رسول ربه, فطار إرميا حتى خالط الوحوش. ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس, فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم, وخرَّب بيت المقدس, ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس, فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه, ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل, واحتمل معه سبايا بني إسرائيل, وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم, فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل, فاختار منهم سبعين ألف صبي; . فلما خرجت غنائم جنده, وأراد أن يقسمهم فيهم, قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك, لك غنائمنا كلها, واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل, فأصاب كل واحد منهم أربعةُ غلمة, وكان من أولئك الغلمان: « دانيال » , و « عزاريا » , و « ميشايل » , و « حنانيا » . . وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثًا أقر بالشام, وثلثًا سَبَى, وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. . وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل, . فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم. .

فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل, أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في زُكْرَة وسَلَّة تين, . حتى أتى إيليا, فلما وقف عليها, ورأى ما بها من الخراب دخله شك, فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه وسلة تينه عنده حيث أماته الله, وأمات حماره معه. . فأعمى الله عنه العيون, فلم يره أحد, ثم بعثه الله تعالى, فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قال: « بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه » ، « يقول: لم يتغير يقول: إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى بعض - . وقد كان مات معه - . بالعروق والعصب, ثم كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى, . ثم جرى فيه الروح, فقام ينهق, ونظر إلى عصيره وتينه, فإذا هو على هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك, فهو الذي يُرَى بفلوات الأرض والبلدان. »

حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه, قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم, قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر: أن الحق بأرض إيليا, فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ, فركب حماره, حتى إذا كان ببعض الطريق, ومعه سلة من عنب وتين, وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القُرى والمساجد, ونظر إلى خراب لا يوصف, . ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم, قال: . أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وسار حتى تبوَّأ منها منـزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه, وألقى الله عليه السُّبات; فلما نام نـزع الله روحه مائة عام; فلما مرّت من المائة سبعون عامًا, أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له :يوسك . فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا وأرضها, حتى تعود أعمَر ما كانت, فقال الملك: أنظرني ثلاثه أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل, فأنظره ثلاثة أيام, فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان, ودفع إلى كل قَهْرَمَان ألف عامل, وما يصلحه من أداة العمل, . فسار إليها قهارمته, ومعهم ثلاثمائة ألف عامل; . فلما وقعوا في العمل، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا, وآخِرُ جسده ميت, . فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد, . حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه, رد إليه الروح, فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه, ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب, ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة, . وقد أتى على ذلك ريحُ مائة عام، وبرد مائة عام، وحرُّ مائة عام, لم تتغير ولم تنتقض شيئًا, . وقد نحل جسم أرميا من البلى, فأنبت الله له لحمًا جديدًا, ونشز عظامه وهو ينظر, فقال له الله: ( انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) . .

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) : أن أرميا لما خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب, وقف في ناحية الجبل, فقال: ( أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ) ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة; فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى, فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض, . ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فقال الله تعالى ذكره: ( انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه ) قال: فكان طعامه تينًا في مِكتل, وقلّة فيها ماء. .

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وذلك أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها, وقف عليها وقلَّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ ليس تكذيبًا منه وشكًّا فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب, وشرابك من العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ ، الآية.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ثم بعثه ) ، ثم أثاره حيًّا من بعد مماته.

وقد دللنا على معنى « البعث » ، فيما مضى قبل. .

وأما معنى قوله ( كم لبثت ) فإن « كم » استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد, . وهو في هذا الموضع نصب ب « لبثت » , وتأويله: قال الله له: كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.

وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزيرٌ, أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر.

وإنما قال: ( لبثت يومًا أو بعض يوم ) لأن الله تعالى ذكره كان قبض رُوحه أول النهار, ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد المائة عام فقيل له: ( كم لبثت ) ؟ قال: لبثت يومًا; وهو يرى أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار، وهو يرى أن الشمس قد غربت, فقال: ( لبثت يومًا ) , ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب, فقال: ( أو بعض يوم ) , بمعنى: بل بعض يوم, كما قال تعالى ذكره: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [ الصافات: 147 ] ، بمعنى: بل يزيدون. . فكان قوله: ( أو بعض يوم ) رجوعًا منه عن قوله: ( لبثت يومًا ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم ) ، قال: ذكر لنا أنه مات ضُحًى, ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس, فقال: ( لبثت يومًا ) . ثم التفت فرأى بقية من الشمس, فقال: ( أو بعض يوم ) . فقال: ( بل لبثت مائة عام ) .

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا قال: مر على قرية فتعجّب, فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فأماته الله أوّل النهار, فلبث مائة عام, ثم بعثه في آخر النهار, فقال: ( كم لبثت ) ؟ قال: ( لبثت يومًا أو بعض يوم ) , قال: ( بل لبثت مائة عام ) .

حدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال: قال الربيع: أماته الله مائة عام, ثم بعثه, قال: ( كم لبثت ) ؟ قال: ( لبثت يومًا أو بعض يوم ) . قال: ( بل لبثت مائة عام ) .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال, حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج: لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت نصر, قال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ! كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضُحى, وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام, فقال: ( كم لبثت ) ؟ قال: ( يومًا ) . فلما رأى الشمس, قال: ( أو بعض يوم ) .

 

القول في تأويل قوله : فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه ) لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه.

وكان طعامه - فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة ماء.

وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زِقًّا من عصير. .

وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين, وشرابه دَنَّ خمر - أو زُكْرَةَ خمر. .

وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، . ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.

وأما قوله: ( لم يتسنَّه ) ففيه وجهان من القراءة:

أحدهما: « لَمْ يَتَسَنَّ » بحذف « الهاء » في الوصل، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في « يتسنَّه » زائدة صلة، . كقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ الأنعام: 90 ] وجعل « تفعّلت » منه: . « تسنَّيتُ تسنِّيًا » , واعتل في ذلك بأن « السنة » تجمع سنوات, فيكون « تفعلت » على صحة. .

ومن قال في « السنة » « سنينة » فجائز على ذلك وإن كان قليلا أن يكون « تسنَّيت » . « تفعَّلت » , بدّلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا: « تظنَّيت » وأصله « الظن » ; وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [ الحجر: 26، 28، 33 ] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك, فهو أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. .

وهو قراءة عامة قراء الكوفة.

والآخر منهما: إثبات « الهاء » في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل « الهاء » في « يتسنَّه » لامَ الفعل، ويجعلها مجزومة ب « لم » , ويجعل « فعلت » منه: « تسنَّهت » , و « يفعل » : « أتسنَّه تسنُّها » , وقال في تصغير « السنة » : « سُنيهة » و « سنيَّة » , « أسنيتُ عند القوم » و « أسنهتُ عندهم » ، إذا أقمت سنة. .

وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ « الهاء » في الوصل والوقف, لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين, ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.

ومعنى قوله: ( لم يتسنَّه ) ، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر, على لغة من قال: « أسنهت عندكم أسْنِه » : إذا أقام سنة, وكما قال الشاعر: .

وَلَيْسَـــتْ بِسَــنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّــةٍ وَلكِـنْ عَرَايَـا فِـي السِّـنِينَ الجَوائِحِ

فجعل « الهاء » في « السنة » أصلا وهي اللغة الفصحى.

وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها.

فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف, والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ, وذلك كقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ الأنعام: 90 ] وقوله: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [ الحاقة: 25 ] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد, وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ زائد، فغير جائز وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ صرفُه إلى أنه من الزوائد والصلات. .

على أن ذلك، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد, . فإن العرب قد تصل الكلام بزائد, فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع, فيكون وَصْلها إياه وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات « الهاء » في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك، وإن كان كذلك، فلقوله: ( لم يتسنّه ) حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. .

ومما يدل على صحة ما قلنا, من أن « الهاء » في « يتسنه » من لغة من قال: « قد أسنهت » ، و « المسانهة » , ما:-

حدثت به عن القاسم بن سلام, قال: حدثنا ابن مهدي, عن أبي الجراح, عن سليمان بن عمير, قال: حدثني هانئ مولى عثمان, قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت, فقال زيد: سله عن قوله: « لم يتسنّ » , أو « لم يتسنَّه » ، فقال عثمان: اجعلوا فيها « هاء » .

حدثت عن القاسم وحدثنا محمد بن محمد العطار, عن القاسم, وحدثنا أحمد والعطار جميعًا, عن القاسم, قال: حدثنا ابن مهدي, عن ابن المبارك, قال: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري, قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف, فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها: « لَمْ يَتَسَنَّ » و « فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين » [ الطارق: 17 ] و « لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ » [ الروم: 30 ] . قال: فدعا بالدواة, فمحا إحدى اللامين وكتب لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ومحا « فأمْهِلْ » وكتب فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ وكتب: ( لَمْ يَتَسَنَّهْ ) ألحق فيها الهاء. .

قال أبو جعفر: ولو كان ذلك من « يتسنى » أو « يتسنن » لما ألحق فيه أبيّ « هاء » لا موضع لها فيه, ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها.

وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب.

قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( لم يتسنَّه ) .

فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة بن المفضل, عن محمد بن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه: ( لم يتسنَّه ) لم يتغير.

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لم يتسنَّه ) لم يتغير.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول: « فانظر إلى طعامك » من التين والعنب « وشرابك » من العصير « لم يتسنه » , يقول: لم يتغير فيحمُض التين والعنب, ولم يختمر العصير، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين, فأماته الله, وأمات حماره, ومر عليهما مائة سنة. .

حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه ) يقول: لم يتغير, وقد أتى عليه مائة عام.

حدثني المثنى, قال: أخبرنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, بنحوه.

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله, قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( لم يتسنه ) لم يتغير.

حدثنا سفيان, قال: حدثنا أبي, عن النضر, عن عكرمة: ( لم يتسنه ) لم يتغير.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( لم يتسنه ) لم يتغير في مائة سنة.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني بكر بن مضر, قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خرّبها بخت نصر, فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة, فنظر إليها فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه, فإذا حمارُه حي قائم على رباطه, وإذا طعامه سَلُّ عنب وسَلُّ تين، لم يتغير عن حاله .

قال يونس: قال لنا سلم الخواص: . كان طعامه وشرابه سل عنب، وسل تين، وزِقَّ عصير.

وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( لم يتسنه ) لم ينتن.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال، قال مجاهد قوله: ( إلى طعامك ) قال: سَلُّ تين ( وشرابك ) ، دنُّ خمر ( لم يتسنه ) ، يقول: لم ينتن.

قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما، . رأوا أن قوله: ( لم يتسنه ) من قول الله تعالى ذكره: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [ الحجر: 26، 28، 33 ] بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل: « تسنَّن » . وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. .

فإن ظن ظانّ أنه من « الأسَن » من قول القائل: « أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا » , كما قال الله تعالى ذكره: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [ محمد: 15 ] ، فإنّ ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن, ولم يكن « يتسنه » .

[ فإن قيل ] : . فإنه منه, غير أنه ترك همزه.

قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديدُ نونه, لأن « النون » غير مشددة, وهي في « يتسنَّه » مشددة, ولو نطق من « يتأسن » بترك الهمزة لقيل: « يَتَسَّنْ » بتخفيف نونه بغير « هاء » تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من « الأسَن » .

 

القول في تأويل قوله : وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( وانظر إلى حمارك ) .

فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارَك, وإلى عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا.

ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ.

فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا, ثم أراد أن يحيي حماره تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها, فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ مستنكرًا إحياء الله إياها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه, قال: بعثه الله فقال: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إلى قوله: ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض . وقد كان مات معه بالعروق والعصب, ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح, فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه, فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين, قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . .

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ثم إن الله أحيا عُزيرًا, فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه, وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه, وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا.

فبعث الله ريحًا, فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع, فاجتمعت, فركّب بعضها في بعض وهو ينظر, فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا, فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار, فنفخ فيه فنهق الحمار, فقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك, وإلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا, ولنجعلك آية للناس فيكون في قوله: ( وانظر إلى حمارك ) ، متروك من الكلام, استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره, وتكون الألف واللام في قوله: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ بدلا من « الهاء » المرادة في المعنى, لأن معناه: وانظر إلى عظامه - يعني: إلى عظام الحمار.

وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. . قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح, وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا, وقبل أن يحيى حماره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: كان هذا رجلا من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه, فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله, . وإلى حماره حين يحييه الله.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح, ثم بعظامه فأنشزها, ثم وَصَل بعضها إلى بعض, ثم كساها العصب, ثم العروق, ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره, فإذا حماره قد بَلي وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه, فنودي: « يا عظام اجتمعي, فإن الله منـزلٌ عليك روحًا » ، فسعى كل عظم إلى صاحبه, فوصل العظام, ثم العصب, ثم العروق. ثم اللحم, ثم الجلد, ثم الشعر, وكان حماره جَذَعًا, فأحياه الله كبيرًا قد تشنَّن, . فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سَلَّ عنب، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه, ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله, وإلى حماره حين يحييه الله.

وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسدُه ميتٌ, . فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سهل بن عسكر, قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم, قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده ميت, . فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه, ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه, لم يطعم ولم يشرب, ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً. .

حدثت عن الحسين, قال: . سمعت أبا معاذ, قال: حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ، فنظر إلى حماره قائمًا قد مكث مائة عام, وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام, وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فكان أول شيء أحيا الله منه رأسَه, فجعل ينظر إلى سائر خلقه يُخلق.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ فنظر إلى حماره قائمًا, وإلى طعامه وشرابه لم يتغير, فكان أول شيء خلق منه رأسه, فجعل ينظر إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبيَّن له, قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسَه, ثم ركبت فيه عيناه, ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر, فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض, وبِعَيْن نبيّ الله عليه السلام كان ذلك، فقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ) وكان حماره عنده كما هو وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) . قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه, ثم قيل انظر‍! فجعل ينظر إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: . أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: ( وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ) واقفًا عليك منذ مائة سنة وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا: « كيف نحيي هذه » ؟ . قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه, ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح, وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه, حتى اتصلت وهو يراها, حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه, فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته, وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق, وأجرى عليها اللحم والجلد, ثم نفخ فيها الروح, ثم قال: ( انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا ) فلما تبين له ذلك، قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا كما نادى عظام نفسه, ثم أحياها الله كما أحياهُ.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني بكر بن مضر, قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام, ثم بعثه, فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال: وردَّ الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة, ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ... ، الآية. .

ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك, ولنجعلك آية للناس, وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها, ثم نكسوها لحمًا, فنحييها بحياتك, فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا من مماته, ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها, وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.

وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية, لأنّ قوله: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها, ثم نكسوها لحمًا.

وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعًا نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب, فلم يمكن صرف معنى قوله: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها, ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار.وإذْ كان ذلك كذلك, وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره, كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً.

 

القول في تأويل قوله : وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ( ولنجعلك آية للناس ) أمتناك مائة عام ثم بعثناك.

وإنما أدخلت « الواو » مع اللام التي في قوله: ( ولنجعلك آية للناس ) وهو بمعنى « كي » , لأن في دخولها في كي وأخواتها دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها, بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. . ولو لم تكن قبل « اللام » أعني « لام « كي » واو » ، كانت « اللام » شرطًا للفعل الذي قبلها, وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك, لنجعلك آية للناس.

وإنما عنى بقوله: ( ولنجعلك آية ) ، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي, وشكَّ في عظمتي, . وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء, وإنشاء, وإنعام وإذلال, وإقتار وإغناء, بيدي ذلك كلُّه, لا يملكه أحد دوني, ولا يقدر عليه غيري.

وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, قال: أخبرنا إسحاق, قال: حدثنا قبيصة بن عقبة, عن سفيان, قال: سمعت الأعمش يقول: ( ولنجعلك آية للناس ) قال: جاء شابًّا وولده شيوخ.

وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه, فكان آية لمن قدِم عليه من قومه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى, قال, حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قال: رجع إلى أهله, فوجد داره قد بيعت وبُنيت, وهلك من كان يعرفه, فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!! قال: فإن عزيرًا أنا هو, كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك, خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول, أن يقال: أن الله تعالى ذكره, أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس, فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته, وإحياءَ الله إياه بعد مماته, وعلى من بُعث إليه منهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا

قال أبو جعفر: دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي أمِر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره, وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: ( كيف ننشزُها ) فإن القرأة اختلفت في قراءته.

فقرأ بعضهم: ( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ) بضم النون وبالزاي, وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين, بمعنى: وانظر كيف نركّب بعضها على بعض, وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم.

وأصل « النشوز » : الارتفاع, . ومنه قيل: « قد نشز الغلام » ، إذا ارتفع طوله وشبَّ, ومنه « نشوز المرأة » على زوجها. . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض: « نَشَز ونَشْز ونشاز » , . فإذا أردت أنك رفعته, قلت: « أنشزته إنشازًا » , و « نشز هو » ، إذا ارتفع.

فمعنى قوله: ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد. .

وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس في قوله: ( كيف ننشزها ) كيف نُخرجها.

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( كيف ننشزها ) قال: نحرِّكها.

وقرأ ذلك آخرون: « وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا » بضم النون. قالوا: من قول القائل، « أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا » ، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة, بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كيف نُنشِرها » قال: انظر إليها حين يحييها الله. .

حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة مثله.

حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: « وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها » قال: كيف نحييها.

واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [ عبس: 22 ] ، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله: « وانظر إلى العظام كيف ننشرها » به. .

وقرأ ذلك بعضهم: « وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا » ، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه. . وذلك قراءة غير محمودة, لأن العرب لا تقول: نشر الموتى, وإنما تقول: « أنشر الله الموتى » , فنشروا هم « بمعنى » : أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ وقوله: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ [ الأنبياء: 21 ] ؛ .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي, الميت وعاش بعد مماته, قيل: « نَشَر » , ومنه قول أعشى بني ثعلبة: .

حَــتَّى يَقُــولَ النَّـاسَ مِمَّـا رَأَوْا: يَـــا عَجَبًــا لِلْمَيِّــتِ النَّاشِــرِ

وروي سماعًا من العرب: « كان به جَرَبٌ فنَشَر » , إذا عاد وَحَيِيَ. .

قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنّ معنى « الإنشاز » ومعنى « الإنشار » متقاربان, لأن معنى « الإنشاز » : التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى « الإنشار » إعادة الحياة إلى العظام. . وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ, فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة, فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما, . ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. .

فإن ظنّ ظانٌ أن « الإنشارَ » إذا كان إحياءً، . فهو بالصواب أولى, لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ [ فقد أخطأ ] . . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه, وهو يُحيى, . لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. . والذي يدل على ذلك قوله: ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم.

وإذ كان ذلك كذلك, . وكان معنى « الإنشاز » تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد, وكان ذلك معنى « الإنشار » . . وكان معلومًا استواء معنييهما, وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه, ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.

وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي, وهي قراءة من قرأ: « كَيْفَ نَنْشُرُهَا » بفتح النون وبالراء, لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: . ( ثم نكسوها ) أي العظام ( لحمًا ) ، و « الهاء » التي في قوله: ( ثم نكسوها لحمًا ) من ذكر العظام.

ومعنى « نكسوها » : نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب, تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة, . ومنه قول النابغة الجعدي: .

فَــالْحَمْدُ للـهِ إِذْ لَـمْ يَـأْتِنِي أَجَـلِي حَـتَّى اكْتَسَـيْتُ مِـنَ الإسْـلامِ سِرْبَالا

فجعل الإسلام - إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه- كُسوةً له وسِربالا.

 

القول في تأويل قوله : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 259 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( فلما تبيَّنَ له ) ، فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك . ( قال: أعلم ) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان . ( أن الله على كل شيء قدير ) .

ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: ( قال أعلم أن الله ) .

فقرأه بعضهم: « قَالَ اعْلَمْ » على معنى الأمر بوصل « الألف » من « اعلم » , وجزم « الميم » منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله: « قِيلَ اعْلَمْ » على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته, . فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس.

حدثني أحمد بن يوسف التغلبي, قال: حدثنا القاسم بن سلام, قال: حدثني حجاج, عن هارون, قال: هي في قراءة عبد الله: « قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ » على وجه الأمر. .

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه أحسبه, شكَّ أبو جعفر الطبري ، سمعت ابن عباس يقرأ: « فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ » قال: إنما قيل ذلك له.

حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له « انظر » ! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه, فقيل: « اعلم أن الله على كل شيء قدير » .

قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبيَّن من أمر الله وقدرته, قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله: « قال اعلم » - وقد قرأه على وجه الأمر- إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا, وكان ذلك كما يقول القائل: « اعلم أن قد كان كذا وكذا » , على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.

وقرأ ذلك آخرون: ( قَالَ أَعْلَمُ ) ، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز ألف « أعلم » وقطعها، ورفع الميم، بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه, قال المتبيِّن ذلك: .

أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير.

وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، . وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه, قال: لما عاين من قدرة الله ما عاينَ, قال: ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ( فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير ) .

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: بعين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ., يعني إنشازَ العظام فقال: ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) .

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قال: قال عزير عند ذلك - يعني عند معاينة إحياء الله حماره- ( أعلم أنّ الله على كل شيء قدير ) .

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصلُ بعضه إلى بعض, ( فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير ) .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, نحوه.

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: « اعْلَمْ » بوصل « الألف » وجزم « الميم » على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه ، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما, وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير . على كل شيء قادرٌ كذلك.

وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره; لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به, وذلك قوله: ( فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ... وانظر إلى العظام كيف ننشزها ) ، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ! قال الله له: « اعلم أن الله » الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله, . كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير. .

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: ( وإذ قال إبراهيم ) على قوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ، وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ لأن قوله: ( ألم تر ) ليس معناه: ألم تر بعينيك, وإنما معناه: ألم تر بقلبك, فمعناه: ألم تعلم فتذكر, . فهو وإن كان لفظه لفظ « الرؤية » فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام, وأحيانًا بما يوافق معناه.

واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه, أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ, فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا, فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا, فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى ) ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى على دابة توزعتها الدوابّ والسباع, فقال: ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .

حدثنا عن الحسن, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباعُ, فقام ينظر, فقال: . سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك: فذلك قوله: ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) .

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق, إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، . وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع, وطارت الطير على الجبال والآكام, فوقف وتعجب، . ثم قال: ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ, ونصفه في البحر, فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله, وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله, فقال له الخبيث: . يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي!

وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك, المناظرةُ والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني محمد بن إسحاق, قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في « سورة الأنبياء » , قال نمروذ، فيما يذكرون، لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت ! قال نمروذ: أنا أحيي وأميت ! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه قال: فقال إبراهيم عند ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن ؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته, ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال: « ليطمئن قلبي » , أي: ما تاق إليه إذا هو علمه.

قال أبو جعفر: وهذان القولان - أعني الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا.

وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك, فأذن له, فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره وكان إبراهيم أغيرَ الناس, إن خرج أغلق الباب فلما جاء ووجد في داره رجلا ثار إليه ليأخذه, . قال: من أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار, قال إبراهيم: صدقت ! وعرف أنه ملك الموت. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال: يا ملك الموت، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم ثم نظر إليه, فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار, ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم, ثم أفاقَ وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى, فقال: يا ملك الموت، لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه, فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين؟ قال: فأعرض! فأعرض إبراهيم، ثم التفت, فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا, . في ثياب بيض, فقال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه.

فانطلق ملك الموت, وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك!قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ يقول: تصدق قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. .

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن سعيد بن جبير: ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال: بالخُلَّة. .

وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن أيوب في قوله: ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. .

حدثنا محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, قال: سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل, عن سعيد بن المسيب, قال: اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شَبَبَة, فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ . [ الزمر: 53 ] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس: أمَّا إن كنت تقول: إنها, وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) . .

حدثنا القاسم, قال: حدثني الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: سألت عطاء بن أبي رباح, عن قوله: ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) قال: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس, فقال: ( رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ) ، قال: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ، ليريه.

حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري, قالا حدثنا سعيد بن تليد, قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم, قال: حدثني بكر بن مضر, عن عمرو بن الحارث, عن يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب, عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « نحنُ أحق بالشك من إبراهيم, قال: رب أرني كيف تحيي الموتى, قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي » . .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه. .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية, ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال, وهو قوله: « نحن أحق بالشك من إبراهيم, قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ » وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه, كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: . من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء, ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانًا, فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: ( أولم تؤمن ) ؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي, فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت.

حدثني بذلك يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد. .

ومعنى قوله: ( ليطمئن قلبي ) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه.

وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله: ( ليطمئن قلبي ) إلى أنه: ليزداد إيمانًا أو إلى أنه: ليوقن. .

ذكر من قال ذلك: ليوقن أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. .

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو نعيم, عن سفيان, عن قيس بن مسلم, عن سعيد بن جبير: ( ليطمئن قلبي ) قال: ليوقن. .

حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير: ( ليطمئن قلبي ) قال: ليزداد يقيني.

حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( ولكن ليطمئن قلبي ) يقول: ليزداد يقينًا.

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال: وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: قال معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا.

حدثنا عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا.

حدثني المثنى, قال: حدثنا محمد بن كثير البصري, قال: حدثنا إسرائيل, قال: حدثنا أبو الهيثم, عن سعيد بن جبير: ( ليطمئن قلبي ) قال: ليزداد يقيني.

حدثني المثنى, قال: حدثنا الفضل بن دكين, قال: حدثنا سفيان, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير: ( ولكن ليطمئن قلبي ) قال: ليزداد يقينًا.

حدثنا صالح بن مسمار, قال: حدثنا زيد بن الحباب, قال: حدثنا خلف بن خليفة, قال: حدثنا ليث بن أبي سليم, عن مجاهد وإبراهيم في قوله: ( ليطمئن قلبي ) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.

حدثنا صالح, قال: حدثنا زيد, قال: أخبرنا زياد, عن عبد الله العامري, قال: حدثنا ليث, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير في قول الله: ( ليطمئن قلبي ) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.

وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال: معنى قوله: ( ليطمئن قلبي ) بأني خليلك. .

وقال آخرون: معنى قوله: ( ليطمئن قلبي ) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ليطمئن قلبي ) قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك, وتعطيني إذا سألتك.

وأما تأويل قوله: ( قال أولم تؤمن ) ، فإنه: أولم تصدق؟ . كما:-

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي.

وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن سعيد بن جبير قوله: ( أولم تؤمن ) قال: أولم توقن بأني خليلك؟

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( أولم تؤمن ) قال: أولم توقن.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: ( فخذ أربعة من الطير ) ، فذكر أن الأربعة من الطير: الديكُ, والطاوُوس, والغرابُ, والحمام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني محمد بن إسحاق, عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا, وديكًا, وغرابًا, وحمامًا.

حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: الأربعة من الطير: الديك, والطاووس, والغراب, والحمام.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج: ( قال فخذ أربعة من الطير ) قال ابن جريج: زعموا أنه ديك, وغراب, وطاووس, وحمامة.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( قال فخذ أربعة من الطير ) قال: فأخذ طاووسًا, وحمامًا, وغرابًا, وديكًا; مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها.

 

القول في تأويل قوله : فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة: ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) بضم الصاد من قول القائل: « صُرْت إلى هذا الأمر » . إذا ملت إليه « أصُورُ صَوَرًا » , ويقال: « إني إليكم لأصْوَر » أي: مشتاق مائل, ومنه قول الشاعر: .

اللــهُ يَعْلَــمُ أنَّــا فِــي تَلَفُّتِنَــا يَـوْمَ الفِـرَاقِ إلَـى أَحْبَابِنَـا صُـورُ

وهو جمع « أصْور، وصَوْراء، وصُور, مثل أسود وسوداء » ومنه قول الطرماح:

عَفَــائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَــا هَـوًى, والْهَـوَى للعَاشِـقِينَ صَـرُوعُ

يعني بقوله: « أو أن يصورها هوى » ، يميلها.

فمعنى قوله: ( فصُرْهن إليك ) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال: « صُرْ وجهك إليّ » , أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله: ( فصرهن إليك ) إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده: قال: ( فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك ) , ثم قطعهن, ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا .

وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم « الصاد » : قطِّعهن, كما قال توبة بن الحميِّر:

فَلَمَّـا جَـذَبْتُ الحَـبْلَ أَطَّـتْ نُسُوعُهُ بِــأَطْرَافِ عِيـدَانٍ شَـدِيدٍ أُسُـورُهَا

فَـأَدْنَتْ لِـيَ الأسْـبَابَ حَـتَّى بَلَغْتُهَـا بِنَهْضِـي وَقَـدْ كَـادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا

يعني: يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: ( فصرهن ) , كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن ويكون « إليك » من صلة « خذ » .

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: « فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ » بالكسر, بمعنى قطعهن.

وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون: « فصُرهن » ولا « فصرهن » بمعنى قطعهن، في كلام العرب - وأنهم لا يعرفون كسر « الصاد » وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، وأنهما جميعًا لغتان بمعنى « الإمالة » وأن كسر « الصاد » منها لغة في هذيل وسليم; وأنشدوا لبعض بني سليم: .

وَفَـرْعٍ يَصِـيرُ الجِـيدَ وَحْـفٍ كَأَنَّـهُ عَـلَى الِّليـتِ قِنْـوَانُ الكُـرُوم الدَّوَالِح

يعني بقوله: « يصير » ، يميل وأنّ أهل هذه اللغة يقولون: « صاروه وهو يصيره صَيرًا » , « وصِرْ وَجهك إليّ » ، أي أمله, كما تقول: « صُره » . .

وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: ( فصُرهن ) ولا لقراءة من قرأ: « فصرهن » بضم « الصاد » وكسرها، وجهًا في التقطيع, . إلا أن يكون « فصِرْهن إليك » ! في قراءة من قرأه بكسر « الصاد » من المقلوب, وذلك أن تكون « لام » فعله جعلت مكان عينه, وعينه مكان لامه, فيكون من « صَرَى يصري صَرْيًا » , فإن العرب تقول: « بات يَصْرِي في حوضه » : إذا استقى, ثم قطع واستقى, . ومن ذلك قول الشاعر: .

صَـرَتْ نَطْـرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ غَـدَا وَالْعَـوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ

« صَرَت » ، قطعتْ نظرة، ومنه قول الآخر: .

يَقُولُــونَ: إنّ الشَّــأَمَ يَقْتُـلُ أَهْلَـهُ فَمَــنْ لِــي إِذَا لَــمْ آتِـهِ بِخُـلُودِ

تَعَــرَّبَ آبَــائِي, فَهَــلا صَـرَاهُمُ مِـنَ المَـوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي!?

يعني: قطعهم, ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل, وحوّلت عينها فجعلت لامها, فقيل: « صار يصير » , كما قيل: « عَثِي يَعْثَى عَثًا » , ثم حولت لامها, فجعلت عينها, فقيل: « عاث يعيث » . .

فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: ( فصرهن إليك ) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما: « صار يصور » , والأخرى: « صَار يصير » , واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل, وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي .

وَجَــاءَت خُلْعَــةٌ دُهْسٌ صَفَايَــا يَصُــورُ عُنُوقَهَــا أَحْــوَى زَنِيـمُ

بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها وببيت خنساء:

*لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ*

يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق - وببيت أبي ذؤيب:

فَـانْصَرْنَ مِـنْ فَـزَعٍ وَسَـدَّ فُرُوجَهُ غُــبْرٌ ضَــوَارٍ: وَافِيَـانِ وَأَجْـدَعُ

قالوا: فلقول القائل: « صُرْت الشيء » ، معنيان: أملته, وقطعته. وحكوا سماعًا: « صُرْنا به الحكم » : فصلنا به الحكم.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين : من أن معنى الضم في « الصاد » من قوله: ( فصرهن إليك ) والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى « إليك » تقديمها قبل « فصرهن » ، من أجل أنها صلة قوله: « فخذ » . أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويّي الكوفيين، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - . لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله: ( فصرهن ) غير خارج من أحد معنيين: إما « قطِّعهن » , وإما « اضْمُمْهن إليك » , بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها, ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول, وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: ( فصرهن ) بمعنى فقطعهن, على أنّ أصل الكلام « فاصرهن » , ثم قلبت فقيل: « فصِرْهن » بكسر « الصاد » ، لتحول « ياء » ، « فاصرهن » مكان رائه, وانتقال رائه مكان يائه, لكان لا شكّ - مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم- قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده, وبينه إذا قرئ بضمها, إذ كان غير جائز لمن قلب « فاصِرهن » إلى « فصِرهن » أن يقرأه « فصُرْهن » بضم « الصاد » , وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر « الصاد » بتأويل: التقطيع، مقلوب من: « صَرِي يَصْرَى » إلى « صار يصير » وجهل من زعم أن قول القائل: « صار يصور » ، و « صار يصير » غير معروف في كلام العرب بمعنى: قطع.

ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره: ( فصرهن ) أنه بمعنى: فقطّعهن.

حدثنا سليمان بن عبد الجبار, قال: حدثنا محمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدينة, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( فصرهن ) قال: هي نبطيَّة، فشقِّقْهن. .

حدثني محمد بن المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي جَمْرة, عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، قال: إنما هو مثلٌ. قال: قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا, رُبعًا ههنا, ورُبعًا ههنا, ثم ادعهن يأتينك سعيًا. .

حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( فصرهن ) قال: قطعهن.

حدثني يعقوب, قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا حصين, عن أبي مالك في قوله: ( فصرهن إليك ) يقول: قطعهن.

حدثني المثنى, قال: حدثنا عمرو بن عون, قال: أخبرنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك, مثله.

حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: ( فصرهن ) قال: قال جناح ذِه عند رأس ذِه, ورأس ذِه عند جناح ذِه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, قال: زعم أبو عمرو, عن عكرمة في قوله: ( فصرهن إليك ) قال: قال عكرمة بالنبطيَّة: قطّعهن.

حدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا إسرائيل, عن يحيى, عن مجاهد: ( فصرهن إليك ) قال: قطعهن.

حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فصرهن إليك ) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا, ثم اخلط لحومهن بريشهن.

حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فصرهن إليك ) قال: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا.

حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فصرهن إليك ) أمر نبيُّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن, ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فصرهن إليك ) قال: فمزقهن. قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء, والريش بالريش, ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا .

حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, قال: أخبرنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك: ( فصرهن إليك ) يقول: فشقِّقهن، وهو بالنبطية « صرّى » , وهو التشقيق.

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( فصرهن إليك ) يقول قطعهن.

حدثنا عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( فصرهن إليك ) يقول: قطعهن إليك ومزقهن تمزيقًا.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( فصرهن إليك ) أي قطعهن, وهو « الصَّوْر » في كلام العرب.

قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله: ( فصرهن إليك ) أنه بمعنى: فقطعهن إليك, دلالةٌ واضحة على صحة ما قلنا في ذلك, وفساد قول من خالفنا فيه.

وإذ كان ذلك كذلك, فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم « الصاد » : « فصُرْهن » إليك أو كسرها « فصِرْهن » إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد. . غير أن الأمر وإن كان كذلك, فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به « فصُرْهن إليك » بضم « الصاد » , لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما في أحياء العرب.

[ وأما قول من تأوّل قوله: ( فصرهن إليك ) بمعنى: اضممهن إليك ووجّهن نحوك واجمعهن، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر قليل ] . .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فصرهن إليك ) « صرهن » : أوثِقْهُنّ.

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قلت لعطاء قوله: ( فصرهن إليك ) قال: اضممهن إليك.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( فصرهن إليك ) قال: اجمعهن.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) .

فقال بعضهم: يعني بذلك: على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا منهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى, قال: حدثنا محمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبي جمرة, عن ابن عباس: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعًا ههنا, وربعًا ههنا, وربعًا ههنا, وربعًا ههنا, ( ثم ادعهن يأتينك سعيا ) . .

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي, قال: حدثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) قال: لما أوثقهن ذبحهن, ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا.

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن, ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن, ثم يجزئهن على أربعة أجبُل, فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن, وأمسك برؤوسهن بيده, فجعل العظم يذهب إلى العظم, والريشة إلى الريشة, والبَضعة إلى البَضعة, وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن, ويلقي كل طير برأسه. . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة, كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.

حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: ذبحهن, ثم قطعهن, ثم خلط بين لحومهن وريشهن, ثم قسّمهن على أربعة أجزاء, فجعل على كل جبل منهن جزءًا, فجعل العظم يذهب إلى العظم, والريشة إلى الريشة, والبَضعة إلى البَضعة, وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا, يقول: شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم, يقول: كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة, كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ الأطيار الأربعة, ثم قطَّع كل طير بأربعة أجزاء, ثم عمد إلى أربعة أجبال, فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر, فكان على كل جبل ربع من الطاووس, وربع من الديك, وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال: « تعالين بإذن الله كما كنتُن » ، فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن, فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا, كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد, ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها, وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته, حتى عرف ذلك، يعني: ما قال نمروذ من الكذب والباطل. .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) قال: فأخذ طاووسًا, وحمامة, وغرابًا, وديكًا, ثم قال: فرّقهن, اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. . فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال, ثم دعاهن فجئنه جميعًا, فقال الله: كما ناديتهن فجئنَك, فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا, فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة, فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها، أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطيرُ والسباع عنها حين دنا منها, وسأل ربّه ما سأل قال: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قال ابن جريج: فذبحها ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن, . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال: فجعلهن سبعة أجزاء, وأمسك رؤوسهن عنده, ثم دعاهن بإذن الله, فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى, وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى, وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال, حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء, ثم أقبلن يسعَيْن، حتى وصلت رأسها.

حدثني موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قال: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ , ثم اجعل على سبعة أجبال, فاجعل على كل جبل منهن جزءًا, ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير, فقطّعهن أعضاء, لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا, وصدر هذا مع جناح هذا, وقسَّمهن على سبعة أجبال, ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه, ثم أقبلن إليه جميعًا.

وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) ، قال: ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا, وكذلك يُحيي الله الموتى.

حدثني المثنى, قال، حدثنا أبو حذيفة, قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل, ثم ادعهن يأتينك سعيًا, كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم.

حدثنا القاسم, قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج, قال مجاهد: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل ثم ( ادعهن ) ، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى, قال: حدثني إسحاق, قال: حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن, ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد, وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له: ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ) و « الكل » حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. .

فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا. .

فإن كانت « بعضًا » فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه.

أو يكون « جميعا » , فيكون أيضًا كذلك. .

وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على « كل جبل » , وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن, وإمَّا ما في الأرض من الجبال.

فأما قول من قال: « إن ذلك أربعة أجبل » , وقول من قال: « هن سبعة » ، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى, حتى يؤلف بعضهن إلى بعض, فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارًا أحياءً يطرن, فيطمئنّ قلب إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة، . وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. .

قال أبو جعفر: و « الجزْء » من كل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف معنى « السهم » . لأن « السهم » من الشيء، هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءَهم من المواريث: « السهام » دون « الأجزاء » . .

وأما قوله: ( ثم ادعهن ) فإن معناه ما ذكرت آنفًا عن مجاهد، أنه قال: هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل: « تعالين بإذن الله » .

فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا, أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن, فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين, فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ البقرة: 65 ] لا أمرَ عبادةٍ, فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد.

 

القول في تأويل قوله : وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ( واعلم ) يا إبراهيم، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن, وتفريقك أجزاءهن على الجبال, فجمعهن وردّ إليهن الروح, حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل تفريقكَهُنّ ( عزيز ) ، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة، الذين خالفوا أمرَه, وعصوا رُسله, وعبدوا غيره, وفي نقمته حتى ينتقم منهم ( حكيم ) في أمره.

حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا ابن إسحاق: ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) ، قال: عزيز في بطشه, حكيم في أمره.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( واعلم أن الله عزيز ) في نقمته ( حكيم ) في أمره.

 

القول في تأويل قوله : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ

قال أبو جعفر: وهذه الآية مردودة إلى قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ البقرة: 245 ] والآياتُ التي بعدها إلى قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) ، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت, وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم, وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها, وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، مما قد ذكرناه قبل . اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ البقرة: 244 ] ، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم, ويعدهم النصرة عليهم, ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم, وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم وقطعًا منه ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم, ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم, ليعلموا أن ما آتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله, وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق, وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم, ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته, مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها, فتركها خاوية على عروشها.

ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وما عنده له من الثواب على قَرْضه, فقال: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم ( كمثل حبة ) من حبات الحنطة أو الشعير, أو غير ذلك من نبات الأرض التي تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع . « فأنبتت » , يعني: فأخرجت ( سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة ) , يقول: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله, له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما: -

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) فهذا لمن أنفق في سبيل الله, فله أجره سبعمائة. .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ) ، قال: هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) الآية، فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة, ورابط مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ولم يلق وجهًا إلا بإذنه, . كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف, ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟ .

قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك, . وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة, إنْ جَعل الله ذلك فيها.

ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة، مضافًا إليها، لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) ، قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة, فهذا لمن أنفق في سبيل الله : وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( والله يضاعف لمن يشاء ) . فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله, فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله - يعني السبعمائة- ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) ، يعني لغير المنفق في سبيله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: ( والله يضاعف لمن يشاء ) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [ العمل في غير سبيله، أو ] على غير النفقة في سبيل الله. .

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 261 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ( والله واسع ) ، أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده . ( عليم ) من يستحق منهم الزيادة، كما: -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) قال: ( واسع ) أن يزيد من سعته ( عليم ) ، عالم بمن يزيده.

وقال آخرون: معنى ذلك: ( والله واسع ) ، لتلك الأضعاف ( عليم ) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم, وغير ذلك من مؤنهم, . ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم - بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا, ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما « الأذى » فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد, وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه.

وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله, وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله, لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا, فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه, لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى, إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه.

وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ) ، . علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم, فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال للآخرين يعني: قال الله للآخرين, وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى ) ، قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ الآية قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله, . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. . قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة, تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا, فإنهم لا يخرجون إلا ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. . فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك, ولا في أسهمك, فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه!

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك قوله: ( لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى ) قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى.

وأما قوله: ( لهم أجرهم عند ربهم ) ، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و « الهاء والميم » في « لهم » عائدة على « الذين » .

ومعنى قوله: ( لهم أجرهم عند ربهم ) ، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله, ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. .

وقوله: ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، . يقول: وهم مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا ( لا خوف عليهم ) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا, ولا في أهوال القيامة, وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله ( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. .

 

القول في تأويل قوله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ( 263 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( قول معروف ) ، قولٌ جميل, ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم .. ( ومغفرة ) ، يعني: وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته . ( خير ) عند الله ( من صدقة ) يتصدقها عليه ( يتبعها أذى ) , يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى.

وأما قوله: ( غنيّ حليم ) فإنه يعني: « والله غني » عما يتصدقون به ( حليم ) ، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم, ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. .

وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: -

حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( الغني ) ، الذي كمل في غناه, و ( الحليم ) ، الذي قد كمل في حلمه.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ( يا أيها الذين آمنوا ) ، صدّقوا الله ورسوله ( لا تبطلوا صدقاتكم ) , يقول: لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى, كما أبطل كفر الذي ينفق ماله ( رئاء الناس ) , وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، . وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا ليحمده الناس عليه فيقولوا: « هو سخيّ كريم, وهو رجل صالحٌ » فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق, فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.

وأما قوله: ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، فإن معناه: ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته, ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله, فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق, لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به حمد الناس عليه. . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ الخولاني, عن عمرو بن حريث, قال: إن الرجل يغزو, لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ, لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن الرجل ليخرج، . فإذا أصابه من بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا, وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه, وليس له مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن: ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى ) ، حتى ختم الآية. .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 264 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس, ولا يؤمن بالله واليوم الآخر و « الهاء » في قوله: ( فمثله ) عائدة على « الذي » ( كمثل صفوان ) ، و « الصفوان » واحدٌ وجمعٌ, فمن جعله جمعًا فالواحدة « صفوانة » ، . بمنـزلة « تمرة وتمر » و « نخلة ونخل » . ومن جعله واحدًا، جمعه « صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ » , . كما قال الشاعر: .

* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ *

و « الصفوان » هو « الصفا » , وهي الحجارة الملس.

وقوله: ( عليه تراب ) ، يعني: على الصفوان ترابٌ ( فأصابه ) يعني: أصاب الصفوان ( وابل ) ، وهو المطر الشديد العظيم, كما قال امرؤ القيس:

سَـــاعَةً ثُــمَّ انْتَحَاهَــا وَابِــلٌ سَـــاقِطُ الأكْنَــافِ وَاهٍ مُنْهَمِــرُ

يقال منه: « وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا » , وقد: « وُبلت الأرض فهي تُوبَل » .

وقوله: ( فتركه صلدًا ) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.

و « الصلد » من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره, وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء, وكذلك من الرؤوس, . كما قال رؤبة:

لَمَّـــا رَأَتْنِــي خَــلَقَ المُمَــوَّهِ بَــرَّاقَ أَصْــلادِ الجَــبِينِ الأجْلَـهِ

ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي: « قِدْرٌ صَلود » , « وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا » , ومنه قول تأبط شرًّا:

وَلَسْـتُ بِجِـلْبٍ جِـلْبِ رَعْـدٍ وَقِـرَّةٍ وَلا بِصَفًـا صَلْـدٍ عَـنِ الخَـيْرِ أعْزَلِ

ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم, فقال: فكذلك أعمالهم بمنـزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب, . فأصابه الوابلُ من المطر, فذهب بما عليه من التراب, فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به, فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله، اضمحلّ ذلك كله, لأنه لم يكن لله، كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب, فتركه أملسَ لا شيء عليه

فذلك قوله: ( لا يقدرون ) , يعني به: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس, ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر, يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا, لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة, ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما أرادوه وطلبوه بها.

ثم أخبر تعالى ذكره أنه ( لا يهدي القوم الكافرين ) , يقول: لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها, وهم للباطل عليها مؤثرون, ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون .

فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم, فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم, كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس, وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند الله. .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى فقرأ حتى بلغ: ( عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ, كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس عليه شيء، أنقى ما كان عليه. .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ إلى قوله: ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة, يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ, كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى إلى قوله: ( على شيء مما كسبوا ) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، . ذهب الرياءُ بنفقته, كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا, فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: أن لا ينفق الرجل ماله, خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر, فضرب الله مثلهما جميعًا: ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثنى أبي, قال: حدثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى إلى ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء, وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج في قوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى ، فقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى حتى بلغ: ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ، وقرأ: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ ، فقرأ حتى بلغ: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ . [ البقرة: 270- 272 ] . .

 

القول في تأويل قوله عز وجل : صَفْوَانٍ

قد بينا معنى « الصفوان » بما فيه الكفاية, . غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( كمثل صفوان ) كمثل الصفاة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( كمثل صفوان ) والصفوان: الصفا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما ( صفوان ) , فهو الحجر الذي يسمى « الصَّفاة » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( صفوان ) يعني الحجر.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : فَأَصَابَهُ وَابِلٌ

قد مضى البيان عنه. . وهذا ذكر من قال قولنا فيه:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما وابل: فمطر شديد.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( فأصابه وابل ) والوابل: المطر الشديد.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, مثله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : فَتَرَكَهُ صَلْدًا

* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فتركه صلدًا ) يقول نقيًّا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فتركه صلدًا ) قال: تركها نقية ليس عليها شيء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عباس قوله: ( فتركه صلدًا ) قال: ليس عليه شيء.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق, قال حدثنا، أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( صلدًا ) فتركه جردًا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا معمر, عن قتادة: ( ، فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( فتركه صلدًا ) ليس عليه شيء.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ) فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته . ( وتثبيتًا من أنفسهم ) يعني بذلك: وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا, من قول القائل: « ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر » - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه - « أثبته تثبيتًا » , كما قال ابن رواحة:

فَثَبَّـتَ اللـهُ مَـا آتَـاكَ مِـنْ حَسَـنٍ تَثْبِيـتَ مُوسَـى, وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا

وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى, فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله, وصححت عزمهم وآراءهم، . يقينًا منها بذلك, . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: ( وتثبيتًا ) ، وتصديقًا ومن قال منهم: ويقينًا لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم, . إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.

ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان, عن أبي موسى, عن الشعبي: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال: تصديقًا ويقينًا.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن أبي موسى, عن الشعبي: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال: يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين.

حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد, عن أبي معاوية, عن إسماعيل, عن أبي صالح في قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) يقول: يقينًا من عند أنفسهم.

وقال آخرون: معنى قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك, عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود, عن مجاهد: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن علي بن علي بن رفاعة, عن الحسن في قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم - يعني زكاتهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك, عن علي بن علي, قال: سمعت الحسن قرأ: ( ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم ) ، قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت, فإن كان لله مضى, وإن خالطه شك أمسك.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة, وذلك أنهم تأولوا قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، بمعنى: « وتثبُّتًا » , فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك, لكان: « وتثبتًا من أنفسهم » ; لأن المصدر من الكلام إن كان على « تفعَّلت » « التفعُّل » , . فيقال: « تكرمت تكرمًا » , و « تكلمت تكلمًا » , وكما قال جل ثناؤه: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [ النحل: 47 ] ، من قول القائل: « تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا » . فكذلك قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، لو كان من « تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها » ، لكان الكلام: « وتثبُّتًا من أنفسهم » , لا « وتثبيتًا » . ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.

فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا [ المزمل: 8 ] ، ولم يقل: « تبتُّلا » .

قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه: « تبتيلا » لظهور « وتبتَّل إليه » , فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه قيل: « تبتيلا » . وذلك أن المتروك هو: « تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا » . وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه, كما قال جل وعز: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا [ نوح: 17 ] ، وقال: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [ آل عمران: 37 ] ، و « النبات » : مصدر « نبت » . وإنما جاز ذلك لمجيء « أنبت » قبله, فدل على المتروك الذي منه قيل « نباتًا » , والمعنى: « والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا » . وليس [ في ] قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، . ومعنى الكلام: « ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها » , فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.

وقال آخرون: معنى قوله: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) ، احتسابًا من أنفسهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وتثبيتًا من أنفسهم ) يقول: احتسابًا من أنفسهم. .

قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى « التثبيت » , لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى « الاحتساب » , إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام, فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم, فيتصدقون بها, ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده ( كمثل جنة ) .

و « الجنة » : البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن « الجنة » البستان، بما فيه الكفاية من إعادته. .

( برَبْوة ) والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه, لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ, وجنان ما غُلظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها, ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:

مَـا رَوْضَـةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خَـضْرَاءُ جَـادَ عَلَيْهَـا مُسْـبِلٌ هَطِلُ

فوصفها بأنها من رياض الحزن, لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.

وفي « الربوة » لغات ثلاث, وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة, وهي « رُبوة » بضم الراء, وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق.

و « رَبوة » بفتح الراء, وبها قرأ بعض أهل الشام, وبعض أهل الكوفة, ويقال إنها لغة لتميم. و « رِبوه » بكسر الراء, وبها قرأ - فيما ذكر- ابن عباس.

قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح « الراء » , وإما بضمها, لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها, لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة.

وإنما سميت « الربوة » لأنها « ربت » فغلظت وعلت, من قول القائل: « ربا هذا الشيء يربو » ، إذا انتفخ فعظُم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( كمثل جنة بربوة ) ، قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( كمثل جنة بربوة ) يقولا بنشز من الأرض.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( كمثل جنة بربوة ) والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، والذي فيه الجِنان.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( بربوة ) ، برابية من الأرض.

حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( كمثل جنة بربوة ) ، والربوة النشز من الأرض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, قال: قال ابن جريج, قال ابن عباس: ( كمثل جنه بربوة ) ، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.

وكان آخرون يقولون: هي المستوية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: ( كمثل جنه بربوة ) ، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.

قال أبو جعفر: وأما قوله: ( أصابها وابل ) فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من المطر, وهو الشديد العظيم القطر منه. .

وقوله: ( فآتت أكلها ضعفين ) ، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.

و « الأكل » : هو الشيء المأكول, وهو مثل « الرُّعْب والهُزْء » ، . وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على « فُعْل » . وأما « الأكل » بفتح « الألف » وتسكين « الكاف » , فهو فِعْل الآكل, يقال منه: « أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة » , كما قال الشاعر: .

وَمَــا أَكْلَــةٌ إنْ نِلْتُهــا بِغَنِيمَـةٍ, وَلا جَوْعَــةٌ إِنْ جُعْتُهَــا بِغَــرَام

ففتح « الألف » ، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله: « ولا جَوْعة » , وإن ضُمت الألف من « الأكلة » كان معناه: الطعام الذي أكلته, فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة.

وأما قوله: ( فإن لم يصبها وابل فطلّ ) فإن « الطل » ، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: -

حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: ( فطل ) ندى عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « الطل » ، فالندى.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فإن لم يصبها وابل فطلّ ) ، أي طشٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: ( فطلّ ) قال: الطل: الرذاذ من المطر, يعني: الليّن منه.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( فطل ) أي طشٌ.

قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى, قلَّت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته, كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) ، يقول: كما أضعفتُ ثمرة تلك الجنة, فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل ) ، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن, يقول: ليس لخيره خُلْف, كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال, إمَّا وابلٌ, وإمّا طلّ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك, قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ . الآية, قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.

فإن قال قائل: وكيف قيل: ( فإن لم يصبها وابل فطل ) وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى؟

قيل: يراد فيه « كان » , ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين, فإن لم يكن الوابلُ أصابها, أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل: « حَبَست فرسين, فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته » , بمعنى: « إلا أكن » - لا بدَّ من إضمار « كان » , لأنه خبر. . ومنه قول الشاعر: .

إِذَا مَــا انْتَسَـبْنَا لَـمْ تَلِـدْنِي لَئِيمَـةٌ وَلَـمْ تَجِـدِي مِـنْ أَنْ تُقِـرِّي بها بُدَّا

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك: ( والله بما تعملون ) أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها ( بصير ) , لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه, فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله, إن خيرًا فخيرًا, وإن شرًّا فشرًّا.

وإنما يعني بهذا القول جل ذكره, التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه, أو يفرّطَ فيما قد أمر به, لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع, يعلمه ويحصيه عليهم, وهو لخلقه بالمرصاد. .

 

القول في تأويل قوله : أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ

قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصَابه الكبر ) ، الآية.

ومعنى قوله: ( أيود أحدكم ) ، أيحب أحدكم، . أن تكون له جنة - يعني بستانًا . ( من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ) ، يعني: من تحت الجنة ( وله فيها من كل الثمرات ) ، و « الهاء » في قوله: ( له ) عائدة على « أحد » , و « الهاء » و « الألف » في: ( فيها ) على الجنة, ( وأصابه ) ، يعني: وأصاب أحدكم ( الكبر وله ذريه ضعفاء ) .

وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له . مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس, لا ابتغاء مرضاة الله, فالناس - بما يظهر لهم من صدقته, وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته . في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا . من نخيل وأعناب, له فيها من كل الثمرات, لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا, له فيه من كل خير من عاجل الدنيا, يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته, ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس, ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها, فله في ذلك من كل خير في الدنيا, كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله, بأن فيها من كل الثمرات. .

ثم قال جل ثناؤه: ( وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ) ، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر ( وله ذرية ضعفاء ) صغارٌ أطفال . ( فأصابها ) يعني: فأصاب الجنة - ( إعصار فيه نار فاحترقت ) ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها, وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها, وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار.

يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس, أطفأ الله نوره, وأذهب بهاء عمله, وأحبط أجره حتى لقيه, وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله, حين لا مُسْتَعْتَبَ له، . ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة, واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.

وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا .

قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية, إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك, وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به, فيذهب ماله منه وهو يرائي, فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته, وجدها قد أحرقها الرياء, فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته, حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته, فلم يجد منها شيئًا. . فكذلك المنفق رياء.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله, كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار, ( له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت ) , فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير, لا يغني عنها شيئًا, وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا, وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء, قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه, حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا, قال: فتلفت إليه, فقال: تحوَّل ههنا، لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة, حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره, واقترب أجله, ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه.

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية: « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب » ، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل عمل السوء. .

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فيم تَرَون أنـزلت: « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب » ؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: « نعلم » أو « لا نعلم » . فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قالا ضربت مثلا للأعمال قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت.

يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي شيئًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات قال ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت قال ابن جريج، وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة ؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار » الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله، فإنه قال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ [ سورة العنكبوت: 43 ] ، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر عياله، ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه؟

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ » إلى قوله: « فاحترقت » يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب « وله ذرية ضعفاء » لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول: « فاحترقت » فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ ما كان إليه؟

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال: « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل » إلى قوله: « فيها من كل الثمرات » يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [ فخر على صاحبه ] ووثق بما عنده، ولم يستيقن أنه ملاق ربه. .

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « أيود أحدكم أن تكون له جنة » ، الآية، قال: [ هذا مثل ضربه الله ] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [ له فيها من كل الثمرات ] ، والرجل [ قد كبر سنه وضعف ] ، وله أولاد صغار [ وابتلاهم الله ] في جنتهم، فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت، فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك؟

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقرأ قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى ، ثم ضرب ذلك مثلا فقال: « أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب » ، حتى بلغ « فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت » . قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته، حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها، وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار » ، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا.

قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « وأصابه الكبر » ، وهو فعل ماض، فعطف به على قوله: « أيود أحدكم » ؟

قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله: « أيود » ، يصح أن يوضع فيه « لو » مكان « أن » فلما صلحت ب « لو » و « أن » ومعناهما جميعًا الاستقبال، استجازت العرب أن يردّوا « فعل » بتأويل « لو » على « يفعل » مع « أن » فلذلك قال: « فأصابها » ، وهو في مذهبه بمنـزلة « لو » ، إذْ ضارعت « أن » في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت « أن » بجواب « لو » و « لو » بجواب « أن » ، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر؟ .

فإن قال: وكيف قيل ههنا: « وله ذرية ضعفاء » ، وقال في [ النساء:9 ] ، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا ؟

قيل: لأن « فعيلا » يجمع على « فعلاء » و « فِعال » ، فيقال: « رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف » .

وأما « الإعصار » ، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود، تجمع « أعاصير » ، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري:

أُنَــاسٌ أَجَارُونَــا فَكَـانَ جِـوارُهُمْ أَعَـاصِيرَ مِـنْ فَسْـوِ العِـرَاقِ المُبَذَّرِ

قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « إعصار فيه نار فاحترقت » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « إعصار فيه نار » ، ريح فيها سموم شديدةٌ.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في: « إعصارٌ فيه نار » ، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي تحرق.

حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت » ، قال: هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. .

حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « إعصار فيه نار فاحترقت » التي تقتل.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « إعصار فيه نار فاحترقت » ، هي ريح فيها سموم شديدٌ.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: « إعصار فيه نار » ، قال: سموم شديد.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: « إعصار فيه نار » ، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « إعصار فيه نار فاحترقت » أما الإعصار فالريح، وأما النار فالسموم.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « إعصار فيه نار » ، يقول: ريح فيها سموم شديد.

وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله: « إعصار فيه نار فاحترقت » ، فيها صِرٌّ وبرد.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « إعصار فيه نار فاحترقت » ، يعني بالإعصار، ريح فيها بَرْدٌ.

 

القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك وتعالى أمَر النفقة في سبيله، وكيف وجْهُها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرّفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حُججها، إنعامًا منه بذلك عليكم « لعلكم تتفكرون » ، يقول: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبّروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: قال مجاهد: « لعلكم تتفكرون » قال: تطيعون.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون » يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه.

ويعني بقوله: « أنفقوا » ، زكُّوا وتصدقوا، كما:-

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « أنفقوا من طيبات ما كسبتم » يقول: تصدَّقوا.

 

القول في تأويل قوله : مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ

يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيّب ما كسبتم بتصرُّفكم إما بتجارة، وإما بصناعة من الذهب والفضة.

ويعني ب « الطيبات » ، الجياد، يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهبَ والفضة، الجيادَ منها دون الرديء، كما:-

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم » قال: من التجارة.

حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.

حدثني حاتم بن بكر الضبّي، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد ، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: « أنفقوا من طيبات ما كسبتم » ، قال: التجارة الحلال.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل: « أنفقوا من طيبات ما كسبتم » ، قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.

حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم » قال: من الذهب والفضة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « من طيبات ما كسبتم » ، قال: التجارة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « أنفقوا من طيبات ما كسبتم » يقول: من أطيب أموالكم وأنفَسِه. .

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم » ، قال: من هذا الذهب والفضة. .

 

القول في تأويل قوله جل وعز : وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض. كما:-

حدثني عصام بن رواد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل: « ومما أخرجنا لكم من الأرض » ، قال: يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: « ومما أخرجنا لكم من الأرض » ، قال: النخل.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « ومما أخرجنا لكم من الأرض » ، قال: من ثمر النخل.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ، قال: من التجارة « ومما أخرجنا لكم من الأرض » ، من الثمار.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ومما أخرجنا لكم من الأرض » ، قال: هذا في التمر والحب.

 

القول في تأويل قوله جل وعز : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه « ولا تيمموا الخبيث » ، ولا تعمدوا، ولا تقصدوا.

وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: ( ولا تؤموا ) من « أممت » ، وهذه من « يممت » ، والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.

يقال: « تأممت فلانا » ، و « تيممته » ، و « أممته » ، بمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الأعشى:

تيممـــت قيســا وكــم دونــه مـن الأرض مـن مهمـه ذي شـزن

وكما:-

حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تيمموا الخبيث » ، ولا تعمدوا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « ولا تيمموا » لا تعمدوا.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه ب « الخبيث » : الرديء، غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد.

وذلك أن هذه الآية نـزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف - في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم- صدقة من تمره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ إلى قوله: أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ، قال: نـزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز.

فأنـزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. .

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب بنحوه إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم، فيدخل قنو الحشف ويظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنـزل فيمن فعل ذلك: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، القنو الذي قد حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ تمرهم وأردإ طعامهم، فنـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ الآية. .

حدثني عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألت عليا عن قول الله: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، قال: فقال علي: نـزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه، فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عز وجل: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. .

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، قال: كانوا يتصدقون - يعني من النخل- بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ إلى قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ، ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به، ويخلط فيه من الحشف، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنـزلت: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » .

حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، قال: في الأقناء التي تعلق، فرأى فيها حشفا، فقال: ما هذا؟ قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ بئسما علق هذا!! فنـزلت: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » .

وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، .

وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد - وسألته عن قول الله عز وجل: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون » ، - قال: الخبيث: الحرام، لا تتيممه تنفق منه، فإن الله عز وجل لا يقبله.

قال أبو جعفر: وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [ عنه ] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ لصحة إسناده ] ، واتفاق أهل التأويل في ذلك

دون الذي قاله ابن زيد. .

 

القول في تأويل قوله : وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم، و « الهاء » في قوله: « بآخذيه » من ذكر الخبيث « إلا أن تغمضوا فيه » ، يعني: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم.

يقال منه: « أغمض فلان لفلان عن بعض حقه، فهو يغمض » ، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم:

لــم يفتنــا بـالوتر قـوم وللضـيـ م رجــال يرضــون بالإغمـاض

قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليا عنه فقال: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. .

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله: « إلا أن تغمضوا فيه » ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ .

وهو قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ . [ سورة آل عمران: 92 ] .

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » يقول: لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟

حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ إلى قوله: « إلا أن تغمضوا فيه » قال: كانوا - حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة- يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك وقال: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ ، يقول: « لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم فيأخذ شيئا، وهو مغمض عليه، أنقص من حقه.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله - بسعر الجيد، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن الحسن: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، قال: لو وجدتموه في السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، يقول: لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه.

وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم، إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء منكم ممن أهداه لكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. .

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء نحوه إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. .

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل: « ولستم بآخذيه » ، يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم « إلا أن تغمضوا فيه » ، يقول: أغمض لك من حقي.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله: « ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » - قال: يقول: لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم قال: وفي كلام العرب: « أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه » وهو يعلم أنه حرام باطل.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم، وفرضها عليهم فيها، .

فصار ما فرض من ذلك في أموالهم، حقا لأهل سهمان الصدقة. ثم أمرهم تعالى ذكره أن يخرجوا من الطيب- وهو الجيد من أموالهم- الطيب. وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها.

فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه، بإعطائه - بمقدار حقه منه- من غيره مما هو أردأ منه أو أخس. فكذلك المزكي ماله، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق، فصاروا فيه شركاء من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم.

فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم.

فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة، فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته، أو لعظم خطره وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه » ، قال: ذلك في الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه » ، فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة.

حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التمرة.

 

القول في تأويل قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها، وفرضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، .

ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم.

ويعني بقوله: « حميد » ، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله. كما:-

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قوله: « أن الله غني حميد » عن صدقاتكم. .

 

القول في تأويل قوله : الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا

قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: « الشيطان يعدكم » ، أيها الناس- بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم - أن تفتقروا « ويأمركم بالفحشاء » ، يعني: ويأمركم بمعاصي الله عز وجل، وترك طاعته « والله يعدكم مغفرة منه » يعني أن الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم، بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون « وفضلا » يعني: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. .

كما:-

حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اثنان من الله، واثنان من الشيطان: « الشيطان يعدكم الفقر » ، يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه ويأمركم بالفحشاء « والله يعدكم مغفرة منه » ، على هذه المعاصي « وفضلا » في الرزق.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا » ، يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم.

حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان، قال: حدثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: إن للإنسان من الملك لمة، ومن الشيطان لمة. فاللمة من الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، واللمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا » قال عمرو: وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. .

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص أو عن مرة قال: قال عبد الله: ألا إن للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وذلكم بأن الله يقول: .

« الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم » ، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء » ، قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله؛ ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله. .

حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاده بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا هذه الآية: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم » . .

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن فطر، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد الله، بنحوه. .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن للشيطان لمة، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ: « الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا » . .

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 268 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « والله واسع » الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه « عليم » بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم.

 

القول في تأويل قوله : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا.

واختلف أهل التأويل في ذلك.

فقال بعضهم، « الحكمة » التي ذكرها الله في هذا الموضع، هي: القرآن والفقه به.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « يؤتي الحكمة من يشاء » ، قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا » ، والحكمة: الفقه في القرآن.

حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية: « ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا » ، قال: الكتاب والفهم به. .

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله: « يؤتي الحكمة من يشاء » الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن.

وقال آخرون: معنى « الحكمة » ، الإصابة في القول والفعل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال: « ومن يؤت الحكمة » ، قال: الإصابة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « يؤتي الحكمة من يشاء » ، قال: يؤتي إصابته من يشاء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يؤتي الحكمة من يشاء » ، قال: الكتاب، يؤتي إصابته من يشاء .

وقال آخرون: هو العلم بالدين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « يؤتي الحكمة من يشاء » العقل في الدين، وقرأ: « ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا » .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له.

وقال آخرون: « الحكمة » الفهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. .

وقال آخرون: هي الخشية.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة » الآية، قال: « الحكمة » الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ . [ سورة فاطر: 28 ] .

وقال آخرون: هي النبوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة » ، الآية، قال: الحكمة: هي النبوة.

وقد بينا فيما مضى معنى « الحكمة » - وأنها مأخوذة من « الحكم » وفصل القضاء، وأنها الإصابة - بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. .

وإذا كان ذلك كذلك معناه، كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما، .

وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، « والنبوة » بعض معاني « الحكمة » .

فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ( 269 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به غيرهم فيها وفي غيرها من آي كتابه فيذكر وعده ووعيده فيها، فينـزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به « إلا أولوا الألباب » ، يعني: إلا أولوا العقول، الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. .

فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول.

 

القول في تأويل قوله : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 270 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأي نفقة أنفقتم- يعني أي صدقة تصدقتم- أو أي نذر نذرتم يعني « بالنذر » ، ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه: من صدقة أو عمل خير « فإن الله يعلمه » ، أي أن جميع ذلك بعلم الله، لا يعزب عنه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك.

فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف، ومن كانت نفقته وصدقته رئاء الناس ونذوره للشيطان، جازاه بالذي أوعده، من العقاب وأليم العذاب، كالذي:-

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه » ، ويحصيه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال: « وما للظالمين من أنصار » ، يعني: وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته « من أنصار » ، وهم جمع « نصير » ، كما « الأشراف » جمع « شريف » . ويعني بقوله: « من أنصار » ، من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش، ولا بفدية.

وقد دللنا على أن « الظالم » هو الواضع للشيء في غير موضعه. .

وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته، ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه، ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال: « فإن الله يعلمه » ، ولم يقل: « يعلمهما » ، وقد ذكر النذر والنفقة.

قيل: إنما قال: « فإن الله يعلمه » ، لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية. .

 

القول في تأويل قوله : إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « إن تبدوا الصدقات » ، إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه « فنعما هي » ، يقول: فنعم الشيء هي « وإن تخفوها » ، يقول: وإن تستروها فلم تعلنوها « وتؤتوها الفقراء » ، يعني: وتعطوها الفقراء في السر « فهو خير لكم » ، يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوع، كما:-

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » ، كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » ، قال: كل مقبول إذا كانت النية صادقة، والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » ، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة: علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. .

حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » ، قال: يقول: هو سوى الزكاة. .

وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » ، إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع، فإخفاؤه أفضل من علانيته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نـزلت هذه الآية: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » ، في الصدقة على اليهود والنصارى. .

حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية يعني الزكاة.

قال أبو جعفر: ولم يخصص الله من قوله: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي » [ شيئا دون شيء ] ، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها.

 

القول في تأويل قوله : وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ

قال أبو جعفر: اختلف القراء في قراءة ذلك.

فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: ( وتكفر عنكم ) بالتاء.

ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم.

وقرأ آخرون: ( وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ ) بالياء، بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم.

وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة، ( ونكفر عنكم ) بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها.

قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: ( ونكفر عنكم ) بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك، فهو مجزوم على موضع « الفاء » في قوله: « فهو خير لكم » . لأن « الفاء » هنالك حلت محل جواب الجزاء.

فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع « الفاء » ، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم تجويزه ؟ .

قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير- أعني تكفير الله من سيئات المصدق لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم، مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لأن ما بعد « الفاء » في جواب الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه، في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة، اخترنا جزم « نكفر » عطفا به على موضع الفاء من قوله: « فهو خير لكم » وقراءته بالنون. .

فإن قال قائل: وما وجه دخول « من » في قوله: « ونكفر عنكم من سيئاتكم » قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.

وقال بعض نحويي البصرة: معنى « من » الإسقاط من هذا الموضع، ويتأول معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم.

 

القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 271 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « والله بما تعملون » في صدقاتكم، من إخفائها، وإعلان وإسرار بها وجهار، وفي غير ذلك من أعمالكم « خبير » يعني بذلك ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله، حتى يوفيهم ثواب جميعه، وجزاء قليله وكثيره.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ( 272 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة، كما:-

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق على المشركين، فنـزلت: « وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله » ، فتصدق عليهم.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنـزلت: « ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء » . .

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين، حتى نـزلت: « ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء » .

حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنـزلت: « ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء » فرخص لهم.

حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنـزلت: « ليس عليك هداهم... » الآية.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنـزل الله في ذلك القرآن: « ليس عليك هداهم » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء » ، قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج، فلا يتصدق عليه، يقول: ليس من أهل ديني!! فأنـزل الله عز وجل: « ليس عليك هداهم » الآية.

حدثني موسى ، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم » ، أما « ليس عليك هداهم » ، فيعني المشركين، وأما « النفقة » فبين أهلها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدقون [ على فقراء أهل الذمة ، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم . فنـزلت : هذه الآية ، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام ] . .

كما:-

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « يوف إليكم وأنتم لا تظلمون » ، قال: هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك. .

 

القول في تأويل قوله : لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 )

قال أبو جعفر: أما قوله: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » ، فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله.

« واللام » التي في « الفقراء » مردودة على موضع « اللام » في « فلأنفسكم » كأنه قال: « وما تنفقوا من خير » - يعني به: وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما اعترض في الكلام بقوله: « فلأنفسكم » ، فأدخل « الفاء » التي هي جواب الجزاء فيه، تركت إعادتها في قوله: « للفقراء » ، إذ كان الكلام مفهوما معناه، كما:-

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ، أما: « ليس عليك هداهم » ، فيعني المشركين. وأما « النفقة » فبين أهلها، فقال: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » . .

وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » ، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » الآية، قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدى: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » ، قال: فقراء المهاجرين.

 

القول في تأويل قوله عز وجل : الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا. .

وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى « الإحصار » ، تصيير الرجل المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه، وغير ذلك من علله، إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، .

فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « الذين أحصروا في سبيل الله » ، قال: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » ، قال: كانت الأرض كلُّها كفرًا، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كُفر وقيل: كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عز وجل: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » الآية، كانوا ههنا في سبيل الله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرُّف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » ، حصرهم المشركون في المدينة.

قال أبو جعفر: ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه « أحصِروا » ، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا - وهم في سبيل الله- أنفسَهم، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم.

وإنما يقال لمن حبسه العدوّ: « حصره العدوّ » ، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ، قيل: « أحصره خوفُ العدّو » . .

 

القول في تأويل قوله : لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم. كما:-

حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: « لا يستطيعون ضربًا في الأرض » حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارةً.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يستطيعون ضربًا في الأرض » ، يعني التجارة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله: « لا يستطيعون ضربًا في الأرض » ، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله.

 

القول في تأويل قوله : يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك: « يحسبهم الجاهل » بأمرهم وحالهم « أغنياء » من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما:-

حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يحسبهم الجاهل أغنياء » ، يقول: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. .

ويعني بقوله: « منَ التعفف » ، من تَرْك مسألة الناس.

وهو « التفعُّل » من « العفة » عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما قال رؤبة:

* فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ*

يعني بَرئ وتجنَّبَ.

 

القول في تأويل قوله : تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: « تعرفهم » يا محمد « بسيماهم » ، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [ سورة الفتح: 29 ] ، هذه لغة قريش. ومن العرب من يقول: « بسيمائهم » فيمدها.

وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون: « بسيميائهم » ; ومن ذلك قول الشاعر: .

غُــلامٌ رَمَـاهُ اللـهُ بالحُسْـنِ يَافِعًـا لَـهُ سِـيمِيَاءٌ لا تَشُـقُّ عَـلَى البَصَـرْ

وقد اختلف أهل التأويل في « السيما » التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم، وأنهم يعرفون بها.

فقال بعضهم: هو التخشُّع والتواضع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « تعرفهم بسيماهم » قال: التخشُّع.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشُّع.

وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « تعرفهم بسيماهم » ، بسيما الفقر عليهم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « تعرفهم بسيماهم » ، يقول: تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة.

وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوعُ خفيّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: « تعرفهم بسيماهم » قال: السيما: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [ أن ] تخفى على الناس. .

قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.

وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته.

 

القول في تأويل قوله : لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا

قال أبو جعفر: يقال: « قد ألحف السائل في مسألته » ، إذا ألحّ « فهو يُلحف فيها إلحافًا » .

فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف؟

قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم.

وفي الخبر الذي:-

حدثنا به‌ بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا، فكان أوّل ما واجهني به: « من استعفّ أعفَّه الله، ومَن استغنى أغناهُ الله، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئًا نجده » . قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله! فرجعت، فما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا، إلا من عَصَم الله. .

.

الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. .

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله: « لا يسألون الناس إلحافا » ، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف .

قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما- زاد عبادَه إبانة لأمرهم، وحُسنَ ثناءٍ عليهم، بنفي الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال، عنهم. .

وقد كان بعضُ القائلين يقول: ذلك نظيرُ قول القائل: « قلَّما رأيتُ مثلَ فلان » ! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا.

وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يسألون الناس إلحافًا » ، قال: لا يلحفون في المسألة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « لا يسألون الناس إلحافًا » ، قال: هو الذي يلح في المسألة.

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لا يسألون الناس إلحافًا » ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا: قيلا وقالا وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال [ ينفقه ] في شهوته ولذاته وملاعبه، . »

وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم.

.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 274 )

[ قال أبو جعفر ] :

حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر، عن أيمن بن نابل، قال: حدثني شيخ من غافق: أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطةً بين البرَاذين والهُجْن. فيقول: أهل هذه - يعني الخيل- من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. .

وقال آخرون: عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الذين ينفقون أموالهم » إلى قوله: « ولا هم يحزنون » ، هؤلاء أهلُ الجنة.

ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: المكثِرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون، قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله، إلا مَنْ؟ حتى خشوا أن تكون قد مَضَت فليس لها رَدّ، حتى قال: « إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليلٌ ما هُمْ [ قال ] : هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى، في غير سَرَف ولا إملاق ولا تَبذير ولا فَساد » .

وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله: « إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا هي » إلى قوله: « ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ، كان مما يُعملَ به قبل نـزول ما في « سورة براءة » من تفصيل الزَّكوات، فلما نـزلت « براءة » ، قُصِروا عليها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي » إلى قوله: « ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ، فكان هذا يُعمل به قبل أن تنـزل « براءة » ، فلما نـزلت « براءة » بفرائض الصَّدقات وتفصيلها انتهت الصّدَقاتُ إليها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.

و « الإرباء » الزيادة على الشيء، يقال منه: « أرْبى فلان على فلان » ، إذا زاد عليه، « يربي إرباءً » ، والزيادة هي « الربا » ، « وربا الشيء » ، إذا زاد على ما كان عليه فعظم، « فهو يَرْبو رَبْوًا » . وإنما قيل للرابية [ رابية ] ، لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: « ربا يربو » . ومن ذلك قيل: « فلان في رَباوَة قومه » ، يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل « الربا » ، الإنافة والزيادة، ثم يقال: « أربى فلان » أي أناف [ ماله، حين ] صيَّره زائدًا. وإنما قيل للمربي: « مُرْبٍ » ، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . [ آل عمران: 130 ] .

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.

* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.

قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا « لا يقومون » في الآخرة من قبورهم « إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس » ، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، وهو الذي يخنقه فيصرعه « من المس » ، يعني: من الجنون.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » ، قال: ذلك حين يُبعث من قبره.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: « خذْ سلاحك للحرب » ، وقرأ: « لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، قال: ذلك حين يبعث من قبره.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » . الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون » ، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس » قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: ( لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » ، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » ، يعني: من الجنون.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ » . قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون .

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « يتخبطه الشيطانُ من المسّ » ، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه: « قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق » ، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [ الأعراف: 201 ] ، ومنه قول الأعشى:

وَتُصْبـحُ عَـنْ غِـبِّ السُّـرَى, وكأَنَّمَا أَلَـمَّ بِهَـا مِـنْ طَـائِفِ الجِـنِّ أَوْلَـقُ

فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟

قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نـزلت فيهم هذه الآيات يوم نـزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ سورة البقرة: 278- 279 ] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:

« لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به » .

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا

قال أبو جعفر: يعني بـ « ذلك » جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون: « إنما البيع » الذي أحله الله لعباده « مثلُ الرّبا » . وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق: « زدني في الأجل وأزيدك في مالك » . فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: « هذا ربًا لا يحل » . فإذا قيل لهما ذلك قالا « سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال » ! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع « وحرّم الربا » ، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.

ثم قال جل ثناؤه: « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى » ، يعني بـ « الموعظة » : التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك، « فانتهى » عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانـزجر عنه « فله ما سلف » ، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك « وأمرُه إلى الله » ، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك « ومن عاد » ، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا « فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون » ، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ: « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله » ، أما « الموعظة » فالقرآن، وأما « ما سلف » ، فله ما أكل من الربا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 )

قال أبو جعفر: يعني عز وجل بقوله: « يمحق الله الربا » ، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « يمحق الله الربا » ، قال: يَنقص.

وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ » . .

وأما قوله: « ويُرْبي الصّدَقات » ، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له.

وقد بينا معنى « الرّبا » قبلُ « والإرباء » ، وما أصله، بما فيه الكفاية من إعادته.

فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله الصدقات؟

قيل: إضعافه الأجرَ لربِّها، كما قال جل ثناؤه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [ سورة البقرة: 261 ] ، وكما قال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ سورة البقرة: 245 ] ، وكما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [ سورة التوبة: 104 ] ، و » يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات « . . »

حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة ولا أراه إلا قد رفعه قال: « إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة، ولا يقبلُ إلا الطيب. » .

حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عباد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب ، ويربّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: ( يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات ) » . .

حدثني محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله أو قال: في كفِّ الله عز وجلّ حتى تكون مثلَ أحُد، فتصدّقوا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد قال، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله، حتى يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد » . .

قال أبو جعفر: وأما قوله: « والله لا يحب كل كفار أثيم » ، فإنه يعني به: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه، « أثيم » ، متماد في الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينـزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنـزيله وآي كتابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه « وعملوا الصالحات » التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها « وأقاموا الصلاة » المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها « وآتوا الزكاة » المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم « لهم أجرهم » ، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم « عند ربهم » يوم حاجتهم إليه في معادهم « ولا خوف عليهم » يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم، وتصديقهم بوعد الله ووعيده « ولا هم يحزنون » على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « يا أيها الذين آمنوا » ، صدّقوا بالله وبرسوله « اتقوا الله » ، يقول: خافوا الله على أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه « وذروا » ، يعني: ودعوا « ما بقي من الربا » ، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم. .

قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نـزول هذه الآية، وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا » إلى: وَلا تُظْلَمُونَ ، قال: نـزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنـزل الله « ذروا ما بقي » من فضل كان في الجاهلية « من الربا » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين » ، قال: كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، إلى وَلا تُظْلَمُونَ . فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال: « إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب » وقال ابن جريج، عن عكرمة، قوله: « اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا » ، قال: كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود.

حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين » ، قال: كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فإن لم تفعلوا ) فإن لم تذَروا ما بقي من الربا.

واختلف القرأة في قراءة قوله: « فأذنوا بحرب من الله ورسوله » .

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: « فَأْذَنُوْا » بقصر الألف من « فآذنوا » ، وفتح ذالها، بمعنى: كونوا على علم وإذن.

وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين: « فَآذِنُوا » بمدّ الألف من قوله: « فأذنوا » وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيرَكم، أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: « فأذَنوا » بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك.

وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. لأن الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها.

وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ، إلى قوله: ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينـزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نـزع، وإلا ضَرب عنقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: « خذ سلاحك للحرْب » .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.

حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله » ، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.

قال أبو جعفر: وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: ( فأذنوا بحرب من الله ) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « إن تبتم » فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل « فلكم رؤوس أموالكم » من الديون التي لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم، كما:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال، جعل لهم رءوس أموالهم حين نـزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس أموالهم.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » ، قال: ما كان لهم من دَين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادُوا عليه شيئًا.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » الذي أسلفتم، وسقط الربا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح: « ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب » .

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: « إنّ كل ربا موضوع، وأول ربًا يوضع ربا العباس » . .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ( 279 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « لا تَظلمون » بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه، أو لم يكن لكم قبلُ « ولا تُظلمون » ، يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول، وغيرُه من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون » ، فتُربون، « ولا تظلمون » فتنقصون.

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » ، قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: « وإن كان » ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوسَ أموالكم « ذو عُسْرَة » يعني: معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء، فأنظروهم إلى ميسرتهم.

وقوله: « ذو عسرة » ، مرفوع ب « كان » ، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت « كان » في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة إلى ميسرة.

وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ ) ، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة « فنظرة إلى ميسرة » . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين.

وأما قوله: ( فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ) ، فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ [ سورة البقرة: 196 ] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبلُ، فأغنى عن تكريره. .

و « الميسرَة » ، المفعلة من « اليُسر » ، مثل « المرْحمة » و « والمشأمة » .

ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، فيصيرَ من أهل اليُسر به.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، قال: نـزلت في الربا.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح، قال: فقضى عليه وأمرَ بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه مُعسرٌ، والله يقول في كتابه: « وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة » ! قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [ سورة النساء: 58 ] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، قال: ذلك في الربا.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أيْ فلان، إن كنت مُوسرًا فأدِّ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه مُعسر! ! قال: فظننت أنه يكلِّمه في محبوس، فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار، فأنـزل الله عز وجل: « وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة » وقال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدّوا الأمانات إلى أهلها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة » ، قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإن كان ذو عسرة فنظرة » برأس المال « إلى ميسرة » ، يقول: إلى غنى.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، هذا في شأن الربا.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك في قوله: ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، يعني المطلوب.

حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: « وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة » ، قال: الموت.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم: « وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، قال: هذا في الربا.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت، أو إلى فُرْقة.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: « فنظرة إلى ميسرة » ، قال: ذلك في الربا.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: « فنظرة إلى ميسرة » ، قال: يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره.

وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » قال: يؤخره ولا يزدْ عليه.

وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ من أيّ وجهة كان ذلك الحق، من دين حلال أو ربا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على ذلك.

حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » قال: نـزلت في الدَّين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة » ، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو لزمه من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا. وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.

غير أن الآية وإن كانت نـزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه.

فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد.

ويكون في رقبته، فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد.

فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل. لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )

قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، « خير لكم » أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر « إن كنتم تعلمون » موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: « وأن تصدقوا » برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم « خير لكم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نـزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا « وأن تصدقوا خير لكم » ، يقول: أن تصدقوا بأصل المال، خير لكم.

حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة: « وأن تصدقوا » ، أي برأس المال، فهو خير لكم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: ( وأن تصدقوا خير لكم ) قال: من رؤوس أموالكم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: « وأن تصدقوا خير لكم » ، قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وأن تصدقوا خير لكم » ، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير، فهو خير لكم، فتصدق به العباس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) ، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وأن تصدقوا خير لكم ) ، يعني: على المعسر، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم » ، قال: من النظرة « إن كنتم تعلمون » .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: ( فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم ) ، والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه: « وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم » لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.

قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر آيات نـزلت من القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نـزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنـزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم » .

حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 281 )

قال أبو جعفر: وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نـزلت من القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: آخر آية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » .

حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله... » الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنـزلت.

حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية قال: آخر آية نـزلت: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نـزلت: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس وحجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس آخر آية نـزلت من القرآن: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون » قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، ومات يوم الاثنين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس « يوما ترجعون فيه إلى الله » فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله: « إذا تداينتم » ، يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به « إلى أجل مسمى » ، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [ فيه ] السلم مسمى أجل بيعه، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه. ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه.

وكان ابن عباس يقول نـزلت هذه الآية في السلم خاصة.

ذكر الرواية عنه بذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، قال ابن عباس في: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » ، قال: السلم في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا يحيى بن الصامت قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين » ، قال: نـزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن عباس قال: نـزلت هذه الآية: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، في السلم، في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » ، في السلف في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون، إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى »

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه قوله: « بدين » ، وقد دل بقوله: « إذا تداينتم » ، عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال « بدين » ؟ قيل: إن العرب لما كان مقولا عندها: « تداينا » بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله: « بدين » ، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله: « تداينتم » ،

حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.

وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ سورة الحجر: 30\ سورة ص: 73 ] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاكْتُبُوهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فاكتبوه » ، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض.

واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب.

فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، قال: من باع إلى أجل مسمى، أمر أن يكتب، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، قال: فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، فكان هذا واجبا.

وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله وزاد فيه، قال: ثم قامت الرخصة والسعة. قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ُ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه.

وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته ألا تكتب ولا تشهد، لقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قال ابن عيينة، قال ابن شبرمة، عن الشعبي: إلى هذا انتهى.

حدثنا المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » حتى بلغ هذا المكان: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، قال: رخص من ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبي، قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال غير عطاء: نسخت الكتاب والشهادة: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، قال: فلولا هذا الحرف، لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ؟

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه » ، حتى بلغ هذا المكان: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين، من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلى قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، قد نسخ ما كان قبله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة، [ عن أبيه ] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا قال: هذه نسخت ما قبلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين « كاتب بالعدل » ، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه، كما:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل » ، قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا.

وأما قوله: « ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك، أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه.

وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك، نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولا يأب كاتب » ، قال: واجب على الكاتب أن يكتب.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله: « ولا يأب كاتب أن يكتب » ، أواجب ألا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم قال: ابن جريج، وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، بمثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله: « ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت، فلا تأب أن تكتب لهم.

ذكر من قال: « هي منسوخة » . قد ذكرنا جماعة ممن قال: « كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها » ، وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « ولا يأب كاتب » ، قال: كانت عزيمة، فنسختها: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه، عن الربيع: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » فكان هذا واجبا على الكتاب.

وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » ، يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب ألا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه.

ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ . لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله: « فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله » .

وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.

ولو وجب أن يكون قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ناسخا قوله: « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله » - لوجب أن يكون قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ سورة المائدة: 6 ] ناسخا الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [ سورة المائدة: 6 ] وأن يكون قوله في كفارة الظهار: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [ سورة المجادلة: 4 ] ناسخا قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [ سورة المجادلة: 3 ] .

فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ناسخٌ قوله: إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ : ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله فزعم أنّ كل ما أبيح في حال الضرورة لعلة الضرورة، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله: نظيرَ قوله في أنّ الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ؟

فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كلام منقطع عن قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ . وإنما عنى بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فأمن بعضكم بعضًا، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته.

قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ؟

وأما الذين زعموا أن قوله: « فاكتبوا » ، وقوله: « ولا يأب كاتب » على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.

ذكر من قال: « العدل » في قوله: « وليكتب بينكم كاتب بالعدل » : الحقّ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا

قال أبو جعفر: يعني بذلك: « فليكتب » الكاتب « وليملل الذي عليه الحق » ، وهو الغريم المدينُ يقول: ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب « وليتق الله ربه » المملي الذي عليه الحقّ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به منه تعدّيًا، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته، كما:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فليكتب وليملل الذي عليه الحق » ، فكان هذا واجبًا - « وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا » ، يقول: لا يظلم منه شيئًا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يبخس منه شيئًا » ، قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا » ، فإن كان المدين الذي عليه المال « سفيهًا » ، يعني: جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا » ، أما السفيه: فالجاهل بالإملاء والأمور.

وقال آخرون: بل « السفيه » في هذا الموضع، الذي عناه الله: الطفلُ الصغير.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو، حدثنا أسباط، عن السدي: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا » ، أما السفيه، فهو الصغير.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا » ، قال: هو الصبي الصغير، فليملل وليُّه بالعدل.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: « السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه » ، لما قد بينا قبل من أن معنى « السفه » في كلام العرب: الجهلُ.

وقد يدخل في قوله: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا » ، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها: كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، والصبي ومن يُولّى عليه، لا يجوز مُداينته، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع السفيه، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم: ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم، غير الصنفين الآخرين.

وإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف، هو ذو القوة على الإملال، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه وأن الموصوف بالضعف منهم، هو العاجز عن إملاله، وإن كان شديدًا رشيدًا، إما لعيّ لسانه أو خرس به وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ، هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.

فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمرَ، عند سقوط فرض ذلك عليهم، وليَّ الحق بإملاله فقال: « فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل » ، يعني: وليُّ الحقّ.

ولا وجه لقول من زعم أن « السفيه » في هذا الموضع هو الصغير، وأن « الضعيفَ » هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال، يوجب أن يكون قوله: « أو لا يستطيعُ أن يملّ هو » هو، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، لبطل معنى قوله: « فليملل وليه بالعدل » ، لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك، ما يقضي على فساد قول من زعم أن « السفيه » في هذا الموضع، هو الطفل الصغير، أو الكبير الأحمق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل » ، يقول: وليّ الحق.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل » ، قال يقول: إن كان عجز عن ذلك، أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل.

ذكر الرواية عمن قال: « عنى بالضعيف في هذا الموضع: الأحمق » ، وبقوله: « فليملل وليه بالعدل » ، ولي السفيه والضعيف.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو » ، قال: أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيفُ فالأحمق.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا » لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنـزلته حتى يضع لهذا حقه.

وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.

وأما قوله: « فليملل وليه بالعدل » ، فإنه يعني: بالحق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.

يقال: « فلان » شَهيدي على هذا المال، « وشاهدي عليه » .

وأما قوله: « من رجالكم » ، فإنه يعني من أحراركم المسلمين، دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » ، قال: الأحرار.

حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن سعيد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجلٌ وامرأتان على الشهادة. ورفع « الرجل والمرأتان » ، بالرّد على « الكون » . وإن شئتَ قلتَ: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجلٌ وامرأتان، كان صوابًا. كل ذلك جائز.

ولو كان « فرجلا وامرأتين » نصبًا، كان جائزًا، على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين.

وقوله: « ممن ترضون من الشهداء » ، يعني: من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » ، يقول: في الدَّين « فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان » ، وذلك في الدين « ممن تَرْضون من الشهداء » ، يقول: عدولٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « واستشهدوا شهيدين من رجالكم » ، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا ذَوَيْ عدل من رجالهم « فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من الشهداء » .

 

القول في تأويل قوله : أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) بفتح « الألف » من « أنْ » ، ونصب « تَضلَّ » ، و « تذكرَ » ، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير. لأن « التذكير » عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان « تضلّ » . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا « تذكّر » ، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله، فصار جوابه مردودًا عليه، كما تقول في الكلام: « إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى » ، بمعنى: إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو: إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله: « أنْ يسأل » لما تقدم، اتصل بما قبله وهو قوله: « ليعجبني » ، ففتح « أنْ » ونصب بها، ثم أتبع ذلك قوله: « يعطى » ، فنصبه بنصب قوله: « ليعجبني أن يسأل » ، نسقًا عليه، وإن كان في معنى الجزاء.

وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين « الذال » من ( تُذْكِرَ ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك.

وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه: فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما، بمعنى: أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من الذكور في الدَّين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ بمنـزلة شهادة واحد من الذكور، فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى - صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب: « لقد أذكرت بفلان أمُّه » ، أي ولدته ذَكرًا، « فهي تُذْكِر به » ، « وهي امرأةٌ مُذْكِرٌ » ، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينه أنه كان يقوله.

حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله: « فتذْكر إحداهما الأخرى » من الذِّكْر بعد النسيان، إنما هو من الذَّكَر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة الذكر.

وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى « الذكر » بعد النسيان.

وقرأ ذلك آخرون: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى ) بكسر « إن » من قوله: « إن تضلَ » ورفع « تذكر » وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها، ذكرتها الأخرى، من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك وانقطاع ذلك عما قبله. ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضَلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية.

وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش « تضل » ، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو « إن » . وتأويل الكلام على قراءته « إن تَضْللْ » ، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى، حركها إلى أخفّ الحركات، ورفع « تذكر » بالفاء، لأنه جواب الجزاء.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك، قراءةُ من قرأه بفتح « أن » من قوله: « أن تضلّ إحداهما » ، وبتشديد الكاف من قوله: « فتذكِّر إحداهما الأخرى » . ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى.

وأما نصب « فتذكر » فبالعطف على « تضل » ، وفتحت « أن » بحلولها محل « كي » وهي في موضع جزاء، والجواب بعده، اكتفاءً بفتحها أعني بفتح « أن » من « كي » ، ونسق الثاني - أعني: « فتذكر » - على « تضل » ، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن « كي » .

وإنما اخترنا ذلك في القراءة، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم، إلى غيرها. وأما اختيارنا « فتذكر » بتشديد الكاف، فإنه بمعنى: ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى، وتعريفها بأنها [ نسيت ] ذلك، لتذكر. فالتشديد به أولى من التخفيف.

وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويلٌ خطأ لا معنى له، لوجوه شتى:

أحدها: أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل.

والثاني: أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها، إنما هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها، كضلال الرجل في دينه: إذا تحيَّر فيه فعدَل عن الحق . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا معها، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ، لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، كما يقال للشيء القوي في عمله: « ذَكرٌ » ، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه: « سيف ذكر » ، و « رجل ذَكَر » يراد به: ماض في عمله، قويّ البطش، صحيحُ العزم.

فإن كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك؟ إلا أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى، القراءةَ التي اخترناها. ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله: « فتذكر » . ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا.

ذكر من تأول قوله: « أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى » نحو تأويلنا الذي قُلنا فيه:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى » ، علم الله أن ستكونُ حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربِّكم، وأدرَكُ لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى » ، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكِّرها الأخرى.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أن تضل إحداهما » ، يقول: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكّرها الأخرى.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « أن تضل إحداهما » ، يقول: إنْ تنسَ إحدَاهما، كذتِّرْها الأخرى.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أن تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى » ، قال: كلاهما لغة، وهما سواء، ونحن نقرأ: « فتذكِّر » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.

فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية: « ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا » ليشهدوا لرجل على رجل.

حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنـزل الله عز وجل: « ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دُعيت إلى شهادة.

وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال: « لا يأب الشهداء إذا ما دعوا » - قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد.

وقال آخرون: معنى ذلك: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » - للشهادة على من أراد الدّاعي إشهادَه عليه، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن الحسن: « ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا » ، قال: قال الحسن: الإقامة والشهادة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: كان الحسن يقول: جَمَعتْ أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيتَ إلى شهادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: لإقامتها، ولا يبدأ بها، إذا دعاه ليشهده، وإذا دعاه ليقيمها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا شهد.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، يقول: إذا كانوا قد أشْهِدوا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كانت عندك شهادة فدُعيت.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دُعيت لتشهد، فإن شئتَ فاذْهب، وإن شئت فلا تذهب.

حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصّباح، عن عمران بن حُدَير، قال: قلت لأبي مجلز: ناس يدعونني لأشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » . قال: لإقامة الشهادة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو عامر المزني قال، سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة يعني قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال: فلا تجبْ إن شئت.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئتَ.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن عطاء قال: للإقامة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: « ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا » ، قال: إذا كانوا قد شهدوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: هو الذي عنده الشهادة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا » ، يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد، إذا كان فارغًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: « ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دُعي أن يكتب وجبَ عليه ألا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثيرٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويُقيمها.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولا يأب الشهداء » ، قال: كان الحسن يتأوّلها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهِد لرجل فشهد، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه.

وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق، ابتداءً، لا لإقامة الشهادة، ولكنه أمر نَدْب لا فرْض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله: « ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا » ، قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد.

حدثني أبو العالية قال، حدثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العَصَريّ، عن عطاء، بمثله.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: « [ معنى ] ذلك: ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له » .

وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عز وجل قال: « ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا » ، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم « الشهداء » . وغير جائز أن يلزمهم اسم « الشهداء » إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم « الشهداء » . فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء، فغير جائز أن يقال لهم « شهداء » . لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له « شاهد » ، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، أو من قد قام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله: « ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دعوا » ، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً، أو شَهد، فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد، غيرُ مستحق اسم « شهيد » ولا « شاهد » ، لما قد وصفنا قبل.

مع أن في دخول « الألف واللام » في « الشهداء » ، دلالةً واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا بالشهادة، وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ . وإذْ كان ذلك كذلك، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد عليها، لقيل: ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى.

غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ داعيه إليها، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرضٌ عليه أن يكتب، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله، فسأله تعليمه وبيان ذلك له، أنْ يعلمه ويبيِّنه له. ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم.

« والشهداء » جمع « شهيد » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا، أيها الذين تُداينون الناس إلى أجل، أن تكتبوا صغيرَ الحق، يعني: قليله، أو كبيره يعني: أو كثيره إلى أجله إلى أجل الحق، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال.

حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد: « ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله » ، قال: هو الدّين.

ومعنى قوله: « ولا تسأموا » : لا تملوا. يقال منه: « سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً » ، ومنه قول لبيد:

وَلَقَـدْ سَـئِمْتُ مِـنَ الحَيَـاةِ وَطُولِهَـا وَسُــؤَالِ هـذَا النَّـاسِ: كَـيْفَ لَبيـدُ؟

ومنه قول زهير:

سَـئِمْتُ تَكَـالِيفَ الحَيَـاةِ, وَمَـنْ يَعِشْ ثَمَــانِينَ عَامًــا, لا أَبَـالَكَ, يَسْـأَمِ

يعني مللت.

وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله: « إلى أجله » ، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ذلكم » ، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله.

ويعني بقوله: « أقسط » ، أعدل عند الله.

يقال منه: « أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا، وهو مُقسط » ، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل: « قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا » . ومنه قول الله عز وجل: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [ سورة الجن: 15 ] ، يعني الجائرون.

وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ذلكم أقسط عند الله » ، يقول: أعدل عند الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة.

وأصله من قول القائل: « أقمتُ من عَوَجه » ، إذا سويته فاستوى.

وإنما كان الكتاب أعدل عند الله، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه، لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه، فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به. واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وأدنى » ، وأقرب، من « الدنو » ، وهو القرب.

ويعني بقوله: « ألا ترتابوا » ، ألا تَشكوا في الشهادة، كما:-

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي « ذلك أدنى ألا ترتابوا » ، يقول: ألا تشكوا في الشهادة.

وهو « تفتعل » من « الرِّيبة » .

ومعنى الكلام: ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه، وأقربُ لكم ألا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا

قال أبو جعفر: ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود الحاضرة يدًا بيد، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا ما وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم، وقد تقابضوا الواجبَ لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره: « إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم » ، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء « فليس عليكم جُناح ألا تكتبوها » ، يقول: فلا حرج عليكم ألا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم » ، يقول: معكم بالبلد تَرَوْنها، فتأخذُ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح ألا يكتبوها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك. وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ، إلى قوله: « فليس عليكم جناح ألا تكتبوها » ، قال: أمر الله ألا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ورخصّ لهم ألا يكتبوه.

واختلفت القرَأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة: ( إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ ) بالرفع.

وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. وذلك وإن كان جائزًا في العربية، إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع « كان » ، وتضمر معها في « كان » مجهولا فتقول: « إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به » ، وترفعها فتقول: « إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به » ، فتتبع النكرةَ خبرَها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره، الرفعُ في « التجارة الحاضرة » ، لإجماع القرأة على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبًا عنهم، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر:

أَعَيْنــيَ هَــلا تَبْكِيَــانِ عِفَاقَــا إذَا كــانَ طَعْنًــا بَيْنَهُــمْ وعِنَاقَـا

وقول الآخر:

وَلِلــهِ قَــومِي: أَيُّ قَــوْمٍ لِحُـرَّةٍ إذَا كَـانَ يَوْمًـا ذَا كَـوَاكِبَ أَشْـنَعَا! !

وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و « كان » من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما، تذكروا إتباع النكرة خبرَها، وإذا نصبوهما، تذكروا صحبة « كان » لمنصوب ومرفوع. ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها، وأضمروا في « كان » مجهولا لاحتمالها الضمير.

وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك: « إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً » ، إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ يقرأ « يكون » بالياء، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع « كان » نكرة مؤنثًا بنعتها أو خبرها، أنَّثوا « كان » مرة، وذكروها أخرى، فقالوا: « إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها » ، تذكر « كان » - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا، وتؤنث أحيانًا.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: « إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ » مرفوعة فيه « التجارة الحاضرة » ، لأن « تكون » ، بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازمًا، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك، إذْ لم يكن يجدك لـ « كان » منصوبًا، ووجد « التجارة الحاضرة » مرفوعة، وأغفل جَواز قوله: « تديرونها بينكم » أن يكون خبرًا لـ « كان » ، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم.

والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية، غيرَ أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصحّ: وهو أن يكون في قوله: « تديرونها بينكم » وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب، على أنه حل محل خبر « كان » ، و « التجارة الحاضرة » اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع « التجارة الحاضرة » ، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسَائه، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدًا بيدٍ ونقدًا، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري، فأنْ يجحد البائعُ البيع، وله بيِّنة على ملكه ما قد باع، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه، فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به، فيذهب مالُ المشتري باطل وأما على البائع، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قِبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلفُ على ذلك، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.

ثم اختلفوا في معنى قوله: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، أهو أمرٌ من الله واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟

فقال بعضهم: « هو نَدْبٌ، إن شاء أشهد، وإن شاء لم يُشهد » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ؟

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا الربيع ابن صبيح قال: قلت للحسن: أرأيتَ قول الله عز وجل: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة، أترى بأسًا ألا أشهد عليه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي: « وأشهدوا إذا تبايعتم » ، قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤوا لم يشهدوا.

وقال آخرون: « الإشهاد على ذلك واجب » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا ، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ، ما كان يدًا بيد أن يُشهدوا عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم، لما قد بيَّنا: من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ، إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد.

وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال: ذلك منسوخ بقوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ، فيما مضى فأغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ أهله، فيكتب هذا ما لم يُملله المملي، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله: « ولا يضارّ كاتب ولا شهيد » ، « ولا يضار كاتب » فيكتب ما لم يملَّ عليه ، « ولا شهيد » فيشهد بما لم يُستشهد.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان الحسن يقول: « لا يضارّ كاتب » فيزيد شيئًا أو يحرّف « ولا شهيد » ، قال: لا يكتم الشهادة، ولا يشهدْ إلا بحق.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: اتقى الله شاهدٌ في شهادته، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: « لا يضار كاتب » فيكتب ما لم يُملل « ولا شهيد » ، فيشهد بما لم يستشهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: « لا يضار كاتب » فيكتب ما لم يُملل « ولا شهيد » ، فيشهد بما لم يستشهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: « لا يضار كاتب » فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والكتاب يومئذ قليلٌ، ولا يدرون أي شيء يُكتب، فيضار فيكتبَ غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضارّ فيحوِّل شهادته، فيبطل حقهم.

قال أبو جعفر: فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا شهيد، ثم أدغمت « الراء » في « الراء » ، لأنهما من جنس، وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم، لأنّ الفتح أخفّ الحركات.

وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك:، « ولا يضارّ كاتب ولا شهيد » بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: أن يؤديا ما قِبَلهما.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء. « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ؟ قال: « لا يضار » ، أن يؤديا ما عندهما من العلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: « لا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: أن يدعوهما، فيقولان: إن لنا حاجة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قالا واجب على الكاتب أن يكتب « ولا شهيد » ، قالا إذا كان قد شهد، اقبلْهُ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: « ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ والشهيدَ » . وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضَارَرْ، على وجه ما لم يسمّ فاعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال، كان عمر يقرأ: « ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد » .

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك قال: كان ابن مسعود يقرأ: ( ولا يُضَارَرْ ) .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقرأ: « ولا يُضَارَرْ كاتب ولا شهيد » ، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه وشاهدَه إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته وقال مجاهد: لا يقمْ عن شغله وحاجته، فيجدَ في نفسه أو يحرَج.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، والضِّرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنىّ: إنّ الله قد أمرك ألا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال: « وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ؛ فيقول: خلُّوا سبيله.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول: فلا يضاره.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتبْ لي، واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمسْ غيري! فيقول: اتق الله، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة، ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهدُ بتلك المنـزلة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: يدعو الرجل الكاتبَ أو الشهيدَ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما.

حدثت عن الحسن قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته ولا شاهدًا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته، وأنتَ تجد غيره.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، قال: لما نـزلت هذه الآية: وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي! فيقول: إني مشغول أو: لي حاجة، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول: إنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فاشهد لي! فيقول: انطلق إلى غيري فإني مشغول أو: لي حاجة! فيلزمه ويقول: قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، فأنـزل الله عز وجل: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، يقول: إن لي حاجة فدعني! فيقول: اكتب لي « ولا شهيد » ، كذلك.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: « ولا يضار كاتب ولا شهيد » ، بمعنى: ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه: « افعلوا أو: لا تفعلوا » ، إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب، كقوله: « وليكتب بينكم كاتب » ، وكقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ، وما أشبه ذلك. فالوجهُ إذْ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [ بأن يكون الأمر مردودًا على المستكتب والمستشهد ] ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد. ومع ذلك، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل: وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما، لأنهما اثنان، وأنهما غير مخاطبين بقوله: « ولا يضارّ » ، بل النهي بقوله: « ولا يضار » ، نهيٌ للغائب غير المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان مُنعدِلا عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ، وما نُهيتم عنه من ذلك « فإنه فسوق بكم » ، يعني: إثم بكم ومعصيةٌ.

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: « وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم » ، يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم » ، والفسوقُ المعصية.

حدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم » ، الفسوق العصيان.

وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها « فإنه فسوق بكم » ، يعني: فإنه كذب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم » ، الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذبٌ.

قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، إنما معناه: لا يضارّهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية.

فقوله: « وإن تفعلوا » إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما، وأنّ من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به، وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 282 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « واتقوا الله » ، وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه. ويعني بقوله: « ويُعلَّمكم الله » ، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به « والله بكل شيء عليم » ، يعني: [ بكل شيء ] من أعمالكم وغيرها، يحصيها عليكم، ليجازيكم بها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: « ويعلمكم الله » ، قال: هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا ( كَاتِبًا ) ، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى، « فرهان مقبوضة » .

وقرأ جماعةٌ من المتقدمين: ( وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا ) ، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة.

والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار: « ولم تجدوا كاتبًا » ، بمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين.

[ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه ] : وإن كنتم، أيها المتداينون، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك، ليكون ثقةً لكم بأموالكم.

ذكر من قال ما قلنا في ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: « وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة » ، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن.

حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا » ، يقول: كاتبًا يكتب لكم « فرهان مقبوضة » .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [ كاتبًا ] ، فرهان مقبوضة.

ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس: « فإن لم تجدوا كتابًا » ، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ: « فإن لم تجدوا كتابًا » ، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرأها: « فإن لم تجدوا كتابًا » ، ويقول: ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا » ، يقول: مدادًا، - يقرأها كذلك - يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة « فرهن مقبوضة » ، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب قال: إن أبا العالية كان يقرؤها، « فإن لم تجدوا كتابًا » ، قال أبو العالية: تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة.

قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله: « فرهان مقبوضة » .

فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) ، بمعنى جماع « رَهْن » كما « الكباش » جماع « كبش » ، و « البغال » جماع « بَغل » ، و « النعال » جماع « نعل » .

وقرأ ذلك جماعة آخرون: ( فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ ) على معنى جمع: « رِهان » ، « ورُهن » جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع « رَهْن » :، مثل « سَقْف وسُقُف » .

وقرأه آخرون: ( فَرُهْنٌ ) مخففة الهاء على معنى جماع « رَهْن » ، كما تجمع « السَّقْف سُقْفًا » . قالوا: ولا نعلم اسمًا على « فَعْل » يجمع على « فُعُل وفُعْل » إلا « الرُّهُنُ والرُّهْن » . و « السُّقُف والسُّقْف » .

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه: « فرهان مقبوضة » . لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على « فَعْل » ، كما يقال: « حَبْلٌ وحبال » و « كَعْب وكعاب » ، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع « الفَعْل » على « الفُعُل أو الفُعْل » فشاذّ قليل، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل: « سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف » « وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب » من: « قلب النخل » . « وجَدٌّ وجُدٌّ » ، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. وأما ما جاء من جمع « فَعْل » على « فُعْل » ف « ثَطٌّ، وثُطّ » ، و « وَرْدٌ ووُرْد » و « خَوْدٌ وخُود » .

وإنما دعا الذي قرأ ذلك: « فرُهْنٌ مقبوضة » إلى قراءته فيما أظن كذلك، مع شذوذه في جمع « فَعْل » ، أنه وجد « الرِّهان » مستعملة في رِهَان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى « الرهان » الذي هو جمع « رَهْن » ، ووجد « الرُّهُن » مقولا في جمع « رَهْن » ، كما قال قَعْنَب:

بَـانَتْ سُـعادُ وأَمْسَـى دُونَهَـا عَـدَنُ وَغَلِقَـتْ عِنْدَهَـا مِـنْ قَلْبِـكَ الـرُّهُنُ

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، « فليتق الله » ، المدينُ « رَبّه » ، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يَلُطّ دونه، أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له، به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه، إليه.

وقد ذكرنا قول من قال: « هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي في الآية قبلها: من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب » . وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وقد:-

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته » ، إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله الضحاك من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر، فكما قال، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل.

وأما ما قاله من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك، مثل الائتمان: في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر فإنه قولٌ لا معنى له، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:-

6444- أنه اشترى طعامًا نَسَاءً، ورهن به درعًا لهُ.

فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بمالَهُ من حقّ، في السفر والحضر- لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، أو كان البيع أو الدَّين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( 283 )

قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم، فقال لهم: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا - ولا تكتموا، أيها الشهود، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه.

ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان، فقال: « ومن يَكتمها » . يعني: ومن يكتم شهادته « فإنه آثم قَلبه » ، يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله، كما:-

حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه » ، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ومن يكتمها فإنه آثم قلبه » ، يقول: فاجر قلبه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [ سورة المائدة: 72 ] ، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول: « ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه » .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول: « على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد، ويخبر بها حيثُ استُخبر » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل: « أخْبِر بها عند الأمير » ، أخبره بها، لعله يراجع أو يَرْعَوي.

وأما قوله: « والله بما تعملون عليمٌ » ، فإنه يعني: « بما تعملون » في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها « عليمٌ » ، يحصيه عليكم، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « لله ما في السماوات وما في الأرض » ، لله ملك كل ما في السماوات وما في الأرض من صغير وكبير، وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه.

وإنما عنى بذلك جل ثناؤه كتمانَ الشهود الشهادةَ، يقول: لا تكتموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتمها يفجُرْ قلبه، ولن يخفى عليّ كتمانه ذلك، لأني بكل شيء عليم، وبيدي صَرْف كل شيء في السماوات والأرض ومِلكه، أعلمُ خفيّ ذلك وَجليّه، فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة وعيدًا من الله بذلك مَنْ كتمها، وتخويفًا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرَائهم ممن انطوى كشحًا على معصية فأضمرها، أو أظهر مُوبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال: « وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، يقول: وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المالِ الجحودَ والإنكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم، وغير ذلك من سيئ أعمالكم « يحاسبكم به الله » ، يعني بذلك: يحتسب به عليكم من أعمالكم، فمجازٍ من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين.

ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله: « وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » .

فقال بعضهم بما قلنا: من أنه عنى به الشهودَ في كتمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله » ، يقول: يعني في الشهادة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، قال: في الشهادة.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال: سئل داود عن قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، فحدثنا عن عكرمة قال: هي الشهادة إذا كتمتها.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو وأبي سعيد: أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية: « وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، قال: في الشهادة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن الشعبي في قوله: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » قال: في الشهادة.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية، « وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: نـزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن عكرمة في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، يعني: كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها.

وقال آخرون: « بل نـزلت هذه الآية إعلامًا من الله تبارك وتعالى عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه » .

ثم اختلف متأوِّلو ذلك كذلك.

فقال بعضهم: « ثم نسخ الله ذلك بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [ سورة البقرة: 286 ] »

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نـزلتْ: « لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، اشتد ذلك على القوم، فقالوا: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا! هلكنا! فأنـزل الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا الآية إلى قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال اللهُ: نعم رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا إلى آخر الآية قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث، عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء » ، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سمعنا وأطعنا وسلَّمنا » . قال: فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم، قال: فأنـزل الله عز وجل: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ قال أبو كريب: فقرأ: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال فقال: قد فعلت رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال: قد فعلت رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: قال: قد فعلت وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قال: قد فعلت.

حدثني أبو الردّاد المصري عبد الله بن عبد السلام قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح قال، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول: قال ابن شهاب، حدثني سعيد ابن مرجانة قال: جئتُ عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاءُ ويعذب من يشاء » . ثم قال ابن عمر: لئن آخذَنا بهذه الآية، لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دُموعه. قال، ثم جئتُ عبدَ الله بن العباس فقلت: يا أبا عباس، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » الآية، ثم قال: لئن وَاخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتى سالت دموعه! فقال ابن عباس: يغفر الله لعبد الله بن عمر! لقد فَرِق أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فَرِق ابن عمر منها، فأنـزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، فنسخ الله الوَسوسة، وأثبت القول والفعلَ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدث: أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية، « لله ما في السماوات وما في الأرض وَإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نَشيجه، فقال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرتُ لهُ ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لعمري لقد وَجَد المسلمون منها حين أنـزلت مثل ما وَجد عبد الله بن عمر، فأنـزل اللهُ بعدها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا إلى آخر السورة. قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أنّ للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القوْل والفعل.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعتُ الزهري يقول في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، قال: قرأها ابن عمر فبكى وقال: إنا لمؤاخذون بما نحدِّث به أنفسنا! فبكى حتى سُمع نشيجه، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له، فقال: رَحم الله ابن عُمر! لقد وَجَد المسلمون نحوًا مما وَجدَ، حتى نـزلت: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » الآية، فبكى. فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك، فضحك ابن عباس فقال: يرحم الله ابن عمر! أوَ ما يدري فيم أنـزلت؟ إن هذه الآية حين أنـزلت غَمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غمًّا شديدًا وقالوا: يا رسول الله، هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » ، فنسختها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ إلى قوله: وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ فَتُجُوِّز لهم منْ حديث النفس، وأخِذوا بالأعمال.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم: أن أباه قرأ: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، فدمعت عينه، فبلغ صَنِيعه ابنَ عباس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن! لقد صَنعَ كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنـزلتْ، فنسختها الآية التي بعدها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: نسخت هذه الآية: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » - لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت هذه الآية: « إن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، قالوا: أنؤاخذ بما حدَّثنا به أنفسنا، ولم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنـزلت هذه الآية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتيم « سورة البقرة » ، لم تُعطها الأمم قبلها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل، عن عامر: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء » ، قال: فنسختها الآية بعدها، قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: نسختها الآية التي بعدها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وقوله: « وإن تُبدوا » ، قال: يحاسب بما أبدَى من سرّ أو أخفى من سر، فنسختها التي بعدها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيّار، عن الشعبي، قال: لما نـزلت هذه الآية: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء » ، قال: فكان فيها شدّة، حتى نـزلت هذه الآية التي بعدها: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، قال: فنسخت ما كان قبلها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: ذكروا عند الشعبي: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » حتى بلغ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، قال، فقال الشعبي: إلى هذا صار، رجَعتْ إلى آخر الآية.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، قال قال ابن مسعود: كانت المحاسبة قبل أن تنـزل: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، فلما نـزلت نسخت الآية التي كانت قبلها.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يذكر، عن ابن مسعود نحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: نسخت « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب وسفيان، عن جابر، عن مجاهد وعن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قالوا: نسخت هذه الآية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ، « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » ، الآية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أ، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر بمثله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه » إلى آخر الآية، قال: محتها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه قال: نسخت هذه الآية يعني قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا الآية التي كانت قبلها: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: نسختها قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد قال: لما نـزلت هذه الآية: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » إلى آخر الآية، اشتدّت على المسلمين، وشقَّتْ مشقةً شديدة، فقالوا: يا رسول الله، لو وَقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وَأخذنا الله به؟ قال:فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا » ! قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله! قال: فنـزل القرآن يفرِّجها عنهم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ إلى قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، قال: فصيَّره إلى الأعمال، وترك ما يقع في القلوب.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا هشيم، عن سيارٍ عن أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: نسخت هذه الآية التي بعدَها: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وإن تبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: يوم نـزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وَسْوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن عمل أحدُنا وإن لم يعملْ أخِذنا به؟ والله ما نملك الوَسوسة!! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدُ بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا الآية، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ .

وقال آخرون ممن قال معنى ذلك: « الإعلام من الله عز وجل عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه » « هذه الآية محكمة غيرُ منسوخة، والله عز وجل محاسبٌ خلقَه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادُوه، فيغفره للمؤمنين، ويؤاخذ به أهلَ الكفر والنفاق » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: « وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، فإنها لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جَمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله عز وجل: « إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي » ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدَّثوا به أنفسهم، وهو قوله: « يحاسبكم به الله » ، يقول: يخبركم. وأما أهل الشك والرَّيْب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [ سورة البقرة: 225 ] ، من الشكّ والنفاق.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، فذلك سِرُّ عملكم وعلانيته، يحاسبكم به الله، فليس من عبد مؤمن يُسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به، فإن عمل به كُتبت له به عشرُ حسنات، وإن هو لم يُقدَر له أن يعمل به كتبت له به حسنة، من أجل أنه مؤمن، والله يَرْضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم. وإن كان سُوءًا حدَّث به نفسه، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تُبلى السرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوَز الله عنه، كما قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [ سورة الأحقاف: 16 ] .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) ، الآية، قال: قال ابن عباس: إن الله يقول يوم القيامة: « إن كُتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظَهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليومَ، فأغفر لمن شئت وأعذّب من شئت » .

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا علي بن عاصم قال، أخبرنا بيان، عن بشر، عن قيس بن أبي حازم قال: إذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل يُسمع الخلائق: « إنما كان كُتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فإما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه، أنا اللهُ أعلم بذلك كله منكم، فأغفر لمن شئتُ، وأعذّب من شئت » .

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، كان ابن عباس يقول: إذا دعي الناس للحساب أخبرَهم الله بما كانوا يسرُّون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول: « إنه كان لا يعزُب عني شيء، وإني مخبركم بما كنتم تسرُّون من السُّوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطَّلعين عليه » . فهذه المحاسبة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس نحوه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: هي محكمة، لم ينسخها شيء يقول: « يحاسبكم به الله » ، يقول: يعرّفه الله يوم القيامة: « إنك أخفيتَ في صدرك كذا وكذا » ! لا يؤاخذه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: هي محكمة لم تنسخ.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: من الشك واليقين.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، يقول: في الشك واليقين.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

قال أبو جعفر: فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه على بن أبي طلحة: وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم، فلم يطلع عليه أحد من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان، وأعذِّب أهلَ الشرك والنفاق في ديني.

وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه، وعلى ما قاله الربيع بن أنس، فإن تأويلها: إنْ تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه، يُعْلمكم به الله يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء.

وأما قول مجاهد، فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة.

وقال آخرون ممن قال: « هذه الآية محكمة، وهي غير منسوخة » ، ووافقوا الذين قالوا: « معنى ذلك: أن الله عز وجل أعلم عبادَه ما هو فاعل بهم فيما أبدَوْا وأخفوا من أعمالهم » معناها: إن الله محاسبٌ جميعَ خلقه بجميع ما أبدَوْا من سيئ أعمالهم، وجميع ما أسروه، وَمعاقبهم عليه. غيرَ أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزَنون عليها ويألمون منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلم يعملها، أرسل الله عليه من الهم والحزَن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها، فكانت كفّارته.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بمعصية، أو يحدّث بها نفسه، حاسبه الله بها في الدنيا، يخافُ ويحزن ويهتم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو تميلة، عن عبيد، عن الضحاك قال: قالت عائشة في ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية، وحدّث نفسه به، حاسبه الله في الدنيا، يخاف ويحزَن ويشتدّ همّه، لا يناله من ذلك شيء، كما همّ بالسوء ولم يعمل منه شيئًا.

حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أميّة أنها سألت عائشة عن هذه الآية: « وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله » و مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [ سورة النساء: 123 ] فقالت: ما سألني عنها أحد مذْ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عائشة، هذه متابعة الله العبدَ بما يصيبه من الحمَّى والنكبة والشَّوكة، حتى البضاعة يضعها في كمِّه فيفقدها، فيفزع لها فيجدُها في ضِبْنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرُج التبر الأحمر من الكير.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: « إنها محكمة، وليست بمنسوخة » . وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه. وليس في قوله جل وعز: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله: « أو تخفوه يحاسبكم به الله » . لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه.

وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا [ سورة الكهف: 49 ] . فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنـزيله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا [ سورة النساء: 31 ] . فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها، كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي:-

حدثني به أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي، عن قتادة، عن صَفوان بن مُحْرز، عن ابن عمر، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرِّره بسيئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم! فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [ سورة الحاقة: 19 ] أو كما قال وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، وهشام وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا هشام قالا جميعا في حديثهما عن قتادة، عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: « هل تعرف كذا » ؟ فيقول: « رب اغفر » - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال: « فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم » . قال: فيعطى صحيفة حسناته - أو: كتابه - بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ . [ سورة هود: 18 ] .

أن الله يفعل بعبده المؤمن: من تعريفه إياه سيئات أعماله، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها. فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه، فيستره عليه. وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال: « فيغفر لمن يشاء » .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن قوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ، ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير؟

قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.

فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله: « ويعذب من يشاء » ، إن كان لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا - : من هم بذنب، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا؟

قيل له: إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله: « ويعذب من يشاء » ، سعلى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث - من المنافقين، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما، إن تأويل قوله: « أو تخفوه يحاسبكم به الله » ، على الشك واليقين.

غير أنا نقول إن المتوعد بقوله: « ويعذب من يشاء » ، هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا والموعود الغفران بقوله: « فيغفر لمن يشاء » هو الذي إخفاء ما يخفيه، الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداءً تحليلُه وإباحته، فحرمه على خلقه جل ثناؤه أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله، مما كان جائزا ابتداءً إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه » .

فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده، ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله: « ويعذب من يشاء » .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: « وإن تبدوا ما في أنفسكم » ، أيها الناس، فتظهروه « أو تخفوه » ، فتنطوي عليه نفوسكم « يحاسبكم به الله » ، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 284 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله عز وجل على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه، وعلى غير ذلك من الأمور قادر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر « بما أنـزل إليه » ، يعني: بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد وعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها.

وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزلت هذه الآية عليه قال: يحق له.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه » ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نـزلت هذه الآية قال: ويحق له أن يؤمن.

وقد قيل: إنها نـزلت بعد قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم تقولون: « سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا » كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا: بل نقول: « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » ! فأنـزل الله لذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه: « آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله » ، يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل.

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « وكتبه » .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق ( وكتبه ) على وجه جمع « الكتاب » ، على معنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنـزلها على أنبيائه ورسله.

وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: ( وكتابه ) ، بمعنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنـزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: « وكتابه » ، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [ سورة العصر: 1- 2 ] ، بمعنى جنس « الناس » وجنس « الكتاب » ، كما يقال: « ما أكثر درهم فلان وديناره » ، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. وذلك، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك - أعني بذلك: « وملائكته وكتبه ورسله » - فإلحاق « الكتب » في الجمع لفظا به، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبمعناه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ

قال أبو جعفر: وأما قوله: « لا نفرق بين أحد من رسله » ، فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ: « لا نفرق بين أحد من رسله » بالنون، متروك، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك المتروك هو « يقولون » . وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر « يقولون » لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [ سورة الرعد: 23- 24 ] ، بمعنى: يقولون: سلام.

وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: ( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) ب « الياء » ، بمعنى: والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « لا نفرق بين أحد من رسله » ، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به.

قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون: « لا نفرق بين أحد من رسله » ، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض، الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط بمعنى ما وصفنا من: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله ولا يعترض بشاذ من القراءة، على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين: « سمعنا » قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه « وأطعنا » ، يعني: أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له وقوله: « غفرانك ربنا » ، يعني: وقالوا: « غفرانك ربنا » ، بمعنى: اغفر لنا ربنا غفرانك، كما يقال: « سبحانك » ، بمعنى: نسبحك سبحانك.

وقد بينا فيما مضى أن « الغفران » و « المغفرة » ، الستر من الله على ذنوب من غفر له، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة - عليه.

وأما قوله: « وإليك المصير » ، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله: « غفرانك » ؟

قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر، وأدت عن معنى الأمر نصبتها، فيقولون: « شكرا لله يا فلان » ، و « حمدا له » ، بمعنى: اشكر الله واحمده. « والصلاة، الصلاة » . بمعنى: صلوا. ويقولون في الأسماء: « الله الله يا قوم » ، ولو رفع بمعنى: هو الله، أو: هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر، كان جائزا، كما قال الشاعر:

إن قومــا منهــم عمــير وأشـبا ه عمـــير ومنهـــم الســـفاح

لجـــديرون بالوفـــاء إذا قــا ل أخـو النجـدة: السـلاح السلاح ! !

ولو كان قوله: « غفرانك ربنا » جاء رفعا في القراءة، لم يكن خطأ، بل كان صوابا على ما وصفنا.

وقد ذكر أن هذه الآية لما نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء، فسل ربك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر قال: لما أنـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: « آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » ، قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه! فسأل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا إلى آخر السورة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، فلا يضيق عليها ولا يجهدها.

وقد بينا فيما مضى قبل أن « الوسع » اسم من قول القائل: « وسعني هذا الأمر » ، مثل « الجهد » و « الوجد » من: « جهدني هذا الأمر » و « وجدت منه » ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاومة، عن علي، عن ابن عباس قوله: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ سورة الحج: 78 ] ، وقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ سورة البقرة: 185 ] ، وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [ سورة التغابن: 16 ] .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس قال: لما نـزلت، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان! كيف نتوب من الوسوسة؟ كيف نمتنع منها؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » ، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها » ، وسعها، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم يطيقوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « لها » للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها. يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير « وعليها » ، يعني: وعلى كل نفس « ما اكتسبت » ، ما عملت من شر، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت » ، أي: من خير « وعليها ما اكتسبت » ، أي: من شر - أو قال: من سوء.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط. عن السدي. « لها ما كسبت » ، يقول: ما عملت من خير « وعليها ما اكتسبت » ، يقول: وعليها ما عملت من شر.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتاده، مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس: « لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت » ، عمل اليد والرجل واللسان.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا

قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا » شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله، « أو أخطأنا » في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » ، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا، أو أخطأنا، [ فأصبنا ] شيئا مما حرمته علينا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » ، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، زعم السدي أن هذه الآية حين نـزلت: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: فقل ذلك يا محمد.

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟

قيل: إن « النسيان » على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.

فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو « النسيان » الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [ سورة طه: 115 ] ، وهو « النسيان » الذي قال جل ثناؤه: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [ سورة الأعراف: 51 ] . فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله: « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » ، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عز وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.

وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه.

وكذلك « الخطأ » وجهان:

أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ. يقال منه: « خطئ فلان وأخطأ » فيما أتى من الفعل، و « أثم » ، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه، ومنه قول الشاعر:

النــاس يلحــون الأمــير إذا هـم خـطئوا الصـواب ولا يـلام المرشد

يعني: أخطأوا الصواب وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، إلا ما كان من ذلك كفرا.

والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به.

وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم

وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية، لمن وفق لفهمه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا

قال أبو جعفر: ويعني بذلك جل ثناؤه: قولوا: « ربنا ولا تحمل علينا إصرا » ، يعني ب « الإصر » العهد، كما قال جل ثناؤه: قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [ سورة آل عمران: 81 ] . وإنما عنى بقوله: ( وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه « كما حملته على الذين من قبلنا » ، يعني: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه، مثل الذي أحل بمن قبلهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قي قوله: « لا تحمل علينا إصرا » ، قال: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، كما حملته على الذين من قبلنا. يقول: كما غلظ على من قبلنا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن مجاهد في قوله: « ولا تحمل علينا إصرا » ، قال: عهدا

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إصرا » ، قال: عهدا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: « إصرا » ، يقول: عهدا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا » ، والإصر: العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « ولا تحمل علينا إصرا » ، قال: عهدا لا نطيقه ولا نستطيع القيام به « كما حملته على الذين من قبلنا » ، اليهود والنصارى فلم يقوموا به، فأهلكتهم.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: « إصرا » ، قال: المواثيق.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « الإصر » ، العهد. وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي [ سورة آل عمران 81 ] ، قال: عهدي.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ، قال: عهدي.

وقال آخرون: « معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا، كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: « ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا » ، قال: لا تمسخنا قردة وخنازير.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا » ، لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبةً ولا كفارة.

وقال آخرون: « معنى » الإصر « بكسر الألف: الثِّقْل » .

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا » ، يقول: التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله: « ولا تحمل علينا إصرًا » ، قال: الإصر، الأمر الغليظ.

قال أبو جعفر: فأما « الأصر » ، بفتح الألف: فهو ما عَطف الرجلَ على غيره من رَحم أو قرابة، يقال: « أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه » ، بمعنى: عطفتني عليه. « وما يأصِرُني عليه » ، أي: ما يعطفني عليه. « وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا » ، يعني به: عاطفة رَحم تعطفني عليه.

 

القول في تأويل قوله : رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضًا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، لثِقَل حمله علينا.

وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، تشديدٌ يشدِّد به، كما شدّد على من كان قبلكم.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله: « ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، قال: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، مَسخُ القردة والخنازير.

حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن سالم بن شابور في قوله: « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، قال: الغُلْمة.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به » ، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم.

قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، على نحو الذي قلنا في ذلك، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم، فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين، أولى مما خالف ذلك المعنى.

 

القول في تأويل قوله : وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا

قال أبو جعفر: وفي هذا أيضًا، من قول الله عز وجل، خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله: وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم: « واعف عنا » ، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « واعف عنا » ، قال: اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به.

وكذلك قوله: « واغفر لنا » ، يعني: واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها.

وقد دللنا على معنى « المغفرة » فيما مضى قبل.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « واغفر لنا » إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه.

 

القول في تأويل قوله : وَارْحَمْنَا

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله: « وارحمنا » ، قال يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك.

 

القول في تأويل قوله : أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « أنت مَوْلانا » ، أنت وَليُّنا بنصرك، دون من عَاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك ، « فانصرنا » ، لأنا حزْبك « على القوم الكافرين » ، الذين جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.

و « المولى » في هذا الموضع « المفعَل » ، من: « وَلى فلانٌ أمرَ فُلان، فهو يليه وَلاية، وهو وليُّه ومولاه » . وإنما صارت « الياء » من « ولى » « ألفًا » ، لانفتاح « اللام » قبلها، التي هي عينُ الاسم.

وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنـزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجاب الله له في ذلك كله.

ذكر الأخبار التي جاءت بذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال، حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نـزلت هذه الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى قوله: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ، قال الله عز وجل: « قد غفرت لكم » . فلما قرأ: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال الله عز وجل: لا أحملكم. فلما قرأ: وَاغْفِرْ لَنَا ، قال الله تبارك وتعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ: وَارْحَمْنَا ، قال الله عز وجل: « قد رحمتكم » ، فلما قرأ: « وانصرنا على القوم الكافرين » ، قال الله عز وجل: قد نصرتُكم عليهم.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. وقال له جبريل: قل: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. فقال: قل رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، فقالها، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: قد فعل. فقال: قل: « واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين » ، فقالها، فقال جبريل: قد فَعل.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نـزلت: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، فقال له جبريل: فعل ذلك يا محمد « ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين » ، فقال له جبريل في كل ذلك: فَعَل ذلك يا محمد.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن آدم بن سليمان، مولى خالد قال، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنـزل الله عز وجل: « آمن الرسول بما أنـزل من ربه » إلى قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، فقرأ: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال فقال: قد فعلت رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ، فقال: قد فعلت رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ، قال: قد فعلت « واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين » ، قال: قد فعلت.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أنـزل الله عز وجل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال: أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال ويقول: قد فعلت رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ، قال ويقول: قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم « سورة البقرة » ، ولم تعطها الأمم قبلها.

حدثنا علي بن حرب الموصلي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ إلى قوله: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ، قال: قد غفرت لكم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا إلى قوله: لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قال: لا أؤاخذكم رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ، قال: لا أحمل عليكم إلى قوله: « واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا » ، إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرُتكم على القوم الكافرين.

وروى عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة:

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا : كان جبريل عليه السلام يقول له: سلها! فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه، فأعطاه إياها، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً.

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة: « وانصرنا على القوم الكافرين » ، قال: آمين.

آخر تفسير سورة البقرة

 

أعلى