فهرس تفسير بن كثير للسور

21 - تفسير بن كثير سورة الأنبياء

التالي السابق

 

سورة الأنبياء

 

وهي مكية.

قال البخاري:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق:سمعت عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله قال:بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي .

بسم الله الرحمن الرحيم

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ( 1 ) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( 2 ) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( 3 ) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 4 ) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ( 5 ) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ( 6 )

هذا تنبيه من الله، عز وجل، على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها، أي:لا يعملون لها، ولا يستعدون من أجلها.

وقال النسائي:حدثنا أحمد بن نصر، حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) قال: « في الدنيا » ، وقال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [ النحل:1 ] ، وقال [ تعالى ] : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ القمر:1، 2 ]

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نُوَاس الشاعر أنه قال:أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول:

النَّــــاس فــــي غَفَلاتِهِـــمْ وَرَحــــا المِنيَّـــة تَطْحَـــنُ

فقيل له:من أين أخذ هذا؟ قال :من قوله تعالى: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) .

[ وروي في ترجمة « عامر بن ربيعة » ، من طريق موسى بن عبيدة الآمدي، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عامر بن ربيعة:أنه نـزل به رجل من العرب، فأكرم عامر مثواه، وكلّم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه الرجل فقال:إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا في العرب، وقد أردت أن أقطعَ لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك. فقال عامر:لا حاجة لي في قطيعتك، نـزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ) .

ثم أخبر تعالى أنهم لا يُصغون إلى الوحي الذي أنـزل الله على رسوله، والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار، فقال: ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ) أي:جديد إنـزاله ( إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) كما قال ابن عباس:ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حَرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضًا لم يشب. ورواه البخاري بنحوه .

وقوله: ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي:قائلين فيما بينهم خفْيَةً ( هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) يعنونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستبعدون كونه نبيًا؛ لأنه بَشَرٌ مثلهم، فكيف اختص بالوحي دونهم؛ ولهذا قال: ( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ؟ أي:أفتتبعونه فتكونون كمن أتى السحر وهو يعلم أنه سحر. فقال تعالى مجيبًا لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب.

( قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) أي:الذي يعلم ذلك، لا يخفى عليه خافية، وهو الذي أنـزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، إلا الذي يعلم السر في السماوات والأرض.

وقوله: ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [ أي:السميع ] لأقوالكم، ( الْعَلِيم ) بأحوالكم. وفي هذا تهديد لهم ووعيد.

وقوله: ( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ ) هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم، واختلافهم فيما يصفون به القرآن، وحيرتهم فيه، وضلالهم عنه. فتارة يجعلونه سحرًا، وتارة يجعلونه شعرًا، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام، وتارة يجعلونه مفترى، كما قال: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا [ الإسراء:48 ، والفرقان:9 ] .

وقوله: ( فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ) :يعنون ناقة صالح، وآيات موسى وعيسى. وقد قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [ الآية ] [ الإسراء:59 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ) أي:ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يَدَيْ نبيها فآمنوا بها، بل كذبوا، فأهلكناهم بذلك، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رَأَوْها دون أولئك؟ كلا بل إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ [ يونس:96، 97 ] .

هذا كله، وقد شاهدوا من الآيات الباهرات، والحجج القاطعات، والدلائل البينات، على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى، وأبهر وأقطع وأقهر، مما شُوهِدَ مع غيره من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قال ابن أبي حاتم، رحمه الله:ذكر عن زيد بن الحباب، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي، عن علي بن رباح اللخمي، حدثني من شهد عبادة بن الصامت، يقول:كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، يُقْرِئُ بعضنا بعضا القرآن، فجاء عبد الله بن أبي بن سلول، ومعه نُمْرُقة وزِرْبِيّة، فوضع واتكأ، وكان صبيحًا فصيحًا جدلا فقال:يا أبا بكر، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون؟ جاء موسى بالألواح، وجاء داود بالزبور، وجاء صالح بالناقة، وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة. فبكى أبو بكر، رضي الله عنه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر:قوموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه لا يقام لي، إنما يقام لله عز وجل » . فقلنا:يا رسول الله، إنا لقينا من هذا المنافق. فقال: « إن جبريل قال لي:اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك، وفضيلته التي فُضِّلت بها، فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمّي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان وأيدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رءوسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم ، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي الغنائم ، ولم تحل لأحد كان قبلنا » . وهذا الحديث غريب جدًا.

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 7 ) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ( 8 ) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ( 9 ) .

يقول تعالى رادِّا على من أنكر بعثة الرسل من البشر: ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى إِلَيْهِمْ ) أي:جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر، لم يكن فيهم أحد من الملائكة، كما قال في الآية الأخرى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [ يوسف:109 ] ، وقال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [ الأحقاف:9 ] ، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [ التغابن:6 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أي:اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف:هل كان الرسل الذين أتوهم بشرًا أو ملائكة؟ إنما كانوا بشرًا، وذلك من تمام نِعمَ الله على خلقه؛ إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.

وقوله: ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) أي:بل قد كانوا أجسادًا يأكلون الطعام، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [ الفرقان:20 ] أي:قد كانوا بشرا من البشر، يأكلون ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئًا، كما توهمه المشركون في قولهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا [ الفرقان:7، 8 ] .

وقوله: ( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) أي:في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [ الأنبياء:34 ] ، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل، تنـزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكم في خلقه مما يأمر به وينهى عنه.

وقوله: ( ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ ) أي:الذي وعدهم ربهم: « ليهلكن الظالمين » ، صدقهم الله وعده ففعل ذلك؛ ولهذا قال: ( فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ ) أي:أتباعهم من المؤمنين، ( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) أي:المكذبين بما جاءت الرسل به.

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 10 )

يقول تعالى منبهًا على شرف القرآن، ومحرضًا لهم على معرفة قدره: ( لَقَدْ أَنـزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ) قال ابن عباس:شَرَفُكم.

وقال مجاهد:حديثكم. وقال الحسن:دينكم.

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [ الزخرف:44 ] .

 

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( 11 ) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ( 12 ) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ( 13 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 14 ) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ( 15 ) .

وقوله: ( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً ) هذه صيغة تكثير، كما قال وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [ الإسراء:17 ] .

وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [ الحج:45 ] . وقوله: ( وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) أي:أمة أخرى بعدهم.

( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا ) أي:تيقنوا أن العذاب واقع بهم، كما وعدهم نبيهم، ( إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ) أي:يفرون هاربين.

( لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ) هذا تهكم بهم قدرًا أي:قيل لهم قدرًا:لا تركضوا هاربين من نـزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور، والمعيشة والمساكن الطيبة.

قال قتادة:استهزاء بهم.

( لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ) أي:عما كنتم فيه من أداء شكر النعمة.

( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك، ( فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ) أي:ما زالت تلك المقالة، وهي الاعتراف بالظلم، هِجيراهم حتى حصدناهم حصدًا وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودًا.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 16 ) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ( 17 ) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ( 18 ) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ( 19 ) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ( 20 ) .

يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي:بالعدل والقسط، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النجم:31 ] ، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا، كما قال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ ص:27 ]

وقوله تعالى: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ) يعني:من عندنا، يقول:وما خلقنا جنة ولا نارًا، ولا موتًا، ولا بعثًا، ولا حسابًا.

وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا ) اللهو:المرأة بلسان أهل اليمن.

وقال إبراهيم النَّخعِي: ( لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ ) من الحور العين.

وقال عكرمة والسدي:المراد باللهو هاهنا:الولد.

وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ [ الزمر:4 ] ، فنـزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقًا، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل، من اتخاذ عيسى، أو العزير أو الملائكة، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [ الإسراء:43 ] .

وقوله: ( إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ) قال قتادة، والسدي، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مِقْسَم، أي:ما كنا فاعلين.

وقال مجاهد:كل شيء في القرآن « إن » فهو إنكار.

وقوله: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ ) أي:نبين الحق فيدحض الباطل؛ ولهذا قال: ( فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) أي:ذاهب مضمحل، ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ ) أي:أيها القائلون:لله ولد، ( مِمَّا تَصِفُونَ ) أي:تقولون وتفترون.

ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال: ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ ) يعني:الملائكة، ( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ) أي:لا يستنكفون عنها، كما قال: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [ النساء:172 ] .

وقوله: ( وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ) أي:لا يتعبون ولا يَملُّون.

( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) فهم دائبون في العمل ليلا ونهارًا، مطيعون قصدًا وعملا قادرون عليه، كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التحريم:6 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن أبي دُلامة البغدادي، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحرِز، عن حكيم بن حِزَام قال:بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، إذ قال لهم: « هل تسمعون ما أسمع؟ » قالوا:ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم » . غريب ولم يخرجوه .

ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة مرسلا.

وقال أبو إسحاق ، عن حسان بن مخارق، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال:جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له:أرأيت قول الله [ للملائكة ] ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟. فقال:فمن هذا الغلام؟ فقالوا:من بني عبد المطلب، قال:فقبل رأسي، ثم قال لي:يا بني، إنه جعل لهم التسبيح، كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟.

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ( 21 ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 22 ) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ( 23 )

ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة، فقال:بل ( اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ) أي:أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي:لا يقدرون على شيء من ذلك. فكيف جعلوها لله ندًا وعبدوها معه.

ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السماوات الأرض، فقال ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ ) أي:في السماء والأرض، ( لَفَسَدَتَا ) ، كقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [ المؤمنون:91 ] ، وقال هاهنا: ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) أي:عما يقولون إن له ولدًا أو شريكًا، سبحانه وتعالى وتقدس وتنـزه عن الذي يفترون ويأفكون علوًا كبيرًا.

وقوله: ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) أي:هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه، ( وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) أي:وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله:فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الحجر:92، 93 ] وهذا كقوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [ المؤمنون:88 ] .

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 24 )

يقول تعالى:بل ( اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ ) يا محمد: ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ) أي:دليلكم على ما تقولون، ( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ ) يعني:القرآن، ( وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ) يعني:الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون، فكل كتاب أنـزل على كل نبي أرسل، ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق، فأنتم معرضون عنه؛

 

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( 25 )

ولهذا قال: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) ، كما قال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزخرف:45 ] ، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النحل:36 ] ، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ( 26 ) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( 27 ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( 28 ) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( 29 ) .

يقول تعالى ردًا على من زعم أن له - تعالى وتقدس- ولدًا من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب:إن الملائكة بنات الله، فقال: ( سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) أي:الملائكة عباد الله مكرمون عنده، في منازل عالية ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا.

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) أي:لا يتقدمون بين يديه بأمر، ولا يخالفونه فيما أمر به بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى عِلْمه محيط بهم، فلا يخفى عليه منهم خافية، ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ )

وقوله: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ [ البقرة:255 ] ، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [ سبأ:23 ] ، في آيات كثيرة في معنى ذلك.

( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ ) أي:من خوفه ورهبته ( مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ ) أي:من ادعى منهم أنه إله من دون الله، أي:مع الله، ( فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) أي:كل من قال ذلك، وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [ الزخرف:81 ] ، وقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ الزمر:65 ] .

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ( 30 ) وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( 31 ) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ( 32 ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( 33 ) .

يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء، وقهره لجميع المخلوقات، فقال: ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه، ألم يروا ( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ) أي:كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه. فجعل السماوات سبعًا، والأرض سبعًا، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض؛ ولهذا قال: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) أي:وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء:

فَفِــي كُــلّ شــيء لَــهُ آيَــة تَـــدُلّ عـــلَى أنَّـــه وَاحــد

قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن عكرمة قال:سئل ابن عباس:الليل كان قبل أو النهار؟ فقال:أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقًا، هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة، حدثنا حاتم، عن حمزة بن أبي محمد، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ أن رجلا أتاه يسأله عن السماوات والأرض ( كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) ؟. قال:اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله، ثم تعال فأخبرني بما قال لك. قال:فذهب إلى ابن عباس فسأله. فقال ابن عباس:نعم، كانت السماوات رتقًا لا تمطر، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت.

فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات. فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر:الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا، صدق - هكذا كانت. قال ابن عمر:قد كنت أقول:ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا.

وقال عطية العَوْفي:كانت هذه رتقًا لا تمطر، فأمطرت. وكانت هذه رتقًا لا تنبت، فأنبتت.

وقال إسماعيل بن أبي خالد:سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله: ( أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) ، قال:كانت السماء واحدة، ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين.

وهكذا قال مجاهد، وزاد:ولم تكن السماء والأرض متماستين.

وقال سعيد بن جبير:بل كانت السماء والأرض ملتزقتين، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن، وقتادة، كانتا جميعًا، ففصل بينهما بهذا الهواء.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) أي:أصل كل الأحياء منه.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر ، حدثنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة أنه قال:يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني، وطابت نفسي، فأخبرني عن كل شيء، قال: « كل شيء خلق من ماء » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، حدثنا همام، عن قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة قال:قلت:يا رسول الله، إني إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء. قال: « كل شيء خلق من ماء » قال:قلت:أنبئني عن أمر إذا عملتُ به دخلت الجنة. قال: « أفْش السلام، وأطعم الطعام، وصِل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنَّة بسلام » .

ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز، عن همام . تفرد به أحمد، وهذا إسناد على شرط الصحيحين، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن، واسمه سليم، والترمذي يصحح له. وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة مرسلا والله أعلم.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ ) أي:جبالا أرسى الأرض بها وقرّرها وثقلها؛ لئلا تميد بالناس، أي:تضطرب وتتحرك، فلا يحصل لهم عليها قرار لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع، فإنه باد للهواء والشمس، ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات، والحكم والدلالات؛ ولهذا قال: ( أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) أي:لئلا تميد بهم.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا ) أي:ثغرًا في الجبال، يسلكون فيها طرقًا من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض، يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد، فيجعل الله فيه فجوة - ثغرة- ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا؛ ولهذا قال: ( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) .

وقوله: ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا ) أي:على الأرض وهي كالقبة عليها، كما قال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [ الذاريات:47 ] ، وقال: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [ الشمس:5 ] ، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ ق:6 ] ، والبناء هو نصب القبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بُنِي الإسلام على خمس » أي:خمس دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام، على ما تعهده العرب.

( مَحْفُوظًا ) أي:عاليًا محروسًا أن يُنال. وقال مجاهد:مرفوعا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث - يعني ابن إسحاق القُمِّي- عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، قال رجل:يا رسول الله، ما هذه السماء، قال: « موج مكفوف عنكم » إسناد غريب.

وقوله: ( وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) ، كقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [ يوسف:105 ] أي:لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم، والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها، وفي نهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله، في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الذي قدرها وسخرها وسيرها.

وقد ذكر ابن أبي الدنيا، رحمه الله، في كتابه « التفكر والاعتبار » :أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة، وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، فلم ير ذلك الرجل شيئًا مما كان يرى لغيره، فشكى ذلك إلى أمه، فقالت له:يا بني، فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه، فقال:لا والله ما أعلم، قالت:فلعلك هممت؟ قال:لا ولا هممت. قالت:فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال:نعم، كثيرًا. قالت:فمن هاهنا أتيت.

ثم قال منبهًا على بعض آياته: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) أي:هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى، وعكسه الآخر. ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) هذه لها نور يخصها، وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور خاص آخر، وفلك آخر، وسير آخر، وتقدير آخر، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس:40 ] ، أي:يدورون.

قال ابن عباس:يدورون كما يدور المغزل في الفلكة. وكذا قال مجاهد:فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر، لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الأنعام:96 ] .

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( 34 ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( 35 ) .

يقول تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) أي:يا محمد، ( الْخُلْدَ ) أي:في الدنيا بل كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [ الرحمن:26، 27 ] .

وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر، عليه السلام، مات وليس بحي إلى الآن؛ لأنه بشر، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ) . وقوله: ( أَفَإِنْ مِتَّ ) أي:يا محمد، ( فَهُمُ الْخَالِدُونَ ) ؟! أي:يؤملون أن يعيشوا بعدك، لا يكون هذا، بل كل إلى فناء؛ ولهذا قال: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، وقد روي عن الشافعي، رحمه الله، أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين:

تمنـى رجــال أن أمـوت وإن أمـت فَتـلْكَ سَبيـل لَسْت فيهَـا بأوْحد

فقُـلْ للَّذي يَبْغـي خلاف الـذي مضى:تَهَيَّـأ لأخْـرى مثْلهـا فكَأن قد

وقوله: ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) أي:نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( ونبلوكم ) ، يقول:نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال..

وقوله: ( وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) أي:فنجازيكم بأعمالكم.

 

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ( 36 ) خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ( 37 ) .

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه، ( وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني:كفار قريش كأبي جهل وأشباهه ( إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا ) أي:يستهزئون بك وينتقصونك، يقولون: ( أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) يعنون:أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم، قال تعالى: ( وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ) أي:وهم كافرون بالله، ومع هذا يستهزئون برسول الله، كما قال في الآية الأخرى:وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا [ الفرقان:41، 42 ] .

وقوله: ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) ، كما قال في الآية الأخرى: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا [ الإسراء:11 ] أي:في الأمور.

قال مجاهد:خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار، من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه، ولم يبلغ أسفله قال:يا رب، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي - وقبض أصابعه قَلَّلَها - فسأل الله خيرًا، إلا أعطاه إياه » . قال أبو سلمة:فقال عبد الله بن سلام:قد عرفت تلك الساعة، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، وهي التي خلق الله فيها آدم، قال الله تعالى: ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) .

والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله [ وسلامه ] عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ، فقال الله تعالى: ( خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) ؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر؛ ولهذا قال: ( سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ) أي:نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، ( فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ) .

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 38 ) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 39 ) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 40 ) .

يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضًا بوقوع العذاب بهم، تكذيبًا وجحودًا وكفرًا وعنادًا واستبعادًا، فقال: ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

قال الله تعالى: ( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ ) أي:لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [ الزمر:16 ] ، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [ الأعراف:41 ] ، وقال في هذه الآية: ( حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ ) وقال: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ إبراهيم:50 ] ، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم، ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي:لا ناصر لهم كما قال: وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [ الرعد:34 ] .

وقوله: ( بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً ) أي: « تأتيهم النار بغتة » ، أي:فجأة ( فَتَبْهَتُهُمْ ) أي:تذعرهم فيستسلمون لها حائرين، لا يدرون ما يصنعون، ( فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ) أي:ليس لهم حيلة في ذلك، ( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) أي:ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.

وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 41 ) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ( 42 ) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ( 43 ) .

يقول تعالى مسليًا لرسوله [ صلوات الله وسلامه عليه ] عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يعني:من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [ الأنعام:34 ] .

ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام، فقال: ( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ) ؟ أي:بدل الرحمن بمعنى غيره كما قال الشاعر

جَاريـــة لَـــمْ تَلْبَس المُرقَّقـــا وَلَــم تَــذق مـنَ البُقـول الفُسْـتُقا

أي:لم تذق بدل البقول الفستق.

وقوله تعالى: ( بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ) أي:لا يعترفون بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، بل يعرضون عن آياته وآلائه، ثم قال ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا ) استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ، أي:ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا ولا كما زعموا؛ ولهذا قال: ( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ) أي:هذه [ الآلهة ] التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم.

وقوله: ( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) قال العوفي، عن ابن عباس: ( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) أي:يجارون وقال قتادة لا يصحبون [ من الله ] بخير وقال غيره: ( وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ) يمنعون.

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( 44 ) .

يقول تعالى مخبرًا عن المشركين:إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال، أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء.

ثم قال واعظًا لهم: ( أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) اختلف المفسرون في معناه، وقد أسلفناه في سورة « الرعد » ، وأحسن ما فسر بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الأحقاف:27 ] .

وقال الحسن البصري:يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر.

والمعنى:أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين؛ ولهذا قال: ( أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) يعني:بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون.

 

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ( 45 ) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 46 ) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ( 47 ) .

وقوله: ( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ) أي:إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذركم به من العذاب والنكال، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إليّ، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه؛ ولهذا قال: ( وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ) .

وقوله: ( وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) أي:ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله، ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا.

وقوله: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ) أي:ونضع الموازين العدل ليوم القيامة. الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.

وقوله: ( فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) كما قال تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [ الكهف:49 ] ، وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [ النساء:40 ] ، وقال لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [ لقمان:16 ] .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: « كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالَقَاني، حدثنا ابن المبارك، عن ليث بن سعد، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال:سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال:لا يا رب، قال:أفلك عذر، أو حسنة؟ » قال:فيبهت الرجل فيقول:لا يا رب. فيقول:بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك. فيخرج له بطاقة فيها: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله » فيقول:أحضروه، فيقول:يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول:إنك لا تظلم، قال: « فتوضع السجلات في كفة [ والبطاقة في كفة ] » ، قال: « فطاشت السجلات وثقلت البطاقة » قال: « ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم » .

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، به، وقال الترمذي:حسن غريب.

وقال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، فيوضع ما أحصي عليه، فتمايل به الميزان » قال: « فيبعث به إلى النار » قال:فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: [ لا تعجلوا ] ، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها « لا إله إلا الله » فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان .

وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا أبو نوح قراد أنبأنا ليث بن سعد، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلس بين يديه، فقال:يا رسول الله، إن لي مملوكين، يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأضربهم وأشتمهم، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، إن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم، كان فضلا لك [ عليهم ] وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل الذي يبقى قبلك » . فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ما له أما يقرأ كتاب الله؟: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) فقال الرجل:يا رسول الله، ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء - يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ( 48 ) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ( 49 ) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 50 ) .

قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهما، وبين كتابيهما؛ ولهذا قال: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) . قال مجاهد:يعني:الكتاب. وقال أبو صالح:التوراة، وقال قتادة:التوراة، حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد:يعني:النصر.

وجامع القول في ذلك:أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نورًا في القلوب، وهداية وخوفًا وإنابة وخشية؛ ولهذا قال: ( الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) أي: [ تذكيرًا ] لهم وعظة.

ثم وصفهم فقال: ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) كقوله مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ ق:33 ] ، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ الملك:12 ] ، ( وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) أي:خائفون وجلون.

ثم قال تعالى: ( وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنـزلْنَاهُ ) يعني:القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد، ( أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) أي:أفتنكرونه وهو في غاية [ الجلاء ] والظهور؟.

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ( 51 ) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( 52 ) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ( 53 ) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 54 ) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ ( 55 ) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 56 ) .

يخبر تعالى عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه آتاه رشده من قبل، أي:من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [ الأنعام:83 ] ، وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب، وهو رضيع، وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى الكوكب والمخلوقات، فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم - فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وفقًا، وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها، وكثير من ذلك ما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين. ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة. والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية، لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة.

والمقصود هاهنا:أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده، من قبل، أي:من قبل ذلك، وقوله: ( وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) أي:وكان أهلا لذلك.

ثم قال: ( إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره، الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله، عز وجل، فقال: ( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ) أي:معتكفون على عبادتها.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال:مر عليّ، على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال:ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها.

( قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ) :لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال؛ ولهذا قال: ( لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) أي:الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم.

فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم ( قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ ) يقولون :هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبًا أو محقًا فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك.

( قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ) أي:ربكم الذي لا إله غيره، هو الذي خلق السماوات [ والأرض ] وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن، وهو الخالق لجميع الأشياء ( وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) أي:وأنا أشهد أنه لا إله غيره، ولا رب سواه.

وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ( 57 )

ثم أقسم الخليل قسمًا أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم، أي:ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين أي:إلى عيدهم. وكان لهم عيد يخرجون إليه.

قال السدي:لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه:يا بني، لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا! فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض. وقال:إني سقيم، فجعلوا يمرون عليه وهو صريع، فيقولون:مه! فيقول:إني سقيم، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: ( تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ) فسمعه أولئك.

وقال أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:لما خرج قوم إبراهيم، إلى عيدهم مروا عليه فقالوا:يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال:إني سقيم. وقد كان بالأمس قال: ( تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) فسمعه ناس منهم.

 

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ( 73 ) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ( 74 ) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 75 ) .

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) أي:يقتدي بهم، ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) أي:يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ) من باب عطف الخاص على العام، ( وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) أي:فاعلين لما يأمرون الناس به.

ثم عطف بذكر لوط - وهو لوط بن هاران بن آزر- كان قد آمن بإبراهيم، واتبعه، وهاجر معه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [ العنكبوت:26 ] ، فآتاه الله حكمًا وعلمًا، وأوحى إليه، وجعله نبيًا، وبعثه إلى سَدُومَ وأعمالها، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله ودَمَّر عليهم، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز؛ ولهذا قال: ( وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 76 ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 77 ) .

يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح، عليه السلام، حين دعا على قومه لما كذبوه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ القمر:10 ] ، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نوح:26، 27 ] ، ولهذا قال هاهنا: ( إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) أي:الذين آمنوا به كما قال: وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ [ هود:40 ] .

وقوله: ( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) أي:من الشدة والتكذيب والأذى، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يقصدون لأذاه ويتواصون قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل على خلافه.

وقوله: ( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ) أي:ونجيناه وخلصناه منتصرًا من القوم ( الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) أي:أهلكهم الله بعامة، ولم يُبْقِ على وجه الأرض منهم أحدًا؛ إذ دعا عليهم نبيهم.

وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( 78 ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ( 79 ) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ( 80 ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ( 81 )

قال ابن إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود:كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ عناقيده. وكذا قال شُرَيْح.

قال ابن عباس:النَّفْشُ:الرعي.

وقال شُرَيح، والزهري، وقتادة:النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة:والهَمْلُ بالنهار.

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي، عن أشعت، عن أبي إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود في قوله: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال:كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال:فقضى داود بالغَنَم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان:غيرُ هذا يا نبي الله! قال:وما ذاك؟ قال:تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) .

وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس.

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، حدثنا خليفة، عن ابن عباس قال:فحكم داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان:كيف قضى بينكم؟

فأخبروه، فقال:لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال:كيف تقضي بينهم؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا خُدَيْج، عن أبي إسحاق، عن مُرَّة، عن مسروق قال:الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان:لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.

وهكذا قال شُرَيح، ومُرَّة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد وغير واحد.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن عامر، قال:جاء رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما:إن شاة هذا قطعت غزلا لي، فقال شريح:نهارًا أم ليلا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلا ضَمِن، ثم قرأ: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ ) الآية.

وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، عن الزهري، عن حَرام بن مُحَيْصة ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها . وقد عُلِّل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب « الأحكام » وبالله التوفيق.

وقوله: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حميد؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى، قال ما يبكيك؟ قال يا أبا سعيد، بلغني أن القضاة:رجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري:إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان، عليهما السلام، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود. ثم قال - يعني:الحسن- :إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا:لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثم تلا يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ ص:26 ] وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [ المائدة:44 ] ، وقال وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا [ المائدة:44 ] .

قلت:أما الأنبياء، عليهم السلام، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه « إياس » من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم.

وفي السنن: « القضاة ثلاثة:قاض في الجنة، وقاضيان في النار:رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار » .

وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال:حدثنا علي بن حَفْص، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال:هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى:يرحمك الله هو ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى » .

وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء: ( باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق ) .

وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة « سليمان عليه السلام » من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشر، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة ملخصها- :أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود، عليه السلام، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم، جلس سليمان، واجتمع معه وِلْدانٌ، مثله، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك، وآخر بزيّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان:فرقوا بينهم. فقال لأولهم:ما كان لون الكلب؟ فقال:أسود. فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال:أحمر. وقال الآخر:أغبش. وقال الآخر:أبيض. فأمر بقتلهم، فحكي ذلك لداود، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم .

وقوله: ( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ) :وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء، فتجاوبه، وتَرد عليه الجبال تأويبًا؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري، وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب [ جدًا ] . فوقف واستمع لقراءته، وقال: « لقد أوتي هذا مزامير آل داود » . قال يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا .

وقال أبو عثمان النهدي:ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه، ومع هذا قال:لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.

وقوله: ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) يعني صنعة الدروع.

قال قتادة:إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال تعالى:وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [ سبأ:10، 11 ] أي:لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ الحَلْقة؛ ولهذا قال: ( لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) يعني:في القتال، ( فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) أي:نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.

وقوله: ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ) أي:وسخرنا لسليمان الريح العاصفة، ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يعني أرض الشام، ( وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) وذلك أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة، والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته، ثم تحمله فترفعه وتسير به، وتظله الطير من الحر، إلى حيث يشاء من الأرض، فينـزل وتوضع آلاته وخشبه ، قال الله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ ص:36 ] ، وقال غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [ سبأ:12 ] .

قال ابن أبي حاتم:ذكر عن سفيان بن عيينة، عن أبي سِنَان، عن سعيد بن جبير قال:كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم .

وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير:كان سليمان يأمر الريح، فتجتَمع كالطَّود العظيم، كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفَرَس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتى تصعد على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله تعالى حتى تضعه . الريح حيث شاء أن تضعه

 

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ( 73 ) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ( 74 ) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 75 ) .

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) أي:يقتدي بهم، ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) أي:يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ) من باب عطف الخاص على العام، ( وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) أي:فاعلين لما يأمرون الناس به.

ثم عطف بذكر لوط - وهو لوط بن هاران بن آزر- كان قد آمن بإبراهيم، واتبعه، وهاجر معه، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [ العنكبوت:26 ] ، فآتاه الله حكمًا وعلمًا، وأوحى إليه، وجعله نبيًا، وبعثه إلى سَدُومَ وأعمالها، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله ودَمَّر عليهم، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز؛ ولهذا قال: ( وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( 76 ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( 77 ) .

يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح، عليه السلام، حين دعا على قومه لما كذبوه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ القمر:10 ] ، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نوح:26، 27 ] ، ولهذا قال هاهنا: ( إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ) أي:الذين آمنوا به كما قال: وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ [ هود:40 ] .

وقوله: ( مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) أي:من الشدة والتكذيب والأذى، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يقصدون لأذاه ويتواصون قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل على خلافه.

وقوله: ( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ) أي:ونجيناه وخلصناه منتصرًا من القوم ( الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) أي:أهلكهم الله بعامة، ولم يُبْقِ على وجه الأرض منهم أحدًا؛ إذ دعا عليهم نبيهم.

وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( 78 ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ( 79 ) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ( 80 ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ( 81 )

قال ابن إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود:كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ عناقيده. وكذا قال شُرَيْح.

قال ابن عباس:النَّفْشُ:الرعي.

وقال شُرَيح، والزهري، وقتادة:النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة:والهَمْلُ بالنهار.

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي، عن أشعت، عن أبي إسحاق، عن مُرّة، عن ابن مسعود في قوله: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ) قال:كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال:فقضى داود بالغَنَم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان:غيرُ هذا يا نبي الله! قال:وما ذاك؟ قال:تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) .

وهكذا روى العَوْفي، عن ابن عباس.

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، حدثنا خليفة، عن ابن عباس قال:فحكم داود بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان:كيف قضى بينكم؟

فأخبروه، فقال:لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال:كيف تقضي بينهم؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا خُدَيْج، عن أبي إسحاق، عن مُرَّة، عن مسروق قال:الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته، فأتوا داود، فأعطاهم رقابها، فقال سليمان:لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهلُ الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم.

وهكذا قال شُرَيح، ومُرَّة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد وغير واحد.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن أبي زياد، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا إسماعيل، عن عامر، قال:جاء رجلان إلى شُرَيح، فقال أحدهما:إن شاة هذا قطعت غزلا لي، فقال شريح:نهارًا أم ليلا؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلا ضَمِن، ثم قرأ: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ ) الآية.

وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد، عن الزهري، عن حَرام بن مُحَيْصة ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها . وقد عُلِّل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب « الأحكام » وبالله التوفيق.

وقوله: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن حميد؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى، قال ما يبكيك؟ قال يا أبا سعيد، بلغني أن القضاة:رجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري:إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان، عليهما السلام، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود. ثم قال - يعني:الحسن- :إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا:لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى، ولا يخشون فيه أحدًا، ثم تلا يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ ص:26 ] وقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [ المائدة:44 ] ، وقال وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا [ المائدة:44 ] .

قلت:أما الأنبياء، عليهم السلام، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري، عن عمرو بن العاص أنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه « إياس » من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم.

وفي السنن: « القضاة ثلاثة:قاض في الجنة، وقاضيان في النار:رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار » .

وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حيث قال:حدثنا علي بن حَفْص، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينما امرأتان معهما ابنان لهما، جاء الذئب فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال:هاتوا السكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى:يرحمك الله هو ابنها، لا تَشُقه، فقضى به للصغرى » .

وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء: ( باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق ) .

وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة « سليمان عليه السلام » من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشر، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة ملخصها- :أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود، عليه السلام، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم، جلس سليمان، واجتمع معه وِلْدانٌ، مثله، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك، وآخر بزيّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا، فقال سليمان:فرقوا بينهم. فقال لأولهم:ما كان لون الكلب؟ فقال:أسود. فعزله، واستدعى الآخر فسأله عن لونه، فقال:أحمر. وقال الآخر:أغبش. وقال الآخر:أبيض. فأمر بقتلهم، فحكي ذلك لداود، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب، فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم .

وقوله: ( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ) :وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء، فتجاوبه، وتَرد عليه الجبال تأويبًا؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري، وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب [ جدًا ] . فوقف واستمع لقراءته، وقال: « لقد أوتي هذا مزامير آل داود » . قال يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا .

وقال أبو عثمان النهدي:ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه، ومع هذا قال:لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.

وقوله: ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) يعني صنعة الدروع.

قال قتادة:إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال تعالى:وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [ سبأ:10، 11 ] أي:لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ الحَلْقة؛ ولهذا قال: ( لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) يعني:في القتال، ( فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) أي:نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم.

وقوله: ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ) أي:وسخرنا لسليمان الريح العاصفة، ( تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) يعني أرض الشام، ( وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) وذلك أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة، والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته، ثم تحمله فترفعه وتسير به، وتظله الطير من الحر، إلى حيث يشاء من الأرض، فينـزل وتوضع آلاته وخشبه ، قال الله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ ص:36 ] ، وقال غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [ سبأ:12 ] .

قال ابن أبي حاتم:ذكر عن سفيان بن عيينة، عن أبي سِنَان، عن سعيد بن جبير قال:كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم .

وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير:كان سليمان يأمر الريح، فتجتَمع كالطَّود العظيم، كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفَرَس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتى تصعد على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله تعالى حتى تضعه . الريح حيث شاء أن تضعه

 

وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ( 82 ) .

وقوله: ( وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ) أي:في الماء يستخرجون اللآلئ [ وغير ذلك. ( وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ ) أي:غير ذلك، كما قال تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ . [ ص:37، 38 ] .

وقوله: ( وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) أي:يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو مُحَكَّم فيهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء؛ ولهذا قال: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 83 ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ( 84 ) .

يذكر تعالى عن أيوب، عليه السلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده - يقال:بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفردَ في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره ، ويقال:إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل » وفي الحديث الآخر: « يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه » .

وقد كان نبي الله أيوب، عليه السلام، غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك.

وقال يزيد بن ميسرة:لما ابتلى الله أيوب، عليه السلام، بذهاب الأهل والمال والولد، ولم له يبق شيء، أحسن الذكر، ثم قال:أحمدك رب الأرباب، الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة، إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، ليس يحول بيني وبينك شيء، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت، حسدني. قال:فلقي إبليس من ذلك منكرًا.

قال:وقال أيوب، عليه السلام:يا رب، إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس، إنك لم تخلقي لوطء الفرش ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.

وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول .

وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء، فقال الحسن وقتادة، ابتلي أيوب، عليه السلام، سبع سنين وأشهرًا، ملقى على كُنَاسَة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه، وعَظَمَّ له الأجر، وأحسن عليه الثناء.

وقال وهب بن منبه:مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.

وقال السدي:تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالزاد يكون فيه، فقالت له امرأته لما طال وجعه:يا أيوب، لو دعوت ربك يفرج عنك؟ فقال:قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟ فجَزَعت من ذلك فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال:أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن شرب منه بَرَأ. فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال:من أنتما؟ فقالا :نحن فلان وفلان! فرحَّب بهما وقال:مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء، فقالا يا أيوب، لعلك كنت تُسر شيئًا وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال:هو يعلم، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له:يا أيوب، اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه بَرَأت. قال:فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام. فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصًا ، وكان ابنهم نائمًا، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها.

فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال:ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر. قال:فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله. [ فانطلقي به إليه. فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت:تعس أيوب الخطاء! فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله ] ، لا يقبل منهم شيئًا غيره، فقالت:رحم الله أيوب فدفعت القرص إليه ورجعت. ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب، فقال لها:إن زوجك قد طال سُقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك لأيوب، فقال:قد أتاك الخبيث. لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة. فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرزق، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرنًا فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال:من أين لك هذا؟ قالت:عملت لأناس فأطعموني. فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال:والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا شديدًا، فعند ذلك دعا ربه عز وجل: ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن نَوْف البِكَالي؛ أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له: « سوط » ، قال:وكانت امرأة أيوب تقول: « ادع الله فيشفيك » ، فجعل لا يدعو، حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض:ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: « رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » .

وحدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:كان لأيوب، عليه السلام، أخوان فجاءا يومًا، فلم يستطيعا أن يدنوا منه، من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما للآخر:لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا؟ فجزع أيوب من قولهما جَزعا لم يجزع من شيء قط، فقال:اللهم، إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع، فصدقني. فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال:اللهم، إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عار، فَصَدقني فصدق من السماء وهما يسمعان. اللهم بعزتك ثم خر ساجدًا، ثم قال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني. فما رفع رأسه حتى كشف عنه.

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد، عن عُقَيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه:تَعَلَّم - والله- لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه:وما ذاك؟ قال:منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب، عليه السلام:ما أدري ما تقول، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهة أن يذكرا الله إلا في حق. قال:وكان يخرج في حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى إلى أيوب في مكانه:أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ . »

رفع هذا الحديث غريب جدًا.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، قال:وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى أيوب فجلس في ناحية، وجاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت:يا عبد الله، أين ذهب المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، فجعلت تكلمه ساعة، فقال:ويحك! أنا أيوب! قالت:أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال:ويحك! أنا أيوب، قد رد الله علي جسدي.

وبه قال ابن عباس:ورد عليه ماله وولده عيانا، ومثلهم معهم.

وقال وهب بن منبه:أوحى الله إلى أيوب:قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صاحبتك قربانًا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.

[ وقال ] أيضًا:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بَشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما عافى الله أيوب، أمطر عليه جرادًا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعله في ثوبه » . قال: « فقيل له:يا أيوب، أما تشبع؟ قال:يا رب، ومن يشبع من رحمتك » .

أصله في الصحيحين ، وسيأتي في موضع آخر.

وقوله: ( وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) قد تقدم عن ابن عباس أنه قال:ردوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس أيضًا. وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد، وبه قال الحسن وقتادة.

وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النَّجْعَة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب، وصح ذلك عنهم، فهو مما لا يصدق ولا يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه - رحمه الله تعالى- قال:ويقال:اسمها ليا ابنة مِنَشَّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال:ويقال:ليا بنت يعقوب، عليه السلام، زوجة أيوب كانت معه بأرض البَثَنيَّة.

وقال مجاهد:قيل له:يا أيوب، إن أهلك لك في الجنة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة، وعوضناك مثلهم. قال:لا بل اتركهم لي في الجنة. فتُركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.

وقال حماد بن زيد، عن أبي عمران الجَوْني، عن نَوف البِكَالي قال:أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي مثلهم في الدنيا. قال:فحدثت به مُطَرَّفا، فقال:ما عرفت وجهها قبل اليوم.

وهكذا روي عن قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف، والله أعلم.

وقوله: ( رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ) أي:فعلنا به ذلك رحمة من الله به، ( وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) أي:وجعلناه في ذلك قدوة، لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ( 85 ) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 86 ) .

أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، وقد تقدم ذكره في سورة مريم، وكذلك إدريس، عليه السلام وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون:إنما كان رجلا صالحًا، وكان ملكًا عادلا وحكمًا مقسطًا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.

وقال ابن جُرَيج، عن مجاهد في قوله: ( وَذَا الْكِفْلِ ) قال:رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فَسُمي:ذا الكفل. وكذا روَى ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أيضًا.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عفان، حدثنا وُهَيب، حدثنا داود، عن مجاهد قال:لما كبر اليسع قال:لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس، فقال:من يتقبل مني بثلاث:أستخلفه يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب. قال:فقام رجل تزدريه العين، فقال:أنا. فقال:أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال:نعم، قال:فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل وقال أنا. فاستخلفه، قال:وجعل إبليس يقول للشياطين:عليكم بفلان. فأعياهم ذلك ، قال:دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة - وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة- فدق الباب، فقال:من هذا؟ قال:شيخ كبير مظلوم. قال:فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال:إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، فقال :إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق، وراح. فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ؟ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس، وينتظره ولا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال:من هذا؟ قال الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال:ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ قال:إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا:نحن نعطيك حقك. وإذا قمت جحدوني. قال:فانطلق، فإذا رحت فأتني. قال:ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره ولا يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله:لا تدعن أحدًا يَقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه فقال له الرجل:وراءك وراءك؟ فقال:إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال:لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال:فاستيقظ الرجل فقال:يا فلان، ألم آمرك؟ فقال أما من قبلي والله فلم تؤتَ، فانظر من أين أتيت؟ قال:فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال:أعدو الله؟ قال:نعم، أعييتني في كل شيء، ففعلت ما تَرَى لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به .

وهكذا رواه بن أبي حاتم، من حديث زهير بن إسحاق، عن داود، عن مجاهد، بمثله.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن مسلم، قال:قال ابن عباس:كان قاض في بني إسرائيل، فحضره الموت، فقال:من يقوم مقامي على ألا يغضب؟ قال:فقال رجل:أنا. فسمي ذا الكفل. قال:فكان ليله جميعًا يصلي، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس - قال:وله ساعة يقيلها- قال:فكان كذلك، فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه:ما لك؟ قال:إنسان مسكين، له على رجل حق، وقد غلبني عليه. قالوا:كما أنت حتى يستيقظ - قال:وهو فوق نائم- قال:فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه ، قال:فسمع، فقال:ما لك؟ قال:إنسان مسكين، له على رجل حق. قال:اذهب فقل له يعطيك. قال:قد أبى. قال:اذهب أنت إليه. قال:فذهب، ثم جاء من الغد، فقال:ما لك؟ قال:ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا. قال:اذهب إليه فقل له يعطيك حقك، قال:فذهب، ثم جاء من الغد حين قال، قال:فقال له أصحابه:اخرج، فعل الله بك، تجيء كل يوم حين ينام، لا تدعه ينام؟. فجعل يصيح:من أجل أني إنسان مسكين، لو كنت غنيا؟ قال:فسمع أيضًا، فقال:ما لك؟ قال:ذهبت إليه فضربني. قال:امش حتى أجيء معك. قال:فهو ممسك بيده، فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه فَفَر.

وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حُجَيرة الأكبر، وغيرهم من السلف، نحو من هذه القصة، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر ، أخبرنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن أبي كنانة بن الأخنس قال:سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر:ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان - يعني:في بني إسرائيل- رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل.

وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة قال: « قال أبو موسى الأشعري... » فذكره منقطعا ، والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال:

حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال:سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عدّ سبع مرات- ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: « كان الكفل من بني إسرائيل، لا يتورّع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا، على أن يَطَأها، فلما قعد منها مَقعدَ الرجل من امرأته، أرعِدَت وبكت، فقال:ما يبكيك؟ أكْرَهْتُك؟ قالت:لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حَمَلني عليه الحاجة. قال:فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ فَنـزل فقال:اذهبي فالدنانير لك » . ثم قال: « والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه:قد غفر الله للكفل » .

هكذا وقع في هذه الرواية « الكفل » ، من غير إضافة، فالله أعلم. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وإسناده غريب، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان « الكفل » ، ولم يقل: « ذو الكفل » ، فلعله رجل آخر، والله أعلم.

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( 87 ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ( 88 ) .

هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة « الصافات » وفي سورة « ن » وذلك أن يونس بن مَتَّى، عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية « نينوى » ، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفُضْلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحُمْلانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ يونس:98 ] .

وأما يونس، عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم، وخافوا أن يغرقوا . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [ الصافات:141 ] ، أي:وقعت عليه القرعة ، فقام يونس، عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله، سبحانه وتعالى، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود- حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظما؛ فإن يونس ليس لك رزقا، وإنما بطنك له يكون سجنًا.

وقوله: ( وَذَا النُّونِ ) يعني:الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.

وقوله: ( إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) :قال الضحاك:لقومه، ( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) [ أي:نضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم، واختاره ابن جرير، واستشهد عليه بقوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [ الطلاق:7 ] .

وقال عطية العَوفي: ( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) ، أي:نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول:قدَر وقَدّر بمعنى واحد، وقال الشاعر:

فَـلا عَـائد ذَاكَ الزّمَـانُ الذي مَضَى تبـاركت مـا تَقْـدرْ يَكُـنْ, فَلَكَ الأمْرُ

ومنه قوله تعالى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [ القمر:12 ] ، أي:قدر.

وقوله: ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) قال ابن مسعود:ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. وكذا روي عن ابن عباس ، وعمرو بن ميمون، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن كعب، والضحاك، والحسن، وقتادة.

وقال سالم بن أبي الجعد:ظلمةُ حُوت في بطن حوت ، في ظلمة البحر.

قال ابن مسعود، وابنُ عباس وغيرهما:وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها، حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال: ( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ )

وقال عوف:لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى:يا رب ، اتخذت لك مسجدًا في موضع ما اتخذه أحد.

وقال سعيد بن أبي الحسن البصري:مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما ابن جبير.

وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار، عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة- سمعتُ أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسًا، فقال في نفسه:ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن الحوت:إن هذا تسبيح دواب البحر. قال:فَسَبَّح وهو في بطن الحوت، فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا:يا ربنا، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [ بأرض غريبة ] قال:ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا:العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح؟. قال:نعم » . قال: « فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال الله عز وجل: وَهُوَ سَقِيمٌ [ الصافات:145 ] . »

ورواه ابن جرير ، ورواه البزار في مسنده، من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، فذكره بنحوه، ثم قال:لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلمَة ، عن علي مرفوعًا:لا ينبغي لعبد أن يقول: « أنا خير من يونس بن متى » ؛ سبح لله في الظلمات .

وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة، من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وعبد الله بن جعفر، وسيأتي أسانيدها في سورة « ن » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب، حدثنا عمي:حدثني أبو صخر:أن يزيد الرقاشي حدثه قال:سمعت أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يونس النبي، عليه السلام، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: « اللهم، لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين » . فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش ، فقالت الملائكة:يا رب، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة؟ فقال:أما تعرفون ذاك ؟ قالوا:لا يا رب ، ومن هو؟ قال:عبدي يونس. قالوا:عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل ، ودعوة مجابة؟. [ قال:نعم ] . قالوا:يا رب، أَوَلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال:بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء .

وقوله: ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ) أي:أخرجناه من بطن الحوت، وتلك الظلمات، ( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) أي:إذا كانوا في الشدائد ودَعَونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء، قال الإمام أحمد:

حدثنا إسماعيل بن عُمَر، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد ابن سعد، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد، - وهو ابن أبي وقاص - قال:مررت بعثمان بن عفان، رضي الله عنه، في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يَردُدْ عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت:يا أمير المؤمنين، هل حدث في الإسلام شيء؟ مرتين، قال:لا وما ذاك؟ قلت:لا إلا أني مررتُ بعثمان آنفا في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني، ثم لم يَرْدُد علي السلام. قال:فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه، فقال:ما منعك ألا تكون رَدَدت على أخيك السلام؟ قال:ما فعلتُ. قال سعد:قلتُ:بلى حتى حلفَ وحلفت، قال:ثم إن عثمان ذكرَ فقال:بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدّث نفسي بكلمة سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تَغْشَى بصري وقلبي غشَاوة. قال سعد:فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا [ أول دعوة ] ثم جاء أعرابي فشغله، حتى قَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منـزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: « من هذا ؟ أبو إسحاق؟ » قال:قلت:نعم، يا رسول الله. قال: « فمه ؟ » قلت:لا والله، إلا أنك ذكرتَ لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: « نعم، دعوةُ ذي النون، إذ هو في بطن الحوت: ( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له » .

ورواه الترمذي، والنسائي في « اليوم والليلة » ، من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، عن سعد ، به .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن كَثِير بن زيد، عن المطلب بن حنطب - قال أبو خالد:أحسبه عن مصعب، يعني:ابن سعد - عن سعد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من دعا بدعاء يونس، استُجِيب له » . قال أبو سعيد:يريد به ( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .

وقال ابن جرير:حدثني عمران بن بَكَّار الكَلاعي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بِشْر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال:سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص- يقول:سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى، دعوةُ يونس بن متى » . قال:قلت :يا رسول الله، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال:هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل: ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) . فهو شرط من الله لمن دعاه به « . »

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا داود بن المُحَبَّر بن قَحْذَم المقدسي، عن كثير بن معبد قال:سألت الحسن، قلت:يا أبا سعيد، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى؟ قال:ابنَ أخي، أما تقرأ القرآن؟ قول الله: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ) إلى قوله: ( الْمُؤْمِنِينَ ) ، ابن أخي، هذا اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ( 89 ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ( 90 ) .

يخبر تعالى عن عبده زكريا، حين طلب أن يَهبَه الله ولدا، يكون من بعده نبيًا. وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة « مريم » وفي سورة « آل عمران » أيضا، وهاهنا أخصر منهما؛ ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ ) أي:خفية عن قومه: ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ) أي:لا ولدَ لي ولا وارثَ يقوم بعدي في الناس، ( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) دعاء وثناء مناسب للمسألة.

قال الله تعالى: ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ) أي:امرأته.

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير:كانت عاقرا لا تلد، فولدت.

وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء:كان في لسانها طول فأصلحها الله. وفي رواية:كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله. وهكذا قال محمد بن كعب، والسدّي. والأظهر من السياق الأول.

وقوله: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) أي:في عمل القُرُبات وفعل الطاعات، ( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) قال الثوري: ( رَغَبًا ) فيما عندنا، ( وَرَهَبًا ) مما عندنا، ( وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أي مصدقين بما أنـزل الله. وقال مجاهد:مؤمنين حقا. وقال أبو العالية:خائفين. وقال أبو سِنَان:الخشوع هو الخوف اللازم للقلب، لا يفارقه أبدًا. وعن مجاهد أيضًا ( خَاشِعِينَ ) أي:متواضعين. وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: ( خَاشِعِينَ ) أي:متذللين لله عز وجل. وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله القرشي، عن عبد الله بن حكيم قال:خطبنا أبو بكر، رضي الله عنه، ثم قال:أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وتُثنُوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) .

 

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( 91 ) .

هكذا قَرَن تعالى قصة مريم وابنها عيسى، عليه السلام، بقصة زكريا وابنه يحيى، عليهما السلام، فيذكر أولا قصة زكريا، ثم يتبعها بقصة مريم؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر. هكذا وقع في سورة « آل عمران » ، وفي سورة « مريم » ، وهاهنا ذكر قصة زكريا، ثم أتبعها بقصة مريم، فقوله: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) يعني:مريم، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [ التحريم:12 ] .

وقوله: ( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ) أي:دلالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، و إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:82 ] . وهذا كقوله: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [ مريم:21 ] .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عَمْرو بن علي، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد عن شَبِيب - يعني ابن بشر - عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: ( لِلْعَالَمِينَ ) قال:العالمين:الجن والإنس .

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( 92 ) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ( 93 ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ( 94 ) .

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) يقول:دينكم دين واحد.

وقال الحسن البصري؛ في هذه الآية:بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) أي:سنتكم سنة واحدة. فقوله: ( إِنَّ هَذِهِ ) إنّ واسمها، و ( أُمَّتُكُمْ ) خبر إن، أي:هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم، وقوله: ( أُمَّةً وَاحِدَةً ) نصب على الحال؛ ولهذا قال: ( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ، كَمَا قَالَ:يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [ المؤمنون:51، 52 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نحن معشر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد » ، يعني:أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ المائدة:48 ]

.

وقوله: ( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) أي:اختلفت الأمم على رسلها، فمن بين مُصَدق لهم ومكذب؛ ولهذا قال: ( كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) أي:يوم القيامة، فيجازَى كل بحسب عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؛ ولهذا قال: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) أي:قلبه مصدق، وعمل عملا صالحا، ( فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ) ، كقوله: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا [ الكهف:30 ] أي:لا يُكْفَر سعيُه، وهو عمله، بل يُشْكَر، فلا يظلم مثقال ذرة؛ ولهذا قال: ( وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ) أي:يُكتب جميعُ عمله، فلا يَضيع عليه منه شيء.

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ( 95 ) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ( 96 ) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ( 97 ) .

يقول تعالى: ( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ ) قال ابن عباس:وجب، يعني:قدرًا مُقَدرًا أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة. هكذا صرح به ابن عباس، وأبو جعفر الباقر، وقتادة، وغير واحد.

وفي رواية عن ابن عباس: ( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) أي:لا يتوبون.

والقول الأول أظهر، والله أعلم.

وقوله: ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ) :قد قدمنا أنهم من سلالة آدم، عليه السلام، بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث أبي الترك، والترك شرذمة منهم، تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين.

وقال:هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [ الكهف:98، 99 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة: ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) أي:يسرعون في المشي إلى الفساد.

والحَدَب:هو المرتفع من الأرض، قاله ابن عباس، وعكرمة، وأبو صالح، والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم، كأن السامع مشاهد لذلك، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [ فاطر:14 ] :هذا إخبار عالم ما كان وما يكون، الذي يعلم غيب السموات والأرض، لا إله إلا هو.

وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد قال:رأى ابُن عباس صبيانا ينـزو بعضهم على بعض، يلعبون، فقال ابن عباس:هكذا يخرج يأجوج ومأجوج .

وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية:

فالحديث الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة، عن محمود بن لَبيد، عن أبي سعيد الخدري قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يُفتَح يأجوجُ ومأجوجُ، فيخرجون كما قال الله عز وجل » : ( [ وَهُمْ ] مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) ، فيغشونَ الناس، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ، ويضمون إليهم مواشيَهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضَهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يَبَسا، حتى إن مَنْ بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول :قد كان هاهنا ماء مرةً حتى إذا لم يبقَ من الناس أحد إلا أحدٌ في حصن أو مدينة قال قائلهم:هؤلاء أهلُ الأرض، قد فرغنا منهم، بقي أهلُ السماء. قال: « ثم يهزّ أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع إليه مُخْتَضبَةً دما؛ للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دودا في أعناقهم كنَغَف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يُسمَع لهم حس، فيقول المسلمون:ألا رجل يَشْري لنا نفسه، فينظر ما فعل هذا العدو؟ » قال: « فيتجرّد رجل منهم محتسبا نفسه، قد أوطنها على أنه مقتول، فينـزل فيجدهم موتى، بعضهم على بعض، فينادي:يا معشر المسلمين، ألا أبشروا، إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويُسَرِّحون مواشيهم، فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فَتَشْكر عنه كأحسن ما شَكرَت عن شيء من النبات أصابته قط » .

ورواه ابن ماجه، من حديث يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق، به .

الحديث الثاني:قال [ الإمام ] أحمد أيضا:حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني يحيى بن جابر الطائي - قاضي حمص- حدثني عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير الحضرمي، عن أبيه، أنه سمع النَّوّاس بن سمْعانَ الكلابي قال:ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غَداة، فخَفَض فيه ورَفَع، حتى ظنناه في طائفة النخل، [ فلما رُحْنَا إليه عرف ذلك في وجوهنا، فسألناه فقلنا:يا رسول الله، ذكرت الدجال الغداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل ] . فقال: « غير الدجال أخْوَفُني عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم:إنه شاب جَعْدُ قَطَط عينه طافية، وإنه يخرج خَلَةَ بين الشام والعراق، فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا » .

قلنا:يا رسول الله، ما لبثه في الأرض؟ قال: « أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم » .

قلنا:يا رسول الله، فذاك اليوم الذي هو كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: « لا اقدروا له قدره » .

قلنا:يا رسول الله، فما إسراعه في الأرض؟ قال: « كالغيث استدبرته الريح » . قال: « فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذُرَى، وأمده خواصر، وأسبغه ضروعا. ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قولَه، فتتبعه أموالهم، فيصبحون مُمْحلين، ليس لهم من أموالهم. ويمر بالخَربة فيقول لها:أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل » . قال: « ويأمر برجل فيُقتَل، فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلتين رَمْيَةَ الغَرَض، ثم يدعوه فيقبل إليه [ يتهلل وجهه ] .»

فبينما هم على ذلك، إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم، فينـزل عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، بين مَهْرُودَتَين واضعا يَدَه على أجنحة مَلَكين، فيتبعه فيدركه، فيقتله عند باب لُدّ الشرقي « .»

قال: « فبينما هم كذلك، إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم:أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يَدَانِ لك بقتالهم، فَحَوّز عبادي إلى الطور، فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج، وهم كما قال الله: ( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله عليهم نَغَفًا في رقابهم، فيصبحون فَرْسى، كموت نفس واحدة.»

فيهبط عيسى وأصحابه، فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زَهَمُهم ونَتْنهُم، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم طيرًا كأعناق البُخْت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله « .»

قال ابن جابر فحدثني عطاء بن يزيد السَّكْسَكيّ ، عن كعب - أو غيره- قال:فتطرحهم بالمَهْبِل. [ قال ابن جابر:فقلت:يا أبا يزيد، وأين المَهْبِل؟ ] ، قال:مطلع الشمس.

قال: « ويرسل الله مطرًا لا يَكُنَّ منه بيت مَدَر ولا وَبَر أربعين يوما، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزّلَقَةِ، ويقال للأرض:أنبتي ثمرتك ، ورُدي بركتك » . قال: « فيومئذ يأكل النفر من الرمانة ويستظلون بقحْفها، ويُبَارك في الرَسْل، حتى إن اللَّقْحَةَ من الإبل لتكفي الفِئَامَ من الناس، واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت » .

قال: « فبينما هم على ذلك ، إذ بعث الله عز وجل ريحا طيبة تحت آباطهم، فتقبض روح كل مسلم - أو قال:كل مؤمن- ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمير، وعليهم تقوم الساعة » .

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، فرواه مع بقية أهل السنن من طرق، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به وقال الترمذي:حسن صحيح.

الحديث الثالث:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، عن ابن حَرْمَلَة، عن خالته قالت:خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعُه من لدغة عَقْرب، فقال: « إنكم تقولون:لا عدو ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا، حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه، صغار العيون، صُهْبَ الشّعاف، من كل حَدَب ينسلون، كأن وجوههم المَجَانّ المُطرَقة » .

وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو، عن خالد بن عبد الله بن حَرْمَلة المدلجي، عن خالة له، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله .

الحديث الرابع:قد تقدم في تفسير آخر سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد، عن هُشَيْم، عن العَوَّام، عن جَبَلَة بن سُحَيْم، عن مُؤثر بن عَفَازَةَ، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، عليهم السلام، قال:فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال:لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى، فقال:لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال:أما وَجْبَتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيها عهد إلي ربي أن الدجال خارج.

قال: « ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص » قال: « فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر يقول:يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله » . قال: « فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم » . قال: « فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنسلون، فيطؤون بلادهم، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه » . قال: « ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم، فأدعو الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم، حتى تَجوى الأرض من نَتْن ريحهم، وينـزل الله المطر فيجترف أجسادهم، حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إليّ ربي أن ذلك إذا كان كذلك، أن الساعة كالحامل المُتِمّ، لا يدري أهلها متى تَفْجُؤهم بولادها ليلا أو نهارا » .

ورواه ابن ماجه، عن محمد بن بشار، عن يزيد بن هارون، عن العَوَّام بن حَوْشَب، به ، نحوه وزاد:قال العَوَّام، ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) .

ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة، به .

والأحاديث في هذا كثيرة جدا، والآثار عن السلف كذلك.

وقد روى ابُن جرير وابن أبي حاتم، من حديث مَعْمَر، عن غير واحد، عن حميد بن هلال، عن أبي الصَّيف قال:قال كعب:إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم، فإذا كان الليل قالوا:نجيء غدا فنخرج، فيعيده الله كما كان. فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول:نجيء غدا فنخرج إن شاء الله. فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون حتى يخرجوا. فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة، فيشربون ماءها، ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون :قد كان هاهنا مرة ماء، ويفر الناس منهم، فلا يقوم لهم شيء. ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مُخَضَّبة بالدماء فيقولون:غلبنا أهل الأرض وأهل السماء. فيدعو عليهم عيسى ابن مريم، عليه السلام، فيقول: « اللهم، لا طاقة ولا يَدَين لنا بهم، فاكفناهم بما شئت » ، فيسلط الله عليهم دودا يقال له:النغف، فيفرس رقابهم، ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عينا يقال لها: « الحياة » يطهر الله الأرض وينبتها، حتى أن الرمانة ليشبع منها السَّكْن. قيل:وما السَّكن يا كعب؟ قال:أهل البيت - قال: « فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصَّريخ أن ذا السُّويقَتَين يريده. قال:فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة، أو بين السبعمائة والثمانمائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة، فيقبض فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عَجَاج الناس، فيتسافدون كما تَسَافَدُ البهائم، فَمَثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع؟ قال كعب:فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا - أو بعد علمي هذا شيئا- فهو المتكلف » .

هذا من أحسن سياقات كعب الأحبار، لما شهد له من صحيح الأخبار.

وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق، وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عُتبَةَ، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليُحَجَّنَّ هذا البيت، وليُعْتَمَرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج » . انفرد بإخراجه البخاري .

وقوله: ( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) يعني:يوم القيامة، إذا وُجدت هذه الأهوال والزلازل والبلابل، أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [ القمر:8 ] . ولهذا قال تعالى: ( فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام: ( يَا وَيْلَنَا ) أي:يقولون: ( يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) أي:في الدنيا، ( بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) ، يعترفون بظلمهم لأنفسهم، حيث لا ينفعهم ذلك.

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( 98 ) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ( 99 ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ( 100 ) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( 101 ) .

يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش، ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) ، قال ابن عباس:أي وقودها، يعني كقوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [ التحريم:6 ] .

وقال ابن عباس أيضا: ( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) بمعنى:شجر جهنم. وفي رواية قال: ( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) يعني:حطب جهنم، بالزنجية.

وقال مجاهد، وعكرمة، وقتادة:حطبها. وهي كذلك في قراءة علي وعائشة - رضي الله عنهما.

وقال الضحاك: ( حَصَبُ جَهَنَّمَ ) أي:ما يرمى به فيها.

وكذا قال غيره. والجميع قريب.

وقوله: ( أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) أي:داخلون.

( لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ) يعني:لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار، ولما دخلوها، ( وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي:العابدون ومعبوداتهم، كلهم فيها خالدون، ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ) ، كَمَا قَالَ: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [ هود:106 ] ، والزفير:خروج أنفاسهم، والشهيق:ولوج أنفاسهم، ( وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ، حدثنا ابن فُضَيْل، حدثنا عبد الرحمن - يعني:المسعودي- عن أبيه قال:قال ابن مسعود:إذا بقي من يخلد في النار، جُعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، فلا يَرَى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا عبد الله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) .

ورواه ابن جرير، من حديث حجاج بن محمد، عن المسعودي، عن يونس بن خَبّاب ، عن ابن مسعود فذكره .

وقوله: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ) :قال عكرمة:الرحمة. وقال غيره:السعادة، ( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسُله ، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ يونس:26 ] :وقال هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ [ الرحمن:60 ] ، فكما أحسنوا العمل في الدنيا، أحسن الله مآلهم وثوابهم، فنجاهم من العذاب، وحَصَل لهم جزيل الثواب، فقال: ( أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) .

 

لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ( 102 ) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( 103 ) .

( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) أي:حريقها في الأجساد.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبيه، عن الجريري ، عن أبي عثمان: ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) ، قال:حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال:حَسَ حَسَ.

وقوله: ( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن ليث بن أبي سليم، عن ابن عم النعمان بن بشير، عن النعمان بن بشير قال - وسَمَرَ مع علي ذات ليلة، فقرأ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ قال:أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم - أو قال:سعد منهم- قال:وأقيمت الصلاة فقام، وأظنه يجر ثوبه، وهو يقول: ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) .

وقال شعبة، عن أبي بشر، عن يوسف المكي، عن محمد بن حاطب قال:سمعت عليا يقول في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى قال:عثمان وأصحابه.

ورواه ابن أبي حاتم أيضا، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد - وليس بابن ماهك- عن محمد بن حاطب، عن علي، فذكره ولفظه:عثمان منهم.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ :فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرًّا هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جِثيًّا.

فهذا مطابق لما ذكرناه، وقال آخرون:بل نـزلت استثناء من المعبودين، وخرج منهم عزير والمسيح، كما قال حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ، ثم استثنى فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى فيقال :هم الملائكة، وعيسى، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل. وكذا قال عكرمة، والحسن، وابن جريج .

وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى قال:نـزلت في عيسى ابن مريم وعُزَير، عليهما السلام.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرَة، حدثنا أبو زُهَير، حدثنا سعد بن طَرِيف، عن الأصبغ، عن عَليّ في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى قال:كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى ابن مريم. إسناده ضعيف.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ، قال:عيسى، وعُزَيْر، والملائكة.

وقال الضحاك:عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر. وكذا روي عن سعيد بن جُبَيْر، وأبي صالح وغير واحد.

وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبًا جدا، فقال:حدثنا الفضل بن يعقوب الرُّخَّاني، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، حدثنا الليث بن أبي سليم، عن مُغيث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ قال:عيسى، وعُزَير، والملائكة .

وذكر بعضهم قصة ابن الزِّبَعْرَى ومناظرةَ المشركين، قال أبو بكر بن مَرْدُويه:

حدثنا محمد بن علي بن سهل، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَةَ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، حدثنا الحكم - يعني:ابن أبان- عن عكرمة، عن ابن عباس قال:جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:تزعم أن الله أنـزل عليك هذه الآية: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ، فقال ابن الزبعرى:قد عُبدت الشمس والقمر والملائكة، وعُزَير وعيسى ابن مريم، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنـزلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ، ثم نـزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه « الأحاديث المختارة » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا قَبِيصة بن عقبة، حدثنا سفيان - يعني:الثوري- عن الأعمش، عن أصحابه، عن ابن عباس قال:لما نـزلت: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ قال المشركون:فالملائكة ،عُزَير، وعيسى يُعْبَدون من دون الله؟ فنـزلت: لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ، الآلهة التي يعبدون، وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ .

وروي عن أبي كُدَيْنَة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس مثل ذلك، وقال فنـزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ .

وقال [ الإمام ] محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله، في كتاب « السيرة » :وجلس رسول الله - فيما بلغني- يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ إلى قوله: وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبَعْرَى السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى:والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى:أما والله لو وجدته لَخَصمته، فسلوا محمدًا:كل ما يُعْبَد من دون الله في جهنم مع من عَبَده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرًا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس، من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.

فَذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « كل مَنْ أحَبَّ أن يُعْبَدَ من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمَرَتْهُم بعبادته. وأنـزل الله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . ( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) أي:عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان، الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله. ونـزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ الأنبياء:29 ] ، ونـزل فيما ذُكر من أمر عيسى، وأنه يعبد من دون الله، وعَجَب الوليد ومن حَضَره من حُجَّته وخصومته: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [ الزخرف:57 - 61 ] أي:ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكَفى به دليلا على علم الساعة، يقول: فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [ الزخرف:61 ] . »

وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نـزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها؛ ولهذا قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما، ممن له عمل صالح، ولم يَرْضَ بعبادة من عبده. وعَوّل ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن « ما » لما لا يعقل عند العرب.

وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك، وكان من الشعراء المشهورين. وكان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرًا:

يـا رَسُــولَ المليـك, إنّ لـسـاني رَاتـقٌ مَـا فتَقْــتُ إذْ أنَـا بُــورُ

إذْ أجَـاري الشَّـيطَانَ فـي سَنَن الغَي وَمَــنْ مَــالَ مَـيْلَــه مَـثْبُـور

وقوله: ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ) قيل المراد بذلك الموت. رواه عبد الرزاق، عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.

وقيل:المراد بالفزع الأكبر:النفخة في الصور. قاله العَوْفي عن ابن عباس، وأبو سِنَان سعيد ابن سنان الشيباني، واختاره ابن جرير في تفسيره.

وقيل:حين يُؤْمَر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري.

وقيل:حين تُطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جُبَيْر، وابن جُرَيج.

وقيل:حين يُذبَح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي ، فيما رواه ابن أبي حاتم، عنه.

وقوله: ( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) ، يعني:تقول لهم الملائكة، تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: ( هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) أي:قابلوا ما يسركم.

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ( 104 ) .

يقول تعالى:هذا كائن يوم القيامة، ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ الزمر:67 ] وقد قال البخاري:

حدثنا مُقَدم بن محمد، حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عُبَيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « إن الله يقبض يوم القيامة الأرَضِين، وتكون السماوات بيمينه » .

انفرد به من هذا الوجه البخاري، رحمه الله.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي الواصل ، عن أبي المليح الأزدي ، عن أبي الجوزاء الأزدي، عن ابن عباس قال:يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه، يكون ذلك كله في يده بمنـزلة خردلة.

وقوله: ( كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ، قيل:المراد بالسجل [ الكتاب. وقيل:المراد بالسجل ] هاهنا:مَلَك من الملائكة.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي، عن أبيه، عن ابن عمر في قوله تعالى: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ، قال:السجل:مَلَك، فإذا صعد بالاستغفار قال:اكتبها نورًا.

وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن ابن يمان، به.

قال ابن أبي حاتم:وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.

وقال السدي في هذه الآية:السجل:مَلَك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع كتابُه إلى السجل فطواه، ورفعه إلى يوم القيامة.

وقيل:المراد به اسم رجل صحابي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ، حدثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: [ ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ] ، قال:السجل:هو الرجل.

قال نوح:وأخبرني يزيد بن كعب - هو العَوْذي- عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال:السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم.

وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد ، عن نوح بن قيس، عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال:السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم .

ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي، كما تقدم. ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال:كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل وهو قوله: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) ، قال:كما يطوى السجل الكتاب، كذلك نطوي السماء، ثم قال:وهو غير محفوظ .

وقال الخطيب البغدادي في تاريخه:أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي، أن حمدان بن سعيد حدثهم، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:السجلّ:كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم .

وهذا منكر جدًّا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه - وإن كان في سنن أبي داود- منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي، فَسَح الله في عمره، ونَسَأ في أجله، وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة ، ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث، ورده أتم رد، وقال:لا يُعَرف في الصحابة أحد اسمه السجِل، وكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصَدَق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث. وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا، فإنما اعتمد على هذا الحديث، لا على غيره، والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي، عنه. ونص على ذلك مجاهد، وقتادة، وغير واحد. واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) أي:على [ هذا ] الكتاب، بمعنى المكتوب، كقوله: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [ الصافات:103 ] ، أي:على الجبين، وله نظائر في اللغة، والله أعلم.

وقوله: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) يعني:هذا كائن لا محالة، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا جديدًا، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم ، وذلك واجب الوقوع، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال: ( إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .

وقال الإمام أحمد:حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى ، قالا :حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: « إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين ) » ؛ وذكر تمام الحديث، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ورواه البخاري عند هذه الآية في كتابه .

وقد روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك.

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) قال:نهلك كل شيء، كما كان أول مرة.

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( 105 ) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ( 106 ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ( 107 ) .

يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين، من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ الأعراف:128 ] . وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ غافر:51 ] . وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ] ،الآية [ النور:55 ] .وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) ، قال الأعمش:سألت سعيد بن جُبَير عن قوله تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ) فقال الزبور:التوراة، والإنجيل، والقرآن .

وقال مجاهد:الزبور:الكتاب.

وقال ابن عباس، والشعبي، والحسن، وقتادة، وغير واحد:الزبور:الذي أنـزل على داود، والذكر:التوراة، وعن ابن عباس:الزبور:القرآن.

وقال سعيد بن جُبَير:الذكر:الذي في السماء.

وقال مجاهد:الزبور:الكتبُ بعد الذكر، والذكر:أمّ الكتاب عند الله.

واختار ذلك ابن جرير رحمه الله ، وكذا قال زيد بن أسلم:هو الكتاب الأول. وقال الثوري:هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:الزبور:الكتب التي نـزلت على الأنبياء، والذكر:أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يُورثَ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون.

وقال مجاهد، عن ابن عباس: ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال:أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، وقتادة، والسدي، وأبو صالح، والربيع بن أنس، والثوري [ رحمهم الله تعالى ] .

وقوله: ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) أي:إن في هذا القرآن الذي أنـزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبَلاغًا:لمَنْفعةً وكفاية لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.

وقوله [ تعالى ] : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) :يخبر تعالى أن الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي:أرسله رحمة لهم كلّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ، سَعد في الدنيا والآخرة، ومن رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [ إبراهيم:28، 29 ] ، وقال الله تعالى في صفة القرآن: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ فصلت:44 ] .

وقال مسلم في صحيحه:حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان الفَزَاريّ، عن يزيد بن كَيْسَان، عن ابن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:قيل:يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: « إني لم أبعَثْ لَعَّانًا، وإنما بُعثْتُ رحمة » . انفرد بإخراجه مسلم .

وفي الحديث الآخر: « إنما أنا رحمة مهداة » . رواه عبد الله بن أبي عرابة، وغيره، عن وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا . قال إبراهيم الحربي:وقد رواه غيره عن وكيع، فلم يذكر أبا هريرة . وكذا قال البخاري، وقد سئل عن هذا الحديث، فقال:كان عند حفص بن غياث مرسلا.

قال الحافظ ابن عساكر:وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا . ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي:حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أبي أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما أنا رحمة مهداة » .

ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود، عن سفيان بن عيينة، عن مِسْعَر ، عن سعيد بن خالد، عن رجل، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله بعثني رحمة مهداة، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين » .

قال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان، حدثنا أحمد بن صالح قال:وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمد بن صالح التمار، عن ابن [ شهاب ] عن محمد بن جُبَير بن مطعم، عن أبيه قال:قال أبو جهل حين قدم [ مكة ] منصرفة عن حَمْزَة:يا معشر قريش، إن محمدًا نـزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه ، فإنه كالأسد الضاري؛ إنه حَنِق عليكم؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم ، والله إن له لَسحْرَةً، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشيطان، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قَيلَةَ - يعني:الأوس والخزرج- لهو عدو استعان بعدو، فقال له مطعم بن عدي:يا أبا الحكم، والله ما رأيتُ أحدًا أصدقَ لسانًا، ولا أصدق موعدًا، من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال [ أبو سفيان ] بن الحارث:كونوا أشدّ ما كنتم عليه، إن ابني قيلَةَ إن ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة، أو تخرجوا محمدًا من بين ظهرانيهم، فيكون وحيدا مطرودا، وأما [ ابنا قَيْلة فوالله ما هما ] وأهل [ دهلك ] في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم، وقال:

سَــأمْنَحُ جَانبًــا منّــي غَليظًــا عَـلَى مَـا كَـانَ مِـنْ قُـرب وَبُعْـد

رجَـــالُ الخَزْرَجيَّــة أهْـــلُ ذُل إذا مَـــا كَـانَ هَـزْل بَعْـدَ جــد

فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: « والذي نفسي بيده، لأقتلنهم ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة بعثني الله، ولا يَتَوفَّاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء:أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب » .

وقال أحمد بن صالح:أرجو أن يكون الحديث صحيحًا.

وقال الإمامُ أحمد:حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثني عَمْرو بن قَيس، عن عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال:كان حُذيفةُ بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان فقال سلمان:يا حذيفةُ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [ كان يغضب فيقول، ويرضى فيقول:لقد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] خطَب فقال: « أيما رجل من أمتي سَبَبتُه [ سَبَّةً ] في غَضَبي أو لعنته لعنةً، فإنما أنا رجل من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمةً للعالمين، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة » .

ورواه أبو داود، عن أحمد بن يونس، عن زائدة .

فإن قيل:فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير:حدثنا إسحاق بن شاهين، حدثنا إسحاق الأزرق، عن المسعودي، عن رجل يقال له:سعيد، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال:من آمن بالله واليوم الآخر، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث المسعودي، عن أبي سعد - وهو سعيد بن المرزبان البقّال- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره بنحوه، والله أعلم.

وقد رواه أبو القاسمِ الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن عيسى بن يونس الرَّمْلِيِّ، عن أيوب بن سُوَيد، عن المسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) قال:من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والقذف .

قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 108 ) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ( 109 ) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ( 110 ) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 111 ) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( 112 ) .

يقول تعالى آمرًا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن يقول للمشركين: ( إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي:متبعون على ذلك، مستسلمون منقادون له.

( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) أي:تركوا ما دعوتهم إليه، ( فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ) أي:أعلمتكم أني حَرْب لكم، كما أنكم حَرْبٌ لي، بريء منكم كما أنكم بُرآء مني، كقوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ يونس:41 ] . وقال وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [ الأنفال:58 ] :ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء، وهكذا هاهنا، ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ) أي:أعلمتكم ببراءتي منكم، وبراءتكم مني؛ لعلمي بذلك.

وقوله: ( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) أي:هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده، ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ) أي:إن الله يعلم الغيب جميعَه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم على ذلك، على القليل والجليل.

وقوله: ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) أي:وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.

قال ابن جرير:لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم، ومتاع إلى أجل مسمى . وحكاه عون، عن ابن عباس، والله أعلم.

( قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي:افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.

قال قتادة:كان الأنبياء، عليهم السلام، يقولون: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ الأعراف:89 ] ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.

وعن مالك، عن زيد بن أسلم:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال: ( رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ) .

وقوله: ( وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) أي:على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك .

 

تفسير سورة الحج

 

[ وهي مكية ] .

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ( 1 ) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( 2 ) .

يقول تعالى آمرا عباده بتقواه، ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها. وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة:هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عَرصَات القيامة؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم؟ كما قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [ الزلزلة:1 ، 2 ] ، وقال تعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [ الحاقة:14 ، 15 ] ، وقال تعالى: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [ الواقعة:4 - 6 ] .

فقال قائلون:هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَة في قوله: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ، قال:قبل الساعة.

ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري، عن منصور والأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، فذكره. قال:وروي عن الشعبي، وإبراهيم، وعُبَيْد بن عُمَيْر، نحو ذلك.

وقال أبو كُدَيْنَةَ، عن عطاء، عن عامر الشعبي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) الآية، قال:هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.

وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مُسْتَنَدَ مَنْ قال ذلك في حديث الصُّور، من رواية إسماعيل ابن رافع قاضي أهل المدينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصُّور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فِيه، شاخص ببصره إلى العَرش، ينتظر متى يؤمر » . قال أبو هريرة:يا رسول الله، وما الصور؟

قال: « قرن » قال:فكيف هو؟ قال: « قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصَّعْق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول:انفخ نفخة الفزع. فيفزعُ أهل السموات وأهل الأرض، إلا من شاء الله، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ ص:15 ] فَيُسير الله الجبال، فتكون سرابا وتُرج الأرض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [ النازعات:6 - 8 ] ، فتكون الأرض، كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح. »

فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل. ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله تعالى: يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [ غافر:32 ، 33 ] فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فَرَأوا أمرا عظيما، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وخُسفَ قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كُشِطت عنهم « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك « قال أبو هريرة:فمن استثنى الله حين يقول: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [ النمل:87 ] ؟ قال:أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول الله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) . »

وهذا الحديث قد رواه الطبراني، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولا جدًا.

والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة، وأضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال:أشراط الساعة، ونحو ذلك، والله أعلم.

وقال آخرون:بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة في العرصات، بعد القيامة من القبور. واختار ذلك ابن جرير. واحتجوا بأحاديث:

الأول:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى، عن هشام، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران [ ابن ] حُصَين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) فلما سمع أصحابه بذلك حَثْوا المُطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما تأشهوا حوله قال: « أتدرون أي يوم ذاك؟ يوم ينادى آدم، عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول:يا آدم، ابعث بعثك إلى النار فيقول:يا رب، وما بعث النار؟ فيقول:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة » . قال فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: « أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه:يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس » قال:فسُرّي عنهم، ثم قال:اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو الرقمة في ذراع الدابة « . »

وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما، عن محمد بن بَشَّار، عن يحيى - وهو القَطَّان- عن هشام- وهو الدستوائي- عن قتادة، به بنحوه. وقال الترمذي:حسن صحيح.

طريق أخرى لهذا الحديث:قال الترمذي:حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا ابن جُدعان، عن الحسن، عن عمران بن حُصَيْن؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) إلى قوله: ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) ، قال:أنـزلت عليه هذه، وهو في سفر، فقال: « أتدرون أي يوم ذلك؟ » فقالوا:الله ورسوله أعلم. قال: « ذلك يوم يقول الله لآدم:ابعث بعث النار. قال:يا رب، وما بعث النار؟ قال:تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة » فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قاربوا وسَدِّدوا، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية » قال: « فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير » ثم قال: « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة » فكبروا ثم قال: « إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة » فكبروا، ثم قال: « إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة » فكبروا، قال:ولا أدري أقال الثلثين أم لا؟

وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيَيْنَةَ ، ثم قال الترمذي أيضا:هذا حديث حسن صحيح.

وقد روي عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن، عن عمران بن الحصين. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي، عن عمران بن الحصين ، فذكره.

وهكذا روى ابن جرير عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن عوف، عن الحسن قال:بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وذكر الحديث ، فذكر نحو سياق ابن جُدْعَان، فالله أعلم.

الحديث الثاني:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن الطَبَّاع، حدثنا أبو سفيان - [ يعني ] المعمري- عن مَعْمَر، عن قتادة، عن أنس قال:نـزلت: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) وذكر - يعني:نحو سياق الحسن عن عمران- غير أنه قال: « ومن هلك من كفرة الجن والإنس » .

رواه ابن جرير بطوله، من حديث معمر .

الحديث الثالث:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد - يعني:ابن العوام- حدثنا هلال بن خباب ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه، وقال فيه: « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة » ، ثم قال: « إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة » ثم قال: « إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة » ففرحوا، وزاد أيضًا: « وإنما أنتم جزء من ألف جزء » .

الحديث الرابع:قال البخاري عند هذه الآية:حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله تعالى يوم القيامة:يا آدم، فيقول:لبيك ربنا وسعديك. فينادي بصوت:إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. قال:يا رب، وما بعث النار؟ قال:من كل ألف - أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين . فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: » من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة « . فكبرنا، ثم قال: » ثلث أهل الجنة « . فكبرنا، ثم قال: » شطر أهل الجنة « فكبرنا . »

وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع، ومسلم، والنسائي في تفسيره، من طرق، عن الأعمش، به .

الحديث الخامس:قال الإمام أحمد:حدثنا عمار بن محمد - ابن أخت سفيان الثوري- وعبيدة المعنى، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يبعث يوم القيامة مناديا [ ينادي ] :يا آدم، إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار، فيقول آدم:يا رب، من هم؟ فيقال له:من كل مائة تسعة وتسعين » . فقال رجل من القوم:من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله؟ قال : « هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير » .

انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.

الحديث السادس:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى، عن حاتم بن أبي صغيرة، حدثنا ابن أبي مُلَيْكَةَ؛ أن القاسم بن محمد أخبره، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنكم تحشرون يوم القيامة حُفاة عراة غرلا » . قالت عائشة:يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: « يا عائشة، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك » . أخرجاه في الصحيحين .

الحديث السابع:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا ابن لَهِيعة، عن خالد بن أبي عِمْران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت:قلت:يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: « يا عائشة، أما عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف، فلا. وأما عند تطاير الكتب فإما يعطى بيمينه أو يعطى بشماله، فلا. وحين يخرج عُنُق من النار فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق:وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة، وكلت بثلاثة:وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد » قال: « فينطوي عليهم، ويرميهم في غمرات، ولجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف، عليه كلاليب وحسك يأخُذْنَ من شاء الله، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون:رب، سَلِّم، سَلِّم. فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكَوّر في النار على وجهه » .

والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا، لها موضع آخر، ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) أي:أمر كبير، وخطب جليل، وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب.

والزلزال :هو ما يحصل للنفوس من الفزع، والرعب كما قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [ الأحزاب:11 ] .

ثم قال تعالى: ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا ) :هذا من باب ضمير الشأن؛ ولهذا قال مفسرًا له: ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي:تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها، والتي هي أشفق الناس عليه، تدهش عنه في حال إرضاعها له؛ ولهذا قال: ( كُلُّ مُرْضِعَةٍ ) ، ولم يقل: « مرضع » وقال: ( عَمَّا أَرْضَعَتْ ) أي:عن رضيعها قبل فطامه.

وقوله: ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) أي:قبل تمامه لشدة الهول، ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) وقرئ: « سَكْرَى » أي:من شدة الأمر الذي [ قد ] صاروا فيه قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى، ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ( 3 ) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( 4 ) .

يقول تعالى ذامًا لمن كذب بالبعث، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضا عما أنـزل الله على أنبيائه، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد، من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والبدع، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنـزله الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة، الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، أي:علم صحيح، ( وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ ) قال مجاهد:يعني الشيطان، يعني:كتب عليه كتابة قدرية ( أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ ) أي:اتبعه وقلده، ( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) أي:يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المزعج المقلق.

وقد قال السدي، عن أبي مالك:نـزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وكذلك قال ابن جريج.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا عمرو بن سلم البصري، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة، حدثنا المعمر ، حدثنا أبو كعب المكي قال:قال خبيث من خُبثاء قريش:أخبرنا عن ربكم، من ذهب هو، أو من فضة هو، أو من نحاس هو؟ فقعقعت السماء قعقعة - والقعقعة في كلام العرب:الرعد- فإذا قِحْف رأسه ساقط بين يديه.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد:جاء يهودي فقال:يا محمد، أخبرنا عن ربك:من أي شيء هو؟ من در أم من ياقوت؟ قال:فجاءت صاعقة فأخذته.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 5 ) .

لما ذكر تعالى المخالف للبعث، المنكر للمعاد، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد، بما يشاهد من بدئه للخلق ، فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) أي:في شك ( مِنَ الْبَعْثِ ) وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) أي:أصل بَرْئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم، عليه السلام ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) أي:ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ) ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة، مكثت أربعين يوما كذلك، يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم تستحيل فتصير مضغة - قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط- ثم يشرع في التشكيل والتخطيط، فيصور منها رأس ويدان، وصدر وبطن، وفخذان ورجلان، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط؛ ولهذا قال تعالى: ( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) أي:كما تشاهدونها، ( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي:وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) قال:هو السقط مخلوق وغير مخلوق. فإذا مضى عليها أربعون يوما، وهي مضغة، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح، وسواها كما يشاء الله عز وجل ، من حسن وقبيح، وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها، وشقي أو سعيد، كما ثبت في الصحيحين، من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال:حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق- : « إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات:بكتب عمله وأجله ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح » .

وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله قال:النطفة إذا استقرت في الرحم، أخذها ملك بكفه قال :يا رب، مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: « غير مخلقة » لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل: « مخلقة » ، قال:أي رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت ؟ قال:فيقال للنطفة:من ربك؟ فتقول:الله. فيقال:من رازقك؟ فتقول:الله. فيقال له:اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة. قال:فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذلك المكان، ثم تلا عامر الشعبي: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم- قال: « يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين، فيقول:أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله، ويكتبان، فيقول:أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص . »

ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، ومن طرق أخر، عن أبي الطُّفَيل، بنحو معناه .

وقوله: ( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ) أي:ضعيفا في بدنه، وسمعه وبصره وحواسه، وبطشه وعقله. ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا، ويلطف به، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) أي:يتكامل القوى ويتزايد، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر.

( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ) ، أي:في حال شبابه وقواه، ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل والفهم، وتناقص الأحوال من الخَرَف وضعف الفكر؛ ولهذا قال: ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) ، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [ الروم:54 ] .

وقد قال الحافظ أبو يعلى [ أحمد ] بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده:حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا خالد الزيات، حدثني داود أبو سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري، عن أنس بن مالك - رفع الحديث- قال: « المولود حتى يبلغ الحنث، ما عمل من حسنة، كتبت لوالده أو لوالدته وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث:الجنون، والجذام، والبرص. فإذا بلغ الخمسين، خفف الله حسابه. فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفعه في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ أرذل العمر ( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه » .

هذا حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعا وموقوفا فقال:

حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج، حدثنا محمد بن عامر، عن محمد بن عبد الله العامري ، عن عمرو بن جعفر، عن أنس قال:إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة، أمنه الله من أنواع البلايا، من الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين لَيَّن الله حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها، وإذا بلغ السبعين أحبه الله، وأحبه أهل السماء، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته، ومحا عنه سيئاته، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله في الأرض، وشفع في أهله .

ثم قال:حدثنا هاشم، حدثنا الفرج، حدثني محمد بن عبد الله العامري، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله .

ورواه الإمام أحمد أيضا:حدثنا أنس بن عياض، حدثني يوسف بن أبي ذرة الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء:الجنون والجذام والبرص ..... وذكر تمام الحديث، كما تقدم سواء . »

ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبد الله بن شبيب، عن أبي شيبة، عن عبد الله بن عبد الملك ، عن أبي قتادة العُذْري، عن ابن أخي الزهري، عن عمه، عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء:الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسمي أسير الله، وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وسُمي أسير الله في أرضه، وشفع في أهل بيته » .

وقوله: ( وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً ) :هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء .

وقال قتادة:غبراء متهشمة. وقال السدي:ميتة.

( فَإِذَا أَنـزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي:فإذا أنـزل الله عليها المطر ( اهْتَزَّتْ ) أي:تحركت وحييت بعد موتها، ( وَرَبَتْ ) أي:ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون، من ثمار وزروع، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) أي:حسن المنظر طيب الريح.

 

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 ) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( 7 ) .

وقوله: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ) أي:الخالق المدبر الفعال لما يشاء، ( وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى ) [ أي:كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع؛ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ] إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ فصلت:39 ] فـ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس:82 ] .

( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا ) أي:كائنة لا شك فيها ولا مرية، ( وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أي:يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما، ويوجدهم بعد العدم، كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [ يس:78 - 80 ] والآيات في هذا كثيرة .

وقال الإمام أحمد:حدثنا بَهز ، حدثنا حماد بن سلمة قال:أنبأنا يعلى عن عطاء، عن وكيع بن حُدُس ، عن عمه أبي رَزين العقيلي - واسمه لَقِيط بن عامر - أنه قال:يا رسول الله، أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أليس كلكم ينظر إلى القمر مُخْليا به؟ » قلنا:بلى. قال: « فالله أعظم » . قال:قلت:يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: « أما مررت بوادي أهلك محلا » قال:بلى. قال: « ثم مررت به يهتز خضرا؟ » . قال:بلى. قال: « فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه » .

ورواه أبو داود وابن ماجه، من حديث حماد بن سلمة، به .

ثم رواه الإمام أحمد أيضا:حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سليمان بن موسى، عن أبي رَزين العُقَيْلي قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ قال: « أمررت بأرض من أرضك مُجْدبةً، ثم مررت بها مخصبة؟ » قال:نعم. قال: « كذلك النشور » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عُبَيس بن مرحوم، حدثنا بُكَيْر بن أبي السُّمَيْط، عن قتادة، عن أبي الحجاج، عن معاذ بن جبل قال:من علم أن الله هو الحق المبين، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور - دخل الجنة. [ والله أعلم ] .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ( 8 ) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 9 ) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 10 ) .

لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلّدين في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ، ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع، فقال: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) أي:بلا عقل صحيح، ولا نقل صحيح صريح، بل بمجرد الرأي والهوى.

وقوله: ( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) قال ابن عباس وغيره:مستكبرًا عن الحق إذا دعي إليه. وقال مجاهد، وقتادة، ومالك عن زيد بن أسلم: ( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) أي:لاوي عنقه، وهي رقبته، يعني:يعرض عما يدعى إليه من الحق رقَبَته استكبارًا، كقوله تعالى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [ الذاريات:38 ، 39 ] ، وقال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [ النساء:61 ] ، وقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [ المنافقون:5 ] :وقال لقمان لابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [ لقمان:18 ] أي:تميله عنهم استكبارًا عليهم، وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ لقمان:7 ] .

وقوله: ( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) :قال بعضهم:هذه لام العاقبة؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين ، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الذي يجعله ممن يضل عن سبيل الله.

ثم قال تعالى: ( لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) وهو الإهانة والذل، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لَقَّاه الله المذلة في الدنيا، وعاقبه فيها قبل الآخرة؛ لأنها أكبر هَمّه ومبلغ علمه، ( وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) أي:يقال له هذا تقريعًا وتوبيخا، ( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِِ ) كقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [ الدخان:47 - 50 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن الصبّاح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام، عن الحسن قال:بلغني أن أحدهم يُحرق في اليوم سبعين ألف مرة.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( 11 ) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ( 12 ) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ( 13 ) .

قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما: ( عَلَى حَرْفٍ ) :على شك .

وقال غيرهم:على طرف. ومنه حرف الجبل، أي:طرفه، أي:دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر.

وقال البخاري:حدثنا إبراهيم بن الحارث، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ، حدثنا إسرائيل، عن أبي حَصِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ) قال:كان الرجل يَقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما، ونُتِجَت خيلُه، قال:هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته، ولم تُنتَج خيله قال:هذا دين سوء .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث بن إسحاق القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال:كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيُسْلِمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن وجدوا عام غَيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: « إن ديننا هذا لصالح، فتمَسَّكُوا به » . وإن وجدوا عام جُدوبة وعام ولاد سَوء وعام قحط، قالوا: « ما في ديننا هذا خير » . فأنـزل الله على نبيه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ) .

وقال العوفي، عن ابن عباس:كان أحدهم إذا قَدم المدينة، وهي أرض وبيئة ، فإن صح بها جسمه، ونُتِجت فرسه مهرًا حسنا، وولدت امرأته غلامًا، رضي به واطمأن إليه، وقال: « ما أصبت منذ كنتُ على ديني هذا إلا خيرا » . وإن أصابته فتنة - والفتنة:البلاء- أي:وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال:والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرًا. وذلك الفتنة.

وهكذا ذكر قتادة، والضحاك، وابن جُريج، وغير واحد من السلف، في تفسير هذه الآية.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر.

وقال مجاهد في قوله: ( انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ) أي:ارتد كافرًا.

وقوله: ( خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ) أي:فلا هو حَصَل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) أي:هذه هي الخسارة العظيمة، والصفقة الخاسرة.

وقوله: ( يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ) أي:من الأصنام والأنداد، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها، وهي لا تنفعه ولا تضره، ( ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) أي:ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن.

وقوله: ( لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) :قال مجاهد:يعني الوثن، يعني:بئس هذا الذي دعا به من دون الله مولى، يعني:وليًا وناصرًا، ( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) وهو المخالط والمعاشر.

واختار ابن جرير أن المراد:لبئس ابن العم والصاحب من يعبد [ الله ] على حرف، ( فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ )

وقول مجاهد:إن المراد به الوثن، أولى وأقرب إلى سياق الكلام، والله أعلم.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( 14 ) .

لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء، عطف بذكر الأبرار السعداء، من الذين آمنوا بقلوبهم، وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات، [ وتركوا المنكرات ] فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات، في روضات الجنات.

ولما ذكر أنه أضل أولئك، وهدى هؤلاء، قال: ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ( 15 )

قال ابن عباس:من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ) أي:بحبل ( إِلَى السَّمَاءِ ) أي:سماء بيته، ( ثُمَّ ليَقْطَعْ ) يقول:ثم ليختنق به. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وأبو الجوزاء، وقتادة، وغيرهم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ) أي:ليتوصل إلى بلوغ السماء، فإن النصر إنما يأتي محمدًا من السماء، ( ثُمَّ لِيَقْطَعْ ) ذلك عنه، إن قدر على ذلك.

وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى، وأبلغ في التهكم؛ فإن المعنى:من ظن أن الله ليس بناصر محمدًا وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه، إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر:51 ، 52 ] ؛ ولهذا قال: ( فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ )

قال السدي:يعني:مِنْ شأن محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال عطاء الخراساني:فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ.

 

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ( 16 ) .

وقوله: ( وَكَذَلِكَ أَنـزلْنَاهُ ) أي:القرآن ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) أي:واضحات في لفظها ومعناها، حجةً من الله على الناس ( وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) أي:يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ الأنبياء:23 ] ، أما هو فلحكمته ورحمته وعدله، وعلمه وقهره وعظمته، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 17 ) .

يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين، ومن سواهم من اليهود والصابئين - وقد قدمنا في سورة « البقرة » التعريف بهم، واختلافَ الناس فيهم- والنصارى والمجوس، والذين أشركوا فعبدوا غير الله معه؛ فإنه تعالى ( يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، ويحكم بينهم بالعدل ، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم، وما تُكِن ضمائرهم.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ( 18 ) .

يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود [ كل شيء مما ] يختص به، كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [ النحل:48 ] . وقال هاهنا: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) أي:من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات، من الإنس والجن والدواب والطير، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [ الإسراء:44 ] .

وقوله: ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ) :إنما ذكر هذه على التنصيص؛ لأنها قد عُبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ فصلت:37 ] .

وفي الصحيحين عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ » . قلت:الله ورسوله أعلم. قال: « فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها:ارجعي من حيث جئت » .

وفي المسند وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، في حديث الكسوف: « إن الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع له » .

وقال أبو العالية:ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا يقع لله ساجدًا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه.

وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما عن اليمين والشمائل:وعن ابن عباس قال:جاء رجل فقال:يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي، فسمعتُها وهي تقول:اللهم، اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس:فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة.

رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبّان في صحيحه .

وقوله: ( وَالدَّوَابُّ ) أي:الحيوانات كلها.

وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر فرب مركوبة خير وأكثر ذكرًا لله من راكبها.

وقوله: ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) أي:يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك، ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) أي:ممن امتنع وأبى واستكبر، ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال:قيل لعلي:إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة. فقال له علي:يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت ؟ قال:بل كما شاء. قال:فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال:بل إذا شاء. قال:فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال:بل إذا شاء. قال:فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال:بل حيث يشاء. قال:والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف.

وعن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابنُ آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول:يا ويله. أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ، فلي النار » رواه مسلم .

وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا مَشْرَح بن هاعان أبو مُصعب المعافري قال:سمعت عقبة بن عامر يقول:قلت يا رسول الله، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: « نعم، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما » .

ورواه أبو داود والترمذي، من حديث عبد الله بن لهيعة، به . وقال الترمذي: « ليس بقوي » وفي هذا نظر؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع، وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه.

وقد قال أبو داود في المراسيل:حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح، أنبأنا ابن وَهْب، أخبرني معاوية بن صالح، عن عامر بن جَشِب ، عن خالد بن مَعْدان؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين » .

ثم قال أبو داود:وقد أسندَ هذا، يعني:من غير هذا الوجه، ولا يصح .

وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي:حدثنا ابن أبي داود، حدثنا يزيد بن عبد الله، حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، حدثنا حفص بن عنان، حدثني نافع، حدثني أبو الجهم:أن عمر سجد سجدتين في الحج، وهو بالجابية، وقال:إن هذه فضلت بسجدتين .

وروى أبو داود وابن ماجه، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ، عن عبد الله بن مُنَين، عن عمرو بن العاص؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المُفَصّل، وفي سورة الحج سجدتان . فهذه شواهد يَشُدّ بعضها بعضا.

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( 19 ) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( 20 ) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ( 21 ) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 22 ) .

ثبت في الصحيحين، من حديث أبي مِجْلَز، عن قيس بن عُبَاد، عن أبي ذر؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) نـزلت في حمزة وصاحِبَيه، وعتبةَ وصاحبيه، يوم برزوا في بدر .

لفظ البخاري عند تفسيرها، ثم قال البخاري:

حدثنا الحجاج بن مِنْهَال، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد، عن علي بن أبي طالب أنه قال:أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس:وفيهم نـزلت: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ، قال:هم الذين بارزوا يوم بدر:عليّ وحمزة وعبيدة، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال:اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب:نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم. فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون:كتابنا يقضي على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم. فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه، وأنـزل: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) . وكذا روى العَوفي، عن ابن عباس.

وقال شعبة، عن قتادة في قوله: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال:مُصدق ومكذب.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في هذه الآية:مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث. وقال - في رواية:هو وعطاء في هذه الآية- :هم المؤمنون والكافرون.

وقال عكرمة: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال:هي الجنة والنار، قالت النار:اجعلني للعقوبة، وقالت الجنة:اجعلني للرحمة.

وقولُ مجاهد وعطاء:إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون، يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل. وهذا اختيار ابن جرير، وهو حَسَن؛ ولهذا قال: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) أي:فصلت لهم مقطعات من نار.

قال سعيد بن جبير:من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي.

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ . يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) أي:إذا صب على رءوسهم الحميم، وهو الماء الحار في غاية الحرارة.

وقال سعيد [ بن جبير ] هو النحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء. قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهم. وكذلك تذوب جلودهم، وقال ابن عباس وسعيد:تساقط.

وقال ابن جرير:حدثني محمد بن المثنى، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد ، عن أبي السَّمْح، عن ابن حُجَيرة، عن أبي هُرَيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الحميم ليُصَب على رءوسهم، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان » .

ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك ، وقال:حسن صحيح. وهكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي نعيم، عن ابن المبارك، به ثم قال ابن أبي حاتم:

حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال:يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرهه، قال:فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب بها رأسه، فَيُفرغ دماغه، ثم يُفرغ الإناء من دماغه، فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله: ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ )

وقوله: ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) ، قال الإمام أحمد:

حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو أن مِقْمَعا مِن حَديد وُضِع في الأرض، فاجتمع له الثقلان ما أقَلُّوه من الأرض » .

وقال الإمام أحمد:حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو ضُرب الجبلُ بمِقْمَع من حديد، لتفتت ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غَسَّاق يُهَرَاق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا » .

وقال ابن عباس في قوله: ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) قال:يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله، فيدعون بالثبور.

وقوله: ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ) :قال الأعمش، عن أبي ظِبْيان، عن سلمان قال:النار سوداء مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ: ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا )

وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ) قال:بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون.

وقال الفُضيل بن عياض:والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.

وقوله: ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) كقوله وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [ السجدة:20 ] ومعنى الكلام:أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 23 ) .

لما أخبر تعالى عن حال أهل النار، عياذًا بالله من حالهم، وما هم فيه من العذاب والنَّكال والحريق والأغلال، وما أعد لهم من الثياب من النار، ذكر حال أهل الجنة - نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة- فقال: ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) أي:تتخَرّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا ) من الحلية، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ) أي:في أيديهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: « تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوُضُوء » .

وقال كعب الأحبار:إن في الجنة ملكًا لو شئت أن أسميه لسميتُه، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة، لو أبرز قُلْب منها - أي:سوار منها- لرد شعاع الشمس، كما ترد الشمس نور القمر.

وقوله: ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) :في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير، إستبرقه وسُنْدُسه، كما قال: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [ الإنسان:21 ، 22 ] ، وفي الصحيح: « لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة » .

قال عبد الله بن الزبير:ومن لم يلبس الحرير في الآخرة، لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ )

 

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ( 24 ) .

وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) كقوله وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [ إبراهيم:23 ] ، وقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرعد:23 ، 24 ] ، وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا [ الواقعة:25 ، 26 ] ، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا [ الفرقان:75 ] ، لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يُرَوّعون به ويقرعون به، يقال لهم: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

وقوله: ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) أي:إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم، على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الصحيح: « إنهم يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النَّفَسَ » .

وقد قال بعض المفسرين في قوله: ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) أي:القرآن. وقيل:لا إله إلا الله. وقيل:الأذكار المشروعة، ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) أي:الطريق المستقيم في الدنيا. وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( 25 ) .

يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [ الأنفال:34 ] .

وفي هذه الآية دليل [ على ] أنها مدنية، كما قال في سورة « البقرة » : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [ البقرة:217 ] ، وقال:هاهنا: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي:ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي:ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ الرعد:28 ] أي:ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.

وقوله: ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) [ أي:يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعا سواء، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه، ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ] ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) قال:ينـزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.

وقال مجاهد [ في قوله ] : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) :أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل. وكذا قال أبو صالح، وعبد الرحمن بن سابط، وعبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ] .

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة:سواء فيه أهله وغير أهله.

وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضًا، فذهب الشافعي، رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري، عن علي بن الحُسَين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد قال:قلت:يا رسول الله، أتنـزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: « وهل ترك لنا عَقيل من رباع » . ثم قال: « لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر » . وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين [ وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم. وبه قال طاوس، وعمرو بن دينار.

وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر. وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عيسى بن يونس، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين ، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نَضْلة قال:تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا ] السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن .

وقال عبد الرزاق بن مجاهد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أنه قال:لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها.

وقال أيضًا عن ابن جريج:كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تُبوّب دور مكة؛ لأن ينـزل الحاج في عَرَصاتها، فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال:أنظرني يا أمير المؤمنين، إني كنت امرأ تاجرا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال:فذلك إذًا.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن منصور، عن مجاهد؛ أن عمر بن الخطاب قال:يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينـزل البادي حيث يشاء .

قال:وأخبرنا مَعْمر، عمن سمع عطاء يقول [ في قوله ] : ( سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ، قال:ينـزلون حيث شاءوا.

وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح، عن عبد الله بن عمرو موقوفا من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا .

« وتوسط الإمام أحمد [ فيما نقله صالح ابنه ] فقال:تملك وتورث ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة، والله أعلم. »

وقوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) قال بعض المفسرين من أهل العربية:الباء هاهنا زائدة، كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [ المؤمنون:20 ] أي:تُنْبِتُ الدهن، وكذا قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ) تقديره إلحادًا، وكما قال الأعشى:

ضَمنَــتْ بـرزق عيالنـا أرْماحُنـا بيـن المَرَاجِـل, والصّـريحَ الأجـرد

وقال الآخر:

بـوَاد يَمـانِ يُنْبـتُ الشَّـثّ صَـدْرُهُ وَأسْـــفَله بـــالمَرْخ والشَّــبَهَان

والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى « يَهُمّ » ، ولهذا عداه بالباء، فقال: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) أي:يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار.

وقوله: ( بِظُلْمٍ ) أي:عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج ، عن ابن عباس:هو [ التعمد ] .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( بِظُلْمٍ ) بشرك.

وقال مجاهد:أن يعبد فيه غير الله. وكذا قال قتادة، وغير واحد.

وقال العَوْفي، عن ابن عباس: ( بِظُلْمٍ ) هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [ له ] العذاب الأليم.

وقال مجاهد: ( بِظُلْمٍ ) :يعمل فيه عملا سيئا.

وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره:

حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن السُّدِّي:أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود- في قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال:لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، أذاقه الله من العذاب الأليم.

قال شعبة:هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد:هو قد رفعه، ورواه أحمد، عن يزيد بن هارون، به .

[ قلت:هذا الإسناد ] صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من كلام ابن مسعود. وكذلك رواه أسباط، وسفيان الثوري، عن السدي، عن مُرة، عن ابن مسعود موقوفا، والله أعلم.

وقال الثوري، عن السدي، عن مُرَّة، عن عبد الله قال:ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت، لأذاقه الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم.

وقال سفيان [ الثوري ] ، عن منصور، عن مجاهد « إلحاد فيه » ، لا والله، وبلى والله. وروي عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، مثله.

وقال سعيد بن جُبَير:شتم الخادم ظلم فما فوقَه.

وقال سفيان الثوري، عن عبد الله بن عطاء، عن ميمون بن مِهْرَان، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال:تجارة الأمير فيه.

وعن ابن عمر:بيع الطعام [ بمكة ] إلحاد.

وقال حبيب بن أبي ثابت: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال:المحتكر بمكة. وكذا قال غير واحد.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري، أنبأنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى، عن عمه عمارة بن ثوبان، حدثني موسى بن باذان، عن يعلى بن أمية؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: « احتكار الطعام بمكة إلحاد » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير قال:قال ابن عباس في قول الله: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) قال:نـزلت في عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاريّ، ثم ارتد عن الإسلام، وهَرَب إلى مكة، فنـزلت فيه: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) يعني:من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.

وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [ الفيل:4 ، 5 ] ، أي:دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يغزو هذا البيت جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم » الحديث .

وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن كُنَاسة، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه قال:أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير، فقال:يا ابن الزبير، إياك والإلحاد في حَرَم الله، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت » ، فانظر لا تكن هو .

وقال أيضا [ في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ] :حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، حدثنا سعيد بن عمرو قال:أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير، وهو جالس في الحِجْر فقال:يا ابن الزبير، إياك والإلحادَ في الحرم، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يحلها ويحل به رجل من قريش، ولو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها » . قال:فانظر لا تكن هو .

ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 26 ) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ( 27 ) .

هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت، أي:أرشده إليه، وسلمه له، وأذن له في بنائه.

واستدل به كثير ممن قال: « إن إبراهيم، عليه السلام، هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله » ، كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر قلت:يا رسول الله، أي مسجد وُضعَ أول؟ قال: « المسجد الحرام » . قلت:ثم أي؟ قال: « بيت المقدس » . قلت كم بينهما؟ قال: « أربعون سنة » .

وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ الآية [ آل عمران:96 ، 97 ] ، وقال تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [ البقرة:125 ] .

وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار، بما أغنى عن إعادته هاهنا .

وقال تعالى هاهنا: ( أَنْ لا تُشْرِكْ بِي ) أي:ابْنه على اسمي وحدي، ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) قال مجاهد وقتادة:من الشرك، ( لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) أي:اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له.

فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، ( وَالْقَائِمِينَ ) أي:في الصلاة؛ ولهذا قال: ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله أعلم.

وقوله: ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) أي:ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه. فَذُكر أنه قال:يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل:ناد وعلينا البلاغ.

فقام على مقامه، وقيل:على الحجر، وقيل:على الصفا، وقيل:على أبي قُبَيس، وقال:يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال:إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: « لبيك اللهم لبيك » .

هذا مضمون ما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، وغير واحد من السلف، والله أعلم.

أوردها ابن جَرير، وابن أبي حاتم مُطَوّلة .

وقوله: ( يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا، لمن قدر عليه، أفضلُ من الحج راكبا؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكبا مع كمال قوته، عليه السلام.

وقوله: ( يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ ) يعني:طريق، كما قال: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا [ الأنبياء:31 ] .

وقوله: ( عَمِيقٍ ) أي:بعيد. قاله مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والثوري، وغير واحد.

وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم، حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [ إبراهيم:37 ] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( 28 ) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( 29 ) .

قال ابن عباس: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) قال:منافع الدنيا والآخرة؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن والربح والتجارات. وكذا قال مجاهد، وغير واحد:إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ [ البقرة:198 ] .

وقوله: ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ] عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) قال شعبة [ وهُشَيْم ] عن [ أبي بشر عن سعيد ] عن ابن عباس:الأيام المعلومات:أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به . ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل.

وقال البخاري:حدثنا محمد بن عَرْعَرَة، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما العمل في أيام أفضل منها في هذه » قالوا:ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: « ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء » .

ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه . وقال الترمذي:حديث حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر.

قلت:وقد تقصيت هذه الطرق، وأفردت لها جزءًا على حدته ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد:حدثنا عَفَّان، أنبأنا أبو عَوَانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن، من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهم من التهليل والتكبير والتحميد » وروي من وجه آخر، عن مجاهد، عن ابن عمر، بنحوه . وقال البخاري:وكان ابن عمر، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما .

وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا:أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [ الفجر:1 ، 2 ] .

وقال بعض السلف:إنه المراد بقوله: وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [ الأعراف:142 ] .

وفي سنن أبي داود:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر .

وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة، فقال: « أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية » .

ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله .

وبالجملة، فهذا العشر قد قيل:إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، ففضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.

وقيل:ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر.

وتوسط آخرون فقالوا:أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم.

قول ثان في الأيام المعلومات:قال الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس:الأيام المعلومات:يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر، وإبراهيم النَّخَعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.

قول ثالث:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا ابن عَجْلان، حدثني نافع؛ أن ابن عمر كان يقول:الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر.

هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي:وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني به:ذكر الله عند ذبحها.

قول رابع:إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة.

وقال ابن وهب:حدثني ابن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال:المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.

وقوله: ( عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) يعني:الإبل والبقر والغنم، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ الآية [ الأنعام:143 ] .

وقوله ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها .

وقال عبد الله بن وهب: [ قال لي مالك:أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) :قال ابن وهب ] وسألت الليث، فقال لي مثل ذلك.

وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) قال:كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل. وروي عن مجاهد، وعطاء نحو ذلك.

قال هُشَيْم، عن حُصَين، عن مجاهد في قوله ( فَكُلُوا مِنْهَا ) :هي كقوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ المائدة:2 ] ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [ الجمعة:10 ] .

وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها بالنصف بقوله في هذه الآية: ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) ، فجزأها نصفين:نصف للمضحي، ونصف للفقراء.

والقول الآخر:أنها تجزأ ثلاثة أجزاء:ثلث له، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الحج:36 ] وسيأتي الكلام عليها عندها، إن شاء الله، وبه الثقة.

وقوله: ( الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) ، قال عكرمة:هو المضطر الذي عليه البؤس، [ والفقير ] المتعفف.

وقال مجاهد:هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة:هو الزّمِن. وقال مقاتل بن حيان:هو الضرير.

وقوله: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) :قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:هو وضع [ الإحرام ] من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار، ونحو ذلك. وهكذا روى عطاء ومجاهد، عنه. وكذا قال عكرمة، ومحمد بن كعب القُرَظي.

وقال عكرمة، عن ابن عباس: ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) قال:التفث:المناسك.

وقوله: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:يعني:نحر ما نذر من أمر البُدن.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) : نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.

وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال:الذبائح.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) كل نذر إلى أجل.

وقال عكرمة: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ، قال: [ حجهم.

وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان في قوله: ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) قال: ] نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه:الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أمروا به. وروي عن مالك نحو هذا.

وقوله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) :قال مجاهد:يعني:الطواف الواجب يوم النحر.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أبي حمزة قال:قال لي ابن عباس:أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت.

قلت:وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال:أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض .

وقوله: ( بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) :فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت، حين قصرت بهم النفقة؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم:

حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني، حدثنا سفيان، عن هشام بن حُجْر، عن رجل، عن ابن عباس قال:لما نـزلت هذه الآية: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه .

وقال قتادة، عن الحسن البصري في قوله: ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) [ قال ] :لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وعن عكرمة أنه قال:إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح.

وقال خَصِيف:إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.

وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد:أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه. وكذا قال قتادة.

وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن بن مسلم، عن مجاهد:لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن الزبير قال:إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة .

وقال الترمذي:حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح، أخبرني الليث، عن عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن محمد بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار » .

وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن سهل النجاري ، عن عبد الله بن صالح، به . وقال:إن كان صحيحًا وقال الترمذي:هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري، مرسلا .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ( 30 )

يقول تعالى:هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل.

( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) أي:ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، ( فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) أي:فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرمات و [ اجتناب ] المحظورات.

قال ابن جريج:قال مجاهد في قوله: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) قال:الحرمة:مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وكذا قال ابن زيد.

وقوله: ( وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي:أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام.

وقوله: ( إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) أي:من تحريم الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ ] الآية [ المائدة:3 ] ، قال ذلك ابن جرير، وحكاه عن قتادة.

وقوله: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) : « من » هاهنا لبيان الجنس، أي:اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وقرن الشرك بالله بقول الزور، كقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ الأعراف:33 ] ، ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » قلنا:بلى، يا رسول الله. قال: « الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس، فقال:- ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور » . فما زال يكررها، حتى قلنا:ليته سكت .

وقال الإمام أحمد:حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، أنبأنا سفيان بن زياد، عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم قال:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: « يا أيها الناس، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله » ثلاثا، ثم قرأ: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ )

وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، به ثم قال: « غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد. وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم » .

وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا سفيان العُصْفُرِيّ، عن أبيه، عن حبيب ابن النعمان الأسدي، عن خريم بن فاتك الأسدي قال:صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام قائما فقال: « عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، عز وجل » ، ثم تلا هذه الآية: ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) .

وقال سفيان الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن وائل بن ربيعة، عن ابن مسعود أنه قال:تعدل شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية .

 

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ( 31 ) .

وقوله: ( حُنَفَاءَ لِلَّهِ ) أي:مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق؛ ولهذا قال ( غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ )

ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال: ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ) أي:سقط منها، ( فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) ، أي:تقطعه الطيور في الهواء، ( أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) أي:بعيد مهلك لمن هوى فيه؛ ولهذا جاء في حديث البراء: « إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء، فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحا من هناك » . ثم قرأ هذه الآية، وقد تقدم الحديث في سورة « إبراهيم » بحروفه وألفاظه وطرقه.

وقد ضرب [ الله ] تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة « الأنعام » ، وهو قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ] [ الأنعام:71 ] .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ( 32 ) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( 33 ) .

يقول تعالى:هذا ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) أي:أوامره، ( فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، كما قال الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس:تعظيمها:استسمانها واستحسانها.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو سعيد الأشجّ، حدثنا حفص بن غياث، عن ابن أبي ليلى، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) قال:الاستسمان والاستحسان والاستعظام.

وقال أبو أمامة بن سهل:كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يُسمّنون. رواه البخاري .

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « دم عفراءَ أحبّ إلى الله من دم سَوداوين » . رواه أحمد، وابن ماجه .

قالوا:والعفراء هي البيضاء بياضًا ليس بناصع، فالبيضاء أفضل من غيرها، وغيرها يجزئ أيضا؛ لما ثبت في صحيح البخاري، عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين .

وعن أبي سعيد:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فَحيل يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد.

رواه أهل السنن، وصححه الترمذي ، أي:بكبش أسود في هذه الأماكن.

وفي سنن ابن ماجه، عن أبي رافع:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين . قيل:هما الخَصِيَان. وقيل:اللذان رُضَّ خُصْياهما، ولم يقطعهما ، والله أعلم.

وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر:ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين [ والموجوءين قيل:هما الخصيين ] .

وعن علي رضي الله عنه، قال:أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابَلَة، ولا مدابَرَة، ولا شَرْقاء، ولا خَرْقاء.

رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي .

ولهم عنه، قال:نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُضحي بأعضب القرن والأذن .

وقال سعيد بن المسيب:العضب:النصْف فأكثر.

وقال بعض أهل اللغة:إن كُسر قرنها الأعلى فهي قصماء، فأما العَضْب فهو كسر الأسفل، وعضب الأذن قطع بعضها.

وعند الشافعي أن التضحية بذلك مجزئة، لكن تكره.

وقال [ الإمام ] أحمد:لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن؛ لهذا الحديث.

وقال مالك:إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ، وإلا أجزأ، والله أعلم.

وأما المقابلة:فهي التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة:من مؤخر أذنها. والشرقاء:هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي. والخرقاء:هي التي خَرَقت السّمَةُ أذنها خرقا مُدَوّرًا، والله أعلم.

وعن البراء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أربع لا تجوز في الأضاحي:العوراء البيّن عَوَرها، والمريضة البين مَرَضها، والعرجاء البين ظَلَعها ، والكسيرة التي لا تُنقِي » .

رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي .

وهذه العيوب تنقص اللحم، لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى، فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة، كما هو ظاهر الحديث.

واختلف قول الشافعي في المريضة مرضًا يسيرًا، على قولين.

وروى أبو داود، عن عُتبة بن عبد السّلَمي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرَةِ، والمستأصَلَة، والبَخْقاء، والمشيَّعة، والكسراء .

فالمصفرة قيل:الهزيلة. وقيل:المستأصلة الأذنُ. والمستأصلة:المكسورة القرن. والبخقاء:هي العوراء. والمشيعة:هي التي لا تزال تُشَيَّع خَلفَ الغنم، ولا تَتْبَع لضعفها. والكسراء:العرجاء.

فهذه العيوب كلها مانعة [ من الإجزاء، فإن طرأ العيب ] بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة.

وقد روى الإمامُ أحمد، عن أبي سعيد قال:اشتريت كبشا أضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « ضَحِّ به » ولهذا [ جاء ] في الحديث:أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. أي:أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود، عن عبد الله بن عمر قال:أهدى عمر نَجيبًا، فأعطى بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، إني أهديت نجيبًا، فأعطِيتُ بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدْنًا؟ قال: « لا انحرها إياها » .

وقال الضحاك، عن ابن عباس:البدن من شعائر الله.

وقال محمد بن أبي موسى:الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والبدن والحلق:من شعائر الله.

وقال ابن عمر:أعظم الشعائر البيت.

قوله: ( لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) أي:لكم في البدن منافع، من لبنها، وصوفها وأوبارها وأشعارها، وركوبها.

( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) :قال مِقْسَم، عن ابن عباس [ في قوله ] : ( لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال:ما لم يسم بدنا.

وقال مجاهد في قوله: ( لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ، قال:الركوب واللبن والولد، فإذا سُمّيت بَدنَةً أو هَديًا، ذهب ذلك كله. وكذا قال عطاء، والضحاك، وقتادة، [ ومقاتل ] وعطاء الخراساني، وغيرهم.

وقال آخرون:بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا، إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً، قال: « اركبها » . قال:إنها بَدنَة. قال: « اركبها، ويحك » ، في الثانية أو الثالثة .

وفي رواية لمسلم، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها » .

وقال شعبة، عن زهير بن أبي ثابت الأعمى، عن المغيرة بن حَذْف، عن علي؛ أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال:لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدَها.

وقوله: ( ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) أي:مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق، وهو الكعبة، كما قال تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ المائدة:95 ] ، وقال وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [ الفتح:25 ] .

وقد تقدم الكلام على معنى « البيت العتيق » قريبا، ولله الحمد .

وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء:كان ابن عباس يقول:كل من طاف بالبيت، فقد حل، قال الله تعالى: ( ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ )

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ( 34 ) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 35 ) .

يخبر تعالى أنه لم يَزَل ذبحُ المناسك وإراقةُ الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا ) قال:عيدًا.

وقال عكرمة:ذبحا. وقال زيد بن أسلم في قوله: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا ) ، إنها مكة، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.

[ وقوله ] : ( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ) ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال:أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمَّى وكبر، ووضع رجله على صِفَاحهما .

وقال الإمام أحمد بن حنبل:حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سَلام بن مسكين، عن عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود - وهو نُفَيْع بن الحارث- عن زيد بن أرقم قال:قلت - أو:قالوا- :يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: « سنة أبيكم إبراهيم » . قالوا:ما لنا منها؟ قال: « بكل شعرة حسنة » قالوا:فالصوف؟ قال: « بكل شعرة من الصوف حسنة » .

وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه في سننه، من حديث سلام بن مسكين، به .

وقوله: ( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ) أي:معبودكم واحد، وإن تَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الأنبياء:25 ] . ولهذا قال: ( فَلَهُ أَسْلِمُوا ) أي:أخلصوا واستسلموا لحُكْمه وطاعته.

( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) :قال مجاهد:المطمئنين، وقال الضحاك، وقتادة:المتواضعين. وقال السدي:الوجلين. وقال عمرو بن أوس :المخبتون :الذين لا يَظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.

وقال الثوري: ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) قال:المطمئنين الراضين بقضاء الله، المستسلمين له.

وأحسن ما يفسّر بما بعده وهو قوله: ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي:خافت منه قلوبُهم، ( وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ) أي:من المصائب.

قال الحسن البصري:والله لتصبرنّ أو لتهلكنّ.

( وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ) :قرأ الجمهور بالإضافة. السبعةَ، وبقيةَ العشرة أيضا. وقرأ ابن السَّمَيْقَع: « والمقيمينَ الصلاة » بالنصب.

وقال الحسن البصري: ( وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ) ، وإنما حذفت النون هاهنا تخفيفا، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة، ولكن على سبيل التخفيف فنصبت.

أي:المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه، ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) أي:وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وقراباتهم، وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود الله. وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله، كما تقدم تفسيره في سورة « براءة » [ فلله الحمد والمنة ] .

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 36 ) .

يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن، وجعلها من شعائره، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى [ إلى بيته الحرام ] ، كما قال تعالى: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ] الآية: [ المائدة:2 ] .

قال ابن جُرَيج:قال عطاء في قوله: ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) ، قال:البقرة، والبعير. وكذا رُوي عن ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري. وقال مجاهد:إنما البدن من الإبل.

قلت:أما إطلاق البَدَنة على البعير فمتفق عليه، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة، على قولين، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث.

ثم جمهور العلماء على أنه تُجزئ البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، كما ثبت به الحديث عند مسلم، من رواية جابر بن عبد الله [ وغيره ] ، قال:أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشتركَ في الأضاحي، البدنةُ عن سبعة، والبقرة عن سبعة .

[ وقال إسحاق بنُ رَاهَويه وغيره:بل تُجزئ البقرة عن سبعة، والبعير عن عشرة ] . وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، وغيرهما ، فالله أعلم.

وقوله: ( لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) ، أي:ثواب في الدار الآخرة.

وعن سليمان بن يزيد الكعبي، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما عَمِل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من هِرَاقه دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان، قبل أن يقع على الأرض، فطِيبُوا بها نفسا » . رواه ابن ماجه، والترمذي وحَسنه .

وقال سفيان الثوري:كان أبو حاتم يستدين ويسوق البُدْن، فقيل له:تستدين وتسوق البدن؟ فقال:إني سمعت الله يقول: ( لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ )

وعن ابن عباس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أنفقت الوَرقَ في شيء أفضلَ من نحيرة في يوم عيد » . رواه الدارقطني في سننه .

وقال مجاهد: ( لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) قال:أجر ومنافع.

وقال إبراهيم النَّخَعِيّ:يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.

وقوله: ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) وعن [ المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن ] جابر بن عبد الله قال:صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدَ الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال: « بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَحِّ من أمتي » .

رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي .

وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن عباس، عن جابر قال:ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد، فقال حين وجههما: « وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك، وعن محمد وأمته » . ثم سمى الله وكبر وذبح .

وعن علي بن الحسين، عن أبي رافع؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول: « اللهم هذا عن أمتي جميعها، مَنْ شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ » . ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثم يقول: « هذا عن محمد وآل محمد » فيُطعمها جميعًا المساكين، [ ويأكل ] هو وأهله منهما.

رواه أحمد، وابن ماجه .

وقال الأعمش، عن أبي ظِبْيَان، عن ابن عباس في قوله: ( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) ، قال:قيام على ثلاث قوائم، معقولة يدُها اليسرى، يقول: « بسم الله والله أكبر ، اللهم منك ولك » . وكذلك روى مجاهد، وعلي بن أبي طلحة، والعَوْفي، عن ابن عباس، نحو هذا.

وقال ليث. عن مجاهد:إذا عُقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث. ورَوَى ابن أبي نَجِيح، عنه، نحوه .

وقال الضحاك:تُعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث.

وفي الصحيحين عن ابن عمر:أنه أتى على رجل قد أناخ بَدَنته وهو ينحرها، فقال:ابعثها قيامًا مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم .

وعن جابر:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحَرون البُدْن معقولةَ اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها. رواه أبو داود .

وقال ابن لَهِيعة:حدثني عطاء بن دينار، أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك:قفْ من شقها الأيمن، وانْحَر من شقها الأيسر.

وفي صحيح مسلم، عن جابر، في صفة حجة الوَدَاع، قال فيه:فنحر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدَنة، جعل يَطعَنُها بحَربة في يده .

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال:في حرف ابن مسعود: « صوافن » ، أي:مُعقَّلة قياما .

وقال سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد:مَن قرأها « صوافن » قال:معقولة. ومن قرأها ( صَوَافَّ ) قال:تصف بين يديها.

وقال طاوس، والحسن، وغيرهما: « فاذكروا اسم الله عليها صوافي » يعني:خالصة لله عز وجل. وكذا رواه مالك، عن الزهري.

وقال عبد الرحمن بن زيد: « صوافيَ » :ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.

وقوله: ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) قال:ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:يعني:سقطت إلى الأرض.

وهو رواية عن ابن عباس، وكذا قال مقاتل بن حيان.

وقال العوفي، عن ابن عباس: ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) يعني:نحرت.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ) يعني:ماتت.

وهذا القول هو مُرَادُ ابن عباس ومجاهد، فإنه لا يجوز الأكل من البَدَنة إذا نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع: « ولا تُعجِلُوا النفوسَ أن تَزْهَق » . وقد رواه الثوري في جامعه، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن فَرافصَة الحنفي، عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال ذلك ويؤيده حديث شَدّاد بن أوس في صحيح مسلم: « إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته، ولْيُرِحْ ذَبِيحته » .

وعن أبي واقد الليثي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما قُطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة » .

رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه .

وقوله: ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) قال بعض السلف :قوله: ( فَكُلُوا مِنْهَا ) أمر إباحة.

وقال مالك:يستحب ذلك. وقال غيره:يَجِبُ. وهو وَجْه لبعض الشافعية. واختلف في المراد بالقانع والمعتر، فقال العوفي، عن ابن عباس:القانع:المستغني بما أعطيته، وهو في بيته. والمعترّ:الذي يتعرض لك، ويُلمّ بك أن تعطيه من اللحم، ولا يسأل. وكذا قال مجاهد، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:القانع:المتعفف. والمعتر:السائل. وهذا قولُ قتادة، وإبراهيم النَّخَعي، ومجاهد في رواية عنه.

وقال ابن عباس، وزيد بن أسلم وعِكْرِمَة ، والحسن البصري، وابن الكلبي، ومُقَاتِل بن حَيَّان، ومالك بن أنس:القانع:هو الذي يَقْنع إليك ويسألك. والمعتر:الذي يعتريك، يتضرع ولا يسألك. وهذا لفظ الحسن.

وقال سعيد بن جبير:القانع:هو السائل، ثم قال:أما سمعت قول الشَّمَّاخ.

لَمَــالُ المَــرْءِ يُصْلِحُــه فَيُغْنـي مَفَــاقِرَه ، أَعــَفُّ مِــنَ القُنُــوع

قال:يعني من السؤال، وبه قال ابن زيد.

وقال زيد بن أسلم:القانع:المسكين الذي يطوف. والمعتر:الصديق والضعيف الذي يزور. وهو رواية عن عبد الله بن زيد أيضا.

وعن مجاهد أيضا:القانع:جارك الغني [ الذي يبصر ما يدخل بيتك ] والمعتر:الذي يعتريك من الناس.

وعنه:أن القانع:هو الطامع. والمعتر:هو الذي يَعْتَر بالبُدْن من غني أو فقير.

وعن عكرمة نحوه، وعنه القانع:أهل مكة.

واختار ابنُ جرير أنّ القانع:هو السائل؛ لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر من الاعترار، وهو:الذي يتعرض لأكل اللحم.

وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء:فثلث لصاحبها يأكله [ منها ] ، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال: ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) . وفي الحديث الصحيح:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: « إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم » وفي رواية: « فكلوا وادخروا وتصدقوا » . وفي رواية: « فكلوا وأطعموا وتصدقوا » .

والقول الثاني:إن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف، لقوله في الآية المتقدمة: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [ الحج:28 ] ، ولقوله في الحديث: « فكلوا وادخروا وتصدقوا » .

فإن أكل الكل فقيل :لا يضمن شيئا. وبه قال ابن سُرَيج من الشافعية.

وقال بعضهم:يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل:يضمن نصفها. وقيل:ثلثها. وقيل:أدنى جزء منها. وهو المشهور من مذهب الشافعي.

وأما الجلود، ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي: « فكلوا وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوها » .

ومن العلماء من رخص [ في ذلك ] ، ومنهم من قال:يقاسم الفقراء ثمنها، والله أعلم.

[ مسألة ] .

عن البراء بن عازب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر. فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم [ عجله ] لأهله، ليس من النسك في شيء » أخرجاه .

فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء:إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين. زاد أحمد:وأن يذبح الإمام بعد ذلك، لما جاء في صحيح مسلم:وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام « . »

وقال أبو حنيفة:أما أهل السواد من القرى ونحوهم ، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر، إذ لا صلاة عيد عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام، والله أعلم.

ثم قيل:لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل:يوم النحر لأهل الأمصار، لتيسر الأضاحي عندهم، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل:يوم النحر، ويوم بعده للجميع. وقيل:ويومان بعده، وبه قال أحمد. وقيل:يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده، وبه قال الشافعي؛ لحديث جبير بن مطعم:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « وأيام التشريق كلها ذبح » . رواه أحمد وابن حبان .

وقيل:إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة، وبه قال إبراهيم النَّخَعِيّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وهو قول غريب.

وقوله: ( كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) :يقول تعالى:من أجل هذا ( سَخَّرْنَاهَا لَكُم ) أي:ذللناها لكم، أي:جعلناها منقادة لكم خاضعة، إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [ يس:71 - 73 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة: ( كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ( 37 ) .

يقول تعالى:إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا، لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرازق لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فإنه تعالى هو الغني عما سواه.

وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا )

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي حماد، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج قال:كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:فنحن أحق أن ننضح، فأنـزل الله: ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) أي:يتقبل ذلك ويجزي عليه.

كما جاء في الصحيح: « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » وما جاء في الحديث: « إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض » كما تقدم الحديث. رواه ابن ماجه، والترمذي وحَسّنه عن عائشة مرفوعا. فمعناه:أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا، والله أعلم.

وقال وَكِيع، عن [ يحيى ] بن مسلم أبي الضحاك:سألت عامرًا الشعبي عن جلود الأضاحي، فقال: ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا ) ، إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدق.

وقوله: ( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ) أي:من أجل ذلك سخر لكم البُدن، ( لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أي:لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه، وما يرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه.

وقوله: ( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) أي:وبشر يا محمد المحسنين، أي:في عملهم، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شَرَع لهم، المصدقين الرسولَ فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل.

[ مسألة ] .

وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضًا. واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات، عن أبي هريرة مرفوعا: « من وجد سَعَة فلم يُضَحِّ، فلا يقربن مُصَلانا » على أن فيه غرابة، واستنكره أحمد بن حنبل .

وقال ابن عمر:أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي. رواه الترمذي .

وقال الشافعي، وأحمد:لا تجب الأضحية، بل هي مستحبة؛ لما جاء في الحديث: « ليس في المال حق سوى الزكاة » . وقد تقدم أنه، عليه السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم.

وقال أبو سَريحةَ:كنت جارًا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما.

وقال بعض الناس:الأضحية سنة كفاية، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة، سقطت عن الباقين؛ لأن المقصود إظهار الشعار.

وقد روى الإمام أحمد، وأهل السنن - وحسنه الترمذي- عن مِخْنَف بن سليم؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: « على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعَتِيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تدعونها الرَّجبية » . وقد تكلم في إسناده .

وقال أبو أيوب:كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، يأكلون ويطعمون [ حتى تباهى ] الناس فصار كما ترى.

رواه الترمذي وصححه، وابن ماجه .

وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله. رواه البخاري.

وأما مقدار سِنّ الأضحية، فقد روى مسلم عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن » .

ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذَعَ لا يجزئ. وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجَذَع يجزئ من كل جنس، وهما غريبان. وقال الجمهور:إنما يجزئ الثَّني من الإبل والبقر والمعز، والجذع من الضأن، فأما الثني من الإبل:فهو الذي له خمس سنين، ودخل في السادسة. ومن البقر:ما له [ سنتان ] ودخل في [ الثالثة ] ، وقيل: [ ما له ] ثلاث [ ودخل في ] الرابعة. ومن المعز:ما له سنتان. وأما الجذع من الضأن فقيل:ما له سنة، وقيل:عشرة أشهر، وقيل:ثمانية أشهر، وقيل:ستة أشهر، وهو أقل ما قيل في سِنِّه، وما دونه فهو حَمَل، والفرق بينهما:أن الحمل شعر ظهره قائم، والجذَع شعر ظهره نائم، قد انعدل صدْعين، والله أعلم.

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ( 38 ) .

يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [ الزمر:36 ] وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [ الطلاق:3 ] .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أي:لا يحب من عباده من اتصف بهذا، وهو الخيانة في العهود والمواثيق، لا يفي بما قال. والكفر :الجحد للنعم، فلا يعترف بها.

 

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( 39 ) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 40 ) .

قال العَوفي، عن ابن عباس:نـزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة.

وقال غير واحد من السلف هذه أول آية نـزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية، وقاله مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد.

وقال ابن جرير:حدثني يحيى بن داود الواسطي:حدثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم - هو البَطِين- عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال:لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر:أخرجوا نبيهم. إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكُن. قال ابن عباس:فأنـزل الله عز وجل: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ، قال أبو بكر، رضي الله تعالى عنه:فعرفت أنه سيكون قتال.

ورواه الإمام أحمد، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، به وزاد:قال ابن عباس:وهي أول آية نـزلت في القتال.

ورواه الترمذي، والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف - زاد الترمذي:ووَكِيع، كلاهما عن سفيان الثوري، به. وقال الترمذي:حديث حسن، وقد رواه غير واحد، عن الثوري، وليس فيه ابن عباس .

وقوله: ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) أي:هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته، كما قال: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [ محمد:4 - 6 ] ، وقال تعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ التوبة:14 ، 15 ] ، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ التوبة:16 ] ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ [ اللَّهُ ] الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ آل عمران:142 ] ، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [ محمد:31 ] .

والآيات في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله: ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) وقد فعل.

وإنما شرع [ الله ] تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا، فلو أمرَ المسلمين، وهم أقل من العشر، بقتال الباقين لشَقَّ عليهم؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا نيفا وثمانين، قالوا:يا رسول الله، ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل مِنَى- ليالي مِنى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني لم أومر بهذا » . فلما بَغَى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة، ووافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجؤون إليه - شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نـزل في ذلك، فقال تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ )

قال العَوْفي، عن ابن عباس:أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني:محمدًا وأصحابه.

( إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) أي:ما كان لهم إلى قومهم إساءة، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له. وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ الممتحنة:1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ البروج:8 ] . ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق، ويقولون:

لا هُــمّ لَــولا أنتَ مــا اهتَدَينا وَلا تَصَدّقْـَـنــــا وَلا صَلَّينَـــا

فَــأنـزلَــنْ سَـكينَــةً عَلَـينَـا وَثَبّـــت الأقْـــدَامَ إنْ لاقَـينَــا

إنّ الألَـى قـــد بَغَـــوا عَلَيـنَـا إذَا أرَادوا فتْــنَـــــةً أبَـيْنَـــا

فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا: « إذا أرادوا فتنة أبينا » ، يقول: « أبينا » ، يمد بها صوته.

ثم قال تعالى: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) أي:لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف.

( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، والضحاك، وغيرهم.

وقال قتادة:هي معابد الصابئين. وفي رواية عنه:صوامع المجوس.

وقال مقاتل بن حَيَّان:هي البيوت التي على الطرق.

( وَبِيَعٌ ) :وهي أوسع منها، وأكثر عابدين فيها. وهي للنصارى أيضًا. قاله أبو العالية، وقتادة، والضحاك، وابن صخر، ومقاتل بن حيان، وخُصَيف، وغيرهم.

وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره:أنها كنائس اليهود. وحكى السدي، عمن حَدّثه، عن ابن عباس:أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال:هي الكنائس، والله أعلم.

وقوله: ( وَصَلَوَاتٌ ) :قال العوفي، عن ابن عباس:الصلوات:الكنائس. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وقتادة:إنها كنائس اليهود. وهم يسمونها صَلُوتا.

وحكى السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس:أنها كنائس النصارى.

وقال أبو العالية، وغيره:الصلوات:معابد الصابئين.

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:الصلوات:مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق. وأما المساجد فهي للمسلمين.

وقوله: ( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) فقد قيل:الضمير في قوله: ( يُذْكَرَ فِيهَا ) عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات.

وقال الضحاك:الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا.

وقال ابن جرير:الصوابُ:لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.

وقال بعض العلماء:هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا، وهم ذوو القصد الصحيح.

وقوله: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [ محمد:7 ، 8 ] .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) وَصَف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه. ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور، وعدوه هو المقهور، قال الله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ الصافات:171 - 173 ] وقال [ الله ] تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [ المجادلة:21 ] .

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ( 41 ) .

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد قال:قال عثمان بن عفان:فينا نـزلت: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) ، فأخرجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا: « ربنا الله » ، ثم مُكنّا في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، فهي لي ولأصحابي.

وقال أبو العالية:هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الصباح بن سوادة الكندي:سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ ) الآية، ثم قال:إلا أنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها.

وقال عطية العوفي:هذه الآية كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ [ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ] [ النور:55 ] .

وقوله: ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) ، كقوله تعالى وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ القصص:83 ] .

وقال زيد بن أسلم: ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) :وعند الله ثواب ما صنعوا.

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ( 42 ) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ( 43 ) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 44 ) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ( 45 ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( 46 ) .

يقول تعالى مسليا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ) إلى أن قال : ( وَكُذِّبَ مُوسَى ) أي:مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات.

فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ) أي:أنظرتهم وأخرتهم، ( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي:فكيف كان إنكاري عليهم، ومعاقبتي لهم؟!

ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [ النازعات:24 ] ، وبين إهلاك الله له أربعون سنة.

وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه » ، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هود:102 ] .

ثم قال تعالى: ( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ) أي:كم من قرية أهلكتها [ ( وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) ] أي:مكذبة لرسولها، ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) قال الضحاك:سقوفها، أي:قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها.

( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) أي:لا يستقى منها، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها.

( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال عكرمة:يعني المُبَيّض بالجص.

وروي عن علي بن أبي طالب، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي المَلِيح، والضحاك، نحو ذلك.

وقال آخرون:هو المُنيف المرتفع.

وقال آخرون:الشديد المنيع الحصين.

وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يَحْمِ أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته، عن حلول بأس الله بهم، كما قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ النساء:78 ] .

وقوله: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ) أي:بأبدانهم وبفكرهم أيضا، وذلك كاف، كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب « التفكر والاعتبار » :

حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سَيَّار، حدثنا جعفر، حدثنا مالك بن دينار قال:أوحى الله تعالى إلى موسى، عليه السلام، أن يا موسى، اتخذ نعلين من حديد وعصا، ثم سِحْ في الأرض، واطلب الآثار والعبر، حتى تتخرق النعلان وتكسر العصا.

وقال ابن أبي الدنيا:قال بعض الحكماء:أحْيِ قلبك بالمواعظ، ونَوِّره بالفِكْر، ومَوِّته بالزهد، وقَوِّه باليقين، وذَلِّلْـهُ بالموت ، وقرِّره بالفناء ، وبَصِّره فجائع الدنيا، وحَذِّره صولةَ الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا، وأين حَلُّوا، وعَمَّ انقلبوا.

أي:فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال ( فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) أي:فيعتبرون بها، ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) أي:ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى - وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشَّنْتَريني، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:

يـا مَـن يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء, وقَد نَـادَى بـه الناعيَان:الشـيبُ والكـبَرُ

إن كُـنتَ لا تَسْـمَع الذكْرَى, ففيم تُرَى فـي رَأسـك الوَاعيان:السمعُ والبَصَرُ?

ليسَ الأصَـمّ ولا الأعمَى سـوَى رَجُل لـم يَهْــده الـهَاديان:الـعَينُ والأثَرُ

لا الدّهر يَبْـقَى وَلا الدنيا, وَلا الفَلَك الـ أعـلى ولا النَّـيّران:الشَّـمْسُ وَالقَمَرُ

لَيَرْحَـلَنّ عَـن الـدنيـا, وَإن كَرِهـا فرَاقهـا, الثاويـان:البَـدْو والحَـضَرُ

 

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ( 47 ) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 48 ) .

يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) أي:هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال [ الله ] تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ الأنفال:32 ] ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ ص:16 ] .

وقوله: ( وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ) أي:الذي قد وَعَد، من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه.

قال الأصمعي:كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاء عمرو بن عبيد، فقال:يا أبا عمرو، وهل يخلف الله الميعاد؟ فقال:لا. فذكر آية وعيد، فقال له:أمن العجم أنت؟ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، أومَا سمعتَ قول الشاعر :

لا يُرْهِبُ ابنَ العـم منــى سَطْوَتي ولا أخْــتَتِي من سَطْــوة المُتَهَـدّد

فـإنّــي وَإن أوْعَـدْتُـه أوْ وَعَدْتُـه لَمُخْــلِفُ إيعَــادي ومُنْجـزُ مَوْعـدي

وقوله: ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) أي:هو تعالى لا يَعجَل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجَّلَ وأنظَر وأملى؛ ولهذا قال بعد هذا: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ )

قال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عَرَفة، حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام » .

ورواه الترمذي والنسائي، من حديث الثوري، عن محمد بن عمرو، به . وقال الترمذي:حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير، عن أبي هريرة موقوفا ، فقال:

حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، حدثنا سعيد الجُرَيري، عن أبي نَضْرَة، عن سُمَيْر بن نهار قال:قال أبو هريرة:يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم. قلت:وما نصف يوم؟ قال:أوَما تقرأ القرآن؟ . قلت:بلى. قال: ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) .

وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه:حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، عن شُرَيح بن عُبَيد، عن سعد بن أبي وَقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها، أن يؤخرهم نصف يوم » . قيل لسعد:وما نصف يوم؟ قال:خمسمائة سنة .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) قال:من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.

رواه ابن جرير، عن ابن بَشّار ، عن ابن مهدي . وبه قال مجاهد، وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب « الردّ على الجهمية » .

وقال مجاهد:هذه الآية كقوله: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [ السجدة:5 ] .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عارم - محمد بن الفضل- حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن عَتِيق، عن محمد بن سيرين، عن رجل من أهل الكتاب أسلمَ قال:إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) وجعل أجل الدنيا ستة أيام، وجعل الساعة في اليوم السابع، ( وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) ، فقد مضت الستة الأيام، وأنتم في اليوم السابع. فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها، في أية لحظة ولدت كان تماما.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 49 ) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 50 ) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 51 ) .

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وُقُوعَ العذاب، واستعجلوه به: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) أي:إنما أرسلني الله إليكم نذيرًا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شيء، أمركم إلى الله، إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، [ و ] لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ الرعد:41 ] و ( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) أي:آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم، ( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) أي:مغفرة لما سلف من سيئاتهم، ومجازاة حَسَنةٌ على القليل من حسناتهم.

[ و ] قال محمد بن كعب القُرَظِيّ:إذا سمعتَ الله تعالى يقول: ( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) فهو الجنة.

وقوله: ( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ) :قال مجاهد:يُثَبّطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا قال عبد الله بن الزبير:مثبطين.

وقال ابن عباس: ( مُعَاجِزِينَ ) :مراغمين.

( أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) :وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها، أجارنا الله منها.

قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [ النحل:88 ] .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 52 ) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 53 ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 54 ) .

قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جُبَيْر، قال:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة « النجم » فلما بلغ هذا الموضع: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى قال:فألقى الشيطان على لسانه: « تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى » . قالوا:ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنـزل الله عز وجل هذه الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] )

رواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، به نحوه ، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - فيما أحسب، الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة « النجم » ، حتى انتهى إلى: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ، وذكر بقيته. ثم قال البزار:لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور. وإنما يُروى هذا من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس .

ثم رواه ابن أبي حاتم، عن أبي العالية، وعن السدي، مرسلا. وكذا رواه ابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، مرسلا أيضا .

وقال قتادة:كان النبي صلى الله عليه وسلم [ يصلي ] عند المقام إذ نَعَس، فألقى الشيطان على لسانه « وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق العلى » ، فحفظها المشركون. وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها، فزَلَّت بها ألسنتهم، فأنـزل الله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ [ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ] ) الآية، فدَحَرَ الله الشيطان.

ثم قال ابن أبي حاتم:حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي، حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبِي، حدثنا محمد بن فُلَيْح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال:أنـزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون:لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هُداهم، فلما أنـزل الله سورة « النجم » قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: « وإنهن لهن الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى » . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وزلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا:إن محمدا، قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آخر النجم ] ، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا، فرفع على كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين - ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي ألقى الشيطان في مسامع المشركين- فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال [ تعالى ] : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) ، فلما بين الله قضاءه، وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم. وهذا أيضًا مرسل.

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، نحوه . وقد رواه الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه « دلائل النبوة » فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة، ساقه في مغازيه بنحوه، قال:وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.

قلت:وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، فالله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ، وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها:أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم .

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض، رحمه الله، في كتاب « الشفاء » لهذا، وأجاب بما حاصله .

وقوله: ( إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ، هذا فيه تسلية له، صلوات الله وسلامه عليه ، أي:لا يَهيدنّك ذلك، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.

قال البخاري:قال ابن عباس: ( فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( إِذَا تَمَنَّى [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) ، يقول:إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.

وقال مجاهد: ( إِذَا تَمَنَّى ) ] يعني:إذا قال.

ويقال: ( أُمْنِيَّتِهِ ) :قراءته، إِلا أَمَانِيَّ [ البقرة:78 ] ، يقولون ولا يكتبون.

قال البغوي:وأكثر المفسرين قالوا:معنى قوله: ( تَمَنَّى ) أي:تلا وقرأ كتاب الله، ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أي:في تلاوته، قال الشاعر في عثمان حين قتل:

تَمَنّــى كتَــابَ اللــه أوّل لَيْلــة وآخرَهــا لاقَــى حمَـامَ المَقَـادرِ

وقال الضحاك: ( إِذَا تَمَنَّى ) :إذا تلا.

قال ابن جرير:هذا القول أشبه بتأويل الكلام.

وقوله: ( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) ، حقيقة النسخ لغة:الإزالة والرفع.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:أي فيبطل الله - سبحانه وتعالى- ما ألقى الشيطان.

وقال الضحاك:نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته.

وقوله: ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ ) ، [ أي:بما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية ] ، ( حَكِيمٌ ) أي:في تقديره وخلقه وأمره، له الحكمة التامة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: ( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) أي:شك وشرك وكفر ونفاق، كالمشركين حين فرحوا بذلك، واعتقدوا أنه صحيح، وإنما كان من الشيطان.

قال ابن جريج: ( لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) هم:المنافقون ( وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) :المشركون.

وقال مقاتل بن حيان:هم [ الكافرون ] اليهود.

( وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ) أي:في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي:من الحق والصواب.

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ) أي:وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، المؤمنون بالله ورسوله، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنـزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب حكيم، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ فصلت:42 ] .

وقوله: ( فَيُؤْمِنُوا بِهِ ) أي:يصدقوه وينقادوا له، ( فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ) أي:تخضع وتذل، ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي:في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم [ إلى ] الصراط المستقيم، الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.

وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ( 55 )

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار:أنهم لا يزالون في مرية، أي:في شك وريب من هذا القرآن، قاله ابن جريج، واختاره ابن جرير.

وقال سعيد بن جبير، وابن زيد: ( مِنْهُ ) أي:مما ألقى الشيطان.

( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ) :قال مجاهد:فجأة. وقال قتادة: ( بَغْتَةً ) ، بغت [ القوم ] أمر الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.

وقوله: ( أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) :قال مجاهد:قال أبي بن كعب:هو يوم بدر، وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير.

وقال عكرمة، ومجاهد [ في رواية عنهما ] :هو يوم القيامة لا ليلة له. وكذا قال الضحاك، والحسن البصري.

وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، كقوله مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الفاتحة:4 ] وقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [ الفرقان:26 ] .

 

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 56 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 57 ) .

( فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، أي:آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله، وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم .

( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) . أي:لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد.

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ) أي:كفرت قلوبهم بالحق، وجحدوا به وكذبوا به، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم ( فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي:مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [ غافر:60 ] أي:صاغرين.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 58 ) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 59 ) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 60 ) .

يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخِلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله ( ثُمَّ قُتِلُوا ) أي:في الجهاد ( أَوْ مَاتُوا ) أي:حتف أنفهم ، أي:من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [ النساء:100 ] .

وقوله: ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ) أي:ليُجْريَن عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ ) أي:الجنة. كما قال تعالى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [ الواقعة:88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة نعيم، كما قال هاهنا: ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ) ، ثم قال: ( لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ) أي:بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، ( حَلِيمٌ ) أي:يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه، وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ آل عمران:169 ] ، والأحاديث في هذا كثيرة، كما تقدم وأما من تُوُفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا المسيَّب بن واضح، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن ابن الحارث - يعني:عبد الكريم- عن ابن عقبة - يعني:أبا عبيدة بن عقبة- قال:حدثنا شُرَحْبِيل بن السِّمْط:طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان- يعني:الفارسي- رضي الله عنه، فقال:إني سمعت رسول الله يقول: « من مات مرابطًا، أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفَتَّانين » واقرءوا إن شئتم: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ )

وقال أيضا:حدثنا أبو زرعة، حدثنا زيد بن بشر، أخبرني همام، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان:كنا برودس، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فمر بجنازتين، إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة:ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا:هذا قتيل في سبيل الله تعالى. فقال:والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت، اسمعوا كتاب الله: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] )

وقال أيضا:حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا ابن لَهِيعة، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه:أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له:تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال:ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ، إن الله يقول: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا ] يَرْضَوْنَهُ ) فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.

ورواه ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح، عن سلامان بن عامر قال:كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين، أحدهما قتيل والآخر متوفى... فذكر نحو ما تقدم .

وقوله: ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ) ، ذكر مقاتل بن حيان وابن جريج أنها نـزلت في سرية من الصحابة، لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، [ و ] ( إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ )

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 61 ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 62 ) .

يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ] [ آل عمران:26 ، 27 ] ومعنى إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل:إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل، كما في الصيف.

وقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) أي:سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم.

ولما بين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ) أي:الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) أي:من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضرًا ولا نفعًا.

وقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ، كما قال: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ البقرة:255 ] ، وقال: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [ الرعد:9 ] فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنـزه، وعز وجل عما يقول الظالمون [ المعتدون ] علوا كبيرا.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 63 ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 64 )

وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، فإنه يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجُرُز التي لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة، فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ الحج:5 ] .

وقوله: ( فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً ) ، الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما قال: خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [ المؤمنون:14 ] ، وقد ثبت في الصحيحين: « أن بين كل شيئين أربعين يوما » ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال: ( فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً ) أي:خضراء بعد يبسها ومُحُولها .

وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز:أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) أي:عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به، كما قال لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [ لقمان:16 ] ، وقال: أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ النمل:25 ] ، وقال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الأنعام:59 ] ، وقال وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ الآية [ يونس:61 ] ؛ ولهذا قال أمية بن [ أبي ] الصلت- أو:زيد بن عمرو بن نُفيل- في قصيدته:

وَقُـولا لَـه:مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى فَيُصبـحَ منْـهُ الـبَقْـلُ يَهْـتَزُّ رَابيَا?

ويُخْــرجُ منْـهُ حَـبَّـه في رُؤُوسـه فَفـي ذَاك آيـات لمَـنْ كَـانَ وَاعيـا

وقوله: ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) أي:ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه.

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 65 ) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ( 66 ) .

وقوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ ) أي:من حيوان، وجماد، وزروع، وثمار. كما قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [ الجاثية:13 ] أي:من إحسانه وفضله وامتنانه، ( وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) أي:بتسخيره وتسييره، أي:في البحر العَجَاج، وتلاطم الأمواج، تجري الفلك بأهلها بريح طيبة، ورفق وتؤدة، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع، من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء، كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون إليه، ويطلبونه ويريدونه، ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ ) أي:لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض، فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ ولهذا قال: ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي:مع ظلمهم، كما قال في الآية الأخرى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [ الرعد:6 ] .

وقوله: ( وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ ) ، كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ البقرة:28 ] ، وقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [ الجاثية:26 ] ، وقوله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [ غافر:11 ] ومعنى الكلام:كيف تجعلون [ مع ] الله أندادا وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف، ( وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ) أي:خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم ( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) أي:يوم القيامة، ( إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ ) أي:جحود.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ( 67 ) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 68 ) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 69 ) .

يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا.

قال ابن جرير:يعني:لكل أمة نبي منسكا. قال:وأصل المنسك في كلام العرب:هو الموضع الذي يعتاده الإنسان، ويتردد إليه، إما لخير أو شر. قال:ولهذا سميت مناسك الحج بذلك، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها .

فإن كان كما قال من أن المراد: ( لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا ) فيكون المراد بقوله: ( فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ ) أي:هؤلاء المشركون. وإن كان المراد: « لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا - كما قال: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [ البقرة:148 ] ولهذا قال هاهنا: ( هُمْ نَاسِكُوهُ ) أي:فاعلوه- فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي:هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق؛ ولهذا قال: ( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ) أي:طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود. »

وهذه كقوله: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [ القصص:87 ] .

وقوله: ( وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، كقوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ يونس:41 ] .

وقوله: ( اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) تهديد شديد، ووعيد أكيد، كقوله: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [ الأحقاف:8 ] ؛ ولهذا قال: ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )

وهذه كقوله: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [ الشورى:15 ] .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 70 ) .

يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء » .

وفي السنن، من حديث جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أول ما خلق الله القلم، قال له:اكتب، قال:وما أكتب؟ قال:اكتب ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا ابن بُكَيْر، حدثني ابن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جُبَيْر قال:قال ابن عباس:خلق الله اللوح المحفوظ مَسِيرَة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق - وهو على العرش تبارك وتعالى- :اكتب. قال القلم:وما أكتب؟ قال:علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة. فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة. فذلك قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ )

وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها، وقدرها وكتبها أيضًا، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك، على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علما، وهو سهل عليه، يسير لديه؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ( 71 ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 72 ) .

يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا، وعبدوا من دون الله ما لم ينـزل به سلطانا، يعني:حجة وبرهانا، كقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [ المؤمنون:117 ] . ولهذا قال هاهنا: ( مَا لَمْ يُنـزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ) أي:ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا حجة، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم؛ ولهذا توعدهم تعالى بقوله: ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) أي:من ناصر ينصرهم من الله، فيما يحل بهم من العذاب والنكال.

ثم قال: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ) أي:وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن رسله الكرام حق وصدق، ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) أي:يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء! ( قُلْ ) أي:يا محمد لهؤلاء. ( أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي:النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم.

وقوله: ( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) أي:وبئس النار منـزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا ومقاما، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [ الفرقان:66 ] .

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( 73 ) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 74 ) .

يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ) أي:لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، ( فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) أي:أنصتوا وتفهموا، ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) أي:لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد.

حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شَرِيك، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعة، عن أبي هريرة - رفع الحديث- قال: « ومن أظلم ممن خلق [ خلقا ] كخلقي؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة، أو ذبابة، أو حَبَّة » .

وأخرجه صاحبا الصحيح، من طريق عُمَارة، عن أبي زُرْعةَ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال الله عز وجل: « ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة » .

ثم قال تعالى أيضا: ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ) أي:هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك. هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [ قال: ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) ] .

قال ابن عباس:الطالب:الصنم، والمطلوب:الذباب. واختاره ابن جرير، وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره:الطالب:العابد، والمطلوب:الصنم.

ثم قال: ( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) أي:ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره، من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) أي:هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ الروم:27 ] ، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [ البروج:12 ، 13 ] ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ الذاريات:58 ] .

وقوله: ( عَزِيزٌ ) أي:قد عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب، لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار.

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 75 ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 76 ) .

يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقَدَره، ومن الناس لإبلاغ رسالاته، ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) أي:سميع لأقوال عباده، بصير بهم، عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الأنعام:124 ] .

وقوله: ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ) أي:يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء، كما قال: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ] وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [ الجن:26 - 28 ] ، فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم؛ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الآية [ المائدة:67 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 77 ) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( 78 ) .

اختلف الأئمة، رحمهم الله، في هذه السجدة الثانية من سورة الحج:هل هي مشروع السجودُ فيها أم لا؟ على قولين. وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فُضلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما » .

وقوله: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) أي:بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [ آل عمران:102 ] .

وقوله: ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) أي:يا هذه الأمة، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع.

( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) أي:ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة - التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين- تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتُصَلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط بعذر المرض، فيصليها المريض جالسا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات؛ ولهذا قال، عليه السلام : « بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة » وقال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن: « بَشِّرا ولا تنفرا، ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا » . والأحاديث في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) يعني:من ضيق.

وقوله: ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) :قال ابن جرير:نصب على تقدير: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) أي:من ضيق، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم. [ قال:ويحتمل أنه منصوب على تقدير:الزموا ملة أبيكم إبراهيم ] .

قلت:وهذا المعنى في هذه الآية كقوله: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا الآية [ الأنعام:161 ] .

وقوله: ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) قال الإمام عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) قال:الله عز وجل. وكذا قال مجاهد، وعطاء، والضحاك، والسدي، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) يعني:إبراهيم، وذلك لقوله: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [ البقرة:128 ] .

قال ابن جرير:وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) قال مجاهد:الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر، ( وَفِي هَذَا ) يعني:القرآن. وكذا قال غيره.

قلت:وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال: ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان، في كتب الأنبياء، يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) أي:من قبل هذا القرآن ( وَفِي هَذَا ) ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية:

أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شُعَيب، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره، عن أبي سلام أنه أخبره قال:أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم » . قال رجل:يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال: « نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله » .

وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ من سورة البقرة [ الآية:21 ] ؛ ولهذا قال: ( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) أي:إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا خيارا، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم، لتكونوا يوم القيامة ( شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك. وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ البقرة:143 ] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.

وقوله: ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) أي:قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم. ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله، بما أوجب، للفقير على الغني، من إخراج جزء نـزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة « التوبة » .

وقوله: ( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ ) أي:اعتضدوا بالله ، واستعينوا به، وتوكلوا عليه، وتَأيَّدوا به، ( هُوَ مَوْلاكُمْ ) أي:حافظكم وناصركم ومُظفركُم على أعدائكم، ( فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) يعني: [ نعم ] الولي ونعم الناصر من الأعداء.

قال وُهَيْب بن الورد:يقول الله تعالى:ابن آدم، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلمتَ فاصبر، وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم.

والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة، والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة، في سائر الأفعال والأقوال.

هذا آخر تفسير سورة « الحج » ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

 

أعلى