تفسير البغوي

68 - تفسير البغوي سورة القلم

التالي السابق

سورة القلم

مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 )

( ن ) اختلفوا فيه فقال ابن عباس: هو الحوت الذي على ظهره الأرض. وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي .

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ابن عباس: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

واختلفوا في اسمه، فقال الكلبي ومقاتل: [ اسمه ] يهموت. وقال الواقدي: ليوثا. وقال كعب: لويثا. وعن علي: اسمه بلهوث.

وقالت الرواة: لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكًا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثورًا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسًا فإذا تنفس مدَّ البحر وإذا [ رد ] نفسه جزر البحر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار [ فخلق ] الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه « [ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ] فتكن في صخرة » ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونًا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة. يقال: فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار: [ جل جلاله ] كوني فكانت .

قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوِيثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لوِيثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله منها فأذن لها الله فخرجت. قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت.

وقال بعضهم: نون آخر حروف الرحمن، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون الدواة.

وقيل: هو قسم أقسم الله به. وقيل: فاتحة السورة. وقال عطاء: افتتاح اسمه نور وناصر.

وقال محمد بن كعب: أقسم الله بنصرته للمؤمنين .

( وَالْقَلَم ) [ هو ] الذي كتب الله به الذكر، وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال: أول ما خلق الله القلم ونظر إليه فانشق بنصفين، ثم قال: اجرِ بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك. ( وَمَا يَسْطُرُونَ ) يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم.

مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ( 2 ) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ( 3 ) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( 4 )

( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [ هو ] جواب لقولهم يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر- 6 ) فأقسم الله بالنون والقلم وما يكتب من الأعمال فقال: ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) بنبوة ربك ( بِمَجْنُونٍ ) أي: إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة. وقيل: بعصمة ربك. وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون [ والحمد لله ] وقيل: معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي: والحمد لك.

( وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي: منقوص ولا مقطوع بصبرك على افترائهم عليك.

( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) قال ابن عباس ومجاهد: دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإسلام. وقال الحسن: هو آداب القرآن.

سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن .

وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، والمعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن.

وقيل: سمى الله خلقه عظيمًا لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله: خُذِ الْعَفْوَ ( الأعراف- 199 ) الآية.

وروينا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وتمام محاسن الأفعال » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف [ حدثنا محمد بن إسماعيل ] حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خَلْقًا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍ قطّ [ وما ] قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركته: لم تركتُه؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلقًا ولا مسست خزًا [ قط ] ولا حريرًا ولا شيئًا [ كان ] ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البَرْني، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمر قال: « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقًا . »

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس، حدثنا مروان الفزاري، حدثنا حميد الطويل، عن أنس أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلسْ إليك، قال: ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى [ قضى ] حاجتها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل قال: [ حدثنا ] محمد بن عيسى، حدثنا هشيم، أخبرنا حميد الطويل، حدثنا أنس بن مالك قال: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا عمران بن يزيد التغلبي، عن زيد [ ابن العَمِّي ] عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينـزع يده من يده [ حتى يكون هو الذي ينـزع يده ] ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه [ عن وجهه ] ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدثنا أبو عيسى، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادمًا ولا امرأة .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك بن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا علي بن المديني، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك، عن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء » .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم، حدثنا داود بن يزيد [ الأودي ] سمعت أبي يقول سمعت أبي هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: « أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: الفرج والفم، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله وحسن الخلق » .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن عبد الله [ بن عبد ] الحكم، أخبرنا أبي وشعيب قالا حدثنا الليث عن [ ابن ] الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار » .

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( 5 ) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ( 6 )

قوله عز وجل ( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) فسترى يا محمد ويرون - يعني أهل مكة - إذا نـزل بهم العذاب.

( بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ) قيل معناه: بأيكم المجنون، فـ « المفتون » مفعول بمعنى المصدر، كما يقال: ما بفلان مجلود ومعقول، أي جلادة وعقل. وهذا معنى قول الضحاك ورواية العوفي عن ابن عباس.

وقيل الباء بمعنى « في » مجازة: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك أم في فريقهم؟.

وقيل: الباء بمعنى « مع » و « المفتون » هو الشيطان. [ والمعنى: مع أيكم الشيطان ] مع المؤمنين أم مع الكافرين؟ وهذا معنى قول مجاهد .

وقال الآخرون: زائدة، معناه: أيكم المفتون؟ أي المجنون الذي فتن بالجنون، وهذا قول قتادة.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 7 ) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ( 8 ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( 9 ) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ( 10 ) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ( 11 ) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( 12 ) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ( 13 )

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) ، يعني مشركي مكة فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم.

( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) قال: الضحاك لو تكفر فيكفرون. قال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. قال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. قال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن تعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة.

( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ) كثير الحلف بالباطل. قال [ مقاتل: يعني ] الوليد بن المغيرة. وقيل: الأسود بن عبد يغوث. وقال عطاء: الأخنس بن شريق ( مَهِينٍ ) ضعيف حقير. قيل: هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس: كذاب. وهو قريب من الأول لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه.

( هَمَّازٍ ) مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والغيبة. قال الحسن: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس، كقوله: « همزة » ( مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ) قتَّات يسعى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم.

( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ) بخيل بالمال. قال ابن عباس: « منَّاع للخير » أي للإسلام يمنع ولده وعشيرته عن الإسلام يقول: لئن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا ( مُعْتَدٍ ) ظلوم يتعدى الحق ( أَثِيمٍ ) فاجر. ( عُتُلٍّ ) العتل: الغليظ الجافي. وقال الحسن: هو الفاحش الخَلْق السيئ الخُلُق. قال الفَّراء: هو الشديد الخصومة في الباطل وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكل شديد عند العرب عُتُلٌّ ، وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف. قال عبيد بن عمير: « العُتُل » الأكول الشروب القوي الشديد [ في كفره ] لا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفًا في النار دفعة واحدة ( بَعْدِ ذَلِكَ ) أي مع ذلك، يريد مع ما وصفناه به ( زَنِيمٍ ) وهو الدَّعِي [ الملصق ] بالقوم وليس منهم. قال عطاء عن ابن عباس: يريد مع [ هذا ] هو دَعيٌّ في قريش وليس منهم. قال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة. وقيل: « الزنيم » الذي له زنمة كزنمة الشاة.

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: نُعِت فلم يعرف حتى قيل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها .

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها .

قال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحدًا ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة فألحق به عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان الواعظ، حدثني أبو محمد بن زنجويه بن محمد، حدثنا علي بن الحسين الهلالي، حدثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان، حدثني معبد بن خالد القيسي، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كلُّ ضعيفٍ متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عُتُلّ جوَّاظ [ مستكبر ] » .

أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ( 14 )

( أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب: « أأن » بالاستفهام. ثم حمزة وأبو بكر يخففان الهمزتين بلا مد ويمد الهمزة الأولى أبو جعفر وابن عامر ويعقوب ويلينون الثانية. وقرأ الآخرون بلا استفهام على الخبر، فمن قرأ بالاستفهام فمعناه: أَلأنْ كان ذا مالٍ وبنين؟

إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 15 )

( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) أي جعل مجازاة النعم التي خولها من البنين والمال الكفر بآياتنا. وقيل: معناه أَلَإِنْ كان ذا مال وبنين [ تطيعه ] .

ومن قرأ على الخبر فمعناه: لا تطع كل حلاف مهين لأن ( كان ذا مال وبنين ) أي: لا تطعه لماله وبنيه « إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين » .

 

سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( 16 ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ( 17 )

ثم أوعده فقال: ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) و « الخرطوم » : الأنف. قال أبو العالية ومجاهد: أي نسود وجهه، فنجعل له علمًا في الآخرة يعرف به، وهو سواد الوجه.

قال الفرَّاء: خص الخرطوم بالسمة فإنه في مذهب الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن كله .

وقال ابن عباس: سنخطمه بالسيف، وقد فعل ذلك يوم بدر وقال قتادة: سنلحق به شيئًا لا يفارقه.

قال القتيـبي تقول العرب للرجل سب الرجل سبة قبيحة: قد وسمه ميسم سوء. يريد: ألصق به عارًا لا يفارقه، كما أن السمة لا ينمحي ولا يعفو أثرها وقد ألحق الله بما ذكر من عيوبه عارًا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، كالوسم على الخرطوم.

وقال الضحاك والكسائي: سنكويه على وجهه.

( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ ) يعني اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ( كَمَا بَلَوْنَا ) ابتلينا ( أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) روى محمد بن مروان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: في قوله عز وجل: « إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة » قال: كان بستان باليمن يقال له الضّروان دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غرسه قوم من أهل الصلاة، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له، وكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم يجزه وإذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضا للمساكين، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوه كان لهم كل شيء ينتثر أيضا فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة [ عن أبيهم ] فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيرًا والعيال قليلا فأما إذا قلَّ المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا فتحالفوا بينهم يومًا ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرِمُنَّ نخلهم ولم يستثنوا يقول: لم يقولوا إن شاء الله فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين، فرأوها مسودة وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها فأصبحت كالصريم فذلك قوله عز وجل: ( إِذْ أَقْسَمُوا ) حلفوا ( لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ) ليَجُذُّنُها وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكينُ

وَلا يَسْتَثْنُونَ ( 18 ) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ( 19 ) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ( 20 ) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ( 21 ) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ( 22 )

( وَلا يَسْتَثْنُونَ ) ولا يقولون إن شاء الله.

( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ ) عذاب ( مِنْ رَبِّكَ ) ليلا ولا يكون الطائف إلا بالليل، وكان ذلك الطائف نارًا نـزلت من السماء فأحرقتها ( وَهُمْ نَائِمُونَ )

( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) كالليل المظلم الأسود. قال الحسن: أي صرم منها الخير فليس فيها شيء.

وقال الأخفش: كالصبح الصريم من الليل وأصل « الصريم » المصروم، مثل: قتيل ومقتول، وكل شيء قطع فهو صريم [ فالليل صريم ] والصبح صريم لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه.

وقال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة خزيمة.

( فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ) نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا.

( أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ) يعني الثمار والزروع والأعناب ( إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ) قاطعين للنخل.

فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ( 23 ) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ( 24 ) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ( 25 ) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ( 26 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 27 ) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ( 28 )

( فَانْطَلَقُوا ) مشوا إليها ( وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) يتسارون، يقول بعضهم لبعض سرًا ( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ ) « الحرد » في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب، قال الحسن وقتادة وأبو العالية: على جد وجهد.

وقال القرظي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع عليه قد أسسوه بينهم. وهذا على معنى القصد لأن القاصد [ إلى الشيء ] جاد مجمع على الأمر.

وقال أبو عبيدة والقتيـبي: غدوا ونيتهم على منع المساكين، يقال: حارَدتِ السَّنة، إذا لم يكن لها مطر وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن.

وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين.

وعن ابن عباس قال: على قدرة ( قَادِرِينَ ) عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينها وبينهم أحد.

( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ) أي لما رأوا الجنة محترقة قالوا: إنا لمخطئون الطريق، أضللنا مكان جنتنا ليست هذه بجنتنا. فقال بعضهم: ( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) حرمنا خيرها ونفعها بمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء.

( قَالَ أَوْسَطُهُمْ ) أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم: ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ) هلا تستثنون أنكر عليهم ترك الاستثناء في قولهم: « ليصرمنها مصبحين » وسمي الاستثناء تسبيحًا لأنه تعظيم لله وإقرار بأنه لا يقدر أحد على شيء إلا بمشيئته.

وقال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله، وقيل: هلا تسبحون الله وتقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقيل: هلا تستغفرونه من فعلكم.

قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( 29 ) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ( 30 ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ( 31 ) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ( 32 ) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 33 ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 34 ) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( 35 ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 36 ) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ( 37 ) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ( 38 )

( قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا ) نـزهوه عن أن يكون ظالمًا فيما فعل وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا: ( إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) بمنعنا المساكين.

( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ ) يلوم بعضهم بعضًا في منع المساكين حقوقهم، ونادوا على أنفسهم بالويل: ( قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ) في منعنا حق الفقراء. وقال ابن كيسان: طغينا نِعَمَ الله فلم نشكرها ولم نصنع ما صنع آباؤنا من قبل.

ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: ( عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ) قال عبد الله بن مسعود: بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودًا واحدًا .

قال الله تعالى: ( كَذَلِكَ الْعَذَابُ ) أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا وخالف أمرنا ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ثم أخبر بما عنده للمتقين فقال: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) فقال المشركون: إنا نعطى في الآخرة أفضل مما تعطون فقال الله تكذيبا لهم: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ) نـزل من عند الله ( فِيهِ ) في هذا الكتاب ( تَدْرُسُونَ ) تقرءون.

( إِنَّ لَكُمْ فِيهِ ) في ذلك الكتاب ( لَمَا تَخَيَّرُونَ ) تختارون وتشتهون.

أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ( 39 ) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ( 40 ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 41 ) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ( 42 )

( أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ) عهود ومواثيق ( عَلَيْنَا بَالِغَةٌ ) مؤكدة عاهدناكم عليها فاستوثقتم بها منا فلا ينقطع عهدكم ( إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ ) في ذلك العهد ( لَمَا تَحْكُمُونَ ) لأنفسكم من الخير والكرامة عند الله. وكسر « إن » في الآيتين لدخول اللام في خبرهما. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:

( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ) كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين؟

( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ) أي عندهم شركاء لله أرباب تفعل هذا. وقيل: شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدعونه. ( فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )

( يَوْمَ يُكْشَفُ عنْ سَاقٍ ) قيل: « يوم » ظرف لقوله فليأتوا بشركائهم، أي: فليأتوا بها في ذلك اليوم لتنفعهم وتشفع لهم « يوم يكشف عن ساق » قيل: عن أمر فظيع شديد، قال ابن عباس: هو أشد ساعة في القيامة.

قال سعيد بن جبير: « يوم يكشف عن ساق » عن شدة الأمر.

وقال ابن قتيبة: تقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى الجد ومقاساة الشدة: شمر عن ساقه ويقال: إذا اشتد الأمر في الحرب: كشفت الحرب عن ساق.

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن [ سفيان ] حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني سويد بن سعيد، حدثني جعفر، حدثني حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم هل تُضَارُّون في رؤيةِ الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب؟ وهل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: ما تُضَارُّون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تُضَارُّون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذَّن مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد الله من بَرِّ وفَاجرٍ وغُيَّرِ أهلِ الكِتاب فَتُدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فماذا تبغون؟ فقالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يَحْطِمُ بعضُها بعضًا فيتساقطون في النار. ثم تدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيحَ ابن الله، فيقال لهم: ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا رَّبنا فاسقِنا فيشار إليهم: ألا تَرِدُون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يَحْطِم بعضُها بعضًا فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رَأَوْه فيها قال: فماذا تنتظرون؟ لِتْتبَع كل أمة ما كانت تعبُدُ قالوا يا ربنا فارَقْنا الناسَ في الدنيا أفقرَ ما كنا إليهم ولم نصاحبْهم. فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضَهم ليَكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها فيقولون: نعم فيكشف عن ساقٍ فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أَذِنَ الله له بالسجود فلا يبقى مَنْ كان يسجد نفاقًا ورياءً إلا جعل الله ظهْرَه طبقةً واحدةً كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ثم يرفعون رءوسَهم وقد تحوَّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا ثم يُضْرَب الجسر على جهنم وتحلّ الشفاعة، ويقولون: اللهم سلِّم سلم، قيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحضٌ مُزِلَّةٌ فيه خطاطيف وكلاليب وحسكةٌ يكون بنجد فيها شويكة يقال لها السَّعْدان، فيمر المؤمنون كطْرفِ العين وكالبرقِ وكالريحِ وكالطيرِ وكأجاويدِ الخيلِ والركابِ فناجٍ مُسَلَّمٌ ومخدوشٌ مُرْسَل ومكردسٌ في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدَّ لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أَخْرِجُوا من عرفتم فتُحرَّم صورهم على النار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذتِ النار إلى نصف ساقه وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مِمَّنْ أمرتَنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثال نصف دينارٍ من خيرٍ فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون: ربنا لم نذرْ فيها ممن أمرتنا به أحدًا ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خيرٍ فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون: ربنا لم نذرْ فيها أحدًا فيه خير ممن أمرتنا به وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ( النساء- 40 ) فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحِبَّة في حَمِيل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟ قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله من النار الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: » ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا: أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا « . »

وروى محمد بن إسماعيل هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم بهذا المعنى أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعةً، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا » .

قوله عز وجل: ( وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ) يعني: الكفار والمنافقين تصير أصلابهم كصياصي البقر، فلا يستطيعون السجود.

 

خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ( 43 )

( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضا من الثلج وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) يغشاهم ذل الندامة والحسرة ( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) قال إبراهيم التيمي: يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون ( وَهُمْ سَالِمُونَ ) أصحاء فلا يأتونه قال كعب الأحبار: والله ما نـزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات.

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 44 ) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 45 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 46 ) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 47 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ( 48 ) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ( 49 ) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 50 )

( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ) أي فدعني والمكذبين بالقرآن وخل بيني وبينهم. قال الزجاج: معناه لا تشغل قلبك بهم [ كِلْهُم ] إليَّ فإني [ أكفيكهم ] [ قال ومثله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا معناه في اللغة: لا تشغل قلبك به وكله إليَّ فإني أجازيه. ومثله قول الرجل: ذرني وإياه، ليس أنه منعه منه ولكن تأويله كِلْه، فإني أكفيك أمره ]

قوله تعالى: ( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ ) سنأخذهم بالعذاب ( مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ، فعذبوا يوم بدر. ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيدِي مَتِينٌ أَمْ تَسأَلُهُمْ أَجرًا فَهُمْ مِنْ مَّغْرَمٍ مُّثقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الغَيبُ فَهُمْ يَكتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) اصبر على أذاهم لقضاء ربك ( وَلا تَكُنْ ) في الضجر والعجلة ( كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) وهو يونس بن متى ( إِذْ نَادَى ) ربه [ في ] بطن الحوت ( وَهُوَ مَكْظُومٌ ) مملوء غمًا.

( لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ ) أدركته ( نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) حين رحمه وتاب عليه ( لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ ) لطرح بالفضاء من بطن الحوت ( وَهُوَ مَذْمُومٌ ) يذم ويلام بالذنب [ يذنبه ] .

( فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ) اصطفاه ( فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )

وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ( 51 ) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ( 52 )

( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ) وذلك أن الكفار أرادوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين فنظر إليه قومٌ من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه.

وقيل: كانت العين في بني أسد حتى كانت الناقة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدراهم فأتينا بشيء من لحم هذه فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر .

وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثًا ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنمًا أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله نبيه وأنـزل: « وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم » أي ويكاد ودخلت اللام في « ليزلقونك » لمكان « إن » وقرأ أهل المدينة: « لَيزْلقونك » بفتح الياء، والآخرون بضمها وهما لغتان، يقال: زلقَه يَزلُقه زلقًا وأَزْلَقهُ يزلُقه إزلاقًا.

قال ابن عباس: معناه: ينفذونك، ويقال: زلق السهم: إذا أنفذ.

قال السدي: يصيبونك بعيونهم. قال النضير بن شميل: يعينونك. وقيل: يزيلونك.

وقال الكلبي: يصرعونك. وقيل: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة.

قال ابن قتيبة: ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء، يكاد يسقطك .

وقال الزجاج: يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك. وهذا مستعمل في [ كلام العرب ] يقول القائل: نَظر إليَّ نظرًا يكاد يصرعني، ونظرا يكاد يأكلني. يدل على صحة هذا المعنى: أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله: ( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهية فيحدون إليه النظر بالبغضاء ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن. فقال الله تعالى:

( وَمَا هُوَ ) يعني القرآن ( إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين. قال الحسن: دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية .

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « العين حق » ونهى عن الوشم .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي، أخبرنا أبو نصر بن محمد بن حمدويه بن سهل المروزي، حدثنا محمود [ بن آدم المروزي ] حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: « نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين » .

 

أعلى